شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن

الطيبي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون للنجاة وسيلة، ولرفع الدرجات كفيلة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله وسلامه عليه من معالمها ما عفا، وشفى من الغليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفى، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها. ـــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم القول في شرح الخطبة قوله: (الحمد) هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة وغيرها، تقول: حمدت زيدا على علمه وإحسانه، فقوله: (الحمد لله) ههنا مطلق، يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد، وأعرفهم بالمحمود، وأقدرهم على إيفاء حقه قال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). وقيل: ما أثى الله على نفسه هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله، ويتناوله حمد الحامدين من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). وقوله: (نحمد الله) استئناف وإظهار لتخصيص حمده، لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة دفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، ولما أضيفت الشرور والأعمال إلى الأنفس، وأوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله: (من يهدي الله فلا مضل له)؛ ليؤذن بأن كل ذلك منه، وليس للعبد إلا الكسب. والضمير المستكن في (نحمده ونستعينه ونستغفره) للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي (أشهد) لنفسه (عليه السلام) خاصة أفرده للتوحيد، وهو إسقاط الحدوث وإثبات القدم، فأشار أولا إلى التفرقة، وثانيا إلى الجمع. وقوله: (قد عفت) اندرست، (خبت) خفيت، (وهنت) ضعفت. قوله: (من كان على شفا) جانس بين شفا وشفا من حيث اللفظ، وطابق بينهما من حيث المعنى، يقال: مرضت مرضا أشفيت على الموت، أي أشرفت عليه، ويجوز أن يكون من شفا الذي هو طرف كل شيء، فيكون مقتبسا من قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.

أما بعد؛ فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان (كتاب المصابيح) الذي صنفه الإمام محيي السنة، قامع البدعة، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، رفع الله درجته- أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها ولما سلك -رضي الله عنه- طريق الاختصار، وحذف الأسانيد، تكلم فيه بعض النقاد، وإن كان نقله -وإنه من الثقات- كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله تعالى، وناستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله، فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون، والثقات الراسخون؛ مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وابي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (لا يستتب) أي لا يستقيم ولا يستمر، من التب والتباب، وهو الاستمرار في الخسران، و (الاقتفاء) الاتباع، و (المشكاة) الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، وهي ههنا مستعارة لصدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - شبه صدره بها لأنه كالكوة ذو وجهين، فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير، ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق، وذلك لاستعداده بإشراحه مرتين، وشبه قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري؛ لصفائه وإشراقه، وخلوصه من كدورة الهوى، ولوث النفس الأمارة، وهذا هو المعني في خطبة المصابيح بقوله: (خرجت من مشكوة التقوى) وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب. قوله: (لشوارد الأحاديث) هو من شرد شرودا وشرادا إذا انفرد، فهو شارد، والأوابد: الوحوش، وهو من تأبَدت البهيمة تأبداً، أى توحشت، وأعلام الشيء آثاره التي يستدل بها (عليه) والأغفال الأرض المجهولة، ليس فيها أثر تعرف به. قوله: (المتقنون) هو من إتقان الأمر وإحكامه، ورجل تقن (بكسر التاء) حاذق، وتقن أيضاً (الراسخون) من رسوخ الشيء، وهو ثباته ثباتا متمكنا، والراسخ في العلم المتحقق به الذي لا

الحسنِ على بن عمرَ الدارقُطنىّ، وأبى بكر أحمدَ بن الحسين البَيهَقىّ، وأبى الحسنِ رزَينِ بن معاويةَ العبدرِىّ، وغيرهم، وقليلٌ ما هو. وإِنى إِذا نسبتُ الحديثَ إِليهم كأنِى أسندتُ إلى النبىّ صل الله عليه وسلم؛ لأنهم قد فَرغوا منه، وأغنوْنا عنه. وسردُت الكتب والابوابَ كما سردها، واقتفيتُ أثره فيها، وقسمتُ كلَّ بابِ غالباً على فصولٍ ثلاثة: أوّلها: ما أخرجَه الشيخان أو أحدهُما، واكتفيتُ بهما وإِن اشترك فيه الغيرُ؛ لعلوّ درجتهما في الروّاية. وثانيهما: ما أورده غيرهُما من الأئمة المذكورين. وثالثُهما: ما اشتملَ على معنى الباب من مُلحقاتٍ مناسبةٍ مع محافظةٍ على الشريطة، وإِن كان مأثوراً عن السلفِ والخلف. ثم إنك إنْ فقدتَ حديثًا في بابٍ؛ فذلك عن تكرير أُسقطُه. وإِن وجدت آخر بعضه متروكاً على اختصاره، أو مضموماً إليه تمامه؛ فعن داعى اهتمام أتركهُ وألحقه. وإن عثرت على اختلاف في الفصلين من ذكر غير الشيخين في الأول، وذكرهما في الثاني، فاعلم أنى بعد تتبعى كتابَىْ (الجمع بين الصحيحين) للحُميدي، و (جامع الأصول)؛ اعتمدتُ على صحيحى الشيخين ومتنيهما. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعرضه شبهة، و (ما) فى (قليل ما) إيهامية، يريد الشيوع في القلة، ولفظة: (هو) راجعة إلى غيرهم، والضمير فى (منه) و (عنه) للإسناد. قوله: (على الشريطة) المراد منها إضافة الحديث إلى الراوى من الصحابة والتابعين، ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين. قوله: (بعضه) هو بدل البعض من آخر ومتروكاً حاله. قوله: (على اختصاره) أى اختصار محيي السنة. قوله: (فعن داعى اهتمام أتركه) وذلك لأن تلك الرواية كانت مختصرة عن حديث طويل جداً، فأتركه اختصاراً، أو كان حديثاً يشتمل على معان جمة، يقتضى كل باب معنى من معناه، وأورد الشيخ كلا في بابه- فاقتفينا أثره فى الإيراد، وما لم يكن على هذين الوصفين

وإِن رأيت اختلافُا فى نفس الحديث؛ فذلك من تشُّبِ طرق الأحاديث، ولعلى ما اطلعتُ على تلك الرواية التي سلكها الشيخُ رضى الله عنه. وقليلاً ما تجد أقول: ماوجدتُ هذه الرواية في كتب الأصول، أو وجدتُ خلافها. فإذا وقفت عليه فانسُبِ القصورَ إلىَّ لقلة الدراية، لا إلى جناب الشيخ رفع الله قدره في الدارين، حاشاَ الله منْ ذلك، رَحِمَ الله من إذا وقف على ذلك نبهنا عليه، وأرشدنا طريق الصواب. ولم آلُ جهداً في التنقير (1) والتفتيشِِِ بقدر الوسع والطاقة، ونقلتُ ذلك الاختلافَ كما وجدتُ. وما أشار إليه- رضي الله عنه- من غريب أو ضعيف أو غيرهما؛ بينت وجهَهُ غالباً. وما لم يشير إليه مما في الأصول؛ فقد قِّفََّيتُه في تزكّه، إلا في مواضع لغرض. وربما تجدُ مواضعَ مُهملةَ، وذلك حيثُ لم أطلع على راويه فتركَتُ البياض. فإن عثرتَ عليه فألحقهُ به، أحسن الله جزاءك. وسميت الكتاب ب (مشكاة المصابيح)، وأسال الله التوفيق والإعانة والهداية والصيانة، وتيسير ما أقصده، وأن ينفعني في الحياة وبعد الممات، وجميع المسلمين والمسلمات حسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلابالله العزيز الحكيم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أتممناه غالبا. (وإن عثرت) أي اطلعت. (ولم آل جهداً) أى ولم أقصر من: ألا يألو: قصَّر، لا يألوك نصحاَ فهو آل. وحكى الكسائى عن العرب: أقبل يضربه لا يأل، يريد لا يألو فحذف، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة والمشقة. والتنقير عن الأمر: البحث عنه. قوله: (مما في الأصول) يعنى جامع الترمذى، وسنن أبى داود، والبيهقى، وهو كثير، فتبعه وتركته تأسياَ به. قوله: (لغرض) وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحادث من المصابيح، ونسبوها إلى الوضع، ووجدت الترمذي صححها أو حسنها وغير الترمذي أيضا، فبينته لرفع التهم، كحديث أبي هريرة):المرء على دين خليله) فإنهم صرحوا بأنه موضوع، وقال الترمذى في الجامعة: أنه حسن، والنواوى في الرياض: إنه صحيح الإسناد. ومن الغرض الذي شرط الشيخ في خطبته أنه أعرض عن ذكر المنكر، وقد أتى منه في كتابه كثيرا منه، وبين في بعضها كونه منكراً وترك البعض، فبينت أنه منكر. قوله: (بمشكاة المصابيح) روعى المناسبة بين الاسم مقتبساً من كلام الله المجيد، وذلك أن المشكاة إنما قصد بها ليجتمع ضوء المصباح، فيكون أشد تقوياً، بخلاف المكان الواسع؛ فإن الضوء ينبت فيه وينتشر، و (كذلك) الأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت، وإذا قيدت بالراوى انضبطت واستقرت في أمكنتها.

1 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمالُ بالنيات، وإنِما لامرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إِلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (إنما الأعمال بالنيات) قال الشيخ الإمام المتقن الثقة محيي الدين النووى (رحمة الله عليه) في شرح مسلم: أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وصحة روايته، قال الشافعى (رضي الله عنه): هو ثلث الإسلام. وقال ابن مهدى وغيره: ينبغى لمن صنف كتاباً أن يبدأ فيه بهذا الحديث، تنبيهاً للطالب على تصحيح النية. واتفق أهل العربية والأصول على أن (إنما) موضوعة للحصر، يثبت المذكور، وينفى ما سواه، فالتقدير: إن الأعمال تحسب إذا كانت بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية. وفيه دليل على أن الطهارة (وهي الوضوء والغسل والتيمم) وعلى أن الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف- لا يصح إلا بالنية، وأما إزالة النجاسة فالمشهور عندنا أنها لا تفتقر إلى النية، وقد نقلوا الإجماع فيها؛ لأنها من باب التروك. وتدخل النية في الطلاق، والعتاق، والقذف، ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح، وإذا أتى بصريح الطلاق ونوى تطليقتين أو ثلاثاً وقع مانوى، وإن نوى بالصريح غير مقتضاه دِين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل منه في الظاهر. قوله: (وإنما لامرئ ما نوى) إشارة إلى تعيين المنوى شرط، ولو كانت على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوى الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوى كونها ظهراً أو غيرها، لولا الفظ الثاني: (إنما لا مرئ ما نوى) لا قتضى الأول أى (إنما الأعمال بالنيات) صحة النية بلا تعين، أو أوهم ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله) معناه من قصد بهجرته وجه الله وقع أجره على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه، ولانصيب له في الآخرة. وذكر المرأة مع الدنيا يحتمل وجهين: أحدهما أن سبب هذا الحديث ما روى أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، والثاني أنه للتنبيه على زيادة التحذير من ذلك، وهو من باب الخاص بعد

ـــــــــــــــــــــــــــــ العام، تنبيها على مزيته. وقال الراغب: النية تكون مصدراً واسماً من نويت، وهي توجه القلب نحو العمل. وقال القاضى: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض، من جلب نفع، أو دفع مضرة، حالا أو مآلا. والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى وامتثالا لحكمه، والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوى؛ ليحسن تطبيقه لما بعده، وتقسيمه بقوله: (من كانت هجرته إلى الله) إلى آخره، فإنه تفصيل لما أجمله، واستنباط المقصود عما أصله. أقول -والعلم عند الله تعالى-:كل واحد من (الأعمال) و (النيات) جمع محلى بلام الاستغراق، فإما أن يحمل على عرف اللغة فيكون الاستغراق حقيقاً، وإما أن يحمل على عرف الشرع، وحينئذ إما أن يراد بالأعمال الواجبات والمندوبات والمباحات، وبالنيات الإخلاص والرياء، أو أن يراد بالأعمال الواجبات ما لا يصح إلا بالنية، كالطهارة والصلاة والصيام. ولا سبيل إلى الأول أى اللغوى لأنه (صلى الله عليه وسلم) ما بعث إلا لبيان الشرع، فكيف يتصدى لما جدوى له فيه؟ على أن (إنما) يستعمل فى رد من عنده حكم مشوب بخطأ وصواب، ومن كان عارفاً اللغات لا يخطئ في استعمال اللغة حتى يرد حكمه إلى الصواب بإنما، لاسيما تكراره في الحديث فإنه يدل على إثبات أمر خطير في الشرع، فحينئذ يحمل قوله: (إنما الأعمال بالنيات) على ما اتفقت عليه الفقهاء من أصحابنا، أى ما الأعمال محسوبة بشئ من الأشياء كالششروع فيها والتلبس بها إلا بالنيات، وما خلا عنها لم يعتد بها. فإن قيل: لم خصصت متعلق الخبر والظاهر العموم كمستقر أو حاصل؟ فالجواب أنه يكون بياناً للغة، لا إثبات حكم في الشرع، وقد سبق بطلانه. ويحمل قوله: (إنما لامرئ ما نوى) إلى آخره على ما تثمره النيات من القبول والرد، والثواب والعقاب، وغير ذلك. ففهم من الأول أن الأعمال لا تكون محسوبة ومسقطة للقضاء إلا إذا كانت مقرونة بالنيات، ومن الثانى أن النيات إنما تكون متعددة ومقبولة إذا كانت مقرونة بالإخلاص، مبعدة عن الرياء، فالأول قصر المسند إليه في المسند، والثاني عكسه. وتقرب منها الصلاة في الأرض المغصوبة، فإنها محسوبة ومسقطة للقضاء. لكن إيقاعها فيها حرام يستحق به العقاب. وقال الشيخ محيي الدين النووى: قال أصحابنا: الفروض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل يترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني. وتحريره أن قوله: (وإنما لا مرئ ما نوى) دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية، إن كانت خالصة لله تعالى وإن كانت الدنيا فهى

ـــــــــــــــــــــــــــــ لها، وإن كانت لنظر الخلق فكذلك، وقد نص به صريحا في قوله: صلى الله عليه وسلم: (والخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل على وزر، قال: فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذي هي ستر فرجل ربطها تغنيّا وتعففا، وأما الذي عليه وزر فرجل ربطها فخرَا ورياء)). وعلي هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما بعد الفاء التفصيلية؛ لأنه لن يكون المفصل خلاف المجمل، وكذلك عكسه، فإذا المعني بالهجرة الهجرة المعروفة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لقوله: ((لا هجرة بعد الفتح))، ومعلوم أن الهجرة لا تقتضي إلا الإخلاص؛ لأن الهجرة إلى الدنيا وإلى المرأة لا يقتضيان النية التي في الطهارة مثلا، وفي تكرير لفظة: ((إلى الله ورسوله)) في الشرط والجزاء تعظيم لمعنى تلك الهجرة، وتفخيم لشأنها، أي هي الهجرة الكاملة التي تستحق أن تسمى هجرة، وأن ما سواها ليست بهجرة، ولم تكن كذلك إلا أن تكون خالصة لوجه الله، كقوله تعالى: ((يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)) أي وإن لم تبلغ فما بلغت رسالته، يعني ارتكبت أمرًا عظيما، وخطبا جسيما، ولهذا السر غير العبارة في متعلق الجزاء الثاني بلفظة: ((ما)) حظا من منزلتها، أي ليست هجرته من الله في شيء، فإنه ما طلب بها وجه الله، بل طلب الدنيا، فله ما طلب، كما هو حال الرجل الذي قصد نكاح تلك المرأة، وعطف قوله: ((أو امرأة يتزوجها)) على ((دنيا يصيبها)) وهي مشتملة على مالها وجمالها وما يتعلق بها من الشهوات، تخصيصًا بعد التعميم؛ لبدل على أن النساء أعظمها ضرّا وأكثرها تبعة، كقوله تعالى: ((زين للناس حس الشهوات من النساء)) الآية، جعلهن من الشهوات حيث بين الشهوات بها. وقول لشيخ محيي الدين: ((إنما موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه)) مستقيم، إذ لم يتعرض في قوله "إن" للإثبات و"ما" للنفي، كما صرح به الأكثرون وهو غير مستقيم؛ لأن "ما" ليست نافية، بل هي كافة مؤكدة. وروى صاحب المفتاح عن علي بن عيسى الربعي أن إفادة الحصر من "إنما" كانت من أن "إن" كانت لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه إليه، ثم اتصلت بها "ما" المؤكدة- لا النافية على ما يظنه من لا وقوف له بعلم النحو - ضاعف تأكيدها، فناسب أن يضمن معنى القصر. وأصل الهجرة مفارقة الأوطان والأهل. ثيل: الهجرة أنواع: الأولى: الهجرة إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة، الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة، والثالثة: هجرة القبائل إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي (صلى الله عليه وسلم) لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى المواطن ويعلمون قومهم، والرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى مكة، والخامسة: الهجرة عما نهى الله عنه. ومعنى الحديث وحكمة صابت متناول للجميع، غر أن حكاية أم قيس تقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة، ولهذا حسن في الحديث ذكر المرأة، دون سائر ما ينوي بالهجرة من أعراض الدنيا. أقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السب. ودنيا مقصورة غير منونة، لأنه فعلي، وسميت الدنيا لدنوها، والجمع دُنى، مثل الكبرى والكُبَر. قال المالكي في كتاب شواهد التوضيح في مشكلات الجامع الصحيح: في استعمال دنيا مع كونه منكرًا إشكال؛ لأنها تأنيث أدنى، وهو أفعل تفضيل، فكان حقه الدنيا، كالكبرى والحسنى، إلا أن دنيا خلعت عنها الوصفية رأسًا، وأجريت مجرى ما لم يكن وصفا، كرجعى وبهمى، ونحوه قول الشاعر: وإن دعوت إلى جُلّى ومكرمة ... يومًا سراة كرام الناس فادعينا فإن الجُلّى كؤنث الأجل، فخلعت عنه الوصفية، وجعلت اسما للحادثة العظيمة. وإنما أورد إمام أئمة الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه، ومحيي السنة في كتابيه: شرح السنة، والمصابيح هذا الحديث قبل الشروع في أبواب الكتاب – إيذانًا بأن هذا المصنف منويٌّ فيه الإخلاص لله تعالى ومجتنب عن الرياء والسمعة، فلذلك تقبل الله منهما، وجعل الكتب إعلاما من أعلام الدين، ونحن اقتفينا أثرها، فاهتدينا بهديهما، نرجو من فضل الله وكرمه أن يتقبل منا، ويجعل تعبنا سببًا لنجاتنا ونفعًا للطالبين. فائدة على لسان أهل الإشارة: قال بعضهم: العمل سعي الأركان إلى الله، والنية سعي القلوب إلى الله، والقلب ملك، والأركان جنوده، ولا يحارب الملك إلا بجنوده، ولا الجنود إلا بالملك. وقال بعضهم: النية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له، وأن لا يسبح في السر ذكر غيره. وقال بعضهم: نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعة لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية.

كتاب الإيمان

كتاب الإيمان الفصل الأول 2 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الإيمان الفصل الأول الحديث الأول - قوله: ((بينا)) قال صاحب النهاية: بينا: بين، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ومضافان إلى الجملة: من فعل وفاعل، أول مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، كما يستدعى (إذا) والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا، وقد جاء في الجواب كثيرًا، وفي اللباب: قال الأصمعي: لا يستفصح إلا طرحمها في جواب بينا وبينما، وأنشد: وبينا نحن نرقبه أتانا لأن الظهر أن العامل في ((بينا)) هو الجواب، كما في (إذا) الزمانية على الصحيح، ويلزم تقدم ما في صلة الكضافة إليه على المضاف. قال شارحه: بينا وبينما ظرفان متضمنان لمعنى الشرط، فلذلك اقتضيا جوابًا، والقياس أن لا يكون (إذا) في جوابه، فعلى هذا يكون (أتانا) عاملا في (بينا) مع أنَّه مضاف إليه لا يتقدم على المضاف وفيه نظر. انتهى كلامه. فيقال لا ريب أن عمر وأبا هريرة (رضي الله عنهما) كأنا أفصح من الشاعر، وقد أتيا ب (إذا) في الحديث، فحينئذ يكون العامل معنى المفاجأة في (إذا) كما قرره صاحب الكشاف في قوله تعالى: (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) العامل في (إذا) المفاجأة، تقديره، وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار، فمعنى الحديث وقت حضورنا في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجأنا وقت طلوع ذلك الرجال، فحينئذ (بينا) ظرف لهذا المقدر، و (إذا) مفعول به بمعنى الوقت، فلا يلزم إذا تقدم معمول المضاف إليه على المضاف. وقد ساعد هذا القول صاحب اللباب بعد ذلك بقولة: والعامل فيهما الجواب إذا كان مجرداً من كلمتي المفاجأة المتضمنة هما إياه. قوله: (هما) أي إذ وإذا، و (إياه) أي ذلك المعنى، ويدل على تضمنهما معنى الشرط تصريح الفاء في الجواب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بينا يضحكهم النبي (- صلى الله عليه وسلم -) الحديث، رواه أبو داود عن أسيد بن حضير.

ذات يوم، إِذ طلع علينا رجل شديدُ بياض الثياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفُه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتبه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يامحمد! أخبرني عن الإِسلام. قال: (الإِسلام: أن ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (ذات يوم) ظرف لمعنى الاستقرار في الخبر. و (ذات) يجوز أن يكون صله، قال صاحب النهاية: في الحديث (يطلع عليكم رجل من ذي يمن على وجهه مسحة من ذي ملك) كذا أورده عمرو الزاهد، وقال: (ذي) هنا صلة؛ وأن يكون غير صلة، في المغرب: ذو بمعنى الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها، فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: (ذات يوم) يفيد من التوكيد مالا يفيده لو لم يذكر، لئلا يتوهم التجوز إلى مطلق الزمان، نحو قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيداً. وقوله: (لا يرى عليه أثر السفر) (مح): يعنى تعجبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا أنه ملك، أو من الجن؛ لأنه لو بشراً إما أن يكون من المدينة، أو غريباً، ولم يكن من المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن إتيانه من بعد؛ لأنه لم يكن عليه أثر السفر من الغبار وغيره. وقوله: (حتى جلس) متعلق بمحذوف، تقديره: استأذن وأتى حتى جلس عند النبي (عليه الصلاة والسلام). وقوله: (فأسند ركبتيه إلى لركبتيه) يقال: أسند، إذا اتكأ على شيء وأوصل. وأنما جلس هكذا ليتعلم الحاضرون جلوس السائل عند المسئول؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسئول يكون أبلغ في استماع كل واحد من السائل والمسئول كلام صاحبه، وأبلغ في حضور القلب، وألزم للجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة دليل على شدة حاجة السائل إلى السؤال، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف المسئول هذا الحرص والاحتياج من السائل إلى يلزم على نفسه جوابه، ويبالغ في الجواب أكثر وأتم مما سأل السائل. تم كلامه. قوله: (وضع يديه على فخذيه) قال الشيخ: التوربشتى: الضمير في الكلمتين راجع إلى جبرئيل (عليه السلام) فلو ذهب مؤول إلى أن الثاني يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه، لما يدل عليه نسق الكلام من قوله: (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول، لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوى الأدب. وذهب محيي السنة إلى الوجه الثاني فى كتابه المسمى ب (الكفاية). وكذا إسماعيل بن الفضل التيمى في كتابه المسمى ب (الترغيب والترهيب).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: لعل هذا الوجه أرجح؛ لأن الأصل في إسناد الركبة إلى الركبة أن يكون الاعتماد والاتكاء عليه، فإذا لا يبعد وضع جبريل عليه السلام يديه على فخذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحالة، فأشعرت تلك الهيئة بأنها ليست كهيئة التلميذ، وكذا نداؤه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسمه، بل هما من هيئة الشيخ إذا اهتم بشأن التعليم، واراد مزيد إصغاء المتعلم وإفهامه، فكيف لا؟ وقد شهد الله تعالى به في قوله: (علمه شديد القوى) وكفى به شاهداً. وينصره أيضا أمران: أحدهما قوله: (جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)، فلو كان جلوسه جلوس المتعلم لقيل: بين يديه، فضلا أن يقال: عنده، فكيف بقوله: (جلس إليه)؟ لأنه متضمن معنى الميل والإسناد، كأنه قيل: مال إليه حالة جلوسه وأسند إليه، فيكون عطف قوله: (وأسند ركبتيه) على قوله: (جلس إاليه) للبيان والتفسير، كعطف قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار_ إلى قوله_ من خشية الله) على قوله: (فهى كالحجارة أو أشد قسوة) لما يعلم من المعطوف كون قلوبهم أقسى من الحجارة، وثانيهما قوله: (صدقت) وإنما يقال هذا إذا طابق قول المسئول عنه قول السائل؛ لأنه إذا عرف أن المسئول عنه أصاب المخبر وطبق المفضل صوبه، ولهذا السر قالوا: (تعجبنا من قوله: (صدقت) وأيضاً في إيثار (إذ طلع علينا) على (إذ دخل) إشارة ألى عظمته وعلوه. (غيب): طلع علينا فلان، مستعار من: طلعت الشمس. (الكشاف): في قوله: (أطَّلع الغيب): ولا ختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب، فحينئذ يتعلق (حتى) بمحذوف يدل عليه (طلع) أى دنا منه حتى جلس إليه. وإذا تقرر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد إذا امتحه عند حضور الطلبة والمستفيدين منه، ليزيدوا طمأنينة وثقة في أنه يعيد الدرس ويلقى إليهم المسألة كما سمعه من الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى) وهذا معنى قوله (عليه السلام) في آخر الحديث: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وأما سر إسناد ركبتيه إلى ركبتيه ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدة إخلاص واتحاد، كما بين المتحابين، ولله در القاتل: أخ طاهر (الأخلاق) حلو كأنه ... جنا النحل ممزوج بماء غمام يزيد على الأيام صفو مودة ... وشدة إخلاص ورعى ذمام ـــــــــــــــــ

تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)). قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ قال فأخبرني عن الإيمان. قال ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ـــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ وأما طلوع جبريل (عليه السلام) على تلك الهيئة والشأن فإشارة إلى معنى قوله: ((حسن الأدب في الباطن)) ولذلك أدب الله رسوله (عليه السلام) بقوله: (وثيابك فطهر والرجز فاهجر)؛ على هذا ينزل نزوله عليه السلام أحيانا في صورة دحية (رضي الله عنه)؛ لأنه كان من اجمل الناس، ومن ثمة كان الإمام مالك (رضي الله عنه) إذغ أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته وتطيب، وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث (- صلى الله عليه وسلم -). قوله: ((أخبرني عن الإسلام)) الإسلام الانقياد والطاعة عن الطوع والرغبة من غير اعتراض، يقال: سلم وأسلمو (استسلم) إذا خضع وأذعن، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة، و ((أن)) في قوله: (أن لا إله إلا الله)) هي المخففة عن المثقلة، يدل عليه عطف: ((وأن محمدًا)). قوله: ((وأن تقيم الصلاة)) إقامة الصلاة تعديل أركانها وإدامتها، والصلاة فعلة من: صلى بمعنى دعا أو حرك الصلوين؛ لأن المصلى يحركها في ركوعه وسجوده، كالزكاة من: زكى بمعنى نما او طهر، غفإن المال يزيد بأداء الزكاة ويطهر به، وكالصوم من، صام إذا امسك، والحج من: حج إذا قصد، و ((البيت)) اسم جنس غلب على الكعبة وصار علما له. فإن قلت: كيف خص الأخير بقيد الإستطاعة دون سائرها؛ فإن الاستطاعة التي يتمكن بها المكلف من فعل الطاعة مشروطة في الكل؟ قلت: المعني بهذه الاستطاعة الزاد والراحلة. وكانت طائفة لا يعدونها منها، ويثقلون على الحاج، فنهوا عن ذلك، أو علم الله تعالى: (لاتأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)) ولتلك العناية أنزل الله تعلى: (من استطاع)) ومع ذلك نرى كثيرًا من الناس لا يرفعون بهذا النص الجلي رأسا، ويلقون أنفسهم بأيديهم إلى التهلكة. قوله: ((أخبرني عن الإيمان)) إفعال من الأمن، وهو طمأنينة النفس عن إزالة خوف وشك، يقال: أمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنة التكذيب والمخالفة. وإن قيل: قوله: ((أن تؤمن بالله)) في جواب الإيمان يوهم التكرار. فالجواب أن الإيمان الذي هو بمعنى التصديق تعدى بنفسه، كما تقول: آمنته وأمنته، والذي يعدى بالباء يتضمن معنى اعترف به أو وثق به، كانه قيل: الإيمان الاعتراف بالله، ووثوق به. ـــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن السؤال عن الإيمان وجوابه مقدم على السؤال عن الإسلام وجوابه في المصابيح، وتكلم عليه الشيخ التوربشتى، وهو حق؛ لأنه مؤخر في صحيح مسلم، وفي كتاب الحميدي. وجامع الأصول، ورياض الصالحين، وشرح السنة برواية عمر (رضي الله عنه). ثم إن التصديق وأن كان مقدماً في الاعتبار لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وعليه سؤسس قاعدة الإسلام، لكن المقام يقتضي تقديم الإسلام؛ لأنه رأس الأمر وعموده، وشعائر الدين به تظهر، وهو دليل على التصديق وأمارة عليه، وما جاء جبريل (عليه السلام) إلا ليعلم الشريعة؛ فينبغى أن يبدأ بما هو الأهم فالأهم، ويترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإن الإسلام مقدم على الإيمان، وهو على الإخلاص، وفي هذا الكتاب مسطور بعد قوله: (إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه). قوله: (بالله) الله أصله إله، فحذف همزته معوضاً عنها حرف التعريف، ولذلك قطع الألف، وأدخل عليه حرف النداء، والإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من: أله إلهة أي عبد عبادة، أو أله ألها إذا تحير؛ لأن الفطن يدهش في معرفة المعبود، والعقول متحيرة في كبريائه. والملائكة جمع ملاك على الأصل، كالشمائل جمع شمال، والتاء لتأنيث الجمع، مشتق من الألوكة بمعنى الرسالة. والكتب ما أنزلت على أنبيائه (صلوات الله وسلامه عليهم) إما مكتوباً على نحو ألواح، أو مسموعا من الله تعالى من وراء حجاب، أو من ملك مشاهد مشافهة، أو مصوت هاتف. وإنما قدم ذكر الملك على الكتاب والرسل اتباعا للترتيب الواقع، فإنه (سبحانه وتعالى) أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول لا تفضيلا للملائكة على الرسل، فإن فيه خلافا، ولا على الكتب، فإنه لم يقل به أحد. قوله: (رسله) يقال: أرسلت فلانا في رسالة، فهو مرسل ورسول، والجمع رُسُل ورُسل، (قال) الكشاف: الفرق بين النبي والرسول أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله. وعن الإمام أحمد بن حنبل عن أبى أمامة، قال أبو ذر: يارسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جما غفيراً). [قلت: قيل المنزَّلة مائة وأربعة كتب: على آدم عشر صحائف، وعلى شيث عليه السلام خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس عليه السلام ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عليه السلام عشر صحائف. والتوارة، والإنجيل، والفرقان، والزبور. فعلى هذا القول الذى ذكره جار ـــــــــــــــ

واليوم الآخر، وتُومن بالقدر خيرِه وشَره) قال: صدقت. قال: فأخبرني عن ..... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله بين الرسول والنبي لا يساعد الحديث المذكور؛ بل الفرق من وجه آخر؛ وهو أن يقال: الرسول من نزل عليه جبريل، والنبي مع سمع صوتا أو رأى في المنام أنه نبي وبلغ الرسالة] قوله: (واليوم الآخر) هو يوم القيامة؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد الإيمان به وبما فيه من البعث والحساب، ودخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، إلى غير ذلك مما ورد النص القاطع عليه. قوله: (تؤمن بالقدر) (قال القاضي عياض): القضاء هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر تعلق تلك الإدارة بالأشياء في أوقاتها. والقدرية قالوا: القضاء علمه تعالى بنظام الموجودات، وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى بنظام الموجودات، وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى في أعمالنا، وتعلق إرادته بأفعالنا، وزعموا أنها واقعة بقدرنا، ودواع منا، فأثبتوا لنا قدرة مستقلة بالإيجاد والتأثير في أفعالنا_ تم كلامه. وسيجئ الكلام في القضاء والقدر على عكس ما ذكره القاضي. فإن قيل: لم أعاد ذكر (تؤمن) عند القدر؟ فالجواب أنه عرف أن الأمة يخوضون فيه، وبعضهم ينفونه، ويقولون: إن الأمر أُنُف ولا قدر، مثل المعتزلة، فلذلك اهتم بذلك بإعادة (تؤمن) ثم قرره بالإبدال بقوله: (شره وخيره) فإن البدل توضيح مع التأكيد لتكرير العامل. قال الشيخ محيي الدين النواوى في شرح صحيح مسلم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول ابن مسعود، وحذيفة، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والنخعى، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وابن المبارك، وسفيان بن عبينه، ومعمر بن راشد وابن جريج، وجماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها. والحجة على زيادته ونقصانه الآيات، وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم إيمانا مع إيمانهم) وقوله تعالى: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وقوله تعالى: (فاخشوهم فزادهم إيمانا).

ــــــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ: أنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان شكّا وكفرًا. قال المحققون من المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته- وهي الأعمال- ونقصانها، وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة، وأقاويل السلف، وبين وصفه في اللغة وما عليه المتكلمون. وقال صاحب التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عني بذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس بشيء يتجزأ، حتى يتصور زيادته مرة ونقصانه أخرى، وفي لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمال بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة. وأقول: على التفسير الأول أيضًا يمكن الزيادة والنقصان به (قال) الكشاف في قوله تعالى في سورة الأنفال):وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا):ازدادوا بها يقينًا وطمأنينة النفس؛ لأن تظاهر الأدلة أدل المدلول عليه، وأثبت لقدمه، ويؤيده ما نسب إلى علي (- رضي الله عنه -) (لو كشف الغطاء ما ازددت يقياا)) وقوله تعالى: (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)). (قال الخطابي): المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن المسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. أقول: ومصداقه قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (قال الحسن) في شرح السنة في باب الإيمان من الاعمال: اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، وقال في تأويل حديث عمر وجبريل. جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الإعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). وأقول: يرد الشيخ بهذا زعم من يذهب إلى أن الأعمال خارجة من الإيمان، والإيمان عبارة عن مجرد التصديق، ويتمسك الزاعم بظاهر الحديث، ومعنى ما قال الشيخ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، لأن يتمسك به المتمسك أن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل جعل ذلك تفصيلا للمجمل الذي هو الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتلخيص كلمه أن الإسلام في عرف الشرع يطلق تارة مجرد الانقياد وظاهر الأعمال، كما في قوله تعالى: (وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) وأخرى على الانقياد مع التصديق والقول المذكور في الحديث هو الأول، ليطابق المجمل والمفصل، لا الثاني، فلا يكون هذا دليل على نفي الثاني، وإنما اقتضى الحديث التفصيل في الإجمال؛ لأن المقام مقام تعليم للأمة وتفهيم لهم، فيجب حمل الإيمان والإسلام على ما يتعارفون بينهم، والقوم لما تواردت النصوص مثل قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على الزيادة في الإيمان- اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام والدين، وأن الإعمال داخلة فيها، ولا مشاحة في الصطلاح. (قال) الراغب: اختلفوا في الايمان أهو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معًا؟ واختلافهم بسبب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو الاعتقاد المجرد فنظره إلى اشتقاق اللفظ. وإلى أنه تعالى فصل بينهما في عامة التنزيل بالعطف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما في خبر جبريل عليه السلام حين سأله عن الإسلام والإيمان، وفسر الأوال بالأعمال والثاني بالاعتقاد، ومن قال: هو الاعتقاد والعمال فلما ورد من قوله: (الإيمان معرفة في القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان) ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان بضع وسبعون شعبة) الحديث، ومن تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان الواجب هو اثنتان وسبعون درجة لا أقل ولا أكثر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). وأقول: أما تأويل الحديث فقد كفى محيي السنة أهل السنة القتال، وأما تأويل العطف فبيانه من وجهين: أحدهما: أن العطف من باب قوله تعالى: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وذلك لأن الأعمال لما كانت مقررة مثبتة للإ] مان، وبها يستقيم ويتقوى، كقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أو رفعا له وتشييدا لبنيانه، كقوله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمال الصالح يرفعه) جعل شيئا آخر، وعطف عليه ولهذا السر جعل الله تعالى في قوله: (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) وقوله تعالى: (وما ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحسان. قال: (أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قال: فأخبرني ــــــــــــــــــــــــــ خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) المطلوب من الخلق هو العبادة التي هي غاية الخضوع والاستكانة، وجعل المعرفة والتصديق كالمقدمة للواجب، ولعل الحكمة فيه إظهار الكبرياء والعظمة لله تعالى بإبداء غاية التضرع والاستطانة من المخلوقين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) وقوله تعالى: (والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) أي إن استكبرتم وأعرضتكم عن إظهار الافتقار يستبدل قوما غيركم. وثانيهما- وهو الوجه-أن غالب هذا العطف في صلة الموصول، والصلة والموصول شيء واحد، والدليل عليه قوله تعالى: (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات) مقالب لقوله: (الذين كفروا وكذبوا) وقوله تعالى: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) في معنى هدى للمتقين المؤمنين، وهو عين المطلوب. فإن قيل: إذا جعل الإيمان عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، فمن أخل بواحد منها يلزم أن لا يكون مؤمنًا؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء. قلت: المراد بالإيمان ههنا هو الإيمان الكامل، وإذا كان المراد ذلك فإذا انتفى بعض منها ينتفي الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان. قوله: ((فأخبرني عن الإحسان)) (قال الخاطبي): إنما أراد بالإحسان هاهنا الإخلاص، وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معًا، وذلك أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير نية الإخلاص لم يكن محسنًا، ولا كان إيمانه صحيحًا، قال - صلى الله عليه وسلم - (أن تعبد الله كأنك تراه) أي في إخلاص العبادة لوجه الله الكريم، ومجانبته الشرك الخفي، والعبادة لله الذي لا تنبغي العبادة إلا له على نعت الهيبة والتعظيم، حتى كأنه ينظر إلى الله خوفا منه وحياء وخضوعا له. (قال الراغب): الحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه، وهو ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومن جهة الهوى، ومن جهة الحس. والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعما على الغير، يقال: أحسن إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملًا حسنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: يجوز أن يحمل الإحسان على الإنعام، وذلك أن العمال المرائي يبطل عمله ويحبطه، فيظلم على نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك، ولا تشرك بالله، واعبد الله كأنك تراه، وإلا فتهلك، قال الله تعالى:) الذين يمكرون الشيئات لهم عذاب شديد) فإنها واردة في المرائي. ويجوز أن يحمل على المعنى الثاني، وعليه قوله تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) وقوله تعالى: (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) أي المجيدين المتقنين في تعبير الرؤيا، كأنه سأل جبريل (عليه السلام) بما ينبيء عنه الإخلاص، كما قال الله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن). وأما تقدير الشرط والجزاء فهو أن يقال: إن لم تعبدالله كأنك تراه فاعبده كأنه يراك. وتحرير المعنى وإن لم تكن تراه كذلك أي مثل تلك الرؤية المعنوية فكن بحيث إنه يراك. وهو من جوامع الكلم، أي كن عالما متيقظا، لا ساهيا غافلا، كجدا في مواقف العبودية، مخلصا في نيتك، آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى؛ فإن من علم أن له حافظا رقيبا شاهدا بحركاته وسكناته- لا سيما ربه ومالك أمره- فلا يسىء الأدب طرفة عين، ولا فلتة خاطر، هذا هو معنى الإجادة في الإيمان والإسلام. وقيل: التقدير فإن لم تكن تراه فلا تغفل فإنه يراك. والأولى أن نضرب عن هذا المجل صفحا، ونأخذ في منهل آخر، فنقول: (كأنك) إما مفعول مطلق، أو حال من الفاعل، والثاني أوجه؛ لأنه يحصل به للعابد ثلاث حالات، كما إذا قلت: كأن زيدا قائم، فتصور له حالات القعود والانتصاب، والقيام، فتشبه حالة الانتصاب بالقيام؛ لأنك فإدخال (كأن) توهم أن له حالة غير القيام، وهي المشبه بالقيام، كما إذا رأى الناظر شخصا من بعيد فتردد بين قيامه وقعوده، ثم خيل له أنه إلى القيام أقرب فقال: كأنه قائم، أي يشبه انتصابه بالقيام، كذلك في الحديث. للعبد بين يدي مولاه حالات ثلاث إحداها: حالة اشتغاله بالعبادة على سنن تسقط القضاء، من حفظ شرائطها وأركانها وهيآتها. وحالة تمكنه من الإخلاص في القصد، وأنه بمرأى من مولاه، وهو مراقب لحركاته وسكناته. وحالة مشاهدته، واستغراقه في بحار المكاشفة، وإليه لمح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (جعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا بها يا بلال) فشبه الحالة الثانية التي هي المراقبة بحالة المكاشفة التي هي من خواص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا. ووجه التشبيه حصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السر به، ونتيجته نسيان الأحوال من العلوم، واضمحلال الرسول. فلما

عن الساعة. قال: (ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل). قال: ........ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب فقوله: فإن لم تكن تراه تنزل من مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، فينبغى أن يقدر: فاعلم قولى: إنه يراك. قال الشيخ العارف أبو إسماعيل الأنصاري: الإحسان اسم جامع لجميع أبواب الحقائق، وبهو ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما، وإبرامه عزما، وتصفيته حالا. الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال: وهو أن يراعيها غيره، ويسترها تطرقا، ويصححها تحقيقا، الدرجة الثالثة: الإحسان في المواقف، وهوأن لا تزايل المشاهدة أبداً، ولا تلحظ بهمتك أملا، وتجعل هجرتك إلى الحق سرمداً. فإن قلت: قد جعل الشيخ درجات الإحسان ثلاثا، وليس في الحالات التي قسمتها ما يدخل في معني الإحسان إلااثنين. قلت: تشبيه الثانية بالثالثة يوجب حالة أخرى متوسطة بين الإخلاص في القصد الذي هو شريطة فيه، وبين المشاهدة التي هي غايتها، وتلك المتوسطة هي الدرجة الثانية في قول الشيخ، لأنها نتيجة الإخلاص في العمل، ومحصلة للحالة الثالثة، أعنى المشاهدة، والله أعلم. قوله: (فأخبرني عن الساعة) الساعة القيامة. (قال) الكشاف: سميت ساعة لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. عني بالعكس أنها سميت بها بناء على عكس ما هي عليه من الطول تلميحاً، كما سمى المهلكة مفازة والأسود كافوراً. قوله: (ما المسئول عنها) (قال) المظهر: (ما) نافية، يعنى لست أنا أعلم منك ياجبريل بعلم القيامة. أقول: أراد المظهر أن أصل الكلام هكذا، فعدل عنه إلى ما عليه، وذلك أن الأجوبة الثلاثة على خطاب جبرئيل (عليه السلام) كانت (تعريضا) للسامعين على طريقة الخطاب العام، نحو قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) ولو أجري على ذلك الأسلوب لقيل: لست بأعلم منك. ولم يفد فائدة العموم؛ لأن المعني كل مسئول عنه وسائل، أيا ما كان فهو داخل في هذا العموم. فإن قلت: من حق الظاهر أن يقال: ما المسئول عنه ليرجع الضمير إلى اللام. قلت: كما يقال: سألت عن زيد المسئلة، يقال: سألته عن المسئلة، فالضمير المرفوع راجع إلى اللام، والمجرور إلى الساعة. ـــــــــــــــــــــ

فأخبرني عن أماراتها. قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاةَ العُراةَ العالةَ رعاء الشاء ـــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن الضمير في (عنها) راجع إلى الساعة، فلا بد من تقدير مضاف في السؤال والجواب، نحو وقت وأيان؛ إذ وجود الساعة ومجيؤها مقطوع به، وإنما يسأل عن وقتها، كقوله تعالى (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها) أي في وقت أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم يعني ما أنت من ذكراها لهم وبتبيين وقتها في شيء. فإن قلت: لفظة: (أعلم) مشعرة بوقوع الاشتراك في العلم، وأحدهما أزيد من الآخر، وهما يتساويان في انتفاء العلم منهما. فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكون صالحاً لأن يسأل عنه على سبيل الكناية، لما عرف أن المسئول في الجملة ينبغي أن يكون أعلم من السائل، فهو من باب قوله تعالى: (ولا شفيع يطاع) ويقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - نفى عن نفسه العلم بالمسئول عنه بوجه خاص، تلخيصه: أنا متساويان في أنا نعلم أن للساعة مجيئا في وقت ما من الأوقات، وذلك هو العلم المشترك بيننا، ولا مزيد للمسئول على هذا العلم حتى يتعين عنده المسئول عنه، وهو الوقت المتعين الذي يتحقق فيه مجيء الساعة. قوله: (الله ورسوله أعلم) فهو على بابه؛ لأن الأمارة السابقة وتعجبهم منها أوقعتهم في التردد، أهو بشر أم ملك؟ وهذا القدر يكفى في الشركة. قوله: (أن تلد الأمة ربتها) الرب مشترك بين المالك والمربى، قال صاحب الأساس: ربَّ الدار وربَّ العبد وربَّ ولده تربيته. (قال) الجوهري: رب كل شيء مالكه، (قال) الكشاف الرب المالك، ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن. هذا هو المعني في الحديث. فإن قيل: كيف أطلق الرب علي غير الله تعالى وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في قوله: (لا يقل أحدكم أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي).،والجواب أن هذا من باب التشديدوالمبالغة، كما سنقرره. (تو): فسر هذا القول كثير من العلماء على أن السبي يكثر بعد اتساع رقعة الإسلام، فيستولد الناس إماءهم، فيكون الولد كالسيد لأمه؛ لأن ملك الأمة راجع في التقدير إلى الولد، وذكر بلفظ التأنيث وأراد به النسمة؛ ليشتمل الذكور والإناث، أو كره أن يقول: ربها؛ تعظيما لجلال رب العباد، أو أراد البنت، وإذا كانت هكذا فالابن أولى. ــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (قض): وتأنيث (ربتها) وإضافتها إما لأجل أنه سبب عتقها، أو لأنه ولد ربها أو مولاها بعد الأب، وذلك إشارة إلى قوة الإسلام؛ لأن كثرة السبي والتسري دليل على استعلاء الدين، واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات؛ لان قوته وبلوغ أمره غايته منذر بالتراجع والانحطاط المؤذن بأن القيامة ستقوم. وأقول_ والعلم عند الله_: الكلام فيه صعب، بل هو مقام دحض، قلما تثبت فيه الأقدام الراسية في البيان، وكان قلما يلتفت الخاطر إلى معرفته، وما تكلم فيه العلماء لم يكن يشفى العليل، إلى أن تصديت أن تصديت لأمر هذا الخطب الجليل، فالواجب أولا تعيين المقام؛ لأن بيده زمام حكم الكلام، ولا ارتياب أن أمارات الساعة وأشراطها من عظائم الشئون، وجلائل الخطوب، فيجب حينئذ تأويل القريتين، أعنى قوله: (أن تلد الأمة ربتها) وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة_ إلى قوله_ يتطاولون في البنيان) بما ينبئ عن ذلك النبأ العظيم من تغير الزمان، وانقلاب أحوال الناس، بحيث لم يشاهد قبله، ولم ير مثله، وكيف؟ ولفظة (ترى) تنادى عن ذلك؛ لأنها من الخطاب العام على الاستغراق، كقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم) يعنى بلغ الخطب في العظم والفخامة بحيث لا يختص برؤية راء ةاحد، بل كل من يتأتى منه الرؤية فهو مخاطب به. فإذا تقرر بيان اقتضاء المقام فنثنى العنان إلى بيان الأساليب التي يستعان بها على تطبيق القرينتين على ما يقتضيه المقام، من (المطابقة المعنوية)، (والكناية الزبدية)، و (الإدماج) المسمى بإشارة النص. فنقول القرينة الثانية دلت بالكناية الزبدية_ التي لا ينظر فيها إلى مفردات التركيب، لا حقيقة ولا مجازاً، بل تؤخذ الزبدية والخلاصة من المجموع_على أن الأذلة من الناس ينقلبون أعزه، ملوك الأرض، فينبغي أن تتول القرينة السابقة بما يقابلها؛ ليطابقا في أن يصير الأعزة أذلة، ومعلوم أن الأم مربية للولد، ومدبرة أمره، فإذا صار الولد ربا ومالكا لها - لا سيما إذا كانت بنتا- ينقلب الأمر، هذا هو المعنى بالتشديد والمبالغة الموعود بهما، ثم في وضع الأمة ووصفها بالولادة موضع الأم إشعار بمعنى الاسترقاق والاستيلاء، وأن أولئك الضعفة الأذلة الذين فهموا من القرينة الثانية هم الذين يتعدون ويتسلطون ويفتحون البلاد ويسترقون كرائم النساء وشرائفها، ويستولدونها، فتلد الأمة ربتها. فالحاصل: أن قوله: (أن تلد الأمة ربتها) دل بعبارته على المقصود، وبإشارته على معنى آخر، وهو كثرة المستولدات، وإنما وصف النساء بالشرف والكرامة ليفيد المعنى المقصود، كان الواقع كذلك، ألا ترى إلى الملكة حرقة بنت النعمان حين سبيت وأحضرت بين يدى سعد ابن أبى وقاص (رضي الله عنه) كيف انشدت:

يتطاولون في البنيان). قال: ثم انطلق، فلبثتُ مليَّا، ثم قال لي: (ياعمر أتدرى من السائل)؟ قلتُ: اللهُ ورسوله أعلم. قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). رواه مسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــ فبينا نوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوفة نتنصف فأف لدينا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف والى قول أبي الطيب: تبكى عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد وفي معناه أنشد: إذا ذل الدنيا الأعز واكتسى ... أعزتها ذلا وساد مسودها هناك فلا جادت سماء بضوئها ... ولا أشرقت أرض ولا اخضر عودها وإن استبدعت بيان المطابقة المعنوية بين القريتين على ما مر فانظر إلى قوله (تعالى) (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار) وإلى تقرير صاحب الكشاف المطابقة فيها، وما في التبيان لتقف على دقة هذا الأسلوب، ومواقع استنباط المعاني من القرينتين، وفي القرينتين إيذان بنصرة المؤمنين وفتحهم البلاد مشارقها ومغاربها، كما ورد: (إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لى منها) أخرجه مسلم عن ثوبان. و (العالة) الفقراء، واحدها عائل، يقال: (يتطاولون في البنيان) أي يتفاخرون في طول بيوتهم ورفعتها، تطاول الرجل إذا تكبر، يعني من علامات القيامة أن ترى أهل البادية ممن ليس لهم لباس ولا نعل، بل كانوا رعاء الإبل والشاء يتوطنون البلاد، ويتخذون العقار، ويبنون الدور والقصور المرتفعة، قاله المظهر. ـــــــــــــــــ

3 - ورواه أبو هريرة مع اختلاف، وفيه: (وإذا رأيت الحفاة العُراة الصمَّ البكمَ، ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم قرأ: (إن الله عنده علم الساعة وينزلُ الغيث) الآية متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (الصم البكم) كانت حواسهم سليمة، ولكن جعلوا لبلادتهم وعدم تمييزهم كأنه أصيبت مشاعرهم. قوله: (في خمس) أي علم وقت الساعة داخلة في جملة خمس، وحذف متعلق الجار سائغ شائع، كما في قوله (تعالى): (تسع أيات) أي أذهب إلى فرعون في شأن تسع أيات، ويجوز أن يتعلق ب (أعلم) يعنى ما المسئول عنها بأعلم فى خمس أي في علم الخمس، فكما عم في المسئول عنه أولا عم في المسئول ثانياً، أي لا ينبغي لأحد أن يسأل أحداً في علم الخمس؛ لأن العلم بها مختص بالله (تعالى). وفيه إشارة إلى إبطال الكهانة والنجامة وما شاكلها. قال لبيد: لعمرك ما تدرى الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع وإدشاد للأمة وتحذير لهم عن إتيان من يدعى علم الغيب، فإذا الجواب من (الأسلوب الحكيم). أجاب عن سؤاله في ضمن أشياء مهمة لا بد من بيانها (إرشادا) للأمة وتنبيها للمعلم عليها. كأنه قيل: سؤالك هذا يقتضي أن لا يقتصر على جواب واحد، بل يجاب مع هذه الأمور المهمة، فإن اهتمامها كاهتمامه. أو يقال: كان يجب عليك أيها المعلم أن لا تقتصر على سؤال واحد بل تسأل عن هذه الأشياء المهمة. فإن قيل: أليس إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن أمارات الساعة من قبيل قوله: (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا)؟ قلت: إذا أظهر بعض المرتضين من عباده بعض ما كوشف له من الغيوب لمصلحة ما لا يكون إخباراً بالغيب بل يكون تبليغا له، قال الله تعالى: (ولا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) فإن قلت: كيف يطابق تفسير سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - الآية بقوله: (في خمس لا يعلمهن إلا الله) وليس في الآية أداة الحصر كما في الحديث؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون (علم الساعة) فاعلا للظرف؛ لاعتماده على اسم إن، ويعطف (وينزل الغيث) عن الغير، أي يعلم الظرف وفاعله على تأويل الجملتين المنفيتين بإثبات ما نفى فيهما لله (تعالى) عن الغير، أي يعلم ماذا تكسب كل نفس غداً، ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت. قال أبو البقاء: هذا العطف ـــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يدل على قوة شبه الظرف بالفعل. وقال صاحب الكشاف: جاء بالظرف وما أرتفع به ثم قال: (وينزل الغيث) فعطف الجملة على الجملة، ومثله قوله (تعالى): (نسقيكم مما في (بطونها) ولكم فيها منافع) فصدر بالفعل والفاعل، ثم عطف بالظرف، وما ارتفع به. وإذا تقرر هذا فنقول: إذا كان الفعل عظيم الخطر، وما بنى عليه الفعل علي القدر رفيع الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية. وفي (الكشاف) في قوله (تعالى): (الله نزل أحسن الحديث) الآية: وإيقاع اسم الله مبتدأ وما نزل عليه من تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه، يصدر إلا عنه، وقال الله (تعالى): (الله يبسط الرزق لمن يشاء) [وقال في قوله تعالى: (الله يبسط الرزق)] في الرعد الله وحده هو يبسط الرزق ويقدر، دون غيره. فإن قلت: إذا عطف (وينزل) على الجملة كيف دل على العلم؟ قلت: إذا نفى إنزال الغيث عما كانوا ينسبون إليه من طلوع الأنواء اختص بالله (تعالى) فيلزم منه اختصاص علم الله (تعالى). وثانيهما: أن يذهب إلى أن الظرف خبر مقدم على المبتدأ لإفادة الحصر، ويعطف (ينزل) على المضاف إليه، يعني عنده علم الساعة، وعلم تنزيل الغيث على تقدير: أن ينزل، فحذف (أن) فارتفع الفعل، نحو قوله: أحضر الوغى، ويعطف (ويعلم مافي الأرحام) وما بعده على المضاف، أي إن الله عنده علم مافي الأرحام، وعلم ماذا تكسب كل نفس غدًا، على التقدير المذكور. فإن قلت: فأي نكتة دعت إلى العدول عن المثبت إلى المنفي في قوله: (وماتدري نفس) وما فائدة تكرير نفس تنكيرها، وإيثار الدارية على العلم؟ فإنها إدراك الشيء بالحيلة. قلت: إذا نفيت الدراية لما فيها من معنى الحيلة في اكتساب العلم من كل نفس على سبيل الاستغراق لوقوع النكرة في سياق النفي- أفاد أن كل نفس منفوسة من الإنسان وغيره إذا أعملت حيلها في معرفة ما يختص ويلصق بها، ولا شيء أخص من الإنسان من كسب نفسه وعاقية أمره، ولا يقف على شيء من ذلك، فكيف يقف على ما هو أبعد وأبعد، خصوصًا من معرفة وقت الساعة، وأيان إنزال الغيث، ومعرفة ما في الأرحام. والفائدة في بيان الأمارات هي أن يتأهب الملكف المسير إلى المعاد بزاد التقوى. ولما اشتمل هذا الحديث على هذه المطالب العزيزة، والمقاصد السنية التي هي أمهات أصول الدين - أودعه محيي السنة في مستهل باب كتابيه: شرح السنة، والمصابيح؛ تأسيّا بالله (عز ــــــــــــــــــــــــــ

4 - وعن ابن عمر، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــ وجل) في تقديم الفاتحة التي هي أم القرآن المشتملة على ما بعدها إجمالا براعة للاستهلال، والله أعلم بالأسرار. قوله: (فلبثت مليّا) أي زمانا طويلًا، يقال: عشت معه ملاوة من الدهر (بالحركات الثلاث). ويقال لليل والنهار: الملوان. وفي رواية أبي داود والنسائي: (قال عمر: فلبثت مليّا). قوله: (فإنه جبرئيل) الفاء فيه جزاء شرط محذوف. تقديره: أما إذا فوضتم العلم إلى الله عز وجل وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقرينة الشرط المحذوف قولهم: (الله ورسوله أعلم). (قض): جبريل (عليه السلام) ملك متوسط بين الله ورسوله، ومن خواص الملك أن يتمثل للبشر، فيراه جسما مشكلا محسوسًا. ثم الدليل عليه اتفاق الحاضرين من الصحابة الكرام على ذلك، وروى محيي السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر (- رضي الله عنه -): (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وما أتى في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه). (تو): هذه الأسئلة والأجوبة صدرت قبيل حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة قريب انقطاع الوحي واستقرار الشرع. الحديث الثاني عن ابن عمر (- رضي الله عنه -) قوله: (بني الإسلام على خمس). (غب): الإسلام الدخول في السلم، وهو أن يسلم كل واحد منهما أن يناله ألم من صاحبه. والإيمان هو الإذعان للحق على سبيل التصديق له باليقين. هذا أصله، ثم صار اسما لشريعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالإسلام. (مح): وفي رواية وقع: (خمسة) بالهاء على تأويل أركان، أو أشياء، أو نحو ذلك، وبرواية حذفها يراد به خصال، أو دعائم أو قواعد. أقول: لا تخلو هذه الخمس من أن تكون قواعد البيت، أو أعمدة الخباء، وليس الأول؛ لكون القواعد على أربع، فتعين الثاني، وينصره ما جاء في حديث معاذ: (وعمود الصلاة). مثلت حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة، وقطبها الذي تدور عليها الأركان هي: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء. روى أن

ــــــــــــــــــــــــــــ الفرزدق حضر جنازة، فسأله بعض أئمة أهل البيت (رضي الله عنهم) يا فرزدق! ما أعددت لمثل هذه الحالة؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: هذا العمود، فأين الأطناب؟ هذا على أن يكون استعارة تمثيلية؛ لأنها وقعت في حالتي الممثل والممثل به، ويجوز أن تكون الاستعارة تبعية، بأن يقدر الاستعارة في (بني) والقرينة الإسلام)، شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان الخمسة ببناء الخباء على الأعمدة الخمسة، ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل. وأن تكون مكنية، بأن تكون الاستعارة في الإسلام، والقرينة (بني) على التخييل، ثم خيل ما يلازم الخباء المشبه به من البناء، ثم أثبت له ما هو ملازم البيت من البناء على الاستعارة التخييلية، ثم نسب إليه ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة. فظهر من هذا التحقيق أن الإسلام غير، والأركان غير. كما أن البيت غير، والاعمدة غير، ولا يستقيم ذلك إلا على مذهب أهل السنة؛ فإن الإسلام عبارة عن التصديق بالجنان، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وعلى هذا حديث الإيمان،. ولهذا السر عقب محيي السنة بهذا الحديث حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وفيه أن أعلى شعبها (قول: لا إله إلا الله). وكما شبه الإسلام في الحديث الأول بخباء ذات أعمدة وأطناب، شبه الإيمان في الثاني بشجرة ذات أغصان وشعب، وإيرادها بعد حديث جبرئيل (عليه السلام) يحقق ما قررناه من أن الإصطلاح حصل بعد الاستعمال. الحديث الثالث عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (بضع وسبعون) البضع القطعة من الشيء، وهي في العدد ما بين الثلاث إلى التسع؛ لأنه قطعة من العدد، والشعبة غصن الشجر، وفرع كلأصل. (وأدناها) أي أقربها منزلة وأدونها مقداراً، من الدنو بمعنى القرب، يقال: فلان أدنى القدر، وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعيد عن ضد ذلك فيقال: فلان بعيد الهمة، وبعيد المنزلة، بعنى رفيع العالي، ولذلك استعمله في مقابلة في مقابلة الأعلى. (وإماطة) الشيء عن الشيء إذا أزاله عنه، وأذهبه، و (الأذى) في الحديث اسم ما يؤذي الناس، نحو الشوك، والحجر، والطين، وما أشبهها. فإن قلت: ما معنى الفاء في (فأفضلها)؟ قلت: هي جزاء شرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شعب يلزم التعدد، وحصول الفاضل والمفضول، بخلافه إذا كان أمرًا واحدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(قض): (الحياء) تغيير وانكسار يعتري المرء من خوف ما يلام به قيل هو مأخوذ من الحياة، وكأن الحيي صار لما يعتريه من التغيير والانكسار، مؤوف الحياة، منكسر القوى، ولذلك قيل مات حياء وجمد في مكانه خجلا. وإنما أفرده بالذكر لأنه كالداعي والباعث إلى سائر الشعب، فإن الحيي يخاف فضيحة الدنيا، وفظاعة الأخرة، فينزجر عن المعاصي، فصار من الإيمان، إذ الإيمان ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه. (قض): قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بضع وسبعون) يحتمل أن يكون المراد به التكثير دون التعديد، كما في قوله (تعالى): (إن تستغفر لهم سبعين مرة) واستعمال لفظة السبعة والسبعين للتكثير كثيرة، وذلك لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فإنه ينقسم إلى فرد وزوج، وكل منهما إلى أول ومركب، والفرد الأول ثلاثة، والمركب خمسة، والزوج الأول اثنان، والمركب أربعة، وينقسم أيضًا إلى منطقة كالأربعة، وأصم كالستة، والسبعة يشتمل على جميع هذه الأقسام. ثم إن أريد مبالغة جعلت آحادها أعشارا، ويحتمل أن حاصلها يرجع إلى أصل واحد، وهو تكميل النفس على وجه يصلح معاشه، ويحسن معاده، وذلك بأن يعتقد الحق، ويستقيم في العمل، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لسفيان حين سأله في الإسلام قولا جامعًا: (قل: آمنت بالله: ثم استقم). وفنون اعتقاد الحق ينشعب ستة عشر شعبة: طلب العلم، ومعرفة الصانع، وتنزيه عن النقائص، وما يتداعى إليها، والإيمان بصفات الإكرام، مثل الحياة، والعمل، والقدرة، والإقرار بالوحدانية، والاعتراف بأن ما عداه صنعه لا يوجد، ولا يعدم إلا بقضائه وقدره، والإيمان بالملائكة المتطهرة عن الرجس، وتصديق رسله المؤيدين بالآيات في دعوى النبوة، وحسن الإعتقاد فيهم، والعلم بحدوث العالم، واعتقاد فنائه على ما ورد به التنزيل، والجزم بالنشأة الثانية، وإعادة الأرواح إلى لاجساد، والإقرار باليوم الآخر، أعني بما فيه من الصراط والحساب، وموازنة الأعمال، وسائر ما تواتر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والوثوق على وعد الجنة وثوابها، واليقين بوعيد النار وعقابها. وفن العمل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها يتعلق بالمرأ نفسه، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يتعلق بالباطن، وحاصله تزكية النفس عن الرذائل، وأمهاتها عشرة: شره الطعام، وشره الكلام، والبخل، والكبر، وحب المال، وحب الجاه، وحب الدنيا، والحقد والحسد، والرياء، والعجب، وتحلية النفس بالكمالات، وأمهاتها ثلاثة عشرة: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والحياء والشكر، والوفاء، والصبر، والإخلاص، والصدق، والمحبة، والتوكل، والرضى بالقضاء، وثانيها ما يتعلق بالظاهر، ويسمى العبادات، وشعبها ثلاث عشرة: طهارة البدن عن الحدث والخبث، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بأمر الجنايز، وصيام رمضان، والاعتكاف، وقراءة القرآن، وحج البيت، والعمرة، وذبح الضحايا، والوفاء بالنذكر، وتعظيم الإيمان وأداء الكفارات.

وثانيهما: ما يتعلق به وبخواصه وأهل منزلته وشعبها ثمان التعفف عن الزنا والنكاح والقيام بحقوقه والبر بالوالدين وصلة الرحم وطاعة السادة والإحسان إلى المماليك والعتق. وثالثها: ما يعم الناس، وينوط به إصلاح العباد، وشعبها سبع عشرة: القيام بإمارة المسلمين، واتباع الجماعة، ومطاوعة أولى الأمر، ومعاونتهم على البر، وإحياء معالم الدين ونشرها، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الدين بالرجز عن الكفر، ومجاهدة الكفار، والمرابطة في سبيل الله، وحفظ النفس بالكف عن الجنايات، وإقامة حقوقها من القصاص والديات، وحفظ الأنساب وأعراض الناس بإقامة حدود الزنا والقذف، وصيانة العقل بالمنع عن تناول المسكرات والمخبثات بالتهديد والتأديب عليه، ودفع ضرر عن المسلمين، ومن هذا القبيل إماطة الأذى. (غب): هذا حديث من تأمله وعرف حقيقته على أن الإيمان بالواجب هو اثنتان وسبعون درجة، لا يصح أن يكون أكثر منها ولا أقل، ولا يوجد من الإيمان ما هو خارج عنها بوجه. وأقول: ثم شرع بعد هذا في تقسيم الإيمان بهذا العدد المخصوص، ولم نذكره لصعوبته، وها هو الإمام المتقن قدوة المحدثين أبو بكر البيهقي، قد صنف كتاب شعب الإيمان في مصنفات مجلدات مطنبا فيها كل الإطناب في حصر الاعداد. وأقول - والعلم عند الله -: والأظهر أن يذهب إلى معنى التكثير، ويكون ذكر البضع للترقي، يعني أن شعب الإيمان أعداد مبعهمة، ولا نهاية لكثرتها، إذ لو أريد التحديد لم يبهمه، ولعمري أنه كذلك، وبيانه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ابتدائها وانتائها ووسطها. فلو أخذت من الابتداء إلى الانتهاء كان على وزن قوله (تعالى): إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) معناه من رضي بالله ربّا، وعمل بمقتضاه، لم يدع ما يحب عليه أن ياتي ويذر، فإنك إن تنزلت من حديث خالق الموجودات إلى حديث الشوكة وإماطتها هل تجد شيئا مما يحسنه الشرع والعقل من الاخلاق، ومراضي الأعمال خارجا من ذلك؟ وكذا لو عكست وترقيت من إماطة الشوكة إلى الاعلى، ولو شرعت في معنى الحياء وفسرته بما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استحيتوا من الله، قالوا: إنا نستحيي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وماحوى، ويذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء) لقد حاولت أمرًا عظيماً، وفيه إشارة إلى منازل السائرين إلى الله، والسالكين لطريق الآخرة. قال الشيخ العارف أبو القاسم الجنيد (رحمة الله عليه): الحياء حالة تتولد في رؤية الآلاء ورؤية التقصير. وقد صنف الإمام أبو اسماعيل عبدالله الأنصاري فيها كتابًا، وحصرها في مائة باب، كل باب يشتمل على درجات شتى، ثم ليذق من منح الفضل الإلهي

6 - وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمُ من سلم المسلمون من يده، والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه) هذا لفظ البخاري. ولمسلم قال: (إن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده). ــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورزق الطبع السليم إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول: هذه شعبة واحد من شعبه، فهل تحصى وتعد شعبها؟ هيهات! إن البحر لا ينزف. وكفى بهذا الحديث شاهداً على أن الإيمان جامع للتصديق والإقرار والأعمال، ومن رده كابر عقله. وظهر من هذا معنى التكثير في سبعين، ولخص بعض المفسرين قول علي بن عيسى النحوي في ذلك وقال: السبعة أكمل الأعداد! لأن الستة أول عدد تام؛ لأنها تعادل أجزاؤها، فإن نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها ستة سواء، وهي مع الواحد سبعة، وكانت كاملة؛ إذ ليست بعد التمام سوى الكمال، ولعل واضع اللغة يسمى الأسد سبعاً لكمال قوته، كما أنه أسد لإساده في السير، ثم السبعون غاية الغاية؛ إذ الآحاد غايتها العشرات. انظر أيها المتأمل، في هذه الألفاظ القليلة المستقلة بالمعاني الجمة الجليلة، واشهد له أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتى كنوز الحكمة، وفصل الخطاب. الحديث الرابع عن عبدالله (رضي الله عنه): قوله: (المسلم من سلم المسلمون) فإن قلت: إذا سلم المسلمون منه يلزم أن يكون مسلما وإن لم يأت بسائر الأركان؟ قلت: هذا وارد على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كأن الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، ولعل واضع اللغة يسمى الأسد سبعاً لكمال قوته، كما أنه أسد لإساده في السير، ثم السبعون غاية الغاية؛ إذ الآحاد غايتها العشرات. انظر أيها المتأمل، في هذه الألفاظ القليلة المستقلة بالمعاني الجميلة الجليلة، واشهد له أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتي كنوز الحكمة، وفصل الخطاب. الحديث الرابع عن عبدالله (رضي الله عنه): قوله: (المسلم من سلم المسلمون). فإن قلت: إذا سلم المسلمون منه يلزم أن يكون مسلما وإن لم يأت بسائر الأركان؟ قلت: هذا وارد على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كأن ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على الإدعاء كرماد. (حس): أراد أن المسلم الممدوح والمهاجر من هذه صفته، لا أن الإسلام ينتفي عمن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العرب، والمال الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله (تعالى) أداء حقوق المسلمين، والكف عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جمع إلى هجران وطنه هجران ما حرم الله عليه. وأقول: تحقيقه أن التعريف في المسلم والمهاجر للجنس، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟ (غب): كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما: دلالة على المسمى وفصلا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختص به، وذلك هو الذي يمدح به، وذلك أن كل ما اوجده الله في هذا العالم جعله صالحا لفعل خاص, ولا يصلح لذلك العمل سواه، كالفرس

7 - وعن انس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). متفق عليه. ــــــــــــــــــــــــــ للعدو الشديد، والبعير تقطع الفلاة البعيدة؛ والإنسان ليعلم ويعمل بحسبه، وكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له لم يستحق اسمه مطلقا، بل قد ينتفي عنه، كقولهم: فلان ليس بإنسان، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله من العلم والعمل، فلى هذا إذا وجدت مسلما يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلت له: لست بمسلم، عنيت أنك لست بكامل فيما تحليت به من حلية الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنة: إن الإسلام ينفى عمن ليس بصفته. فإن قيل: ما معنى تخصيص المسلم بالذكر ثم المسلمون ثم اللسان واليد؟ والجواب (والله أعلم) هو إظهار رأفته - صلى الله عليه وسلم - بالأمة وإلحاقه بالكل من أصحابه (رضوان الله عليهم)، كأنه قال: المسلم الكامل من تشبه بهم، واتصف بصفتهم التي وصفهم الله (تعالى) بها في قوله (تعالى): (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وكان شدتهم على الكفار المجاهدة بالسنان واللسان، وترحمهم على غخوانهم المسلمين بكف الأذى وإيثار الموجود، كما قال الله (تعالى): (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) فخص بما ينبيء عن كف الاذى؛ ليؤذن بغاية التواضع والذلك، تلويحا إلى معنى قوله: (أذلك على المؤمنين أعزة على الكافرين). ولما كانت عزتهم على الكفرة وقهرهم باليد واللسان، فينبغي أن ينتفي عنهم ما كانت العزة به، وهو يستلزم الإيثار بطريق الأولى وفي تقديم كر اللسان، فينبغي أن ينتفي عنهم ما كانت العزة به، وهو يستلزم الإيثار بطريق الأولى وفي تقديم ذكر اللسان على اليد رمز إلى معنى قوله قوله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: (اهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل) او كما قال. ويمكن أن ينزل الإسلام بلسان أهل السلوك على التسليم والرضى. (غب): الإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله (تعالى): (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا). والثاني فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم (عليه السلام) (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) انتهى كلامه. فمن أسلم وجهه لله وهو محسن، ورضي بما قضى وقدر، لم يتعرض لأحد، وكف أذاه بالكلية، لا سيما عن إخوانه المسلمين، وعيه ينطبق الزيادة في رواية مسلم، وفيها أيضًا شهادة لصحة تأويل رواية البخاري. الحديث الخامس عن أنس (رضي اللهعنه): قوله: (أحب). (غب): المحبة إرادة ما يراه أو يظنه خيرًا، وهو على ثلاثة أوجه: محبة الرجل المرأة. ومحبة النفع، كمحبة شيء

8 - وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــ ينتفع به. ومحبة الفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم بعضًا لأجل العلم. (خط): لم يرد بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان الحاصل من الاعتقاد؛ لأن حب الإنسان لنفسه ووالده طبع مركوز عريزي خارج عن حد الاستطاعة، ولا تكلف نفس إلا وسعها، ولا سبيل إلى قلبه، ومعناه لا تصدق لي حتى تفدي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك. أقول: قوله: (لا سبيل إلى قلبه) ليس بمطلق، وذلك أن المحب ينتهي في المحبة إلى أن يتجاوز عن الهوى، فيؤثر هو المحبوب على هوى نفسه فضلا عن محبة ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم بمحبوبته، قال: أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم وأيضا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحب إليه من والده وولده) إشعار بالموازنة والترجيح، وتلميح إلى قضية النفس بالأمارة، واللوامة، والمطمئنة، فإن الأمارة ما ئلة إلى اللذات وحب العاجلة، والمطمئنة مقابلة بها مرجحة لحب الآجلة، فإن من رجح جانب الأمارة كان حب أهله ووالده، راجحًا على حبه - صلى الله عليه وسلم -. ومن رجح جانب المطمئنة كان حكمه بالعكس، وإليه الإشارة بقوله (تعالى): (يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). ولا ارتياب أن من دخل في زمرة عبادة المرتضين، وانخرط في سلط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- ولا يحب أن ينكص على عقبيه، فيرجح جانب الأهل والأولاد على جانبه - صلى الله عليه وسلم - وهذا محال. وفي هذا التقرير أيضا معنى قوله: (ووجد حلاوة الإيمان) وذلك أن النفس الأمارة موءوفة كمن غلبت عليه الصفراء. فإنه لا يجد حلاوة العسل، فإذا صحت واطمأنت زال عنه ذلك المرض، فيجد حلاوة الإيمان. والله أعلم. ويؤيده قول القاضي عياض: في محبته - صلى الله عليه وسلم - نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. وإذا تبين ما ذكرناه بين ان حقيقة الإيمان لا يتك إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق أعلى قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته على كل والد وولد، ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمؤمن.

الحديث السادس عن أنس (رضي الله عنه): قوله: (ثلاث من كن فيه) ثلاث مبتدأ، والجملة الشرطية خبره، وجاز ذلك؛ لأن التقدير: خصال ثلاث. قال المالكي في شرح التسهيل: مثال الابتداء بنكرة هي وصف على قول العرب: ضعيف عاذ بقرملة. أي إنسان ضعيف أو حيوان ضعيف التجأ إلى ضعيف القرملة شجرة ضعيفة. ويجوز أن تكون الجملة الشرطية صفة لثلاث؛ كما أنه يجوز أن تكون خبر المبتدأ في قولك: زيد إن تعطه يشكرك. أو صلة للموصل كما في قوله (تعالى): (وليخش الذين لو تركوا) أو حالا لذي الحال، كما في قوله تعالى: (إن تحمل عليه يلهث) ويكون الخبر: (من كان الله ورسوله أحب إليه) وعلى التقديرين لابد من تقدير مضاف قبل (من كان) لأنه على الأول إما بدل عن ثلاث، أو بيان، وعلى الثاني خبر. قيل: لابد من إضمار مضاف قبل كل لا ستقامة المعنى، تقديره قبل (من) الأولى والثانية: محبة من كان الله ورسوله، ومحبة من أحب عبداً، وقبل (من الأولى والثالثة: محبة من كان الله ورسوله، ومحبة من أحب عبداً، وقبل (من) الأولى والثالثة: وكراهة من يكره أن يعود؛ ولشدة اتصال المضاف بالمضاف إليه في الإضافات الثلاث وغلبة المحبة والكراهة عليهم حذف المضاف منها. وحلاوة الإيمان استعارة شبهت شدة رغبة المؤمنين في إيمانه بشيء ذي حلاوة، وأثبت له لازم ذلك، وأضيف إليه على التخبيلية. (مح): معنى حلاوة الإيمان استلذاذالطاعات، وتحمل المشاق في رضي الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإيثار ذلك على هوى نفسه وأعراض الدنيا، فمن وجد حلاوة الإيمان اطمأن به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، فأحب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بفعل الطاعة وترك المخالفة؛ إن المحب لمن يحب مطيع. وقيل: المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب سبحانه، فيحب ما أحب، ويكره ما كره. وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والطعام ونحوها، وقد بعقله المعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه ودفعه الضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبى - صلى الله عليه وسلم - لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكما خلال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الطريق ودوام النعيم، والإبعاد من الجحيم. وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق الله تعالى فإن الخير كله منه (سبحانه وتعالى). قال مالك وغيره: المحبة في الله تعالى من واجبات الإسلام. (قض) إنما جعل هذه ــــــــــــــ

9 - وعن العباس بن عبد المطلب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذاق طعم الإيمان من رضى الله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدً رسولا) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنما جعل هذه [كذا] الأمور الثلاثة عنواناً لكمال الإيمان المحصل لتلك اللذة لأنه لا يتم إيمانه امرئ حتى يتمكن في نفسه أن المنعم والقادر على الإطلاق هو الله (تعالى) ولا مانح ولا مانع سواه، وما عداه وسائط لها، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العطوف الحقيقي الساعي في إصلاح شأنه، وإعلاء مكانه، وذلك يقتضي أن يتوجه بشراشره نحوه، ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطاً بينه وبينه، وأن يتيقن أن جملة ما وعد به وأوعد حق لا يحوم الريب حوله، فيتيقن أن الموعود كالواقع، وأن بما ينول إليه الشيء كملابسه، فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة، وأكل مال اليتيم أكل النار، والعود إلى الكفر الإلقاء في النار، فيكره أن يلقى في النار. فإن قيل: لم ثنى الضمير ههنا؟ ورد على الخطيب (ومن عصاهما فقد غوى) في حديث عدى بن حاتم (رضي الله عنه) وأمره بالإفراد؟ والجواب: ثنى الضمير ههنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة فإنها وحدها ضائعة لا غية، وأمر بالإفراد في حديث عدى (رضي الله عنه) إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، فإن قوله: (ومن عصى الله ورسوله) من حيث أن العطف في تقدير التكرير، والأصل فيه استقلال كل من المعطوف والمعَطوف عليه في الحكم في قولنا: ومن عصى الله فقد غوى، ومن عصى الرسول فقد غوى. وأقول: هذا كلام حسن متين، ويؤيده الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله (تعالى): (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) حيث أوقع متابعته - صلى الله عليه وسلم - مكتنفة بين نظري محبة العباد لله ومحبة الله للعباد. وقوله (تعالى): (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) لم يعد (أطيعوا) في (أولى الأمر منكم) كما أعاد في (أطيعوا الرسول)؛ ليؤذن بأنه لا استقلال لهم في الطاعة استقلال الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما السنة فما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن المقدام بن معديكرب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شعبان على أريكته، ويقول: عليكم بهذا القرآن). الحديث السابع عن العباس (رضي الله عنه):قوله: (ذاق طعم الإيمان) (قال الراغب: الذوق وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقل تناوله، فإذا كثر يقال له: الأكل، فاستعمل في ــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التنزيل بمعنى الإصابة، إما في الرحمة كقوله (تعالى): (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) وإما في العذاب نحو قوله (تعالى): (ليذوقوا العذاب) وقال غيره: الذوق ضرب مثلا لما ينالون عنده، أي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخير. قال أبو بكر الأنباري: أراد لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه يقوم لهم مقام الطعام والشراب؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يحفظ أرواحهم، كما يحفظ الطعام أجسامهم. وأقول: مجاز قوله: ذاق طعم الإيمان) كمجاز قوله: (وجد حلاوة الإيمان) وكذلك موقعه كموقعه على ما مر، لأن من أحب أحداً يتحرى مراضيه، ويؤثر رضاه على رضاء نفسه، ومقام الرضى عند أهل العرفان مقام جليل رفيع، روى الشيخ محيي الدين عن صاحب التحرير معنى (رضيت بالشئ) اقتنعت به واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره فمعنى الحديث لم يطلب غير الله (تعالى) ولم يشرع في طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه. قال القاضي عياض: معنى الحديث صح إيمانه، واطمأنت به نفسه، وخامر باطنه؛ لأن رضاه دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشة قلبه؛ لأن من رضي أمرا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبة الإيمان سهل عليه طاعة الله (تعالى) ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولذت له. قوله: (وبالإسلام ديناً) لا يخلو الإسلام أن يراد به الانقياد كما في حديث جبريل (عليه السلام) أو مجموع ما يعبر الدين عنه كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس) ويؤيد الثاني معنى اقترانه بالدين؛ لأن الدين جامع بالاتفاق، ونحوه قوله تعالى: (ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه). وعلى التقديرين هو عطف على قوله (بالله رباّ) عطف العام على الخاص على منوال قوله: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) وكذا قوله: (بمحمد رسولا) على (بالإسلام) عطف الخاص على العام على نهج قوله (تعالى): (وملائكته ورسله وجبريل). (مح): واعلم أن مذهب أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير، والمجنون الذي يتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك وغيره من المعاصي إذا لم يجد معصية بعد توبة، والموفق الذي ماألم بمعصية قط_ فكل هذا الصنف يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها ـــــــــــــــــــــ

10 - وعن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده لا يسمعُ بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به؛ إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط، وهو منصوب على ظهر جهنم_ عافانا الله منها ومن سائر المكاره. وأما من كانت له معصية (كبيرة)، ومات من غير توبة، فهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه، وأدخل الجنة أولا، وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده (سبحانه) ثم يدخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال لبر ما عمل. هذا هو المذهب الحق الذي تظاهرت أدلة الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به عليه، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، وإذا ورد ظاهرة مخالفة لهذا وجب تأويله؛ ليجمع بين نصوص الشرع. الحديث الثامن عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله (والذي نفس محمد بيده) يريد - صلى الله عليه وسلم - بالنفس ذاته وجملته، ويعني بيده قدرة الله وتصرفه فيه. يشير إلى أن إرادته وتصرفه مغموران في إدارة الله وتصرفه، وهو في علم البيان من أسلوب التجريد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جرد من نفسه الزكية (صلوات الله تعالى) من يسمى محمداً، وهو هو، وأصل الكلام: (والذي نفسي محمد نفسي)، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم في قوله: (لا يسمع بي) تنزيلا من مقام الجمع إلى مقام التفرقة والاشتعال بدعوة الخلق، ومن مخدع الكمال إلى منصة التكمل. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي (قدس الله ووجه): (قيل: الجمع اتصال لا يشاهد صاحبه إلا الحق، فمتى شاهد غيره فما جمع، والتفرقة شهود من شهد بالمبانية، فقوله آمنا بالله جمع، وما أنزل إلينا تفرقة. قال الجنيد: القرب بالواحد جمع، وغيبته في البشرية تفرقة، وكل جمع بلا تفرقة زندقة بلا جمع تعطيل. ويقال: فلان سمع بفلان إذا بلغ إليه خبره. والباء يحتمل أن تكون رائدة، أي لا يسمعني، فقد جاء: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سمعتك، وسمعت فلاناً، ويتحمل أن يكون بمعنى (من) يقال: سمعت من فلان، فيكون الباء كما في قوله (تعالى): (عينا يشرب بها). قال المظهر: وفيه نظر؛ لأن المعنى لا يساعد عليه، فإن سمعني وسمع مني يقتضيان كلاماً وقولا من جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس المعنى عليه. (الكشاف): في قوله (تعالى): (سمعنا منادياً ينادي) (تقول: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه، فأغناك عن ذكره، فلولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد)، والأظهر أن يضمن (يسمع) معنى أخبرنا فتعدى بالباء، كقوله (تعالى): (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) أي ما أخبرنا سماعاً، وهو آكد؛ لأن الإخبار أعم من أن يكون سماعاً أو غير سماع، فالمعني ما أخبر برسالتي أو يبعثني أحد ولم يؤمن إلا كان من أصحاب النار. وأحد إذا استعمل في النفي يكون لاستغراق جنس العقلاء، ويتناول القليل والكثير، والذكر والأنثي، كقوله (تعالى): (فما منكم من أحد عنه حاجزين) و (لستن كأحد من النساء) وتقول: مافي الدار أحد، أي لا واحد، ولا اثنان فصاعداً لا مجتمعين ولا متفرقين. قوله: (من هذه الأمة) صفة (أحد) و (يهودي) إما بيان، أو بدل من (أحد) و (من) في (هذه الأمة) إما للبيان، أو للتبعيض، وعلى التقديرين هو مرفوع المحل، فعلى أن يكون للتبعيض معناه: لا يسمع بي أحد وهو بعض الأمةيهودي، والإشارة بهذه إلى ما في الذهن، والأمة بيان له، والأمة حينئذ أمة الدعوة، وعلى أن يكون للبيان ولفظة (هذه) يكون إشارة إلى أمة اليهود والنصارى خاصة، جرد من الأمة اليهود والنصارى وهو كقوله (تعالى): (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) فسره صاحب الكشاف بالوجهين. فإن قلت: كيف يجعل من التبعيضية اسماّ؟ قلت: هو مجاز عن متعلق معناه. (الكشاف) في قوله تعالى: (فلن حاش لله):حرف من حروف الجر، وضعت موضع ـــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التنزيه والبراءة، والدليل عليه قراءة من قرأ (حاشا لله) بالتنوين، وإنما ترك على بنائه ولم يعرب مراعاة للأصل الذي هو الحرفية، ألا ترى إلى قولهم: جلست عن يمينه، كيف تركوه غير معرب على أصله؟ فإن قلت: كيف عطف (ولا نصراني) على (يهودي) وهو مثبت؟ والكلام الفصيح في العطف بلا: أن تكرار لفظه لا: كقوله (تعالى): (فلا صدق ولا صلى). قلت (يهودي) في حيز النفي؛ لكونه فاعلا للفعل المنفي، كقوله: (ماأدري ما يفعل بي ولا بكم). قال الشارحون: الأمة جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك، فأنه مجمل يطلق تارة ويراد بها كل من هو مبعوثا إليهم، آمن به أو لم يؤمن، ويسمون أمة الدعوة، وتطلق أخرى ويراد بها المؤمنون به المذعنون له، وهم أمة الإجابة، وهي ههنا بمعنى الأول؛ بدليل قوله: (ولم يؤمن بي) واللام فيها للاستغراق أو الجنس أو العهد، والمراد بها أهل الكتاب، ويعضد الأخير توصف الأحد باليهودي والنصراني. وفي تخصيص ذكر اليهودي والنصراني وأنهما من أهل الكتاب_ إشعار بأن حال العطلة وعبدة الأوثان وأضرابهم أكد، وهم أولى بالصلى. وتلخيص المعنى أن كل واحد من هذه الأمة إذا يسمع بي ويتبين له معجزتي ثم لا يؤمن برسالتي، ولم يصدق في مقالتي _ كان من أصحاب النار، سواء الموجود ومن سيوجد. (شف): لفظ ثم موضوع للتراخي، دال على أن الإيمان بما أرسل به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مهما صدر من الكافر وحصل منه فإنه ينفعه، ويمحي عنه ما سلف في كفره، وإن تراخي ذلك الإيمان عن أول سماعه لمبعثه، وتقدير الاستثناء: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ثم لم يؤمن بالذي أرسلت (به) فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أصحاب النار. أقول: والوجه أن يقال: إن (ثم) هذه للاستبعاد، كما (في) قوله (تعالى): (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) يعني ليس أحد أظلم ممن بينت له آيات الله الظاهرة والباطنة، ودلائله القاهرة، فعرفها ثم أنكرها، أي بعيد ذلك عن العاقل، كما تقول: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها! فالمعنى ما أبعد لذي العقل أن يسمع بي يهودي ونصراني بعد انتظارهما بعثتي، واستفتاحهما الكفرة بنصرتي؛ ثم لما بعثت لم يؤمن بي، فعلى هذا التقدير يختص الحديث بأهل الكتاب؛ ولا يحتاج إلى التكليف في نسبتهم إلى غيرهم، كما عليه كلام الشارحين.

11 - وعن أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها؛ فله أجران) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: في الحديث السماع والإيمان كلاهما منفيان، فيلزم على هذا من لم يسمع ولم يؤمن يكون من أصحاب النار، وهو خلاف قوله (تعالى): (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وكان من حق الظاهر أن يقول: يسمع ولا يؤمن. قلت: إن (ثم) للاستبعاد رجع حاصل معنى الاستثناء إلى قولنا: لا يحصل بهذا الاستبعاد المذكور في حق يهودي أو نصراني فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أهل النار، فالمنفي سماع لم يترتب عليه الإيمان؛ لأنه هو المستبعد، وفهم منه أن السماع الذي يترتب عليه الإيمان يكون حكمه بالعكس، ونظيره قوله (تعالى): (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم) في أحد وجهيه، وهو أن يكون الفعل المعلل منهياً، لا أن يكون الفعل المنهي معللا، فاعرف. الحديث التاسع عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه): قوله: (ثلاثة لهم أجران إعراب هذا التركيب كإعراب: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان) في الوجهين، لكن لا يجب هنا تقدير مضاف كما وجب هنالك لا ستقامته بدونه قال الشارحون: المراد بأهل الكتاب نصراني تنصر قبل المبعث، أو بلوغ الدعوة إليه، وظهور المعجزة لديه، ويهودي تهود قبل ذلك إن لم يجعل النصرانية ناسخة لليهودية، إذ لا ثواب لغيره على دينه فيضاعف باستحقاقه ثواب الإيمان. ويدل على ذلك أن البخاري يروي هذا الحديث وذكر بدل قوله: (آمن بنبيه) (آمن بعيسى) ويحتمل إجراؤه على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان به سبباً لقبول تلك الأعمال والأديان وإن كانت منسوخة، كما ورد في الحديث أن مبرات الكفار وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم. فإن قلت: أي فائدة في ذكر (آمن بنبيه) وقد علم ذلك من قوله: (من أهل الكتاب)؟ قلت: ليشعر بعلية الأجر، أي سبب الأجرين الإيمان بالنبيين. ـــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فأدبها) الأدب حسن الأحوال في القيام والقعود، وحسن الأخلاق، واجتماع الخصال الحميدة: (فأحسن تأديبها) أي أدبها من غير عنف وضرب، بل باللطف والتأني، (وعلمها) أي وعلمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، (فأحسن تعليمها) أي علمها بالرفق وحسن الخلق. فإن قلت: فيه إشكال، وهو أنه ينبغي أن يكون له أربعة أجور: أحدهما بتأديبها، والثاني بتعليمها، والثالث بإعتاقها، والرابع بتزوجها، فلم قال (فله أجران)؟ ولم يقل: له أربعة أجور؟ (مظ): قلنا: المراد بحصول الأجرين له ههنا بالإعتاق والتزوج؛ لأن التأديب والتعليم موجبان للأجر في الأجنبي والأولاد وجمع الناس. فلم يكن مختصاً بالإماء. أقول: موجب الأجرين إعتاقها وتزوجها فحسب، والتأديب والتعليم موجبان لاستنهالها الإعتاق والتزوج؛ لأن تزوج المرأة المؤدبة المعلمة أكثر بركة، وأقرب إلى تعين زوجها على دينه، والشاهد لفظه (ثم)؛ لكونها تفيد أن الإعتاق والتزوج أفضل وأعلى رتبة من التأديب والتعليم؛ لأنهما من التأديب والتعليم. والأولى أن يقال: إن التأديب بالعنف لا يوجب الأجر، كما أن الوطء بدون العتق لا يثبت الأجر لحصوله قبل ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كانت عنده أمة يطؤها) كأنه قيل: يؤدبها تأديباً حسنا، ويطؤها وطأ جميلا. وأما الفاء في (فأحسن) فللترتيب أيضاً، لكنها دون (ثم) كما في قولك: الأمثل فالأمثل، والأفضل فالأفضل، يعني التأديب والتعليم بالرفق أحسن وأفضل منه بالعنف. ووجه اقتران هذا الحديث السابق وجه ثواب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقابهن في المضاعفة، كقوله (تعالى): (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) إلى آخره، فينبغي أن ينزل الحديث الأول على أنهم أولى الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمعرفتهم به؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، فإذا كفروا به استوجبوا من العذاب ضعف عذاب الناس، والعكس إذا آمنوا، فدل على هذا المعنى بالحديث، وعلى استحقاق ضعف العذاب قوله: (إلا كان من أصحاب النار)؛ لأنه في قوة أنه من الجهنميين، فهو من أسلوب قوله: فلان من العلماء، أي له مساهمة معهم في العلم، وأن الوصف كاللقب المشهور له. قوله (فله أجران) هذا تكرير لطول الكلام اهتماماً بشأن الأمة وتزوجها مثله قول الحماسى: وإن امرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنه لكريم ـــــــــــــــــــــ

12 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإِذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إِلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله). متفق عليه. إِلا أن مسلما لم يذكر: (إِلا بحق الإسلام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن ابن عمر (رضي الله عنهما): (أن أقاتل الناس) قال أكثر الشارحين: أراد بالناس عبدة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم لا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو يعطوا الجزية. أقول: تحرير ذلك أن (حتى) للغاية، وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية المقاتلة القول بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ورتب على ذلك العصمة، فيكون ذلك العصمة، وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية سقط عنهم القتال، وثبت لهم العصمة، فيكون ذلك تقييداً للمطلق، فالمراد بالناس إذا عبدة الأوثان. والذي يذاق من لفظ (الناس) العموم والاستغراق، كما في قوله (تعالى): (يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله). وبيانه من وجوه: أولها: أنه من العام الذي خص منه البعض؛ وذلك لأن القصد الأولى من هذا الأمر حصول هذا المطلوب، كقوله (تعالى): (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإذا تخلف منه في بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط عنهم المقاتلة (وتثبت العصمة). وثانيهما: أن يعبر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله وإظهار دينه وإذعان المخالفين، فيحصل ذلك في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء الجزية، وفي الآخرين بالمهانة، ألا ترى أن المنافق إذا أظهر الإيمان سقط عنه القتل، ودخل تحت العصمة، وهو أغلظ كفراً من الكتابي؟ وسبيل هذا الأسلوب سبيل قوله (تعالى): (الذين يؤذون الله ورسوله) وإيذاء الله محال، فجعل عبارة عما يكرهانه، ولا يرضيان به ليعم. ــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وثالثهما: أن الغرض من الجزية وإنزال الصغار والهوان على الذمي اضطرارا هم إلى الإسلام، وإبدالهم العزة بالذلة، وسبب السبب سبب؛ فيكون المقاتلة سبباً للقول والفعل. ويظهره قوله (تعالى): (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) المنزل هو المطر، وهو سبب لإنبات الشعب وهو سبب لتكثير الحيوان، فعلى هذا غلب في الحديث السبب الأول_ أي المقاتلة_ على السبب الثاني_ أخذ الجزية_ كما غلب العم على أحد الأبوين، على أن الاحتمال قائم في أن ضرب الجزية كان هذا بعد القول. (قض): إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت) فهم منه أن الله (تعالى) أمره، وإذا قاله الصحابي (رضي الله عنه) فهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره، فإن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الرئيس أمره، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر والمقاتلة عليهما أيضا بحق الإسلام؛ لأنهما أم العبادات البدنية والمالية، والمعيارعلى غيرهما والعنوان له، ولذلك سمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإيمان، وأكثر الله (سبحانه تعالى) من ذكرهما مقارنتين في القرآن. أقول قوله: (إلا بحق الإسلام) استثناء من أعم عام الجار والمجرور، فمعنى الحديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا عصموا مني دماءهم (وأموالهم، فلا يجوز إهدار دمائهم) واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب، إلا بحق الإسلام: من قتل النفس المحرمة، وترك الصلاة والزكاة بتأويل باطل، وغير ذلك. وأما تقديم قوله: (تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة) وإزالتهما عن مقرهما هذا وعطفهما على الشهادتين_ فللدلالة على أنهما بمنزلتهما في كونهما غاية للمقاتلة، إيذاناً أم العبادات وأساسها، قريب منه في العطف قوله (تعالى): (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء) في سالف عهده في العظم والقدم، وإليه أشار صاحب الكشاف، حيث قال: إيذاناً بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظام. ويؤيد هذا التأويل رواية أبي هريرة (رضي الله عنه) فإنه لم يذكر فيها الصلاة والزكاة. قوله: (وحسابهم على الله) فيما يسرون به من الكفر والمعاصي، والمعنى أنا نحكم عليهم بالإيمان، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام، وبحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله (سبحانه وتعالى) يتولى حسابهم، فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق، ويجازي المسر بفسقه أو يعفو عنه. (خط): فيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهو قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل. (مح): اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق، وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه خمسة أوجه: أصحها قبولها مطلقا؛ للأحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني لا تقبل، ويتحتم

13 - وعن أنس، أنه قال رسول الله: (من صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمةُ الله وذمةُ رسولا، فلا تحفروا الله في ذمته). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة. والثالث: إن تاب مرة واحدة قبلت توبته، فإن تكرر منه ذلك لم تقبل. والرابع: إن أسلم ابتداء من غير طلب منه، وإن كان تحت السيف فلا. والخامس: إن كان داعيا إلى الضلال لم تقبل منه وإلا قبلت. (شف): وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضا إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون بين قتلى غلف عزل في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه. (حس): لم يذكر في حديث أبي هريرة (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) وذكر في الحديث ابن عمر وأنس (رضي الله عنهما). (خط): إنما اختلف الألفاظ لاختلاف الأوقات، فإن فرائض الدين كانت تشرع شيئًا بعد شيء، فالحديث الأول كان قبل وجوب هذه الفرائض، والحديثان الآخران بعد وجوبهما. الحديث الحادي عشر عن أنس (رضي الله عنه): قوله: (من صلى صلاتنا) قالوا: أي صلى كما نصلي، ولا يوجد ذلك إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله (تعالى) فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل واحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا، كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا. ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره عبادة، أعقبه بذكر ما يميزه عبادة وعادة، فقال: (وأكل ذبيحتنا) فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العبادات فكذلك من العادات الثابتة في كل ملة. أقول (والله أعلم): إذا أجري الكلام على اليهود سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة؛ لأن اليهود خصوصاً يمتنعون عن أكل ذبيحتنا، وهم حين حولت القلبة شعنوا بقولهم: (ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا ــــــــــــــــــ

14 - وعن أبي هريرة، قال أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: دُلني على عملِ إذا عملتهُ دخلتُ الجنة. قال (تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضان). قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقُصُ منه. فلما ولى، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (من سرَّهُ أن ينظرَ إلى رجل من أهل الجنة فلينظُرُ إلى هذا).متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــ عليها) أي صلوا صلاتنا، وتركوا المنازعة في أمر القبلة، والامتناع عن أكل الذبيحة لأنه من باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الكلام فيه وما هو مهتم بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضاً عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين. وخفر يحفر بالكسر خفراً فهو خفير إذا أجار، وكذلك خفر يخفر تخفيراً وأخفرته للتعدية إلى مفعول ثان، بمعنى جعلت له خفيراً، أو للسلب بمعنى غادرته ونقضت عهده، وعليه معنى قوله: (فلا تخفروا الله في ذمته) أي لا تعاملوا معاملة الغادر في نقض عهده واغتيال مؤمنه، والذمة الأمان، وأذمه أجاره، أي له أمان الله نكال الكفار، وما شرع لهم من القتل والقتال. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (لا أريد على هذا شيئاً) (مح): فإن قيل: كيف قال: (لا أزيد على هذا) وليس في هذا الحديث الواجبات، ولا المنهيات، ولا السنن المندوبة؟ فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح المقصودة: (فأخبر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله قال: فرض الله (تعالى) على شيئاً) فعلى هذا عموم قوله: (بشرائع الإسلام) وقوله: مما فرض الله علي) يزيل الإشكال في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا عموم قوله: (بشرائع الإسلام) وقوله: (مما فرض الله علي) يزيل الإشكال في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل شرعيتها، وقيل: يحتمل أنه أراد أن لا أزيد في الفرائض، فأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل شرعيتها، وقيل: يحتمل أنه أراد أن لا أزيد في الفرائض بتغيير صفة، كأنه يقول: لا أصلى الظهر خمسا، وهذا تأويل ضعيف. ويحتمل أنه أصلي النافلة، مع أنه لا يخل بشئ من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك، على أن المواظبة على ترك السنن مذمومة، وترد بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاص، بل هو مفلح ناج. وأعلم أنه لم يأت في هذا الحديث ذكر الحج، ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غيره من نحو الأحاديث، لم يذكر في بعضها الصوم، ولم يذكر في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

15 - وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ. قال: قلتُ يا رسولَ الله! قلُ لي في الإسلام قولا لا أسألُ عنه أحداً بعدك_ وفي رواية: غيرك_ قال: (قُل: آمنتُ بالله، ثم استقم). رواه مسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان؛ فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصانّا، إثباتاَ وحذفا. وقد أجاب القاضي عياض وغيره عنها بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وهذبه، فقال: ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر واختصر على ما حفظه فأداه، ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وقد وقع التفاوت عن واحد، ألا ترى إلى حديث نعمان بن نوفل اختلفت الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان، مع أن راوي الجميع واحد_ وهو جابر بن عبد الله_ وفي قضية واحد. ثم ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح؛ لما عرف في مسألة زيادة الثقة من أنها مقبولة أيضا. (قض): وينبغي لك أن أن تعلم أن الحديث الواحد إذا رواه راويان، واشتملت إحدى الروايتين على زيادة، فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي قلبت، وحمل ذلك على نسيان الآخر لذهوله، أو اقتصاره بالمقصود منه في صورة الاستشهاد؛ وإن كانت مغيرة تعارضت الروايتان وتعين طلب الترجيح. فإن قلت: كيف قرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حلفه؟ وقد جاء النكير على من حلف أن لا يفعل خيراً، والنهي عنه في قوله (تعالى): (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا)؟ قلت: المنع والنكير إنما كان عن عناد، إذا لا شك أن ترك النوافل جائز، والحلف على المباح غير محرم، ولهذا الكلام محمل آخر، وهو أن يكون السائل رسولا، فحلف أن لا أزيد في الإبلاغ على ما سمعت، ولا أنقص. وقال غيره: يحتمل أن يكون صدور هذا الكلام منه على المبالغة في التصديق والقبول، أي قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول. قوله: (من سره) السرور انشراح الصدر بلذة فيها طمأنينة النفس عاجلا، وذلك في الحقيقة إنما يكون إنما يكون إذا يخف زواله، ولا يكون فيما يتعلق بالأمور الآخرة لا في الدنيوية. قال: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا الحديث الثالث عشر عن سفيان (رضي الله عنه): قوله: (قل لي في الإسلام) أي قل لي فيما يكمل الإسلام به، ويراعى به حقوقه، ويستدل به على توابعه ولواحقه قولا لا أفتقر معه أن ــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أسأل أحدّا غيرك. فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم) استقم لفظ جامع للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن جميع المناهي؛ لأنه لو ترك أمرا لم يكن مستقيما على الطريق المستقيم، بل عدل عنه حتى يرجع إليه، ولو فعل منهيّا فقد عدل الطريق المستقيم، أيضّا حتى يتوب، وهذا ما عليه كلام الشارحين. قوله: (لا أسأل أحدّا بعد سؤالك هذا، كقوله (تعالى): (وما يمسك فلا مرسل له من بعده) أي من بعد إمساكه، وقوله في رواية أخرى (غيرك) ملزوم ذلك اللفظ، فإنه إذا لم يسأل بعد سؤاله أحدّا يلزم منه أن لا يسأل غيره. قوله: ثم (استقم) (شف): لفظ (ثم) موضوع للتراخي دالة على أن الكفار غير مكلفين بفروع الإسلام، بل هم مكلفون بأصوله فقط، فإذا آمنوا كلفوا بفروعه. وأقول: اتفق علماء البيان على أن (ثم) في مثل قوله (تعالى): (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) وقوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) للتراخي في الرتبة، وأن الثبات والاستقامة على ذلك أفضل من قول: آمنت بالله، ومقتضياته، وذلك أن هذا القول ادعاء من القائل بأنه رضي بالله ربا، والرضى بذلك إقرار بأن المعبود الخالق المنعم على الإطلاق مالكه ومدبر أمره، يوجب القيام بمقتضياته من الإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ومن الشكر باللسان، وتحقيق مراضيه بالقلب والجوارح. ثم الاستقامة على هذا، والثبات عليه، وألا يروغ روغان الثعلب_ أفضل وأكمل. فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين قول الشارحين؟ نقول: إن قوله: (آمنت بالله) على هذا مستتبع لما ذهب إليه الشارحون في تفسير قوله: (ثم استقم) فيسلم على هذا معنى الاستقامة للثبات؛ والاستدامة على القول ومقتضياته، فتحسن موقع (ثم) المستدعية للتراخي في الرتبة لا الزمان لفساده، وينصره قوله: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) فإن قوله: (ثم لم يرتابوا) يفسر معنى قوله: (ثم استقاموا) بالثبات، وهو لتفسير الشارحين غير مطابق. وأيضا لما تقرر من قبل أن مذهب الصحابة والتابعين والمحدثين على أن الإيمان مشتمل على التصديق بالجنان والقول باللسان والعمل بالأركان_ وجب حمل معنى قوله: (آمنت) على المجموع، وقوله: (ثم استقم) على الثبات على ذلك. ــــــــــــــــــــــ

16 - وعن طلحة بن عُبيد الله، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد، ثأئر الرأس، نسمع دويَّ صوته ولا نفقهُ ما يقول، حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسألُ عن الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خمسُ صلوات في اليوم والليلة). فقال: هل عليَّ غيرُهنَّ؟ فقال: (لا) إِلا أن تطوع). قال: وذكر له صيام شهر رمضان. قال: هل علىّ غيرها؟ فقال: (لا) إلا أن تطوع) قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ منه. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح الرجلُ إن صدق). متفقٌ عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم إني_ بعد لطف الله وتوفيقه_ عثرت على نقل من جانب الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض المغربي أنه قال: هذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - وهو مطابق لقوله (تعالى): (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي وحدوا الله تعالى وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن توحيدهم، والتزموا طاعته (سبحانه وتعالى) إلى أن يتوفوا على ذلك. وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم، وهو معنى الحديث، هذا كلام القاضي عياض. وقال ابن عباس في قوله (تعالى): (واستقم كما أمرت): ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين قالوا: قد أسرع إليك الشيبة، قال (شيبتني هود وأخواتها) تم كلام الشيخ محيي الدين، والحمد لله على توارد الخواطر. قال الإمام فخر الدين الرازي في قوله (تعالى): (فاستقم كما أمرت): استقامة المأمور صعب شديد؛ فإنها تشتمل العقائد، والأعمال، والأخلاق، والاستقامة في العقائد أن يجتنب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يحترز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يبعد عن طرفي الإفراط والتفريط. الحديث الرابع عشر عن طلحة (رضي الله عنه): (جاء رجل من أهل نجد) النجد في الأصل ما ارتفع من الأرض، وبه سميت الأراضي الواقعة بين تهامة والعراق. و (ثائر الرأس) ـــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منتشر شعر الرأس, من: ثار الغبار يثور ثوراً وثورانا, (والدوي) هو الصوت الذي لا يفهم منه شيء، من: دوي النخل. و (ثائر الرأس) ينتصب. قوله: على الحال من (رجل) بوصفه، والرفع فيه حسن على الصفة لولا (عن الإسلام) , أي فرائضه التي فرضت على من وحد الله وصدق رسوله، ولهذا لم يذكر فيه الشهادتين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن الرجل يسأل عن شرائع الإسلام ويمكن أنه سئل عن حقيقة الإسلام، وقد ذكر له الشهادة فلم يسمعها طلحة لبعد موضعه منه، وقد القول أمثل وأجمع فلما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتضاه حلف أني أجتهد في تبليغ ما سمعته منك إليهم، بحيث لا أزيد عليه ولا أنقص منه. قوله: (أفلح الرجل) قيل: وهو الظفر وإدراك البغية، وهو ضربان: دنيوي وهو الظفر بما تطيب به الحياة الدنيا، وأخروي، وهو إدراك ما يفوز به الرجل في الدار الآخرة. وقد قيل: إنه أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا ذل، وعلم بلا جهل، قاله الراغب. قيل: قوله: (هل على غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع) فيه تمسك لأصحابنا في أصلين: أحدهما: في شمول عدم الوجوب في غير ما ذكر في الحديث كعدم وجوب الوتر، والتسمية في الذبح، والتباعد بقدر القلتين عن جوانب النجاسة في الماء الراكد، والوليمة والعقيقه. والثاني: في أن الشروع غير ملزم؛ لأنه في وجوب شيء آخر مطلقا، شرع فيه أو لم يشرع. وأصحاب أبي حنيفة تمسكوا به من وجه أخر قالوا: الشروع ملزم؛ لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، والمنفي وجوب شيء آخر، فيكون المثبت بالاستثناء وجوب ما تطوع به، وهو المطلوب. هذا مغالطة؛ لأن هذا الاستثناء من بوادي قوله الله (تعالى): (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) وقوله (تعالى) (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي لا يجب عليك شيء قط إلا أن تطوع، وقد علم أن التطوع ليس بواجب؛ فليزم أن لا يجب عليه شيء قط. وإنما لم يذكر الحج؛ لأن الحديث حكاية حال الرجل لقوله: (هل على غيره؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بما عرف من حاله، ولعله ممن لم يكن عليه الحج واجبا، وإذا احتمل ما ذكرنا فليحمل عليه جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على وجوب الحج، ولهذا المعنى قال علماء الأصول: حكاية الحال لا تعادل العمومات. وقيل: إنما يذكر لم يذكر الحج لأنه لم يفرض حينئذ أو سقط عن بعض الرواة ذكره، وذكر له الزكاة، هذا قول الراوي، فإنه نسي ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التبس عليه، فقال: (ثم ذكر له الزكاة) وهذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ مشروطة في الرواية، فإذا التبس عليه بعضها فيشير في ألفاظه إلى ما ينبئ عنه، كما فعل راوي هذا الحديث، أو يقول: كما قال، أو غير ذلك.

17 - وعن ابن العباس _ رضي الله عنهما_ قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من القومُ؟ _ أو: من الوفد؟ _) قالوا: ربيعة. قال: (مرحبا بالقوم _ أو: بالوفد _ غير خزايا ولا ندامى). قالوا يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحيُّ من كفار مضر؛ فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع: ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن ابن عباس (رضي الله عنهما_ قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ جمع وافد، كصحب جمع صاحب، يقال: وفد الوافد يفد وفدا ووفادة، إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر، كزيارة واسترفاد وانتجاع. وعبد القيس من ربيعة، وهي قبيلة عظيمة، ومضر في مقابلتهم، ولفظة (أو) شك من الراوي، و (مرحبا) مأخوذ من: رحب رحبا (بالضم) إذا وسع، وهو من المفاعيل المنصوبة بعامل مضطر لازم إضماره ومعناه: أصبتم رحبا وسعة. و (غير) حال من الوفد، أو القوم، والعامل فيه الفعل المقدر، و (خزايا) جمع خزيان، من خزي بمعنى ذل. قوله: (ملا ندامى) معناه ولا نادمين، وغير العبارة فيها مراعاة للمطابقة، كقولهم: (الغدايا والعشايا). (والأمر الفصل) هو الحكم الواضح الذي لا إجمال فيه، وقوله: (وسألوه عن الأشربة) أي ظروف الأشربة، محذوف المضاف، أو عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، محذوفة الصفة، و (الحنتم) الجرة الخضراء، و (الدباء) (بضم الدال وتشديد الباء) القرع، و (النقير) أصل خشبة ينقر فينبذ فيه، و (المزفت) المطلى بالزفت، وتحريم الانتباذ في هذه الظروف كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهو المذهب. وقال البعض: التحريم باق، وإليه ذهب مالك وأحمد. (قض): والمقصود بالنهى ليس استعماله مطلقا، بل التنقيع فيها، والرب منها ما يسكر، وإضافة الحكم إليها إما لا عتيادهم استعمالها في المسكرات، أو لأنها أوعية تسرع بالاشتداد فيما يستنقع، فلعلها تغير النقيع في زمان قريب، ويتناوله صاحبه على غفلة بخلاف السقاء فإن التغير إنما يحدث فيه على مهل ومرور زمان، ولا يخفى أن الدليل على هذا ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (نهيتكم عن النبيذ في السقاء، فا شربوا الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا). قولهم: (إنا لا نستطيع) وذلك أن هل الجاهلية كانوا يكفون فيها عن الانتهاك الانتهاب؛ قوله: (بأمر فصل) يحتمل أن يكون الأمر واحد الأوامر، وأن يكون بمعنى الشأن، و (فصل) يحتمل أن تكون بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وهو الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، وأن يكون بمعنى المفصل، أي مبين مكشوف ظاهر ينفصل به المراد ـــــــــــــــــــــ

أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس). ونهاهم عم أربع: عن الحنتم، والدُّباء، والنقير، والمزفتِ وقال: (احفظوهنَّ وأخبروا بهن من وراءكم). متفق عليه، ولفظه للبخاري. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن الاشتباه، فإذا كان بمعنى الشأن والفاصل _ وهو الظاهر _ يكون التنكير للتعظيم بشهادة قوله: (تدخل به الجنة) كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (سألتني عن عظيم) في جواب معاذ: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة) فالمناسب حينئذ أن يكون الفصل لتفصيله (- صلى الله عليه وسلم -) الإيمان بأركانه الخمسة كما فصله في حديث معاذ. وإن كان بمعنى واحد الأوامر فيكون التنكير للتقليل، فإذا المراد به اللفظ، والباء للاستعانة، والمأمور به محذوف، أي مرنا بعمل بواسطة افعل. وتصريحه في هذا المقام أن يقال لهم: آمنوا وقالوا: آمنا، هذا هو المعنى بقول الراوي: (أمرهم بالإيمان بالله وحده). وعلى أن يراد بالأمر الشأن أن يكون المراد معنى اللفظ ومواده، وعلى هذا الفصل بمعنى الفاصل، أي مرنا بأمر فصل، أي جامع قاطع كما مرّ في قوله (- صلى الله عليه وسلم -): ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) فالمأمور به هاهنا أمر واحد، وهو الإيمان، والأركان الخمسة كالتفسير للإيمان بدلالة قوله (- صلى الله عليه وسلم -): (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) ثم بينه بما قال. فإن قيل: على هذا في قول الراوي إشكالان: أحدهما: أن المأمور به واحد وقد قال: أربع. وثانيهما: أن الأركان خمسة وقد ذكر أربعا. والجواب عن الأول أنه جعل الإيمان أربعا باعتبار أجزائه المفصلة، وعن الثاني أنه من عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوباً لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له وتوجهه إليه، كان ما سواه [مرفوض مطرح]، ومنه قوله تعالى: (فعززنا بثالث) أي فعززناه، بترك المنصوب وأتى بالجار والمجرور؛ لأن الكلام لم يكن مسوقا له، فهاهنا لما لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي ـــــــــــــــــــــ

18_ وعن عبادة بن الصامت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجرهُ على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا؛ فهو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشهادة بدليل قولهم (الله ورسوله أعلم) وترحيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم، ولكن كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، وأنهما كافيتان لهم، وكان الأمر في صدر الإسلام كذلك_ لم يجعله الراوي من الأوامر، وقصد به أنه - صلى الله عليه وسلم - نبههم على موجب توهمهم بقوله: (أتدرون ما الإيمان؟) ولذلك خصص ذكر: (أن تعطوا من المغنم الخمس) حيث أتى بالفعل المضارع على الخطاب؛ لأن القوم كانوا أصحاب حروب وغزوات، بدليل قوله: (بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر) لأنه هو الغرض من إيراد الكلام، فصار أمرا من الأوامر. وفيه دليل على أن إبلاغ الخبر وتعليم العلم واجب، حيث قال: (أخبروا بهن من وراءكم) والأمر للوجوب، ذكره في شرح السنة. (مح): قال بعض شارحي البخاري: أمرهم بالأربع التي وعدهم، ثم زاد خامسة؛ لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، وكانوا أهل جهاد وغنائم. وقال ابن الصلاح: (وأن تؤدوا) عطف على قوله: (بأربع) فلا يكون واحداً منها، وإن كان واحداً من مطلق شعب الإيمان. قال القاضي عياض: إنما لم يذكر الحج، لأن وفادة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر. الحديث السادس عشر عن عبادة: قوله: (العصابة) بالكسر الجماعة من الناس ليس لها واحد، والعصبة من الرجال ما بين العشرة إلى الأربعين، أخذ من العصب، وهو الشد، كأنه يشد بعضهم بعضا. قوله: (بايعوني) المبايعة المعاهدة، من البيع، والبيعة والتبايع مثله، سميت بذلك تشبيهاً بالمعاملة في المجلس. (نه): المبايعة على الإسلام عبارة على المعاقدة عليه والمعاهدة، سميت بذلك تشبيهاً بالمعاوضة المالية؛ فإن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. والبهتان الكذب الذي يبهت سامعه، أي يدهش ويتحير لفظاعته. والافتراء الاختلاق، والفرية الكذب، كأن الافتراء من الإفراء، وهو قطع الأديم على جهة الإفساد، والعصيان في الأصل الامتناع عن الشيء والتأبي عنه. قوله: (المعروف) (النهاية): (هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والتقرب إليه،

كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه في الدنيا؛ فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة). قوله: (ولا تأتوا ببهتان تفترونه) فإن قلت: ما معنى الإطناب؟ حيث قال: تأتوا، ووصف البهتان باالافتراء والبهتان من واد واحد، وهلا اقتصر على: ولا تبهتوا الناس؟ قلت: معناه مزيد التقرير وتصوير شناعة هذا الفعل، وتعليق معنى زائداً عليه، وذلك من أربعة أوجه: أولها: معناه: ولا تأتوا ببهتان من قبل أيديكم وأرجلكم، أي من قبل أنفسكم جناية يفضحونهم بها وهم برءاه، واليد والرجل كنايتان عن الذات. وثانيها: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحا يشاهد بعضكم بعضا، كما يقال: فعلت هذا بين يديك، أي بحضرتك، وهذا النوع أشد ما يكون من البهت. وثالثهما: معناه: لا تفتروه ولا تنشئوه من ضمائركم؛ لأن المفترى إذا أراد اختلاق قول فإنه يقدره ويقرره أولا في ضميره) ومنشأ ذلك ما بين الأيدي والأرجل من الإنسان، وهو القلب، الأعضاء، كما يقال: فلان صنع عندي يدا، وله عندي يد. ورابعها: نسبة الافتراء إلى اليد والرجل بسبب أنهن عوامل، وإن شاركها سائر الأعضاء، كما يقال: فلان صنع عندي يداً، وله عندي يد. أقول: الوجه الأول والرابع متقاربان في المعنى، وهما كنايتان عن إلقاء بهتان من تلقاء أنفسهم من غير أمارة، من قبيل قوله تعالى: (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) أي أن هذا البهتان يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم القلوب. والثاني كناية عن الوقاحة وخرق جلباب الحياء، كما هو أدب الأوغاد والسلفه من الناس، ولذلك قيل: هو أشد البهت. والثالث كناية عن إنشاء بهتان من دخيلة قلوبهم مبينا على الظن الفاسد والغش المبطن. وقالوا: لفظ (ذلك) إشارة إلى ما سبق سوى الشرك، فإنه لا يكفر عنه بالقتل، ولا ــــــــــــــــــــــــــ

19_ وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: (يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتُكُن أكثر أهل النار) فقلن: وبم يا رسول الله، قال: (تكثرن اللعنَ، وتكفرن العشيرَ، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن). قلن: ما نقصانُ ديننا وعقلنا؟ يا رسول الله! قال: (أليس شهادةُ المرأة مثل نصفِ شهادةِ الرجل؟). قلن: بلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يعفى عنه، والمراد المؤمنون خاصة؛ لأنه معطوف على قوله: (فمن وفى)، وهو خاص بهم لقوله: (منكم) تقديره: ومن أصاب منكم أيها المؤمنون من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا وأقيم الحد عليه لم يكن له عقوبة لأجل ذلك في القيامة. أقول: ما قالوا ضعيف؛ لأن الفاء في (فمن) للترتيب، ترتب ما بعدها على ما قبلها، وقوله: (منكم) ضمير العصابة، وقد بين بقوله: (من أصحابه) فكيف يخصص الشرك بالغير؟ والصحيح أن المراد بالشرك الرياء؛ لأنه الشرك الخفي، قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) ويدل عليه تنكير (شيئا) أي شركا أيا ما كان. وقيل لفظ (وفى) يرشد إلى أن الأجر إنما ينال بالوفاء بالجميع، والعقاب ينال بترك أي أحد كان من ذلك؛ لأن معنى الوفاء الإتيان بجميع ما التزمه من العهد والحقوق، وأن (من) في قوله: (فمن أصاب من ذلك) للتبعيض، وفي قوله: (فهو إلى الله) إشارة إلى ما ذهبت إليه الأشاعرة، وهو أنه لا يجب على الله تعالى عقاب عاص، وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب مطيع أيضّا؛ إذ لا قائل بالفصل، وفيه أيضّا إشارة إلى أنه لا يجوز الشهادة بالجنة ولا بالنار لأحد بعينه إلا من ورد فيه النص، كالعشرة المبشرة رضي الله عنهم وغيرهم. الحديث السابع عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: (يا معشر) المعشر: الجماعة، من العشرة بمعنى المعاشرة، والعشير المعاشر، والمراد به الزوج، والخطاب عام غلبت فيه الحاضرات على الغيب، كما في قوله تعالى (يأيها الناس اعبدوا ربكم) واللام للاستغراق. قوله: (تكفرن) قال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشيء، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، قال: (لا كفران لسعيه) وأعظم الكفر جحود الوحدانية، والربوبية، والنبوة، والشريعة. والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما ـــــــــــــــــــــــــــ

قال: (فذلك من نقصان عقلها. قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تضم؟). قلن: بلى. قال: (فذلك من نقصان دينها). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جميعا. قال (فأبى أكثر الناس إلا كفوا). وامن ناقصات) صفة موصوف محذوف، أي ما رأيت أحداً من ناقصات العقل. والعقل غريزة في الإنسان، يدرك بها المعنى، ويمنعه عن القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. واللب العقل الخالص من الشوائب. وسمى بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، وكل لب عقل وليس كل عقل لبا. وأصل اللعن إبعاد الله تعالى العبد من رحمته بسخط، ومن الإنسان الدعاء عليه بالسخط، وكفران العشير جحد نعمة الزوج عليهن، واستقلال ما كان منه، والحزم ضبط الرجل أمره وأخذه بالشقة. (وأريتكن) بمعنى أخبرت وأعلمت بأنكن أكثر أهل النار، فهو يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل: الأول ضمير المتكلم المتصل به، والثاني ضمير المخاطب وهو كن، والثالث قوله: (أكثر). و (من) في قوله: (من ناقصات) مزيدة استغراقية لمجيئها بعد النفى، ومن ثم قيل: (أكثر). و (من) فيه متعلق ب (أذهب) والمفضل عليه مفروض مقدر. ويحتمل أن يكون (من) بيانا للناقصات على سبيل التجريد، كقولك: رأيت منك أسداً، جرد من إحداكن ناقصات، ووصفها بالجمع على طريقة (شهابا رصد)، و (أذهب) لمطلق الزيادة، صفة موصوف محذوف، أي ما رأيت أحداً، و (أذهب) صفة (أحد)، و (ذلك) إشارة إلى الحكم المذكور، والكاف فيه للخطاب العام، وإلا لقال: ذلكن؛ لأن الخطاب مع النساء. (مح): وفي الحديث أحكام، منها الحث على التصدق وأفعال البر، وفيه أن الحسنات يذهبن السيئات، وفيه أن كفران إحسان العشير من الكبائر؛ لأنهن يوعدون بالنار، وفيه أن اللعن أيضاً من المعاصي الشديدة القبح، وليس فيه أنه كبيرة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (تكثرن اللعن) والصغيرة إذا كثرت صارت كبيرة. ــــــــــــــــــ

20_ وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: كذبني ابنُ آدم ولم ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياى فقوله: لن يُعيدني كما بداني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته. وأما شتمه إياى: فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد). وكما تعلق العقل والدين بالخصلتين السابقتين كما بيناه تعلقا بقوله: (أذهب للب الرجل الحازم) على طريقة التفريط في جانبيهن، والإفراط في جانب الرجل حيث وصفه بالحزم، ولو لم يكن للحازم سوى قوله تعالى: (من خشى الرحمن بالغيب) لكفى به مدحا، يعنى بلغ من حزمه أنه يخشى من هو واسع الرحمة، مولى جلائل النعم وعظامها، فكيف خشية من وصف القهارية؟ ومن هو ثم ورد في الحديث: (الحزم سوء الظن) وذلك أن المتقى ذا الحجى والنهية يرجح جانب الحزم في كل شي؛ لأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وعليه يبنى معظم أساس قاعدة العارفين في معاملتهم للنفس الأمارة، ومعظم مكايد الحروب. والغرابة فيه أنه جعل هذا الرجل الكامل الحازم منقاداً مسترسل الزمام لتلك الناقصات الحائزات للرذيلتين، وكأن جريراً رمز إلى هذا المعنى بقوله: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا فهو من [أسلوب الرجوع]، يعنى أنتن وما فيكن من تينكن الرذيلتين خلقتن ناعمات سالبات لنهبة الرجل الكامل بجمالكن ودلالكن. وإفراد الرجل إشارة إلى أن حبهن من جبلة الرجال، وأنهن مزينات لهم، كقوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء). ويجوز أن يكون من [أسلوب الاستتباع] ذمهن بالرذيلتين، بحيث استتبع منه ذما آخر وهو سلب لب الحازم بالخداع ولطائف الحيل، وفي عكسه فعل أبو الطيب. نهبت الأعمار ما لو حويته ... لهنيت الدنيا بأنك خالد مدحه بالشجاعة بحيث استتبع منه صلاح الدنيا بحسن تدبيره، فالجواب من الأسلوب ـــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحكيم؛ لأن قوله: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين) إلى آخره زيادة، فإن قوله: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير) جواب تام. الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (وأنا الأحد) (نه): الأزهري: الفرق بين الواحد والأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد تقول: ما جاءني أحد. والواحد أسم بني لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من (الناس)، ولا تقول: جاءني أحد، والواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى. والصمد: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد إليه، وقال الزجاج: الصمد: السيد الذي انتهى إليه السؤدد فلا سيد فوقه، الكفؤ: المثل المكافئ. (قض): في قوله: (وليس أول الخلق بأهون على من إعادته) إشارة إلى برهان تحقق المعاد، وإمكان الإعادة، وهو أن يتوقف عليه تحقق البدن من أجزائه وصورته لو لم يكن وجود ممكناً لما وجد أولا. وقد وجد، وإذا أمكن لم يمتنع لذاته وجوده ثانياً، وإلا لزم انقلاب الممكن لذاته ممتنعاً لذاته، وهو محال. وتنبيه على تمثيل يرشد العامي، وهو ما يرى في المشاهدات أن من عمد إلى اختراع صنعة لم ير مثلها ولم يجد لها عددً وأصولا صعب عليه ذلك، وتعب فيها تعباً شديداً، وافتقر إلى مكابدة أفعال، ومعاونة أعوان، ومرور أزمان، ومع ذلك، فكثيراً ما لا يستتب له الأمر، ومن له المقصود. ومن أراد إصلاح منكسر، وإعادة منهدم، وكانت العُدد حاصلة، والأصول باقية_ هان عليه ذلك، وسهل جداً. فيا معشر الغواة! أتحيلون إعادة أبدانكم وأنتم معترفون بجواز ما هو أصعب منها؟ بل هو كالمعتذر بالنسبة إلى قدركم وقواكم، وأما بالنسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة ولا صعوبة، يستوي عنده تكوين بعوض طيار، وتخليق فلك دوار، كما قال عز اسمه: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر). والشتم: توصيف الشيء بما هو إزراء ونقص فيه، وإثبات الولد كذلك؛ لأنه قبول بممائلة الولد في تمام حقيقة، وهي مستلزمه للإمكان المتداعي إلى الحدوث؛ ولأن الحكمة في التوالد استبقاء النوع، فلو كان الباري تعالى متخذا ولداً لكان مستخلفا خلفا يقوم بأمره بعد عصره_ تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وأقول: ذكر الله تعالى تكذيب ابن ادم وشتمه وعظمها، ولعمري! إن أقل الخلق وأدناه) إذا نسب ذلك إليه استكف، وامتلأ غضبا، وكاد يستأصل قائله، فسبحانه ما أحمله وما أرحمة! (وربك الغفو ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا). ثم انظر إلى كل واحد من التكذيب والشتم وما يؤديان من التهويل والفظاعة، أما الأول فإن منكر الحشر جعل الله تعالى كاذباً، والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى، ويجعل حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض عبثاً ولعباً، قال الله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر _ إلى قوله_ ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) علل الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض والاستواء ــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على العرش لتدبير العالم بالجزاء، من ثواب المؤمن وعقاب الكافر، ولا يكون ذلك إلا في القيامة، فيلزم منه أن لو لم يكن الحشر لكان ذلك عبثاً ولهواً؛ لقوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، وفيها كثرة. وأما الثاني فإن قائله يحاول إزالة المخلوقات بأسرها، ويزاول تخريب السموات من أصلها، قال الله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً) ثم تأمل في مفردات التركيب لفظه لفظه، لأن قوله: (لم يكن له ذلك) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية؛ لأن قوله: (لم يكن له ذلك) نفي الكينونة التي بمعنى الانتفاء، كقوله تعالى: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها). (الكشاف): ومعنى الكينونة (الانبغاء)، أراد أن تأتي ذلك محال من غيرة، ومنه قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) معناه ما صح له، يعنى أن النبوة تنافي الغلول؛ فحينئذ يجب، أن يحمل لفظ (ابن آدم) على الوصف الذي يعلل الحكم به بحسب التلميح، وإلا لم يكن لتخصيص لفظ ابن آدم دون الناس والبشر فائدة، وذلك من (وجوه): أحدها أنه تلميح إلى قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) من الله عليهم بها، المعنى: إنا أنعمنا عليكم بإيجادكم من العدم، وصورناكم في أحسن تقويم، ثم أكرمناكم بأن أمرنا الملائكة المقربين بالسجود لأبيكم؛ لتعرفوا قدر الإنعام فتشكروا، فقلبتم الأمر، فكفرتم، ونسبتم المنعم المتفضل إلى الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أي شكر رزقكم. وثانيها: تلميح إلى قوله: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) المعنى ألم تر أيها المكذب إلى أنا خلقناكم من ماء مهين خرجت من إحليل أبيك واستقررت في رحم أمك، فصرت تخاصمني بحججك وبرهانك فيما أخبرت به من الحشر والنشر بالبرهان، فأنت خصيم لي بين الخصومة. وما أحسن موقع المفاجأة التي يعطيها قوله تعالى: (فإذا هو خصيم مبين). وثالثها: إلى قوله تعالى: (أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) المعنى أوليس الذي خلق هذه الأجرام العظام بقادر على أن يخلق مثل هذا الجرم الحقير الصغير الذي خلق من تراب، ثم من نطفة؟. ـــــــــــــــ

21_ وفي رواية عن ابن عباس: (وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك قوله: (أنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد) أوصاف مشعرة بعلية الحكم. أما قوله: (الأحد) فإنه بنى لنفى ما يذكر معه من العدد، فلو فرض له ولد يكون مثله، فلا يكون أحدا، ولذلك قال حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم) أنه لو كان له ولد لكان مثله نبيا، فلم يكن إذا خاتم النبيين، وهذا معنى الاستدراك في قوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين). (الصمد) هو الذي يصمد إليه في الحوائج، فلو كان له ولد لشرك فيه، فليزم إذا فساد السموات والأرض، وقوله: (كفوا) أي صاحبة، ولا ينبغي له؛ لأنه لو فرض ذلك للزم منه الاحتياج إلى قضاء الشهوة، وكل ذلك وصف له بما فيه نقض وإزراء، وهذا معنى الشم، فالأحد ذاتي، والصمد إضافي والثالث سلبي. فإن قلت: أي الأمرين أعظم؟ قلت: كلاهما عظيم، لكن التكذيب أقدم لما سبق أن المكونات لم تكن إلا للجزاء، فمن أنكر الجزاء لزم منه العبث في التكوين، أو إعدام السموات والأرض؛ فينتفي بذلك سائر الصفات الكمالية التي أثبتها الشرع؛ فيلزم منه التعطيل، على أن الصفات الثبوتية إذا انتفت يلزم منه انتفاء الذاتية والسلبية أيضاً. قوله: (أولدا) هكذا هو في البخاري ونسخ المصابيح، وفي الحميدى: (ولا ولداً) وزيد (لا) لما في سبحانى من معنى التنزيه. وفي الجامع (وولداً). وقالوا: إن هذا الحديث كلام قدسي، والفرق بينه وبين القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل عليه السلام للإعجاز عن الإيتان بسورة من مثله، والحديث القدسي إخبار الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - معناه بإلهام، أو بالمنام، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن ذلك المعنى بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفه إلى الله تعالى ولم يروه عنه، كما أضاف وروى القدسي. أقول: فضل القرآن على الحديث القدسي هو أن القدسي نص إلهي في الدرجة الثانية، وإن كان من غير واسطة ملك غالبا؛ لأن المنظور فيه المعنى دون اللفظ، وفي التنزيل اللفظ والمعنى منظوران، فعلم من هذا مرتبة بقية الأحاديث. ــــــــــــــ

22_ وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: يؤذيني ابنُ آدم يسب الدهر، وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ، أُقَلب الليل والنهار). متفق عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع [عشر] عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (يؤذيني) الإيذاء إيصال المكروه إلى الغير قولا أو فعلا، أثر فيه أو لم يؤثر، وإيذاء الله تعالى عبارة عن فعل ما يكرهه، ولا يرضى به، وكذا إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: روى السجستانى نصب (الدهر) في (أنا الدهر) أي أقلب الليل والنهار في الدهر. وقيل: الرفع أولى.: وهو كذلك؛ لأنه لا طائل تحته على تقدير النصب، أما معنى فلأنه لا فائدة في قوله: (أنا أقلب الليل والنهار في الدهر)؛ لأن الكلام مسوق للرد على الساب والإنكار عليه، وأما لفظا فإن تقديم الظرف إما للاهتمام، أو الاختصاص، ولا يقتضي المقام ذلك؛ لأن الكلام مفرغ في شأن المتكلم، لا في الظرف، ولهذا عرف الخبر باللام لإفادة الحصر، فكأنه قيل: (أنا أقلب الليل والنهار لا ما تنسبونه إليه). قيل: الدهر الثاني غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، ومعناه أنا الدهر المصرف المدبر المفيض لما يحدث. (غب) والأظهر أن معناه أنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر، والمسرة والمساءة، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد شتمتموني. (قض): قيل: فيه إضمار المضاف، والتقدير: أنا مقلب الدهر والمتصرف فيه، والمعنى أن الزمان يذعن لأمري لا اختيار له، فمن ذمه على ما يظهر فيه صادراً فقد ذمني، فإني الضار والنافع. ولقائل أن يقول: وقد تقرر في المعاني أن المعرف إذا أعيد كان الثاني غير الأول. وعلى التقادير لا يلزم اتحاد المعنى لأن السبب غير المسبب. قلت: ورد النهى على الساب الدهرى الذي يسب الدهر لا لذاته، بل لتصرفاته وحوادثه التي على خلاف مراده، ويعقد أنه هو الفاعل الحقيقي، وأنه مستقل بها، كقولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر) على قصر القلب كما مر، فقيل لهم: ما تعتقدونه من الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. ويعضد هذا التقرير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) فإنه - صلى الله عليه وسلم - أوقع: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) بياناً وتفسيراً لقوله: (أنا الدهر) ولا ارتياب أن معنى الدهر لغة ليس بذلك. قال الراغب: (الدهر في الأصل اسم لمدة العالم)، وعليه قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة، فإذا المراد في الحديث بالدهر مقلب الليل والنهار ومصرف الأمور فيها، ـــــــــــــــــــــــــ

23_ وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعُافيهم ويرزقُهم). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فينبغي أن يفسر الأول بذلك، كأنه قيل: يسب مدير الأمر ومقلب الليل والنهار، وأنا المدير والمقلب، فجاء الاتحاد. الحديث العشرون عن أبي موسى: قوله: (ما أحد أصبر) الصبر الحبس، ومنه قتلته صبراً، أي حبساً، ومعنى الصبر حبس النفس على ما تكرهه، والعافية السلامة ودفع البلاء والمكروه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (معافى في جسده). والرزق الحظ والنصيب، سواء كان مطعوما أو مالا، أو علما، أو ولداً، وقوله: (يسمعه) صفة (أذى)، والرزق الحظ والنصيب، و (من الله) متعلق بقوله: (أصبر) لا (يسمعه) و (يدعون) إلى آخره بيان للكلام السابق. يقول: ما أحد أشد صبراً من الله تعالى بإرسال العذاب إلى مستحقه_ وهم كفار_ على القول القبيح، وهو قولهم: (إن لله ولداً) يسمعه منهم. ثم يدفع عنهم البلاء والضرر، ويرزقهم السلامة وأصناف الأموال، ولا يجعل تعذيبهم. وفي الحديث إشارة إلى أن الصبر على احتمال الأذى محمود، وترك الاشتغال بالمكافآت والانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء كل عمل محصوراً، وجزاء الصبر غير محصور؛ إذا الصبر والحلم في الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أزمة الأمور، وبالصبر يفتح كل باب مغلق، ويسهل به كل الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أزمة الأمور، وبالصبر يفتح كل باب مغلق، ويسهل به كل صعب مزيج. أقول: في الكلام إشكال، وذلك أنك إذا قلت: زيد أجرأ من عمرو، فإنه يلزم منه فضل جزءة زيد على جرءة عمرو، فإذا نفيته فقلت: ما زيد بأجرأ من عمرو، لزم منه إما نقصان جرأة زيد، أو مساواتهما، وكذا هاهنا، ولكن القصد إلى أن القصد إلى أن الله تعالى أصبر من كل أحد فكيف ذلك؟ والجواب: المراد هاهنا نفي نفي ذات المفضل وقلعه من سنخة، فإذا انتفت ذاته انتفت المساواة والنقصان بالطريق الأولى، ألا تراهم يقولون في مثل قولك: ما زيد إلا شاعر: إن (ما) دخلت على زيد فتفت الذات، ولما لم يكن النزاع فيها توجه النفي إلى مافيه النزاع من صفاته، والقصد هنا إلى نفى الذات، وليس النزاع إلا فيه، فلا يلزم المساواة ولا النقصان، فإذا الغرض نفي الموصوف، وإنما ضمت إليه الصفة ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه، وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة، كما تقوله: لا ترى الضب بها ينحجر ــــــــــــــــ

24_ وعن معاذ، قال: كنت ردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: (معاذ! هل تدري ما حقُّ الله على عباده؟ وما حقُّ العباد على الله؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فقلت: يا رسول الله! أفلا أُبشر به الناس؟ قال: (لا تُبشرهم فيتكلوا). متفق علي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي لا ضب هناك فيكون الانحجار، إذا لو وجد لوجد. هذا معنى ما ذكره صاحب الكشاف في قوله: تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع). وقوله: (يسمعه) تتميم للمبالغة، كما في قول امرئ القيس: حملت ردينيا كأنه سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان فإن قوله: (لم يتصل بدخان) تتميم لمعنى (سنا)، فإن النار الشاعلة إذا لم تتصل بالدخان يكون أضوء وأثقب، فكذا (الموذِى) إذا كان بمسمع من الموذىَ ومحضر منه كان تأثير الأذى أشد وأبلغ منه إذا سمعه من بعد وأخبر به. الحديث الحادي والعشرون عن معاذ: قوله: (كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الردف والرديف التابع، من الردف، وهو العجز، والرديف وهو الذي يركب خلف الراكب، و (مؤخرة الرحل) العود الذي خلف الراكب، أراد المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أوقع في نفس السامع فيضبط، يروى (مؤخرة) (بضم الميم وبعدها همزة ساكنة ثم خاء مكسورة) هذا هو الصحيح، وفيه لغة أخرى بفتح الهمزة والخاء المشددة. و (الدراية): المعرفة (الزمخشرى): هي معرفة تحصيل يضرب من الخداع، ولذلك لا يوصف بها الباري تعالى، والحق نقيضه الباطل؛ لأنه ثابت، والباطل زائل، ويستعمل بمعنى الواجب، واللازم والجدير والنصيب والملك والاتكال والاعتماد على الشيء من الوكل والكلة ومنه الوكالة. والبشارة إيصال خير إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته. وأما قوله: (فبشرهم بعذاب أليم) فمن الاستعارة التهكمية، وحق الله تعالى بمعنى الواجب واللازم، و (حق العباد) بمعنى الجدير؛ لأن الإحسان إلى من لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن يفعله. وقيل: حق العباد على الله تعالى ما وعدهم به، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز، فهو حق بوعده الحق. ـــــــــــــــــــــ

25_ وعن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: (يامعاذ!) قال: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعديك. قال. قال: (يا معاذ!) قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: (يا معاذ!) قال: لبيك يا رسول وسعديك، _ثلاثا_ قال: قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدّا رسول الله، صدفا من قلبه إلا حرمه الله على النار). قال: يا رسول الله! أفلا أخبرُ به الناس فيستبشروا؟ قال: (إذغ يتكلوا). فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقول: هذا هو الوجه، وقال الشيخ محيي الدين: حق العباد عليه تعالى جهة المقابلة والمشاكلة لحقه عليهم، ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي، أي قيامي به متأكد، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام)، وإنما رواه معاذ مع كونه منهيا لأنه علم أن هذا الإخبار يتغير الأزمان والأحوال، والقوم يومئذ كانوا حديثي العهد بالإسلام، لم يعتادوا بتكاليفه، فلما استقاموا وتثبتوا أخبرهم به، أو رواه بعد ورود الأمر بالتبليغ، والوعيد على الكتمان والتضييع. ثم إن معاذا مع جلالة قدره لم يخف عليه ثواب من نشر علما، ووبال من كتمه ضنا، فرأى التحدث به واجبا، ويؤيده ما ورد في الحديث الذي يتلوه: (فأخبر به معاذ عند موته). الحديث الثاني والعشرون عن أنس (رضي الله عنه): قوله: (لبيك) لبيك معناه إجابة لك بعد إجابة، ومعنى (سعديك) ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة، والتحريم بمعنى المنع، كما في قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها). قوله: (تأثما) مفعول له (نه): أي تجنبا للإثم، يقال: تأثم فلان إذا فعل فعلا خرج به من الإثم، كما يقال: تحرج إذا فعل ما يخرج به من الحرج. أقول: الإثم الذي يحرج به كتمان ما أمر الله بتبلغيه حيث قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه). فإن قلت: ثبت أنه يتأثم من هذا النص، فكيف لا يتأثم من النهي في قوله (عليه الصلاة والسلام): (لا تبشرهم)؟ قلت: النهي مقيد بالاتكال، فإذا زال القيد زال المقيد على ما سيأتي بيانه. قال في الحديث المتقدم: (لا تبشرهم فيتكلوا) وفي هذا الحديث: (أما الأول فمن ــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبيل قوله تعالى: (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي لا يكن منك تبشير فاتكال منهم، فالنهى منصب على السبب والمسبب معا. والثاني من قبيل: (إذا أكرمك) في جواب من قال: (أنا أحسن إليك) كأنه قال: إن أحسنت إلى أكرمك، فهو جواب وجزاء. وأما تكريره - صلى الله عليه وسلم - نداء معاذ فلتأكيد الاهتمام بما بخير، وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه، وقد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لهذا لهذا المعنى. (مح): في هذا الحديث وحديث معاذ: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي رواية عنه: (من هذا لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)، وفي رواية عنه: (لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)، وعنه: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله إلا حرمه الله على النار)، وفي حديث أبي هريرة: (لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة إن زنى وإن سرق)، وفي حديث أنس: (حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله). وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم في كتابه، فحكي عن جماعة من السلف منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهى. وقال بعضهم: هي بالجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري. وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة، ومات على ذلك، وهذا قول البخارى. وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه المحققون، فتقرر أولا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح، وأهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين من الأشاعرة أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى وأن كل من مات على الإيمان ويشهد مخلصا من قلبه الشهادتين فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه، وحرم على النار بالجملة فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا في من هذه صفته كان بينا، وهذا معنى تأويل الحسن والبخاري، وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله عليه، أو بفعل ما حرم الله عليه، فهو في المشيئة، لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة الأول وهلة، بل قطع بأنه لا بد من دخول الجنة آخراّ، وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه، وإن شاء الله عفى عنه بفضله. أقول: ما ذهب إليه الشيخ قانون عظيم في الدين، وعليه مبنى قواعد أهل السنة، على أن الحسن والقبح شرعيان، وأن الله مالك الملك، وله الكبرياء في السموات والأرض، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويتصرف في ملكه كيف يشاء، حتى لو يدخل الكافرين كلهم في الجنة والمطيعين في النار لكان ذلك حكمة منه وعدلا وصوابا، ولكن حكم بأن المشرك لا يدخل الجنة والمؤمن لا يدخل النار بنصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى: (وإن الله لا يغفر أن يشرك به ـــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) ومن السنة هذه الأحاديث المذكورة. وإذا تقرر هذا فقول الشيخ: (هذه التأويلات إنما هي إذا حملت على ظاهرها) يريد بالظاهر ظاهر الحال المتعارف بين الناس، وبقوله: (وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل) يعني أن ينزل كل حديث على ما هو عليه عند الله تعالى نظرا إلى مشيئته وإرادته، وأنه يفعل ما يشاء، ولا مجال للعقل أن يتصرف فيما يريد ويفعل. وأشكل الأحاديث تنزيلا، وأصعبها عند الناس _ وهو عند الله هين _ هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يلقى الله تعالى بهما عبد شاك فيهما إلا دخل الجنة وإن زنى وسرق). فإن قيل: أليس قوله: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار) أشكل منه؛ لأنه أتى فيه بأداة الحصر، ومن الاستغراقية، ولم يقل: (دخل الجنه) بل (حرم) فإن دخول الجنة قد يكون بعد دخول النار؟ فالجواب: لا؛ لأنه غير مقيد بقوله: (وإن زنى وإن سرق) لأنه شرط بمجرد التأكيد، ولا سيما كرر ثلاث مرات، وختم بقوله: (وإن رغم أنف أبي ذر) تتميما للمبالغة، وهذا الحديث مطلق يقبل قيداً أيضا. وقوله (وإن زنى وإن سرق) وكل ذلك على أنه تعالى بمحض مشيئته وإرادته وفضله يعامل العباد، ولعل ورود المنع من تبشير معاذ أنه من الأسرار الإلهية، لا يجوز كشفها وإذاعتها عند العامة، ولا يبعد أيضا أن يقال: إن نداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذ ثلاث مرات كان للتوقف في إفشاء هذا السر عليه أيضا. ومنه حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): قال: (حفظت من رسول الله وعانين، فأما أحدهما فبثتته فيكم، وأما الآخر فلو بثتته قطع هذا البلعوم) رواه البخاري، وقال: (البلعوم مجرى الطعام) والله أعلم، وأحسن التأويلات ما ذهب إليه الحسن. وتقول في هذا الحديث الذي نشرحه: هو من جوامع الكلم نحو قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قل آمنت بالله ثم استقم) وقد سبق بيانه، فإن صدقا هنا أقيم مقام الاستقامة؛ لأن الصدق كما يعبر به قولا عن مطابقة المقول الضمير والمخبر عنه وعليه كلام الراغب، قد يعبر فعلا عن تحري كل أفعال كاملة، وأخلاق مرضية، وتحقيقها، قال الله تعالى: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) و (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) ــــــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ و (الذي جاء بالصدق وصدق به) أي حقق ما أورده قولا لما تحراه فعلا، فعلى هذا التقدير تخصيص النهي في قوله: (لا تبشر) مخصوص ببعض الناس، دون بعض فإن مثل هذا المعنى لا يدركه إلا الراسخ في العلم، ويعضده حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) الذي يورده في الفصل الثالث من هذا الكتاب، وهو قوله: (من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) وفيه أنه منع عمر (رضي الله عنه) أبا هريرة عن التبشير، فعلم أن المراد بالتخصيص ما ذكره؛ إذ لو لم يكن يرد ذلك لم يخبر معاذا وأبا هريرة وأنسا وعمر (رضي الله عنهم) وأمثالهم، واحتج به محمد بن إسماعيل وبمثله أن يخص العالم بالعلم قوما دون قوم؛ كراهة أن لا يفهموا. ثم بعد تأويل الحسن قول من قال: الحديث كان في بدء الإسلام في وقت لم يجب فيه شيء من الأركان؛ فحينئذ يكون قد أتى بما يجب عله فحومه الله على النار، وأما بعد وجوب الأركان فلا يكون ذلك كافيا في الخلاص، ويؤيده ما روى البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: (إنما نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: (لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزنى، ولقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده). قال بعض المحققين: قد يتخذ أمثال هذه الأحاديث المبطلة والمباحية ذريعة إلى طرح التكاليف، ودفع الأحكام، وإبطال الأعمال، معتقدين بأن الشهادة وعدم الإشراف كاف، وربما يتمسك بها المرجئة. وهذا الاعتقاد يستلزم طي بساط الشريعة، وإبطال الحدود والزواجر السمعية، ويوجب أن يكون التكليف بالترغيب في الطاعات والتحذير عن المعاصي والجنايات غير متضمن طائلا، وبالأصل باطلا، بل يقتضي الانخلاع عن ربقة الدين والملة، والانسلال عن قيد الشريعة والسنة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سدى مهملين يموج بعضهم في بعض معطلين من غير مانع ولا دافع، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن أفضى إلى خراب العقبى. والمتثبت بهذا الحديث ونظيره ساقط، وعن معارج القدس إلى حضيض النفس لا قط، مع أن قوله: (يعبدوه) يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية، وقوله: (لا تشركوا) يشمل كلا قسمي الشرك: الجلي، والخفي. قال أهل التحقيق: العبادة لها ثلاث درجات: الأولى: أن يعبد الله طمعا في الثواب، وهربا من العقاب، وهذا المسمى بالعبادة، وهذه الدرجة نازلة جدا؛ لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك ــــــــــــــــــــــــــــ

26_ وعن أني ذر قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه ثواب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك؛ إلا دخل الجنة) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبيي ذر). وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل ذلك المطلوب. الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه أو يتشرف بالإسناد إليه، وهذه الدرجة أعلى من الأولى، إلا أنها ليست بخالصة؛ لأن المقصود بالذات غير الله تعالى وهذا هو المسمى بالعبودية. الثالثة: أن تعبد الله لكونه إلها وخالقا، ولكونك عبدا له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذا أعلى المقامات، وأشرف الدرجات، وهذا هو المستحق بأن يسمى العبودة، وإليه الإشارة بقول المصلى في أول الصلاة: أصلي لله، فلو قال: أصلى لثواب الله، أو للهرب من عقابه، بطلت صلوته، فالعبادة للعوام من المؤمنين، والعبودية للخواص الموقنين، والعبودة لخاص الخاص [من المقربين]. وقيل: العبادة لمن له علم اليقين، والعبودية لمن عين اليقين، والعبودة لمن له حق اليقين. ولعمرى! ما أظلت الخضراء وأقلت الغبراء على من يفي بهذا الأمر، ويستقيم على هذا الحكم. وقال في آخر حديث معاذ: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم) وفيه إشارة إلى أن هذا لا يستعقب إلا دفع العقاب، وسقوط العذاب عنهم، أما حصول الدرجات السنية والمراتب العلية التي يتنافس فيها المتنافسون فلا يصل إليها إلا العاملون، ولا يشرب من عيونها العذبة إلا المقربون، فالشقي يستصعبها، والسعيد يسعى إليها. الحديث الثالث والعشرون عن أبي ذر: قوله: (وعليه ثوب أبيض) قال الشارحون: ليس هذا من الزوائد التي لا طائل تحتها، بل قصد الراوي بذلك أن يقرر التثبت والإتقان فيما يرويه في آذان السامعين؛ ليتمكن في قلوبهم. (خط): قوله: (ثم مات على ذلك) إشارة إلى الثبات على الإيمان حتى يموت، احتراز عمن ارتد ومات عليه، فحينئذ لا ينفع إيمانه السابق. وقوله: دخل الجنة) إشارة إلى أن عاقبته دخول الجنة، وإن كان له ذنوب جمة، أو ترك من الأركان شيئا، ـــــــــــــــــــــــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكن أمره إلى الله، إن شاء عفى عنه وأدخل الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنة بفضله. قال ابن مالك: حرف الاستفهام في قوله: (وإن زنى) مقدر، ولا بد من تقديره (شف): تقديره: أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة؟ (قض): (رغم) لصق بالرغام _ بالفتح _ وهو التراب، ويستعمل مجازا بمعنى كره أو ذل، إطلاقا لا سم السبب على المسبب، وفي الحديث دليل على أن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان؛ فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة وفاقا، وأنها لا تحبط الطاعات؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عمم الحكم ولم يفصل، فلو كانت الكبائر محبطة على طريق الموازنة أو غيره لزم أن يبقى لبعض الزناة شيء من الطاعات، والقائل بالإحباط يحيل دخول الجنة لمن هذا شأنه، وأن أربا الكبائر من أهل القبلة لا يخلدون في النار. أقول _ والعلم عند الله _: لعل ذكر الثوب الأبيض والنوم والاستيقاظ ثم إيراد الحديث بحرف التعقيب إشارة إلى حصوله (صلوات الله عليه وسلامه) في عالم الغيب، واستعداده لفيض الله عليه حينئذ بالوحي، وتخصيص الثوب الأبيض إيماء إلى قوله (تعالى): (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر) نعم! في الآية إشارة إلى الإنذار، وفي الحديث إلى البشارة، أي قم فبشر عبادي الذين آمنوا بالجنة. ومعنى (ثم) في قوله: (ثم مات) التراخي في الرتبة، كقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قل آمنت بالله ثم استقم) وقد مر بيانه. والاستثناء مفرغ، أي ما من عبد آمن وثبت عليه يكون له حال من الأحوال إلا حال دخول الجنة، ولعل تقدير الاستفهام أن يقال: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟ والشرط حال، ولا يذكر الجواب مبالغة تتميما بمعنى الإنكار في الكلام السابق. وأما تكرير أبي ذر فلاستعظام شأن الدخول مع مباشرة الكبائر وتعجبه منه، وتكرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكار له على استعظامه، أي أتبخل يا أبا ذر برحمة الله؟ فرحمة الله واسعة على خلقه وإن كرهت ذلك؛ فقد قال الله تعالى: (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية، وهو الزنى، أو حق العباد، وهو أخذ مالهم بغير حق. وفي تكريره أيضا معنى الاستيعاب والعموم، كقوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي دائما. وأما حكاية أبي ذر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم أنف أبى ذر) فللشرف والافتخار. ــــــــــــــــــــــ

27_ وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدُ الله ورسوله وابنُ أمته وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). متفق عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والعشرون عن عبادة: قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) (مح): هذا حديث عظيم الواقع، وهو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه جمع فيه ما يخرج عنه جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. قوله: (وأن عيسى) (قض): ذكر عيسى - صلى الله عليه وسلم - تعرضا بالنصارى، وإيذانا بأن إيمانهم مع القول بالتثليث كفر محض، لا يخلصهم من النار. (شف): ذكر (عبده) تعرضا بالنصارى في قولهم بالتثليث، وذكر (رسوله) تعريضا باليهود في إنكارهم رسالته، وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه وقذف أمه. وأقول: كذا قوله: (وابن أمته) تعريض بالنصارى وتقرير لعبديته، أي هو عبدي وابن أمتى، كيف ينسبونه إلى بالنبوة؟ وتعريض باليهود، براءة ساحته من قذفهم، والإضافة في (أمته) إذا للتشريف، وعلى هذا تسميته بالروح، ووصفه بقوله: (منه) إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - مقربه وحبيبه، وتعريض باليهود وبحطهم من منزلته، وتنبيه للنصارى على أنه مخلوق من المخلوقات، روى أن عظيما من النصارى سمع قارئا يقرأ: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) قال: أفغير هذا دين النصارى؟ يعنى هذا يدل على أن عيسى (عليه السلام) بعض منه. فأجاب على بن الحسين بن واقد صاحب كتاب النظائر: إن الله تعالى يقول أيضا: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه) فلو أريد بقوله: (روح منه) بعض منه وجزء منه، لكان قوله ههنا: (جميعا منه) معناه بعض منه أو جزء منه، فأسلم النصراني. ومعنى الآية أنه تعالى سخر هذه الأشياء كائنة منه، وحاصلة من عبده، يعنى أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه. قوله: (والجنة والنار حق) لعله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة والنار وأخبر عنهما بقوله: (حق) _ وهو مصدر _ للمبالغة في حقيقة، وأنهما عين الحق، كقولك: زيد عدل؛ تعريضا بالزنادقة، ومن ينكر دار الثواب ودار العقاب. ــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (تو): الكلمة تقع على كل واحد من الأنواع الثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. وتقع على الألفاظ المنظومة، والمعاني المجموعة تحتها، وبهذا تستعمل في القضية، والحكم، والحجة. وبجميعها ورد التنزيل، وكأن الكلام أخذ من الكلم؛ فإن الكلم يدرك تأثيره بحاسة البصر، والكلام يدرك تأثيره بحاسة السمع. وأما تسمية عيسى بالكلمة فإنه حجة الله تعالى على عباده، أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، والحديث في ذلك ذو شجون، ولا يخفى على ذي اللب فهمه واستنباطه. وقد قيل: إنه سمى كلمة لكونه موجدا بكن، وقيل: لما انتفع بكلامه سمى به، كما يقال: فلان سيف الله، وأسد الله. وقيل: لما خصه الله به في صغره حيث قال: (إنى عبد الله آتانى الكتاب). وقوله: (ألقاها إلى مريم) أي أوصلها إليها، وحصلها فيها. وأما تسميته بالروح فلما كان له من إحياء الموتى. وقيل: لأنه روح وجسد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الحى، وإنما اخترع اختراعا من عند الله. (قض): قوله: (أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل) دليل على المعتزلة في مقامين: أحدهما: أن العصاة من أهل القبلة لا يخلدون في النار؛ لعموم قوله: (من شهد) وثانيهما: أنه تعالى يعفو عن سيئات قبل التوبة واستيفاء العقوبة، لأن قوله: (على ما كان عليه من العمل) حال من قوله: (أدخله الله الجنة) كما في قولك: رأيت فلانا على أكل، أي آكلا. ولا شك أن العمل غير حاصل، بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من الثواب والعقاب، ولا يتصور ذلك في حق العاصي الذي مات قبل التوبة، إلا إذا أدخل قبل استيفاء العقوبة. فإن قلت ما ذكرت يستدعى أن لا يدخل أحد النار من العصاة. قلت: اللازم منه عموم العفو، وهو لا يستلزم عدم دخول النار؛ لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد دخول، وقبل استيفاء العذاب، وليس بحتم عندنا أن يدخل النار أحد، بل العفو عن الجميع بموجب وعده حيث قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال (يغفر الذنوب جميعا). مرجوا. أقول: إن التعريف في العمل للعهد، والإشارة به إلى الكبائر، والدليل عليه أمثال قوله: (وإن زنى وإن سرق) في حديث أبي ذر، وقوله: (على ما كان عليه) حال، كما في قول الحماسي: فو الله أنسى قتيلا رزينة ... بجانب قوسى ما مشيت على الأرض على أنها تعفو الكلوم وإنما ... يوكل بالأدنى وإن جل ما يقضى قال أبو البقاء: على وما يتصل بها حال، أي ما أنسى بهذا الرزء في حال الكلوم، أي حال مخالف لحال غيري في استدامة الحزن؛ فالمعنى من يشهد أن لا إله إلا الله يدخل الجنة في حال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 28_ وعن عمرو بن العاص، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، فقبضتُ يدي، فقال: (مالك يا عمرو؟) قلت: أردتُ أن أشترط. فقال: (تشترطُ ماذا؟) قلت: أن يغفر لي. قال (أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قلبه، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدمُ ما كان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحقاقه العذاب بموجب أعماله من الكبائر، أي حال هذا مخالفة للقياس في دخول الجنة، فإن القياس يقتضى أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا، كما زعمت المعتزلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبو ذر في قوله: (وإن زنى وإن سرق؟) ورد بقوله: (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر). الحديث الخامس والعشرون عن عمرو: (فلأبايعك) لعل التقدير: فأن أبايعك، وأقحم اللام توكيداً، أو التقدير: لأبايعك تعليلا للأمر، والفاء مقحمة. ويحتمل أن تكون مفتوحة، فيكون التقدير: فإني لأبايعك وأقحم اللام توكيداً، أو التقدير: لأبايعك تعليلا للأمر، الفاء مقحمة. ويحتمل أن تكون مفتوحة، فيكون التقدير: فإني لأبايعك، والفاء للجزاء، كقولك: إيتنى فإني أكرمك. (خط): وحق (ماذا) أن يتقدم على (تشترط)، إلا أنه حذف (ماذا) قبل (تشترط) وجعل المذكور تفسيراً له. وقال المالكي في قول عائشة (رضي الله عنها): أقول: (ماذا) شاهد على أن (ما) الاستفهامية إذا ركب مع (ذا) تفارق وجوب التصدير، فيعمل فيها ما قبلها رفعا ونصبا، فالرفع كقولهم: كان ماذا والنصب كما في الحديث، وأجاز بعض العلماء وقوعها تمييزا، كقولك لمن قال: (عندي عشرون) عشرون: ماذا؟ أقول: كأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستحسن منه الاشتراط في الإيمان، فقال: (أتشترط) إنكارا، فحذف الهمزة، ثم ابتدأ فقال: (ماذا)، أي ماذا تشترط، ونظيره في إعادة المجيب كلام السائل: قول إخوة يوسف: (جزاؤه من وجد فيرحله) بعد سؤال القوم: (فما جزاؤه). (تو): الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقا، مظلمة كانت أو غير مظلمة، كبيرة كانت أو صغيرة، فأما الهجرة والحج فإنهما لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما أيضا بغفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيحمل الحديث على أن الحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من الصغائر، ويحتمل أنهم يهدمان الكبائر أيضا فيما لا يتعلق به حقوق العباد بشرط التوبة، عرفنا ذلك من أصول الدين، فرددنا المجمل إلى المفصل، وعليه اتفاق الشارحين. وأقول: نحن ما ننكر ما اتفق عليه الشارحون، لكن نتكلم في الحديث بحسب ما تقتضيه البلاغة، وذلك أن فيه وجوها من التوكيد يدل على أن حكم الهجرة والحج حكم الإسلام: أحدهما أنه من الأسلوب الحكيم، فإن غرض عمرو من إبائه عن المبايعة ما كان إلا حكم

قبله؟!). رواه مسلم. والحديثان المرويان عن أبي هريرة، قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك) والآخر: (الكبرياءُ ردائي) سنذكرها في باب الرياء والكبر إن شاء الله تعالى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نفسه في إسلامه. وحديث الهجرة والحج زيادة في جوابه، كأنه قيل لا تهتم بشأن الإسلام وحده، وأنه يهدم ما كان قبله، فإن حكم الهجرة والحج كذلك. وثانيها: أن العطف في علم المعاني يستدعى المناسبة القوية بين المعطوف والمعطوف عليه وإلا فيدخل في حكم الجمع بين الأروى والنعام. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: (سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق): عطف (وقتلهم الأنبياء) على (ما قالوا) ليدل على أن قولهم: (إن الله فقير ونحن أغنياء) في الفظاعة كقتل الأنبياء، وفي أنه يجري مجرى الذنب السابق كقتل الأنبياء. وثالثهما: (أما) فإن الهمزة فيها معنى النفي، وما نافية، فإذا اجتمعا دلا على التقرير، لا سيما وقد اتبعا بقوله: (علمت) إيذانا بأن ذلك أمر مقرر لا نزاع فيه، ولا ينبغي أن يرتاب مرتاب فيما يتلوها. ورابعها: لفظ (يهدم) فإنه قرينة للاستعارة المكنية، شبهت الخصائل الثلاث في قلعها الذنوب من سنخها بما يهدم البناء من أصله، من نحو الزلازل والمعاول، ثم أثبت للإسلام ما يلازم المشبه به من الهدم وينسب إليه، على سبيل الاستعارة التخييلية. وخامسها: الترقي، فإن قوله: (الحج يهدم ما كان قبله) في أبلغ إرادة المبالغة من الهجرة؛ لأنه دونها، فإذا هدم الحج الذنوب فبالطريق الأولى أن تهدمها الهجرة؛ لأنها مفارقة الأوطان والأحباء، وموافقة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وكذا حكم الهجرة مع الإسلام، وعلى هذا قول المعرى: سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة نصف الكلالا شجى ركبا وأفراسا وإبلا ... وزاد فكاد أن يشجو الرجالا وسادسها: تكرير (يهدم) في كل من الخصال؛ ليدل على استقلال كل منها بالهدم، ويؤيد هذا بما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما رؤى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام) ـــــــــــــــــــــــــ

الفصل الثاني 29_ عن معاذ، قال: قلت يارسول الله! أخبرني بعمل يدُخلُني الجنَّة، ويباعدنُي من النار. قال: (لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث. رواه مالك في المؤطأ. وبينه ما روي في حديث آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإنني آخذ للمظلوم منه، قال: أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم، فلم يجب عشية، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر وعمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: إن عدو الله إبليس لما علم أن الله (عز وجل) قد استجاب دعائي لأمتي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما لأمتي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه) رواه ابن ماجه في سننه، والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن معاذ: قوله يدخلني ويباعدني) (تو:) الجزم فيهما على جواب الأمر غير مستقيم راوية ومعنى. قلنا: أما الرواية فغير معلومة، وأما المعنى فاستقامته ما ذكره القاضي، قال: وإن صح الجزم فيه كان جزاء لشرط محذوف، تقديره: أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة، والجملة الشرطية بأسرها صفة لعمل، أو جوابا للأمر، وتقديره أن إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما كان وسيلة إلى عمله، وعمله ذريعة إلى دخول الجنة كان الإجبار سببا بوجه ما لإدخال العمل إياه في الجنة. (مظ): إذا جعل (يدخلني) جواب الأمر يبقى (بعمل) غير موصوف، والنكرة غير الموصوفة لا تفيد. والجواب أن التنكير فيه للتفخيم أو النوع، أو بعمل عظيم أو معتبر في الشرع، بقرينة قوله: (سألتني عن عظيم) ولأن مثل معاذ لا يسأل من مثله - صلى الله عليه وسلم - بما لا جدوى له. اعلم أن في مثل هذا مذهبين: أحدهما مذهب الخليل: وهو أن يجعل الأمر بمعنى الشرط، وجوابه جزاء. وثانيهما مذهب سيبويه: أن الجواب جزاء شرط محذوف، وعلى التقديرين التركيب من باب إقامة السبب الذي هو الإخبار مقام المسبب الذي هو العمل؛ لأن العمل هو السبب الظاهر لا الإخبار؛ لأن الإخبار إنما يكون سببا للعمل إذا للعمل إذا كان المخاطب مؤمنا معقدا. موافقا، كقوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) قال ابن الحاجب: (يقيموا) جواب (قل) أي قل لعبادي يقيموا. وما اعترض عليه من أن الإقامة ليست بملازمة للقول ليس بشيء، فإن الجواب لا يقتضي الملازمة العقلية، وإنما يقتضي الغلبة، وذلك حاصل، فإن أمر الشارع (صلوات الله عليه وسلامه) للمؤمن بإقامة الصلاة يقتضي إقامة الصلاة منه غالبا، وكقوله تعالى: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم _ إلى قوله _ يغفر لكم) فإن (يغفر لكم) ـــــــــــــــــــــ

تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ثم قال: (ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّةٌ، والصدقُة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جواب للاستفهام لأن المؤمن الراسخ في الإيمان لما كان مظنة لحصول الإقامة والامتثال صار كالمتحقق منه ذلك. قوله: (سألتني عن عظيم) (مظ): أي سألتني عن شئ عظيم مشكل متعسر الجواب، ولكنه سهل على من يسره الله تعالى عليه؛ لأن معرفة العمل الذي يدخل الرجل الجنة من علم الغيب، وعلم الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، ومن علمه الله تعالى. أقول: إنه ذهب إلى أن (عظيم) صفة موصوف محذوف، أي عن سؤال عظيم، والأظهر أن يقال: إنه الموصوف (أمر)، ويعنى به العمل؛ لأن قوله: (تعبد الله) إلى آخره استئناف وقع بيانا لذلك الأمر العظيم، وعنه ينبئ كلام القاضي، حيث قال: (وإنه ليسير) إشارة إلى أن أفعال العباد واقعة بأسباب ومرجحات يفيض عليهم من عنده، وذلك إن كان نحو طاعة سمى توفيقا ولطفا، وإن كان نحو معصية سمى خذلانا وطبعا. أقول: إنما أسند اليسر إلى الله وأطلق العسر لئلا ينسب الخذلان إليه صريحا، على طريقة (أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم). قوله: (ألا أدلك على أبواب الخير) التعريف في (الخير) للجنس، (مظ): جعل هذه الأشياء أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس، وكذا إخراج المال الصدقة، وكذا الصلاة في جوف الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير، ويأتي منه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار يكون بفتح الباب المغلق. ويحتمل أن يكون التعريف للعهد الخارجي التقديري، وهو ما يعلم من قوله: (تعبد الله ولا ت شرك به) إلى آخره، المعني به الإسلام والإيمان الذي هو سبب لدخول الجنة، والمباعدة من النار ظاهرة. أو المعني الخبر النوافل، دل عليه قوله: (وصلاة الرجل في جوف الليل) لئلا يلزم التكرار، وسميت النوافل أبواب الفرائض؛ لأنها مقدمات ومكملات لها، ومن فانته السنن حرم الفرائض. قال بعض العلماء: من ترك الأدب عوقب بحرمان النوافل، ومن عوقب بحرمان النوافل عوقب بحرمان السنن، ومن عوقب بحرمان السنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن عوقب بحرمان الفرائض يوشك أن يعاقب بحرمان المعرفة، وما دل على المباعدة عن النار. قوله: (الصوم جنة) أي عن النار؛ وإنما جعل الصوم جنة عن النار؛ لأن في الجوع سد مجاري الشيطان، كما في الحديث: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ألا فضيقوا مجاريه بالجوع) أو كما قال، فإذا سد مجاريه لم يدخل فيه، فلم يكن مسببا للعصيان الذي هو سبب لدخول النار.

تطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) ثم تلا: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع. .) حتى بلغ (يعملون) ثم قال: (ألا أدلك برأس الأمر وعموده ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (قض): وإنما جعل الصوم جنة؛ لأنه يقمع الهوى والشهوة، مصداقه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الصوم له وجاء) فالشبع مجلبة للآثام، منقصة للإيمان، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه) فإن الشبع يوقعه في مداحض، فيزيغ عن الحق، ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف العبادات، ويكثر المواد الفضول فيه، فيكثر غضبه وشهوته، ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما زاد على حاجته، فيوقعه في المحارم. قوله: (الصدقة تطفئ الخطيئة) أصله تذهب الخطيئة، كقوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ثم في الدرجة الثانية تمحو الخطيئة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: (اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها) أي السيئة المثبتة في صحيفة الكرام الكاتبين. وإنما قدرت الصحيفة بقرينة (تمحو). ثم الدرجة الثالثة تطفئ الخطيئة لمقام الحكاية عن المباعدة عن النار، فلما وضع الخطيئة موضع النار على الاستعارة المكنية أثبت لها على سبيل الاستعارة التخيبلية ما يلازم النار من الإطفاء؛ ليكون قرينة مانعة لها من إدارة الحقيقة من الخطيئة. وأما قوله تعالى: (إنما يأكلون في بطونهم ناراً) فمن إطلاق اسم المسبب على السبب. وأما معنى إذهاب السيئة بالحسنة تدفع تلك الحسنة يوم القيامة إلى خصمه عوضا عن مظلمته. فإن قلت: هل يلزم على هذا التقدير أن لا يكون الصوم أقوى حالا في المباعدة من النار لأن الجنة هي الترس دون إطفاء النار. قلت: العكس أولى؛ لأن الجنة مانعة من صدور الخطيئة التي هي سبب النار، والصدقة لا تمنع، وإنما تطفئ الخطيئة الحاصلة. (قض) (وصلاة الرجل) مبتدأ، خبره محذوف، أي صلاة الرجل في جوف الليل كذلك، أي تطفئ الخطيئة، أو هي من أبواب الخير، والأول أظهر لاستشهاده - صلى الله عليه وسلم - بالآية، وهي متضمنة للصلاة والإنفاق. قلت: ويعضده تقييد القريتين السابقتين _ أعنى الصوم والصدقة _ بفائدتين زائدتين، وهي الجنة وإطفاء الخطيئة؛ لأن الظاهر أن يقال: أبواب الخير الصوم، والصدقة لا غير، وصلاة الرجل في جوف الليل، فلما قيدتا بهما يجب أن تقيد هذه بما يناسبها كما قدر القاضي، والأظهر أن يقدر الخبر: شعار الصالحين، كما في جامع الأصول، ويفيد فائدة مطلوبة زائدة على القريتين، هي أنهما لما أفادتا المباعدة عن النار فتفيد هذه الإدخال في الجنة، ويتم ـــــــــــــــــــــــــــــ

وذروة سنامه؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعمودهُ الصلاة، وذروةُ سنامه الجهادُ. ثم قال: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى يا نبيَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاستشهاد بالآية؛ لأن قرة العين كناية عن السرور والفوز التام، وهو مباعدة النار ودخول الجنة، كما قال الله تعالى: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). قوله: (ألا أدلك برأس الأمر وعموده) الذروة _ بكسر الذال وضمها _ أعلى الشيء، وذروة الجبل أعلاه، والجمع الذرى _ بالضم _ والسنام _ بالفتح _ ما ارتفع من ظهر الجمل. (تو): المراد بالإسلام في قوله: (رأس الأمر الإسلام) كلمتا الشهادة، وأراد بالأمر هنا أمر الدين، يعنى مالم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم يكن له من الدين شيء أصلا، وإذا أقر بكلمتي الشهادة حصل له أصل الدين، إلا أنه ليس له قوة وكمال، كالبيت الذي ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوى دينه، ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه الرفعة. (شف): في قوله: (رأس الأمر الإسلام) إشارة إلى أن الإسلام من سائر الأعمال بمنزلة الرأس في الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه. وفي قوله: (ذروة سنامه الجهاد) إشارة إلى صعوبة الجهاد، وعلو أمره، وتفوقه على سائر الأعمال. (مظ): إنما خص الشاهدة والصلاة ولم يذكر الزكاة والصوم والحج لأنه ذكر الأركان الخمسة في أول الحديث، وأعاد هنا ذكر ما هو الأقوى منها تعظيما لشأنهما؛ لأنهما يتكرران في كل يوم وليلة، بخلاف الزكاة والصوم فإنهما يتكرران في سنين، والحج لا يتكرر، وزاد الجهاد وبين أن به رفعة الدين؛ ليكون محرضا للدين على الجهاد. وقلت: وعدى (أدلك) في هذه القرينة بالباء وهو يعدى مضمنا معنى الإخبار، أي هل أخبرك برأس الأمر، وإنما عدل ليجمع بين المعنيين. قال صاحب الكشاف في قوله: (وتعد عيناك عنهم): وإنما عدى بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه، وعلت عنه إذا اقتحمته ولم تتعلق به. والغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ. فإن قلت: لم خصص هذه القرينة بالباء والأولى بعلي؟ قلت هذه القرينة أجمع وأشمل؛ لأن المعنى بالأمر الدين، وهو مشتمل على أبواب الخير، وعلى ما سبقه من قوله: (تعبد الله) إلى آخره، ولهذا أعاد الباء في القرنية الثالثة، وأكدها ب (كله) لكونها أجمع منها، وهذا الترقي ينبهك على جواز الزيادة في الجواب كما في قوله تعالى: (يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) وهو من أسلوب الحكيم. (غب): السؤال ضربان: جدلي، وتعليمي، وحق الأول مطابقة الجواب من غير زيادة ونقص، والثاني حقه أن يتحرى المجيب الأصوب، كالطبيب الرفيق يتوخى ما فيه شفاء العليل طلبه أم لا. قوله: (بملاك ذلك كله) (تو): ملاك الأمر _ بالكسر _ قوامه، وما يتم به، ولهذا يقال: القلب ملاك الجسد. (قض): ملاك الشيء: اصله ومبناه، وأصله ما يملك به كالنظام. (مظ): ما به إحكام ـــــــــــــــــــ

الله! فأخذ بلسانه فقال: (كف عليك هذا) فقلت: يا نبيَّ الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال (ثكلتك أمُّك يا معاذ! وهل يُكبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائدُ ألسنتهم؟) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيء وتقويته، من ملك العجين إذا أحسن عجنه وبالغ فيه، وأهل اللغة يكسرون الميم ويفتحونها، والرواية بكسر الميم. قوله: (فأخذ بلسانه) الباء زائدة، والضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (قض): (كف عليك) أي كف عليك لسانك، ولا تتكلم إلا بما يعنيك، فإن من كثر كلامه كثر سقوطه، ومن كثر سقوطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام مفاسد يطول إحصاؤها، أو لا تتكلم بما يهجس في نفسك من الوساوس، فإنك غير مأخوذ به مالم تظهر؛ لما روى أبو هريرة (رضي الله عنه) أنه قال: (إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست صدورها مالم تعمل أو تتكلم). أو لا نتفوه بما (ستره) الله عليك؛ فإن التوبة عنه أرجى قبولا، والعفو عنه أرجى لازم. قوله: (إنا لمؤاخذون) المؤاخذة أن يأخذ أحد أحدا بذنبه. و (ثكلتك أمك) فقدتك، والثكل موت الولد، وفقد الحبيب، وهذه وأمثاله أشياء مزالة عن أصلها إلى معنى التعجب وتعظيم الأمر. (مظ): هذا دعاء عليه، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة. و (يكب) مضارع كب بمعنى صرعه على وجهه، فأكب سقط على وجهه، وهذا من النوادر؛ فإن ثلاثيه متعد، ورباعيه لازم. قوله: (أو على مناخرهم) (أو) لشك الراوى، (المناخر) حمع منخر _ بقتح الميم وكسر الخاء، وفتحها _ ثقبة الأنف. (الحصائد) جمع حصيدة، فعلية بمعنى مفعولة، من: حصد إذا قطع الزرع. وهذا إضافة المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبة ما تكلم به اللسان بالزرع المحصود بالمنجل، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس، والجيد والردئ، فكذلك لسان بعض الإنسان يتكلم بكل نوع من الكلام القبيحوالحسن، ثم حذف المشبه وأقيم المشبه به مقامه على سبيل الاستعارة المصرحة، وجعل الإضافة قرينة لها، والاستثناء مفرغ؛ لأن في الاستفهام معنى النفي، والتقدير: لا يكب الناس في النار شيء من الأشياء إلا حصائد ألسنتهم من الكلام القبيح، مثل: الكفر، والقذف، والشتم، والغيبة، والبهتان، ونحوها. وهذا الحكم وارد على الأغلب والأكثر؛ لأنك إذا جربت وفكرت لم تجد أحدا حفظ لسانه عن السوء، ولا يصدر منه شيء يوجب دخول النار إلا نادرا، هذا، ومن أراد مزيد بيان في المعانى والبيان فعليه بكتاب التبيان وشرحه. ـــــــــــــ

30_ وعن أبى أمامه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) رواه أبو داود. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي أمامه: قوله: (من أحب لله) (مظ): من أحب أحدا يحبه لله لا لحظ نفسه، ومن أبغضه لله تعالى لكفره وعصيانه، لا لإيذائه له، ويعطى ما يعطى لثواب الله تعالى ورضاه، لا لميل نفسه وريائه، ويمنع ما يمنع لأمر الله، فلا يصرف الزكاة عن كافر لخسته، ولا عن بني هاشم لعزتهم، بل لأمر الله تعالى ومنعه ذلك. وفيه أنه لا يجوز الوقف على المرتدين، وقطاع الطريق، والفرق الباغية، ويحرم بيع السلاح من هؤلاء، وبيع العنب ممن يتخذ الخمر، فإن باع فالبيع صحيح، والفعل حرام. وقال: (استكمل) بمعنى أكمل. أقول: هذا بحسب اللغة، وأما عند علماء البيان ففيه المبالغة؛ لأن الزيادة في اللفظ زيادة في المعنى، كأنه جرد من نفسه شخصا وهو يطلب منه كمال الإيمان، ومنه قوله تعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي يطلبون من أنفسهم الفتح عليهم. هذا الحديث من تتمة الإحسان والإجادة في الإيمان في قوله: (تعبد الله كأنك تراه) يعنى إذا اشتغلت بالله وبعبادته ينبغي أن لا يكون نظرك إلى ما سواه، واستقبل إليه بشراشرك، وكذا إذا اشتغلت بخلق الله فلا يكون معاملتك معهم إلا لله، بل هو من الجوامع التي تضمن معنى الإيمان، والإسلام، والإحسان؛ لأن من جملة المحبة لله محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبة متابعيه. (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وأنشد: تعطى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وإن من جملة البغض لله النفس الأمارة بالسوء، وأعداء الدين، وبغضهما مخالفة لأمرهما، والمجاهدة مع النفس بحبسها في طاعة الله بما أمره به ونهى عنه، ومع أعداء الله بالمصابرة معهم، والمرابطة لأجلهم، قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ــــــــــــــــــــ

31_ ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه: (فقد استكمل إيمانه). 32_ وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله). رواه أبو داود. 33_ وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم من سلم المسلمون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واتقوا الله. ومن تأمل فيه وقف على سلوك طريق الله، وفناء السالك في حق الله، ومن ثم عقب الحديث بقوله: (الحب في الله والبغض في الله). الحديث الثالث عن أبي ذر، قوله: (الحب في الله) (في) ههنا بمعنى اللام في قوله: (من أحب لله) للإخلاص إلا أنه أبلغ، أي الحب في جهته ووجهه، كقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم) أي في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصا. الحديث الرابع عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (المسلم من سلم المسلمون) مضى شرحه في الحديث الرابع من الباب، يقال: أمنت زيدا على الأمر وائتمنته، أي جعلته أمينا، يعنى المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته، وعدالته، وصدقه، بحيث لا يخاف منه الناس بإذهاب مالهم، وقلتهم، ومد اليد إلى نسائهم. وفي ترتيب (من سلم) على (المسلم) و (من أمنه) على (المؤمن) رعاية للمطابقة، ففيه ذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيدا وتقريرا، إلا أنه لم يذكر في الثانية ما يدل على ما يثمر اللسان من البذاءة، والبهتان، والغيبة، واقتصر على ما تثمر اليد من سمك الدماء وغضب الأموال اكتفاء بما سبق، ولأن آفة اللسان ظاهرة، وآفة اليد مفتقرة إلى البيان، فبين في الثانية. (قض): من لم يراع حكم الله تعالى في ذمام المسلمين والكف عنهم لم يكمل إسلامه، ومن لم يكن له جاذبة نفسانية إلى رعاية الحقوق وملازمة العدل فيما بينه وبين الناس فلعله لا يراعي ما بينه وبين الله تعالى، فيخل بإيمانه. ــــــــــــــــ

من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم). رواه الترمذي، والنسائي. 34_ وزاد البيهقي في (شعب الإيمان) برواية فضالة: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجرُ من هجر الخطايا والذنوب). 35_ وعن أنس رضي الله عنه، قال: قلما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: (لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (والمجاهد من جاهد نفسه) (مظ): يعنى المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل المجاهد من حارب نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة معه من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقابل معهم إلا حينا بعد حين، وأما نفسه فأبدا تلازمه، وتمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلازم الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بغيد منه، قال الله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). أقول: اللام في قوله: (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهدا من جاهد نفسه، وكأن مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدة، ونحوه قوله (عليه الصلاة والسلام) في حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): (فذلكم الرباط) كما سيجيء بيانه. قوله: (والمهاجر) (قض): الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع ولا وازع، ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة، والأفعال الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشى عنها. ـــــــــــــــــــــــــــــ

إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له). رواه البيهقي و (شعب الإيمان). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أنس (رضي الله عنه): قوله: (قلما) (ما) مصدرية، أي قل خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن تكون كافة. قوله: (لا إيمان) (تو): هذا الكلام وأمثاله وعيد لا يراد به الانقلاع، وإنما يقصد به الزجر والردع، ونفي الفضيلة، دون الحقيقة في رفع الإيمان وإبطاله. (مظ): معنى (لا دين لمن لا عهد له) أن من جرة بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم غدر من غير عذر شرعي _ فدينه ناقص، أما مع العذر كنقص الإمام المعاهدة مع الحربي إذا رأى المصلحة _ فإنه جائز. أقول: وفي الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين، والإيمان، والإسلام، أسماء مترادفة موضوعات لمفهوم واحد في عرف الشرع، فلم فرق بينهما، وخصص كل واحد منهما بمعنى؟ والجواب أنهما وإن اختلفا لفظا فقد اتفقا ههنا معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله، فهي ما كلف به من الطاعة، وسمى أمانة لأنه لازم الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء، قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). وإما مع الخلق فظاهر. وإن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان: الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو العهد الإقرار بربوبيته قبل خلق الأجساد، مصداقه قوله تعالى: (وإذا أخذ ربك) والثاني ما أخذه عند هبوط آدم إلى الدنيا من متابعة هدى الله، ومن الاعتصام بكتاب ينزله، ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى) وإما مع الخلق فكذا ظاهر. فحينئذ مرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله تعالى بأداء حقوقه وحقوق العباد، كأنه قيل: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقة، ولا يؤدى أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين _ إلى قوله _ دين القيمة) والتكرير المعنوي توكيد وتقرير. ــــــــــــــــــــ

الفصل الثالث 36_ عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه)، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من شهد ان لا إله اللهُ وأن الله وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار). 37_ وعن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من مات وهو يعلمُ أنه لا إله إلا اللهُ دخل الجنة) رواه مسلم. 38_ وعن [جابر رضي الله عنه] قال: قال رسول الله (ثنان موجبتان). قال رجل: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال: (من مات يشركُ بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشركُ بالله شيئا دخل الجنة) رواه مسلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عبادة وعثمان (رضي الله عنهما): (وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: من يوجد منه التصديق بالقلب فقبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال مات، فهل نقول: مات مؤمنا بينه وبين الله؟ ففيه اختلاف، من شرط القول لتمام الإيمان، يقول مات قبل الأيمان، وهو فاسد؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان)، وهذا قلب طافح بالإيمان فكيف يخلد؟ ومن يصدق بالقلب، ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة، وعلم وجوبهما، ولكنه لم ينطق بهما، فيحتمل أن يجعل امتناعه عن النطق بمنزلته امتناعه عن الصلاة، ونقول: هو مؤمن غير مخلد في النار. الحديث الثالث عن جابر (رضي الله عنه): قوله: (ثنتان موجبتان) (المغرب): يقال أوجب الرجل، إذا عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة: موجبة، وللسيئة: موجبة، فالوجوب عند أهل السنة بالوعد والوعيد، وعند المعتزلة بالعمل. و (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف، أي خصلتان ثنتان، وهذا الحديث مع الحديثين السابقين عليه مضى شرحها مستقصى في الفصل الأول من الباب. ـــــــــــــــــــــ

39_ وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: كنا قُعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقُمنا، فكنت أول من فزع، فخرجتُ أبتغى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتيتُ حائطا للأنصار لبنى النجار، فساورت به، هل أجد له بابا؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخلُ في جوف حائط من بئر خارجة _ والربيع الجدول _ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (دوننا) حال من الضمير المستتر في (يقطع) أي خشينا أن يصاب بمكروه من عدو أو غيره متجاوزا عنا، كقوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله). (الكشاف): ومعنى (دون) أدنى مكان من الشيء، ومنه الشيء الأدون، واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب، فقيل: زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ثم اتسع فيه واستعمل في كل تجاوز حد إلى حد. قوله: (من بئر خارجة) (مح): هكذا ضبطناه بالتنوين في (بئر). وفي (خارجة) على أن (خارجة) صفة ل (بئر)، وكذا نقله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عن الأصل، وذكر الحافظ أبو موسى الأصفهاني وغيره أنه روى ثلاثة أوجه: أحدهما هذا، وفي الثاني من بئر خارجه _ بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة، وهي هاء ضمير للحائط _ أي البئر في موضع خارج عن الحائط. والثالث من بئر خارجة، بإضافة بئر إلى خارجه آخره تاء التأنيث، وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر. وقيل: البئر ههنا البستان من النخيل إذا كان عليه جدار. والجدول النهر الصغير. قوله: (فاحتفزت) (مح): هذا قد روى على وجهين: بالزاي، والراء، والصواب بالزاي المعجمة، ومعناه تضاممت ليسعني المدخل. قوله: (كنت بين أظهرنا) يقال: نحن بين أظهركم، وظهركم، وظهرانيكم _ بفتح النون _ أي بينكم، والظهر مقحم تأكيدا. قوله: (فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا) عطف أحد المترادفين على الآخر إرادة الاستمرار، مثل ما في قوله تعالى: (كذبت قوم نوح فكذبوا عبدنا) أي كذبوه تكذيبا غب تكذيب. قوله: (فقال: أبو هريرة؟) أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أبو هريرة؟ فعلى هذا أبو هريرة خبر مبتدأ محذوف، والهمزة في المبتدأ يحتمل أن يحتمل أن تكون على حقيقتها، أو التقرير، أو التعجب، أما على التقرير الأول فلعله - صلى الله عليه وسلم - كان غائبا عن من بشريته بسبب إيحاء هذه البشارة إليه فلم يشعر بأنه ـــــــــــــــــــــــ

قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: (أبو هريرة؟) فقلتُ: نعم يا رسول الله! قال: (ما شأنك؟) قلتُ: كنت بين أظهرنا فقُمتَ فأبطأت علينا، فخشينا أن تُقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيتُ هذا الحائط، فاحتفزتُ كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناسُ ورائي. فقال: (يا أبا هريرة!) وأعطاني نعليه، فقال: (اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيك من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا اللهُ مستيقنا بها قبله؛ فبشرةُ بالجنة) فكان أول من لقيتُ عمرُ فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني بهما، من لقيتُ يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبهُ، بشرتهُ بالجنة، فضرب عمرُ بين ثديي، فخررت لا ستى. فقال: ارجع يا أبا هريرة! فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بالبكاء، وركبني عمرُ، وإذا هو على ــــــــــــــــــــــــــــــــ هو، وأما التقرير فظاهر، وأما التعجب فإنه – صوات الله عليه- استغرب أنه من أين دخل عليه والطرق مسدودة؟ ولعل فائدة بعثه النعلين أن يبلغ مع الشاهد فيصدقوه، وإن كان خبره مقبولا بغير هذا، وتخصيصهما بالإرسال إما لأنه لم يكن عنده غيرهما، أو إشارة إلى أن بعثته وقدومه لم يكن إلا تبشيرا أو تسهيلا على الأمة ورفعا لما كان إصرا على الذين من قبله من الأمم، قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أو يكون إشارة إلى الثبات بالقدم، والاستقامة بعد الإقرار، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قل آمن ثم استقم)، والله أعلم بأسراره. قوله: (فأجهشت) (مح): الجهش أن يفزع الإنسان إلى الإنسان ويلجأ إليه، وهو مع ذلك يريرد البكاء، كما يفزع الصبي إلى أمه، ويروي (جهشت) بغير همزة، وهما صحيحان. قوله: (فمن لقيك – إلى قوله – مستيقنا)، معناه أخبره أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة، وإلا فأبو هريرة لا يعلم استيقانهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق، ولا النطق دون الاعتقاد، بل لا بد من الجمع بينهما، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب، كقولك: رأيت بعيني. قوله: (فقال: ارجع (مح): ليس فعل عمر (رضي الله عنه) ومراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتراضا عليه، وردا لأمره؛ إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر أن كنتم هذا عنهم أصلح لهم وأحرى؛ لئلا يتكلوا. قوله: (وركبني عمر) أي أثقلني عدو عمر من بعيد خوفا واستشعارا منه، كما يقال: فلان

أثرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مالك يا أبا هريرة؟) فقلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي. فقال: ارجع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ياعمر! ماحملك على مافعلت؟) قال: يارسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقى يسهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: (نعم). قال: فلا تفعل، فآني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فخلهم) رواه مسلم. 40 - وعن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) رواه أحمد. ــــــــــــــــــــــــــــــ ركبته الديون أي أثقلته، و (إذا) للمفاجأة، بيان لوصوله، أي فنظرت فإذا هو على عقبي. قوله على إثري) فيه لغتان فصيحتان: كسر الهمزة وإسكان الثاء، وفتحها. قوله (بأبي أنت) الباء في (بأبي) متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم فيكون ما بعده مرفوعًا، تقديره: أنت مفدى بأبي، وقيل: فعل، وما بعده منصوب، أي فديتك بأبي وأمي، وحذف المقدر تخفيفا لكثرة الإستعمال، وعلم المخاطب به. (مح): في الحديث جواز قول الرجل للآخر: (بأبي أنت وأمي) سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا، حيا أو ميتا. وفيه اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم، والاعتناء بتحصيل مصالحه، ودفع المفاسد عنه، وفيه جواز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضى بذلك لمودة بينهما أو غير ذلك، فإن أبا هريرة دخل الحائط، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم ينقل أنه أنكر عليه. وهذا غير مختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته، وأكل طعامه، والحمل من طعامه إلى بيته، وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه، وعليه جماهير السلف والخلف. قال ابن عبدالبر: وأجمعوا على أنه لا يتجاوز الطعام ونحوه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما. ولعل يكون هذا في الدراهم الكثيرة؛ لشك في رضاه بها. الحديث الخامس عن معاذ (رضي الله عنه): قوله: (مفاتيح الجنة) مبتدأ (وشهادة) خبر، وليس بينهما مطابقة من حيث الجمع والإفراد، فهو من وادي قول الشاعر: ومعي جياعا، جعل الناقة الضامرة من الجوع، كأن كل جزء من املعاء بمنزلة معا واحد من شدة الجوع، وكذلك جعلت الشهادة المستتبعة للأعمال الصالحة التي هي كأسنان المفتيح كل جزء منها بمنزلة مفتاح واحد

41 - وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: إن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي حزنوا عليه، حتى كاد بعضهم يوسوس قال عثمان: وكنت منهم، فبينا أنا جالس مر على عمر، وسلم فلم أشعر به، فاشتكى عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما، ثم أقبلا حتى سلما علي جميعا، فقال أبو بكر: ما حملك على ألا ترد على أخيك سلامه فقلت: ما فعلت. فقال عمر: بلى، والله لقد فعلت. قال: قلت: والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت. قال أبو بكر: صدق عثمان، قد شغلك عن ذلك أمر. فقلت: أجل. قال: ماهو؟ قلت: توفى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نسأله عن نجاة هذا الأمر. قال أبو بكر: قد سألته عن ذلك. فقمت إليه وقلت له: بأبي أنت وأمي، أنت أحق بها. قال أبو بكر: قلت يارسول الله! ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمي فردها؛ فهي نجاة). ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عثمان: قوله (يوسوس) الوسوسة حديث النفس، وهو لازم، قال الحريري: يقال: يوسوس- بالكسر والفتح- لحن. قوله: (والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت) وكان يكفيه أن يقال: ما شعرت أنك مررت، لكن جيء به توكيداً، أي ما نظرت إليك ولا سمعت كلامك. قوله) عن نجاة هذا الأمر) 0الأمر) يجوز أن يراد به ما عليه المؤمنون من الدين، أي نساله عما يتخلص به عن النار، وهو مختص بهذا الدين، وأن يراد به ماعليه الناس من غرور الشيطان، وحب الدنيا، والتهالك فيها، والركون إلى شهواتها، وركوب المعاصي وتبعاتها، أي نسأله النجاة من هذا الأمر الهائل. ولعمري! عن كلمة التقوى تؤثر في النفس اليقظة والانتباه من الغفلة، وفي القلب جاء الصداء والرين، وفي السر محو أثر العين، ولا يعقل ذلك إلا السائرون إلى الله، والعارفون بالله، ومن ثم لزموها، وكانوا أحق بها وأهلها، كأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: النجاة في الكلمة التي عرضتها على مثل أبي طالب، وهو الذي عاش في الكفر سنين ونيف على السبعين، ولم يصدر عنه كلمة التوحيد، ولو قالها مرة واحدة لكانت حجة عند الله لاستخلاصه، وله نجاة من عذاب الله وعقابه، فكيف بالمؤمن المسلم وهي مخلوطة بلحمه ودمه؟ فلو صرح بها في كلامه لم يفخم هذا التفخيم، وهذا الحديث رواه الصحابي عن الصحابي.

42 - وعن المقداد، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز وذل ذليل، إما يعزهم الله يجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها). قلت: فيكون الدين كله لله. رواه أحمد. 43 - وعن وهب بن منبه، قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك, رواه البخاري في ترجمته باب ـــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن المقداد: قوله: (بيت مدر ولا وبر) أي البوادي والمدن، والقرى، وهو من وبر الإبل؛ لأن بيوتهم يتخذونها منه، والمدر جمع مدرة، وهي اللبنة. قوله: (إلا أدخله كلمة التوحيد) فاعل (أدخل) الله وإن لم يجر لد ذكر، بدليل تفصيله بقوله: (إما يعزهم الله). و (كلمة) منصوب مقعوله، والضمير المنصوب ظرف، و (بعز) حال، أي أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت متلبسة بعز شخص عزيز، أي يعزه الله بها، وهو من قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). قوله: (فيدينون) من: دان الناس، أي ذلوا وأطاعوا، ونكير الوبر والمدر والعز والذل، للاستيعاب، فالفاء في (فيكون) إذا جوابشرط محذوف، أي إذا كان كذلك فيكون الغلبة لدين الله طوعا وكرها. الحديث الثامن عن وهب: قوله: (قال بلى ولكن ليس – إلى آخره هو من القول بالموجب، قرر سؤاله ثم ذكر مستدركا، لكن غير نافع إن لم تصحبه الأسنان المعنى بها الأركان الأربعة: من الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج. كقوله: وإخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي

44 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله) متفق عليه. 45 - وعن أبي أمامة (رضي الله عنه)، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن). قال: يا رسول الله! فما الإثم؟ قال: (إذا حاك في نفسك شيء فدعه). رواه أحمد. 46 - وعن عمرو بن عبسة (رضي الله عنه)، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ــــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (في ترجمة باب) من عادته أن يذكر بعد الباب حديثا معلقا بغير إسناد فيه بيان ما يشتمل عليه أحاديث الباب، ويضيف إليه الباب. الحديث التاسع عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: (إذا أحسن) أي أجاد وأخلص، كقوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن). (قوله: (إلى سبع مائة ضعف) إلى لانتهاء الغايد، فيكون ما بين العشرة إلى السبعمائة درجات بحسب الأعمال، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة). الجوهري: الضعف المثل، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله. الحديث العاشر عن أبي أمامة: قوله: (إذا سرتك حسنتك) يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها مستيقنا بأنك تثاب عليها، وإذا أصابتك معصية وندمت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم الآخر. قوله: (حاك في نفسك) أي أثر فيها، والحيك أثر القول في القلب، يقال: ما يحيك في الملامة، إذا لم يؤثر فيه. فإن قلت: قوله: (مالإثم) إما أن يكون سؤالا عن حقيقته أو صفته، وعلى التقديرين لا يكون الجواب مطابقا. قلت: السؤال عن الوصف وفي الجواب تقدير، أي هو الذي يؤثر في النفس الشريفة القدسية تأثيرًا لا ينفك عن تنفير، وعلى هذا المنوال جواب الإيمان.

يارسول الله! من معك على هذا الأمر؟ قال: (حر وعبد). قلت: مالإسلام؟ قال: (طيب الكلام، وإطعام الطعام). قلت مالإيمان؟ قال: (الصبر والسماحة)) قال: قلت أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده). قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: ((خلق حسن). قال: قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت). قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: (أن تهجر ماكره ربك). قال: فقلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه). قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: (جوف الليل الآخر) رواه أحمد. ــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن عمرو: قوله (من معك على هذا الأمر) أي من يوفقك على ما أتيت به من الدين؟ قال: (كل واحد من الحر والعبد). قوقوله: (طيب الكلام) جوابا على الإسلام حث له على مكارم الأخلاق، أي ما الإسلام إلا مكارم الأخلاق، ومن ثم سأل أي الإسلام –أي أي الأخلاق- أفضل؟ ومنه إسلام عبدالله بن سلام حين سمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) هذا يقابل قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالأول تحلية، والثاني تزكية، ومن حق التحلية أن تؤخر عن التزكية، فقدمت في الحديث لأنها الغرض الأولي وإن كانت مؤخرة في الوجود. قوله: (الصبر والسماحة) فسم الإيمان بهما لأن الأول يدل على الترك، والثاني على الفعل. قال الحسن: الصبر عن معصية الله، والسماحة على أداء فرض الله، ثم جمع هاتين الهليقتين باللق الحسن، بناء ما قالت الصديقة (رضي الله عنها): (كان خلقه القرآن) أي يأتمر بما أمره الله تعالى فيه، وينتهي عما نهى الله عنه، ويجوز أن يحملا على الإطلاق ويكون قوله: (خلق حسن) بعد ذكرهما كالتفسير له؛ لأن الصبر على أذى الناس والسماحة بالموجود يجمعهما الخلق الحسن، وفيه معنى قوله تعالى: (ولا تستوي الحنة ولا السيئة غدفع بالتي هي أحسن) يعني إذا اعترضتك حسنتان فادفع بأحسنهما السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، فمن أساء إليك إساءة فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل من يذمك تمدحه، ومن يقتل ولده فتفتدي ولده من يد عدوه، ثم قال الله تعالى: (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أي ما يلقى هذه الخليقة والسجية إلا أهل الصبر

47 - وعن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لقي الله لا يشرك به شيئان ويصلي الخمس، ويصوم رمضان؛ غفر له)). قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله، قال: ((دعهم يعملوا)) رواه أحمد [47]. 48 - وعنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان؟ قال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله)). قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: ((أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك)) رواه أحمد [48]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي وفق لحظ عظيم من الخير. وقوله: صلى الله عليه وسلم: ((صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)) فصل ثم أجمل لمزيد الاهتمام. قوله: ((وطول القنوت)) القنوت يرد على معان متعددة: كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت؛ فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد. وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت، ويجوز أن يراد هنا القيام، والخشوع، والسكوت. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن معاذ: قوله: ((وماذا يا رسول الله)) أي ماذا أصنع بعد ذلك؟ و ((ماذا)) يحوز أن يكون منصوبا بأصنع بمعنى أي شيء أصنع؟ وأن يكون مرفوعا بالابتداء، بمعنى أي شيء أصنعه؟ فعلى الأول يكون قوله: ((أن تحب للناس)) منصوبا، وعلى الثاني مرفوعا، والحديثان لوضوحهما غنيان عن الشرح.

(1) باب الكبائر وعلامات النفاق

(1) باب الكبائر وعلامات النفاق الفصل الأول 49 - عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندا وهو خلقك)) قال: ثم أي؟ قال: ((أن ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الكبائر وعلامات النفاق الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((أي الذنب أكبر؟)) ((شف)): الذنب الجرم، وهو بحسب المغفرة على ثلاثة أقسام: قسم لا يغفر، وهو الشرك بالله تعالى وقسم يرجى أن يغفر بالاستغفار والتوبة، وهو ما بين الله تعالى وبين عبده، وقسم يحتاج إلى التراد، وهو حقوق الآدميين، نقول: والتراد على أقسام، إما في الدنيا بالاستحلال، أو رد العين، وإما في الآخرة برد ثواب الظالم إليه، أو أن الله تعالى يرضى المظلوم بفضله ولطفه، كما سيجيء في حديث عرفة. ((الكشاف)): والصغيرة والكبيرة بإضافتهما إما إلى طاعة، أو معصية، أو ثواب فاعلهما، أي الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلا بد من أمر آخر يقاس عليه، وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، فكل ما يكفر بمثل الصلاة فهو من الصغائر، لقوله تعالى: {وأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فإنها نزلت في تقبيل أبي اليسر المرأة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما يأت كبيرة، وذلك الدهر كله)). وكل ما يكفر بمثل الإسلام والهجرة فهو من الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله)). أما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا وعقابا أزيد من الوعيد والعقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة، وتلك صغيرة. وأما فاعلهما فهو أن فاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة؛ لما روى:

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حسنات الأبرار سيئات المقربين)). ((قض)) في تفسيره: ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في كثير من خطراته التي لم تعد على غيره بخطيئة فضلا أن يؤاخذ. قال التوبشتي واختصره القاضي: ليس لقائل أن يقول: كيف عد الكبائر ههنا ثلاثا، وأربعا في حديث ابن عمر وأنس، وسبعا في حديث أبي هريرة؟ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للحصر في شيء من ذلك، ولم يعرب عنه كلامه، أما في هذا الحديث فظاهر، وأما في حديث ابن عمر فلأن الحكم فيه مطلق، والمطلق لا يفيد الحصر، والذي نقول: إنه صلى الله عليه وسلم أنهى في كل مجلس ما أوحى الله إليه صلى الله عليه وسلم وألهم، أو سنح له باقتضاء أحوال السائل، وتفاوت الأوقات، فالأولى والأضبط أن نجمع كلها، ونجعلها مقيسا عليها على ما قال الإمام عز الدين بن عبد السلام السلمى في كتاب قواعد الشريعة: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر فهي من الكبائر؛ فحكم القاضي بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب متوسل، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة، فلو شهد اثنان بالزور على قتل موجب للقصاص، فسلمه الحاكم إلى الولي فقتله، وكلهم عالمون بأنهم باطلون، فشهادة الزور كبيرة، والحكم بها أكبر منها، ومباشرة القتل أكبر من الحكم. قوله: ((أن تدعو لله ندا)) الند – بالكسر – والنديد، والنديدة، مثل الشيء الذي يضاده وناوئه في أموره. ((غب)): ند الشيء مشاركه في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل لا عكسه. والضد هو أحد المتقابلين، وهما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد. الدعاء: النداء، ويستعمل استعمال التسمية، نحو، دعوت ابني زيدا، أي سميته، ودعوته إذا سألته واستعنته، ((ادع لنا ربك)) أي سله، ((أغير الله تدعون، بل إياه تدعون))، أي تستغيثون. والدعاء ههنا متضمن معنى الجعل، أي يجعلون لله ندا، كقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني بسبب عبادتكم الأصنام، وتعظيمكم إياها، وتسميتها آلهة – أشبهت حالكم حال من يعتقد أنها آلهة مثله. قوله: ((وهو خلقك)) الواو فيه للحال. ((مظ)): وأكبر الذنوب أن تدعو لله ندا شريكا، مع علمك بأنه لم يخلقك أحد غير الله، ولم يقدر على أن يدفع عنك السوء والمكاره غيره، بل لله عليك الإنعام مما لا تقدر على عده. قوله: ((ثم أي)) التنوين في ((أي)) عوض عن المضاف إليه،

تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)). قال: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)). فأنزل الله تعالى تصديقها: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ولا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68] [متفق عليه]. 50 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكبائر: الإشراك ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصله: ثم أي شيء من الذنوب أكبر بعد الكفر؟ الحليلة: الزوجة، والحليل: الزوج؛ لأن كلا منهما حلال للآخر، من: حل يحل – بالكسر – أي مباح، أو حال عنده من حل يحل – بالضم – كما سمى الجار حليلا. فإن قلت: مع معنى ((ثم))؟ فإن تراخى الزمان لا يتصور فيه، وكذا التراخي في المرتبة لوجوب كون المعطوف بها أعلى رتبة من المعطوف عليه، وههنا بالعكس. قلت: معناه التراخي في الإخبار، كأن قال: أخبرني عن أوجب ما يهمن السؤال عنه من الذنوب، ثم الأوجب فالأوجب. ((مظ)): لا خلاف في أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتل نفس مسلمة بغير الحق. قوله: ((خشية أن يطعم معك)) يعني قتل الولد أكبر من سائر الذنوب، وقتله من خوف أن يطعم طعامك أيضا ذنب؛ لأنك لا ترى الرزق من الله تعالى. قوله: ((أن تزاني حليلة جارك)) يعني الزنا ذنب كبير وخاصة مع من سكن جوارك، والتجأ بأمانتك، وثبت بينك وبينه حق الجوار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) فالزنا بزوجة جاره يكون زنا، وإبطال حق الجوار والخيانة معه، فيكون أقبح، وإذا كان الذنب أقبح يكون الإثم أعظم. هذا الكلام حسن متين. واعلم أن قتل ولدك، وحليلة جارك يوهم أنه إذا لم يكن مقيدا لم يكن الفعل من الكبائر، ودفع هذا الوهم أن يقال: مثل هذا النهي غالبا إما ورد على الأمر الواقع المخصوص، وهو من مفهوم اللقب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} فإنه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) وقد اتفقوا على أنه من باب مفهوم اللقب، وهذا يعضد ما ذهبنا إليه أن اختلاف الأحاديث في عدد الكبائر بحسب ما سنح له صلى الله عليه وسلم على مقتضى حال السائل، وتفاوت الأوقات والمجالس. قوله: ((فأنزل الله تصديقها)) الضمير راجع إلى هذه المسألة، أو الأحكام، أو الواقعة، و ((تصديقها)) مفعول له، أي وأنزل الله هذه الآية تصديقا لها. وفيه دليل على جواز تقرير السنة وتصديقها بالكتاب.

بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)). رواه البخاري. 51 - وفي رواية أنس: ((وشهادة الزور)) بدل: اليمن الغموس)) متفق عليه. 52 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((الكبائر الإشراك بالله)) وهو جعل أحد شريكا لآخر، والمراد هنا اتخاذ إله غير الله. والعقوق مخالفة من حقه واجب، وعقوق الوالدين عصيان أمرهما، وترك خدمتهما. ((واليمين الغموس)) هو أن يحلف الرجل على الماضي متعمدا الكذب، بأن يقول: والله فعلت كذا أو والله ما فعلت كذا، وهو أنه كاذب ما فعله، أو أنه فعله. وقيل: اليمين الغموس أن يحلف الرجل كاذبا ليذهب بمال أحد، وسمي غموسا لأنه يدخل صاحبه في النار، أو في الإثم، أو في الكفارة. قوله: ((شهادة الزور)) الزور أعلى الصدر، وزرت فلانا تلقيته بزوري، أو قصدت زوره نحو وجهته. وقيل للكذب زورا لكونه مائلا عن جهته، قال الله تعالى: {والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}. قوله: ((بدل اليمين)) نصب على الظرف، أي مكان اليمين على الكناية؛ لأن من أبدل شيئا من شيء فقد وضعه مكانه. فإن قلت: لم ذكر في حديث ابن مسعود الكبائر بـ ((ثم)) المستدعية للتراخي في الرتبة مجازا، وفي حديث عبد الله بن عمرو بالواو وهي لا تقتضي الترتيب؟ أجاب التوربشتي بقوله: يحتمل أن يكون قتل الولد وعقوق الوالدين في مرتبة، واليمين الغموس والزنا بحليلة الجار في مرتبة، أو يكون اليمين الغموس وقتل النفس في مرتبة. والأظهر أنه صلى الله عليه وسلم أجاب الرجل على مقتضى حاله، وصدور هذه الخصال منه، كما سبق أنه مما أوحى إليه أو عرف حاله معجزة، وفي الحديث الأخير سرد الخصال سردا لا على الترتيب. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اجتنبوا)) ابعدوا، افتعال من الجنب، وهو أبلغ من ((لا تشركوا)) نحو قوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}؛ لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة. و ((الموبقات)) جمع الموبقة، وهي الخصلة المهلكة، أجمل بها وسماها مهلكات، ثم فصلها ليكون أوقع في النفس، وليؤذن بأنها نفس المهلكات، كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}. ((التولي)) الإعراض عن الحرب والفرار منه، يعني الفرار من الكفار إذا كان بإزاء كل مسلم كافران من الكبائر، وإن كان

الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). متفق عليه. 53 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ـــــــــــــــــــــــــــــ بإزاء كل مسلم أكثر من كافرين يجوز الفرار. ((الزحف)) الجماعة الذين يزحفون إلى العدو، أي يمشون إليهم، مشتقة من: زحف الصبي، إذا دب على إسته. قوله: ((قذف المحصنات)) ((شف)): القذف الرمي البعيد، استعير للشتم والعيب والبهتان، كما استعير الرمي. ((المحصنات)) جمع محصنة – بفتح الصاد – مفعولة، أي التي أحصنها الله تعالى وحفظها من الزنا، و – بكسرها – اسم فاعلة، أي التي حفظت فرجها من الزنا. و ((الغافلات)) كناية عن البريئات؛ لأن البريء غالف عما بهت به من الزنا. واحترز بـ ((المؤمنات)) عن قذف الكافرات؛ فإن قذفهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر لا يوجب الحد، وفي قذف الأمة المسلمة التعزير دون الحد، والتعزير بتعلق باجتهاد الإمام، وإن كان المقذوف رجلا يكون القذف أيضا من الكبائر، ويجب الحد أيضا. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يزني الزاني)) الحديث، قال المالكي: ومن حذف الفاعل قوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يشرب الخمر حين يشربها)) وكذا قوله: ((ولا ينتهب نهبنة، ولا يغل، ولا يقتل)) أي لا يشرب شارب، ولا ينتهب ناهب، ولا يغل غال، ولا يقتل قاتل، كقوله تعالى: {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} في قراءة هشام، أي لا يحسبن حاسب. وأقول: تكلم فيه العلماء أقوالا كثيرة. ((مظ)): ذكر منها قولين، وقال: هذا وأشباهه لنفي الكمال، أي لا يكون كاملا في الإيمان حالة كونه زانيا، ويحتمل أن يكون لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، وقد اختار هذا التأويل بعض العلماء، والأول أولى؛ لأنا لو قلنا بالثاني لم تبق بالتقييد بالظرف والحال فائدة؛ لأن الزنا منهي عنه في جميع الأديان، وليس مختصا بالمؤمنين. وأقول: يمكن أن يقال: المراد بالإيمان المنفي الحياء، كما سبق: أن الحياء شعبة من الإيمان، أي لا يزني الزاني حين نزني وهو يستحيي من الله تعالى؛ لأنه لو استحيى من الله تعالى واعتقد أنه حاضر شاهد لحاله لم يرتكب هذا الفعل الشنيع، مثل حياءه فيه ثم وقاحته وخروج الحياء منه ثم نزعه عن الذنب وإعادة الحياء إليه بتشبيك الرجل أصابعه، ثم إخراجها منها ثم إعادتها إليها كما كانت، على ما روى عكرمة عن ابن عباس تخويفا له، وردعا حيث صورت بهذه الصورة. ويعضده حديث أبي هريرة: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان – إلى قوله – كأنه ظلة)) وهذا التأويل يوافق قول الأول؛ لأنه إذا انتفى الحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان، ينتفي

ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن؛ فإياكم إياكم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كمال الإيمان؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، ونحوه ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)). ومصداقه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى)). وما وعى الرأس: هو اللسان، والفم، والسمع، والبصر. وما حوى البطن والسرة: وهو ما دار عليها من القلب، والفرج، واليدين، والرجلين. فلو استحى هذا الرجل من الله تعالى حق الحياء، لحفظ الفرج من الزنا، والعين من النظر إلى المحارم – كما ورد: ((وزنى العين النظر)) – واليد من السرقة والغصب، والرجل من المشي إلى حوانيت الزواني، والغارة ونهب أموال المسلمين، والفم من شرب الخمر وأكل الحرام، والقلب من الغل والحقد المؤديين إلى قتل النفس والجناية؛ لأنه لو حفظ منها ما غل أموال المسلمين، ومن الزنى لأن زنى القلب الاشتهاء، واللسان فإنه ملاك ذلك كله، ولو حفظه ما وقع فيها؛ لما ورد ((كف عليك هذا)). ويجوز أن يكون من باب التغليظ والتشديد، كقوله تعالى: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ} يعني: هذه الخصال ليست من صفات المؤمنين؛ لأنها منافية لحالتهم، فلا ينبغي أن يتصفوا بها، بل هي من أوصاف الكافرين. وينصره قول الحسن، وابن جعفر الطبري: إن المعنى: ينزع منه اسم المدح الذي سمى به أولياؤه المؤمنون، ويستحق اسم الذنب، فيقال: سارق، وزان، وفاجر، وفاسق – انتهى كلامه. قال الله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ}. قوله: ((ولا ينتهب)) انتهب ونهب، بفتح العين في الماضي والغابر إذا أغار على أحد، وأخذ ماله قهرا. ((النهبة)) – بفتح النون – المصدر، وبالضم المال الذي انتهبه الجيش فيها، أي في تلك النهبة. ((أبصارهم)) مفعول ((يرفع))، يعني: أخذ الرجل مال قوم قهرا وظلما؛ وهم ينظرون إليه، ويتضرعون ويبكون، ولا يقدرون على دفعه، فهذا ظلم عظيم لا يليق بحال من هو مؤمن. ((يغل)) – بفتح الغين في الماضي وضمها في الغابر – إذا سرق شيئا من الغنيمة، أو خان في أمانة. و ((إياكم)) منصوب على التحذير، والتكرير للتأكيد والمبالغة في التحذير والتخويف.

54 - وفي رواية ابن عباس: ((ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن)). قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان؟ قال هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه. وقال أبو عبد الله: لا يكون هذا مؤمنا تاما، ولا يكون له نور الإيمان. هذا لفظ البخاري. 55 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث)). زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم))، ثم اتفقا: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) [55]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((آية المنافق ثلاث)) الآية العلامة. وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها مشتملة على المخالفة التي عليها مبني النفاق، من مخالفة السر والعلن. فالكذب: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به والأمانة حقها أن تؤدى إلى أهلها، فالخيانة مخالفة لها. والخلاف في الوعد ظاهر؛ ولذلك صرح بأخلف. النفق سرب في الأرض، له مخلص إلى مكان. و ((النافقاء)): إحدى جحرتي اليربوع، وهو موضع يدققه، فإذا أتى من قبل القاصعاء – وهو جحره الذي يقصع فيه أي يدخل – ضرب النافقاء برأسه، فانتفق أي خرج، يقول: نافق اليربوع أي أخذ في نافقائه. ومنه اشتقاق المنافق: وهو الذي يدخل في الشرع من باب ويخرج من باب، أيضا يكتم الكفر، ويظهر الإيمان، كما أن اليربوع يكتم النافقاء، ويظهر القاصعاء، كانوا يظهرون الإسلام تسترا به، وهم مقيمون على كفرهم. قوله: ((وإن صام، وصلى)) التثنية للاستيعاب، أي وإن عمل أعمال المسلمين من الصوم، والصلاة وغيرهما من العبادات. وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب، كذا عن صاحب الكشاف. ((شف)): وفي الحديث دليل على ما ذهب إليه الحسن البصري: من أن صاحب الكبيرة منافق. وعنه رضي الله عنه: أنه ذكر له هذا الحديث، فقال: إن بني يعقوب عليه السلام حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، وكان ذلك الفعل منهم نادرا، ولم يصروا عليه، وسألوا أباهم أن يستغفر لهم، فلم يتمكن منهم صفة النفاق بخلاف المنافق؛ فإن هذه الخصال هجيره وعادته بدليل إتيان الجملة الشرطية مقارنة بـ ((إذا)) الدالة على تحقق الوقوع. ((تو)): من اجتمعت فيه تلك الخصال، واستمرت أحواله عليها، فبالحري أن يسمى منافقا. وأما المؤمن المفتون بها؛ فإنه إن فعلها مرة تركها أخرى، وإن أصر عليها زمانا أقلع عنها زمانا آخر، وإن وجدت فيه خلة عدمت منه أخرى.

56 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فيفضي به إلى النفاق، لا أن من ندر منه هذه الخصال، أو فعل شيئا من ذلك من غير اعتباد أنه منافق. والنفاق ضربان، أحدهما: أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فهذا سمي منافقا؛ ولكنه نفاق دون نفاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))؛ وإنما هو كفر دون كفر. الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((أربع)) يحتمل أن يكون هذا مختصا بأبناء زمانه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام علم بنور الوحي بواطن أحوالهم، وميز بين من آمن به صدقا، ومن أذعن له نفاقا، وأراد تعريف أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حذر منهم، ولم يصرح بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليم أن منهم من سيتوب، فلم يفضحهم بين الناس، ولأن عدم التعيين أوقع في النصيحة، وأجلب للدعوة إلى الإيمان، وأبعد عن النفور والمخاصمة. ويحتمل أن يكون عاما لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه؛ إيذانا بأنها طلائع النفاق الذي هو أقبح القبائح، كأنه كفر مموه باستهزاء وخداع مع رب الأرباب ومسبب الأسباب. فعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين، فينبغي للمسلم أن لا يرتع حولها؛ فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ويحتمل أن يكون المراد بالمنافق العرفي، وهو من يخالف سره علنه مطلقا، ويشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: ((من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) وكذا قوله: ((كان منافقا خالصا))؛ لأن الخصائل التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا تزيد على هذا، فإذا نقصت منها خصلة نقص الكمال – انتهى كلامه. فإن قلت: أي الرذائل أقبح؟ قلت: الكذب؛ ولذلك علل سبحانه وتعالى عذابهم في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ولم يقل بما كانوا يصنعون من النفاق؛ ليؤذن بأن الكذب قاعدة مذهبهم وأسه، فينبغي للمؤمن المصدق أن يجتنب عنه؛ لأنه مناف لوصف الإيمان والتصديق.

57 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)). رواه مسلم. [57] الفصل الثاني 58 - عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له صاحبه: لا تقل: نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين. فأتيا رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الفجور)): في اللغة الميل والشق، فهو – إما ميل عن القصد المستقيم، وإما شق ستر الديانة، والمراد هنا الشتم والرمي بالأشياء القبيحة والبهتان، بقرينة قوله ((إذا خاصم فجر)). لا منافاة بين قوله: ((آية المنافق ثلاث)) وقوله: ((أربع من كن فيه فهو منافق)) لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات، كل واحد منها يحصل بها صفة، فتارة يذكر بعضها، وأخرى جميعها أو أكثرها. الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((مثل المنافق)) ((تو)): ((العائرة)) أكير ما يستعمل في الناقة، وهي التي تخرج من الإبل إلى أخرى؛ ليضربها الفحل، والجمل عائر يترك الشوك إلى أخرى، ثم يتسع في المواشي. وأراد بـ ((الغنمين)) الثلثين، فإن الغنم اسم جنس يقع على الواحد والجمع. ضرب النبي عليه الصلاة والسلام للمنافق مثل السوء، فشبه تردده بين الطائفتين من المؤمنين والمشركين تبعا لهواه، وقصدا لغرضه الفاسد، وميلا إلى ما يبتغيه من شهواته – بتردد الشاة العائرة، وهي تطلب الفحل فتتردد بين الثلتين، فلا تستقر على حال، ولا تثبت مع إحدى الطائفتين، وبذلك وصفهم الله في كتابه فقال عز من قائل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ ولا إلَى هَؤُلاءِ}. أقول: وخص الشاة العائرة بالذكر إدماجا، بمعنى سلب الرجولية عن النافقين، من طلب الفحل للضراب. الفصل الثاني: الحديث الأول عن صفوان: قولهك ((اذهب بنا)) الباء في ((بنا)) بمعنى المصاحبة، أي كن رفيقي لنأتيه، هذا مذهب المبرد، وصاحب الكشاف. قوله: ((أربع أعين)) ((تو)): أي يسر لقولك (إلى) هذا النبي سرورا، يزداد به نورا إلى نوره، كذى عينين أصبح يبصر بأربع أعين؛ لأن السرور يمد القوة الباصرة، كما أن الهم والحزن والكآبة يخل بها؛ ولهذا يقال لمن أحاطت به الهموم: أظلمت عليه الدنيا، وبذلك شهد التنزيل {وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ}. أقول: قوله: ((أربع أعين)) كناية عن السرور المضاعف، أي سرور بعد سرور، فلم يرد به التثنية بل الاستمرار، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وذلك أنهم يكنون عن السرور بقرة العية، قال الله تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.

الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عن تسع آيات)) والآية: هي العلامة الظاهرة، ويستعمل في الحسوسات والمعقولات فيقال لكل ما تتفاوت به المعرفة بحسب الفكر والتأمل فيه، وحسب منازل الناس في العلم: آية، ويقال لكل جملة دالة على حكم من أحكام الله تعالى: آية، ويقال لكل كلام منفصل بفصل لفظي: آية، وللمعجزة: آية؛ لما فيها من الدلالة على النبوة، وصدق من ظهرت هي بسببه، والمراد بالآيات هنا: إما المعجزات التسع المذكورة في قوله تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وهي: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون، ونقص من الثمرات. وقيل الطمسة وانقلاب البحر مكان اليد، والعصا، ويشهد له ما روى الترمذي – رحمه الله – أنهما سألاه عن هذه الآية، وعلى هذا فقوله: ((لا تشركوا)) كلام مستأنف ذكره عقيب الجواب، ولم يذكر الراوي جوابه استغناء بما في القرآن أو لغيره. وأما الأحكام العامة الشاملة للملل كلها، وبيانها ما بعدها. فإن قلت: كيف يكون هذا جوابا وهو عشرة خصال، والمسئول عنه تسع؟ قلت: الزيادة على السؤال جائز، واقع في قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن ماء البحر: ((طهور ماؤه وحل ميتته)). هذا وقوله: ((وعليكم خاصة)) حكم مستأنف مختص بدينها، غير شامل لسائر الأديان، لا تعلق له بسؤالهم؛ فلهذا غير سياق الكلام، والله أعلم. وقد أجيب بأنه ليس في بعض الروايات ((ولا تقذفوا المحصنة)) وفي بعضها ((أو لا تولوا للفرار)) على الشك، وهو لا ينتهض جوابا بالنظر إلى ما في الكتاب. أقول: والأظهر أن اليهود سألوا عما عندهم من الآيات المنصوصة بالعشر، وكانت تسع منها متفقا عليها بينهم وبين المسلمين، وواحدة مختصة بهم، فسألوا عن المتفق عليها وأضمرا ما كان مختصا بهم، فأجابهم عليه الصلاة والسلام عما سألوه، وعما أضمروا؛ ليكون أدل على معجزته، ولذلك قبلا يديه. قوله: ((ولا تمشوا ببريء)) الباء في ((ببريء)) للتعدية أي لا تكلموا بسوء في من ليس له ذنب عند السلطان، كيلا يقتله، و ((عليكم)) خبر لـ ((أن لا تعتدوا)). وقيل: هي كلمة الإغراء، و ((أن لا تعتدوا)) مفعوله، أي الزموا واحفظوا ترك الاعتداء، و ((خاصة)) منون حال، و ((اليهود)) نصب على التخصيص، أي أعني اليهود. ويجوز أن يكون خاصة بمعنى: خصوصا، ويكون اليهود معمولا لفعله، أي أخص اليهود خصوصا. وفي بعض طرق الحديث ((يهود)) مضموما بلا لام على أنه منادى.

إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة – اليهود – أن لا تعتدوا في السبت)). قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي. قال: ((فما يمنعكم أن تتبعوني؟)). قالا: إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [58] 59 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه من الإسلام بعمل. والجهاد ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن داود دعا ربه)) ((مظ)): يعني دعا داود عليه السلام أن لا تقطع النبوة في ذريته إلى يوم القيامة، وإذا دعا داود عليه السلام يكون دعاءه مستجابا البتة؛ لأنه لا يرد الله دعاء نبي، فإذا كان كذلك فسيكون نبي من ذريته، ويتبعه اليهود. وربما كان لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك يقتلنا اليهود إذا ظهر لهن نبي وقوة. وهذا كذب منهم وافتراء على داود؛ لأنه عليه السلام لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا اللدعاء؛ لأنه عليه السلام لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود هذا الدعاء؛ لأنه قرأ في التوراة والزبور نعت محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه خاتم النبيين، وأنه ينسخ به جميع الأديان والكتب، فإذا أخبر الله تعالى داود ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، على هذه الصفة، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى به؟ الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((ثلاث من أصل الإيمان)) أصل الشيء قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعه؛ ولذلك قال: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي ثلاث خصال من أصل الإيمان. إحداها: ((الكف عمن قال)) وفيه إشارة إلى اعتقاد أن المؤمن لا يكفر بالذنب، ولا يخرج من الإسلام ردا على الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج يكفرون من يصدر منه ذنب، والمعتزلة يثبتون منزلة بين المنزلتين. الثانية: ((الجهاد ماض)) يعني: الخصلة الثانية اعتقاد كون الجهاد ماضيا إلى خروج الدجال، يخرج بعد قتله يأجوج ومأجوج فلا يطاقون، وبعد فنائهم لم يبق كافر – انتهى كلامه. وفيه رد

ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. والإيمان بالأقدار)). رواه أبو داود [59] 60 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل رجع إليه الإيمان)). رواه الترمذي، وأبو داود. [60] ـــــــــــــــــــــــــــــ على المنافقين وبعض الكفرة؛ لأنهم زعموا أن دولة الإسلام تنقرض بعد أيام قلائل. ((الكشاف)) في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}: زعم المنافقون أن ريح الإسلام يهب حينا ثم يسكن، ولواءه يخفق أياما ثم يقرن كأنه قيل: ((الجهاد ماض)) أي أعلام دولته منشورة، وأولياؤه منصورة، وأعداؤه مقهورة إلى يوم الدين. ولعل محيي السنة إنما أورد هذا الحديث في ((باب النفاق)) لهذا المعنى، وكذا الحديث السابق؛ فإن اليهوديين نافقا بقولهما: ((نشهد أنك نبي)) ثم قولهما: ((إن داود دعا)) لأنه يدل على أنهما لم يقولا ذلك عن اعتقاد. وقوله: ((لا يبطله)) ((مظ)): يعني لا يجوز ترك الجهاد؛ لأن يكون الإمام ظالما، بل يجب عليهم موافقته فيه، ولا أن يكون الإمام عادلا فلا يخافون من الكفار، ولا يحتاجون إلى الغنائم، فعلى هذا يكون النفي بمعنى النهي. أقول: ويمكن أن يجري على ظاهر الإخبار كما هو عليه، ويكون تأكيدا للجملة السابقة أي لا يبطله أحد إلى خرج الدجال على الكناية؛ بأن لا ينظر إلى مفردات الألفاظ، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع. والثالثة: الإيمان بالأقدار، وأن ما يجري في العالم هو من قضاء الله وقدره، ردا على المعتزلة؛ لأنهم يثبتون للخلق القدرة المستقلة. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((إذا زنى العبد)) قد مر في الفصل الأول أن الإيمان أطلق على الحياء. ((تو)): وأن الخروج والتظليل تمثيل، كما في تشبيك الأصابع، وأنه من باب

الفصل الثالث 61 - عن معاذ، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، قال: ((لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا؛ فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية؛ فإن ـــــــــــــــــــــــــــــ التغليظ والتشديد في الوعيد، هذا من باب الزجر والتشديد. وهو كقول القائل لمن اشتهر بالرجولية والمروءة، ثم فعل ما ينافي شيمته عدم عنه المروءة والرجولية تعييرا وتنكيرا؛ لينتهي عما صنع، واعتبارا وزجرا للسامعين، ولطفا بهم وتنبيها إلى أن الزنا من شيم أهل الكفر وأعمالهم، فالجمع بينه وبين الإيمان كالجمع بين المتنافيين. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((فكان فوق رأسه مثل الظلة)) – وهي أول سحابة تظل – إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان؛ فإنه تحت ظله لا يزول عنه حكمه ولا يرتفع عنه اسمه. الفصل الثالث الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((وإن قتلت وحرقت)) شرط جيء به للمبالغة، وفيه إضمار أي وإن عرضت للقتل والتحريق، ((وإياك والمعصية)) تحذير وتعميم بعد التخصيص وإيذان بأن المعاصي السابقة أعظمها ضرا وأكثرها اعتبارا. وقوله: ((فإن بالمعصية)) اسم ((إن)) ضمير الشأن حذف من ((إن)) المكسورة المثقلة كقول الشاعر: فلا تخذل المولى وإن كان ظالما فإن به تنال الأمور وترأب والتقدير فإنه يقول: لا تخذل مولاك وإن ظلمك؛ فربما تحتاج إليه، وترجع إلى معاونته في بعض الأمور ليجبر كسرك. وقيل: لا يحذف؛ لأن المقصود من الكلام المصدر به – هو التعظيم والفخامة – فلا يلائمه الاختصار. قلت: فيه نظر؛ لأنه لو كان كما قيل لوجب أن لا يحذف أصلا، وقد حذف اسم كاد في قوله تعالى: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} وأما قول ابن الحاجب: وحذفه منصوبا ضعيف، فقد ضعفوه أيضا، وكيف تقول ذلك؟ وقد جاء في الكلام الفصيح قال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة: ((أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم)) الحديث، أي فإن الأمر والشأن حينئذ، أخرجه مسلم. وقوله: ((موت)) أي طاعون ووباء، وقد ورد أن الطاعون إذا ورد في بلد لا يجوز الخروج منه، وقوله: ((موت)) أي طاعون ووباء، وقد ورد أن الطاعون إذا ورد في بلد لا يجوز الخرج منه،

بالمعصية حل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم، فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأخفهم في الله)). رواه أحمد. 62 - وعن حذيفة، قال: إنما النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم، فإنما هو الكفر، أو الإيمان. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا كان خارجا منه لا يجوز الدخول. ((الطول)) الفضل من المال، وقوله تعالى: {ومَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} كناية عما يصرف في المهر والنفقة. وقوله: ((ولا ترفع عنهم عصاك، وأخفهم في الله)) كنايتان عن تأديبهم وإنذارهم، و ((أدبا)) مفعول له وفيه إضمار، أي اضربهم تأديبا يؤدي إلى أن يتأدبوا أدبا، على قدر الزجاج في قوله تعالى: {واللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} أي أنبتكم فتنبتون نباتا. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((إنما النفاق)) يعني: حكم المنافقين من إبقاء أرواحهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم، كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بناء على مصالح، منها: أن المؤمنين إذا ستروا على المنافقين أحوالهم، خفي على المخالفين أمرهم، حسبوا أنهم من جملة المسلمين، وأن جملتهم واحدة، فكان ذلك سببا لاجتنابهم محاربة المسلمين؛ لكثرة عددهم، بل يؤدي ذلك إلى استشعار الخوف منهم، قلة شوكتهم، وإذا ظهر الله عليهم انقلبت إلى مفاسد، منها: أن الكفار إذا سمعوا محاسنة المسلمين مع من يصحبهم واستهزاؤهم معهم، كان ذلك سببا لنفرتهم وعدم تألفهم. ومنها: وأن من شاهد حسن تخلقه مع مخالفه رغبوا في صحبته، ووافق معه سرا وعلانية مزيد رغبته، ودخل في دين الله بوفور نشاط ورغبة. وأما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فالحكم: إما الكفر والقتل، أو الإيمان سرا وعلانية؛ لقوة شوكة المؤمنين وغلبتهم وكثرتهم وضعف أعدائهم. قوله: ((فأما اليوم)) إلى آخره. قوله: ((إنما هو)) هذا الضمير كما في قوله تعالى: {إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}. ((الكشاف)): هذا الضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه، و ((أو)) فيه كما في قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فالمعنى: ليس الكائن اليوم إلا الكفر أو الإيمان، ولا ثالث لهما.

(2) باب الوسوسة

(2) باب الوسوسة الفصل الأول 63 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله [تعالى] تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعلم به أو تتكلم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في الوسوسة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تجاوز عن أمتي)) قال في المغرب: الوسوسة الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي لأصواتها. وقال الليث: الوسوسة حديث النفس؛ وإنما قيل موسوس؛ لأنه يحدث بما في ضميره، والوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. والمراد به الشيطان في قوله: {مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ} كأنه وسوسه في نفسه. وقيل: ما يظهر في القلب من الخواطر - إن كانت تدعوه إلى الرذائل والمعاصي يسمى وسوسه، وإن كانت تدعو إلى الخصائل المرضية والطاعات تسمى إلهاما. اعلم أن الوسوسة ضرورية، واختبارية، فالضرورية: ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء، ولا يقدر الإنسان على دفعه، فهو معفو عن جميع الأمم، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا}. والاختيارية هي التي تجري في القلب وتستمر، وهو يقصد أن يعمل به ويتلذذ منه، كما يجري في قلبه حب امرأة ويدوم عليه، ويقصد الوصول إليها، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة خاصة، تشريفا وتكريما لنبينا عله الصلاة والسلام وأمته، وإليه ينظر قوله تعالى: {ولا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}. وأما العقائد الفاسدة، ومساوئ الأخلاق وما ينضم إلى ذلك؛ فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور. قال صاحب النهاية: روي: ((ما حدثت به أنفسها)) بدل ((وسوست)) و ((أنفسها)) نصب على المفعول به، ويجوز الرفع على الفاعل. ((تو)): ويؤيد هذه الراية قول الرجل في حديث آخر: ((إن أحدنا يحدث نفسه)) وفي آخر ((إني أحدث نفسي)) وأهل اللغة يرفعون السين أي بغير اختيار، والفتح أسد وأصوب؛ لأن

ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر أنه أراد النوع الذي يستجلبه الطبع، فيتبعه النفس حتى يحققه فيوسوس به صدره نزوعا إلى العمل به، لا الذي يهجم عليه من غير اختيار منه، على ما تقتضيه رواية الرفع، هذا ما عليه كلام الشارحين. وروى الشيخ محيي الدين النواوي عن الإمام المازني قال: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبيه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه. ويحمل ما وقع من أمثال قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عمليها فاكتبوها سيئة واحدة)) الحديث، على أن ذلك في من لم يوطن نفسه على المعصية؛ وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث. وقال القاضي عياض: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر؛ للأحاديث الدالة على المؤخذة بأعمال القلوب؛ لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها؛ لكونها لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فيكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة، كما في الحديث ((إنما تركها من جرائي)) فصار تركه لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء حسنة. وأما الهم الذي لا يكتب: فهو الخواطر التي لا يوطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم. وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها بغير خوف الله تعالى، بل لخوف الناس، هل يكتب حسنة؟ قال: لا؛ لأنه إنما حمله على تركه الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر؛ ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها. ((شف)): وفي الحديث دليل على أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق، ولم يتلفظ له لا يقع الطلاق، وإليه ذهب الشافعي وجماعة. وقال الرهري: إذا عزم على ذلك وقع الثلاث وإن يم

64 - وعنه، قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال: ((أوقد وجدتموه؟)) قالوا: نعم. قال: ((ذاك صريح الإيمان)). رواه مسلم. [64] 65 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه؛ فليستعذ بالله ولينته)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يتلفظ به. واتفقوا على أنه لو عزم على الظهار لم يلزمه كفارة، ولو حدث نفسه في الصلاة لم تبطل صلاته، ولو كان حديث النفس بنزلة الكلام لبطلت صلاته. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إنا نجد في أنفسنا)) واقع موقع الحال، أي سألوه مخبرين إنا نجد، أو قائلين على احتمال فتح الهمزة وكسرها، والكسر أوجه حتى يكون بيانا للمسئول، وهو مجمل يفسره الحديثان الآتيان بعده، أي نجد في قلوبنا أشياء قبيحة، أي من خلق الله؟ وكيف هو؟ ومن أي شيء هو؟ وما أشبه ذلك مما نتعاظم به؛ لعلمنا أنه لا يليق شيء منها أن تعتقده، ونعلم أنه تعالى قديم، خالق الأشياء كلها ليس بمخلوق، فما حكم جريان هذه الأشياء في خواطرنا؟ ((تعاظم)) تفاعل بمعنى المبالغة؛ لأن زيادة اللفظ لزيادة المعنى، فإن الفعل الواحد إذا جرى بين اثنين يكون مزاولته أشق من مزاولته وحده. ((مظ)): المروي ((أحدنا)) برفع الدال، ومعناه: يجد أحدنا التكلم به عظيما، ويجوز النصب، أي يعظم ويشق التكلم به على أحدنا. وقوله: ((أو قد وجدتموه؟)) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أحصل ذلك وقد وجدتموه تقريرا وتأكيدا، والمعنى: حصل ذلك الخاطر القبيح، وعلمتم أن ذلك مذموم وغير مرضي، و ((ذاك)) إشارة إلى مصدر مقدر، وهو وجدان قبح ذلك الخاطر، أو مصدر يتعاظم، أي علمكم بفساد ذلك الوسواس، وامتناع نفوسكم والتجافي عن التفوه بها، صريح الإيمان وخالصه؛ لأن الكافر يصر على ما في قلبه من تشبيه الله تعالى بالمخلوقات، ويعتقده حسنا. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإذا بلغه)) الضمير راجع إلى مصدر ((يقول))، أي إذا بلغ قوله: ((من خلق ربك)). ((ولينته)) أي وليترك التفكر في هذا الخاطر وليستعذ، وإن لم يزل التفكير بالاستعاذة فليقم، وليشتغل بأمر آخر؛ وإنما أمر بالاستعاذة والانتهاء عنه، والإعراض عن مقابلته، لا بالتأمل. والاحتجاج بوجهين:

66 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا؛ فليقل: آمنت بالله ورسله)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول: أن العلم باستغنائه تعالى عن المؤثر والموجد أمر ضروري، لا يقبل الاحتجاج والمناظرة له وعليه، فإن وقع من ذلك شيء كان من وسوسة الشيطان، لأنه مسلط في باب الوسوسة، ووساوسه غير متناهية، فمهما عارضته فيما يوسوس بحجة يجد مسلكا آخر إلى ما ينفيه من المغالطة والتشكيك، وأدنى ما يفيده من الاسترسال في ذلك إضاعة الوقت، فلا تدبير في دفع ذلك أقوى وأحسن من الاسعاذة بالله تعالى، قال الله تعالى: {وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}. وثانيهما: أن السبب في اعتوار أمثال ذلك احتباس المرء في عالم الحس، وما دام هو كذالك لا يزيد فكره، إلا انهماكا في الباطل، وزيغا عن الحق، ومن كان هذا حاله فلا علاج له إلا الالتجاء إلى الله تعالى للاعتصام بحوله وقوته بالمجاهدة والرياضة؛ فإنهما مما يزيل البلادة، ويصفي الذهن، ويزكي النفس. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يتساءلون)) التساؤل جريان السؤال بين اثنين فصاعدا، ويجوز بين العبد، والشيطان، أو النفس، أو إنسان آخر، ويجري بينهما السؤال في كل نوع، حتى يبلغ إلى أن يقال هذا. قوله: لفظ ((هذا)) ((تو)): لفظ ((هذا)) يصرف على وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا، والمعنى: حتى يقال هذا القول، والآخر: أن يكون مبتدأ قد حذف خبره، أي هذا القول أو قولك هذا قد علم أو عرف. رواه مسلم في كتابه على هذا السياق عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضا عن أنس، وفي روايته ((حتى يقال: هذا الله، خلق الخلق)) كذلك رواه البخاري في كتابه عن أبي هريرة، والحديث على هذا السياق محتمل لوجه آخر سوى الوجه الذي ذكرناه أولا، وهو أن يقول: ((هذا الله)) مبتدأ وخبر، أو ((هذا)) مبتدأ و ((الله)) عطف بيان و ((خلق الله الخلق)) خبره. وأكثر رواة هذا الحديث يرونه على هذا السياق، فيرجح إذا على السياق المذكور في كتاب المصابيح، وإن كان كلاهما من جملة الصحاح. أقول: قوله: ((هذا)) مبتدأ قد حذف خبره، أولى الوجوه، لكن تقديره على غير ما ذكره وذلك بأن يقال: هذا مقرر أو مسلم، وهو أن الله تعالى ((خلق الخلق)) فما تقول في ((الله))؟ فإن الله شيء، وكل شيء مخلوق، فمن خلقه؟ فعلى هذا الفاء رتبت ما عدها على ما قبلها. وقوله:

67 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)). قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)). رواه مسلم. [67] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خلق الله الخلق)) بيان لقوله: هذا مسلم، وبهذا المعنى لا يستقيم على أن يقال: ((إن هذا مقول، وما بعده بيان له؛ لأن الفاء تدفعه. ووجه آخر: وهو أن يقدر: هذا القول مقرر، فوضع ((خلق الله الخلق)) موضع القول، كقوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أي وإذا قيل لهم هذا القول؛ لأن (لا تفسدوا): فعل، لا يقع مفعولا إلا على التأويل. وهذا القول كفر فمن تكلم به فليتداركه بكلمة الإيمان وليقل: آمنت بالله خالق كل شيء، وليس بمخلوق، لا يتصور كنهه وهم وخيال، ولا يحضره فهم ومثال. الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((قالوا: وإياك)) ((شف)): اللائق بهذا المضمر المنفصل أن يكون صيغة المرفوع المنفصل فيقال: ((وأنت يا رسول الله)) فيقو عليه الصلاة والسلام: ((وأنا)) لكن إقامة كل واحد من الضمير المرفوع والمنصوب المتصلين مقام الآخر شائع. فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج إلى تسبيح الضحى، لا يبعثه إلا إياه)) والقياس إلا هو. ومن الثاني قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الوسيلة: ((فأرجو أن يكون أنا هو)). أقول: ويمكن أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ((وما منكم من أحد)) الخ سألوا ((وإياك)) يعني أيضا في هذا الخطاب، فقال: نعم! وإياي؛ لأن الخطاب عام لا يختص بالمخاطبين من الصحابة، بل كل من يصح أن يخاطب به، فهو داخل فيه، كأنه قيل: ((ما منكم يا بني آدم من أحد إلا وقد وكل به)) ونظيره القذة بالقذة. قوله: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه)) وقوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} والخطاب للناس. قوله: ((فأسلم)) في جامع الترمذي: قال ابن عيينة: ((فأسلم)) بالضم أي أسلم أنا منه، والشيطان لا يسلم. وفي جامع الدارمي: قال أبو محمد: ((أسلم)) بالفتح أي استسلم وذل. وذهب الخطابي إلى الأول، والقاضي عياض المغربي إلى الثاني، وهما روايتان مشهورتان. بقول ويعضد قول من قال: ((اسلم)) بمعنى استسلم وذل، ما رواه الشيخان في حديث أبي هريرة: ((أن عفريتا من الجن تلفت البارحة، ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته، فأردت أن أربطه إلى سارية من ساري المسجد)) الحديث.

68 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقول من قال: ((لا يأمرني إلا بخير)) يدل على إسلامه؛ لأنه لو لم يسلم فكيف يأمره بالخير؟ ليس بقوي؛ لما روى البخاري في حديث أبي هريرة: ((وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظ زكاة رمضان)) وساق الحديث. ((فأخذته)) يعني: أخذ أبو هريرة الشيطان ((فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلى قوله – أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك الشيطان حتى تصبح – إلى قوله صلى الله عليه وسلم – أما أنه قد صدقك، وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان)) وكذا قول من قال: ((إن الشيطان لا يسلم)) ضعيف. ((تو)): إن الله هو القادر على كل شيء، ولا يستبعد من فضله ورحمته أن يخص نبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الكرامة، يعني إسلام قرينه وبما هو فوقها. قوله: ((فلا يأمرني إلا بخير)) أي لا يدلني إلا على خير، كما تقدم في حديث أبي هريرة. وأما قوله: ((وقرينه من الملائكة)) فليس في المصابيح، لكن ذكره الحميدي في كتابه، والصنعاني في المشارق عن مسلم. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يجري من الإنسان)) عدى ((يجري)) بمن على تضمين معنى التمكن، أي يتمكن من الإنسان في جريانه في عروقه مجرى الدم. قوله: ((مجرى)) يجوز أن يكون مصدرا ميميا، وأن يكون اسم مكان، وعلى الأول تسبيه، شبه كيد الشيطان وجريان وساوسه في الإنسان بجريان دمه في عروقه، وجميع أعضائه، والمعنى: أن الشيطان يتمكن في إغواء الإنسان وإضلاله تمكنا تاما، ويتصرف فيه تصرفا لا مزيد فيه. وعلى الثاني: يجوز أن يكون حقيقة، فإنا لا ننكر أن الله قادر على أن يخلق أجساما لطيفة يسري في بدن الإنسان سريان الدم فيه؛ فإن الشياطين مخلوقة من نار السموم، والإنسان من صلصال وحمإ مسنون، والصلصال فيه نارية، وبه يتمكن من الجريان في أعضائه، يدل عليه ما روى البخاري تعليقا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)) وأن يكون مجازا، يعني: أن كيد الشيطان ووساوسه يجري في الإنسان حيث يجري فيه الدم من عروقه وأبشاره فالشيطان إنما يستحوذ على النفوس، وينفث وساوسه في القلوب بواسطة النفس الأمارة بالسوء ومركبها الدم ومنشأ قواها منه، فعلاجه سد المجاري بالجوع والصوم؛ لأنه يقمع الهوى، ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان، فالشبع مجلبة للآثام، منقصة للإيمان مشوشة للأفكار.

69 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان، غير مريم وابنها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من بين آدم مولود)) يحتمل أن يكون ((ما)) بمعنى ليس بطل عمله بتقديم الخبر على المبتدأ، وإلا لغو؛ لأن الاستثناء مفرغ، والمستثنى حال من الضمير المستتر في الظرف. والوجه أن يقال: ((مولود)) فاعل الظرف لاعتماده على حرف النفي، والمستثنى منه أعم عام الوصف، يعني: ما وجد من بني آدم مولود متصف بشيء من الأوصاف إلا بهذا الوصف، كأنه عليه الصلاة والسلام يرد من زعم أن بعض بني آدم – مثل الأنبياء، والأولياء المخلصين – لا يمسه الشيطان، فهو من باب قصر القلب. وفي التصريح بالصراخ إشارة بأن المس عبارة عن إصابة ما يؤذيه ويؤلمه، لا كما زعمت المعتزلة: أن من الشيطان تخييل، واستهلاله صارخا من مسه تصوير لطمعه فيه. كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه. وأما قول ابن الرومي: لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما هو لاق من أذاها يهدد وإلا فما يبكيه منها وإنه لأوسع مما كان فيه وأرغد فمن باب حسن التعليل، فلا يستقيم تنزيل الحديث عليه إلى أنه لا ينافيه. ((قض)): مس الشيطان: تعلقه بالمولود وتشويش حاله، والإصابة بما يؤذيه ويؤلمه أولا، كما قال الله تعالى حكاية عن أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعَذَابٍ} والاهتمام بحصول ما يصير ذريعة، (ومتسلقا) في إغوائه، والاستهلال والإهلال رفع الصوت، والصراخ هو الصوت، واستثناء مريم وابنها لاستعاذة أمها حيث قالت: {إنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. أقول: قوله: ((يؤلمه)) ظاهر في أن المس حقيقي، ويعضده الحديث الذي يليه، وهو أيضا من رواية أي هريرة ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)) فإن النزغ نخس بالعود، وتفرد عيسى وأمه بالعصمة عن المس، لا يدل على فضلهما على نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن لنبينا فضائل ومعجزات لم تكن لعيسى ولا لغيره من الأنبياء، ولا يلزم أن يكون في الفاضل خصال المفضول.

70 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان)). متفق عليه. 71 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه يفتنون الناس، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صياح المولود)) الحديث غني عن الشرح لوضوحه. الحديث التاسع عن جابر: قوله: ((يضع عرشه في الماء)) يحتمل بأن يجري على ظاهره، ويكون من جملة تمرده وطغيانه جعل عرشه على الماء، كما في قوله تعالى: {وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ}، وأن يجري على الكناية الإيمائية، عبر عن استيلائه على إغوائه الخلق، وتسلطه على إضلالهم بهذه العبارة. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}: لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون الملك – وإن لم يقعد على السرير البتة. و ((السرايا)) جمع سرية، وهي قطيعة من الجيش يوجهها حاكم إلى جهة؛ لأن ينال من العدو. ((نه)): طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو سموا بذلك؛ لأنهم يكونون خالصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري النفيس. وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم ينفذون سرا وخفية، وليس بالوجه؛ لأن لام السر راء وهذه ياء. قوله: ((فتنة)) الفتنة الابتلاء والامتحان، وأصله من فتنت الفضة إذا أدخلتها على النار؛ لتعرف جيدها من رديئها، وفتن فلان بفلانة أي بلي بهواها، وسميت بها المعاصي. ((ويجيء أحدهم)) جملة مبينة لقوله: ((أعظمهم فتنة)) وقولهم: ((نعم أنت)) أي نعم العون أنت، ((أراه)) أظنه، المضمر المرفوع فيه راجع إلى الأعمش، والمنصوب إلى جابر، ((فيلتزمه)) ويجوز أن يكون بدله، وذلك أن النكاح عقد شرعي يستحل به التزوج، وهو يريد حل ما عقده الشرع؛ ليستبيح ما حرمه فيكثر الزنا، وأولاد الزنا، فيفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع،

فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت)). قال الأعمش: أراه قال: ((فيلتزمه)). رواه مسلم. [71] 72 - وعنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)). رواه مسلم. [72] ـــــــــــــــــــــــــــــ ويتعدوا حدود الله؛ ومن ثم ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة ولد زانية)) رواه الدارمي في سننه؛ لأن ولد الزنا يتعسر عليه اكتساب الفضائل الحسنة، ويتيسر له رذائل الأخلاق، والله أعلم بالصواب. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((إن الشيطان)) تكلم في الحديث الشارحون، واختصره القاضي وقال: عبادة الشيطان عبادة الصنم، بدليل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} وإنما جعل عبادة الصنم عبادة الشيطان، لأنه الآمر به والداعي إليه، و ((المصلون)) المؤمنون، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ((نهيت عن قبل المصلين)) وإنما سمي المؤمن بالمصلي؛ لأن الصلاة أشرف الأعمال، وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان. ومعنى الحديث: أن الشيطان أيس أن يعود من المؤمنين أحد إلى عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب. ولا يرد على هذا ارتداد أصحاب مسيلمة، ومانعي الزكاة، وغيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم. و ((جزيرة العرب)) من حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن طولا، ومن رمل يربن إلى منقطع السماوة – وهي بادية في طريق الشام – عرضا، هكذا ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى؛ وإنما سميت ((جزيرة العرب)) لأنها واقعة بين بحر فارس، والروم، ونيل، ودجلة، وفرات. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: ((جزيرة العرب)) مكة، والمدينة، واليمن. ((تو)): وإنما خص جزيرة العرب الذكر؛ لأن الدين يومئذ لم يتعد عنها. أقول: ولعله عليه الصلاة والسلام اخبر عما يجري فيها بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه عيه الصلاة والسلام، أي أيس الشيطان أن يعبد فيها، لكن طمع في التحريش بين ساكنيها، وكان كما أخبر، وكان معجزة. والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، من

الفصل الثاني 73 - عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. قال: ((الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة)). رواه أبو داود. [73] 74 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد ـــــــــــــــــــــــــــــ حرش الصياد الصيد إذا خدعه، أي يخدعهم ويغري بعضهم على بعض. أقول: لما ذكر العبادة سماهم المصلين تعظيما لهم، وحيث ذكر الفتنة أخرجه مخرج التحريش – وهو الإغراء بين الكلاب – توهينا وتحقيرا لهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بالشيء)) ((شف)): الشيء في قوة النكرة معنى – وإن كان معرفة لفظا – ويكون قوله: ((لأن أكون حممة) مبتدأ و ((أحب)) خبره، والجملة صفة له، أي شيء كوني حممة أحب إلي من التكلم به – انتهى كلامه. ونظيره قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة، قلت: لا يعنيني ((الحمم)) الفحم والرماد، وكل ما احترق بالنار، والواحد حمة. وقوله: ((رد أمره)) الضمير فيه يحتمل أن يكون للشيطان – وإن لم يجر له ذكر – لدلالة السياق عليه، والأمر يحتمل أن يكون واحد الأوامر؛ لقوله تعالى: {ولآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} يعني: كان الشيطان يأمر الناس بالكفر قبل هذا، وعبادة الأوثان، وأما الآن فلا سبيل له إليهم سوى الوسوسة. ويجوز أن يكون بمعنى الشأن، ويحتمل أن يكون للرجل، والأمر بمعنى الشأن لا غير، أي رد شأن هذا الرجل من الكفر إلى الوسوسة التي سبقت من نحو قوله: ((من خلق الله)) ونحو معرفة كيفية الله تعالى من التشبيه والتجسيم والتعطيل. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لمة)) ((تو)): اللمة من الإلمام وهي كالخطرة والزورة، ومعناه: النزول به والقرب منه أي يقرب من الإنسان لهذيه السبيلين. وقيل:

بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك؛ فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى؛ فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ}. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [74] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((اللمة)) الهمة تقع في القلب، والإيعاد في اللمتين من باب الإفعال، والوعيد في الاشتقاق كالوعد، إلا أنهم خصوا الوعد بالخير، والوعيد بالشر. ولما كان المبتدأ بذكره في هذا الحديث ((لمة الشيطان)) ذكره بلفظ الإيعاد ثم أجرى الوعد بالخير مجرى الأول اتباعا ومشاكلة. أقول: والأظهر أن الحديث والآية المستشهد بهما جاريان على الاستعمال اللغوي؛ لما نيط بكل واحد ما لا يلبس على السامع المراد، فاستعمل في الحديث بالإفعال، وفي الآية بفعل، نعم! لو أطلق ميز بينهما. وتطبيق الآية على الحديث، هو أن يقال: خصت ((لمة الشيطان)) بالفقر وهو الحاجة، وأصله كسر الفقار، وبالأمر بالفحشاء، وهما تفسيران للشر، وخصت ((لمة الملك)) بوعد المغفرة، وبوعد الفضل، وهما المعنيان بالخير، وقوبل الفقر بالفضل، والأمر بالفحشاء بالمغفرة، نبه سبحانه وتعالى على ما عسى أن يمنع المكلف من الإنفاق والبذل، والعصمة من الذنوب، من تسويل الشيطان، وإغوائه النفس الأمارة خوف الفقر والإعدام، وتزيينه المعاصي والفواحش، ثم [ذيله] بما هو العمدة فيه، وهو قوله: {واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} المشتمل على سعة الإفضال والغفران، ووفور العلم بأحوال العباد ومصالحهم، وما هو خير لهم في الدارين؛ ليكون تمهيدا لذكر ما هو أجل المواهب وأسنى المطالب، من إيتاء الحكمة، ومعرفة مكائد النفس الأمارة، وخطرات الشيطان، ومعرفة لمة الملك ولمة الشيطان، فعند ذلك يتنبه الطالب على أمر خطير، فاضطر إلى السؤال بلسان الحال – إلى أن قال – هذه الموهبة عامة، أو هي مختصة ببعض دون بعض، فنودي من سرادقات الجلال {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} أي خصه الله تعالى بالحكمة، ووفقه للعلم والعمل، ثم أبتعه بقوله: {ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [تعريضا] بمن لا يتفطن بهذا البيان الشافي، ولم يفرق بين اللمتين، ووهم أن الحكمة غير العلم والعمل. وبهذا الاعتبار قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهرودي قدس الله سره: إنما يطلع على معرفة اللمتين وتمييز الخواطر طالب مريد يتشوق لذلك تشوق العطشان إلى الماء لما يعلم من موضع ذلك، وخطره، وصلاحه، وفساده. وليعلم أن الخواطر بمثابة البذر، فمنها ما هو بذر السعادة، ومنها ما هو بذر الشقاوة، وسبب اشتباه الخواطر أربعة أشياء لا خامس لها: إما ضعف

75 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم)). رواه أبو داود. وسنذكر حديث عمرو بن الأحوص في باب خطبة يوم النحر إن شاء الله تعالى. [75] الفصل الثالث 76 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح الناس يتساءلون، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ اليقين، أو قلة العلم بمعرفة صفات النفس وأخلاقها، أو متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى، أو محبة الدنيا جاهها ومالها، وطلب الرفعة والمنزلة عند الناس؛ فمن عصم عن هذه الأربعة، يفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومن ابتلي بها لا يعلمهما ولا يتطلبهما – وإن كشف بعض الخواطر دون بعض – لوجود بعض هذه الأربعة دون البعض، وأقوم الناس بتمييز الخواطر أقومهم بمعرفة النفس، ومعرفة عشر المثال لا يكاد يتيسر إلا بعد الاستقصاء في الزهد والتقوى. قال: واتفق المشايخ على أن من كال أكله من الحرام، لا يفرق بين الإلهام والوسوسة. قال أبو علي الدقاق: [من كان قوته معلوما، لا يفرق بين الإلهام والوسوسة]. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الله أحد)) ((مظ)): يعني قولوا في رد هذه الوسوسة: الله تعالى ليس مخلوقا، بل هوأحد، و ((الأحد)) هو الذي لا ثاني ولا مثل له في الذات والصفة، و ((التفل)) إسقاط البزاق من الفم، أي ليلق البزاق من الفم ثلاث مرات، وهو عبارة عن كراهة الرجل الشيء ونفوره عنه، مراغما للشيطان، وتبعيدا له. و ((الاستعاذة)) طلب المعاونة من الله الكريم على دفع الشيطان الرجيم. أقول: الصفات الثلاث منبهة على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مخلوقا، أما ((أحد)) فمعناه: الذي لا ثاني له ولا مثل، فإذا جعل مخلوقا لم يكن أحدا على الإطلاق؛ لأن خالقه أولى بالأحدية، والصمد هو السيد الذي يرجع الناس في أمورهم وحوائجهم إليه فيكون ذلك الخالق أولى منه ((ولم يولد)) تصريح في المنفي. ((ولم يلد، ولم يكن له كفوا أحد)) يناديان بأنه إذا لم يكن له الكفو الذي هو المساوي، والولد الذي هو دونه في الإلهية، فأحرى بأن لا يكون فوقه شيء، والفرق بين الواحد والأحد مر في الحديث السابع عشر من الباب الأول. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس: قوله: ((لن يبرح)) ((غب)): برح ثبت في البراح، وهو المكان المتسع

يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله عز وجل؟)) رواه البخاري، ولمسلم: ((قال: قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله عز وجل؟)). 77 - وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا)) ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. رواه مسلم. [77] 78 - وعن القاسم بن محمد: أن رجلا سأله فقال: إني أهم في صلاتي فيكثر ذلك علي، فقال له: امض في صلاتك، فإنه لن يذهب ذلك عنك حتى تنصرف وأنت تقول: ما أتممت صلاتي. رواه مالك. [78] ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر، ومنه قولك: لا أبرح، وخص بالإثبات؛ لأن برح وزال اقتضيا معنى النفي، و ((لا)) للنفي، والنفيان يحصل منهما الإثبات. قوله: ((هذا الله)) مبتدأ وخبره و ((خلق الخلق)) استئناف، أو حال، وقد مقدرة، والعامل معنى اسم الإشارة، أو ((هذا)) مبتدأ و ((الله)) عطف بيان، و ((خلق الخلق)) خبره، ومعنى الحديث سبق في الفصل الأول. الحديث الثاني عن عثمان: قوله: ((حال)) أصل الحول تغير الشيء، وانفصاله من غيره باعتبار التغير. وقيل: حال الشيء يحول حؤولا واستحالة تهيأ لأن يحول، وباعتبار الانفصال قيل: حال بيني وبنك كذا. قوله: ((يلبسها)) يخلطها ويشككني فيها، والجملة بيان لقوله: ((حال)) وما يتصل به. وقوله: ((خنزب)) بخاء معجمة مكسورة، ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة أو مفتوحة، ويقال أيضا: بفتح الخاء والزاي، حكاه القاضي عياض، ويقال أيضا: بضم الخاء وفتح الزاي على ما في النهاية. الحديث الثالث عن القاسم بن محمد: قوله: ((فإنه لن يذهب)) الضمير للشأن، والجملة بيان

باب الإيمان بالقدر الفصل الأول 79 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه)) قال: ((وكان عرشه على الماء)). رواه مسلم [79]. ـــــــــــــــــــــــــــــ له، والمشار إليه بقوله: ((ذلك الوهم)) المعني به الوسوسة، المعنى: لا تذهب عنك تلك الخطرات الشيطانية، حتى تقول للشيطان: ((صدقت)) ما أتممت صلوتي؛ لكن لا أقبل قولك، ولا أتمها إرغاما لك ونقضا لما أردته مني. وهذا أصل عظيم لدفع الوساوس وقمع هواجس الشيطان في سائر الطاعات، قال الجوهري: وهمت بالشيء - بالفتح - أهم وهما إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، ووهمت في الحساب أو هم وهما إذا غلطت فيه وسهوت. باب الإيمان بالقدر الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((مقادير الخلائق)) المقادير جمع مقدار، وهو الشيء الذي يعرف به قدر شيء كالميزان والمكيال. ويستعمل بمعنى المقدر. ((قض)): قوله: ((كتب الله)) معناه أجرى القلم على اللوح المحفوظ بتحصيل ما بينهما من التعلق، وأثبت فيه مقادير الخلائق، على وفق ما تعلقت به إرادته أزلا، إثبات الكاتب ما في ذهنه بقلمه على لوحه، أو قدر وعين مقاديرهم تعيينا ثابتا لا يتأتى خلافه. وقوله: ((بخمسين ألف سنة)) معناه طول الأمد، وتمادي ما بين التقدير والخلق من المدد، أو تقديره ببرهة من الدهر الذي يوم منه ((كألف سنة مما تعدون)) وهو الزمان، أو من الزمان نفسه. فإن قلت: كيف يحمل على الزمان ولم يخلق الزمان، ولا ما يتحدد به من الأيام والشهور، والسنين؟ قلت: يحمل الزمان على مقدار ما هو عليه الآن عند حصول ما يتجدد به، كقوله تعالى: {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. ((حس)): الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوم المحفوظ قبل أن خلقهم، قال الله تعالى: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ} فالإيمان، والكفر، والطاعة، والعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته،

80 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)) رواه مسلم [80]. ـــــــــــــــــــــــــــــ غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب، قال الله تعالى: {ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}. والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا، قال الله تعالى: {ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ} وقد: سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم لا تسلكه. فأعاد السؤال، فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تقتشه. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((كل شيء بقدر)) والقدر بالفتح والسكون يا يقدره الله من القضاء، وبالفتح اسم لما صدر مقدورا على فعل القادر، كالهدم لما صدر عن فعل الهادم، يقال: قدرت الشيء خفيفة وثقيلة بمعنى فهو قدر أي مقدور، والتقدير تبيين الشيء. قوله: ((حتى العجز والكيس)) قوبل الكيس بالعجز على المعنى؛ لأن المقابل الحقيقي للكيس البلادة، وللعجز القوة، وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر، يعني: الكيس، والقوة، والبلادة، والعجز من قدر الله، فهو رد على من يثبت القدرة لغير الله مطلقا، ويقول: إن أفعال العباد خيرها وشرها مستندة إلى قدرة العبد واختياره؛ لأن مصدر الفعل الداعية، ومنشأها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة، ثم القوة والضعف، ومكانهما الأعضاء والجوارح إذا كانت بقدر الله وقضائه، فأي شيء يخرج منهما. ((تو)): ((الكيس)) جودة القريحة، وإنما أتى به في مقابلة العجز؛ لأنه هو الخصلة التي تفضي بصاحبها إلى الجلادة، وإتيان الأمور من أبوابها، وذلك نقيض العجز؛ ولهذا المعنى كنوا به عن الغلبة فقالوا: كايسته فكسته أي غلبته، والعجز ها هنا عدم القدرة، وقيل: ترك ما يجب عيه فعله بالتسويف والتأخير له. و ((العجز، والكيس)) يروى بالرفع فيهما عطفا على ((كل)) وبالخفض على ((شيء))، والأوجه أن يكون ((حتى)) في الكسر حرف خفض بمعنى إلى، ومعنى الحديث يقتضي الغاية؛ لأنه أراد بذلك أن اكتساب العباد وأفعالهم كلها بتقدير خالقها، حتى الكيس الذي يوصل صاحبه إلى البغية، والهجز الذي يتأخر به عن درك البغية.

81 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى؛ قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): الكيس والكياسة كمال العقل، وشدة معرفة الرجل الأمور، وتمييز ما فيه النفع مما فيه الضر، يعني: من كان عاجزا وضعيفا في الجثة، أو الرأي والتمييز، أو ناقص الخلقة لا يعير، فإن ذلك بتقدير الله وخلق الله تعالى إياه على هذه الصفة، ومن كان كامل العقل بصيرا بالأمور، تام الجثة فهو أيضا بتقدير الله وخلقه تعالى إياه على هذه الصفة، وليس ذلك بقوته وقدرته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. أقول: الوجه الذي يقتضيه سياق الحديث ما ذهب إليه التوبشتي. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((احتج آدم وموسى)) أي تحاجا. وقوله: ((فحج آدم موسى)) عليهما السلام، أي غلب عليه بالحجة، بأن ألزمه أن جملة ما صدر عنه لم يكن هو مستقلا بها، متمكنا من تركها، بل كانت أمرا مقضيا. وقوله: ((قال موسى: أنت آدم)) إلى آخره، جملة مبينة لمعنى ((فحج آدم موسى)) ومفسرة للجملة ثم أعاد ((فحج آدم موسى)) آخر الحديث، فذلكة للتفصيل تقريرا وتثبيتا للأنفس على توطين هذا الاعتقاد. وقوله: ((أنت آدم الذي خلقت الله)) والظاهر خلقه ليعود إلى الموصول، لكن عدل إلى الخطاب مطابقة لقوله: ((أنا الذي سمتني أمي حيدرة)) أي سمته، و ((خلقك الله)) تعالى ((بيده)) [أي بقدرته]، خصه بالذكر إكراما وتشريفا له، وأنه خلق إبداعا من غير واسطة أرحام، فإن هذا نوع إكرام له لقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ} , و ((من روحه)) أضاف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وتشريفا، أي من الروح الذي هو مخلوقه، ولا يد لأحد فيه، ((اصطفاك الله)) أي جعلك خالصا صافيا عن شائبة ما لا يليق بك وبكلامه، فيه تلميح إلى قوله تعالى: {وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن

أخلق قال: موسى بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى)؟ قال: نعم. قال: افتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى)). رواه مسلم. [81] ـــــــــــــــــــــــــــــ كَلَّمَ اللَّهُ}. ((فيها تبيان كل شيء)) أي أعطاك التوراة فيها تبيان لكل شيء من الإخبار بالغيوب، والقصص، والحلال، والحرام، والموعظة، وغير ذلك، وهو من قوله تعالى: {وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ}. ((وقربناه نجيا)) أي خصك بالنجوى، النجي المناجي الواحد والجمع سواء، هو من يخاطب الإنسان ويحدثه سرا، هو من قوله تعالى: {ونَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وقَرَّبْنَاهُ نَجِيًا}. و ((فبكم وجدت)) أي فبكم زمانا وجدت الله أمر بكتبه التوراة قبل أن يخلقني. ((تو)): ليس معنى قول آدم عليه السلام: ((كتب الله على)) ألزمه إياي وأوجبه علي، فلم يكن لي في تناول الشجرة كسب واختيار، وإنما المعنى: إن الله تعالى أثبته في أم الكتاب قبل كوني، وحكم بأن ذلك كائن لا محالة لعلمه السابق، فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله. فكيف تغفل عن العلم السابق، وتذكر الكسب الذي هو السبب، وتنسى الأصل الذي هو القدب؛ وأنت ممن اصطفاك الله من الصطفين الأخيار، الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار؟ واعلم أن هذه القصة تشتمل على معاني محررة لدعوى آدم عليه السلام، مقررة لحجته، منها: أن هذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لم يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي عند ملتقى الأرواح. ومنها: أن آدم احتج بذلك بعد اندفاع موجب الكسب منه، وارتفاع أحكام التكليف عنه. ومنها: أن اللائمة كانت بعد سقوط الذنب، ووجوب المغفرة. أقول – والعلم عند الله -: مذهب أهل الجبر إثبات التقدير لله تعالى ونفي القدرة عن العبد أصلا، والمعتزلة بخلافه، كما سبق. وكل الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والمنهج القويم والصراط المستقيم، القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السنة، إذ لا يقدر أحد أن يسقط الأصل الذي هو القدر، ولا أن يبطل الكسب الذي هو السبب، فلما جعل موسى عليه السلام مساق كلمه وقصته إلى الثاني، بأن صدر الجملة بحرف الإنكار والتعجب وصرح

82 - وعن ابن مسعود، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ـــــــــــــــــــــــــــــ باسم آدم ووصفه بصفات أربع كل واحدة منها مستقلة. . . في علية عدم ارتكابه الخطيئة، ثم جاء بكلمة الاستبعاد في قوله: ((ثم أهبطت)) فأسند الإهباط إليه على الحقيقة، والله سبحانه وتعالى هو المهبط في الحقيقة لقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا} وقرن الإهباط بالأرض، والإهباط لا يكون إلا إليها؛ ليؤذن بسفالتها التي تورث الخساسة والزذالة، كما قال الله تعالى: {ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ} الآية، بل الغرض الأول من ذلك الإنكار البليغ هذا لقوله: ((ثم أهبطت الناس)) كأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما أبعد هذه السفالة عن تلك المعالي والمناصب! أجاب عنه صلى الله عليه وسلم بما يقابلها، بل أبلغ من تصدير الجملة بالهمزة، وتصريح اسم موسى ووصفه أيضا بصفات أربع كل واحدة منها مستندة في عليه عدم ذلك الإنكار عليه، ثم رتب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بدل كلمة الاستبعاد بهمزة الإنكار في قوله: ((أفتلومني)) وحذف ما تقتضيه الهمزة، والفاء العاطفة من الفعل أي أتجد في التوراة هذا النص الجلي، فتلومني على ذلك؟ فما أبعده من إنكار! وفي هذا التقرير تنبيه على ما قصدناه، من أن تحري قصد الأمور هو الصواب، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ختم الحديث بقوله: ((فحج آدم موسى)) بعد افتتاحه وبيانه بقوله: ((قال موسى: أنت آدم)) إلى آخر الحديث مجملا أولا، ومفصلا ثانيا، ومعيدا له ثالثا تنبها على أن بعض أمته من المعتزلة ينكر حديث القدر، فاهتم لذلك وبالغ في الإرشاد، ويحتمل أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام صدر الحديث بقوله: ((فحج)) تحريما للدعوى، وختمه به إثباتا لها، فعلى هذا تكون الفاء في الأول للعطف، وفي الآخر للنتيجة. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وهو الصادق المصدوق)) الأولى أن تجعل الجملة الأولى اعتراضية لا حالية؛ ليعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ودأبه ذلك فما أحسن موقعه هنا. قوله: ((إن خلق أحدكم)) أي ما يخلق منه أحدكم يقرر ويحرز في بطنها. وقال في النهاية: ويجوز أن يكون يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوما، أي تمكث النطفة في الرحم تتخمر فيها، حتى تتهيأ للخلق. ((خط)): روي عن ابن مسعود في تفسير هذا الحديث: ((إن النطفة إن وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرا، طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دما في الرحم، فذلك جمعها)). والصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه، وأحقهم بتأويله، وأولاهم بالصدق فيما يتحدثون به، وأكثرهم احتياطا للتوقي عن خلافه، فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم.

ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((علقة)) وهي الدم الغليظ الجامد، و ((ذلك)) إشارة إلى محذوف أي مثل ذلك الزمان. ((والمضغة)) هي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ. و ((النطفة)) الماء القليل. وفي الحديث ((جاء رجل بنطفة في إداوة)) وبه سمى المني نطفة لقلتها. وقيل: سميت بها لنطافتها – أي سيلانها، من قولهم: ماء ناطف أي سيال – و ((الكلمات)) القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة، قولا كان أو فعلا. ((قض)): ((ثم يبعث الله إليه ملكا)) أي يبعث إليه الملك في الطور الرابع حينما يتكامل بنيانه، وتتشكل أعضاؤه، فيعين وينقش فيه ما يليق به من الأعمال والأعمار والأرزاق حسب ما اقتضته حكمته، وسبقت كلمته، فمن وجده مستعدا لقبول الحق واتباعه، ورآه أهلا للخير، وأسباب الصلاح متوجها إليه أثبته في عداد السعداء، وكتب له أعمالا صالحة تناسب ذلك ومن وجده كذا جافيا، قاسى القلب، ضاريا بالطبع، متنائيا عن الحق، أثبت ذكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يتوقع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغير ذلك، وإن علم من ذلك شيئا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وفق ما يتم به عمله؛ فإن ملاك العمل خواتمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنة. ((مظ)): اعلم أن الله تعالى يحول الإنسان في بطن أمه حالة بعد حالة، مع أنه قادر على أن يخلقه في لمحة البصر؛ وذلك أن في التحويل فوائد وعبرا، منها: أنه لو خلقه دفعة لشق على الأم؛ لأنها لم تكن معتادة لذلك، وربما يظن علة، فجعلت أولا نطفة لتعتاد بها مدة، ثم علقة مدة، وهلم جرا إلى الولادة. ومنها إظهار قدرة الله تعالى ونعمته ليعبدوه ويشكروا له، حيث قلبهم من تلك الأطوار، إلى كونهم إنسانا حسن الصورة، متحليا بالعقل والشهامة، متزينا بالفهم والفطانة. ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر والنشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين، ثم من علقة، ومضغة مهيأة لنفخ الروح فيه يقدر على تصييره ترابا، ونفخ الروح فيه، وحشره في المحشر للحساب والجزاء. قوله: ((حتى ما يكون)) ((حتى)) هي الناصبة، و ((ما)) نافية ولفظة ((يكون)) منصوبة بـ ((حتى)) و ((ما)) غير مانعة لها من العمل و ((ذراع)) مثل يضرب بمعنى المقاربة إلى الدخول. قوله: ((شقي أو

83 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ سعيد)) كان من حق الظاهر أن يقال: تكتب سعادته، وشقاوته، فعدل إما [حكاية] لصورة ما يكتبه، لأنه يكتب شقي أو سعيد، أو التقدير: أنه شقي أو سعيد، فعدل؛ لأن الكلام مسوق إليهما، والتفصيل وارد عليهما. و ((الفاء)) في ((فسبق)) للتعقيب على حصول السبق بلا مهلة، ضمن ((يسبق)) معنى يغلب أي يغلب عليه الكتاب وما قدر عليه سبقا بلا مهلة، فعند ذلك يعمل عمل أهل الجنة، أو أهل النار. ((خط)): فيه بيان ظاهر أن الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليست بموجبات؛ فإن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في البداية. الحديث الخامس عن سهل: قوله: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) هذا [تذييل] للكلام السابق، مشتمل على معناه لمزيد التقرير، كقولهم: حدثت الحوادث والحوادث جمة، وفلان ينطق بالحق والحق [أبلج]، وفيه أن العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به، كما لوح به حديث ابن مسعود حيث قال: ((فيسبق عليه الكتاب)) إلى آخره. [شف]: وفي هذا حث على مواظبة الطاعات، ومراقبة الأوقات، وعلى حفظها عن معاصي الله تعالى خوفا عن أن يكون ذلك آخر عمره، وفيه زجر عن العجب والفرح بالأعمال، فرب متكل هو مغرور؛ [فإن العبد لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة. وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يشهد لأحد بالجنة أو النار] فإن أمور العبد بمشيئة الله وقدره السابق؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: ((أو غير ذلك؟)) لما قالت على سبيل القطع: ((طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة)) تم كلامه. وفيه أيضا أن الله تعالى يتصرف في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، وكل ذلك عدل وصواب، وليس لأحد اعتراض عليه؛ لأنه مالك والخلق مملوك، واعتراض المملوك على المالك قبيح موجب للتعذيب، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ} ومن ثم لما نزل {وإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على المؤمنين، وقالوا: يا رسول الله! كيف نطيق دفع ما يجري في قلوبنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: {سَمِعْنَا وعَصَيْنَا}، قولوا: سمعنا وأطعنا)) واشتد ذلك عليهم ومكثوا زمانا، فأنزل الله تعالى فرجا بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا} فلما أسلموا سهل الله عليهم الأمر، فإذا لا خلاص ولا نجاة إلا بالتسليم لقضاء الله وقدره.

84 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: ((أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((طوبى)) فعلى من الطيب، قلب الياء واوا للضمة قبلها، قيل: معنى طوبى له أطيب المعيشة له، وقيل: معناه أطيب خيرا على الكناية؛ لأن إصابة الخير مستلزم لطيب العيش له، فأطلق اللازم وأراد الملزوم. فإن قلت: قوله: ((عصفور من عصافير الجنة)) فيه إشكال؛ لأنه ليس من باب التشبيه، كما تقول: هذا كعصفور من عصافير الجنة، إذ ليس المراد أن ثمة عصفورا، وهذا مشابه به، ولا من باب الاستعارة؛ لأن المشبه والمشبه به مذكوران، لأن التقدير هو عصفور، والمقدر كالملفوظ؟ قلت: هو من باب الادعاء؛ كقولهم: تحية بينهم ضرب وجميع، وقولهم: القلم أحد اللسانين، جعل بالادعاء التحية والقلم ضربين، أحدهما المتعارف من الضرب واللسان [والآخر غير المتعارف من الضرب واللسان]، فبين في الأول بقوله: ضرب وجيع، أن المراد غير المتعارف، كما بين في الثاني بقوله: أحد اللسانين، أن المراد منه غير المتعارف، جعلت رضي الله عنها العصفور صنفين أحدهما: المتعارف، وثانيهما: الأطفال من أهل الجنة، وعنيت بقولها: ((من عصافير الجنة)) أن المراد الثاني، وقولها: ((لم يعمل السوء)) بيان لإلحاق الطفل بالعصفور وجعله منه، كما جعل القائل القلم لسانا بواسطة إفصاحهما عن الأمر المضمر. وقوله: ((أو غير ذلك؟)) ((الفائق)): إن ((الهمزة)) للاستفهام، و ((الواو)) عاطفة على محذوف، و ((غير)) مرفوع بعامل مضمر تقديره: أوقع هذا أو غير ذلك؟ ويجوز أن يكون ((أو)) التي لأحد الأمرين: أي الواقع هذا، أو غير ذلك. أقول: ويجوز أن يكون ((أو)) بمعنى ((بل)) أنشد الجوهري: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح يريد بل أنت، وقوله تعالى: {وأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} بل يزيدون، كأنه عليه الصلاة والسلام لم يرتض قولها رضي الله عنها، فأضرب عنه، وأثبت ما يخالفه؛ لما فيه من الحكم بالغيب، والجزم بتعين إيمان أبوي الصبي أو أحدهما، إذ هو تبع لهما، ومرجع معنى الاستفهام إلى هذا؛ لأنه لإنكار الجزم، وتقرير لعدم التعيين. ولعل الرد كان قبل إنزال ما أنزل عليه في ولدان المؤمنين، وكرر ((خلقهم)) لإناطة أمر زائد عليه، هو قوله: ((وهم في أصلاب آبائهم)) اهتماما بشأنه، كما قال زهير:

خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) رواه مسلم [84] 85 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)). قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل على ـــــــــــــــــــــــــــــ من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا علاته بكسر العين أي كل حال، وهرما اسم رجل، وكرر (يلق)، وعلق به السماحة والندى اهتماما به. ((قض)): في الحديث إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال، وإلا لزم أن لا تكون ذراري المسلمين والكافرين من أهل الجنة والنار، بل الموجب لهما هو اللطف الرباني، والخذلان الإلهي المقدر لهم، وهم في أصلاب آبائهم، بل هم وآباؤهم وأصول أكوانهم بعد في العدم، فالواجب التوقف وعدم الجزم على شيء من ذلك. ((مح)): أجمع من يعتد به من علماء المسلمين، على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة؛ لأنه ليس مكلفا، وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجابوا عنه: لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة. قوله: ((لم يعمل سوءا)) ((مظ)): أي لم يعمل ذنبا يتعلق بحقوق الله تعالى، وأما إذا كان من حقوق العباد، كإتلاف مال، وقتل مسلم فيؤخذ منه الغرم والدية، وإذا سرق يؤخذ منه المال، ولم تقطع يده؛ لأنه من حقوق الله تعالى. ويحتمل أن يراد بقوله: ((وهم في أصلاب آبائهم)) خلق الذرية في ظهر آدم عليه السلام، وإخراجها ذرية بعد ذرية من صلب كل والد إلى انقراض العالم. الحديث السابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((مقعده)) أي موضع قعوده، كنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها، و ((الواو)) المتوسطة بينهما لا يمكن أن تجري على ظاهرها؛ فإن ((ما)) النافية و ((من)) الاستغراقية تقتضيان أن يكون لكل أحد مقعد من النار، ومقعد من الجنة – وإن ورد في حديث آخر هذا المعنى – لأن التفصيل الآتي يأبى حمله على ذلك، فيجب أن يقال: إن ((الواو)) بمعنى أو. ((مظ)): قد ورد في هذا الحديث بلفظ ((أو)) في بعض الروايات، وليس في شرح السنة إلا بلفظ ((أو)).

كتابنا وندع العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (5) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآية)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((أفلا نتكل)) أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل، ونترك العمل؟ يعني: إذا سبق القضاء لكل واحد منا بالجنة أو النار، فأي فائدة في السعي؛ فإنه لا يرد قضاء الله وقدره؟ وأجاب عليه الصلاة والسلام بقوله: ((اعملوا)) وهو من الأسلوب الحكيم، منعهم صلى الله عليه وسلم عن الاتكال وترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه، وهو عبوديته عاجلا، وتفويض الأمر إليه آجلا، يعني: أنتم عبيد، ولا بد لكم من العبودية، فعليكم بما أمرتم به، وإياكم والتصرف في الأمور الإلهية، لقوله تعالى: {ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل أمارات وعلامات لها، ولا بد في الإيجاب من لطف الله وكرمه، أو خذلانه كما ورد ((ولا يدخل أحدكم الجنة بعمله)) الحديث، فالفاء في ((فسييسر)) تفصح عن هذه المقدرات. ((خط)): إن قول الصحابي هذا مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص صلى الله عليه وسلم له. وذلك أن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله تعالى فيهم، وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ها هنا أمرين محكمين، أحدهما لا يبطل الآخر، باطن: هو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر: وهو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم. ويشبه أن يكون – والله أعلم – إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتعبدوا بهذا التعبد؛ ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن، وذلك من صفة الإيمان، وبين عليه الصلاة والسلام لهم أن ((كل ميسر لما خلق له)) وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، وتلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى (5) وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} {وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى}. وهذه الأمور في حكم الظاهر، ومن وراء ذلك حكم الله تعالى فيهم ((وهو الحكيم الخبير))، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ}. واطلب نظيره من أمرين: الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، ومن الأجل المضروب مع المعالجة بالطب،

86 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنك تجد المعتبر فيهما على موجبة، والظاهر البادي سببا مخيلا، وقد اصطلح الناس – خواصهم وعوامهم – على أن الظاهر منها لا يترك بالباطن. وقوله: ((وكل ميسر)) أي مهيأ ومصروف إليه. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حظه من الزنا)) ((من)) البيانية مع ما يتصل بها حال من ((حظه)). ((أدرك)) أصاب ووصل. ((لا محالة)) ((لا)) لنفي الجنس، الجوهري: حال لونه أي تغير وحال عن العهد حولا انقلب، وحال الشيء بيني وبينك حجز، والمحالة الحيلة، يقال: المرء يعجز لا المحالة، وقولهم لا محالة: أي لا بد، يقال: الموت آت لا محالة – والجملة الثانية مرتبة على الأولى بلا حرف الترتيب، تفويضا لاستفادته إلى ذهن السامع، والتقدير: كتب الله تعالى وما كتبه لا بد أن يقع. ((كتب)) يحتمل أن يراد به أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين، والأذنين، والقلب، والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري على ابن آدم الزنا، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة. قوله: ((زنا العين النظر)) إلى آخره، سمي هذه الأشياء باسم الزنا؛ لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج؛ لأنه منشؤه ومكانه، أي يصدقه بالإتيان بما هو المراد منه، ويكذبه بالكف عنه والترك. ((فا)) في قوله: ((كذب عليك الحج)): ((كذب)) كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم، وهي في معنى الأمر، كأنه يريد أن ((كذب)) ههنا تمثيل لإرادة معنى: اترك ما سولت لك نفسك من التواني في الحج، ثم استأنف بقوله: ((اقصد الحج)) فشبه إيجاب الحج عليه بسبب تهيؤ أسبابه ووجوب استطاعته، ثم تقاعده عنه، كأنه يقول: لم يجب عليك الحج؟ فقيل: كذب عليك الحج، على سبيل التأكيد، وكذا ما نحن بصدده من الاستعارة التمثيلية، شبهت صورة حال الإنسان، من إرساله الطرف – الذي هو رائد القلب – إلى النظر إلى المحارم، وإصغائه الأذن إلى السماع، ثم انبعاث القلب إلى الاشتهاء والتمني، ثم استدعائه منه قصارى ما يشتهي ويتمنى باستعمال الرجلين في المشي، واليدين في البطش، والفرج في تحقيق مشتهاه، فإذا مضى الإنسان على ما استدعاه القلب حقق متمناه، وإذا امتنع عن ذلك خيبه فيه، بحالة رجل يخبره صاحبه بما يزينه له ويغريه عليه، فهو إما يصدقه بذلك ويمضي إلى ما أراده منه، أو يكذبه ويأبى عما دعاه إليه، ثم استعمل في حال المشبه ما كان مستعملا في جانب المشبه به، من التصديق والتكذيب؛ ليكون قرينة للتمثيل، وكأن الحماسي نظر إلى هذا المعنى حيث قال:

وفي رواية لمسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)). 87 - وعن عمران بن حصين: أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؟ أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق، أو ـــــــــــــــــــــــــــــ وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر الإسناد في قوله: ((الفوج يصدقه أم يكذبه)) مجازي؛ لأن الحقيقي هو أن يسند إلى الإنسان، فأسنده إلى الفرج؛ لأنه مصدر الفعل والسبب القوي. الحديث التاسع عن عمران: قوله: ((أرأيت)) معناه أخبرني، من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن مشاهده الأشياء طريق الإخبار عنها، و ((الهمزة)) فيه مقررة أي قد رأيت ذلك فأخبرني. ((الكدح)) جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه، كذا في الكشاف. و ((من)) في ((من قدر)) يجوز أن تكون بيانا ((لشيء)) فيكون القضاء والقدر شيئا واحدا، وأن تكون ابتدائية متعلقة بـ ((قضي)) أي قضى عليهم لأجل قدر سبق، وقضاء نشأ وابتدأ من قدر، فيكون القدر سابقا على القضاء. ((نه)): المراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي خلقهن، فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما يمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام التفصيل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه. ((غب)): القضاء من الله أخص من القدر؛ لأن الفصل بين التقدير، والقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء: أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل؛ ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: ((أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله)) تنبيها على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد بذلك قوله عز وجل: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا} تنبيها على أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه. وأقول: يؤيد هذا حديث الرقى كما سيجيء، وهذا البيان هو الذي وعدناه في حديث جبريل

فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا} رواه مسلم. [87] 88 - وعن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، كأنه يستأذنه في الاختصاء، ـــــــــــــــــــــــــــــ - عليه السلام -، ونقلنا عن القاضي خلاف ذلك. ومما يؤاخيه أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل فقال: أشكل على قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((جف القلم بما أنت لاق)) فأجاب: إنها شئون يبديها، لا شئون يبتديها، فقام عبد الله وقبل رأسه. قال بعض العارفين: إن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه، والقضاء كرسمه تلك الصورة للتلميذ بالأسرب، ووضع التلميذ الصبغ عليها متبعا لرسم الأستاذ هو الكسب والاختيار، والتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ، كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر، ولكنه متردد بينهما. قوله: ((أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم)) كذا في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، ووقع في نسخ المصابيح ((أم فيما يستقبلون؟)) فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم)). أقول: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن تعيين أحد الأمرين، إذ الجواب – وهو قوله – عليه الصلاة والسلام: ((لا، بل)) – غير مطابق له، وإذا تقرر هذا فـ ((أم)) منقطعة، و ((أو)) بمعنى بل، وتحريره: أن السائل لما رأى الرسل يأمرون أممهم وينهونهم، اعتقد أن الأمر أنف، كما زعمت المعتزلة، فسأل أولا عن الأمر أهو شيء مقدر؟ ثم بدا له وأضرب عن ذلك، واستأنف فقال: أهو واقع فيما يستقبلون به؟ والهمزة للتقرير؛ فلذلك نفى رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ما أثبته، وقرره وأكده بـ ((بل)) ولو كان السؤال عن التعيين لقال: أشيء قضى عليهم، أم شيء يستقبلونه بالتكلم، بل غير العبارة وعدل إلى الغيبة، وعمم الأمم كلها وأنبياءهم، فدل ذلك على صحة ما قلناه، من إضرابه عن السؤال الأول إلى الثاني. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العنت)) العنت الإثم، قال الله

قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {} يعني – الفجور والزنا – قوله: ((في الاختصاء)) خصيت الفحل خصاء – ممدودا – إذا سللت خصيته. و ((جف القلم)) يقال: جف الثوب وغيره يجف بالكسر جفافا وجفوفا إذا ابتل ثم جف، وفيه نداوة. ((تو)): وهو كناية عن جريات القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، أقول: هذا من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مراده. ((مظ)): والمعنى: إن ما كان وما يكون قدر في الأزل فلا فائدة في الاختصاء، فإن شئت فاختص، وإن شئت فاترك، وهذا ليس منه إذنا له، بل هو توبيخ ولوم على استئذانه قطع العضو من غير فائدة، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}. ((تو)): لم نجد هذا اللفظ أي ((جف القلم)) مستعملا على هذا الوجه فيما انتهى إلينا من كلام العرب، إلا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراها من الألفاظ المستعارة التي لم يهتد إليها البلغاء، فاقتضتها الفصاحة النبوية، وما ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ((فاختصر على ذلك أو ذر))، فالصواب ((فاختص)) بتخفيف الصاد من الاختصاء، وكذلك يرويه المحققون من علماء النقل، وقد صحفه بعض أهل النقل فراه على ما هو في كتاب المصابيح، ولا يكاد يتلبس ذلك إلا على عوام أصحاب الرواية، أو على من انتهى إليه الحديث مختصرا على ما هو في المصابيح، وأما من كان معتنيا بضبط الألفاظ، واتباع المعاني فلا يخفى عليه وجه الصواب، إذا استوعب طرق هذه الحديث. وقد روى هذا الحديث مستوفى في كتب أهل العلم من وجوه. قال المؤلف: الحديث في صحيح البخاري، وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي، وفي شرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح مذكور – كما ذكر التوربشتي – بصاد مكسورة بغير ياء بعدها. ((شف)): معنى الرواية بالراء بعد الصاد الاختصار، وهو حذف المطولات من الكلام، والاقتصار على الألفاظ القليلة الدالة على المعنى، فإذا المعنى: اعلم أنه قد سبق في علم الله تعالى جميع ما يصدر عنك ويأتيك فاقتصر على ذلك؛ فإن الأمور مقدرة فيما سبق، أو ذر ودع ولا تخض فيه. ((قض)): ((أو)) للتسوية، ومعناه: إن الاختصار على التقدير والتسليم له، وتركه والإعراض عنه سواء؛ فإن ما قدر لك من خير أو شر فهو لا محالة لاقيك، وما لم يكتب فلا حيلة ولا طريق إلى حصوله لك. وأقول: على ذلك في رواية: ((اختصر)) متعلق بالفعل على تضمين

89 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم. [89]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((اختصر)) لمعنى ((اقتصر))، أي اقتصر على ما ذكرت لك، واترك الاختصاء، وارض بقضاء الله، أو رد ما ذكرته، وامض لشأنك، واختص، فيكون تهديدا، وعلى رواية (اختص علي)) متعلق بمحذوف هو حال من المستكن في اختص؛ والمعنى اختص في حال عرفانك أن القمل جف ما هو كائن، فيكون حالك مخالفا للمؤمنين، أو ذر الاختصاء، وأذعن وأسلم لقضاء الله؛ فعلى هذا يكون الأول للتهديد على عكس السابق، و ((أو)) على التقديرين للتخيير. الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((بين إصبعين)) ((تو)): هذا الحديث ليس من جملة ما يتنزه السلف عن تأويله، كأحاديث السمع، والبصر، واليد وما يقاربها في الصحة والوضوح؛ فإن ذلك يحمل على ظاهره، ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يشبه بمسميات الجنس، أو يحمل على معنى الاتساع والمجاز، بل يعتقد أنها صفات الله تعالى لا كيفية لها؛ وإنما تنزهوا عن تأويل هذا القسم، لأنه لا يلتئم معه، ولا يحمل ذلك على وجه يرتضيه العقل، إلا ويمنع منه الكتاب والسنة من وجه آخر. وأما ما كان من قبيل هذه الحديث، فإنه ليس في الحقيقة من أقسام الصفات؛ ولكن ألفاظه مشاكلة لها في وضع الاسم، فوجب تخريجه على ما يناسب نسق الكلام، وعلى ما يقتضيه من المعنى؛ ليقع الفصل بين هذا الضرب وبين ما لا يدخل فيه المجاز والاتساع. وقد أجرى بعض الأولين ((الإصبع)) في الحديث مجرى قول العرب للراعي على ماشيته: إصبح حسن أي أثر حسن، وذكر في قول القائل: ضعيف القفا بادي العروق يرى له عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا. وهذا من باب التعسف في التأويل؛ لأنه لا يناسب نسق الكلام، انتهى كلامه. واعلم أن للناس فيما جاء من صفات الله ما يشبه صفات المخلوقين تفصيلا، وذلك أن المتشابه قسمان: قسم يقبل التأويل، وقسم لا يقبله، بل علمه مختص بالله تعالى، ويقفون عند قوله: {ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ} كالنفس في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} والمجيء في قوله: {وجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًا صَفًا} وتأويل فواتح السور، مثل {حَمْ} و {الم} من هذا القبيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وذكر شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهرودي – قدس الله سره – في كتاب العقائد: أخبر الله عز وجل أنه استوى، فقال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} وأخبر رسوله عليه الصلاة والسلام بالنزول، وغير ذلك مما جاء في اليد، والقدم، والتعجب، والتردد وكل ما ورد من هذا القبيل دلائل التوحيد، فلا يتصرف فيها بتشبيه وتعطيل، فلولا إخبار الله تعالى وإخبار رسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشى دون ذلك عقل العقلاء، ولب الألباء. أقول: هذا المذهب هو المعتمد عليه، وبه يقول السلف الصالح، ومن ذهب إلى القسم الأول شرط في التأويل أن ما يؤدي إلى تعظيم الله تعالى وجلاله وكبريائه فهو جائز، فعلى هذا معنى الحديث: أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، لا يمتنع منها شيء ولا يفوته ما أراده، كما يقال: فلان في قبضتي أي في كفي، لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال: فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت أي أنه هين علي قهره والتصرف فيه كيف شئت. ومالا تعظيم فيه فلا يجوز الخوض فيه، فكيف بما يؤدي إلى التشبيه والتجسيم؟ وهذا التقسيم خاص. وأما قول التوربشتي: وهذا من باب التعسف في التأويل، فجوابه أنهم يطلقون اليد على القدرة؛ لأنها مصدرها ومنشؤها؛ وإنما يستعملونها فيها إرادة للمبالغة في مزاولة العمل، فإذا نظروا في دقة العلم وحسن الصنع قالوا: إن له فيه إصبعا؛ لأن الأصابع منشؤها الحذق في الصناعة واللطف فيها، كالكتابة والصناعة ونحوهما. ولما كانت داعيتا الخير والشر مصدرهما القلوب، وتقلبهما في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية أمر تتحير فيه العقول، ولا تنتهي إليها الأوهام، وليس ذلك إلا بتصرف الملك العلام، ناسب ذكره نسق الكلام، والله أعلم. قالوا: المراد بالإصبعين صفت الله تعالى وهما صفتا الجلال والإكرام، فبصفة الجلال يلهمها فجورها، وبصفة الإكرام يلهمها تقواها، أي يقلبها تارة من فجورها إلى تقواها، بأن يجعلها تقية بعد أن كانت فاجرة، ويعدلها أخرى عن تقواها إلى فجورها، بأن يجعلها فاجرة بعد أن كانت تقية، قال الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا}. ((قض)): نسب تقلب القلوب إلى الله تعالى إشعارا بأن الله تعالى إنما تولى بنفسه أمر قلوبهم، ولم يكله إلى أحد من ملائكته، وخص ((الرحمن)) بالذكر إيذانا بأن ذلك التولي لم يكن إلا بمحض رحمته وفضل نعمته؛ كيلا يطلع على أحد غيره على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم.

90 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((كقلب واحد)) قالوا: يعني كما أن أحدكم يقدر على شيء واحد، الله تعالى يقدر على جميع الأشياء دفعة واحدة، ولا يشغله شأن عن شأن. أقول: ليس المراد أن التصرف في القلب الواحد أسهل عليه تعالى من التصرف في القلوب كلها؛ فإن ذلك عند الله سبحانه وتعالى سواء، وقال الله تعالى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ولكن ذلك راجع إلى العباد وإلى ما شاهدوه وعرفوا ذلك فيما بينهم، كقوله سبحانه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي أهون فيما يجب عندكم، وينقاس على أصولكم، ويقتضيه معقولكم، وإلا فالإبداء والإنشاء سواء عند الله تعالى. و ((كيف يشاء)) يجوز أن يكون حالا على التأويل أي هينا فالإبداء والإنشاء سواء عند الله تعالى. و ((كيف يشاء)) يجوز أن يكون حالا على التأويل أي هينا سهلا سريعا لا يمنعه مانع؛ لأنه جواب كيف، وأن يكون مصدرا محذوفا على التأويل أي يقلبها تقليبا سريعا سهلا لا يمنعه من التصرف فيها مانع. و ((اللهم)) الميم فيها عوض من ياء؛ ولذلك لا يجتمعان، قال الزجاج في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ}: زعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه قد ضمت إليه الميم. وما بعده منصوب بالنداء. والقول عندي: أنه صفة فكما لا يمتنع الصفة مع يا فلا يمتنع مع الميم. قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح؛ لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ((اللهم)) ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل؛ فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف. أقول: ويساعد قول سيبويه مقام التضرع والابتهال؛ فإنه استغاث أولا بقوله: يا الله، ثم أعاد النداء مقررا لمعنى الاستغاثة، ولذلك أطنب في الكلام، إذ لو قيل: ((اللهم صرف قلوبنا على طاعتك)) لكان كافيا في الظاهر، وفي جمع القلوب إشعار برأفته ورحمته على الأمة – عليه الصلاة والسلام – ويجوز أن يكون معنى الدعاء في هذا المقام، أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ((إن قلوب بني آدم)) أخطر في خلده – عليه الصلاة والسلام – ما عسى أن يتوهم متوهم خلاف الشمول، وأن مثل الأنبياء خارجون عن هذا الحكم، فأزيل التوهم بكلمة الشمول، ثم خص نفسه بالتضرع والابتهال إعلاما بأن نفسه القدسية الطاهرة المصطفوية إذا كانت مفتقرة إلى اللجأ منه إليه، كما قال: ((أعوذ بك منك)) كان غيره أولى وأحرى. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من مولود)) مبتدأ و ((يولد)) خبره؛ لأن ((من)) الاستغراقية في سياق النفي يفيد العموم، كقولك: ما أحد خير منك،

الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقولك (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والتقدير: ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلا على هذا الأمر. و ((الفطرة)) تدل على نوع منها وهو الابتداء والاختراع، كالجلسة والقعدة، والمعنى بها ها هنا تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدين حسنه موجود في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} والفاء في ((فأبواه)) إما للتعقيب وهو ظاهر، وإما للتسبيب أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه. وقوله: ((كما)) إما حال من الضمير المنصوب في ((يهودانه)) مثلا، فالمعنى: يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة، وإما صفة مصدر محذوف أي يغيران تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة، فالأفعال الثلاثة أعني: يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، تنازعت في ((كما)) على التقديرين، و ((تنتج)) يروى على بناء المفعول في المغرب عن الليث: وقد نتج الناقة ينتجها نتجا إذا تولى نتاجها حتى وضعت فهو ناتج، وهو للبهائم، كالقابل للنساء، والأصل: من نتجها، ولذا يعدى إلى مفعولين، وعليه بيت الحماسة: وهم نتجوك تحت الفيل سقيا فإذا بني للمفعول الأول قيل: نتجت ولدا إذا وضعته، وعليه حديث الحارث ((كنا إذا نتجت فرس أحدنا فلوا – أي مهرا)) الحديث. و ((الجمعاء)) البهيمة التي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بها لاجتماع سلامة أعضائها، لا جدع بها ولا كي. و ((هل تحسون فيها من جدعاء؟)) في موضع الحال على التقديرين، أي بهيمة سليمة مقولا في حقها هذا القول، وفيه نوع من التأكيد، بمعنى كل من نظر إليها قال هذا القول: لظهور سلامتها. و ((الجدعاء)) البهيمة التي قطعت أذنها، من جدع إذا قطع الأذن والأنف. وتخصيص ذكر الجدع إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر إنما كان بسبب صممهم عن الحق، وأنه كان خليقا فيهم. ((ثم يقول)) والظاهر ثم قرأ، فعدل إلى القول وأتى بالمضارع على حكاية الحال الماضية؛ استحضارا له في ذهن السامع، كأنه يسمع منه عليه الصلاة والسلام، إلا أن قوله: ((لا تبديل)) لا يجوز أن يكون إخبارا محضا، لحصول التبديل، بل يؤول بأن يقال: من شأنه أن لا يبدل، أو يقال: إن الخبر بمعنى النهي، قال حماد بن سلمة في معنى الحديث: هذا عندنا حيث أخذ الله عز وجل عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال: ((ألست بربكم قالوا بلى)).

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): معنى قول حماد في هذا حسن، فكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل، إلا أنه يقول: ((فأبواه يهودانه)) في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين. أقول – والعلم عند الله -: ويؤيد هذا وجوه. أحدها: أن التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام: ((يولد على الفطرة)) إشارة إلى معهود، وهو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} لأن معنى المأمور به بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أثبت على العهد القديم، المعني به في قوله تعالى: {وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. وثانيها: ما جاء في طرق هذا الرواية ((ما من مولود إلا وهو على الملة)) وكذا أورد الترمذي هذا الحديث في كتابه بغير لفظة الفطرة ولفظه ((كل مولود يولد على الملة)) لأن الدين في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عين الملة؛ لقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم)) الحديث، أخرجه مسلم عن عياض المحاسبي. وثالثها: التشبيه بالمحسوس المعاين؛ ليفين أن ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهد، ثم قيده بقوله: ((هل تحسون)) تقريرا لذلك، كما سبق، تلخيضه أن العالم إما عالم الغيب، وإما عالم الشهادة، فإذا نزل الحديث في عالم الغيب أشكل معناه، وإذا صرف إلى عالم الشهادة الذي عليه مبنى ظاهر الشرع سهل تعاطيه، كما قال الخطابي. وتحريره: أن الناظر إذا نظر إلى المولود نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنه ولد على الخلقة التي خلق الله تعالى الناس عليها من الاستعداد للمعرفة وقبول الحق، والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب – حكم بأنه لو ترك على ما هو عليه، ولم يعتوره من الخارج ما يصده عن النظر الصحيح، من فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإلف بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك – استمر على ما كان عليه من الفطرة السليمة، ولم يختر عليه شيئا، ولم يلتفت إلى جنبه سواها، لكن يصده عن ذلك أمثال هذه العوائق. فإن قلت: أمر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا البناء؛ لأنه لم يلحق بأبويه، بل خيف إلحاقهما به لقوله تعالى: {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وكُفْرًا} ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث

91 - وعن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ موسى والخضر – عليهما السلام -: ((الغلام الذي قتله الخضر طبع بوم طبع كافرا)) وهذا الحديث مخرج في الصحيح. قلت: لا ينقضه، بل يرفعه ويشيد بنيانه؛ لأن الخضر – عليه السلام – نظر إلى عالم الغيب، وقتل الغلام، وموسى – عليه السلام – اعتبر عالم الشهادة وظاهر الشرع فأنكر عليه؛ ولذلك لما اعتذر الخضر – عليه السلام – بالعلم الخفي الغائب أمسك موسى عليه السلام. واعلم أن الشيخ التوربشتي ذكر في الحديث وجوها، اختارها من وجوه كثيرة استنبطها العلماء، ونحن اخترنا منها هذا الوجه؛ لكونه أظهر وإلى التحقيق أقرب، و {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. الحديث الثالث عشر عن أبي موسى: قوله: ((قام فينا)) فيه ثلاثة أوجه من الإعراب، أحدها: أن يكون ((فينا، وبخمس)) حالين مترادفين، أو متداخلتين، وذلك أن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الحال الأولى، أي قام خطيبا فينا مذكرا بخمس كلمات. وثانيها: أن يكون ((فينا)) متعلقا بـ ((قام)) بأن يضمن معنى ((خطب)) والثاني حالا أي خطب فينا قائما مذكرا بخمس، و ((قام)) في الوجهين بمعنى القيام، على ما ورد في حديث أوس بن حذيقة الثقفي رضي الله عنه ((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف إلينا بعد العشاء، فيحدثنا قائما على رجليه، حتى يراوح بين قدميه من طول القيام)). وثالثها: أن تعلق ((بخمس)) بـ ((قام)) ويكون ((فينا)) بيانا، كأنه لما قيل: قام بخمس، فقيل: في حق من؟ أجيب: في حقنا وجهتنا، كقوله تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}. ((الكشاف)) في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}. قيل مع من؟ قيل: معه، وكذلك قدر في قوله سبحانه: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. فعلى هذا ((قام)) بمعنى قام بالأمر أي تشمر وتجلد له، فالمعنى: أنه قام بحفظ تلك الكلمات فينا؛ لأن القيام بالشيء هو المراعاة والحفظ له، قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وقال الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. الشارحون: ((بخمس كلمات)) أي بخمس فصول.

((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) رواه مسلم [91]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): وهم يطلقون الكلمة، ويعنون الجملة المركبة المفيدة؛ ولهذا يسمون القصيدة كلمة، وإحدى الكلمات منها ((إن الله لا ينام)) والثانية ((لا ينبغي له أن ينام)) والثالثة ((يخفض القسط ويرفعه)) والرابعة ((يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)) والخامسة ((حجابة النور)). ((شف)): لما كانت الكلمة الأولى تدل بظاهرها على عدم صدور النوم عنه تعالى أكدها بذكر الكلمة الثانية الدالة على نفي جواز صدور النوم عنه، فقال: (ولا ينبغي له أن ينام) ولا يلزم من عدم الصدور عنه عدم جواز الصدور. قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخفض القسط)) ((تو)): فسر بعضهم ((القسط)) في هذا الحديث بالرزق أي يقتره ويوسعه، وإنما عبر عن الرزق بالقسط؛ لأنه قسط كل مخلوق؛ وفسره بعضهم بالميزان، ويسمى الميزان قسطا لما يقع به من المعدلة في القسمة، وهذا أولى القولين بالتقدم، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((يرفع الميزان وبخفضه)) ويجوز أن يكون المراد من رفع الميزان ما يوزن من أرزاق العباد النازلة من عنده، وأعمالهم المرتفعة إليه. ويحتمل أنه أشار إلى أن الله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وأنه يحكم في خلقه بميزان العدل، وبين المعنى بما شوهد من وزن الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا التأويل يناسب الفصل الثاني أعني قوله: ((ولا ينبغي له أن ينام)) أي كيف يجوز عليه ذلك، وهو الذي يتصرف أبدا في ملكه بميزان العدل؟. قوله صلى الله عليه وسلم ((يرفع إليه)) ((قض)): أي إلى خزانته، كما يقال: حمل المال إلى الملك فيضبط إلى يوم الجزاء، ويعرض عليه – وإن كان هو أعلم به – ليأمر ملائكته إمضاء ما قضى لفاعله جزاء له على فعله. ((قبل عمل النهار)) قبل أن يؤتى بعمل النهار، وهو بيان لمسارعة الكرام الكتبة إلى رفع الأعمال، وسرعة عروجهم إلى ما فوق السموات، وعرضهم على الله تعالى، فإن الفاصل بين الليل والنهار آن لا يجزي، وهو آخر الليل وأول النهار، وقيل: قبل أن يرفع إليه عمل النهار، والأول أبلغ، وهو اختصار كلام التوربشتي. ((شف)): الثاني أبلغ؛ لأنه في بيان عظم شأن الله، وقوة عباده المكرمين، وحسن قيامهم بما أمروا؛ ولأن لفظ العمل مصدر فكأنه قال: يرفع إليه عمل الليل، أي المعمول في الليل قبل عمل النهار، فلا حاجة إلى تقدير لفظة الشروع، كاحتياجه إلى تقدير الرفع في المعنى الأول.

ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله صلى الله عليه وسلم: ((حجابه النور)) ((تو)): أشار بذلك إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله، وأشعة عضمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول، وتذهب الأبصار، وتحير البصائر، ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات، لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، وهو ههنا راجع إلى منع الأبصار من الإصابة بالرؤية له بما ذكر، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل، فعبر به عنه. وروى ((حجابه النور، أو النار)) وقد تبين لنا من أحاديث الرواية، وتوفيقات الكتاب على التجليات الإلهية، أن الحالة المشار إليها في هذا الحديث، هي التي نحن بصددها في هذه الدار المستعدة المعدة للفناء، دون الذي وعدنا بها في دار البقاء، والحجاب المذكور في هذا الحديث وغيره يرجع إلى الخلق؛ لأنهم المحجوبون عنه. وقوله: ((سبحات وجهه)) أي جلالته، كذا فسرها أهل اللغة، وقال أبو عبيدة: نور وجهه، و ((سبحات)) بضم السين والباء جمع سبحة، كغرفة وغرفات، فقد قال بعض أهل التحقيق: إنها الأنوار التي إذا رآها الراءون من الملائكة سبحوا وهللوا، لما يروعهم من جلال الله وعظمته، انتهى كلامه. أقول – والله أعلم -: ويعضد قول أهل التحقيق ما روى ابن الأثير في النهاية أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النظر إلى وجه علي عبادة)) قيل: معناه إن عليا رضي الله عنه كان إذا برز قال الناس: لا إله إلا الله ما أشرق هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى! لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى! وكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد، فعلى هذا ((سبحان الله)) كلمة تعجب وتعجيب. ((الكشاف)): فيه معنى التعجب، والأصل في ذلك أن يسبح الله في رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. ((مح)): ذهبوا إلى أن معنى ((سبحات وجهه)) نوره وجلاله وبهاؤه، وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد ههنا مجرد المنع من رؤيته، وسمي نورا أو نارا؛ لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما. والمراد ((بالوجه)) الذات، وبـ ((ما انتهى إليه بصره من خلقه)) جميع المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظه ((من)) لبيان الجنس، وكذا في شرح السنة. وذهب المظهر وغيره إلى أن الضمير في ((بصره)) راجع إلى الخلق، و ((ما)) في ((ما انتهى)) بمعنى من، و ((من خلقه)) بيان له، والأول هو الوجه، وإليه أشار التوربشتي بقوله: ((ولو كشف ذلك الحجاب فتجلى لما وراءه لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا مفطور إلا اضمحل)). ومنى إثبات البصر لله تعالى مذكور في شرح السنة مستقصى. وها هنا وجوه متعلقة بلطائف المعاني ومحسنات البدائع، لا بد من ذكرها.

أحدها: أن قوله: ((ولا ينبغي له أن ينام)) جملة معترضة واردة على التتميم صونا للكلام عن المكروه؛ فإن قوله: ((لا ينام)) لا ينفي جواز النوم، كما قال الأشرف، فعقب به لدفع ذلك التجوز. قال أبو الطيب: وتحقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا فإن حاشاك تتميم في غاية الحسن، ومعنى ((لا ينبغي)) لا يصح، ولا يستقيم النوم؛ لأنه مناف لحال رب العالمين. وثانيها: ((يخفض ويرفع، وعمل الليل، وعمل النهار)) من باب التضاد والمطابقة، والخفض الرفع في القرينتين مستعاران للمعاني من الأعيان. وثالثها: ((لو كشفه)) من الشرط، والجزاء استئنافية مبنية للكلام السابق، كأنه لما قيل: إن حجابه النور، وعرف الخبر المفيد للتخصيص اتجه للسائل أن يقول: لم خص الحجاب بالنور؟ أجيب: أنه لو كان من غيره لاحترق. ورابعها: الجملة الفعلية في النفي والإثبات كلها واردة على صيغة المضارع لإرادة الاستمرار، فالمنفيان فيها يدلان على الدوام من غير انقطاع، والأربع المثبتة على التجدد مع الاستمرار، وأما الجملة الاسمية فدلالتها على سبيل الثبات والدوام في هذا العالم، والشرطية منبئة عن ذلك، لما دلت على أنها مخالفة للنور المتعارف، فإذا انقلبت إلى النور لم يكن كذلك. وفيه دليل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه تعالى لقوله في الدعاء: ((اللهم اجعل قلبي نورا، وفي بصري نورا) وسيجيء أن شاء الله تعالى دلائل على ذلك. وأما المؤمنون إذا صفت بشريتهم عن الكدورات في دار الثواب فيرزقون هذه المنحة السنية، والرتبة العلية. وخامسها: أن معنى الحديث بأسره مسبوك من معنى آية الكرسي؛ فإن قوله سبحانه: {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} مشعر بصفة الإكرام، ومنه إلى الخاتمة مشير إلى صفة الجلال، لما فيه من المنع عن الشفاعة إلا بإذنه، ومن ذكر الكرسي الذي هو سرير الملك، وهو مناسب لحديث الحجاب، وكذلك الحديث إلى قوله: ((حجابه النور)) منبئ عن صفة الإكرام، ومنه إلى آخره عن صفة الجلال، فتكون صفة الجلال محتجبة بصفة الإكرام، فلو كشف حجاب الإكرام لتلاشت الأشياء، وتفنى بتجلي صفات الجلال الكائنات {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ}. ومن أسماء الله الحسنى وصفاته العظمى النور، قال الله تعالى: {وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وبيانه أن قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} مقرر للكلام السابق.

92 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الكشاف)): وهو تأكيد ((للقيوم)) لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون ((قيوما)) وهو مثل قوله: ((لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)) وقوله: {مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} كالتعليل لمعنى القيومية أي كيف ينام، وهو مالك ما في السموات وما في الأرض ومربيهم، ومدبر أمور معاشهم ومعادهم؟ إلى الأول الإشارة بقوله: ((يخفض القسط ويرفعه)) وإلى الثاني بقوله: ((يرفع إليه عمل الليل)) إلى آخره. فإن قلت: فأين معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآية، في الحديث؟ قلت: تخصيص ذكر البصر الذي هو نوع من طريق العلم ملوح إليه، فما أجمعه من كلمات! فما أفصحه من عبارات! ولعمرك إن هذا الحديث سيد الأحاديث، كما أن آية الكرسي سيدة الآيات، والله أعلم. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يد الله ملأى)) أي نعمة الله غزيرة، كقوله تعالى: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}؟ ((الكشاف)): بسط اليد مجاز عن الجود، ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا بسط، ولا فرق بين هذا الكلام وبين ما يقع مجازا عنه كأنهما عبارتان عن معبر واحد. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال! وقال في سورة ((طه)): إنها كناية، وصرح هنا بأنها مجاز، لعله لما كانا متساويين في اللزوم أجاز إطلاق المجاز تارة، والكناية أخرى. ((مظ)): ((يد الله)) أي خزائن الله، أقول: أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها، وهو المجاز المرسل، والقرينة الإضافية ((وملأى)) كالترشيح للمجاز، والمعني بالخزائن قوله: {كُن فَيَكُونُ} على ما ورد ((عطائي كلام، وعذابي كلام، وإنما أمري لشيء إذا ما أردت أن أقول: كن فيكون)). ولذلك لا ينقص أبدا بأن يصب الرزق على عباده دائما. ((لا يغيضها)) استعارة تبعية للتغيض؛ لأن الحقيقة تغيض الماء، قال الله تعالى: {وغِيضَ المَاءُ} وكذلك ((سحاء))؛ لأنه من صفة الماء، يقال: سح يسح سحا فهو ساح، والمؤنث سحاء وهي فعلاء لا أفعل لها، كهطلاء. و ((الليل والنهار)) ظرفان أي وقتهما، ويجوز أن يكون ((ملأى، وتغيضها، وسحاء، وأرأيتم)) على تأويل مقول فيه إخبارا مترادفة لـ ((يد الله)) وأن تكون الثلاثة الأخيرة وصفا

وفي رواية لمسلم: ((يمين الله ملأى – قال ابن نمير ملآن – سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار)). 93 - وعنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للملأى، وأن تكون ((أرأيتم)) استئنافا، وفيه معنى الترقي؛ فإنه لما قيل: ((ملأى)) أوهم جواز النقصان فأزاله بقوله: ((لم يغضها)) وربما يمتلئ الشيء ولم يغض، فقيل: ((سحاء)) ليؤذن بالغيضان، وقرنها بما يدل على الاستمرار من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعها بما يدل على أن ذلك مقررا، غير خاف على كل ذي بصر وبصيرة بعد أن انتقل من ذكر الليل والنهار إلى المدة المتطاولة بقوله: ((أرأيتم)) مستأنفا؛ لأنه خطاب عام ذو خطر، والهمزة في ((أرأيتم)) للتقرير أي أرأيتم ذلك كذلك ولو كان للإنكار لكن الظاهر أن يقال غاض بدل ((لم يغض)) والكلام إلى ههنا إذا أخذته بجملته وزيادته من غير نظر إلى المفردات كان كناية إيمائية، وإليه ينظر قول التوربشتي حيث قال: كل ذلك ألفاظ استعيرت لفضل الغنى، وكمال السعة، والنهاية في الجود، وبسط اليد في العطاء وإن صرح بذكر الاستعارة. قوله: ((وكان عرشه على الماء)) حال من ضمير ((خلق))، وكذا ((وبيده الميزان)) منه أو من الضمير في ((خبر)) كان؛ لأنه خلاف في اسم كان هل يقع منه حال أم لا؟ وسيأتي الكلام في تحقيق ((وكان عرشه على الماء)) في باب ((بدأ الخلق)) في الحديث الأول من الفصل الأول. ((مح)): في شرح صحيح مسلم: ((ملآن)) هكذا وقع في رواية عبد الله بن نمير، قالوا: هذا غلط منه، وصوابه ((ملأى)) بلا نون، كما في سائر الروايات. وأقول: إن أرادوا مما ذكروا رد هذه الرواية نقلا فلا نزاع، وإن أرادوا معنى لعدم مطابقة الخبر المبتدأ تأنيثا وتذكيرا فلا؛ لأن معنى ((يد الله)) إحسانه وإفضاله، فاعتبر المعنى وذكر، وأنشد صاحب الكشاف: تبيت نعمى على الهجران عاتبة سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري ابن جنى عن الإصمعي عن ابن عمرو قال: سمعت رجلا يقول: فلان لعوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جائته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ والله أعلم. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذراري المشكرين)) الذرية من الذر بمعنى التفريق؛ لأن الله تعالى ذرهم في الأرض، وقيل: هو من ذرأ الله الخلق، فتركت همزته.

الفصل الثاني 94 - وعن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب إسنادا [94]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عبادة رضي الله عنه: قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) قال بعض المغاربة: وهو برفع القلم – وإن صحت الرواية بنصبه – فيكون منصوبا على لغة من ينصب خبر إن. قال المالكي: يجوز على مذهب الكسائي أن يكون منصوبا بكان المقدرة أي أن أول ما خلق الله كان القلم، وأنشد: يا ليت أيام الصبا رواجعا! أي كانت رواجعا. وقال المغربي: لا يجوز أن يكون ((القلم)) مفعول ((خلق)) لأن المراد أن القلم أول مخلوق خلقه الله تعالى، ولو جعل مفعولا لوجب أن يقال: إن اسم ((إن)) ضمير الشأن، و ((أول)) ظرف منصوب بـ ((إن)) فينبغي سقوط الفاء من قوله: ((فقال)) فرجع المعنى إلى قوله: ((فقال له: اكتب)) حين خلقه، فلا يكون في الحديث إخبار بأن القلم أول مخلوق، كما يقتضيه معنى الرواية الصحيحة، ورفع القلم. ولو صحت الرواية بالنصب لم تمنع الفاء من تنزيل الحديث على ذلك المعنى، وذلك أن يقدر قبل ((فقال)): أمره بالكتابة ((فقال اكتب)) فيكون هو العامل في الظرف، والجملة مفسرة للضمير. قوله: ((ما كان)) ليس حكاية عما أمر القلم بكتبه، إذ لو كان كذلك لقال: اكتب ما يكون، وإنما هو إخبار باعتبار حاله عليه الصلاة والسلام.

95 - وعن مسلم بن يسار، قال: سئل عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] عن هذه الآية: {وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن مسلم رضي الله عنه: قوله: ((فقال)) تفسير لمحذوف، فالتقدير: سمعت جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حال سؤال السائل عنه فقال، نحو قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} والأصل سمعنا نداء مناد، حذف المضاف وجعل ((ينادي)) حالا من المفعول، ثم فسر النداء بقوله: ((أن آمنوا)) لأن النداء في معنى القول. فإن قلت: كيف يصح أن يكون ((فقال)) تفسيرا مع وجود الفاء؟ قلت: الفاء غير مانعة من ذلك؛ لأن المفسر يعقب المفسر، كما في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} على أن يكون القتل عين التوبة. قوله: ((مسح)) ((قض)): يحتمل أن يكون الماسح هو الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها، وجمع موادها، وإعداد عددها؛ وإنما أسند إلى الله من حيث هو الآمر به، كما أسند إليه التوفي في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} والمتوفى لها هو الملائكة؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ} ويحتمل أن يكون الماسح الباري تعالى، والمسح من باب التمثيل. وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير، كأنه قال: قدر ما في ظهره من الذرية، وقال في معنى الآية: نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل، وخلق الاستعداد فيهم، وتمكينهم من معرفتها، والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا وتخييلا، لا قول ثمة ولا شهادة حقيقة. قال الإمام فخر الدين الرازي: أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية بالحديث؛ لأن قوله: ((من ظهورهم)) بدل من قوله: ((بني آدم)) فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئا، ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال: ((من ظهورهم))، بل يجب أن يقول: من ظهره ذريته. وأجاب الإمام: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه أخرج تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا على نفيه، إلا أن الخبر قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وإخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، ولا منافاة بينهما، فوجب المصير إليهما معا، صونا للآية والخبر عن الاختلاف.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)). فقال رجل:. . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): والتوفيق بينهما أن يقال: المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده، وكأنه صار اسما للنوع كالإنسان، والمراد من الإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان، واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع. وأقول: ونظير معنى الآية على هذا قوله تعالى: {ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} فإن قوله: ((ثم صورناكم)) شامل لآدم أيضا؛ لقوله: {قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} ويعضده ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم، فتلا: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أخرجه أحمد بن حنبل، والنسائي. ورواه محي السنة في معالم التنزيل عن مقاتل وغيره وفي آخره: ((ثم أعادهم جميعا في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال، وأرحام النساء)). ويجيء من الأحاديث في الفصل الثالث ما يزيل الشك ويقطع الريب في أن المراد من هذا الحديث هذا، ولأن السائل كان أشكل عليه معنى الآية. فطلب منه عليه الصلاة والسلام حل إشكاله، فلما فسره عليه الصلاة والسلام بما فسر، وكشف له ما أبهم عليه سكت؛ لأنه كان بليغا عارفا بصناعة الكلام، وإلا لما سكت، وأما تأويل الإمام فينزل على ما تقرر في حديث (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) أن العالم إما عالم الغيب، أو الشهادة، فالحديث وارد في عالم الغيب، والآية في عالم الشهادة، فتحقيق ذلك ما نقل عن المولى العلامة قطب الدين الشيرازي – رحمه الله – أنه تقرر في بداية العقول أن بني آدم من ظهر آدم، فيكون كل ما

ـــــــــــــــــــــــــــــ أخرج من ظهور بني آدم في الإنزال إلى يوم القيامة، هم الذر قد أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأزلي؛ ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في الإنزال من أصلاب بني آدم، هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميقاق الأول، وهو المقالي الأزلي، كما أخذ منه فيما لا يزال بالتدريج حين أخرجزا الميثاق الثاني، وهو الحالي (الإنزالي). والحاصل: أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما: تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم السلام أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة، ويخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا، فقال ما قال من مسح ظهر آدم في الأزل، وإخراج الذرية، والميثاق الآخر، انتهى كلامه. فإن قلت: فكيف يتطابق السؤال عن معنى الآية، والجواب عن معنى الحديث، وبينهما هذا الاختلاف؟ قلت: يتطابق من حيثية الأسلوب الحكيم على منوال قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} سألوا عن بيان ماذا ينفقونه، وأجيبوا ببيان المصرف، وضمن بيان ما ينفقونه، كذا ها هنا سأل الصحابي عن بيان الميثاق الحالي، فأجيب عن المقالي، وضمن فيه الحالي على ألطف وجه، كأنه قيل: الميثاق المسئول عنه ظاهر مكشوف بنصب الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في العقول والبصائر، وجعلها مميزة بين الحق والباطل، لكن هنا ميثاق آخر خفي عن العقول لا يعلمه أحد إلا من أرشده الله إليه، فاسأل عن ذلك، وفائدته توكيد الميثاقين والقيام على العهدين، والله أعلم. ((شف)): قال عليه الصلاة والسلام في حق أهل الجنة: ((ثم مسح ظهره بيمينه)) لأن الخير ينسب إلى اليمين، وفي حق أهل النار ((بيده)) ليفرق بين القبيلين من أهل الجنة والنار، وأعرض عن ذكر الشمال تأديبا على ما ورد ((كلتا يدي الرحمن يمين)).

ففيم العمل؟ يا سول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا خلق العبد للجنة؛ استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار؛ استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار)) رواه مالك، والترمذي، وأبو داود [95]. 96 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يديه كتابان، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ففيم العمل)) وقع في موقع لام الغرض؛ لأن غرض كل شيء غايته، وظرف الشيء غاية حصوله فيه؛ ولهذا ((حيث)) و ((إذا)) يقعان علة، أي في أي شيء يفيد العمل إذا كان كون الرجل من أهل الجنة أو من أهل النار مقدرا قبل هذا؟. قوله: ((استعمله)) ((مظ)): استعمله من قولهم: استعمل إذا ألزم العمل على أحد، وتحقيقه قد مضى في الفصل الأول. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((خرج)) ((تو)): قول الراوي هذا إخبار لتقرير صدقه عما يخبر عنه صلوات الله عليه، واستقصاء في تحقيقه. قوله: ((وفي يديه كتابان)) تمثيل، وذلك أن المتكلم إذا أراد تحقيق قوله، وتفهيم غيره، واستحضار المعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينتقل إليه رأي العين صورة لصورة، وأشار إليه إشارته إلى المحسوس، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما كوشف بحقيقة هذا الأمر، وأطلعه الله تعالى عليه إطلاعا لم يبق معه خفاء،

فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟)) قلنا: لا، يا رسول الله! إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا)). ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم؛ فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا)). فقال أصحابه: ففيم ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل المعنى الحاصل في قلبه بالشيء الحاصل في يده، هذا ونحن لا نستبعد إطلاق ذلك على الحقيقة؛ فإن الله عز وجل قادر على كل شيء، والنبي عليه الصلاة والسلام مستعد لإدراك المعاني الغيبية، ومشاهدة الصور الموضوعة لها. وقوله: ((ألا أن تخبرنا)) استثناء منقطع، أي لا نعلم، ولكن إذا أخبرتنا نعلم، كأنهم طلبوا بالاستدراك إخباره إياهم، ويجوز أن يكون متصلا مفرغا، أي لا نعلمه بسبب من الأسباب إلا بإخبارك. قوله: ((وقال للذي بييده)) أي لأجله. وخص ذكر ((رب العالمين)) من بين الأسماء، دلالة وتنبيها على أنه مالكهم، وهم له مملكون يتصرف فيهم كيف شاء وأراد، فيسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، كل ذلك عدل منه وصواب فلا اعتراض لأحد عليه. قوله: ((وفيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم)) ((شف)): إن أهل الجنة مكتوب أسماؤهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم الذين هم أهل النار في الكتاب الذي باليمين، وفي عكسه أهل النار، ويكتب أسماء آبائهم، وقبائلهم من أهل الجنة في الذي بالشمال، وإلا فالآباء والقبائل إذا كانوا من جنس الأبناء في كونهم من أهل الجنة، أو من أهل النار فلا حاجة إلى إفراد ذكرهم لدخولهم تحت قوله: ((فيه أسماء أهل الجنة، وفيه أسماء أهل النار)). أقول: ولعل الظاهر أن كل واحد من أهل الجنة ومن أهل النار يكتب أسماء آبائهم وقبائلهم – سوار كان من أهل الجنة أو من أهل النار- للتمييز التام، كما يكتب في الصكوك، وهو أنسب بالكتاب، وضمن ((أجمل)) معنى أوقع، فعدى بعلى أي وقع الإجمال على ما انتهى إليه التفصيل. ويجوز أن يكون حالا، أي أجمل في حال وقوع انتهاء التفصيل إلى آخرهم، ومن عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلات، ثم يوقعون في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الجملة، ((فلا يزاد)) جزءا شرط محذوف، أي إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل، والتعيين، والإجمال بعد التفصيل في الصك، فلا يزاد ولا ينقص.

العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: ((سددوا وقاربوا؛ فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)). ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: قد ذكرتم أن حكم الله تعالى لا يتغير فما القول في ((يمحو الله ما يشاء ويثبت))؟ قلت: قوله: ((لكل أجل يمحو الله ما يشاء ويثبت)) إشارة إلى القضاء ((وعنده أم الكتاب)) إلى القدر, المعنى: لكل انتهاء مدة وقت مضروب, فمن انتهى أجله يمحوه, ومن بقي من أجله يبقيه على ماهو مثبت فيه, وكل ذلك مثبت فيه, وكل ذلك مثبت عند الله تعالى في ((أم الكتاب)). وقوله: ((سددوا)) اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق, ((وقاربوا)) اطلبوا قربة الله وطاعته بقدر متطيقونه, وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم, أي فيم أنتم من ذكر القدر, وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا, وسددوا, وقاربوا, وإليه لمح ما قال الشاعر: أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي قوله: ((فرغ ربكم)) ((شف)): أي قدر أمرهم, وذلك أنه لما قسم العياد قسمين, وقجر لكل ثسم على التعيين أن يكون من أهل الجنة, أو من أهل النار, وعينهم تعيننا لا يقبل التغيير والتبديل, فكأنه فرغ من أمرهم, وإلا فالفراغ لا يجوز على الله تعالى. قوله: ((قال بيده)) أي أشار, ((نه)): العرب تجعل القول: عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان فتقول: ((قال بيده)) أي أخذ, و ((قال برجله)) أي مشى: وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب أي أو مأت, و ((قال بالماء على يده)) أي قلب, و ((قال بثوبه)) أي رفعه.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما, ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد (فريق في الجنة وفريق في السعير)) رواه الترمذي [96]. 97 - وعن أبي خزامة, عن أبيه, قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رقى ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله: ((قال بيده فنبذهما)) أي نبذ الكتابين, هذا ك ((جف القلم بما أنت لاق)) كناية عن أن هذا الأمر قد فرغ منه, فصار بمنزلة ما تخلفه وراء ظهرك فيكون قوله: ((فرغ ربكم)) تفسيرا لهذا الفعل. الحديث الرابع عن أبي خزامة رضي الله عنه: قوله: ((رقى نسترقيها)) رقى وما عطف عليها منصوبات, والأفعال أوصاف لها, والمتعلق معنى ((أرأيت)) أي أخبرني عن ((رقى نسترقيها)) فنصب على نزع الخافض, ويجوز أن يتعلق بلفظ ((أرأيت)) والمفعول الأول الصفة مع الموصوف, والثاني الاستفهام على تقديرك مقولا في حقها هل ترد هذا؟ ليس هذا بتعليق؛ إنما التعليق أن يوقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا, كقولك: علمت أيهما عمرو, وعلمت أزيد منطلق, ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} رقى جمع رقية, كظلم وظلمة, وهي ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء.

نسترقيها, ودواء نتداوى به, وتقاة نتقيها, هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: ((هي من قدر الله)) رواه أحمد والترمذي, وابن ماجه [97]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((التقاة)) أصله الوقاة, قلبت الواو تاء, أو هو اسم ما يلتجيء به الناس من خوف الأعداء. ((نه)): وقي يقي وقاية إذا حفظ, ويجوز أن يكون تقاة مصدر بمعنى الاتقاء فحينئذ الضمير في ((نتقيها)) للمصدر, أي نتقي تقاة بمعنى اتقاء وهي من قدر الله سبحانه وتعالى أي هذه الأسباب يعني: كما أن الله تعالى قدر الداء مثلا قدر زواله بالدواء. ومن تداوى ولم يبرأ فاعلم أنه لم يقدر أن يكون التداوي نافعا في ذلك الداء – وإن اجتمع عليه الأطباء – ((تو)): كأن السائل عرف أنه من حق الإيمان أن يعتقد أن المقدور كائن لا محالة ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء, ويأمر بالتداوي, والاتقاء عن مواطن المهلكات, فأشكل عليه الأمر, كما أشكل على الصحابة حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل, فقالوا: ((ففيم العمل؟)) فبين عليه الصلاة والسلام بقوله: ((هي من قدر الله)). ((نه)): وقد جاء في بعض الآحاديث جواز الرقية كقوله صلى الله عليه وسلم: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة)) أي اطلبوا لها من يرقيها, وفي بعضها النهي عنها, كقوله عليه الصلاة والسلام في باب التوكل: ((الذين لا يسترقون, ولا يكتوون)) والأحاديث في القسمين كثيرة. ووجه الجمع بينهما أن الرقية يكره منها: ما كان بغير أسماء الله, وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة, أو بغير اللسان العربي, وما يعتقد منها أنها نافعة لا محالة, فيتكل عليها, وإياها أراد عليه السلام بقوله: ((ما توكل من استرقى)) , ولا يكره منها ما كان على خلاف ذلك, كالتعوذ بالقرآن, وأسماء الله تعالى, والرقية المروية؛ ولذلك قال عليه السلام للذين رقى بالقرآن, وأذخ عليه أجرا: ((من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق)) وقال في الآخر: ((خذوه, واضربوا لي بسهم)). وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا رقية إلا من عين, أو حمة)) فمعناه: لا رقية أولى وأنفع, وهذا كما قيل: لا فتى إلا علي, وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام غير واحد من الصحابة بالرقية, وسمع عليه الصلاة والسلام جماعة يرقون ولم ينكر عليهم. وفي اسم الراوي أبي خزامة خلاف للمحدثين.

98 - وعن أبي هريرة. قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونحن نتنازع في القدر, فغضب حتى احمر وجهه, حتى كأنما فقيء في وجنتيه حب الرمان, فقال: ((أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر, عزمت عليكم, عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه)). رواه الترمذي. [98]. 99 - وروى ابن ماجه نحوه عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده [99]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قوله: ((نتنازع)) أي نتناظر ونتخاصم في أن يقول أحد الخصمين: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقدر الله تعالى فلم يعذب المذنبين, ولم ينسب الفعل إلى العباد, كما قالت المعتزلة؟ والآخر يقول: فما الحكمة في تقدير بعض العباد للجنة, وبعضهم للنار, وما أشبه ذلك؟ وإنما غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن القدر سر من أسرار الله تعالى وطلب سر الله تعالى منهي عنه؛ ولأن من يبحث في القدر لم يأمن أن يصير قدريا, أو جبريا, بل العباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرع, من غير أن يطلبوا ما لا يجوز طلب سره. قوله: ((عزمت عليكم)) أي أقسمت عليكم, وأصله عزمت بإلقاء اليمين وإلزامها عليكم, لا تبحثوا في القدر بعد هذا. قوله: ((فقىء)) شق, من فقأت البهمي إذا شققت لفائفها عن ثمرها, والبهمي نبت. و ((حتى)) الثانية غاية ((احمر)) , والأولى غاية ((غضب)) , والهمزة في ((أبهذا)) للإنكار, قدم الجار والمجرور على العامل, لمزيد الاهتمام بشأن المشار إليه, وكونه منكرا جدا, و ((أم)) منقطعة, والهمزة فيه أيضا للإنكار ترقيا من الأهون إلى الأغلظ, وإنكار غب إنكار ((وإنما هلك)) جملة مستأنفة جواب عما اتجه لهم من أن يقولوا: لم ينكر هذا لإنكار البليغ؟ فأجيب بقوله: ((إنما هلك)) يعني: أن ذلك الإنكار البليغ بسبب هذا العذاب البليغ الذي لا إمهال فيه. وقوله: ((حين تنازعوا في هذا)) القيد إشارة إلى أن غضب الله تعالى وإهلاكه إياهم كان من غير إمهال يعني: من تكلم من الأمم الماضية في القدر عجل الله تعالى إهلاكهم بخلاف سائر المهلكات.

100 - وعن أبي موسى, قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إ، الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والسهل والحزن, والخبيث والطيب)) رواه أحمد والترمذي وأبو داود. [100]. 101 - وعن عبد الله بن عمرو, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة, فألقى عليهم من نوره, فمن أصابه من ذلك النور اهتدى, ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي موسى الأشعري رضي اله عنه: قوله: ((من قبضة))) وهي ما يضم عليه الكف من كل شيء, و ((من)) إذا كان متعلقا ب ((خلق)) تكون ابتدائية أي ابتداء خلقه من قبضة, وإذا كان حالا من ((آدم)) يكون بيانية, والقبضة هاهنا مطابقة لما في قوله تعالى: {والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} في بيان عظمة الله سبحانه وتعالى وجلالة قدره, وأن المكونات الآفاقية والأنفسية منقادة لإرادته, ومسخرات بأمره, فإذا ورد عليها ((كن)) فكانت بما شوهد من الإنسان, وقبضة الشيء على السهولة تسخيرا له. قوله: ((على قدر الأرض)) أي مبلغها من الأكوان, ولما كانت الأوصاف الأربعة من الأمور الظاهرة في الإنسان, والأرض أجريت على حقيقتها, وتركت الأربع الأخيرة مفتقرة إلى تأويل؛ لأنها من الأخلاق الباطنة؛ فإن المعني ب ((السهل)) الرفق واللين, وب ((الحزن)) الخرق والعنف, وب ((الطيب)) الذي يعني به الأرض العذبة الؤمن الذي نفع كله, وب ((الخبيث)) الذي يراد به الأرض السبخة الكافر الذي هو ضر وخسران في الدارين, قال تعالى: {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا} والذي سيق له الكلام في الحديث هو الأمور الباطنة؛ لأنها داخلة في حديث القدر ((من الخير والشر)) وأما الأمور الظاهرة من الأكوان وإن كانت مقدرة فلا اعتبار لها فيه, والله أعلم. الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((خلق خلقه)) أي الثقلين – من الجن, والإنس – ((في ظلمة)) أي كائنين في ظلمة النفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات

ومن أخطأه ضل, فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) رواه أحمد والترمذي [101]. ـــــــــــــــــــــــــــــ المردية, والأهواء المضلة, كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ} والنور الملقى عليهم ما نصب من الشواهد والحجيج, وما أنزل إليهم من الآيات والنذر, وإلى هذا المعنى أشير بقوله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} ومن يشاء هدايته هو الذي أصابه ذلك النور فتخلص من تلك الظلمة واهتدى ومن لم يشأ هدايته بقي في ظلمات الطبيعة مخبطا في الظلمات كالأنعام, بل هم أضل, مثل حال الكفرة المنهمكين في الشهوات, المعرضين عن الآيات. ويمكن أن يحمل قوله: ((خلق خلقة)) على خلق الذر المستخرج في الأزل من صلب آدم عليه السلام, فعبر بالنور عن الألطاف التي هي تباشير صبح الهداية, وإشراق لمعات برق العناية, ثم أشارة بقوله: ((أصاب وأخطأ)) إلى ظهور أثر تلك العناية فيما لا يزال من هداية بعض, وإضلال بعض. و ((الإلقاء)) في الأصل طرح الشيء حيث تلقاه, ثم صار في المتعارف اسما لكل طرح. و ((أخطأه)) جاوزه وتعداه لشقاوته حيث لم تتعلق المشيئة بهدايته, ((فلذلك)) يعني من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من الإيمان, الطاعة, والكفر, والمعصية. أقول: قوله: ((جف القلم)) ((شف)): في هذا تنبيه على أن الإنسان خلق على حالة لا ينفك عن الظللمة إلا من أصابه من النور الملقى عليهم. أقول – والعلم عند الله -: هذا التوفيق بين هذا المعنى وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) أن يقال بأن الإنسان مركب من الروحانية التي تقتضي العروج إلى عالم القدس, هي مستعدة لقبول فيضان نور الله الهادي, ومهيأة للتجلي تجلية الدين, ومن النفسانية المائلة إلى الخلود في الأرض, والإنهماك في الشهوات, والركون إلى المرديات, لاحظ في هذا الحديث لكون الكلام مسوقا في القدر؛ لقوله: ((جف القلم)) معنى ماذكره. ((شف)): وفي ذلك الحديث لمح إلى القضاء بقوله: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) فأجرى الكلام على ما أجراه كما مر بيانه.

102 - وعن أنس, قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)) فقلت: يانبي الله: آمنا بك وبما جئت به, فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله, يقلبها كيف يشاء)) رواه الترمذي ابن ماجه [102]. 103 - وعن أبي موسى, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا لبطن)) رواه أحمد [103]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يا مقلب القلوب)) فإن قلت ما الفائدة في تقديم هذه الكلمات في هذا الحديث, وتأخيرها في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الفصل الأول, وتخصيصه هنا ب ((ثبت)) , وهناك ب ((صرف)) وأضاف القلب إلى نفسه هنا, وهناك مع الجماعة؟ قلت – وبالله التوفيق -: قدم ههنا, وخص بذكر ثبت, وأضاف القلب إلى نفسه تعريضا بأصحابه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مأمون العاقبة فلا يخاف على نفسه وعلى استقامتها؛ لقوله تعالى: {إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ومن ثم خص الدين بالذكر, ولذلك سأل أنس ((هل نخاف على ديننا)) وأخر هناك, وخص ب ((صرف)) وجمعالقلب؛ لأن سوق الكلام لبيان القدر, وكان ذكر الدعاء مستطردا له كما سبق. فإن قلت: لم خص ذكر ((الله)) في هذا الحديث, و ((الرحمن)) في ذلك؟ قلت: كان ذكر ((الرحمن)) هناك؛ لأنه في مطلع الحديث, ورحمته هي السابقة, وهنا جواب عن التعريض, والمقام مقام الهيبة والجلال أي الإلهية مقتضية لأن يخص كل واحد بما يخصه من الإيمان, والطاعة, والكفر والمعصية. الحديث التاسع عن أبي موسى لأشعري رضي الله عنه: قوله: ((مثل القلب)) المثل ههنا

104 - وعن علي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله لإلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق, ويؤمن بالموت, والبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر)) رواه الترمذي, وابن ماجه [104]. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمعنى الصفة لا القول السائر؛ لأن المعني صفة القلب العجيبة الشأن, وورد ما يرد عليه من عالم الغيب من الدواعي, وسرعة تقلبها بسبب الدواعي, كصفة ريشة واحدة تقلبها الرياح بأرض خاالية عن العمران؛ فإن الرياح أشد تأثيرا فيها في العمران, وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهرا لبطن؛ إذا لو استمر الريح على جانب واحد لم يظهر القلب, كما يظهر من الرياح المختلفة, ولفظ ((الأرض)) مقحمة؛ لأن في ذكر الفلاة استغناء عنها, وهو كقولك: أخذت بيدي ونظرت, يعني تقريرا ورفعا للتجوز, وأن يتوهم متوهم خلافه, ولا يسلك إلا في أمر خطير, و ((يقلبها) صفة أخري ل ((ريشة)). ((مظ)): ((ظهرا لبطن)) ظهر بدل البعض من الضمير في ((يقلبها)) واللام في ((لبطن)) بمعنى إلى, كقوله: {مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ} ويجوز أن يكون ((ظهرا لبطن)) مفعولا مطلقا أي يقلبها تقليبا مختلفا, وان يكون حالا أي يقلبها مختلفة؛ ولهذا الاختلاف سمي القلب قلبا. ((غب)): قلب الشيء تصريفه, وصرفه عن وجه إلى وجه, وسمي القلب قلبا لكثرة تقلبه, ويعبر القلب عن المعاني التي يختص به من الروح, والعلم, والشجاعة وغيرها. الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤمن عبد)) هذا نفي أصل الإيمان لا نفي الكمال, فمن لم يؤمن بواحد من هذه الأربعة لم يكن مؤمنا, أحدها: الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, بعثه بالحق إلى كافة الجن والإنس. الثاني: أن يؤمن بالموت حتى يعتقد أن الدنيا وأهلها تفنى, كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ} وهذا احتراز عن مذهب الدهرية؛ فإنهم يقولون: العالم قديم باق. ويحتمل أن يراد ب ((الإيمان بالموت)) أن يعتقد الرجل أن الموت يحصل بأمر الله لا بالطبيعة, خلافا للطبعي؛

ـــــــــــــــــــــــــــــ فإنه يقول: يحصل الموت بفساد المزاج. الثالث: أن يؤمن بالبعث بعد الموت. والرابع: أن يؤمن بالقدر, يعني يعتقد أن جميع مافي العالم بقضاء الله وقدره, كما ذكر قبل هذا. أقول: إن ((حتى)) في قوله: ((حتى يؤمن)) للتدرج, كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا)) يعني لا يعتبر التصديق بالقلب حتى يتمكن منه التصديق إلى أن يبلغه إلى هذه الأوصاف الأربعة. وقوله: ((بعثني بالحق)) استئناف, كأنه قيل: لم يشهد بذلك؟ فأجيب ((بعثني بالحق)) أي لأن الله بعثني بالحق. ويجوز أن يكون حالا مؤكدة, أو خبرا بعد خبر, فعلى هذا يدخل في حيز الشهادة. وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية معنى قول الشاهد لا قوله؛ فإن قوله: ((أن محمدا رسول الله بعثه بالحق)). فإن قلت: لم ذكر في الثلاث الأخيرة لفظة: ((يؤمن)) وذكر في الأولى لفظة ((يشهد))؟ قلت: ((يشهد)) إلى آخر تفصيل لقوله: ((حتى يؤمن بأربع)) فلن يكون التفصيل مخالفا للمجمل, كأن أصل الكلام أن يقال: يؤمن بالله بأن الله واحد لاشريك له, وبأني رسول الله عليه الصلاة والسلام حقا, ويؤمن بكذا, ويؤمن بكذا, فعدل إلى لفظ الشهادة أمنا من الالتباس, ودلالة على أن النطق بالشهادتين أيضا ركن من الأركان؛ ولأن هذه الشهادة غاية للإيمان, ويتدرج منه إليه, فلا يتصور الشهادة باللسان دون التصديق بالقلب, كأنه قيل: يشهد باللسان بعد التصديق الراسخ في القلب. قوله: ((يؤمن بالموت)) أي يؤمن أن الموت حق, وان البعث حق, وتكريم الموت إيذان باهتمام شأنه, فهو مثل قوله تعالى: {ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} في أن المراد اهتمام شأن الموت, ثم الذي يليه من البعث؛ فإن الموت ذريعة إلى وصول السعادة الكبرى, ووسيلة إلى ارتقاء الدرجة العليا. ((غب)): ((الموت)) أحد الأسباب الموصلة إلى النعم, فهو وإن كان في الظاهر فناء زاضمحلالا, لكن في الحقيقة ولادة ثانية, وهو باب من أبواب الجنة, منه يتوصل إليها, ولو لم يكن لم تكن الجنة من الله تعالى على الإنسان, فقال: {خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ} قدم ((الموت)) على ((الحياة)) تنبيها على أنه يتوصل منه إلى الحياة الحقيقية, وعده علينا من الآلاء في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ونبه الله تعالى بعد قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} على أن هذه التغييرات لخلق أحسن, فنقض هذه البنية لإعادتها على وجه أشرف, كالنوى المزروع الذي

105 - وعن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [حسن صحيح] [105]. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يصير نخلا مثمرا إلا بعد فساد حبتها, وكذلك البر إن أردنا أن نجعله زيادة في أجسادنا نحتاج إلى أن يطحن, ويعجن, ويطبخ, ونأكل, فهذه تغيرات كثيرة, هي فسادات في الظاهر, وكذا البذر إذا ألقى في الأرض يعده من لا يتصور حاله فسادا, فالنفس لا تحب البقاء في هذه الدار إلا إذا كانت قذرة راضية بالأعراض الدنيئة, رضى الجعل بالحش, أو تكون جاهلة نجاتها في المآل, والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((صنفان من أمتي)) ((تو)): الصنف النوع, و ((المرجئة)) بهمزة, من الإرجاء وهو التأخير, قيل: ((المرجئة)) هم الذين يقولون: ((الإيمان قول بلا عمل)) فيؤخرون العمل عن القول, وهذا غلط منهم؛ لأنا وجدنا أكثر أصحاب الملل والنحل ذكروا أن ((المرجئة)) هم ((الجبرية)) الذين يقولون: ((إن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات)) فالجبرية خلاف القدرية, وبعض القدرية ألحقوا هذا النبز بالسلف ظلما وعدوانا, وسميت ((الجبرية)) مرجئة؛ لأنهم يؤخرون أمر الله, ويرتكبون الكبائر, وهم يذهبون في ذلك إلى الإفراط, كما تذهب القدرية إلى التفريط, وكلا الفريقين على شفا جرف هار. و ((القدرية)) إنما نسبوا إلى القدر – وهو ما يقدره الله تعالى – لأنهم يدعون أن كل عبد خالق فعله من الكفر والمعصية, ونفوا أن ذلك بتقدير الله وهؤلاء الضلال يزعمون أن القدرية هم الذين يثبتون القدر. والجواب: ونحن لا نثبت هذا السر من طريق القياس حتى تقابلونا بدعواكم هذه, وإنما أخذناه من النصوص الصحيحة فمنها: ((إنا كل شيء خلقناه بقدر)) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأن يؤمن بالقدر خيره وشره)) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل شيء بقدر)) ومنها ((القدرية مجوس هذه الأمة)) في أحاديث لا تحصى كثرة.

106 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في أمتي خسف ومسخ، وذلك في المكذبين بالقدر)) رواه أبو داود، وروى الترمذي نحوه [106]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال في قوله: ((ليس لها في الإسلام نصيب)): ربما يتمسك به من يكفر الفريقين، والصواب أن لا يسارع إلى أن يكفر أهل الأهواء المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق فلم يحصل لهم غير ما زعموه، فهم إذا بمنزلة الجاهل، أو المجتهد المخطئ. وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظراً واحتياطاً، فيجري قوله: ((لا نصيب لهم)) مجرى الاتساع بين بيان سوء حظهم، وقلة نصيبهم من الإسلام: نحو قوله للبخيل: ليس له من ماله نصيب وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في أمتي خسف ومسخ)) وقوله: ((ستة)) لعنهم الله)) وأمثال ذلك؛ فإنها تحمل على المكذب به إذا أتاه من البيان ما ينقطع العذر دونه، أو على ما يفضي به المعصية إلى تكذيب ما ورد فيه من النصوص، أو إلى تكفير من خالفه. وأمثال هذه الأحاديث واردة على التغليظ والتشديد زجراً وردعاً. الحديث الثاني عشر عن ابن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((خسف)) خسف المكان ذهب في الأرض، وخسف الله به خسفاً أي غاب به في الأرض، و ((المسخ)) تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها. ((شف)): معنى الحديث: إن يكن خسف ومسخ يكونا في المكذبين، أقول: لعله اعتقد أن هذه الأمة المرحومة مأمونة من الخسف والمسخ فأخرج الكلام مخرج الشرطية. وقوله: ((ذلك)) يؤذن أن الذي قبله إنما يستحق العذاب بسبب ما ذكره بعده من التكذيب على عكس قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ} {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وقد سبق عن التوربشتي أن الحديث من باب التغليظ والتشديد فلا يفتقر إلى تقدير الشرط. وأبو سليمان الخطابي ذهب إلى وقوع الخسف والمسخ في هذه الأمة، قال: ((المسخ)) قد يكون في هذه الأمة، وكذلك ((الخسف)) كما كانا في سائر الأمم، خلاف قول من زعم: أن ذلك لا يكون؛ إنما مسخها بقلوبها، ذكره في أعلام السنن.

107 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) رواه أحمد، وأبو داود [107]. 108 - وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) رواه أبو داود [108]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((القدرية مجوس هذه الأمة)) هذا التركيب من باب قولهم: ((القلم أحد اللسانين)) كما مر في حديث عائشة رضي الله عنها ((عصفور من عصافير الجنة)). ولفظ ((هذه)) إشارة إلى تعظيم المشار إليه، وإلى النعي إلى القدرية، والتعجب منهم، أن انظروا إلى هؤلاء، كيف امتازوا من هذه الأمة المكرمة بهذه الهيئة الشنيعة حيث نزلوا من أوج تلك المناصب الرفيعة إلى حضيض السفالة والرذالة. وخص النهي عن حقوق المسلمين على المسلمين بهاتين الخصلتين، لأنهما ألزم وأولى، وذلك أن المرض والموت حالتنا مفتقرتان إلى الدعاء له بالصحة، والصلاة عليه بالمغفرة. ((تو)): إنما قال لهم ((مجوس هذه الأمة))؛ لأنهم أحدثوا في الإسلام مذهباً يضاهي مذهب المجوس من وجه، وهو أن المجوس يضيفون الكوائن في دعواهم الباطلة إلى إلهين اثنين يسمون أحدهما يزدان، والآخر أهرمن، ويزعمون أن يزدان يأتي منه الخير والسرور وأن أهرمن يأتي منه الغم والشرور، ويقولون ذلك في الأحداث والأعيان، فيضاهي قولهم الباطل في إضافة الخير إلى الله، وإضافة الشر إلى غيره، (مذهب المجوس) غير أن القدرية يقولون ذلك في الأحداث دون الأعيان. أقول: هذا تقرير كلام الخطابي، ومذهب المعتزلة بخلاف ذلك، قال الزمخشري في ((كتاب المنهاج)): فإن قلت: الحسنة والسيئة من الله أم من العبد؟ قلت: الحسنة التي هي الخصب {والسعة من الله} والصحة من الله، وأما الطاعات فمن العبد، ولكن الله قد لطف به في أدائها وبعثه عليها، والسيئة التي هي [الخطب والقحط] والمرض من الله تعالى، وهو صواب وحكمة، وأما المعصية فمن العبد، والله تعالى بريء منها. الحديث الرابع عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ولا تفاتحوهم)) الفتاحة – بضم الفاء وكسرها – الحكم، قال الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} أي احكم، وقيل: لا تبتدءوهم بالمجادلة والمناظرة، و ((لا تفاتحوهم)) وهو من (باب) عطف الخاص على العام؛ لأن المجالسة تشتمل على المؤاكلة، والمؤانسة، والمحادثة

109 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي يجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله ويذل من أعزه الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي)). رواه البيهقي في ((المدخل)) ورزين في كتابه [109]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرها، وفتح الكلام في حديث القدر أخص من ذلك. ((مظ)): ((لا تفاتحوهم)) لا تناظروهم، ولا تبحثوا معهم عن الاعتقاد؛ فإنهم يوقعونكم في الشك، ويشوشون عليكم اعتقادكم. الحديث الخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لعنهم الله)) فيه وجهان، أحدهما: أنه إنشائي دعا عليهم، فيكون ((وكل نبي يجاب)) حالا من فاعل ((لعنتهم)) والجملة معترضة بين الحال وصاحبها. وثانيها: أن يكون إخبارياً استئنافاً، كأنه لما قيل: ((لعنتهم)) سئل فماذا بعد؟ فأجيب ((لعنهم الله)) فيكون الثانية مسببة عن الأولى. ويحتمل العكس، وذلك أنه حين قال: ((لعنتهم)) سأل سائل لم ذا؟ فأجاب لأنه ((لعنهم الله)) فعلى هذا يكون قوله: ((وكل نبي يجاب)) معترضاً بين البيان والمبين، يعني من شأن كل نبي أن يكون (مستجاباً). ((تو)): لا يصح عطف ((وكل نبي يجاب)) على فاعل ((لعنتهم)) وصححه الأشرفي لوجود الفاصل – وإن لم يؤكد بالضمير – وفيه نظر؛ لأن المانع هو عطف الجملة على المفرد. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ((يجاب)) صفة لا [خبراً]؟ قلت: يلزم من ذلك أن لا يكون بعض الأنبياء مجاب الدعوة، ومنه فر التوربشتي، وأبطل رواية الخبر في ((يجاب)) [فيكون المعنى على هذا التقدير: ولعنهم كل مجاب]. قوله: ((الزائد في كتاب الله)) يجوز أن يراد به من يدخل في كتاب الله ما ليس منه، أو أن يأول بما يأبى عنه اللفظ ويخالف المحكم، كما فعلت اليهود بالتوراة من التبديل والتحريف. والزيادة في كتاب الله كفر، وتأويله بما يخالف الكتاب والسنة بدعة. ((تو)): ((الجبروت)) فعلوت، من التجبر، وإنما يطلق ذلك في صفة الإنسان على من يجبر نقيصته بإدعاء منزلة من التعالي لا يستحقها. أقول: ((اللام)) في قوله ((ليعز)) إذا كان للتعليل يلزم منه جواز التسلط بالجبروت لغير ذلك ظاهراً، فيجب أن تحمل اللام على مثلها في قوله: ((لدوا للموت، وابنوا للخراب)) وهي التي تسمى بلام العاقبة.

110 - وعن مطر بن عكام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة)). رواه أحمد، والترمذي [110]. 111 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين؟ قال: ((من آبائهم)). فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((المستحل لحرم الله)) حرم مكة يعني من فعل في حرم مكة ما لا يجوز فعله من الاصطياد، وقطع الشجر، ودخولها بغير إحرام. ((والعترة)) القرابة، يعني من فعل بأقارب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما لا يجوز فعله من إيذائهم، وترك تعظيمهم. وتخصيص ذكر ((الحرم)) ((والعترة)) لشرفهما؛ لأن أحدهما منسوب إلى الله، والآخر إلى رسول الله، فعلى هذا ((من)) في ((من عترتي)) ابتدائية متعلقة بالفعل. قيل: يجوز أن تكون بيانية، وأن يراد بهذا ((المستحل)) من يستحل من أولاد رسول الله عليه الصلاة والسلام شيئاً من ((مستجاب الدعوة)). وفيه تعظيم الجرم منهم كتعظيم الجرم الصادر عنهن – أزواج الرسول – في قوله: ((من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذب ضعفين)). قوله: ((والتارك لسنتي)) استخفافاً بها وقلة مبالاة، فهو كافر ملعون، ومن تركها تهاوناً وتكاسلا لا عن استخفاف بها فهو عاص، واللعنة عليه من باب التغليظ. الحديث السادس عشر عن مطر بن عكام رضي الله عنه: ظاهر. الحديث السابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ذراري المؤمنين)) أي ما حكم ذراري المؤمنين؟ ((من آبائهم)) ((من)) فيها اتصالية كما في قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا من دد، ولا الدد مني)) وقولهم: ((فإني لست منك، ولست مني)). ((الكشاف: في انتسابه، فالمعنى: هم متصلون بآبائهم. قولون: ((بلا عمل)) وارد على سبيل التعجب في أنهم متصلون بآبائهم بلا عمل يوجب لهم الثواب والعقاب. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) رد لتعجبها، وإشارة إلى القدر؛ ولهذا وضعه محيي السنة في باب القدر. ((تو)): ((قال: من آبائهم)) أي معدودين من جملتهم؛ لأن الشرع يحكم عليهم بالإسلام لإسلام أحد الأبوين، ويأمر بالصلاة عليهم، وبمراعاة أحكام المسلمين فيهم، وكذلك يحكم على

عاملين. قلت: فذراري المشركين؟ قال: ((من آبائهم)). قلت: بلا عمل؟ قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)). رواه أبو داود [111]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذراري المشركين بالاسترقاق، وبمراعاة أحكام المشركين فيهم قبل ذلك، وبانتفاء التوارث بينهم وبين المسلمين، فهم ملحقون في ظاهر الأمر بآبائهم. قوله: (([و] الله أعلم بما كانوا عاملين)) ومن ثمة قال النواوي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء فيمن مات من أطفال المشركين، فمنهم من يقول: هم تبع لآبائهم في النار، ومنهم من توقف فيهم، والثالث – وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون -: أنهم من أهل الجنة، واستدل بأشياء، منها حديث إبراهيم خليل الله عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم ((وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله؛ وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في صحيحه، ومنه قوله تعالى: ((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ فيلزم الحجة، وهذا متفق عليه. أقول – والعلم عند الله -: والحق الأول؛ يعني التوقف، لما ورد في مسند أحمد بن حنبل عن علي في حديث خديجة في أولادها كما سيجيء في الفصل الثالث من هذا الباب، وحديث الوائدة والموءودة في النار)) مخالف لحديث إبراهيم عليه السلام، فالوجه أن يبني الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها. وقولها: ((عصفور من عصافير الجنة)) في شأن ولد من المسلمين، كما سبق أن إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: ((أو غير ذلك كان))؛ لأن حكمها على الصغير حكم على أبويه، و [الجزم] بأنهما من أهل الجنة؛ لأن الصغير تابع لهما، فعلى هذا أولاد المشركين الذين كانوا بين يدي إبراهيم الخليل عليه السلام هم المشركون الذي لم يسلموا حينئذ، ثم في المآل آمنوا. وأما ولد خديجة، والموءودة، [فهم] الذين مات آباؤهم على الكفر، وأما قوله تعالى: ((ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) فيحتمل أن يراد بالعذاب الاستئصال في الدنيا؛ لأن ((حتى)) تقتضي ظاهراً أن يكون العذاب في الدنيا، ويعضده ما أتبعه من قوله: {وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} وقد يشتمل عذاب الاستئصال في الدنيا الظالم وغيره قال الله تعالى: ((واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)) وحديث الخسف بالزوراء ((يخسف بهم جميعاً، ويحشرون على قدر نياتهم)) معلوم، فحينئذ لا يتم الاستدلال بالآية.

112 - وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوائدة والموءودة في النار)). رواه أبو داود [112] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): الثواب والعقاب ليسا لأحد بالأعمال، وإلا لزم أن لا يكون ذراري المسلمين والكفار من أهل الجنة والنار، بل الموجب لهما هو اللطف الرباني، والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم، بل هم [وآباؤهم] وأصول أكوانهم بعد في العدم، فالواجب فيها التوقف وعدم الجزم بشيء من ذلك، فإن أعمالهم موكولة إلى علم الله تعالى فيما يعود إلى أمر الآخرة من الثواب والعقاب؛ لأن السعادة والشقاوة ليستا معللتين [عندنا]، بل الله تعالى خلق من شاء سعيداً، ومن شاء شقياً، وجعل الأعمال دليلا على السعادة والشقاوة، وأنت تعلم أن عدم الدليل وعدم العلم به – لا يوجبان عدم المدلول والعلم بعدمه، وكما أن البالغين منهم شقى وسعيد، وأما الذين شقوا، فهم مستعملون بأعمال أهل النار حتى يموتوا عليها، فيدخلوا النار فأما الذين سعدوا فهم موفقون للطاعات وصالح الأعمال، حتى يتوفوا عليها فيدخلوا الجنة، فأطفال منهم من سبق القضاء بأنه سعيد من أهل الجنة، فهو لو عاش عمل أعمال أهل الجنة، ومنهم من جف القلم بأنه شقى من أهل النار، فهو لو أمهل لاشتغل بالعصيان وانهمك في الطغيان. الحديث الثامن عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((الوائدة)) وأد ابنته يئدها وأداً [فهي] موءودة: إذا دفنها في القبر وهي حية. ((قض)): كانت العرب في جاهليتهم يدفنون البنات حية، فالوائدة في النار لكفرها وفعلها، والموءودة فيها لكفرها، وفي الحديث دليل على تعذيب أطفال المشركين، ولعل المراد بـ ((الوائدة)) القابلة، وبـ ((الموءودة)) الموءودة لها – وهي أم الطفل – فحذفت الصلة، إذا كان من دينهم أن المرأة إذا أخذها الطلق حفر لها حفرة عميقة فجلست عليها، والقابلة وراءها تترقب الولد، فإن ولدت ذكراً [أمسكت]، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحفرة وأهالت التراب عليها. قلت: هذا الحديث والذي قبله إنما أورد في هذا الباب استدلالا على إثبات القدر، وتعذيب أطفال المشركين، ومن أراد تأوليهما بغير هذا فيجب عليه أن يخرجهما من هذا الباب. وأما قولهم: ورد هذا الحديث في قصة خاصة، وهي أن ابني مليكة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه عن أم لهما، كانت تئد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الوائدة والموءودة في النار)) فلا يجوز حمله على العموم. فجوابه: أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب عند قيام الشواهد، روينا في كتاب جامع الصحيح لأبي محمد الدارمي عن الوضين: ((أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية، وعبدة أوثان، وكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أحانت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، ودعوتها يوماً فاتبعتني فممرت حتى أتينا

الفصل الثالث 113 - عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرغ إلى كل عبد من خلقه من خمس: من أجله، وعمله، ومضجعه، وأثره، ورزقه)) رواه أحمد [113]. 114 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه)) رواه ابن ماجه [114]. ـــــــــــــــــــــــــــــ بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها، فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه! يا أبتاه! فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه، فقال رجل من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له: كف، فإن يسأل عما أهمه، ثم قال له: أعد على حديثك، فأعاده فبكى حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته، ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما علموا، إذا فاستأنف عملك)). الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((فرغ إلى كل عبد)) فرغ يستعمل باللام يقال: فرغ لكذا، واستعماله بإلى إما للتضمين، أو يكون حالا، انتهى تقديره في الأزل من تلك الأمور إلى تدبير العبد بأبدانها، كما سبق من قوله: ((شئون يبديها لا يبتديها)). ويجوز أن يكون ((إلى)) بمعنى اللام، يقال: هداه إلى كذا، أو لكذا. و ((من)) في ((من خلقه)) صلة ((فرغ))، أي من خلقته، ومما يختص به، وما لابد منه من الأجل، والعمل وغيرهما، و ((من خمس)) عطف عليه، ولعل سقوط الواو من الكاتب، ويمكن أن يقال: إنه بدل منه بإعادة الجار، والوجه أن يذهب إلى أن ((خلقه)) بمعنى مخلوقه، و ((من)) فيه بيانية، و ((من)) في ((من خمس)) متعلق بـ ((فرغ)) أي فرغ إلى كل عبد كائن من مخلوقه من خمس، و ((أثره)) أي أثر مشيته في الأرض، لقوله تعالى: {ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ} جمع بين مضجعه وأثره، وأراد سكونه وحركته، ليشتمل جميع أحواله من الحركات والسكنات. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من تكلم في شيء من القدر)) قال: ((في

115 - وعن ابن الديلمي، قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه؛ عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء)) ولم يقل: ((في القدر)) ليفيد المبالغة في القلة، وفي النهي عنه، أي من تكلم بشيء يسير منه يسأل عنه يوم القيامة، فكيف بالكثير منه؟ فالسؤال للتهديد. الحديث الثالث عن ابن الديلمي: قوله: ((في نفسي شيء)) أي حرارة واضطراب عظيم أريد منك الخلاص منه، فحدثني بحديث يزيل ذلك مني، قال: أولا ((في نفسي)) وثانياً ((في قلبي)) إشعاراً بأن ذلك تمكن منه، وأخذ بمجامعه من ذاته وقبله. وقوله: ((أن يذهبه)) أدخل ((أن)) في خبر ((لعل)) تشبيهاً لها بعسى. وقوله: ((ولو أن الله عذب)) إرشاد عظيم وبيان شاف لإزالة ما طلب منه؛ لأنه هدم به قاعدة القول بالحسن والقبح عقلاً؛ لأنه مالك السموات والأرض وما فيهن، ويتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يتصور فيه الظلم؛ لأنه لا يتصرف في ملك غيره. ثم عطف عليه ((لو رحمهم)) إيذاناً بأن رحمته على الخلق ليست من إيجابهم عليه سبب أعمالهم، بل هو فضل ورحمة منه ولو شاء أن يصيب برحمته الأولين والآخرين، لا يخرج ذلك من حكمة وراء ما يحيط علمنا به. - وقوله: ((ولو أنفقت)) تمثيل على سبيل الفرض، لا تحديد، إذ لو فرض الإنفاق ملء السموات والأرض كان كذلك. وقوله: ((تعلم أن ما أصابك)) شروع في التخصيص بعد التعميم، وقوله: ((لم يكن ليخطئك)) وضع موضع المحال، كأنه يقول: محال أن يخطئك، كقوله تعالى: {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ} أي لا ينبغي ولا يصح، ومحال أن يطلعكم عليه؛ لأن فيه ثلاث مبالغات، أحدها: دخول الله المؤكدة للنفي في الخبر، وثانيها: تسليط النفي على الكينونة، وثالثها: سرايته في الخبر. قال بعض المغاربة: فائدة دخول ((كان)) المبالغة في نفس الفعل الداخلة هي عليه؛ لتعديد جهته، لنفيه عموماً باعتبار الكون، وخصوصاً باعتبار الخبر، فهو نفى مرتين، تم كلامه. [كأنه أشير] إلى أن هذا الفعل من الشئون التي عدمها راجح على الوجود، وأنها من قبيل المحال، ومنه قوله تعالى: {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنتَ فِيهِمْ}.

لم يكن ليصيبك. ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه [115]. 116 - وعن نافع، أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام. فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في أمتي – أو في هذه الأمة – خسف، أو مسخ، أو قذف في أهل القدر)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب [116]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ما أخطأك)) ((غب)): الخطأ العدول عن الجهة، ومن أراد شيئاً واتفق غيره، يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده، يقال: أصاب. واستعماله في الحديث مجاز، وفي سؤاله عن الصحابة واحداً بعد واحد، واتفاقهم في الجواب من غير تغيير، ثم انتهاء السؤال إلى حضرة الرسالة – حفت بالصلوات التامات – دليل على الإجماع المستند إلى النص الجلي. انظر إلى هذه التشديدات والمبالغات، ثم احكم على من خالفها بالمكابرة والعناد. ثم في قوله: ((وتعلم أن ما أصابك)) على الخطاب العام حث على التوكل، والتسليم، والرضي، ونفى الحول والقوة إلا بالله، وبعث على التصليب في دين الله مع [الأعداء]، والمضي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مبالاة بأحد، ولزوم القناعة والصبر على المصيبات من الأهل والمال والولد، وعلى المرابطة للنفس الأمارة بالسوء في طريق السلوك، والعروج إلى معارج القدس – رزقنا الله، ووفقنا لإدراكه. الحديث الرافع عن نافع: قوله: ((إنه)) الضمير المنصوب فيه للشأن، والجملة بعده مفسرة له، وهو الخبر. قوله: ((أحدث)) أي أحدث في الدين ما ليس منه، من التكذيب بالقدر. قوله: ((فلا تقرئه مني السلام)) كناية عن عدم قبول إسلامه. قوله: ((والقذف)) الرمي بالحجارة، يريد عذاب الرمي، كقوله تعالى: {وأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [من السماء] والعطف بـ ((أو)) إما لشك الرواي، أو لتنويع العذاب. قوله: ((في أهل القدر)) بدل للبعض من قوله: ((في أمتي)) بإعادة العامل.

117 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هما في النار)). قال: فلما رأى الكراهة في وجهها قال: ((لو رأيت مكانهما لأبغضتهما)). قالت: يا رسول الله! فولدي منك؟ قال: ((في الجنة)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم [بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]) رواه أحمد [117]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((عن ولدين)) أي سألت عن شأنهما، وأنهما في الجنة أم في النار؟ فقال: ((هما في النار)) وفيه دليل على أن الأولاد تابعة لآبائهم في الآخرة دون أماتهم؛ ولذلك استشهد صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. وأما طريق الاستشهاد لإلحاق أولاد الكفار بهم بالآية، أن يقال: لا ارتياب أن هذا الإلحاق لكرامة الآباء، ومزيد سرورهم وغبطتهم في الجنة، وإلا فينغص عليهم كل نعيم، ومن ثم قالوا: ((والذين آمنوا)) في موضع نصب، على تقدير: وأكرمنا الذين آمنوا ألحقنا بهم ذريتهم على شريط التفسير. الكشاف: ((والذين آمنوا)) مبتدأ، و ((إيمان)) (خبر)، والتنكير في ((إيمان)) للتعظيم. والمعنى بسبب إيمان عظيم، رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم – وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم، ليتم سرورهم، ويكمل نعيمهم، وهذا المعنى مفقود في حق [الكفار و] أولاد الكفار. وقوله: ((لو رأيت)) أي لو رأيت منزلتهما من الحقارة والبعد عن نظر الله، لرأيت الكراهة، وأبغضتهما. ومنه حديث إبراهيم عليه السلام مع أبيه في القيامة، ورؤيته إليه [بصفة] ذبح ملطخ. أو لو علمت ((مكانهما)) أي منزلتهما، وبغض الله إياهما، لأبغضتهما، وتبرأت منهما تبرأ إبراهيم [عن] أبيه حيث تبين أنه عدو الله.

118 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط عن ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: أي رب! من هذا؟ قال: داود. فقال: رب! كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: رب زده من عمري أربعين سنة)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نسمة)) النسمة كل ذي روح، وقيل: كل ذي نفس، مأخوذة من النسيم، و ((هو خالقها)) صفة لـ ((نسمة))، ذكرها ليتعلق به ((إلى يوم القيامة)). ((الوبيص)) البريق واللمعان. وفي هذا دليل على أن إخراج الذرية كان حقيقياً، وتفسير قوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بالحديث كما ذكرنا عن القاضي في الوجه الأول من ذلك الحديث أظهر من الوجه الآخر. وقوله: ((وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً)) إيذان بأن الذرية كانت في صورة الإنسان على مقدار الذرة، وفي ذكر ((الوبيص)) تنبيه على الفطرة السليمة الأصلية كما مر، وفي تخصيص التعجب من وبيص داود عليه السلام إظهار لكرامة من كراماته، ومدح له، فلا يدل على تفضيله على الغير؛ فإن في الأنبياء من هو أفضل منه، وأكثر كرامة. وفيه إشارة إلى ما رواه الشيخان ((يهرم ابن آدم، ويشب فيه اثنان: الحرص على المال، والحرص على العمر)). و ((نسى آدم)) وارد على سبيل الاستطراد، وابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد، والنسيان، والخطأ، إلا من عصمه الله بتوفيقه. و ((بين عيني)) ثاني مفعول ((جعل)) أي جعل وبيصاً علامة بين عينيه، ويجوز أن يكون جعل بمعنى خلق، وحينئذ يكون ((بين عيني)) ((ظرفاً له))، و ((كم)) مفعول مقدم؛ لكونه استفهاماً، أي كم سنة ((جعلت عمره)) و ((أربعين)) ثاني مفعولي ((زد)) كقوله تعالى: {وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}. قال أبو البقاء: زاد يستعمل لازماً كقولك زاد الماء، ويستعمل متعدياً إلى مفعولين، كقوله: زدته درهما، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}. و ((من عمري)) صفة ((أربعين)) فقدم، فصار حالا. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((انقضى عمر آدم إلى أربعين)) وبينه إذا قيل: بقي من عمر آدم أربعون. قلت: في الاستثناء توكيد ليس فيه. قال الزجاج في قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}: الاستثناء يستعمل في كلامهم، وتأويله تأكيد العدد وكماله، لأنك قد تذكر الجملة ويكون الحاصل أكثرها، وإذا أردت التوكيد في تمامها قلت: كلها، وإذا أردت التوكيد في

داود؟! فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة، فنسيت ذريته، وخطأ وخطأت ذريته)). رواه الترمذي [118]. 119 - وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)). رواه أحمد [119]. 120 - وعن أبي نضرة، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يقال له: أبو عبد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ نقصانها أدخلت الاستثناء، تقول: جاءني إخوتك، يعني: أن جميعهم جاءوك، وجائز أن يعني؛ أن أكثرهم جاءوك، فإذا قلت: كلهم أكدت معنى الجماعة، وأعلمت أنه لم يتخلف منهم أحد، وإذا قلت: إلا زيداً، أكدت أن الجماعة تنقص زيداً، ولهذا السر صارت هذه الصيغة أصلا في الاعتبار، ومقيساً عليها، فافهم. الحديث السابع عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((حين خلقه)) ظرف لقوله: ((فضرب)) ولا يمنع ((الفاء)) من العمل؛ لأنه ظرف، على أن ((الفاء)) السببية أيضاً غير مانعة لعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فإن {لإيلافِ قُرَيْشٍ} متعلق بقوله: ((فليعبدوا)) على تقدير الشرط، أي إما ((لإيلاف قريش)) متعلق بقوله: ((فليعبدوا)) على تقدير الشرط، أي إما لا فليعبدوا، كذا في الكشاف، يقول العرب: افعل هذا إما لا، أي إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا. أو تقديم الظرف مع وجود فاء التعقيب للدلالة على أن الإخراج لم يتخلف عن خلقه صلى الله عليه وسلم. ((الحمم)) جمع حمة، يقال: حمت الجمرة تحم – بالفتح – إذا صارت فحما؛ ((وإلى الجنة)) خبر مبتدأ محذوف أي لأجل الذي في يمينه هؤلاء أوصلهم إلى الجنة، و ((لا أبالي)) حال من الضمير المستتر في الخبر، وهو نحو قوله: ((وإن رغم أنف أبي ذر))، فإنه تعالى علم من بعض المبتدعة القول بخلافه. [وأما ذكر اليمين والكتف فلتصوير عظمة الله وجلالته من غير تشبيه]، كما مر.

- دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني؟)) قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي)) ولا أدري في أي القبضتين أنا. رواه أحمد [120]. 121 - وعن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أخذ الله ميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي نضرة رضي الله عنه: قوله: ((ألم يقل لك)) دخلت همزة الاستفهام على حرف النفي فأفادت التقرير والتعجب، أي كيف تبكي وقد تقرر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد بأنك تلقاه لا محالة؟ وأجاب بأني أخاف من عد الاحتفال والاكتراث في قوله: ((ولا أبالي)). و ((خذ من شاربك)) أي قصه، ((ثم أقر)) على هذا ودم عليه ((حتى تلقاني)) في الحوض أو غيره، وفيه إشارة إلى أن قص الشارب من السنن، والمداومة عليه موصلة إلى هذه المرتبة السنية، وهو القرب إلى دار النعيم في جواز نبي الله وأن من ترك سنة أي سنة حرم خيراً كثيراً، فكيف المواظبة على ترك سائرها؟ فإن ذلك يؤدي إلى الزندقة. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((بنعمان)) الجوهري: بالفتح، واد في طريق الطائف يخرج إلى العرفات. قوله: ((ذرأها)) ((غب)): الذرأ إظهار الله تعالى ما أبدأ، يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم، قال الله تعالى: {ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ} والمعنى أخرج كل ذرية خلقها إلى يوم القيامة. وقال الجوهري: رأيته قبلا وقبلا بالضم مقابلة وعياناً، وقبلا بكسر القاف كذلك، وهو حال. ((نه)): إن الله تعالى كلمهم قبلا أي عياناً ومقابلة لا من وراء حجاب، من غير أن يولى أمره أو كلامه أحداً من ملائكته. و ((شهدنا)) تقرير لقوله: {وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أي أنت ربنا شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك، وقوله: ((أن تقولوا)) مفعول له، أي فعلنا ذلك كراهة أن يقولوا يوم القيامة: {إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لم ننتبه إليه، أو كراهة أن يقولوا: ((إنما أشرك آباؤها من قبل)). ((تو)): هذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي، ولا يحتمل من التأويل ما يحتمل حديث عمر رضي الله عنه لظهور المراد منه، ولا أراهم يقابلون هذه الحجة، إلا بقولهم:

كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) رواه أحمد [121]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن حديث ابن عباس من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك به ظاهر الكتاب، وقال: إنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضي ظاهر الحديث، لمكان قوله سبحانه: {أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ، فلما زال عنا علمنا علم الضرورة، ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ – وإن كان عن استدلال – ولكنهم عصموا عنده من الخطأ، فلهم أيضاً أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناها من بعد، ولو مددنا بهما أبداً لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وآباءهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم: {إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب. ولهم في ذلك كلام كثير اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توفيق الطالبين على موضع الإشكال، والتوفيق بين الآية وحديث عمر على ما ذكرناه متعسر، والتوفيق بينهما وبين حديث ابن عباس على الوجه الذي لا يعارضه حجة أخرى من الكتاب مشكل جداً، إلا أن يعلل الحديث بما عللوه، انتهى كلامه. وأيضاً الاستدلال الذي بسببه حصل لهم العلم بالوحدانية يوم الميثاق إن كان حاصلا لهم في الدنيا وقت التكليف كان كافياً في المحجوجية، فلا فائدة في الميثاق السابق، وإن لم يكن حاصلا لهم في وقت التكليف لم يصيروا محجوجين بما فقدوه، كما لا يخفي تأمل. وأقول: خلاصة ما قالوا: أنه يلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة. والجواب: أنهم إذا قالوا: شهدنا يومئذ، فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ – إلى تمام ما ذكرنا – قيل لهم: كذبتم، إنكم ما وكلتم إلى رأيكم، بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم عن سنة الغفلة؛ فإن الرسل بعثوا لينبهوا عن الغفلة، وليبعثوا على النظر. وتناسيهم، وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق. وأما الجواب عن قولهم: فلهم أن يقولوا: فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل، والبصيرة؟ والذي

122 - وعن أبي بن كعب في قول الله عز وجل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: جمعهم فجعلهم أزواجاً، ثم صورهم فاستنطقهم، فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) ـــــــــــــــــــــــــــــ يقتضي منه العجب، أن الشيخ شهاب الدين التوربشتي كيف قرر مذهب المعتزلة، ولم يرد عليهم مع رسوخ علمه وعلو مرتبته، وكيف جعل حديث عمر رضي الله عنه – المذكور في الفصل الثاني، وهو من المتشابه – أصلا في الاعتبار، وفسره بما يوافق مذهب الخصم، ورد هذا الحديث وهو محكم نص جلي، بأنه من الآحاد؟ وهلا جعل المحكم أصلا، ورد عليه التشابه، وأوله بما نقلناه عن المفسرين وعن القاضي؟ لأن الحديث النبوي مبين للتنزيل، كما قال الله تعالى: {وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} ولعمري! إني لمنكر جداً لمن إذا ورد عليه حديث لا يوافق مذهبه، شمر في الرد بأنه من الآحاد. والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات، بأنها متروكة العمل، لعلة كونها من الآحاد؛ لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثير من الفتوحات الغيبية، ويحرم قائله كثيراً من المنح الإلهية. روى الإمام البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله عنه: الذين لقيناهم كلهم مثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي عليه الصلاة والسلام ويجعلونه سنة، حمد من تبعها، وعيب من خالفها، وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة، فقال الشافعي: فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي. وجعل يردده. وروى الدارمي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ بيده، وما قالوا برأيهم فألقه في الحش. وذكر ابن الصلاح عن أبي داود أنه قال: لأن أعمل بحديث ضعيف خير من أن أعمل بآراء هؤلاء الرجال. لفظ هذا معناه، {واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}. الحديث العاشر عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قوله: في قول الله عز وجل ((أي ذكر في تفسيره قول الله عز وجل: أزواجاً)) أصنافاً، ((غب)): يقال: زوج لكل ما يقترن بآخر، قال الله

قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا. اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً. إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا. لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم عليه السلام بنظر إليهم، فرأي الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال: رب لولا سويت بين عبادك! قال: إني أحببت أن أشكر ورأي فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور، خصوا بمثاق آخر في الرسالة والنبوة، وهو قوله تبارك وتعالى {وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أي أشباها وأقراناً، وبين الأصناف بقوله: ((فرأى الغني، والفقير)) إلى آخره، وقوله: ((فجعلهم أزواجاً)) أي أراد أن يجعلهم أصنافاً فصورهم، كقوله تعالى: {فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}. قوله: ((فإني أشهد عليكم السموات السبع)) إشارة إلى نصب الدلائل الظاهرة، والآيات الباهرة، و ((أشهد عليكم آباءكم)) – أي يذكرونكم عهدي – إشارة إلى النصوص الشاهدة، والتنبيهات من الرسل المبعوثين إليهم، فعلى هذا ينبغي أن يحمل حديث عمر رضي الله عنه؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا. و ((رفع)) أي أشرف و ((ينظر)) حال، ويجوز أن يكون مفعولا له، و ((أن مقدرة، أي لأن ينظر إليهم، كقول الشاعر: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى. و ((لولا)) للتحضيض أي هلا سويت بينهم الغني والفقير وغير ذلك، ((أن أشكر)) أي ما سويت بينهم حتى ينظر الغني إلى الفقير، فيشكو نعمتي عليه، وينظر الفقير إلى دينه فيرى نعمته فوق الغني فيشكر نعمتي عليه، ويرى حسن الصورة إلى جماله فيشكر، وقبيح الصورة فيرى حسن خصاله فيشكر، وعلى هذا. ((ورأى الأنبياء)) يعني أن الأنبياء بعد الميثاق العام خصهم الله بميثاق آخر ((من فيها)) أي دخل الروح من في مريم عليها السلام، وذكر الروح على تأويل المنفوخ، أو في عيسى، وكذا في ((أرسله)) فكأنه أراد قوله تعالى: {ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي فيها، وقرأ ابن مسعود ((فيها)) صلى الله عليه وسلم كما قرئ في سورة الأنبياء، وتقييده بقوله: ((ودخل من فيها)) تسجيل على النصارى بركاكة عقولهم، أي كيف يتخذ إليها من دون الله من هذا حاله؟ كقوله: {وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}.

(عيسى بن مريم) كان في تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم عليهما السلام فحدث عن أبي: أنه دخل من فيها. رواه أحمد [122]. 123 - وعن أبي الدرداء، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ما يكون، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه)). رواه أحمد [123]. 124 - وعن أم سلمة، قالت: يا رسول الله! لا يزال يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت. قال: ((ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته)). رواه ابن ماجه [124]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((ما يكون)) ((ما)) موصولة أي الذي يحدث من الحوادث أهو شيء مقضي، أو شيء يتجدد آنفاً؟ ومن ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((وإنه يصير إلى ما جبل عليه)) يعني: الأمر على ما قدر وسبق، حتى العجز والكيس، فإذا سمعتم أن الرجل الكيس يصير بليداً أو بالعكس، وأن العاجز يرجع قوياً وبالعكس فلا تصدقوا به، وضرب زوال الجبال مثلا تقريباً؛ فإن هذا ممكن، وزوال الخلق المقدر عما كان في القدر غير ممكن. الحديث الثاني عشر عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((آدم في طينته)) مثل للتقدير السابق لا تعيين؛ فإن كون آدم في طينته مقدر أيضاً قبله، ونحوه قوله تعالى: ((وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ)). ((الكشاف)): هو قول لأبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، وكذا قولهم في التأبيد: ما دام تغار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب وير ذلك من كلمات التأبيد – وإن لم تكن مؤبدة حقيقة.

(4) باب إثبات عذاب القبر

(4) باب إثبات عذاب القبر الفصل الأول 125 - وعن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المسلم إذا سئل في القبر؛ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ})). وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب إثبات عذاب القبر الفصل الأول الحديث الأول عن البراء بن عازب رضي الله عنه: قوله: ((المسلم إذا سئل)) المسئول عنه محذوف أي عن ربه، وعن نبيه، ودينه، و ((الفاء)) في ((فذلك)) سببية، ولفظة ((ذلك)) إشارة إلى سرعة الجواب التي يعطيها، جعل الظرف معمولا ((ليشهد)) يعني: إذا سئل لم يتلعثم، ولم يتحير كالكافر، بل يجيب بديهاً بالشهادتين، وذلك دليل على ثباته عليه، واستقراره على كلمة التوحيد في الدنيا، ورسوخها في قلبه؛ ولذلك أتى بلفظ الشهادة؛ لأنها لا يصدر إلا عن صميم القلب، ومطابقة الظاهر بالباطن، ونظير هذه ((الفاء)) ((الباء)) في قوله تعالى: {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} والتعريف فيه إشارة إلى قوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} وهي كلمة التوحيد. وعن ابن عباس: ((هي شهادة أن لا إله إلا الله)) وثبوتها تمكنها في القلب واعتقاد حقيقتها، واطمئنان القلب بها. وتثبيتهم في الدنيا: إنهم إذا فتنوا لم يزالوا عنها – وإن ألقوا في النار – ولم يرتابوا بالشبهات، وتثبيتهم في الآخرة: إنهم إذا سئلوا في القبر لم يتوقفوا في الجواب، وإذا سئلوا في الحشر، وعند مواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يبهتوا من أهوال الحشر، وأعاد الجار ((في الدنيا وفي الآخرة))؛ ليدل على استقلاله في التثبت. فإن قلت: ليس في الآية ما يدل على عذاب المؤمن، فما معنى قوله: ((نزلت في عذاب القبر؟)) قلت: لعله سمى أحوال العبد في القبر بعذاب القبر على تغليب فتنة الكافر على فتنة المؤمن ترهيباً وتخويفاً؛ لأن القبر مقام الهول والوحشة؛ ولأن ملاقاة الملكين مما يهيب المؤمن.

126 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه [و] إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولون: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً. وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس! فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)). متفق عليه، ولفظه للبخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أنس رضي لله عنه: قوله: ((إذا وضع)) شرط، ((أتاه)) جزاءه، والجملة خبر ((إن))، و ((إنه ليسمع قرع نعالهم)) إما حال بحذف الواو كأحد الوجهين في قوله تعالى: {ويَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} أي ووجوههم، على أن الرؤية بمعنى الإبصار، ونحو كلمة ((فوه)) إلى ((في)) ذكره شارح اللباب، أو يكون جواباً للشرط على إضمار ((الفاء)) فيكون ((أتاه)) حالا من فاعل ((ليسمع)) و ((قد)) مقدرة، ويحتمل أن يكون ((إذا)) ظرفاً محضاً. قوله: ((إنه)) تأكيد لقوله: ((إن العبد)) كقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ} في أحد الوجهين. قوله: ((إنه ليسمع قرع نعالهم)) ((شف)): ظاهره دال على تعلق الروح ببدن الميت عند سؤال منكر ونكير في القبر عن الميت، إذا قالوا له: ((من ربك؟)) ((فيقعدانه)) وفي حديث البراء ((فيجلسانه)). ((تو)): هذا اللفظ أولى من اللفظين بالاختيار؛ لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام، فيقولون: القيام والقعود، لا نسمعهم أن يقولوا: القيام والجلوس، يقال: قعد الرجل عن قيامه، وجلس عن ضجعه واستلقائه. وحكى أن نضر بن شميل دخل على المأمون عند مقدمه مرو فمثل بين يديه وسلم، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، لست بمضطجع فأجلس، فقال: كيف أقول؟ قال: قل: اقعد. فعلى هذا المختار من بين الروايتين هو الإجلاس لما أشرنا إليه من دقيق المعنى وفصيح الكلام، وهو الأحق والأجدر ببلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل من روى ((فيعقدانه)) ظن أن اللفظين ينزلان من المعنى بمنزلة واحدة؛ ومن هذا الوجه أنكر كثير من السلف رواية الحديث بالمعنى خشية أن يزل في الألفاظ المشتركة، فيذهب عن المراد جانباً.

ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: لا ارتياب أن الجلوس والقعود مترادفان، وأن استعمال القعود مع القيام والجلوس مع الاضطجاع مناسبة لفظية، ونحن نقول بموجبه إذا كانا مذكورين، كقوله تعالى: ((دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)) لكن لم قلت: إنه إذا لم يكن أحدهما منه مذكوراً كان كذلك؟ ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام ((حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم)) بعد قوله: ((إذا طلع علينا؟)) ولا خفاء أنه عليه السلام لم يضطجع بعد الطلوع عليهم، وكذلك لم يرد في هذا الحديث الاضطجاع ليوجب أن يذكر معه الجلوس، وأما الترجيح بما رواه عن النضر وهو من رواة العربية على رواية الشيخين الثقتين فبعيد عن مثله، وهو من مشاهير المحدثين. قوله: ((في هذا الرجل لمحمد)) ((محمد)) بيان من الراوي للرجل، أي لأجل محمد عليه الصلاة والسلام، دعا له بالرجل من كلام الملك، فعبر بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم؛ امتحاناً للمسئول؛ لأن لا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل، ثم ((يثبت الذين آمنوا)). قوله: ((فيراهما جميعاً)) فيزداد فرحاً إلى فرح، ويعرف نعمة الله عليه بتخليصه من النار، وإدخاله الجنة، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غم، وحسرة إلى حسرة، بتفويت الجنة وحصول النار. قوله: ((لا دريت ولا تليت)) أي اتبعت الناس بأن تقول شيئاً يقولونه، ويجوز أن يكون من قولهم: تلا فلان تلو غير عاقل، إذا عمل عمل الجهال، أي لا علمت ولا جهلت، يعني هلكت فخرجت من القبيلتين. وقيل: لا قرأت، فقلبت الواو ياء للازدواج، معناه ما علمت بنفسي بالنظر والاستدلال، ولا اتبعت العلماء بالتقليد وقراءة الكتب. قوله: ((ضربة)) أفرد ((الضربة)) وجمع ((المطارق)) على نحو قوله: ((معاً جياعاً)) ليؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة، و ((الثقلان)) الإنس والجن، سميا به لثقلهما على الأرض، وإنما عزلا عن السماع لمكان التكليف والابتلاء، ولو سمعا ارتفع الابتلاء والامتحان، وصار الإيمان ضرورياً، لأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما مما يتوقع عليه بقاء الشخص والنوع، فينقطع معاشهم. ((مح)): اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه الدلائل من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا} الآية، وأما الأحاديث فلا تحصى كثرة، ولا مانع في العقل أن يخلق الله تعالى الحيوة في جزء من الجسد أو في جميعه – على الخلاف بين الأصحاب – فيثيبه ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده. ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما يشاهد في العادة، أو أكلته السباع والطيور وحيتان البحر، كما أن الله تعالى يعيده للمحشر، وهو سبحانه قادر على ذلك.

127 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قيل: نحن نشاهد الميت على حاله فكيف يسأل، ويقعد، ويضرب، ولا يظهر أثر؟ فالجواب: أن ذلك غير ممتنع بل له نظير في الشاهد وهو النائم؛ فإنه يجد لذة أو ألما يحسه ولا تحسه، وكذا يجد اليقظان لذة وألما يسمعه، أو يتفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه، وكذا كان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه الصلاة والسلام فيوحي إليه بالقرآن المجيد ولا يدركه الحاضرون، وكل ذلك دليل ظاهر جلي. ((قض)): من مات وتفرقت أجزاؤه في الشرق والغرب، فإن الله تعالى يعلق روحه بجزئه الأصلي الباقي في أول عمره إلى آخره، المستمر على حاله – حالتي النمو الذبول – الذي يتعلق به الروح أولا فيحي ويحيي بحياته سائر أجزاء البدن، ليسأل فيثاب أو يعذب. ولا يستبعد ذلك؛ فإن الله تعالى عالم بالجزئيات كلها حسب ما هي عليها، فيعلم الأجزاء بتفاصيلها، ويعلم مواقعها ومحالها، ويميز بين ما هو أصل وما هو فضل، ويقدر على تعليق الروح بالجزء الأصلي منها حال الانفراد، وتعليقه به حال الاجتماع؛ فإن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة، بل لا يستبعد تعلق روح الشخص الواحد في آن واحد بكل واحد من تلك الأجزاء المتفرقة في المشارق والمغارب؛ فإن تعلقه ليس على سبيل الحلول حتى يمنعه الحلول في جزء من الحلول في آخر، والحديث ورد على ما هو الغالب. ((حس)): في الحديث دليل على جواز المشي بالنعال بحضرة القبور وبين ظهرانيها، والله أعلم. قوله: ((من يليه)) لا يذهب فيه إلا المفهوم في أن من بعد منه لا يسمعه، لما ورد نصاً في الفصل الثاني في حديث البراء بن عازب من أنه ((يسمعها ما بين المشرق والمغرب)) والمفهوم لا يعارض المنطوق و ((من)) لذوي العقول من الملائكة والثقلين، فغلب هاهنا على غير ذوي العقول، و ((غير الثقلين)) منصوب على الاستثناء. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة)) ((تو)): تقدير الكلام إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه، وفيه ((حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) و ((الهاء)) يرجع إلى المقعد، ويجوز أن يعود الضمير إلى الله، وهذا لفظ المصابيح، وقد روي أيضاً في الأحاديث الصحاح ((حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة)) أي محشر يوم القيامة، فحذف المضاف. أقول: ويجوز أن يكون المعنى: فمن كان من أهل الجنة فيبشر بما لا يكتنه كنهه، ويفوز بما

من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)). متفق عليه. 128 - وعن عائشة، رضي الله عنها، أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يقادر قدره، وإن كان من أهل النار فبالعكس؛ لأن هذا المنزل طليعة تباشير السعادة الكبرى، ومقدمة تباريح الشقاوة العظمى؛ لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل الجزاء على الفخامة، كقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، وضع الضمان موضع كثير العشب، والضمير في ((يبعثك الله إليه)) إما أن يرجع إلى المقعد فالمعنى: هذا مقعدك تستقر فيه حتى تبعث إلى مثله من الجنة أو النار كقوله تعالى: ((هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ)) أي مثل الذي، وقولهم: أبو يوسف، أبو حنيفة، أو يرجع إلى الله أي إلى لقاء الله، أو إلى يوم الحشر، أي هذا الآن مقعدك إلى يوم الحشر، فيرى عند ذلك كرامة أو هواناً ما تنسي عنده هذا المقعد، كقوله تعالى: ((وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ)). ((الكشاف)): أي إنك مذموم ومدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما تنسي اللعن معه. ونظيره قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ}. ((الكشاف)): عرضهم عليها إحراقهم بها، يقال: عرض الإمام الأساري على السيف إذا قتلهم و ((حتى)) في الحديث كحتى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفصل الثاني ((حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). الحديث الرابع عن عائشة رضي الله تعالى عنها: قوله: ((فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد)) أي بعد سؤالي. ((تو)): المشكل لا ندري أكان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك ولا يتعوذ، أو كان يتعوذ ولم تشعر به عائشة رضي الله عنها، أو سمع ذلك من اليهودية فتعوذ؟ قال: ثم إني وجدت نقلا من الإمام الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم سمع اليهودية بذلك فارتاع عليه الصلاة والسلام، ثم أوحي إليه بعد ذلك بفتنة القبر، ووجدت في حديث آخر أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ قبل ذلك ولم أشعر به، أو تعوذ لقول اليهودية)) ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى استغرابها حيث سمعت من اليهودية، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن بعد لما كان يسر ليترسخ ذلك في عقائد أمته ويكونوا من قتنة القبر على خيفة.

عذاب القبر. فقال: ((نعم، عذاب القبر حق)). قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر. متفق عليه. 129 - وعن زيد بن ثابت، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادث به وكادت تلقيه. وإذا أقبر ستة أو خمسة، فقال: ((من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟)) قال رجل: أنا. قال: ((فمتى ماتوا؟)) قال: في الشرك. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: فيه إرشاد للخلق وتواضع منه صلى الله عليه وسلم، فإن مثله حين سمع من مثل تلك اليهودية الحق ما استنكف من ذلك، وعمل بما يوجب ما قاله عليه الصلاة والسلام: ((كلمة الحكمة ضالة كل حكيم)) ونعم ما قال علي رضي الله عنه: ((فانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال)). الحديث الخامس عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((في الحائط)) الحائط البستان، و ((بنو النجار)) قبيلة من الأنصار، و ((على بغلة)) حال من الضمير المستتر في الخبر، و ((نحن معه)) حال متداخلة؛ لأنه حال من الضمير في الحال، و ((إذا)) للمفاجأة، وقد سبق في أول الكتاب إعرابه، وهو أيضاً حال، كقول أبي الطيب: تدوس بنا الجماجم والتريبا، أي حادت ونفرت ملتبسة به عليه الصلاة والسلام. و ((إذا أقبر)) ((إذا))، للمفاجأة والواو للحال أي نحن على ذلك مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ((وإذا أقبر)) أي ظهرت لنا قبور متعددة فاجأناها. قوله: ((في الشرك)) لابد من تقدير ليطابق الجواب السؤال، أي متى ماتوا في الجاهلية مشركين أم بعدها مؤمنين؟ فأجاب: في أيام الشرك، أو يقال: متى ماتوا؟ فأجاب أي منذ سنة في الشرك. و ((إن هذه الأمة)) أي جنس الإنسان. ((غب)): الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. و ((هذه)) إشارة إلى ما في الذهن، والخبر بيان له، كقوله: هذا أخوك. قوله: ((أن يسمعكم)) مفعول ثان لقوله: ((دعوت)) على تضمين سألت. ((تو)): هذا كلام مجمل، وما يسبق إلى الفهم هو أنهم لو سمعوا ذلك لتركوا التدافن حذراً من عذاب القبر. وفيه نظر؛ لأن المؤمن لا يليق به ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد أن الله تعالى إذا أراد تعذيب أحد عذبه – ولو في بطون الحيتان، وحواصل الطيور – وسيان دون القدرة الأزلية بطن الأرض وظهرها، وبعد ذلك فإن المؤمنين أمروا بدفن الأموات فلا يسعهم ترك ذلك إذا قدروا عليه. والذي نهتدي إليه بمقدار علمنا، وهو أن الناس لو سمعوا ذلك لهم كل واحد منهم خويصة نفسه، وعمهم من ذلك البلاء العظيم حتى أقضى بهم إلى ترك التدافن، وخلع الخوف أفئدتهم حتى لا يكادوا يقربوا جيفة ميت. مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((لو عملتم ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً)). وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومن كوشف بما لا يسعه يطيح

فقال: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوات الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه))، ثم أقبل بوجهه علينا، فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب النار)). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)). قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)). قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: ((تعوذوا بالله من فتنة الدجال)). قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. رواه مسلم [129]. الفصل الثاني 130 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان ـــــــــــــــــــــــــــــ ويهلك. قوله: ((الذي)) مفعول و ((أن يسمعكم من عذاب القبر)) بيان له، حال منه متقدم عليه، و ((بوجهه)) تأكيد لقوله: ((أقبل)) كقولك: نظرت بعيني، لمزيد الاهتمام بشأن التذكير. وقوله: ((ما ظهر منها وما بطن)) عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو من هذين الأمرين، عمم بعد التخصيص تأكيداً وتقريراً، ثم خص ذكر الرجال كالمستدرك لما فاته، والله أعلم بالصواب. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا أقبر)) أي أدفن، ((أسودان أزرقان)) الشارحون: أراد بالسواد سواد منظرهما، والزرقة زرقة أعينهما، وذلك لما في لون السواد وزرقة العين من الهول والنكير، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداؤهم وهو زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أزرق العينين. ويحتمل أن يكون المراد قبح المنظر وفظاعة الصورة، يقال: كلمت فلاناً فما رد على سوداء ولا بيضاء، أي فما أجابني بكلمة قبيحة ولا حسنة. والزرقة تقليب البصر وتحديد المنظر، يقال: زرقت عيناه إذا انقلبت وظهر بياضها، وهي كناية عن شدة الغضب؛ فإن الغضبان ينظر إلى المغضوب عليه شزراً بحيث تنقلب عينيه. ويحتمل أن يراد بالزرقة العمى؛ فإن العين إذا ذهب نورها أزرقت، قال الله تعالى: {ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي عمياً عيونهم لا نور لها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((فيفيض له أعمى وأصم)).

أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله، لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم انك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): النكير فعيل بمعنى مفعول من: نكر بالكسر، والمنكر مفعول من: أنكر، كلاهما ضد المعروف، سميا به؛ لأن الميت لم يعرفهما ولم ير صورة مثل صورتهما، وإنما صور بتلك الصورة القبيحة ونكر ليخاف الكافر ويتحير في الجواب، وأما المؤمنون فيريهم الله تعالى كذلك امتحاناً، ويثبتهم بالقول الثابت امتناناً، فلا يخافون؛ لأن من خاف الله تعالى في الدنيا، وآمن به، وبرسله، وبكتبه لم يخف في القبر. وقال في قوله: ((قد كنا نعلم إنك تقول هذا)): يعني قد رأينا فيك سيماء أهل الإيمان وشعاع أهل اليقين، فعلمنا فيك السعادة، وأن تجيبنا على وجه يحبه الله تعالى، وعكسه الكافر. قوله: ((يفسح له في قبره سبعون ذراعاً)) والأصل فيه: يفسح له قبره مقدار سبعين ذراعاً، فجعل القبر ظرفاً للسبعين، وأسند الفعل إلى سبعين مبالغة. قوله: ((العروس)) يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما، يقال: رجل عروس، وامرأة عروس، وإنما مثل بنومة العروس؛ لأن الإنسان أعز ما يكون في أهله وذويه، وأرغد وأنعم وهو في ليلة الإعراس. ((مظ)): ((لا يوقظه إلا أحب أهله)) عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله، يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه، على الرفق واللطف. و ((حتى)) متعلقة بمحذوف، يعني ينام طيب العيش حتى يبعثه الله تعالى، و ((التأم)) إذا اجتمع، ((والاختلاف)) إدخال شيء في شيء، يعني يؤمر قبره حتى يقرب كل جانب منه إلى الجانب الآخر ويضمه ويعصره. وقوله: ((سمعت الناس)) أي المسلمين: يقولون: إنه نبي، فقلت مثل قولهم وما شعرت غير ذلك. أقول: قوله: ((هو عبد الله ورسوله)) هو الجواب إيجازاً وإبهاماً، وقوله: ((الشهادتين)) إطناب وبسط للكلام إظهاراً لنشاطه وافتخاراً به، كما عكسه جواب الكافرين ((نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين)) عن سؤال ما تعبدون؟ ولأجل وفور نشاطه قال أيضاً: ((ارجع إلى أهلي فأخبرهم)) كما قال الله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ}. ويجوز أن يكون ((حتى)) في قوله: ((حتى يبعثه الله)) متعلقة بـ ((هم)) على الالتفات، أي نم كما ينام العروس حتى يبعثك الله، فالتفت وقال: حتى يبعثه.

عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)). رواه الترمذي [130]. 131 - وعن البراء بن عازب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولون له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولون له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولون: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولون له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت؛ فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية. قال: فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، ويفتح. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((ما هذا الرجل؟)) أي ما وصف هذا الرجل؛ لأن ((ما)) يسأل به عن الوصف أي أرسول هو أم ما تقول في حقه؟ فإن قيل: قوله: ((قرأت كتاب الله فآمنت به)) يدل على أن الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام مسبوقاً بقرائته كتاب الله فهو غير مستقيم؛ لأنه ما لم يعرف صدق الرسول لم يعرف أن القرآن حق؟ قلنا: المراد قرأت كتاب الله، ورأيت ما فيه من الفصاحة والبلاغة ما يعجز عنه البشر، ويفوت دونه القوى والقدر – فعملت أنه ليس من كلام البشر فآمنت به، أو تفكرت فيما فيه من البعث على مكارم الأخلاق، وفواضل الأعمال، وما فيه من ذكر الغيوب والإخبار عن الأمم السالفة عن غير أن يسمعه من واحد، أو يقرأ كتاباً – فعلمت أنه من عند الله، وآمنت به، وذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ} قد سبق في الحديث الأول من هذا الباب أن ذلك إشارة إلى سرعة الجواب، وأنها مسببة عن تثبيت الله إياه، وههنا إشارة إلى السرعة مع السؤال المكرر، والجواب المبسوط من غير انقباض ودهشة، بل مع وفور نشاط واستبشار. قوله: ((فأفرشوه)) بألف القطع أي اجعلوا له فرشاً من فرش الجنة، ولم نجد الإفراش على هذا المعنى في المصادر، وإنما هو أفرش أي أقلع عنه وأقفل، فأفرش بهذا اللفظ على هذا المعنى من الباب القياسي الذي ألحق الألف بثلاثيه، ولو كان من الباب الثلاثي لكان من حقه أن يروى بألف الوصل، والمعنى ابسطوا له، ولم يجد الرواية إلا بالقطع.

فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره. وأما الكافر فذكر موته، قال: ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار. قال: فيأتيه م حرها وسمومها. قال: ويضيق عليه قبره حتى يختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أصم، معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار تراباً، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً، ثم يعاد فيه الروح)) رواه أحمد، وأبو داود [131]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فيأتيه من روحها)) أي فيأتيه روحها على مذهب الأخفش، أو بعض روحها أو شيء من روحها، فلم يؤت به إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره ولا يوصف كنهه. قوله: ((ويفسح له فيها مد بصره)) أي مداه، وهي الغاية التي ينتهي إليها بصره فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله: ((ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين)) وبين قوله: ((ويفسح له مد بصره))؟ قلنا: إنما عبر بقوله: ((ويفسح له)) عن توسيع مرقده عليه، ويقول: يفسح مد بصره عما يعرض عليه وينظر إليه من رياض الجنة وروحها، ويحتمل أن تكون الكلمتان عبارتين عن فسحة القبر. قوله: ((فذكر موته)) يريد الراوي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكر ألفاظاً في شأن موت الكافر، ثم قال: ((ويعاد روحه)) ((مظ)): ((هاه هاه)): هذه الكلمة يقولها المتحير في الكلام م الخوف والدهشة، و ((أن كذب)) أي كذب فيما قاله: ((لا أدري)) لأن دين الله، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم كان ظاهراً في مشارق الأرض ومغاربها، وتغلغل في كل بيت مدر ووبر. و ((أن)) يجوز أن تكون مفسرة لما في ((ينادي)) من معنى القول، وأن تكون مصدرية مجرورة لـ ((أن كذب)) فالعامل ((فأفرشوه)) والفاء في قوله تعالى: {لإيلافِ قُرَيْشٍ – إلى قوله - فَلْيَعْبُدُوا} وهي جواب شرط محذوف، وكذلك في ((أن صدق عبدي)) سمى المؤمن عبداً، وأضافه إلى نفسه تعالى

132 - وعن عثمان، رضي الله عنه، أنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)). قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب [132]. 133 - وعنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ تشريفاً له، بخلاف الكافر، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وأَنَّ الكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}. ((تو)): ((ثم يقيض)) أي يقدر، وأصل الكلمة من القيض وهو القشر الأعلى من البيض، فقولك: قيض الله لي فلاناً أي أباحه فاستولى على استيلاء القيض على البيض، و ((أعمى وأصم)) أي من لا يرى عجزه فيرجمه، ولا يسمع عويله فيرق له. وأما ((المرزبة)) فإن المحدثين يشددون الباء منها، والصواب تخفيفها، وإنما يشدد الباء إذا أبدلت الهمزة من الميم وهي الإرزبة، وهي التي يكسر بها المدر، وأنشد [الفراء]: ضربك بالمرزبة عود الشجر انتهى كلامه. وكرر إعادة الروح في الكافر لبيان شدة العذاب وفظاعته، ولأنه كان ينكر الإعادة في الدنيا، فيقال له: ذق هذا جزاء ما كنت تنكره؛ إلزاماً له وتبكيتاً، ولا يبعد أن يتمسك به من يقول: إن في القبر إماتتين وإحيايين، في تفسير قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}. الحديث الثالث عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((إلا والقبر)) الواو للحال، والاستثناء مفرغ، أي ما رأيت منظراً وهو ذو هول وفظاعة ((إلا والقبر أفظع منه)) يقال: فظع الأمر بالفم فظاعة فهو فظيع أي شديد شنيع جاوز المقدار، وعبر بالمنظر عن الموضع مبالغة؛ فإنه إذا نفى الشيء مع لازمه ينتفي الشيء بالطريق البرهان، و ((فظع)) كلمة يؤكد بها النفي في الفعل الماضي، كما أن عوض يؤكد بها النفي في المستقبل. الحديث الرابع عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((الميت)) التعريف للجنس، وهو قريب من

((استغفروا لأخيكم، ثم سلوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل)) رواه أبو داود [133]. 134 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً، تنهسه وتلدغه حتى تقوم الساعة، لو أن تنيناً منها نفخ في الأرض ـــــــــــــــــــــــــــــ النكرات. ((سلوا له بالتثبيت)) اطلبوا من الله أن يثبته على جواب الملكين بالقول الثابت، وضمن ((سلوا)) معنى الدعاء، كما قال الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} أي ادعوا له بدعاء التثبيت، أي قولوا: ثبته الله تعالى بالقول الثابت. ((خط)): في هذا الحديث دليل على أن الدعاء نافع للميت، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن كما هو العادة، ولا نجد فيه أيضاً حديثاً مشهوراً، ولا بأس به؛ لأنه ليس فيه إلا ذكر الله تعالى، وعرض الاعتقاد على الميت، والحاضرين، والدعاء له وللمسلمين، والإرغام لمنكري الحشر، وكل ذلك حسن. ((مح)): اتفق كثير من أصحابنا على استحباب التلقين، منهم القاضي حسين نص في تعليقه ونقله عن الأصحاب، وصاحبه أبو سعيد المتولي في التتمة، والشيخ أبو الفتح نصر المقدرسي، والإمام الرافعي وغيرهم، قال النصر في (كتاب التهذيب): إذا دفن الميت يقف رأس القبر ويقول: يا فلان بن فلان! اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، قل: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إماماً، والمسلمين إخواناً، ربي الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. وروى الخراسانيون فيه حديثاً عن أبي أمامة ليس بالقائم إسناده، ولكن اعتضد بشواهد، منها الحديث المذكور، وأهل الشام يعملون به قديماً، وقال: لا يلقن الصغير إلى أن يبلغ الحنث، وذكر في الأذكار عن الشافعي وأصحابه: أنه يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، قالوا: وإن ختموا القرآن كله كان حسناً، وفي سنن البيهقي أن ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها. الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((تنيناً ينهسه)) التنين نوع من الحيات كثير السم كبير الجثة. النهس واللدغ هنا بمعنى كرر للتأكيد أو لبيان أنواع العذاب. ((تو)): الوقوف على تخصيص فائدة العدد إنما يحصل بطريق الوحي، ويتلقن من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إنا نجد فيه وجهاً من طريق الاحتمال. روينا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن، والإنس، والبهائم، والهوام، فبها

ما أنبتت خضراً)) رواه الدارمي، وروي الترمذي نحوه، وقال: ((سبعون)) بدل ((تسعة وتسعون)). [134] الفصل الثالث 135 - عن جابر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ حين توفى، فلما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع في قبره وسوي عليه، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبحنا طويلاً، ثم كبر، فكبرنا. فقيل: يا رسول الله! لم سبحت ثم كبرت الله قال: ((لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه)) رواه أحمد [135]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يعطف الوحش على ولدها، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده)) والكافر لما كذب أوامر الله تعالى ولم يؤد حق العبودية، أعد له مكان كل رحمة تنيناً تنهسه. ويحتمل أن يقال: إن لله تسعة وتسعين اسماً كل اسم منها دال على صفة يجب الإيمان بها، والكافر لما كفر بها حرم الله بها عليه أقسام رحمته في الآخرة، وسلط عليه مكان كل عدد منها تنيناً في قبره. وإن ذهب إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عبر عما يلحق به من التبعات، وينزل به من المكروهات بالتنانين، ففيه من طريق العربية مساغ، ولكن الأخذ بالظواهر في أمثال هذا أولى بأولى الألباب. وأما استحالة ذلك من طريق المعقول؛ فإنها سبيل من لا خلاق له في الدين، والله يعصمنا من عثرة العقل، وفتنة الصدر، ويوفقنا السلوك بحجة الكتاب والسنة. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((على هذا العبد الصالح)) ((هذا)) إشارة إلى كمال تميزه ورفع منزلته، ثم وصفه بـ ((العبد)) ونعته بـ ((الصلاح)) لمزيد التخويف، والحث على الالتجاء إلى الله تعالى من هذا المنزل الفظيع، يعني إذا كان حال هذا العبد الصالح هذا فما بال غيره – تعريضاً بالمؤمنين – و ((حتى)) متعلق بمحذوف، أي ما زلت اكبر وأسبح ويكبرون ويسبحون حتى فرجه الله عنه.

136 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه)) رواه النسائي [136]. 137 - وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك، ضج المسلمون ضجة. رواه البخاري هكذا، وزاد النسائي: حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك! ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر قوله؟ قال: ((قد أوحي إلى أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) [137]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((هذا لذي)) المشار إليه سعد بن معاذ، و ((هو)) للتعظيم كما سبق في الحديث الأول. قوله: ((تحرك)) وفي آخر: ((اهتز)) أي اهتز العرش لموت سعد، وأصل الهز الحركة، واهتز إذا تحرك، واستعمله في معنى ((الارتياح)) أي ارتاح بصعوده واستبشر لكرامته على ربه، وكل من خف لأمر وارتاح له فقد اهتز له. وقيل أراد فرح أهل العرش بموته. وأقول: يمكن أن يقال: إن تحرك العرش لفقده على طريقة قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ}. ((الكشاف)): إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت له الشمس، ورثى ابن جرير لعمر بن عبد العزيز وقال: نعى النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمراً عظيماً فاصطبرت له وقمت فيه بأمر الله يا عمرا الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا و ((شهده)) أي حضر جنازته، ولقد ضم اللام فيه جواب القسم، والتنكير في ((ضمة)) يحتمل التفخيم والتقليل والأول أظهر؛ لدليل تسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكبيره، واقتداء المؤمنين به، فعلى هذا ((ثم)) في قوله: ((ثم فرج عنه)) لتراخى مدة الضم. الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((التي بفتن)) صفة للفتنة وبيان له، يعني ذكر الفتنة.

138 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أدخل الميت القبر مثلت له الشمس عند غروبها، فيجلس يمسح عينيه، ويقول: دعوني أصلي)) رواه ابن ماجه [138]. 139 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل في قبره من غير فزع ولا مشغوب. ثم يقال: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج ـــــــــــــــــــــــــــــ بتفاصيلها كما يجري على المرء في قبره، ومن ثم ضج المسلمون، وصاحوا، وجزعوا، و ((أي)) نداء يعني يا فلان بارك الله فيك، و ((قريباً)) صفته مصدر محذوف أي فتنة قريبة وذكر كما في قوله تعالى: {إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} يريد فتنة عظيمة، إذ ليس فيه أعظم من فتنة الدجال. الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((مثلت له)) أي صورت وخيلت، وذلك لا يكون إلا في حق المؤمن، ولعل ذلك عند نزول الملكين إليه. ويمكن أن يقال: إن ذلك بعد السؤال والجواب، تنبيهاً على رفاهيته. وفي قوله: ((يمسح عينيه)) إيماء إليها كأنه يظن أنه بعد في الدنيا، ويؤدي ما عليه من الفرائض، ويمنعه من قيامه بعض الأصحاب وذلك من رسوخه في أدائه ومداومته عليه في الدنيا، وإما لتخصيص ذكر الغروب]؛ فإنه مناسب للغريب؛ فإن أول منزل ينزله عند الغروب، والله أعلم بالمراد [قوله: ((عند غروبها)) حال من الشمس لا ظرف لمثلت، و ((يمسح)) حال من الضمير في يجلس، أي يجلس ماسحاً]. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((غير فزغ)) هو حال، و ((فزع)) صفة مشبهة يدل على المبالغة، ثم أكده بقوله: ((ولا مشغوب)) من الشغف وهو تهيج الشر والفتنة وقوله: ((وكنت في الإسلام)) دليل على غاية تمكنه من الجواب لأن الجواب [الظاهر] أن يقول: في الإسلام، و ((ما)) استفهام مبتدأ، و ((هذا الرجل)) الصفة والموصوف خبره، وقد سبق أن ((ما)) يسأل به عن الوصف، ولذلك سماه ووصفه، أي صاحب ذلك الاسم المفخم المشتهر لا يخفى على كل أحد، وهو أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله: ((رسول الله)) يحتمل أن يكون خبراً، و ((جاءنا)) جملة استئنافية مبينة للجملة الأولى، وأن يكون صفة و ((جاءنا)) خبراً، والأول أوجه.

له فرجة قبل النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشغوباً، فيقال: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري! فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته، فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)) رواه ابن ماجه [139]. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((هل رأيت الله؟)) هذا السؤال إنشاء من قوله: ((من عند الله)) أي كيف تقول: من عند الله؟ هل رأيت الله في الدنيا؟ ومن ثم أجاب بقوله: ((ما ينبغي لأحد أن يرى الله)). ((فيفرج له)) أي يكشف له فرجة، ويطرح ما يمنعه من النظر، ذكر ضمير البارز في ((إليه)) بتأويل العذاب وأنثها في قوله: ((بعضها)) نظراً إلى اللفظ و ((الحطم)) الحبس في الموضع المتضايق الذي يتحطم فيه الخيل، أي يدوس بعضها بعضاً. و ((إلى زهرتها)) حسنها وبهجتها وكثرة خيرها، و ((على اليقين)) حال، والعامل ما في حرف التنبيه من معنى الفعل المتضمن لصاحب الحال، أي أنبهك، والتعريف في ((اليقين)) للجنس، و ((كنت)) صفة له، وعلى هذا ينزل قوله على الشك والتقدير: أنبهك حال كونك ثابتاً أو مثبتاً على يقينك. ويمكن أن يقال: إن معنى ((على)) في الموضعين للوجوب، [يعني هذا موضعك، مقعدك حال كذبه واجباً على الله تعالى وعداً ووعيداً لسبب اليقين والشك ومعنى] ((إن شاء الله)) في الموضعين للتبرك، والتحقيق كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} والله أعلم بالصواب.

(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة

(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة الفصل الأول 140 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الاعتصام بالكتاب والسنة العصمة المنعة، والعاصم المانع الحامي، والاعتصام الاستمساك بالشيء، افتعال منه، قال الله تعالى: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أي تمسكوا بالقرآن والسنة. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من أحدث في أمرنا)) ((قض)): الأمر حقيقة في القول الطالب للفعل، مجاز في الفعل، والشأن والطريق، وأطلق ههنا على الدين، من حيث إنه طريقه، أو شأنه الذي يتعلق به، وهو متهم بشأنه بحيث لا يخلو عن شيء من أقواله وأفعاله. والمعنى أن من أحدث في الإسلام رأياً لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أو مستنط - فهو مردود عليه. أقول: في وصف الأمر بـ ((هذا)) إشارة إلى أن أمر الإسلام كمل واشتهر، وشاع وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا}، فمن رام الزيادة عليه حاول آمراً غير مرضي؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصاً. فعلى هذا يناسب أن يقال: قوله: ((فهو)) راجع إلى ((من)) أي من ابتغى الزيادة على الكمال فهو ناقص مطرود. وفي قوله: ((ما ليس منه)) إشارة إلى أن إحداث ما لا ينازع الكتاب والسنة - كما سنقرره بعد - ليس بمذموم. روى محيي السنة عن يحيى بن سعيد سمعت أبا عبيد رضي الله عنه يقول: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد}، وجميع أمر الدنيا في كلمة: {إنما الأعمال بالنيات}، فإنهما يدخلان في كل باب. قوله: ((ما ليس منه)) هكذا في البخاري، والمسلم، والحميدي، والجامع، وشرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح، وفي بعضها، وفي المشارق: ((ما ليس فيه)).

141 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) رواه مسلم [141]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أما بعد)) هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهما بعد تقدم قصة، أو حمد لله تعالى، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والأصل أن يقال: أما بعد حمد الله تعالى، و ((بعد)) إذ أضيف إلى شيء ولم يقدم عليه حرف جر فهو منصوب على الظرف، وإذا قطع عنه المضاف إليه يبنى على الضم، والمفهوم منهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في أثناء خطبته ووعظه، وأنشد التوربشتي لسحبان: لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت: ((أما بعد)) أني خطيبها ((تو)): والفاء لازمة لما بعد ((أما)) من الكلام، لما فيها من معنى الشرط. أقول: ((أما)) وضع للتفصيل، فلابد من التعدد، روى صاحب المرشد عن أبي حاتم: أنه لا يكاد يوجد في التنزيل ((أما)) وما بعدها إلا وتثنى أو تثلث، كقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ}، و {وأَمَّا الغُلامُ}، و {وأَمَّا الجِدَارُ} وعامله مقدر أي مهما يكن من شيء بعد تلك القصة؛ فإن خير الحديث كتاب الله، فالذي يتضمن القرينة السابقة قول الراوي في الحديث: ((إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين – ويفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى – ويقول: ((أما بعد)) إلى آخره. و ((الهدى)) السيرة، يقال: هدى هدى زيد، إذا سار سيرته، من: تهادت المرأة في مشيها إذا تبخترت. ولا يكاد يطلق إلا على طريقة حسنة، وسنة مرضية، ولذلك حسن إضافة الخير إليه، والشر إلى الأمور. واللام في ((الهدى)) للاستغراق؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف (إلا) إلى متعدد وهو داخل فيه؛ ولأنه لو لم تكن للاستغراق لم تفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. وروى ((شر الأمور)) بالنصب، عطفاً على اسم ((إن)) وبالرفع، عطفاً على محل ((إن)) مع اسمه. و ((المحدثات)) – بالفتح – جمع محدثة، والمراد بها البدع والضلالات من الأفعال والأقوال. يعني كل خصلة أتى بها جديداً فهي مخالفة للسنة، وكل مخالفة للسنة ضلالة؛ فحينئذ يكون

142 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الناس إلى الله ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله عليه الصلاة والسلام: ((وكل بدعة ضلالة)) [عطف على محذوف. ((مج)): قوله: ((كل بدعة ضلالة))] عام مخصوص، كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} وقوله: {وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}، والمراد بها غالب البدعة. و ((البدعة)) كل شيء عمل على مثال سابق، وفي الشرع: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال الشيخ المجمع على إمامته وجلالته أبو محمد عزالدين بن عبد السلام – رحمه الله – في آخر كتاب القواعد: البدع منقسمة على خمسة: واجبة، كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكحفظ غريب الكتاب والسنة، وكتدوين أصول الفقه، والكلام في الجرح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم. ومحرمة كمذاهب الجبرية، والقدرية، والمرجئة، والمجسمة. والرد على هؤلاء من البدع الواجبة؛ لأن حفظ الشريعة من هذه البدع فرض كفاية. ومندوبة، كإحداث الربط، والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، وكالتراويح، والكلام في دقائق التصوف، وكمجمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى. ومكروهة، كزخرفة في المساجد وتزويق المصاحف. ومباحة، كالمصافحة عقيب الصبح، والعصر، والتوسيع في لذيذ المأكل، والمشرب، والملابس، والمساكن، وتوسيع الأكمام. وقد اختلف في كراهية بعض ذلك، روى البيهقي عن الشافعي في كتاب مناقبه: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث مما يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. وما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواجد من المذكورات فهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: ((نعمت البدعة هذه)) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى. هذا آخر كلام الشافعي رضي الله عنه. وهذا أيضاً آخر كلام الشيخ محيي الدين – رحمة الله عليه – في كتاب تهذيب الأسماء واللغات، والله أعلم. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((أبغض الناس)) المراد بالناس المسلمون؛ لقوله: ((ومبتغ في الإسلام)) يعني أبغض المسلمين إلى الله تعالى هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحاً من الإلحاد، وكونه في الحرام، وإحداث البدعة في الإسلام، وكونها من أمر الجاهلية، وقتل نفس لا لغرض من الأغراض، بل لمطلق كونه قتلا، كما يفعل شطار

ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) رواه البخاري. 143 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قيل: ومن أبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ زماننا، وإليه الإشارة بقوله: ((ليهريق دمه)) ومزيد القبح في الأول باعتبار المحل، وفي الثاني باعتبار الفاعل، وفي الثالث باعتبار الفعل وفي كل من لفظي المطلب والمبتغى مبالغة أخرى، وذلك أن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني فكيف بالمباشر للفعل؟ وإطلاق السنة على فعل الجاهلية إما وارد على أصل اللغة، أو على التهكم، وهي مثل النياحة، والميسر، والنيروز. ((قض)): الإلحاد الميل عن الصواب، ومنه اللحد، والملحد في الحرام من أحدث فيه جنابة، أو أتى فيه بمعصية، فهو مخالف لأمر الله، وهاتك لحرمته من وجهين، فهو أحق بالغضب على الإطلاق ومزيد البغضاء، وكذا الطالب في الإسلام سنة الجاهلية. وأما القاصد لقتل امرئ بغير حق فهو يقصد ما يكرهه الله تعالى من وجهين: من حيث أنه ظلم، والظلم على الإطلاق مكروه مبغوض، ومن حيث أنه يتضمن موت العبد، وهو يسوءه، والله سبحانه وتعالى يكره مساءته، فيستحق مزيد المقت. و ((ليهريق)) أصله ليؤريق من أراق على الأصل، فأبدلت الهمزة هاء، يقال: هرقت الماء وأرقته، كما يقال: هردت الشيء وأردته. قال سيبويه: وقد أبدلوا من الهمزة هاء، ثم التزمت، فصارت كأنها من نفس الحرف، ثم أدخلت الألف على الهاء، - وتركت به الهاء – عوضاً عن حذفهم حركة العين؛ لأن الأصل أهرق أريق. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كل أمتي يدخلون الجنة)) يحتمل أن يراد بالأمة أمة الدعوة، أي كلهم يدخلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، و ((الآبي)) هو الكافر. أو يراد بها أمة الإجابة، فـ ((الآبي)) هو العاصي من أمته، استثناه تغليظاً عليهم، وزجراً عن المعاصي ((ومن أبى)). عطف على محذوف، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة، ومن الذي أبى؟ أي والذي أبى لا نعرفه، وكان من حق الجواب أن يقال: من عصاني، فعدل إلى ما هو عليه تنبيهاً به على أنهم ما عرفوا ذلك ولا هذا، إذ التقدير: من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة دخل الجنة، ومن اتبع هواه، وزل عن الصواب، وضل عن الطريق المستقيم – فقد دخل النار. فوضع ((أبى)) موضعه وضعاً للسبب موضع المسبب. ويشد هذا التأويل إيراد محيي السنة هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسنة، ويجتنب عن الأهواء والبدع.

144 - وعن جابر، قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً؛ فاضربوا له مثلاً. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل معه من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((مأدبة)) ((فا)): المأدبة – بالضم – اسم للصنيع نفسه كالوليمة، وشبهها سيبويه بالمشربة، وغرضه أنها ليست كفعلة ومفعلة في كونهما بنائين للمصادر والظروف. و ((المأدبة)) – بالفتح – مصدر بمعنى الأدب، وهو الدعاء إلى الطعام، كالمعتبة بمنزلة العتب، أو عبيدة: ((المأدبة)) المدعاة، وهي صنيع الرجل لضيفه يدعو إليه الناس.: ((قض)): الحديث يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون حكاية سمعها جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فحكاها، وثانيهما أن يكون إخباراً عما شاهده هو نفسه وانكشف له. وقول بعضهم: ((إنه نائم))، وقول بعضهم: ((إن العين نائمة، والقلب يقظان)) مناظرة جرت بينهما بياناً وتحقيقاً لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس، واستراحة الأبدان. و ((أولوها)) أي فسروا الحكاية أو التمثيل بمحمد عليه الصلاة والسلام، من: أول تأويلاً، إذا فسر بما يؤول إليه الشيء والتأويل في اصطلاح العلماء تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالا غير بين. والفاء في ((فمن أطاع محمداً)) فاء السببية، أي لما كان الرسول يدعوهم إلى الله بأمره، وهو سفير من قبله، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله. و ((فرق)) روى بالتشديد على صيغة الفعل، وبالسكون على المصدر، وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر، والفاسق والصالح، إذ به تميز الأعمال والعمال. أقول – وبالله التوفيق -: قوله: ((مثله كمثل رجل)) مطلع للتشبيه، وهو مبني على أن هذا التشبيه ليس من التشبيهات المفرقة، كقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب، والحشف البالي شبه القلوب الرطبة بالعناب، واليابسة بالحشف على التفريق؛ بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور متعددة متوهمة منضم بعضها مع بعض، إذ لو أريد التفريق لقيل: مثله كمثل داع بعثه رجل، ومن ثم قدمت الملائكة في التأويل الدار على الداعي وعلى المضيف. روعي في التأويل أدب حسن، حيث لم يصرح المشبه بالرجل، لكن لمح في قوله: ((من أطاع الله)) ما يدل على أن المشبه من هو؟ ونظيره في التمثيل قوله تعالى: {إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ

يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}، ((الكشاف)): ولى الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل، لتقديره ومما هو؟ بين في هذه قول لبيد: وما الناس إلا كالديار وأهلها وبها يوم خلوها وغدوا بلاقع لم يشبه الناس بالديار؛ وإنما شبه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها، ووشك نهوضهم عنها وتركها خلا خاوية. وتحريره أن الملائكة مثلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرساله الرحمة المهداة إلى الخلق، كما قال تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ثم إعداده الجنة للخلق، ودعوته صلوات الله عليه إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده الخلق لسلوك الطريق إليها وإتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في هواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها، وأن الله يريد بلطفه رفعهم؛ فأدلى حبل القرآن والسنة إليهم، ليخلصهم من تلك الورطة؛ فمن تمسك بهما نجا وحصل في الفردوس الأعلى والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمة الله، بحال مضيف كريم بنى داراً وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف، ثم بعث داعياً إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة، إكراماً لهم – فمن اتبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها. ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط الله بهم ونزول العقاب السرمدي عليهم قولهم: ((لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة)) لأن فاتحة الكلام سيق لبيان سبق الرحمة على الغضب، فلم يطابق إن لو ختم بما يصرح بالعذاب والغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية. ((محمد فرق بين الناس)) كالتذييل للكلام السابق، لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له. ثم في حضور الملائكة، ورجع بعض الكلام على بعض، وتمثيلهم ذلك، ووضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، وتكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، وفي تقديم المجمل ممثلا به وتأويله – دلالة على الإرشاد التام، وإزاحة [العلل]، وإيقاظ السامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة، والله أعلم.

145 - وعن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها؛ فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أنس: قوله: ((ثلاثة رهط)) ((فا)): الرهط العصابة دون العشرة، ويجمع على أراهيط، وقيل: هو يجمع على أراهط. وإنما جاء الرهط تمييزاً للثلاثة، لأنه في معنى الجماعة، كأنه قال: ثلاثة أنفس. وقيل: هم على، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة. وقوله: ((تقالوها)) أي وجدوها قليلة، وهو تفاعل من القلة بمعنى استقلوها. ((مظ)): ظنوا أن وظائف رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فلما سمعوا عدوها قليلة، وقد راعوا الأدب حيث لم ينسبوه إلى القصير، بل أظهروا كماله ولاموا أنفسهم في مقابلتهم إياها بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه تعليم للمريد بأن لا ينظر إلى الشيخ بعين الاحتقار، وإن رأى عبادته قليلة يظهر عذره، ولئلم نفسه إن جرى منها إنكار على شيخه؛ لأنه من اعترض على شيخه لن يفلح. وفيه أن قلة وظائف النبي صلى الله عليه وسلم كانت رحمة على الأمة وشفقة عليهم، كيلا يتضرروا؛ فإن لأنفسهم عليهم حقاً، ولأزواجهم حقاً؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان محتاجاً إلى الطعام ليتقوى صلبه به، فيقوم على عبادة الله تعالى، ولابد للرجال من النساء لبقاء النسل، فيكثر به عباد الله تعالى، ويحصن دينه، وينفق عليها فيؤجر به. ((قض)): ((أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم)) أي بيننا وبينه بون بعيد، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم مأمون العاقبة واثق بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ}. وقوله: ((أما الله)) أي إني أعلم به وبما هو أعز لديه وأكرم عنه، فلو كان ما استأثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال في الأمور لما أعرضت عنه. والذنب ماله تبعة دنيوية أو أخروية، مأخوذ من الذنب. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم معاتباً بترك ما هو أولى تأكيداً للعصمة أطلق عليها اسم الذنب. ((رغب عن سنتي)) أي مال عنها استهانة وزهداً فيها لا كسلا وتهاوناً ((فليس مني)) أي من أشياعي. وأقول: قوله: ((أما أنا)) قد سبق أن ((أما)) للتفصيل، فلابد من تقدير قرينتها، كأنه قال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن خصه الله بالمغفرة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست كهيئته؛ فأصلى أبداً.

أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً، ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه. 146 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخطب فحمد الله، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((أنا أعتزل النساء)) من باب إطلاق المسبب على السبب، أي أنا أقصد اعتزال النساء ومجانبتها، فلا أتزوج أبداً، وكذا التقدير في ((أنا أصوم)) أي أنا أقصد الصوم وأدوم عليه ولا أفطر في النهار. و ((فقال)) عطف على محذوف، أي فجاء إلى أهله فأخبروه بما قالوا فقال، أو التقدير: فأوحى إليه بما جرى، فجاء إليهم فقال. وقوله: ((أنتم الذين)) أي أأنتم الذين، حذفت همزة الإنكار التي وليت الفاعل المعنوي المزال عن مقره، لمزيد الإنكار، كقوله تعالى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ}. فكما أكد هذه الفقرة أكد قرينتها، وهي قوله: ((أما والله إني لأخشاكم)) حيث صدرها بحرف التنبيه التي هي من طلائع القسم ومقدماتها، وقرنها بالقسم لتحقيق ما بعدها وإثباته في خلد السامع. و ((الله)) مفعول به ((لأخشاكم)) وأفعل لا يعمل في الظاهر إلا في الظرف. ((ولكني أصوم)) المستدرك مقدر أي أخشاكم لله فينبغي أن أقوم في الرياضة والعبادة إلى أقصى مداه، لكني أقصد منها فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد لتقتدي بي الأمة رحمة من الله. قوله: ((فمن رغب عن سنتي)) كان من حق الظاهر: من رغب عن ذلك، فعم ليشمل كل ما جاء به وما أمر به ونهى عنه، و ((الفاء)) في ((فمن رغب)) متعلق بمحذوف، أي لكني أفعل ذلك لأسن للناظر الطريقة المثلى والسنة الكملى، فمن رغب عنها فليس مني و ((من)) في ((مني)) اتصالية، كما سبق في قوله: ((لست منك ولست مني)). الحديث السابع عن عائشة: قوله: ((صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((غب)): الصنع إجادة الفعل؛ وكل صنع فعل ولا ينعكس. ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب إليها الفعل. ((خط)): ((يتنزهون)) يتباعدون ويحترزون. و ((أعلمهم بالله)) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئاً من المباحات، كالنوم، والأكل في النهار والتزوج، وقم يحترزون عنه، فإن احترزوا عنه لخوف عذاب الله تعالى فإني أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز

قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية)) متفق عليه. 147 - وعن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤبرون النخل، فقال: ((ما تصنعون؟))، قالوا: كنا نصنعه. قال: ((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً)). فتركوه؛ فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: ((إنما أنا بشر؛ إذا أمرتكم بشيء من ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه ((شف)): ((أصنعه)) في موضع النصب على الحال من ((الشيء)) ويجوز أن يكون مجروراً وصفاً له، لأنه منكر معنى كقوله صلى الله عليه وسلم: ((يأتيه الأمر من أمرى)) أي أمر من أموري. وفيه بحث، لأن التعريف في ((الشيء)) للعهد وهو إشارة إلى قوله: ((شيئاً)) وهو فعل مخصوص تنزهوا عنه. فالحال أولى. قوله: ((وأشدهم له خشية)) القياس وأخشاهم له، لأن التوصل بأشد إنما يكون في الممتنع، وهذا الفعل غير ممتنع بناء أفعل منه. أقول: هو كقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وفيه مبالغة، ذكر في الكشاف. وقوله: ((فخطب فحمد الله)) تقديره: أراد أن يخطب فحمد الله. و ((يتنزهون)) صفة ((أقوام)) وفي معناها الحال في قولك: مالك قائماً؟ وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا}. و ((فو الله)) وقع موقع {وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فإنه حال من الضمير في ((لا ترجون)) مقررة لجهة الإشكال، أي ما لكم غير آملين لله وقاراً والحالة هذه؟ كذلك ((ما بالهم)) أي ما بالهم يتنزهون وأنا بين أظهرهم وأعلم بالله منهم؟ فهذه الفاء نظيره في قوله تعالى: {أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وكان ينبغي لهم أن يجعلوا عدم تنزههم عن الرخص مسبباً عن عمله صلوات الله عليه فعكسوا، فأنكر عليهم. والله أعلم بالصواب. الحديث الثامن عن رافع: قوله: ((يؤبرون)) الجوهري: أبر فلان نخله أي لقحه وأصلحه، وفي رواية طلحة بين عبيد الله ((يلقحونه)) يجعلون الذكر في الأنثى بلقح. وقوله: ((كنا نصنعه)) أي هذا دأبنا وعادتنا. وقوله: ((كان خيراً)) أي تتبعون فيما لا ينفع، كما جاء في تلك الرواية ((ما أظن)) يعني ذلك شيئاً، وأضاف الدين إليهم؛ لأن المراد إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم فخذوه، كقوله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. وأوقع قوله: {إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} جزاء الشرط على تأويل وإذا أمرتم بشيء من رأى وأخطئ فلا تستبعدوه، فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب. كما جاء

أمر دينكم فخذوا به؛ وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر)) رواه مسلم [147]. 148 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان! فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ في رواية أحمد: ((والظن يخطئ ويصيب)). وفي الحديث دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما التفت إلى الأمور الدنيوية قط، وما كان على بال منه، سوى الأمور الأخروية. الحديث التاسع عن أبي موسى: قوله: ((إنما مثلى)) ((قض)): المثل الصفة العجيبة الشأن، أي صفتي وصفة ما بعثني الله به من الأمر العجيب الشأن كصفة رجل أتى قوماً وشأنه. و ((النذير العريان)) مثل سائر يضرب لشدة الأمر، ودنو المحذور، وبراءة المحذر عن التهمة، وأصله أن الرجل إذا رأى العدو قد هجم على قومه وأراد أن يفاجئهم وكان يخشى لحقوهم عند لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح، ليأخذوا حذرهم، ويستعدوا قبل لحوقهم. و ((النجاء)) – بالمد – مصدر نجا إذا أسرع، يقال ناقة ناجية أي مسرعة، ونصبه على المصدر، أي انجوا النجاء، أو على الإغراء. و ((أدلجوا)) أي ساروا في الدلجة – وهي الظلمة – والدلجة أيضاً السير في الليل. وكذا الدلج – بفتح اللام – وادلجوا – بتشديد الدال – ساروا آخر الليل. والمهل – بالتحريك – الهينة والسكون، وبالسكون الإمهال. و ((اجتاحهم)) استأصلهم وأهلكهم. و ((الجائحة)) الهلاك، وسمى بها الآفة لأنها مهلكة. روى الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض: المعروف في صحيح البخاري إذا أفرد النجاء مد، وحكى أبو زيد فيه القصر أيضاً. أما إذا كرر ففيه المد والقصر أيضا. وقال محيي الدين: في جميع نسخ مسلم: ((مهلتهم)) بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام، وفي الجمع بين الصحيحين: ((مهلهم)) بحذف التاء وفتح الميم والهاء، وهما صحيحان. أقول: التشبيه من التشبيهات المفرقة، شبه ذاته عليه الصلاة والسلام بالرجل، وما بعثه الله من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه: بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذب الرجل في إنذاره وصدقه. وفي قول الرجل: أنا النذير إلى آخره أنواع من التأكيد، أحدها بعيني؛ لأن الرؤية لا يكون إلا بها. وثانيها قوله: ((وأنا))، وثالثها العريان؛ فإنه دل على بلوغ النهاية في قرب العدو، وفي ذلك تنبيه على أنه الذي يختص في إنذاره بالصدق، والذي لا شبهة فيه، وهو الذي يحرص جداً على خلاص قومه من الهلاك. قال في

فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومن عصاني وكذب ما جئت به من الحق)). متفق عليه. 149 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم ـــــــــــــــــــــــــــــ القرينة الأولى: فأطاعني، وقابله في الثانية: بكذب؛ ليؤذن بأن الإطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر أن التكذيب مستتبع للعصيان، كأنه جمع في كل من الفقرتين بين المعنيين، وإلى المعنيين أشار بقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أطاعني)) إلى آخره. وأتبع قوله: ((اجتاحهم)) قوله: ((أهلكهم)) إعلاماً بأنه أهلكهم عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد. ((شف)): ذكر العينين إرشاد إلى أنه صلى الله عليه وسلم تحقق عنده جميع ما أخبر عنه تحقق من رأى شيئاً بعينيه، لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك. والله أعلم. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((استوقد)) بمعنى أوقد، ولكن الأول أبلغ، كعف واستعف. ((والإضاءة)) فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة، ويقال: أضاءت النار، وأضاءت غيرها، يتعدى ولا يتعدى، فإن جعل متعدياً يكون ((ما حوله)) مفعولا به، وإن جعل لازماً يجوز أن يكون ((ما حوله)) فاعلا له على تأويل الأماكن، ويجوز أن يكون فاعله ضمير النار، ((وما حوله)) ظرف، فيجعل حصول إشراق النار في جوانبها بمنزلة حصولها نفسها فيها مبالغة. وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه، أو سمى بذلك اعتباراً بالدوران والإطافة، ويقال للعام حول؛ لأنه يدور. وفي رواية مسلم: ((ما حولها)) فيكون الضمير راجعاً إلى النار. وفي رواية البخاري: ((ما حوله)) كما في التنزيل، والضمير راجع إلى المستوقد. والفراش ما يتعاقب في النار. قوله: ((فيتقحمن فيها)) التقحم الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت. قوله: ((أنا آخذ بحجزكم)) الحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار والسراويل. قال الشيخ الإمام محيي الدين: ((أنا آخذ بحجزكم)) يروى بوجهين: أحدهما اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، والثاني فعل مضارع بضم الخاء، والأول أشهر، وهما صحيحان.

تقحمون فيها)). هذه رواية البخاري، ولمسلم نحوها، وقال في آخرها: قال: ((فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني. تقحمون فيها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((هلم عن النار)) قال الخليل: أصله لم، أي لم أنفسكم إلينا بالقرب مناه، و ((هاء)) للتنبيه، وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال، وجعل اسماً واحداً يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث في لغة أهل الحجاز، قال الله تعالى: {والْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا}. وقيل: أصله هل أم، أي هل لك في كذا، أمه – أي قصد؟ فركب [الكلمتان]، فقيل: هلم ومعناه هلم إلى، أعزب عن النار. ومحل ((هلم)) نصب على الحال من فاعل ((آخذ)) أي آخذ بحجزكم قائلا هلم. قوله: ((فتغلبوني)) النون مشددة منه؛ لأن أصله فتغلبونني، فأدغم أحد النونين في الأخرى، والفاء فيه سببية على التعكيس، كالكلام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا} وتقديره: أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم عن النار، فعكستم وجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بوقوع الفراش إلى النار لجهله بما يعقبه التقحم فيها من الاحتراق والهلاك. أقول: ولتحقير شأنها قال: ((وهذه الدواب))، كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}، وقول عائشة رضي الله عنها في حق عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ((عجبت لابن عمرو هذا)). وتخصيص ذكر الدواب والفراش لا يسمى دابة عرفاً لبيان جهلها، كقوله تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} كل ذلك تعريض لطالب الدنيا المتهالك فيها، والتأنيث في ((هذه)) باعتبار الخبر لأنه جمع، ويجوز أن يراد بالفراش الجنس فيؤنث كما في قوله تعالى: {وأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا}. وفي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المهلكات نفس النار في قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم عن النار)) وضع للمسبب موضع السبب، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. واعلم أن تحقيق هذا التشبيه موقوف على معرفة معنى قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك أن حدود الله هي محارمه ونواهيه، كما ورد: ((ألا! إن حمى الله محارمه، ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها، واستيفاء لذاتها وشهواتها)) شبه إظهار تلك الحدود ببياناته الشافيه الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل

ـــــــــــــــــــــــــــــ النار، وشبه فشو ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم – بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلت له سبباً لهلاكها – كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة وانتهاؤها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوهم موجبة لترديهم. وفي قوله: ((آخذ بحجزكم)) استعارة مثلت حالة منعه الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجرة صاحبه الذي يهوى أن يهوى في قعر بئر مردية. وفي رواية البخاري: ((فأنا آخذ)) بالفاء، فالفاء فيه فصيحة، كما في قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} فإنه تعالى لما سال بقوله: ((أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً)) وأجابوا: لا، قال: فإذا كان كذلك ((فكرهتموه)) وكذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما قال: ((مثلي ومثل الناس)) أي صفتي وصفة الناس، ثم شرع في بيان المشبه به بقوله: ((مثل رجل)) إلى آخره، وعلم أنه ما يقابله على ما بيناها آنفاً – أتى بما هو أهم وأولى منها، وهو قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم)) بالفاء، كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل، وأنا مثل المستوقد، وأنتم كالفراش تقتحمون في النار – فأنا آخذ بحجزكم، ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله: ((مثل الناس)) إلى الخطاب في قوله: ((فأنا آخذ بحجزكم)) كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء يورطه في الهلاك، ثم أنك من غاية رأفتك عليه وشدة حرصك على نجاته تجد في نفسك أنه حاضر عندك فتتحرى خلاصه. وفيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذر أحوج منه إلى البشير، ولذلك أفرده في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وذلك أن جبلة الإنسان مائلة إلى الحظوظ العاجلة دون الآجلة، كما قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ (20) وتَذَرُونَ الآخِرَةَ} فأوجب قلعها أولا لتيمكن من تحري ما يزلفه إلى الله تعالى، ومن ثم قيل: التحلية بعد التخلية. وفي الحديث إظهار لرأفته ورحمته على الأمة، وحرصه على نجاتهم، كما قال الله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

150 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أبي موسى: قوله: ((الهدى والعلم)) أي الطريقة والعمل. روى: ((من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً)). و ((الغيث)) المطر، وإنما اختير الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} وقد كان الناس في الزمان الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل، وقد امتحنوا بموت القلب ونضوب العلم، حتى أصابهم الله برحمة من عنده، فأفاض عليهم سجال الوحي السماوي، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المحامل، حتى تداركهم الله بلطفه، وأرخت عليهم السماء، غير أنه كان حظ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر، وإنما ضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت. قوله: ((وكانت منها طائفة طيبة)) الطائفة من الشيء قطعة منه. قال الشيخ محي الدين: كذا هو في جميع نسخ مسلم: ((طائفة طيبة)). ووقع في البخاري: ((وكانت منها نقية)) قلبت الطاء بنون مفتوحة، ثم قاف مكسورة، ثم ياء مثناة من تحت مشددة، وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري. و ((العشب والكلأ والحشيش)) كلها اسم للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والكلا – مقصوراً – مختصان بالرطب، والكلأ – بالهمزة – يقع على اليابس والرطب، و ((الأجادب)) – بالجيم، والدال المهملة – هي الأرض التي لا تنبت كلأ. ((خط)): هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع فيه النضوب. وقال الشيخ محي الدين عن بعضهم: إنما هي ((أخاذات)) بالخاء والذال المعجمتين جمع أخاذة، وهي الغدير الذي يمسك الماء، والضمير في ((بها)) يرجع إلى أجادب. قال المظهر: وفيه بحث يذكر. و ((القيعان)) بكسر القاف جمع قاع، وهو الأرض المستوية. ((فقه)) بضم القاف وكسرها، والمشهور الضم، إذا فهم وأدرك الكلام. [مظ]: اعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما ((من فقه في دين الله – إلى آخره))، ((والثاني من لم يرفع بذلك رأساً)) يعني تكبر ولم يقبل الدين، يقال: لم يرفع فلان رأسه بهذا، أي لم يلتفت إليه من غاية تكبره، وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه منتفع

تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ به، وكذلك الناس قسمان: أحدهما من يقبل العلم وأحكام الدين، والثاني من لا يقبلهما هذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: أحدهما ينتفع به، والثاني: لا ينتفع. وأما في الحقيقة الناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل العلم بقدر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الأول، ومنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به، وبلغ أيضاً درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، وهو القسم الثاني، ومنهم من لا يقبل العلم، وهو القسم الثالث. أقول: اتفق الشارحون على الوجه الثاني، وظاهر الحديث ينصر الأول؛ لأن شطره الأول من التمثيل مركب من أمرين، وذلك أن ((أصاب منها طائفة)) معطوف على ((أصاب أرضاً)) والضمير في ((منها)) يرجع إلى مطلق الأرض المدلول عليه بقوله: ((أرضاً))، ثم قسمت الأرض الأولى – بحرف التعقيب في ((فكانت))، وعطف ((كانت)) على ((كانت)) – قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، والثانية على عكسها، فالواو في ((وكانت)) ضمت وتراً إلى وتر، وفي ((أصابت)) شفعاً إلى شفع: نظيره قوله تعالى: {ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ (19) ولا الظُّلُمَاتُ ولا النُّورُ} وقوله تعالى: {إنَّ المُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ}. ((الكشاف)): الفرق بين عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين أن الإناث والذكور جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسطة العاطف بينهما، وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، وكان معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم. وأيضاً أن أصل التمثيل مركب من أمرين: الهدى، والعلم، لتغايرهما في الاعتبار، ويعضده مراعاة معنى التقابل بين الكلامين، من إثبات إنبات الكلأ، وإمساك الماء في أحدهما، ونفيهما في الآخر على سبيل الحصر بقوله عليه الصلاة والسلام، ثم تعقبهما بالتفصيل في قوله: ((فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه)) إلى آخر الحديث؛ لأنه ذكر المثل فيه مرتين. ويؤيده ما ذكره الشيخ محيي الدين النواوي: أن ((رعوا)) بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري: ((وزرعوا)) وكلاهما صحيح – انتهى كلامه. وإنما قلنا: هذه الرواية تؤيد ما ذكرنا؛ لأن في الكلام لفاً ونشراً، فإن ((رعوا)) مناسب لـ ((أنبت الكلأ، وفشربوا، وسقوا الأجادب، وأمسكت الماء))، فيكون الضمير في ((نفع الله بها)) لأرض ومعنى كلاهما صحيح؛ لأن ((زرعوا)) أيضاً متعلق بالأول لا بالأجادب، فإنها لا تكفي الشرب والسقي فضلا عن الزرع، فعلى هذا قد ذكر في الحديث الطرفان: العالي في الاهتداء، والغالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله: ((فقه في دين الله – إلى آخره)) وكنى عمن أبى قبولها بقوله: ((لم يرفع بذلك رأساً)) وبقوله: ((لم يقبل هدى الله))؛ لأن الثاني عطف

151 - وعن عائشة، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ)، وقرأ إلى: (ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيت – وعند مسلم: رأيتم – الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تفسيري للأول، وترك الوسط، وهو قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني لم ينتفع هو بنفسه، ولكن نفع الغير. وفي الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست بمكتسبة، بل هي مواهب ربانية يختص بها من يشاء، وكمالها أن يفيض الله عز وجل عليها من المشكاة النبوية، فإذا وجد من يشتغل بغير الكتاب والسنة وما والاهما علم أن الله لم يرد به خيراً، فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علم، وفاقد أحدهما فاقد هذا الاسم، وان العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيد بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لم يحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرداً من الرعي، فيشبه آخذه المستسقي، لو منعهما معاً كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقيها. قال: ومن منح الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم. الحديث الثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((هن أم الكتاب)) سميت بها لأنها بينة في نفسها، مبينة لما عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سميت مكة أم القرى لدحو الأرض منها. قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتضح المحق من المبطل من أبواب التأويل، فنقول – وبالله التوفيق -: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، الثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن تكون مساوية أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول؛ فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، وبين المجمل والمؤول هو المتشابه. هكذا ينبغي أن يقسم؛ لأنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه في قوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) وهو ما لم يتضح معناه، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله مما يتضح معناه. ويعضد ما ذكرنا أسلوب الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم. وذلك أنه تعالى لما فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أراد أن يضيف إلى كل منهما ما يناسبهما من الحكم، قال أولا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وثانياً: {والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} وكان من الظاهر أن

152 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ يقال: فأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم. فوضع موضع ذلك: ((الراسخون في العلم يقولون آمنا)) وإنما وضع ((يقولون آمنا)) موضع ((يتبعون المحكم)) لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا من بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على سبيل الرشاد، ورسخ القدم في العلم – أفصح صاحبه النطق بالقول الحق إرشاداً للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} شاهداً على أن {والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} مقابل لقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}. وفيه أيضاً إشارة إلى أن الوقف ((على الله)) والابتداء بقوله: ((والراسخون)) وقف تام، إلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه عليه الصلاة والسلام بقوله: ((إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله زائغين، فاحذروهم)). وقوله: ((رأيت)) وقع في صحيح البخاري بفتح التاء وكذا في بعض نسخ المصابيح على الخطاب العام، ومن ثم جمعه في قوله: ((فاحذروهم)) ويؤيده رواية مسلم: ((رأيتم)). وفي بعضها بكسر التاء خطابا لأم المؤمنين، فيكون ((فاحذروهم)) على أسلوب قوله تعالى: {ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} لأنها أم المؤمنين بياناً لشرفها وغزارة علمها. ((الكشاف: كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان! افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقدمه، واعتباراً لترؤسه. ((تو)): المتشابه الذي يحذر منه، هو صفات الله تعالى التي لا كيفية لها، وأوصاف القيامة التي لا سبيل إلى إدراكها بالقياس والاستنباط، ولا سبيل إلى استحضارها في النفوس، إلا أنها معرفة على لسان الشارع. وسئل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. السجاوندي: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادات، فالحكيم إذا صنف كتاباً ربما أجمل فيه إجمالاً؛ ليكون موضع جثو المتعلم لأستاذه، والملوك يكثر في أمثلتهم علامات لا تدركها العقول. وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة، وما استأنس إلى التذلل بغير العبودة، والمتشابه هو موضع جثو العقول

فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)). رواه مسلم. [152] 153 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لبارئها استسلاماً واعترافاً بقصورها والتزاماً – انتهى كلامه. وأما قوله: {ومَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فهو تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين، يعني من لم يذكر ولم يتعظ ويتبع هواه ليس من أولي الألباب، ومن ثم قال الراسخون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} خضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني، واستعاذوا به من الزيغ النفساني. والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن عبد لله بن عمرو: قوله: ((هجرت)) التهجير السير في الهاجرة، وكذلك التهجر، ومنه قول النابغة: خليلي غضا ساعة وتهجرا. ((مظ)): لعل خروجه في هذا الوقت ليدركه عليه الصلاة والسلام، ويستفد منه عند خروجه من الحجرة، فلا يفوت منه شيء مما يصدر عنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأفعال. وفيه تحريض على تحمل مشقة الحرارة وغيرها، والإسراع إلى المسجد، وطلب العلم. ((مح)): حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة، كاختلاف اليهود والنصارى، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو فيما يوقع في شك، أو شبهة، وفتنة، وخصومة، وأما اختلاف استنباط فروع الدين منه، ومناظرة أهل العلم فيه على سبيل الفائدة، وإظهار الحق، واختلافهم في ذلك – فليس بمنهى عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد أجمع المسلمون من عهد الصحابة إلى الآن على ذلك. الحديث الرابع عشر عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((إن أعظم المسلمين جرماً)) فرع على قوله: ((أجرم المسلمين)) وفيه من المبالغة أنه جعل نفسه عظيماً ففخم، ثم فسره

154 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)). رواه مسلم. [154] ـــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: ((جرماً)) ليدل على أن الأعظم نفسه جرم، كقوله تعالى: {وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًًا}. ((وفي المسلمين)) أي في حقهم وجهتهم، وإنما كان أعظم لأن سراية هذا الضرر عمت المسلمين إلى انقراض العالم. وبيان ذلك أن القتل وإن كان اكبر الكبائر بعد الشرك فإنه يتعدى إلى القاتل، أو إلى عاقلته، أو إلى قبيلته، ولكن جرم من حرم ما سئل عنه لأجل مسألته، فإنه تعدى في سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهي في معنى العموم إلى هذا الحد. السؤال في كتاب الله تعالى، وفي الحديث نوعان: أحدهما ما كان على طريق التكلف والعنت، وهو مكروه ينهى عنه، وكل ما كان من هذا الوجه ووقع السكوت عن جوابه فإنما هو ردع وزجر للسائل، فإن وقع الجواب عنه فهو عقوبة وتغليظ. ((مظ)): هذا في حق من سأل عبثاً وتكلفاً كمسألة بني إسرائيل في بيان البقرة؛ دون من يسأل سؤال حاجة، فهو مثاب، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} واحتج بهذا الحديث من يذهب إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة، حتى يقوم دليل على الحظر. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدجالون)) المزورون الملبسون، سمى دجالا لتمويهه على الناس، وتلبيسه الباطل بما يشبه الحق. يقال: دجل إذا موه ولبس. ((تو)): يقول: سيكون جماعة يقولون للناس: نحن علماء ومشايخ، وندعوكم إلى الدين، وهم كاذبون في ذلك، ويتحدثون بالأحاديث الكاذبة، ويبتدعون أحكاماً باطلة، واعتقادات فاسدة، ((فإياكم)) أي احذروهم، انتهى كلامه. قيل: يجوز أن تحمل ((الأحاديث)) على المشهور عند المحدثين، فيكون المراد بها الموضوعات وأن يراد بها ما هو بين الناس، أي يحدثونكم بالذي ما سمعتم عن السلف من علم الكلام، فإنه لم يتكلم فيه الصحابة والتابعون. قال محيي السنة في شرح السنة: واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه. سأل رجل عمر بن

ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: ألزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي، واله عما سوى ذلك. وقال مالك بن أنس: وإياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله! وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل. وسئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: دع الباطل، أين أنت من الحق؟ اتبع السنة ودع البدعة. وقال: وجدت الأمر في الإتباع، وقال: عليكم بما عليه الجمالون، والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاب من الإقرار والعمل. وقال الشافعي: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بالكلام. وقال: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة والكتاب، وأخذ في الكلام. فإن قلت: كيف الجمع بين هذا الذم البليغ في أمر الكلام، وبين قول الشيخ محيي الدين فيما سبق: إن علم الكلام من البدع الواجبة؟ قلت: إن الوجوب من حيث الضرورة من غلو المبتدعة والملاحدة، فحينئذ واجب على المسلمين دفعهم، ورفع شبههم، والمحذور جعله صنعة وعادة، ولهذا كان تعلم علم الكلام من فروض الكفايات كسائر الصناعات المباحة، وشبه حجة الإسلام المتكلم (بالدرقة). قوله: ((لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) النون مانعة عن أن يكون جواباً للأمر، ففيه وجهان أحدهما: أن يكون إخباراً، فكأنه لم قيل لهم: احذروا أنفسكم عنهم، واحذروهم أن يتعرضوا لكم، قيل: ماذا يكون بعد الحذر؟ فأجيب لا يضلونكم، كقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} إذا قرئ بالرفع على إرادة الإخبار، وينصره قراءة أبي حيان: لا يضيركم. وثانيهما: أن يكون خبراً بمعنى النهي، كقوله تعالى: {وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ} وهذا أبلغ من صريح النهي، كأن المطلوب قد حصل، وهو يخبر عن حصوله، فيكون النهي تأكيداً للأمر، كأنه قيل: احذروهم ولا تتعرضوا، لما إن تعرضتم له يضلونكم كقوله تعالى: {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} وقوله تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا}.

155 - وعنه، قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا))) الآية. رواه البخاري. 156 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم. [156] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب)) يعني إذا حدثت اليهود والنصارى بشيء من التوراة والإنجيل لا تصدقوهم، لعلهم حدثوكم بما هو محرف ومختلط منهما، ولا تكذبوهم أيضاً لاحتمال أن يكونوا حقا وصدقاً، بل قولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الآية، إن كان حقا آمنا به لأنا آمنا بجميع الرسل، وبما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقا فلا نؤمن به، ولا نصدقه أبداً. ((حس)): هذا أصل في وجوب التوقف عما يشكل من الأمور والعلوم، فلا يقضي فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف. سئل عثمان رضي الله عنه عن الجمع بين الأختين من ملك اليمين، قال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. ولم يقض فيه بشيء. الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كفى بالمرء كذباً)) ((مظ)): ((كذباً)) منصوب على التمييز، و ((أن يحدث)) فاعل ((كفى)) و ((بالمرء)) مفعوله، يعني لو لم يكن للرجل كذب إلا تحدثيه بكل ما سمع – من غير تبينه أنه صدق أو كذب – يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن الرجل إذا تحدث بكل ما سمع لم يخلص من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقاً، بل يكون بعضه كذباً. وهذا زجر عن التحدث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم على الرجل أن يبحث في كل ما سمع من الحكايات والأخبار، وخاصة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن علم صدقه يتحدث، وإلا فلا يتحدث. أقول: لعل محيي السنة مال إلى أن الحديث ورد في الأحاديث النبوية خاصة، حيث أورد هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة، ويعضده ما روي: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).

157 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويتقدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر عن ابن مسعود: قوله: ((في أمته قبلي)) ((تو)): هذا الحرف أعنى ((في أمة)) وجدنا في نسخ المصابيح ((في أمته)) بزيادة هاء، ونحن نرويه بغير هاء عن كتاب مسلم وغيره، وهو الصواب، والأمثل في فصيح الكلام. قال المؤلف: وقد وجدت في كتاب الحميدي والجامع والمشارق بغير هاء، وفي صحيح مسلم كما في المصابيح. ((مظ)) الرواية بالهاء أصح. وأقول: إن قوله: ((نبي)) نكرة، والمناسب أن يؤتى ((أمة)) نكرة، إذ المعنى ما من نبي من الأنبياء في أمة من الأمم، لاقتضاء ((ما)) النافية و ((من)) الاستغراقية ذلك، ولأن قوله: ((كان له من أمته)) عبارة عن النكرة، فهو كالتعريف باللام بعد النكرة. ((الحواري)) الناصر، وأصله أن أصحاب عيسى عليه السلام كانوا قصارين يبيضون الثياب، فلما صاروا أنصاره قيل لكل ناصر لنبيه: حواري، وهو الوجه المستقيم؛ لأنهم خلصان الأنبياء، ولأن حواري الرجل صفوته وخالصته الذي أخلص ونقى من كل عيب. و ((الخلف)) بالتحريك والتسكين، وخص الأول بالخلف الصدق، والثاني بالسوء، ويجمع خلف على أخلاف، كسلف وأسلاف، وخلف على خلوف، كعدل وعدول، والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات. وقوله: ((حبة خردل)) يعني أدنى مراتب أهل الإيمان تضطرب قلوبهم لظهور المنكر، ويكون منه في جهد وعناء، حتى لا يستقر، ولا ينقطع النزاع عنها، فإن استقرت على ذلك وانقطع عنها النزاع الذي هو حق الإيمان وسمت المؤمنين وسمتهم – أذنت بأنها خالية عن القوى الإيمانية، عرية عن الصفات النورانية. وأقول: إن ذهب إلى الرواية الصحيحة يكون ((من قبلي)) صفة ((أمة))، وإلى الأخرى يجوز أن يتعلق بـ ((نعت))، أو يكون حالا من ((أمته))، و ((أصحاب)) يجوز أن يكون عطفاً تفسيرياً على ((الحواريون))، وأن يكون الأصحاب غير الحواريين. و ((ثم)) ههنا يجوز أن يجري على الحقيقة، وعلى معنى البعد في المرتبة. والضمير في ((أنها)) للقصة، والجملة بعدها مفسرة لها، وصف الخلوف بوصفين مقابلين، لما وصف الأصحاب بهما فهم تصلفوا، حيث قالوا: فعلنا ما أمرنا به من واجبات الدين، وفضائل الأعمال، ولم يفعلوا شيئاً من ذلك، بل فعلوا ما نهوا عنه، وهو

جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم [157] 158 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى بقوله: ((ويفعلون ما لا يؤمرون)) إذ فعل ما لم يؤمر به شرعاً من البدع المنهي عنها، ومنه قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} بخلاف السلف الصالح؛ فإنهم لا اقتدوا بهدي نبي الله انخرطوا في سلك الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. والفاء في ((فمن جاهدهم)) جزاء شرط محذوف، والتنكير في ((مؤمن)) للتنويع، فإن الأول دل على كمال الإيمان، والثالث عن نقصانه، والمتوسط على القصد فيه، وفي ((حبة خردل)) على نفيه بالكلية، وهي اسم ليس، و ((وراء ذلك)) خبره، و ((من الإيمان)) صفتها، قدمت فصارت حالا منها. وذهب المظهر إلى أن الإشارة بذلك إلى الإيمان في المرتبة الثالثة، ويحتمل أن يشار به إلى المذكور كله، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبة قط؛ لأن من لم ينكر بالقلب رضي بالمنكر، والرضي بالمنكر كفر، فتكون هذه الجملة المصدرة بليس معطوفة على الجملة قبلها بكمالها. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من دعا إلى هدى)) ((قض)): أفعال العباد وإن كانت غير موجبة ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها إلا أنه تعالى أجرى عادته بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسببات بالأسباب، وفعل العبد ما له تأثير في صدوره بوجه، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره ويزاوله، يترتب كل منهما على ما هو سبب عن فعله. كالإرشاد إليه، الحث عليه، ولما كانت الجهة التي بها استوجب المسبب للأجر والجزاء غير الجهة التي استوجب بها المباشر – لم ينقص أجره من أجره شيئاً. أقول: ((هدى)) وهو إما الدلالة الموصلة إلى البغية، أو مطلق الإرشاد، وهو في الحديث ما يهتدي به من الأعمال الصالحة، وهو بحسب التنكير مطلق شائع في جنس ما يقال له: هدى، يطلق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمه هدى من دعا إلى الله، وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين، وأدناه هدى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومن ثم عظم شأن الفقيه الداعي المنذر، حتى فضل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نفعه يعم الأشخاص

من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم [158] 159 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)) رواه مسلم [159]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأعصار إلى يوم الدين، ونرجو من رحمة الله وكرمه أن يكون سعينا في هذا الكتاب منتظماً في هذا السلك، ويرحم الله عبداً قال: آمينا. الحديث العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بدأ الإسلام)) ((مح)): بدأ بالهمزة من الابتداء، كذا ضبطناه. ((تو)): يريد أن الإسلام لما بدأ في أول الوهلة نهض بإقامته والذب عنه أناس قليلون من أشياع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزاع القبائل فشردوهم عن البلاد، ونفوهم عن عقر الديار، يصبح أحدهم معتزلا مهجوراً، ويبيت منتبذاً وحداناً كالغرباء، ثم يعود آخراً إلى ما كان عليه، لا يكاد يوجد من القليلين إلا الأفراد. ويحتمل أن تكون المماثلة بين الحالة الأولى والحالة الأخيرة لقلة من كانوا يتدينون به في الأول، وقلة من كانوا يعملون به في الآخر، فطوبى للغرباء المتمسكين بحبله المتشبثين بذيله. أقول: لا يخلو إما أن يستعار الإسلام للمسلمين، فالغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وإما أن يجري الإسلام على الحقيقة، فالكلام فيه على التشبيه، والوحدة والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعلى هذا ((غريباً)) إما حال، أي بدأ الإسلام مشابهاً للغرباء، أو مفعولا مطلقاً، أي الإسلام ظهر ظهور الغرباء حين بدأ فريداً وحيداً، لا مأوى له، حتى تبوأ دار الإسلام أعنى طيبة، فطوبى له وطاب عيشاً، ثم أتم الله نوره، فانبث في الآفاق فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، فيعود في آخر الأمر وحيداً فريداً شريداً إلى طيبة كما بدأ، فطوبى له ولهفى عليه، كما ورد: ((الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها)) فعلى هذا ((طوبى)) ترشيح الاستعارة والله أعلم.

160 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها)). متفق عليه. وسنذكر حديث أبي هريرة: ((ذروني ما تركتكم)) في كتاب المناسك، وحديثي معاوية وجابر: ((لا يزال من أمتي)) و (الآخر): لا يزال طائفة من أمتي)) في باب: ثواب هذه الأمة، إن شاء الله تعالى. الفصل الثاني 161 - عن ربيعة الجرشي، قال: أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لتنم عينك، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليأرز)) أي ينضم إليها وينقبض، يقال: أرز يأرز أرزاً أروزاً. ومنه الأروز للبخيل، سمي به لأنه ينقبض إذا سئل، والمأرز الملجأ أيضاً. قيل: يحتمل أن يكون هذا إخباراً منه صلى الله عليه وسلم عما كان في ابتداء الهجرة، ويحتمل أنه أخبر عن آخر الزمان حين يقل الإسلام، فينضم إلى المدينة، فيبقى فيها، شبه الإيمان وفرار الناس من آفات المخالفين والتجاءهم إلى المدينة – بانضمام الحية في حجرها، ولعل هذه الدابة أشد فراراً وانضماماً من غيرها، فشبه بها بمجرد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف، والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن ربيعة قوله: ((أتى)) ((مظ)): أي أتى ملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك، ومعناه لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تصغ بأذنك إلى شيء، ولا تجر شيئاً في قلبك، أي كن حاضراً حضوراً تاماً لتفهم هذا المثل، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأني قد فعلت ما تأمرني، ((فقيل لي)) أي قال ذلك الملك. أقول – والله أعلم -: قوله: ((لتنم عينك)) الأوامر الثلاث واردة على الجوارح ظاهراً وهي في الحقيقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجمع بين هؤلاء الخلال الثلاث في نفسه، وأن يكون نائم العين، حاضراً بالسمع والقلب، على ما سبق في الحديث الخامس من الباب: ((إن العين نائمة والقلب يقظان))، وعلى هذا جوابه قال: فنامت إلى آخره، أي امتثلت لما أمرت به، ويجوز أن لا يكون ثم قول ولا جواب، كما قال الله تعالى: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وقال سبحانه: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}.

ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك. قال: فنامت عيني، وسمعت أذناي، وعقل قلبي)). قال: فقيل لي: سيد بنى داراً، فصنع فيها مأدبة وأرسل داعياً؛ فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد، ومن ثم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، وسخط عليه السيد)). ((قال: فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة)) رواه الدارمي [161]. 162 - وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الكشاف)) معنى ((قال له ربه أسلم)) أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام، فقال: أسلمت، أي فنظر وعرف، والمعنى أراد الله أن يجمع فيه صلى الله عليه وسلم بين أولئك المعاني، فأجمعت فيه. والقول يستعار كثيراً فيما لا نطق فيه، كما قال الشاعر: إذا قالت الأنساع للبطن ألحفي يقول سني للنواة طني وقال الجدار للوتد لم تشقني قال سل عمن يدقني قوله: ((فقيل لي سيد)) القول هذا على حقيقته من الملائكة كما في ذلك الحديث، و ((سيد)) مبتدأ والخبر ((بنى)) أي سيد عظيم الشأن كثير الإحسان. ((شف)): يجوز أن يكون مبتدأ مخصوصاً بالصفة، والخبر محذوف، وأن يكون خبراً محذوف المبتدأ – انتهى كلامه. فإن قلت: كيف شبه في ذلك الحديث الجنة بالدار، وفي هذا الإسلام بالدار، وجعل الجنة مأدبة؟ قلت: لما كان الإسلام سبباً لدخول الجنة اكتفى في ذلك الحديث بالمسبب عن السبب، ولما كانت الدعوة إلى الجنة لا تتم إلا بالدعوة إلى الإسلام كما قال الله تعالى: {واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} – استقام وضع كل منهما مقام الآخر، وحين كان نعيم الجنة وبهجتها هو المطلوب الأولى جعل الجنة نفس المأدبة مبالغة فيهما. الحديث الثاني عن أبي رافع: قوله: ((لا ألفين)) ألفيت الشيء إذا وجدته، وهو كقولك: لا أرينك. ههنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عن أن تراهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على تلك الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها وجدهم صلى الله عليه وسلم كذلك، فهو من باب إطلاق المسبب

في كتاب الله اتبعناه)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) [162]. 163 - وعن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: حرام عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما ـــــــــــــــــــــــــــــ على السبب، ومن الكناية الإيمائية. و ((الأريكة)) سرير مزين من قبة أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة. ((حس)): أراد بهذه الصفة أصحاب الترفة والبدعة الذين لزموا البيوت، وصدوا عن طلب العلم والحديث. ((مظ)): أراد بالوصف التكبر والسلطنة، و ((مما أمرت به)) بدل من ((أمري))، ومعنى ((لا أدري)) لا أدري غير القرآن، ولا اتبع غيره. أقول: يجوز أن يراد بقوله: ((الأمر من أمري)) الأمر الذي هو بمعنى الشأن، ويكون ((مما أمرت به أو نهيت عنه)) بياناً للأمر الذي هو الشأن؛ لأنه أعم من الأمر والنهي. وقوله: ((فيقول: لا أدري)) مرتب على ((يأتيه))، والجملة كما هي حال أخرى من المفعول، ويكون النهي منصباً على المجموع، أي لا ألفين أحدكم حاله أنه يتكئ ويأتيه الأمر فيقول: لا أدري. الحديث الثالث عن المقداد: قوله: ((إلا إني أوتيت)) ((نه)): يحتمل هذا وجهين من التأويل: أحدهما أنه أوتى من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطى من الظاهر، والثاني أنه أوتي الكتاب وحياً، وأوتي من التأويل مثله، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب، فيعمم ويخصص، ويزيد وينقص، فيكون ذلك في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. وقيل: ((ومثله معه)) أي أحكاماً ومواعظ وأمثالاً تماثل القرآن في كونها وحياً، أو كونها واجبة القبول، وتنزه نطق رسوله عن الهوى، وأمر بمتابعته فيما يأمر وينهي، فقال عز من قائل: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} وقال الله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} أو يماثله في المقدار، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض التالي لهذا الحديث: ((إنها لمثل القرآن أو أكثر)). وقوله: ((ألا يوشك)) أي أنبهكم بأنه قريب أن يقول رجل شبعان. ((قض)): إنما وصفه بـ ((الشبعان)) لأن الحامل له على هذا القول إما البلادة وسوء الفهم، ومن أسبابه الشبع وشره

حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله؛ ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها, ومن نزل بقوم, فعليهم أن ـــــــــــــــــــــــــــــ الطعام وكثرة الأكل, وإما البطر والحماقة, ومن موجباته التنعم والغرور بالمال والجاه, والشبع يكنى به عن ذلك, ((وعلى أريكته)) متعلق بمحذوف في حيز الحال, أي متكئا أو جالسا, وهو تأكيد وتقرير لحماقة القائل وبطره وسوء أدبه. ((خط)): ذكره على ما ذهب إليه الخوارج والظواهر, فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنة التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. قوله: ((ألا لا يحل لكم)) إلى آخره, بيان للقسم الذي يثبت بالسنة, ولم يوجد له ذكر في الكتاب, ومنه: ((ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها)). ((خط)): معناه إلا أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها. ((شف)): ((يقروه)) بفتح الياء, يقال: قريت الضيف قرى, مثل قليته قلى, وقراء إذا أحسنت إليه, إذا كسرت القاف قصرت, إذا فتحت مددت. وقوله: ((فعليهم أن يقروه)) أي سنة واستحبابا لا فرضا وإيجابا, فإن قرى الضيف غير واجب قطعا, لحديث الأعرابي, وهو قوله: ((هل على غيرهن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا, إلا أن تطوع)). وقوله: ((فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)) أي فله أن يتبعهم ويجازيهم من صنيعهم بأن يأخذ من مالهم مثل قراه, يقال: أعقبه بطاعته إذا جازاه. قلت: فهو من باب الإفعال, وبعضهم يجعله من باب التفعيل, والمعقب الطالب, قال لبيد: طلب المعقب حقه المظلوم قال في نهاية الجزري: أي فله أن يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى, ويقال: عقبهم مشددا ومخففا وأعقبهم إذا أخذ منهم عقبى, وعقبه وهو أن يأخذ منهم بدلا عما فاته, وهذا في المضطر الذي لا يجد طعاما, ويخاف على نفسه التلف, ويحتمل أن الأمر بأخذه مقدار القرى من مال المنزو لبه كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة, ومما يؤيد هذا الاحتمال قوله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث العرباض: ((وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب – إلى قوله – ولا أكل ثمارهم – إلى قوله – إذا أعطوكم الذي عليهم من الجزية)). أقول: قول من قال: إن المراد بالمثل العدد هو الوجه, ويؤيده الحديث التالي كما سبق, ومطابقته للرد, فإن قول الرجل: ((فما وجدتم من حلال فأحلوه)) يشعر بأن الكتاب استوعب جميع الأحكام الحلال والحرام, ويعضده ما في حديث العرباض, وقوله: ((يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن)) حيث أتى بأداة الحصر, فالرد إنما يستقيم إذا حمل على العدد, وأيضا قوله: ((معه)) صفة لمثله؛ لأن المثل متوغل في الإبهام, لا يتعرف بلإضافة, فمعناه أوتيت مثل الكتاب مصاحبا مع الكتاب أحكام وسنن مثله في العدد أو أكثر, ولأن قوله: ((ألا لا يحل

يقروه, فإن لم يقروه, فله أن يعقبهم بمثل قراه)) رواه أبو داود, وروى الدارمي نحوه, وكذا ابن ماجه إلى قوله: ((كما حرم الله)) [163] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحمار الأهلى)) شروع في تعديل مسائل تتعلق بالأحكام تمثيلا لا تحديدا, فعلى هذا التمسك بالحديث على جواز نسخ القرآن بالحديث خلافا للشافعي ؤضي الله عنه ضعيف. اعلم أن كلمة التبيه مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية معطية معنى يحقق ما بعدها, ولكونها بهذه المثابة لا يكاد يقع ما بعدها إلا كانت مصدرة بما يصدر به جواب القسم وشقيقها إما, وتكررها في هذا الحديث توبيخ وتقريع نشأ من عظيم على من ترك السنة والعمل با لحديث, استغناء عنها بالكتاب, هذا مع الكتاب فكيف بمن رجح الرأي على الحديث؟ وإذا سمع حديثا من الأحاديث الصحيحة قال: لا علي بأن أعمل بها, فإن لي مذهبا أتبعه. وفي قوله: ((ومثله)) استعارة بأنه صلى الله عليه وسلم ما تكلم ولا عمل من تلقاء نفسه, بل بإذن الله تعالى. وقيل: ما أوتي الرسول غير القرآن على أنواع: أحدها الأحاديث القدسية التي أسندها إلى رب العزة, وثانيها ما ألهم, وثالثها ما أرى في المنام, ورابعها ما نفث جبريل عليه السلام في روعه, أي في قلبه. و ((على أريكته)) يجوز أن يكون صفة بعد صفة لرجل, فتكون الصفة الثانية تكميلا للذم؛ فإن الأولى تدل على الدعة والبطر, والثانية على التكبر والتجبر. ويجوز أن تكون حالا من ((رجل)) لا تصافه بشبعان فيكون تتميما ومبالغة في بطره وأشره, وفيه تشنيع عظيم ونهي فظيع على ذلك القائل. قوله: ((إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم)) يحتمل أن يكون من كلام الراوي كما ذهبوا إليه, وأن يكون من كلامه صلى الله عليه وسلم من باب الاستدراج ولإرخاء العنان على سبيل التجرد, كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ} تنبيها به على أن من اسمه رسول الله ونبيه وخيرته من خلقه حقيق بأن يستقل بأحكام سوى ما أنزله الله عليه. قالوا في ((وإنما)) للحال من قوله: ((رجل شبعان)) , والعامل ((يوشك)) , وهي مقررة لجهة الإشكال, أي كيف يقول ما يقول والحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيه؟ هذا هو الوجه؛ لأن الذهاب إلى أنه من كلام الراوي تخلل بين كلامي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعسف بعيد من الفصاحة. أما بيان النظم فإنه صلى الله عليه وسلم قرر أولا بقوله: ((ألا إني أوتيت الكتاب)) أنه صلى الله عليه وسلم شرع أيضا أحكاما

164 - وعن العرياض بن سارية, قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيحسب أحدكم متكئا على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟! ألا وإني ـــــــــــــــــــــــــــــ في الدين سوى القرآن, وثنى بتوبيخ من أنكر ذلك, وجعله متكبرا بطرا طاغيا, وثلث بما يشعر بالتعليل, وأن له أن يستقل بالأحكام, وربع ببيان صور معدودة تحقيقا للمطلوب كما مر. قوله: ((ومن نزل بقوم)) إلى آخره, أخرجه من سياق المبهمات, حيث لم يقل: لا يحل للمضيف أن لا يكرم ضيفه, وأبرزه في معرض الشرط والجزاء دلالة على أن ذلك ليس بمحرم, ولكنه خارج عن سمة أهل المروءة, وهدى أهل الإيمان, وليتأهل فاعله أن يخذل, ويستهجن فعله, ويجازى بكل قبيح. فإن قلت: دلت هذه الصور على المحرمات, فأين ذكر ما أحله صلى الله عليه وسلم قلت: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما خصه الدليل؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فخصت منها أشياء بنص التنزيل, وبقي ما عداها في معرض التحليل, فخص منها بنص الحديث بعض, فبقي سائرها على أصل الإباحة, وكأنه صلى الله عليه وسلم نص على تحليلها, فلا يزيد ولا ينقص. والله أعلم. الحديث الرابع عن العرباض: قوله: ((أيحسب)) ((شف)): ((يظن)) بدل من ((يحسب)) بدل الفعل من الفعل, و ((عن أشياء)) متعلق بلنهي فحسب, ومتعلق الأمر والوعظ محذوف, أي أمرت ووعظت بأشياء, ونهيت عن أشياء. أقول: يجوز أن يكون التكرار للتأكيد, كما في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} والواو في قوله: ((ألا وإني)) كالواو في ((وإنما حرام)) في الحديث السابق؛ لأن الهمزة في ((أيحسب)) للإنكار, وكذا في ((ألا)) فلمعنى أيحسب أحدكم أن الله خص المحرمات في القرآن؟ والحال أني قد حرمت, وأحللت, ووعظت. فأقحم حرف التنبيه المتضمن للإنكار بين الحال وعاملها, كما أقحم حرف الإنكار بين المبتدأ والخبر, في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} جاءت الهمزة مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر, ذكره الزجاج. ((مظ)) ((أو)): في قوله: ((أو أكثر)) ليس للشك, بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علما طورا بعد طور, وإلهاما من قبل الله تعالى ومكاشفة لحظة بلحظة, فكوشف له أن ما أوتي من الأحكام غير القرآن مثله, ثم كوشف له بالزيادة متصلا به.

والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر, وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن, ولا ضرب نسائهم, ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)) رواه أبو داود وفي إسناده: أشعث بن شعبة المصيصي, قد تكلم فيه. [164]. 165 - وعنه, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم, ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة, ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب. فقال رجل: ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: يمكن أن يقال: ((أو)) هذه مثلها في قوله تعالى: {وأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي بل يزيدون. وقوله: (إن الله لم يحل)) إلى آخر الحديث كناية عن عدم التعرض لهم بأبدانهم في المسكن والأهل والمال إذا أعطوا الجزية, وإنما وضع قوله: ((الذي عليهم)) موضوع الجزية ليؤذن بفخامة العلة, وبأن عدم التعرض معلل بأداء ما عليهم, ولو صرح بها لم يفخم. الحديث الخامس عن العرباض: قوله: ((ذات يوم)) سبق معناه في حديث جبريل. ((تو)): ((بليغة)) أي بالغ فيها بالإنذار والتخويف, كقوله تعالى: {وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} ((قض)): البلاغة وجازة اللفظ وكثرة المعنى مع البيان. أقول: والأول هو الوجه, لقوله: ((ذرفت منها العيون)) , أي منها الدمع, وكان ذلك لاستيلاء الخشية على القلوب, وتأثير الرقة فيها. أقول: فإسناد الذرف إلى العيون كإسناد الفيض إليها في قوله تعالى: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} كأن أعينهم ذرفت مكان الدمع مبالغة فيها, وفائدة تقديم ((ذرفت العيون)) على ((وجلت القلوب)) ومقره التأخير – على ما قاله الشيخ – للإشعار بأن الموعظة أثرت فيهم, وأخذت منهم بمجامعهم ظاهرا وباطنا. قوله: ((إنهما لم يذكرا الصلاة)) أي الترمذي وابن ماجه لم يأتيا بصدر الحديث, وهو قوله: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كما في المصابيح, فإنه افتتح بقوله: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)). قوله: ((موعظة مودع)) فائدة هذا القيد أن المودع عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع ويفتقر إليه إلا ويورده ويستقصي فيه.

يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فأوصانا, فقال: ((أوصيكم بتقوى الله, والسمع والطاعة, وإن كان عبدا حبشيا, فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد, وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة)) رواه أحمد وأبو داود, والترمذي وابن ماجه إلا أنهما لم يذكرا الصلاة. [165] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والسمع والطاعة)) أي أوصيكم بقبول قول الأمير وطاعته, وبما أمركم به ولو كان أدنى خلق, وهذا وارد على سبيل المبالغة لا التحقيق, كما جاء: ((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة)) يعني لا تستنكفوا عن طاعة من ولى عليكم ولو كان عبدا حبشيا, إذ لو استنكفتم عنه لأدى إلى إثارة الحروب, وتهيج الفتن, وظهور الفساد في الأرض, فعليكم بالصبر والمداراة حتى يأتي أمر الله. والفاء في ((فإنه)) للتسبيب, جعلت ما بعدها سببا لما قبلها, يعني من قبل وصيتي, والتزم تقوى الله, وقبل طاعة من ولي عليه, ولم تهيج الفتن – أمن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير, وتشعيب الآراء, ووقوع الفتن. ثم أكد تلك الوصية بقوله: ((فعليكم بسنتي)) على سبيل الالتفات, وعطف عليه قوله: ((وإياكم ومحدثات الأمور)) تقريرا بعد تقرير, أو توكيدا بعد توكيد. وكذا قوله: ((تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) تشديد على تشديد. والمراد بالخلفاء الراشدين أبو بكر, وعمر وعثمان, وعلي – رضي الله عنهم أجمعين -. ((تو)) ليس معناه انتفاء الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون في أمتي اثني عشر خليفة)) وإنما المراد تفخيم أمرهم, وتصويب رأيهم, والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم. وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته؛ لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من سنته بالاجتهاد, ولأنه صلى الله عليه وسلم عرف أن بعض سنته لا تشتهر إلا في زمانهم, فأضاف إليهم دفعا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة, فأطلق القول باتباع سنتهم سدا لهذا الباب. و ((النواجذ)) الأضراس, وقيل: الضواحك, وقيل: الأنياب, والعض بالنواجذ مثل في التمسك بهذه الوصية بجميع ما يمكن من الأسباب المعنية عليه, كمن يتمسك بشيء ثم يستعين عليه بأسنانه استظهارا للمحافظة. ((حس)): في الحديث دليل على أن واحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه غيره من

166 - وعن عبد الله بن مسعود, قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا, ثم قال: ((هذا سبيل الله)) , ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله, وقال: هذه سبل, على كل ـــــــــــــــــــــــــــــ الصحابة كان المصير إلى قوله أولى, وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه في القديم, قال: والحديث يدل على تفضيل الخلفاء الراشدين على غيرهم من الصحابة, وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة. والله أعلم. الحديث السادس عن عبد الله قوله: ((خط لنا خطا)) أي خط لأجلنا تقريبا وتفهيما لنا؛ لأن التصوير والتمثيل إنما يسلك ويصار إليه لإبراز المعاني المحتجبة, ورفع الأستار عن الرموز المكنونة, لتظهر في صورة المشاهد المحسوس, فيساعد فيه الوهم العقل, ويصالحه عليه. ((قض)): ((سبيل الله)) هو الدين القويم والطريق المستقيم, وهما الاعتقاد الحق والعمل الصالح, وذلك لا تتعدد أنحاؤه, ولا تختلف جهاته, لكن له درجات ومنازل, يقطعها السالك بعلمه وعمله, فمن زلت قدمه وانحرف عن أحد هذه المنازل فقد ضل سواء السبيل, وتباعد عن المقصد والمقصود, ولا يزال سيره وسعيه يزيد له انهماكا في الضلالة, وبعدا له عن المرمى, إلا أن يتداركه الله بفضله فيلهمه أنه ليس على الطريق, هذا مقام التوبة, ثم ينكص على عقبيه حتى يلحق بالمقام الذي انحرف عنه, وهو الإنابة, ثم يأخذ منها في سلوك ما يليها, وهو السداد. ((مظ)) قوله: ((هذا سبيل الله, ثم خط خطوطا)) إشارة إلى القصد بين الإفراط والتفريط؛ لأن سبيل أهل البدع مائل إلى جانب من الحق, مثاله مسئلة القدر والجبر, فالجبري مائل عن طريق الحق بقوله: لا كسب ولا اختار للعبد, فإنه تفريط؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الكتب والرسل, والقدري أيضا مائل عنه؛ لأنهم يجعلون الخلق خالقا لأفعالهم, فإنه إفراط لما يفضي إلى الشرك؛ فطريق أهل السنة هو القصد, لأنهم يقولون: إن كل ما يجري على العباد بقضاء الله وقدره, ويثبتون الكسب للعبد. وأقول – والله أعلم -: ((هذا سبيل الله)) وقوله: ((هذا صراطي)) أضيف إلى رب العزة, وعرف تفخيما وتعظيما لشأنهما, ونكر حين نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} مدحا, وثبوتها بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنك على صراط, وتهدي إلى صراط, أي صراط الله العزيز الحميد, ثم عرف في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} تعليما للعباد, وإرشادا لهم إلى طلب هذا البغية السنية, والرفعة العلية, والثبات عليها والمواظبة لها, ولرفعة شأنهما جيء بالفاء في قوله: {فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}

سبيل منها شيطان يدعو إليه)) , وقرأ: {وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآية)). رواه أحمد والنسائي, والدارمي. [166]. 167 - وعن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلى هذا الصراط لمح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) وفي حديث معاوية: بقوله ((وهي الجماعة)) وتلك الخطوط التي خطت على اليمين والشمال مشار بها إلى مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين تفرقوا على ثنتسن وسبعين ملة. فإن قلت: ما وثوقك على أنك على الصراط المستقيم؟ فإن كل واحد من الفرق يدعي أنه عليها دون غيره؟ قلت: ليس ذلك بالادعاء والتثبيت باستعمال الوهم القاصر, والقول الزاعم, بل بالنقل عن جهابذة هذه الصنعة وعلماء أهل الحديث الذين جمعوا صحاح الحديث في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحواله وأفعاله, وحركاته وسكناته, وكذا أحوال الصحابة من المهاجرين والأنصار, والذين اتبعوهم بإحسان, مثل جامع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري, ومسلم بن حجاج, وغيرهما من الثقات المشهورين الذين اتفق أهل الشرق والغرب على صحة ما أوردوه في كتبهم من أمور االنبي وأصحابه, ومن تكفل باستنباط معانيها, وكشف مشكلاتها, كالإمام أبي سليمان الخطابي, والإمام محيي السنة أبي محمد البغوي والإمام محيي الدين النووي جزاهم الله عن المسلمين خيرا وجعل سعيهم في الدين مشكورا ثم بعد النقل ينظر من ذا الذي تمسك بهديهم, واقتفى أثرهم, واهتدى بسيرتهم في الأصول والفروع, فنحكم من الذين هم هم. والله أعلم بالصواب. الحديث السابع عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((لا يؤمن أحدكم)) ((تو)): الحديث محمول على نفى الكمال اتساعا, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن جاره بوائقه)) فهو لوجهين: من غير كلفة وكراهية. وذلك حين يذهب عنه كدر النفس, وتبقى صفوتها, فتحلى بالصفات النورانية, وتؤيد بالتقوى الروحانية, وهذه حالة نادرة لا توجد إلا في المحفوظين من أولياء الله – ومن الله المعونة في تيسير كل عسير. ثانيهما أنه يعتقد مخالفة هواه, فإنه إذا اعتقد ذلك وعرفه بالفرضية على نفسه فقد جعل هواه تبعا للشرع وإن يستقيم في المعاملة به. ((مظ)) يجوز أن يحمل هذا على نفي أصل الإيمان, أي يكون تابعا مقتديا لما جئت به من الشرع من الاعتقاد, لا عن الإكراه وخوف السيف مثل المنافقين. وأقول: إنما قيل: ((هواه تبعا)) ولم

حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)). رواه في ((شرح السنة)) , قال النووي في ((أربعينه)): هذا حديث صحيح, رويناه في ((كتاب الحجة)) بإسناد صحيح. [167]. 168 - وعن بلال بن الحارث المزني, قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي, فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن ـــــــــــــــــــــــــــــ يقل: ((هو تابع)) للإيذان بالمبالغة, وأن هواه الذي هو معبوده في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} ومالكه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار, وعبد الدرهم, وعبد الخميصة)) إذا كانا تابعين للشرع كان أبلغ ما يقال: إنه تابع له. ويؤيده ما ذكره الشيخ التوربشتي من أنه محمول على نفي الكمال, أن النفس في أصل خلقها مجبولة على الميل إلى الشهوات النفسانية, والركون إلى استيفاء اللذات الجسمانية, فيستدعى في قهرها على طبيعتها جاذبة قوية تقمعها من أصلها, وإيمانا كاملا على اتباع الشرع, كما قال: الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم أي علة قوية وباعثة عظيمة, وما أحسن موقع ((حتى)) التدريجية؛ لأنها مؤذنة بأن المضارع المنفي ب ((لا)) إنما كملت على سبيل التدريج, حتى بلغت إلى درجة ألجأت الهوى إلى اتباع الشرع. ونظيره في الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) وقد سبق بيانه, والفرق أن المنفي لم يزل في التناقص حتى يستكمل المثبت, والمثبت لم يزل في التزايد حتى ينتهي إلى الكمال – والله أعلم. الحديث الثامن عن بلال: قوله: ((أحيا)) ((مظ)): السنة ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام الدين, وهي قد تكون فرضا كزكاة الفطر, وغير فرض كصلاة العيد, وصلاة الجماعة, وقراءة القرآن في غير الصلاة. وتحصيل العلم وما أشبه ذلك وإحياؤها أن يعمل بها, ويحرض الناس عليها, ويحثهم على إقامتها. ((شف)): نظم الحديث يقتضي ((من سنني)) بصسغة الجمع, لكن الرواية بصيغة المفرد, ((وبدعة

ينقص من أجورهم شيئا؛ ومن ابتدع بدعة ضلالة لا (يرضاها) الله ورسوله, كان عليه (من الإثم) مثل آثام من عمل بها لا ينقص من (أوزارهم) شيئا)) رواه الترمذي. [168]. 169 - ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو, عن أبيه عن جده. 170 - وعن عمرو بن عوف, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين ليأرز إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ ضلالة)) يروى بالإضافة, ويجوز أن ينتصب نعتا ومنعوتا. أقول: قوله: ((من سنتي)) على ما أورد مفردا جنس شائع في أفراد, و ((أحيا)) استعير للعمل بها, وحث الناس عليها, و ((أميتت)) استعارة أخرى لما يقابلها من الترك, ومنع الناس بإقامتها, وهي كالترشيح للاستعارة الأولى, وقوبل قوله: ((أحي سنة من سنتي قد أميتت)) بقوله: ((ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله تعالى ورسوله)) , ووصف السنة بقوله: ((من سنتي)) لتمتاز عن سائر السنن, فإن السنة عبارة عن وصع الشيء ورسمه ليقتدي به, ووصف البدعة وبينهما بقوله: ((ضلالة)) ليشير بأن بعضا من البدعة ليس من الضلالة, كما سبق في تقسيمها. وقوبل قوله: ((قد أميتت)) بقوله: ((لا يرضاها الله ورسوله)) وذلك لأن المبتدع إنما يميت السنة لأنه لا يرضاها, ولا يحب أن يعمل بها. الحديث التاسع عن عمر بن عوف: قوله: ((إلى الحجاز)) مكة والمدينة وما ينضم إليهما من البلاد, سميت بذلك لأنها حجزت بين نجد والغور. قوله: ((ليعقلن)) جواب للقسم, والجملة معطوفة على خبر ((إن)) على تقدير: أقسم بالله. و ((الدين)) مظهر وضع موضوع المضمر, ويجوز

الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها, وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريبا وسيعود كما بدأ, فطوبى للغرباء وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)) رواه الترمذي. [170]. 171 - وعن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي كما أتى على إسرائيل حذو النعل بالنعل, حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية, ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون العطف للجملة على الجملة, وإنما ضوعف أدوات التأكيد وأقيم المظهر موضوع المضمر لأن هذا التمثيل أشرف وأحسن وأنسب بالدين, وكان الاهتمام بهذه الجملة أشد. ((نه)): ((ليعقلن)) ليتحصن به, ويعتصم ويلتجئ إليه, كما يلتجئ الوعل إلى رأس الجبل, و ((الأروية)) الأنثى من الوعول, كأنه صلى الله عليه وسلم خص الأنثى بالذكر لأنها أقدر على التمكن مما توعر من الجبال. و ((معقل)) مصدر بمعنى العقل, يجوز أن يكون اسم مكان. وقيل: معناه أن بعد انضمام أهل الدين إلى الحجاز ينقرضون عنه, ولم يبق منهم فيه أحد. الشارحون: في أكثر نسخ المصابيح: زيد بن ملحة عن أبيه عن جده, وهو غلط لأن زيد بن ملحة جاهلي جد عمرو بن عوف. والصواب رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. وقد مضى شرحه مستقصى في الفصل الأول من الباب في الحديث التاسع. الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو قوله: ((ليأتين)) الإتيان المجيء بسهولة, وعدى بعلى لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك, ومنه قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ((تو)) المراد ((بالأمة)) من تجمعهم دائرة الدعوة من أهل القبلة لأنه أضافهم إلى نفسه, وأكثر ما ورد في الحديث على هذا الأسلوب فإن المراد منه أهل القبلة, ولو ذهب إلى أن

لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت ثنتين وسبعين ملة, وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة, كلهم في النار إلا ملة واحدة)). قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) رواه الترمذي [171]. ـــــــــــــــــــــــــــــ المراد أمة الدعوة فله وجه, وحينئذ يتناول أصناف أهل الكفر. والملة في الأصل ما شرع الله تعالى لعباده على ألسنة الأنبياء, ليتوصلوا به إلى جوار الله, ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها, ثم اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة, فقيل: الكفر كله ملة واحدة. والمعنى أنهم يفترقون فرقا يتدين كل واحد منها بخلاف ما تتدين به الأخرى, فسمى طريقتهم ملة مجازا. وإذا حمل الملة على أهل القبلة فمعنى قوله: ((كلهم في النار)) أنهم متعرضون لما يدخلهم النار من الأفعال الردية. أو المعنى أنهم يدخلونها بذنوبهم, ثم يخرج منها من لم تفض به بدعته إلى الكفر برحمته, و ((إلا ملة واحدة)) أي أهل ملة واحدة, وكشف بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) عما سألوه بقولهم: (من هي))؛ لأن سرت في عروقهم ومفاصلهم, و ((يتجارى)) أكثر ما يستعمل في الحديث لأن كل واحد منها يجري مع صاحبه. و ((الأهواء)) جمع هوى, وهو الميل إلى ماتشتهي النفس, ويقال: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى الداهية, وفي الآخرة إلى الهاوية. وإنما جمعها إيذانا باختلاف أهوائهم وآرائهم, ويسلك كل منهم من الحيرة والضلال فجا غير فج الآخر. والكلب داء يعتري الإنسان من عضة الكلب, وهو داء يأخذه شبه الجنون فيكلب بلحوم الناس, فإذا عض إنسانا كلب ويستولي عليه شبه الماليخوليا. ((مظ)): ((حذو النعل بالنعل)) جعل الشيء مثل شيء آخر, وهو منصوب على المصدر, بعني أفعال بعض أمتي في القبح مثل أفعال بني إسرائيل. أقول: ذهب إلى أن فاعل ((ليأتين)) مقدر, يدل عليه سياق الكلام, والكاف منصوب على المصدر, وذهب الأشرفي إلى أنه فاعل, وقدر المعنى أنه عليهم مثل ما أتى على بني إسرائيل. وقال: ولعل المراد ب ((الأم)) زوجة الأب’ والتقييد بالعلانية لبيان وقاحته, وصفاقة وجهه. قوله: ((لكان في أمتي)) اللام فيه جواب ((إن)) على تأويل ((لو)) كما أن ((لو)) تأتي بمعنى ((إن)) و ((حتى)) هي الداخلة على الجملة الشرطية. وقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) روى محيي السنة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله: ((إن الله تعالى نظر في قلوب العباد, فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم,

172 - وفي رواية أحمد, وأبي داود, عن معاوية: ((ثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة, وهي الجماعة, وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه, لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) [172]. ـــــــــــــــــــــــــــــ فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه, ثم نظر في قلوب الناس, فاختار له أصحابا, فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه, فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن, وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح)). ((حس)): ((الجماعة)) عند أهل العلم أهل الفقه والعلم. قال شريح: إن السنة قد سبقت قياسكم, فاتبع ولاتبتدع, فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر. وقال الشعبي: إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا احتجت إليها أكلتها, قال سفيان في تفسير الجماعة: لو أن فقيها على رأس الجبل لكان هو الجماعة. قوله في رواية معاوية: واحدة في الحنة)) ((مظ)): إنه متصل بقوله: ((كلهم في النار)) وقدر كلهم وواحدة في الجنة. وفيه نظر, لأنه إذا أريد بكلهم ثلاث وسبعون ملة كيف يعطف عليه ((وواحدة))؟ والرواية الصحيحة في سنن أبي داود: ((إن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين, ثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة, وهي الجماعة)) أقول: قوله: ((وإن بني إسرائيل)) صرح به بعد أن ذكره تقبيحا لصنيعهم, وأن ذلك دأبهم وعادتهم, و ((إن)) في قوله: ((إن منهم)) مكسورة في جامع الأصول, وهي شرطية, و ((لكان)) جواب قسم محذوف, وهو جزاء الشرط. وفي قوله: ((على ثلاث وسبعين ملة)) إشارة إلى أنهم ساووا بني إسرائيل في تلك الأحوال القبيحة, وزادوا في ارتكاب البدع بدرجة. وقوله: ((ماأنا عليه وأصحابي)) الظاهر أن يقال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي, لأنه جواب عن قولهم: ((من هي؟)) فعدل إلى ((ما)) , وأراد بها الوصفية, أي هم المهتدون المتمسكون بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي, كقوله تعالى: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا} أي القادر العظيم الشأن سواها. والواو في ((وهي الجماعة)) كما هي في قوله تعالى {وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} دخلت على الجملة المثبة, و ((تلك الأهواء)) إشارة إلى ما يتضمن نعنى ثنتين وسبعين ملة من هذه الأمة غير الأمة [المحققة] *, ووضع الأهواء موضوع البدع وضعا للسبب موضوع المسبب, لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على إبداع ذلك الرأي الفاسد. وأما تقرير التشبيه فهو أنه صلى الله عليه وسلم شبه حال الزائغين من أهل البدع في استيلاء تلك الأهواء

173 - وعن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يجمع أمتي – أو قال: أمة محمد – على ضلالة, ويج الله على الجماعة, ومن شذ شذ في النار)). رواه الترمذي [173]. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهم, وذهابها في كل واد مرد, وفي سريان تلك الضلالة منهم إلى الغير يدعونهم إليها, ثم تنفرهم من العلم, وامتناعهم من قبوله حتى يهلكوا جهلا – بحال صاحب الكلب, وسريان تلك العلة في عروقه ومفاصله, وحصول شبه الجنون منه ثم تعديه إلى الغير – بعقره إياه, وتنفره من الماء, وامتناعه عنه حتى يهلك عطشا. ولعمري 1 عن هذا التمثيل أبلغ وأشنع من تمثيل بلعم بن باعوراء في قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر: قوله: ((لا يجمع)) ((تو)): من الله تعالى على هذه الأمة بالنصرة والحفظ, أو من عليهم بالتوفيق لموافقة الجماعة. ((ومن شذ)) أي انفراد عن الجمهور والسواد الأعظم فقد شذ فيما يدخله النار, أو شذ في أمر النار. ((مظ)): في الحديث دليل على أن إجماع الأمة حق, والإجماع هو إجماع علماء المسلمين. أقول: قوله: ((أو قال أمة محمد)) تردد من الراوي, ولعل هذا أظهر في الدراية لأن التخصيص يدل على امتياز أمته من سائر الأمم بهذه الفضيلة, وأن كون المنسوب إليه من اسمه محمد يقتضي هذه ثم عقبه بقوله: ((ويد الله على الجماعة)) , ومعنى ((على)) كمعنى ((فوق)) في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فهو كناية عن النصرة والغلبة؛ لأن من بايع

174 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتبعوا السواد الأعظم, فإنه من شذ شذ في النار)) رواه ((ابن ماجه من حديث أنس)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الإمام الحق فكأنما بايع الله, ومن بايع الله فإنه ينصره, ويخذل أعداءه. أي هو ناصرهم ومصيرهم غالبين على من سواهم, فينبغي لمن ينتمي إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقهم, ومن فارقهم خلع ربقة الطاعة من عنقه, وخرج عن نصرة الله تعالى فدخل النار, فالواو في قوله: ((ومن شذ)) للعطف على معنى الحصول في الوجود, وتفويض ترتب الثانية على الأولى إلى فهم السامع الفطن الذكي كما تقرر في علم المعاني. ويحتمل أن يضمن ((يد الله)) معنى الإحسان والإنعام بالتوفيق على استنباط الأحكام, وعلى الاطلاع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الاعتقاد المستقيم, والأخلاق الفاضلة, فإن ((ضلالة)) لفظ مطلق شامل لمعنى أنواع الضلالة من الاجتماع على إمام يقتدون به, وعلى حكم يستنبطونه, وعلى اعتقاد يعتقدونه فالمناسب أن يعبر بالضلالة عن الباطل؛ لأنه يجمع المعاني الثلاثة التي يستدعيها باب التمسك بالكتاب والسنة على سبيل الاشتراك المسمى بعموم المجاز. والله أعلم. الحديث الثاني عشر عن ابن عمر: قوله: ((السواد الأعظم)) ((غب)) السواد يعبر به عن الجماعة الكثيرة, والسيد: المتولي للسواد الكثير, ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد, ويقال: ساد القوم يسودهم, ولا يقال: سيد الثوب والفرس. ((مظ)): المعنى انظروا إلى الناس وإلى ماهم عليه, فما عليه الأكثر من علماء المسلمين من الاعتقاد والقول والفعل فاتبعوهم فيه, فإنه هو الحق, وما عداه باطل. هذا في الأصول, كالاعتقاد في أركان الإسلام, وأما الفروع ففي نحو بطلان الوضوء بمس الفرج ولمس النساء وأشباههما فلا حاجة فيها إلى وجوب الإجماع, بل كل من أفتى فيه من المجتهدين كمالك, والشافعي, وأبي حنيفة, وأحمد – رضي الله عنهم – يجوز العمل به.

175 - وعن أنس, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يابني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل)). ثم قال: ((يابني! وذلك من سنتي, ومن أحب سنتي فقد أحبني, ومن أحبني كان معي في الجنة)) رواه الترمذي. [175]. 176 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي, فله أجر مائة شهيد)) رواه [176]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أنس: قوله: ((أن تصبح)) أي تدخل في وقت الصبح, وقوله: ((ليس)) حال تنازع فيه الفعلان, والمراد بهما الديمومة و ((الغش)) نقيض النصح الذي هو إرادة الخير لأحد, والغش مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر, و ((أحد)) عام شامل للمؤمن والكافر, فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه, وسيعى في خلاصه من ورطة الهلاك باليد, واللسان, وبالتأليف بما يقدر عليه من المال. وقوله: ((فافعل)) جزاء كناية عما سبق في الشرط من المعنى, أي إن فعلت ما نصحتك به فقد أوتيت بأمر عظيم, ولهذا أشار بقوله: ((ذلك)) للإشعار بأنه رفيع المنزلة, بعيد المتناول. وأخبر عنه بقوله: ((من سنتي)) وعقبه بقوله: ((ومن أحب)) إلى آخره. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((فله أجر مائة شهيد)) (مظ)): وذلك لأنه يلحقه مشقة في ذلك الوقت بإحياء السنة والعمل بها, فهو كالشهيد الذي قاتل الكفار لإحياء الدين حتى قتل. أقول: قيل: ((فساد أمتي)) ولم يقل: إفسادهم لأنه أبلغ, كأن ذواتهم قد فسدت, فلا يصدر منهم صلاح ولا ينجع الوعظ فيهم, ولا ينزلون عن منكر فعلوه ولا يفعلون معروفا أمروا به, ولا سيما إذا ظهر ذلك في العلماء منهم, والمقتفين لآثارهم.

177 - وعن جابر, عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا, أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: ((أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية, ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي)) رواه أحمد, والبيهقي في كتاب ((شعب الإيمان)) [177]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى الماء يسعى من يغص بلقمة فقل: أين يسعى من يغص بماء؟ ولن يرتجي برئي ولا كشف علتي إذا جاء دائي من مكان دوائي فإذا المجاهدة معهم أصعب وأشق من المجاهدة مع الكفار, ولذلك ضوعف أجر من جاهدهم على من جاهد الكفار أضعافا كثيرة. الحديث الخامس عشر عن جابر: قوله: ((من يهود)) ((الزمخشري)):الأصل في يهودي ومجوسي أن يستعملا بغير لام التعريف, لأنهما علمان خاصان لقومين أو لقبيلتين, وإنما جوز تعريفهما بالام, لأنه أجرى يهوديا مجرى شعيرة وشعير. ((فا)): تهوك وتهور أخوان في معنى وقع في الأمر بغير روية: وقيل: التهوك والتهفك الاضراب في القول, وأن يكون على غير استقامة, ((حس)): أي متحيرون أنتم في الإسلام, لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من أهل الكتاب؟ والضمير في ((بها)) للملة الحنيفة. ((تو)): وصفها بالبياض تنبيها على كرمها وفضلها؛ لأن البياض لما كان أفضل لون عند العرب عبر به الفضل والكرم, حتى قيل لمن يتدنس بمعاب: هو أبيض الوجه, ونقيه قريب من هذا المعنى. ويحتمل أن يراد أنها مصونة عن التبديل والتحريف, خالية عن التكاليف الشاقة, وأشار بذلك إلى أنه أتاهم بالأعلى والأفضل, واستبدال الأدنى عند مظنة التحير, وقد شهد التنزيل على نقلة تلك الأحاديث بالفسق والفرية, فلا يؤمن منهم اللبس على المؤمنين في أمر دينهم, وإنما أنكر عليهم لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصلن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم و ((بيضاء نقية)) منصوبان على الحال, وكلاهما عبارة عن الظهور والصفاء, والخلوص عن الشك والشبهة, واليسر, لا مشقة فيها, كما في دين اليهود من قطعهم موضع النجاسة من الثوب, وإخراج ربع أموالهم للزكاة, وغيرهما من العسر. و ((ما وسعه)) أي ماينبغي له أن يفعل إلا اتباعي, فإذا كانت هذه حال موسى فكيف بكم تطلبون من هؤلاء المحرفين ما تنتفعون به؟. أقول: قوله: ((أفترى)) الفاء فيه تستدعي معطوفا عليه, أي أيحسن ذلك فترى أن نكتب؟ و ((بيضاء نقية)) حالان مترادفان من الضمير المفسر بالملة, ((ولو كان موسى حيا)) حال متداخلة من

178 - وعن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل طيبا, وعمل في سنة, وأمن الناس بوائقه, دخل الجنة)) فقال رجل: يارسول الله! إن هذا اليوم لكثير في الناس؟ قال: ((وسيكون في قرون بعدي)) رواه الترمذي [178]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضمير في البيضاء استعارة لسطوع براهين هذه الملة المستقيمة, ووضوح دلائلها القويمة مما له بياض ونقاوة. الحديث السادس عشر عن أبي سعيد: قوله: ((من أكل طيبا)) ((تو)): أي حلالا, وعمل في موافقة سنة, وإنما نكرها لأن كل عمل يفتقر إلى معرفة سنة وردت فيه. و ((بوائقه)) مفسرة في بعض الأحاديث, فروى: ظلمه وغشه, وقيل: غوائله وشره, والبائقة الداهية. وقوله: ((إن هذا اليوم لكثير)) أي الذي تصفه, يحتمل أن الرجل قال ذلك حمدا لله تعالى وتحدثا بنعمته, ثم قال: ((وسيكون في قرون بعدي)) ليوقفه على أن ذلك غير مختص بالقرن الأول. ويحتمل أنه فهم من قوله: ((من أكل طيبا)) إلى آخر التحريض على الخصال المذكورة, والزجر عن مخالفته, ووجد الناس يتدينون بذلك, ويحرصون عليه, فخاف أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم, فأحب أن يستكشف عنه, فقال هذا القول, فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك, فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وسيكون في قرون بعدي) فاختصر الكلام اعتمادا على فهم السامع, وتحويلا للأمر المحذر. وأقول: أراد الشيخ أن ((سنة)) نكرة وضعت موضع المعرفة لإرادة استغراق الجنس بحسب أفراده, كما في قوله تعالى: {ولَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} ولم يقل: شجرا, إرادة تقصيها شجرة شجرة, حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما. وفائدته أن كل عمل واجب ومندوب ومباح وردت فيه سنة ينبغي مراعاتها, حتى قضاءالحاجة, وإماطة الأذى عن طريق المسلمين فكل من راعاها بأسرها في حركاته سكناته فقد اتصف بهذه الخصلة. وأول الظرف بقوله: ((في موافقة سنة)) فقدر المضاف ليستقيم المعنى. ويمكن أن يقال: إنه وقع ((في سنة)) ظرفا للعمل إشعارا بأنها مكان العمل ومقره, فإن كل عمل لا يوقع في سنة فليس بعمل, ولا يعتد به. وقوله: ((من أكل طيبا)) يجوز أن يحمل على ظاهر الإخبار كما في الوجه الأول, وأن يحمل على معنى الأمر, والحث على فعل هذه الحال, والنهي عن أضدادها,

179 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم في زمان ترك نمكم عشر ما أمر به هلك, ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)) رواه الترمذي [179]. 180 - وعن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــ كأن صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أن هذه الخلال شاقة يجب العمل بها, وقيل فاعلها, كقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقال الرجل: إن مثل هؤلاء الشاكرين لكثير في يومنا هذا, فأتى بإن واللام تقريرا وتأكيدا لكلامه, فأجابه صلى الله عليه وسلم وقرر كلام الرجل, وعطف عليه الجواب, أي نعم هم كثيرون اليوم, وسيكون بعدي أي وسيكونون بعدي و ((بعدي)) على الوجه الأول محمول على التابعين ومن يلونهم, وعلى الثاني دونهم من الأمم القاصية, كما ورد في الحديث المشهور, والله أعلم. الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إنكم في زمان)) الجملة الشرطية بعد صفة لزمان, والراجع محذوف, أي من ترك منكم فيه. الشارحون: لا يجوز صرف هذا إلى عموم المأمورات, لما عرف أن أحدا لا يعذر إذا ترك ما عليه من الفرض المختص به, وإنما ورد في الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, يعني إنكم في زمان عزة الدين, وظهور الحق, ونزول الوحي, ومشاهدات المعجزات, وبين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعذر أحدكم في التهاون, بخلاف من يأتي بعدكم في زمان تشيع فيه الفتن, ويتوارى الحق, ويقل أنصار الدين. وأقول: لعل هذا المعنى غير مناسب لباب التمسك بالكتاب والسنة, بل حمله على مامر في الحديث السابق – وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل في سنة)) على ما بيناه – كان أنسب, ويلزم منه معنى الأمر بالمعروف, أو النهي عن المنكر بالطريق الأولى, ويجري معنى قوله: ((مما أمر به)) في أمر الندب. الحديث الثامن عشر عن أبي أمامة: قوله: ((أوتوا)) حال, و ((قد)) مقدرة, والمستثنى منه أعم عام الأحوال, وصاحبها الضمير المستقر في خبر ((كان)) , والمعنى ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا على إيتاء الجدل. يعني من ترك سبيل الهدى وركب متن الضلال عارفا بذلك لابد أن يسلك طريق العناد واللجاج, ولا يتمشى له ذلك إلا بالجدل. فإن قلت:

هم قوم خصمون). رواه أحمد, والترمذي, وابن ماجه. [180]. 181 - وعن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم, فإن قوما شددوا على أنفسهم, فشدد الله عليهم, فتلك يقاياهم في الصوامع, والديار {رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ})). رواه أبو داود [181]. ـــــــــــــــــــــــــــــ كيف طابق هذا المعنى الآية حتى استشهد بها؟ قلت: من حيث إنهم عرفوا الحق بالبراهين الساطعة ثم عاندوا وانتهزوا مجالا للطعن, فلما تمكنوا مما التمسوه جادلوا الحق بالباطل, وكذا دأب* الفرق الزائغة من الزنادقة وغيرها. ((قض)): المراد بهذا الجدل العناد, والمراء, والتعصب في ترويج مذهبهم, وآراء مشايخهم, من غير أن يكون لهم نصرة على ماهو الحق, وذلك محرم, أما المناظرة لإظهار الحق, واستكشاف الحال, واستعلام ما ليس معلوما عنده, أو تعليم غيره ما هو عنده ففرض على الكفاية, خارج عما نطق به الحديث. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً} أي ما قالوه لك: {وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} وأرادوا به أن الملائكة خير أم عيسى؟ فإذا عبد النصارى عيسى فنحن نعبد الملائكة, ما قالوا ذلك إلا جدلا وعنادا, لا دليل وبرهان, ولم يسألوا ذلك لطلب الحق بل لمخاصمتك, وإيذائك بالباطل. الحديث التاسع عشر عن أنس: قوله: ((فيشدد)) نصب على جواب النهي, والفاء في ((فإن قوما)) سبب للفعل المنهي المسبب عنه الشدة. والفاء في ((فتلك)) للتعقيب, و ((تلك)) إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من أولئك المشددين, والخبر بيان له, كما في قوله تعالى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ}. قوله: {ورَهْبَانِيَّةً} وهي ترهبهم في الجبال, فارين من الفتنة في الدين, مخلصين أنفسهم للعبادة, ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف, فعلان من رهب, كخشيان

182 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال, وحرام, ومحكم, ومتشابه, وأمثال. فأحلوا الحلال, وحرموا الحرام, واعملوا بالمحكم, وآمنوا بالمتشابه, واعتبروا بالأمثال)). هذا لفظ المصابيح, وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) ولفظه: ((فاعملوا بالحلال, واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم)) [182]. 183 - وعن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعه, وأمر بين غيه فاجتنبه, وأمر اختلف فيه فكله إلى الله عز وجل)) رواه أحمد. [183]. ـــــــــــــــــــــــــــــ من خشي, انتصابهما بفعل مضمر يفسره الظاهر, وهو ((ابتدعوها)) , يعني أحدثوها من عند أنفسهم, ولم نفرضها على أنفسهم, ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله, فما رعوها حق رعايتها, ومن التشدد فعل بني إسرائيل من أمر البقرة وذبحها. الحديث العسرون عن أبي هريرة قوله: ((محكم ومتشابه)) قد سبق معناهما, وطريق الحصر فيهما في الفصل الأول من هذا الباب, فهو على هذا من عطف العام على الخاص, وعكسه عطفا على الحلال والحرام, ثم عطف الأمثال عليها, فينبغي أن يحملا على التصديق, وما يتعلق بالاعتقادات من إثبات الصفات لله تعالى, وأمر الحشر والنشر, ومن صرح بذكر الإيمان في قوله: ((وآمنوا بالمتشابه)). الحديث الحادي والعشرون عن ابن عباس: قوله: ((اختلف فيه)) ((مظ)): يعني ما علمت كونه حقا بالنص فاعمل به, وما علمت بطلانه بالنص فاجتنبه, وما لم يثبت حكمه بالشرع فلا تقل فيه شيئا, وفوض أمره إلى الله مثل متشابهات القرآن, وأمر القيامة. ((واختلف فيه)) يحتمل أن

الفصل الثالث 184 - عن معاذ بن جبل, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم, يأخذ الشاذة والقاصية والناحية, وإياكم والشعاب, وعليكم بالجماعة والعامة)) رواه أحمد [184]. 185 - وعن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) رواه أحمد, وأبو داود. [185]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون معناه اشتبه وخفى حكمه, ويحتمل أن يرا اختلاف الناس فيه من تلقاء أنفسهم. أقول: الأولى أن يفسر هذا الحديث بما ورد في آخر الفصل الثالث في حديث أبي ثعلبة. الفصل الثالث الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((إن الشيطان ذئب الإنسان)) الذئب مستعار للإفساد والإهلاك, أي إن الشيطان مفسد للإنسان ومهلكه, كذئب أرسل إلى قطيع من الغنم. و ((يأخذ الشاذة)) صفة الذئب, لأنه بمنزلة النكرة, كما في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ويجوز أن يكون حالا, والعامل معنى التشبيه, وهو تمثيل مثل حالة مفارقة الجماعة والسواد الأعظم وانقطاعه عنهم واعتزاله عن صحبتهم ثم تسلط الشيطان عليه وإغوائه, بحالة شاة قاصية شاذة عن قطيع الغنم, ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها. ووصف الشاة بصفات ثلاث, ف ((الشاذة)) هي النافرة التي لم تؤنس, و ((القاصية)) التي قصدت البعد لا عن التنفر, و ((الناحية)) هي التي غفلت عنها, وبقيت في جانب منها, فإن الناحية هي التي صارت في ناحية من الأرض. و ((الشعاب)) من الشعب, وهو من الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف, ولذلك قيل: شعبت الشيء إذا جمعته, وشعبته إذا فرقته. ولما فرغ من التمثيل أكده بقوله: ((إياكم والشعاب)) وعقبه بقوله: ((ربقة الإسلام)) الربقة عروة في حبل يجعل في عنق ابهيمة أو يدها تمسكها, فاستعارها لانقياد الرجل واستسلامه لأحكام الشرع, وخلعها لارتداده وخروجه عن طاعة الله ومتابعة رسوله.

186 - وعن مالك بن أنس مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) رواه في ((الموطأ)) [186]. 187 - وعن غضيف بن الحراث الثمالي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدث قوم بدعة إلى رفع مثلها من السنة؛ فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) رواه أحمد [187]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن مالك: قوله: ((تركت فيكم أمرين)) سيأتي شرحه مستقصى في باب مناقب أهل البيت إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع عن غضيف: قوله: ((مثلها)) جعل أحد الضدين مثل الآخر لشبه التناسب بين الضدين وإخطار كل منهما بالبال مع ذكر الآخر، وحدوثه عند ارتفاع الآخر، وعليه قوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل}، فكما أن إحداث السنة يقتضي رفع البدعة، كذلك عكسه، ولذلك قال: ((فتمسك بسنة)) نزرة ((خير من إحداث بدعة مستحسنة))، كما إذا أحيي آداب الخلاء مثلاً على ما ورد في السنة، فهو خير من بناء رباط أو مدرسة، والسر فيه هو أن من راعي هذا الأدب فإنه يوفقه ويلطف به، حتى يترقى منه إلى ما هو أعلى منه، فلا يزال في الترقي والصعود إلى أن يبلغ مقام القرب، ومخدع الوصل كما قال: ((وما يزال عبدي يتقرب إلى النوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)) الحديث. ومن تركه يؤديه ذلك إلى ترك الأفضل، حتى ينتقل إلى مقام الرين والطبع، فالفاء في ((فتمسك)) جزاء شرط محذوف.

188 - وعن حسان. قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. رواه الدارمي [188]. 189 - وعن إبراهيم بن ميسرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلاً [189]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يحمل هذا على باب قوله تعالى: ((أي الفريقين خير مقاماً)) وقولهم: ((العسل أحلى من الخل، والصيف أحر من الشتاء)) يعني أن السنة في بابها أبلغ من البدعة في بابها، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الهدي هدي محمد)) المراد بالهدي الطريقة التي لا شر فيها، وخيرها سنة محمد، وقوله: ((شر الأمور محدثاتها)) هذه الأمور لا خير فيها، وشرها البدعة، فيلزم من هذا أن يكون هدى محمد في بابه أبلغ من الشر في بابه، لأن الخير غالباً غالب على الشر وقامع له، كما قال الله تعالى: ((جاء الحق وزهق الباطل)). الحديث الخامس عن حسان: قوله: ((لا يعيدها إلى يوم القيامة)) وذلك أن السنة القديمة كانت متأصلة مستقرة مكانها، فلما أزيلت عن مقرها لم يمكن إعادتها كما كانت أبداً، فمثلها كمثل شجرة ضربت عروقها في تخوم الأرض، فلا يكون إعادتها بعد قلعها مثل ما كانت في أصلها، قال الله تعالى: ((مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة)) الآية. الحديث السادس عن إبراهيم: قوله: ((من وقر)) الوقار السكون والحلم، يقال: هو وقور ووقار، قال الله تعالى: ((ما لكم لا ترجون لله وقاراً)). قوله: ((على هدم الإسلام)) وذلك أن المبتدع مخالف للسنة ومائل عن الاستقامة، [ومن وقره حاول اعوجاج الاستقامة] لأن معاونة

190 - وعن ابن عباس، قال: من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه؛ هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب. وفي رواية، قال: من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: {فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى} رواه رزين. 191 - وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً، وعن جنبتي الصراط سوران، فيهما أبوب مفتحة، وعلى الأبواب ستور ـــــــــــــــــــــــــــــ نقيض الشيء معاونة لدفع ذلك الشيء. وكان من حق الظاهر أن يقال: من وقر المبتدع فقد استخف بالسنة. فوضع موضعه: ((فقد أعان على هدم الإسلام)) ليؤذن بأن مستخف السنة مستخف للإسلام، ومستخفه هادم لبنيانه، وهو من باب التغليظ، فإذا كان حال الموقر هذا فما بال حال المبتدع؟ وفيه أن من وقر صاحب سنة كان الحكم بخلافه. الحديث السابع عن ابن عباس: قوله: ((هداه الله)) ضمن ((هدى)) معنى أمن، فعداه بمن إلى المفعول الثاني، أي أمنه الله من ارتكاب المعاصي، والانحراف من الطريق المستقيم. ((ووقاه سوء الحساب)) عبارة عن كونه من أصحاب اليمين، فكما أنه أمن في الدنيا من الضلال كذلك يأمن في الآخرة من العذاب، وفيه أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة كتاب الله، والاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الثامن عن ابن مسعود: قوله: ((صراط مستقيماً)) بدل من ((مثلا)) لا على إهدار المبدل، فقولك: زيد رأيت غلامه رجلا صالحاً، إذ لو أسقطت غلامه لم يتبين. و ((سوران)) مبتدأ، و ((عن جنبتي)) خبره، والجملة حال من ((صراطاً)) و ((فيهما أبواب)) الجملة صفة لسوران، و ((على الأبواب)) الجملة حال من ضمير البواب في ((مفتحة لي)) ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى صاحبها. و ((عند رأس)) الجملة معطوفة على ((وعن جنبتي الصراط)) و ((يقول)) صفة ((داع))، و ((لا تعوجوا)) عطف على ((استقيموا)) على الطرد والعكس؛ لأن مفهوم كل منهما مقرر لمنطوق الآخر، وبالعكس، ((وفوق ذلك)) عطف على ((رأس الصراط))، والمشار إليه بـ ((ذلك)) الصراط، و ((كلما)) ظرف يستدعي الجواب، وهو قوله: ((قال))، ((شيئاً)) أي قدراً يسيراً منها، و ((ويحك)) زجر له من تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها. و ((تلجة)) أي تدخل الباب، وتقع في محارم الله تعالى. هذا يدل على أن قوله: ((أبوبا مفتحة)) أي مردودة غير مغلقة. ((ثم فسره)) أي أراد أن يفسر فأخبر، نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((أل إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) فالسور بمنزلة الحمى، وحولها بمنزلة الباب والستر، فحينئذ لا يقصر ضرب المثل بالباب والسور فقط، فلذلك لم يأت بضمير الفصل بين تينك الجملتين، كما أتى به في الجمل الثلاث. و ((مرخاة)) أي مدلاة ومسدلة،

مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه)). ثم فسره فأخبر: ((أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مؤمن)) رواه رزين، ورواه أحمد [191]. 192 - والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن النواس بن سمعان، وكذا الترمذي عنه إلا أنه ذكر أخصر منه. [192]. ـــــــــــــــــــــــــــــ من: أرخيت الشيء إرخاء. و ((حدود الله)) الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله تعالى، كما قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها}. و ((واعظ الله)) هو لمة الملك في قلب المؤمن، واللمة الأخرى هي لمة الشيطان، وإنما جعل لمة الملك التي هي واعظ الله فوق داعي القرآن لأنه إنما ينتفع به إذا كان المحل قابلاً، ومن ثم قال الله تعالى: {هدى للمتقين} وفي قوله: ((وعن جنبتي الصراط سوران)) إشارة إلى قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} والسبل هي الخطوط التي على يمين الصراط ويساره كالسورين، والمشار إليه بـ ((هذا)) ما دل عليه قوله تعالى: {أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} الآية، فإن تلك الخطوط أشار بها في الحديث السابق إلى الاعتقادات الفاسدة، والأهواء الزائغة التي ينبئ عنها قوله تعالى: {ألا تشركوا به شيئاً}.

193 - وعن ابن مسعود، قال: من كان مستنا؛ فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه رزنين [193]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي هذا الحديث إلى المحارم التي لمح إليها قوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}. الحديث التاسع عن ابن مسعود: قوله: ((مستنا)) ((غب)): يقال: تنح عن سنن الطريق وسننه، وسنة الوجه طريقته، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم طريقته التي كان يتحراها، وإنما أخرج الجملة مخرج الشرط والجزاء تنبيهاً به على الاجتهاد، وتحرى طريق الصواب بنفسه بالاستنباط من معاني الكتاب والسنة، فإن لم يتمكن منها فليقتد بأصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم نجوم الهدى، بأيهم تقتدي تهتدي. كان ابن مسعود رضي الله عنه يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة والتابعين باقتفاء أثرهم، والاقتداء بسيرهم وأخلاقهم. قوله: ((الفتنة)) وهي كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من الشدة والرخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً. وإنما قال: ((فإن الوحي لا نؤمن)) لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنوا منها، كما قال الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} أي أنهم صروا على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها، وضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، فإن حقيقة القوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها، أو أخلص قلوبهم للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب وفتنه، إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه. وعن عمر رضي الله عنه: ((أذهب الشهوات عن قلوبهم)). وقوله: ((أولئك أصحاب محمد)) إشارة إلى قوله: ((من مات)) فاعتبر أولاً اللفظ وأفرد قوله: ((مات))، وثانياً المعنى، وجمعه بقوله: ((أولئك)) و ((هذه الأمة)) إشارة إلى ما في الذهن من جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى انقراض العالم. قوله: ((فاعرفوا لهم فضلهم)) لهم مجمل، فسر بقوله: ((فضلهم)) للتفخيم والعظيم، كأنه لما [تلفظ] بـ ((لهم)) فأبهم ولم يعرف ما يوجب العرفان،

194 - وعن جابر، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير. فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل! ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموني وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل؛ ولو كان حياً وأدرك نبوتي لا تبعني)) رواه الدارمي [194]. 195 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً)). [195]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ففسر بقوله: ((فضلهم)) كما قال الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} و {رب اشرح لي صدري} والمراد بالعرفان: ما يلازمه من متابعتهم، ومحبتهم، والتخلق بأخلاقهم، فإذا قوله ((واتبعوهم على آثارهم)) إلى آخره عطف على ((اعرفوا)) على سبيل البيان، فقوله: ((على إثرهم)) حال مؤكدة من فاعل ((اتبعوا))، كقوله تعالى: {ثم وليتم مدبرين} ويجوز أن يكون من المفعول، والله أعلم، رزقنا الله متابعتهم في الدنيا، ومرافقتهم في العقبى، وحسن أولئك رفيقا. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((فجعل)) جعل بمعنى طفق أي طفق يقرأ، و ((ما ترى ما بوجه)) ما الأولى نافية، والهمزة مقدرة، والثانية موصولة أو موصوفة. ((ثكلتك الثواكل)) مضى شرحه في الفصل الثاني من باب الإيمان في حديث معاذ، ((ومن غضب الله)) توطئة لقوله: ((وغضب رسوله))، نحو: أعجبني زيد وكرمه، إيذاناً بأن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب الله. ((ورضينا)) اعتذار مما صدر عنه، جمع الضمير إرشاداً للسامعين، وتنبيهاً للغافلين، وموقع هذه الجملة بعد الاستعاذة موقع الشروع في المقصود من الكلام بعد التثبت، كتمهيد العذر، والله أعلم.

196 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحاديثنا ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن)). [196]. 197 - وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشاء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)). روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني. [197] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر إلى الثالث عشر ظاهر.

كتاب العلم

كتاب العلم الفصل الأول 198 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية، ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب العلم الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((بلغوا)) ((مظ)) في الآية معان كثيرة: منها أن يراد بها الكلام المفيد، نحو ((من صمت نجا))، و ((الدين النصيحة)) أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة. ومنها التحريض على نشر العلم، ومنها جواز تبليغ بعض الحديث، كما هو عادة صاحب المصابيح، ومشارق الأنوار، ولا بأس به، إذ الغرض تبليغ لفظ الحديث مفيداً، سواء كان تاماً أم لا. فإن قيل: لم حرض النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الأحاديث دون القرآن؟ قلنا: لوجهين: أحدهما أنه أيضاً داخل في هذا الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبلغهما. وثانيهما أن طباع المسلمين مائلة إلى قراءة القرآن وتعليمه وتعلمه ونشره، ولأنه قد تكفل الله بحفظه واشتهاره، لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فإن كان كذلك فلا يحتاج إلى التحريض، وأما الأحاديث فليست كذلك. و ((الحرج)) الضيق والإثم، رخص صلى الله عليه وسلم التحدث عن بني إسرائيل وإن لم يعلموا صحته بالإسناد والراوي لبعد الزمان بينهم. فإن قيل: قد ورد النهي عن الاشتغال بما جاء عنهم، وقيل فيه: ((أمتهوكون أنتم؟ ورخص هنا، فكيف التوفيق؟ قلنا: المراد بالتحدث هنا بقصصهم من قتلهم أنفسهم لتوبتهم من عبادة العجل، وتفصيل القصص المذكورة في القرآن، ونحو ذلك؛ لأن في ذلك عبرة وموعظة لأولي الألباب. وأما النهي فوارد على كتاب التوراة، وما يتعلق بالعمل من الأحكام؛ لأن جميع الشرائع والأديان والكتب منسوخة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. [يقال: تبوأ الدار أي اتخذها مسكنا، وأصله البواء، وهو مساواة الأجزاء في المكان، يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابياً بنازله]. ((قض)): قال: ((ولو آية))، ولم يقل: حديثاً؛ لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم من هذا بطريق الأولوية؛ فإن الآيات مع انتشارها، وكثرة حملتها، وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها،

وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وصونها عن الضياع والتحريف- واجبة التبليغ، فالحديث- ولا شيء فيه مما ذكر- أولى بأن يحدث عنه بالتبليغ. ((حس)): ليس في الحديث إباحة الكذب على بني إسرائيل، بل معناه الرخصة في الحديث عنهم بلا إسناد؛ لأنه أمر قد تعذ في الإخبار عنهم؛ لطول المدة، ووقوع الفترة. وفيه إيجاب التحرز عن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يحدث عنه إلا بما يصح بنقل الإسناد والتثبت فيه. قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وأقول- والله أعلم- قوله: ((بلغوا عني)): يحتمل وجهين: أحدهما أن يراد إيصال السند بنقل العدل الثقة عن مثله إلى منتهاه؛ لأن التبليغ من البلوغ، وهو انتهاء الشيء إلى غايته. وثانيهما أداء اللفظ كما سمعه من غير تغيير. والمطلوب في الحديث كلا الوجهين؛ لوقوع قوله: ((بلغوا عني)) مقابلاً لقوله: ((حدثوا عن بين إسرائيل ولا حرج)) إذ ليس في التحديث ما في التبليغ من الحرج والتضييق. ويعضد هذا التأويل الآية والحديث، أما الآية فقوله تعالى: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} أي وإن لم تفعل كما هو حقه فما لغت ما أمرت به. وأما الحديث فهو قوله: ((نصر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))، وسيجيء شرحه إن شاء الله تعالى. وأما قوله: ((ولو آية)) أي علامة، فهو تتميم ومبالغة، أي لو كان المبلغ والمؤدى فعلاً، أو إشارة باليد والأصابع. وها هو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عقد باباً طويلاً في هذا المعنى، ثم رتب على ما ذكر الوعيد البليغ. وقوله: ((ومن كذب على متعمداً)) يعني من لم يبلغ حق التبليغ، ولم يحتط في الأداء، ولم يراع صحة الإسناد، وحدث عني بلا حرج- دخل في زمرة الكاذبين، كما ورد: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) والأمر بالتبوء تهكم وتغليظ؛ إذ لو قيل: كان مقعده في النار، لم يكن كذلك: وأيضاً فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد في جزائه التبوء. ((غب)): الآية هي العلامة الظاهرة وحقيقته لكل شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره، فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته. قال ابن الصلاح في كتابه إن حديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) من المتواتر، وليس في الأحاديث ما في مرتبته من، فإن ناقليه من الصحابة العدد الجم، وهو في الصحيحين مروي عن جماعة منهم، وروي بعض الحفاظ أنه رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان

199 - وعن سمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)). رواه مسلم. 200 - وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وستون من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة. وقيل: أكثر من ذلك. وقيل: لا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة إلا هذا. قال الشيخ: ثم لم يزل عدده على هذا، وأنه في الازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار. وقال: المتواتر عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه. والحديث الثاني عن سمرة: قوله: ((يرى)) ((شف)): وإنما سماه كاذباً؛ لأنه يعين المفترى، وشاركه بسبب إشاعته ونشره، فهو كمن أعان ظالماً على ظلمه. ((مح)): ((يرى)) ضبطناه بضم الياء، و ((الكاذبين)) بكسر الباء وفتح النون على الجمع، وهذا هو المشهور في اللفظتين. قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا على صحيح مسلم في حديث سمرة ((الكاذبين)) بفتح الباء وكسر النون على التثنية، واحتج به على أن الراوي له يشارك البادي بهذا الكذب. ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة ((الكاذبين أو الكاذبين)) على الشك في التثنية والجمع، وذكر بعض الأئمة جواز فتح الياء من: (يرى) بمعنى يعلم، وهو ظاهر حسن. فأما من ضم الياء فمعناه يظن، ويجوز أن يكون الفتح بمعنى يظن، وقد حكى رأي بمعنى ظن. وقيل: إنه لا يأثم إلا برواية ما يعلمه، أو يظنه كذباً، أما ما لا يعلمه، ولا يظنه فلا إثم عليه في روايته، وإن ظنه غيره كذباً أو علماً. وأقول: قوله: ((أحد الكاذبين)) من باب قولك: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين، وقد مر بيانه. الحديث الثالث عن معاوية: قوله: ((يفقهه)) ((نه)): الفقه في العلم: الفهم، يقال: فقه الرجل يفقه فقهاً إذا علم. وفقه- بالضمر- يفقه إذا صار فقيهاً عالماً. وجعله العرف خاصاً بعلم الشريعة، وتخصيصاً بعلم الفروق. وإنما خص علم الشريعة بالفقه؛ لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة، والأقيسة، والنظر الدقيق بخلاف اللغة، والنحو، والصرف. روي أن سلمان نزل على نبطية بالعراق، فقال لها: هل هاهنا مكان نظيف أصلي فيه، فقالت: طهر قلبك وصل حيث شئت: فقال: فقهت. أي فهمت وفطنت الحق، ولو قال: علمت، لم يقع هذا الموقع. وعن الدارمي عن عمران قال: قلت للحسن يوماً في شيء قاله: يا أبا سعيد! ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك، هل رأيت فقيهاً قط؟ وإنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، والمداوم على عبادة ربه. ((قض)): ((إنما أنا قاسم)) أي أنا أقسم بينكم، فألقى إلى كل واحد ما يليق به، والله سبحانه يوفق من يشاء منكم لفهمه، والتفكر في معناه، والعمل بمقتضاه. ((تو)): أعلم أصحابه-

201 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن كمعان الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)). رواه مسلم. [201] ـــــــــــــــــــــــــــــ رضي الله عنهم- أنه صلى الله عليه وسلم لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحداً من أمته على الآخر، بل سوى في البلاغ، وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم أو من القرن الذي يليهم أو ممن أتى بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأقول: الواو في قوله: ((وإنما أنا قاسم)) للحال من فاعل ((يفقهه))، أو من مفعوله، وإذا كان الثاني فالمعنى أن الله تعالى يعطي كلا ممن أراد أن يفقهه استعداداً لدرك المعاني على ما قدره، ثم يلهمني بإلقاء ما هو لائق باستعداد كل واحد، وعليه كلام القاضي. وإذا كان الأول فالمعنى أني ألقي ما يسنح لي وأسوي فيه، ولا أرجح بعضهم على بعض، فالله تعالى يوافق كلا منهم على ما أراد وشاء من العطاء، وعليه كلام التوربشتي. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الناس معادن)) المعدن المستقر والمستوطن، من: عدنت البلد إذا توطنته، ومنه المعدن المستقر الجواهر والفلزات. و ((معادن)) خبر مبتدأ ولا يستقيم حمله عليه إلا بأحد وجهين: إما أن يكون محمولا عليه بالتشبيه، كقولك: زيد أسد، فيكون ((كمعادن الذهب)) بدلاً منه، وإما أن يكون المعادن مجازاً من التفاوت، فالمعنى الناس متفاوتون تفاوتاً مثل تفاوت معادن الذهب والفضة فالمراد بالتفاوت تفاوت النسب في الشرف والصنعة، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم)) أي أصولها التي ينسبون إليها، ويتفاخرون بها. وإنما جعلت معادن لما فيها من الاستعدادات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنها غير قابلة لها. وقوله: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) جملة مبينة بعد التفاوت الحاصل بعد فيض الله تعالى عليها من العلم والحكمة. قال الله تعالى: ((من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)) شبههم بالمعادن في كونها أوعية للجواهر النفيسة والفلزات المنتفعة بها، المعنى بهما في الإنسان كونه أوعية العلوم والحكم، فالتفاوت في الجاهلية بحسب الأنساب، وشرف الآباء، وكرم الأصل، وفي الإسلام بحسب العلم والحكم، فالشرف الأول موروث، والثاني مكتسب. فإن قلت: ما فائدة التقييد بقوله: ((إذا فقهوا))؛ لأن كل من أسلم، وكان شريفاً في الجاهلية فهو خير من الذي لم يكن له شرف فيها، سواء فقه أو لم يفقه؟ قلت: ليس كذلك؛ فإن

202 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: ـــــــــــــــــــــــــــــ الإيمان يرفع التفاوت المعتبرة في الجاهلية، فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب النسب الأصلي فيجتمع شرف النسب مع شرف الحسب، انظر إلى المنقبة السنية كيف رد تيمنها وبركتها ما رفعه الإسلام من الشرف الموورث؟ وفهم من ذلك أن الوضيع المسلم المتحلي بالعلم أرفع منزلة من الشريف المسلم العاطل. ونعم ما قال الأحنف: كل عز لم ((يوطد) بعلم فإلى ذلك ما يصير قال: ولا الشرف الموروث لا در دره بمحتسب إلا بآخر مكتسب وقال لآخر: إن السرى إذا سرى فبنفسه وابن السرى إذا سرى أسراهما روي أن فزارياً شكى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من لطمة لطمها جبلة بن الأيهم، فأمر بالقصاص، فقال جبلة: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال عمر: شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعاقبة. الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((لا حسد)) أي لا رخصة فيه، ((حس)): المراد من الحسد ههنا الغبطة، وهي تمني الرجل مثل ما لأخيه من غير أن يتمنى زواله عنه، والمذموم ما يتمنى الزوال، وهو المسمى بالحسد، ومعنى الحديث: الترغيب في التصدق بالمال، وتعليم العلم، وقيل: إن فيه تخصيصاً لإباحة نوع من الحسد، وإن كانت جملته محظورة. وإنما رخص فيهما لما يتضمن مصلحة في الدين. قال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد وكما رخص في الكذب لتضمن فائدة هي فوق آفة الكذب. وقيل: معناه لا يحسن الحسد إن حسن في موضع إلا في هذين الموضعين. أقول: أثبت الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين، يعني ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم فينبغي أن لا يتحرى ويجتهد في تحصيلها، فكيف بالطريق المحمود؟ بل أقول: هو الطريق المحمود لذاته، والمأمور في قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} والمرغب فيه بقوله: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} فإن السبق هو روم نيل ما لصاحبه واختصاصك به. قالت الخنساء.

رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق.، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)). متفق عليه. 203 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع ـــــــــــــــــــــــــــــ وما بلغت كف امرئ متناولاً من المجد إلا والذي نال أطول وهو الحسد المباح الذي سبق ذكره. وكيف لا؟ وكل واحدة من هاتيك الخصلتين بلغت غاية لا أمد فوقها، ولو اجتمعنا في امرئ بلغ من العلياء كل مكان. وقوله: ((فسلطه على هلكته)) فيه مبالغتان: إحداهما التسليط، فإن يدل على الغلبة وقهر النفس المجبولة على الشح البالغ. ثانيتهما قوله: ((على هلكته)) فإنه يدل على أنه لا يبقى من المال باقياً، فلما أوهم القرينتان للإسراف والتبذير المقول فيهما لا خير في السرف- كمله بقوله: ((في الحق))، كما قيل: لا سرف في الخير. وكذا القرينة الأخرى اشتملت على مبالغات: إحداها ((الحكمة)) فإنها تدل على علم دقيق مع إيقان في العمل. وثانيتها ((يقضي)) أي يقضي بين الناس، وهي مرتبته صلى الله عليه وسلم. وثالثتها ((يعلمها))، وهي أيضاً من مرتبة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. وروي: ((لا حسد إلا في اثنين))، فيكون ((رجل)) بدلاً منه. وروى ((في اثنتين)) أي خصلتين، فلابد من تقدير مضاف ليستقيم المعنى، فإذا روي ((اثنين)) يقدر: في شأن اثنين، وإذا روي ((اثنتين)) يقدر: خصلة رجل. ((نه)): الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم، وهذا الحديث على ما تقرر شاهد صدق على وجوب أداء لفظ الحديث من غير إبدال، إذ لو وضع مكان ((لا حسد)) لا غبطة، ومكان ((سلط)) ((ملك))، وغيرهما، وأبدلت الحكمة بالعلم، وهلم جرا لفاتت تلك الفوائد المقصودة. والله أعلم. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((إلا من .... صدقة)) وفي بعض نسخ المصابيح أسقطوا لفظة ((إلا)) وهي مثبتة في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، والمشارق وهو إلى آخره بدل من قوله: ((إلا من ثلاثة)) فعلى التكرير فيه مزيد تقرير، واعتناء شأنها، والاستثناء متصل، تقديره: ينقطع عنه ثواب أعماله من كل شيء من الصلاة والزكاة والحج، ولا ينقطع ثواب أعماله من هذه الثلاثة. والمعنى إذا مات الإنسان لا يكتب له بعده أجر أعماله؛ لأنه جزاء العمل، وهو ينقطع بموته، إلا فعلا دائم الخير، مستمر النفع، مثل وقف أرض، أو تصنيف كتاب، أو تعليم مسألة يعمل بها، أو ولد صالح، وكل منها يلحق أجره إليه. وإنما جعل ولد

عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). رواه مسلم. [203] ـــــــــــــــــــــــــــــ جعل ولد صالح من جنس العمل لأنه هو السبب في وجوده، وسبب لصلاحه بإرشاده إلى الهدى، كما جعل نفس العمل في قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح}. وأما فائدة القيد بـ ((الولد يدعو له)) مع أن الغير من المسلمين لو دعا له لنفعه أيضاً- فزيادة للبيان، وتحريض للولد على الدعاء، وأنه كالواجب عليه. ((قض)): قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)) يكاد يخل بهذا الحديث، لاسيما قوله: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة)) فإنه ينافي [قطرية]. قلت: الحديث الأول داخل في باب علم ينتفع به، فإن وضع السنن وتأسيسها من باب التعليم. وأما قوله: ((كل ميت يختم على عمله)) فمعناه أن الرجل إذا مات لا يزاد في ثواب ما علم، ولا ينقص منه شيء إلا الغازي؛ فإن ثواب مرابطته ينمو ويتضاعف، وليس فيه ما يدل على أن عمله يزاد بضم غيره أو يزاد. يريد أن الحصر يدل على أن الثواب بانضمام الغير يجري له، كأنه قيل: ينقطع عمله المنضم إلى عمل الغير إلا عن ثلاث، والمرابطة ليس بداخلة فيها، فلا يخل بالحصر. وهو ينظر إلى ما يروي التوربشتي عن الطحاوي حيث قال: والذي ذكر عن المرابط، فإنه عمله الذي قدمه في حياته، فينمو له إلى يوم القيامة. وأقول: لعلها داخلة في الصدقة الجارية؛ لأن القصد في المرابطة نصرة المسلمين، ودفع أعداء الدين، والمجاهدة مع الكفار، ودعوتهم إلى الإسلام لينتفعوا في الدارين. ونية المؤمنين خير من عمله، فلا يبعد أن يدخل تحت جنس الصدقة الجارية، كبناء الرباط، وحفر البئر. وفيه تحريض على الجهاد وحيث عليه، ومما يواخيه في الحث حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)) رواه البخاري. ((مح)): فيه دليل صحة أصل الوقف، وعظم ثوابه، وبيان فضيلة العلم، والحث على استكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع. وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما، وكذلك قضاء الدين.

204 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من نفس)) يقال: نفست عنه كربة تنفيساً إذا رفعته [وفرجته] عنها، مأخوذ من قولهم: أنت في نفس أي سعة، كأن من كان في كربة وضيق سد عنه مداخل الأنفاس، فإذا فرج عنه فتحت [المداخل]. و ((المعسر)) من كربه الدين، وتعسر عليه قضاؤه. ((مظ)): ((ومن ستر)) يجوز أن يراد به الظاهر، وأن يراد ستر من ارتكب ذنباً فلا يفضحه. وإنما عدل صلى الله عليه وسلم من المساجد، إلى هذه الصيغة أعني ((من بيوت الله)) ليشمل جميع ما يبني لله تقرباً إليه من المساجد والمدارس، والربط. و ((يتدارسون)) شامل لجميع ما يناط بالقرآن من التعليم والتعلم، والتفسير، والاستكشاف عن دقائق معانيه. و ((السكينة)) هي ما يحصل به السكون والوقار، وصفاء القلب بنور القرآن، وذهاب الظلمة النفسانية، ونزول ضياء الرحمانية. وعن ابن مسعود: ((السكينة مغنم، وتركها مغرم)) و ((غشيتهم)) غطتهم وعلتهم الرحمة، و ((حفت بهم)) أي أحدقتهم، وطافت بهم. قوله: ((فيمن عنده)) قيل المراد بهم الملأ الأعلى، والطبقة الأولى من الملائكة. وذكره سبحانه فيما بينهم للمباهاة بهم. و ((البطء)) نقيض السرعة. ((نه)): أي من أخره عمله السيئ أو تفريطه في العمل الصالح لم ينفعه في الآخر شرف النسب. وأقول: قوله: ((كربة)) أي غماً وشدة، نكرها تقليلاً، وميز بها بعد الإبهام وبينها بقوله: ((من الدنيا)) للإيذان بتعظيم شأن [التنفيس]، يعني أقله المختص بالدنيا يفيد هذه الفائدة، فكيف بالكثير المختص بالعقبى؟ فلذلك لم يقيد هذه القرينة بما قيده في القرينتين الأخيرتين من ذكر الدنيا والآخرة معاً، ولأنهما تخصيص بعد التعميم اهتماماً بشأنهما. ((والله في عون العبد)) تذييل للسابق، لاسيما على دفع المضرة عن أخيه المسلم، وعلى جلب النفع له، ولذلك أخرجه من سياق الشرطية، وبني الخبر على المبتدأ؛ ليقوى به الحكم. وخص العبد بالذكر تشريفاً له بنسبة العبدية إليه، كما شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وكرره وقال: ((في عون العبد)) ولم يقل: والله يعينه في كذا، كما قال: {ولكم في القصاص حياة} أي إن الله يوقع العون في العبد ويجعله مكاناً له، مبالغة في الإعانة. ولما فرغ من الحث على الشفقة لخلق الله تعالى أتبعه بما ينبئ عن التعظيم لأمر الله، ولأن العلم وسيلة إلى العمل ومقدمة له، ومن ثم [ختمه] بقوله: ((ومن بطأ به عمله)).

العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم [204]. 205 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمته فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت؛ ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ومن سلك طريقاً)) التنكير فيه للشيوع، أي تسبب بسبب أي سبب كان، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق فيه، والتعلم والتعليم، والتصنيف، والكدح فيه، مما لا يحصى كثرة. ((ومن بطأ به عمله)) أيضاً تذييل بمعنى التعظيم لأمر الله، فالواو فيه وفي قوله: ((والله في عون العبد)) استئنافية، وبقية الواوات عاطفة، وأخرج مخرج الحصر خصوصاً بما وإلا؛ ليقطع الحكم به، ويكمل العناية بشأنها، والله أعلم. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن أول الناس)) ((شف)): ((يقضي)) صفة للناس، وهو نكرة معنى، أي أول ناس يقضي عليه يوم القيامة رجل. انتهى كلامه. قوله: ((فعرفه)) هذا التعريف للتبكيت، وإلزام المنعم عليه، ولذلك أتبعه بقوله: ((فعرفها)) أي اعترف بها، والفاء في ((فعرفه)) للتعقيب، وفي ((فعرفها)) للتسبيب، وفي [فما عملت] جزاء شرط محذوف هو مقول القول، أي إذا كان مقرراً عندك أمن تلك النعمة الموجبة للشكر مني فما فعلت في حق تلك النعمة؟ وهي منح القوة، والشجاعة، وتهيئة آلة المحاربة لإعلاء كلمات الله، يعني كيف أديت شكرها؟ وقوله: ((فيك)) أي في جهتك خالصاً لك، أداء لحق تلك النعمة. والتكذيب راجع إلى هذه الدعوى. و ((جريء)) أي مقدام، يقول منه: جرأ الرجل جراء بالمد. قال في الصحاح: وأما الجريء المقدام فهو من باب الهمز. ((وقرأ القرآن)) أي على ظهر قلبه من غير تأمل في معانيه. وفيه تنبيه على أن مجرد قراءته كاف في الاعتبار. قال المؤلف: ((نعمته)) على صيغة المفرد أولاً، وعلى الجمع في الأخيرين، هكذا جاء في صحيح مسلم، والجمع بين الصحيحين، والحميدي، وجامع الأصول، وفي الرياض للنواوي، وفي بعض نسخ المصابيح. ولعل الفرق لأجل اعتبار الإفراد في الأولى والكثرة في الأخيرين.

فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيه القرآن: قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)). رواه مسلم. [205] 206 - عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)). متفق عليه. 207 - وعن شقيق كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس فقال له ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن عبد الله قوله: ((انتزاعاً)) مفعول مطلق [على] معنى ((يقبض)) نحو ((رجع القهقري، و ((ينتزعه)) صفة مبينة للنوع، و ((حتى)) هي التي تدخل على الجملة، وهي هنا الشرط والجزاء قوله: ((اتخذ الناس رءوساً جهالاً)) قال الشيخ محيي الدين: ضبطناه في البخاري ((رءوساً)) بالمد بضم الهمزة وبالتنوين جمع رأس، وضبطوه في مسلم هنا بوجهين: أحدهما هذا، والثاني [((رؤساء)) بالمد جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول أشهر. وفي التحذير عن اتخاذ الجهال رؤوساً. الحديث العاشر عن شقيق: قوله: ((يتخولنا)) أي يتعهدنا، التخول التعهد، وحسن الرعاية، يقال: تخولت الريح الأرض إذا تعهدتها، والخائل المتعهد للشيء الحافظ له. والمعنى أنه كان يتفقد بالموعظة في مظان القبول، ولا يكثر علينا لئلا نسأم، وكان أبو عمرو يقول: إنما [هو] يتخوننا، والتخون التعهد، قال ذو الرمة: لا ينعش الطرف إلا ما تخونه داع يناديه باسم الماء مبغوم

رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. متفق عليه. 208 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً. رواه البخاري. 209 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد رد على الأعمش روايته باللام، وكان الأصمعي يقول: ظلمه أبو عمرو، يقال: يتخولنا ويتخوننا جميعاً. قلت: والرواية باللام أكثر، وزعم بعضهم أن الصواب يتحولنا- بالحاء- المهملة- وهو أن يتفقد أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم فيملوا. ومن الناس من يرويه كذلك، ولكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة. الحديث الحادي عشر عن أنس: قوله: ((إذا تكلم)) ((تو)): أراد بالكلمة الجملة المفيدة. وقوله: ((أعادها ثلاثاً)) فإنه مبين بقوله: ((حتى يفهم عنه)). وأما قوله: ((إذا سلم سلم عليهم ثلاثاً)) فإنه يفتقر إلى البيان؛ لأنا لم نجد سنة مشروعة، وقد ذهب بعض العلماء في معناه إلى التسليم الاستئذان، واستدل بحديث سعد بن عبادة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه وهو في بيته، وسلم، [فلم] يجبه، ثم سلم ثانياً، ثم ثالثاً)) الحديث الأول، وفي هذا التأويل نظر؛ لأن تسليمة الاستئذان [تثنى] ذا حصل الإذن بالأولى، ولا تثلث إذا حصل بالثانية؛ ثم أنه ذكره بحرف ((إذا)) المقتضية لتكرار الفعل كرة بعد أخرى، وتسليمه ثلاثاً على باب سعد أمر نادر، ولم يذكر عنه في غير هذا الحديث. والوجه فيه أن نقول: معناه كان النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قوم سلم تسليمه الاستئذان، وإذا دخل سلم تسليمة التحية، ثم إذا قام من المجلس سلم تسليمة الوداع، وهي في معنى الدعاء. وهذه التسليمات كلها مسنونة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليها، ولا مزيد في السنة على هذه الأقسام. الحديث الثاني عشر عن أبي مسعود: قوله: ((إنه أبدع بي)) اسم ((إن)) ضمير الشأن، والجملة المفسرة خبره. ((فا)): أبدعت الراحلة إذا انقطعت عن السير لكلال أو ظلع جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعاً منها، أي إنشاء أمر خارج عما اعتيد فيها وألف، واتسع فيه حتى قيل: أبدعت حجة فلان، وأبدع بره بشكري، وإذا لم يف شكره ببره. ومعنى ((أبدع بالرجل)) انقطع به راحلته، كقولك: سار زيد بعمرو، فإذا بنيت الفعل للمفعول به وحذفت الفاعل قلت: سير بعمرو، فأقمت الجار والمجرور مقام الفاعل، وأن المعنى في سير بعمرو سير عمرو، كذلك المعنى في انقطع بالرجل قطع الرجل، أي قطع عن السير.

أبدع بي فاحملني. فقال: ((ما عندي)). فقال: رجل: يا رسول الله! أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)). رواه مسلم. [209]. 210 - وعن جرير، قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى ثم خطب فقال: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من دل على خير)) وإنما أجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) بدل ((نعم)) ليشمل جميع هذه الخصلة الحميدة، ويدخل فيه السائل دخولا أولياً وإيراد الحديث في هذا الباب لمناسبة التعليم الفعلي؛ لأن التعليم أعم من أن يكون فعلياً أو قولياً. الحديث الثالث عشر عن جرير: قوله: ((مجتابي)) هو بالجيم وبعد الألف باء موحدة. و ((النمار)) جمع نمرة، وهي كساء من صوف مخطط. ومعنى مجتابيها لابسوها، وقد خرقوها في رءوسهم، والعطف في ((بل كلهم)) للحصر، وهو من قصر الموصوف على الصفة، أي لا يتجاوز عن مضر إلى غيرهم. وكذا العطف في (بل قد عجزت)، وفائدته التأكيد، ورفع توهم التجوز. ((نه)): (التعمر) التغير، وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون، من قولهم: مكان أمعر: إذا (كان) أحدب. قوله: {خلقكم من نفس واحدة} هذا على تأويل أن يكون الخطاب بقوله: {يأيها الناس} للذين بعث إليهم رسول الله من مضر، وأراد بالتلاوة من هذه الآية قوله: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}، أي اتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الله الذي تناشدون، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، وقد أذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان ومنزلة عظيمة. وقوله: ((والآية)) بالنصب عطف من حيث المعنى على قوله: {يأيها الناس اتقوا} على تأويل قال (بقرأ)، أي قرأ هذه الآية والآية التي في الحشر. وقوله: ((تصدق)) لعل الظاهر ليتصدق رجل، ولام الأمر [للغائب] محذوف، وجوزه ابن الأنباري، ونقل عن بعض أهل اللغة أن ((نبك)) في قوله: ((قف نبك)) مجزوم على تأويل [للغائب] قال: التقدير: قفا فلنبك.

واحدة} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيبا}، والآية التي في الحشر {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوابه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)). قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتج بقوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} أي ذرهم فليأكلوا. وكذلك قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين} أي قل لهم: فليغفروا. ولو حمل ((تصدق)) على الفعل الماشي لم يساعد عليه قوله: ((ولو بشق تمرة))؛ إذ المعنى ليتصدق رجل ولو بشق تمرة. وكذا قوله: ((فجاء رجل من الأنصار بصرة)) إلى آخره يأبى الإخبار؛ لأنه بيان كون المأمورين [امتثلوا] أمره صلى الله عليه وسلم عقيب الحث على التصدق، فجاء كل رجل بما في وسعه. ولمن يجريه على الإخبار وجه، لكن فيه تعسف غير خاف. و ((رجل)) نكرة وضعت موضع الجمع المعرف، فأفاد الاستغراق في أفراده، وإن لم يكن في سياق النفي، كقوله تعالى: {وول أنما في الأرض من شجرة أقلام} فإن ((شجرة)) وقعت موقع الأشجار، فأفادت الاستغراق، ومن ثم كرر ((من)) في الحديث مراراً ولم يعطف. أي ليتصدق رجل من ديناره ودرهمه، وهلم جرا. و ((من)) في ((من ديناره)) يجوز)) أن تكون تبعيضية منصوبة المحل، و ((ديناره ودرهمه)) جنس، أي: ليتصدق ببعض ما عنده من هذا الجنس، وأن تكون ابتدائية متعلقة بالفعل، فالإضافة في ((ديناره ودرهمه)) بمعنى اللام، أي ليتصدق بما هو مختص به وهو مفتقر إليه، على نحو قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. والكومة من الطعام [الصبرة]، وأصل الكوم ما ارتفع من الشيء. و ((يتهلل)) يستنير ويظهر عليه أمارات السرور. ((والمدهن)) نقرة في الجبل ليستنقع فيها الماء من المطر. والمدهن أيضا ما جعل فيه الدهن، والمدهنة تأنيث المدهن. شبه صفاء وجهه عليه الصلاة والسلام لإشراق السرور بصفاء هذا الماء المجتمع في الحجر، أو بصفاء الدهن. هذا ما شرحه الحميدي في غريبه، وقد جاء في كتاب النسائي وفي بعض نسخ مسلم: ((مذهبة) بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة، فإن صحت الرواية فهو من الشيء المذهب المموه بالذهب، هكذا في جامع الأصول. ((مح)): ((مذهبة))

طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)). رواه مسلم. [210]. 211 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)). متفق عليه. وسنذكر حديث معاوية: ((لا يزال من أمتي)) في باب ثواب هذه الأمة إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو بالذال المعجمة وفتح الهاء وبالباء الموحدة، قال القاضي عياض وغيره: وصحفه بعضهم فقال: مدهن بدال مهملة وفتح الهاء والنون، وكذا ضبطه الحميدي، والصحيح المشهور هو الأول، والمراد به على الوجهين الصفاء والاستنارة. ((تو)): ((من سن سنة)) أي يأتي بطريق مرضية يقتدي به فيها. وفي عامة نسخ المصابيح: ((فله أجرها))، وهو غير سديد رواية ومعنى، وإنما الصواب ((أجره))، والضمير يعود إلى صاحب الطريقة، أي له أجر علمه، وأجر من عمل بسنته، فظن بعض الناس أن الضمير راجع إلى السنة، وقد وهم فيه بعض المتأخرين من رواة الكتابين، وليس ذلك من رواية الشيخين في شيء. قال المؤلف: أما قوله: ((وليس ذلك من رواية الشيخين)) فجوابه أن البخاري ما أورد هذا الحديث في جامعه، وهو من أفرد مسلم، ووجد في نسخ متعددة من نسخ مسلم ((أجرها))، وعلى هذا شرح الإمام محيي الدين النواوي. وقوله: ((وهو غير سديد)) وكذا قوله: ((فظن بعض الناس أن الضمير راجع إلى السنة)) فجوابه أن الإضافة يكفي في استقامتها أدنى ملابسة .. فإن السنة الحسنة لما كانت سبباً في ثبت أجر عاملها أضيف الأجر إليها بهذا، كما إذا رأيت بناء رفيعاً قلت: هذا بناء الأمير. أو أن المضاف محذوف، أي فله أجر عملها، فيكن من إضافة المصدر إلى المفعول. الحديث الرابع عشر عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((على ابن آدم الأول)) إنما قيد ابن آدم بـ ((الأول)) لئلا يشبه؛ لأن في بني آدم كثرة، وهذا يدل على أن قابيل كان أول مولود من بني آدم، و ((الكفل)) النصيب والحظ، يقال للحظ الذي فيه الكفاية: الكفل، كأنه يكفل بأمر صاحبه، وكم من مثل هذه الألفاظ قد استعملت في معان قد اختصت بها، ثم شاعت واتسعت في غيرها، وحقيقة المعنى في قوله: ((كفل من دمها)) أي نصيب تكفل بأمره، فهو فيه جزاء ما ارتكبه من الإثم، وعقوبة ما سنه من القتل، ويجوز أن يكون ((الكفل)) بمعنى الكفيل، يعني أنه أقام كفيلاً بفعله الذي سنه في الناس يسلمه إلى عذاب الله- انتهى كلامه.

الفصل الثاني 212 - عن كثير بين قيس، قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاء رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وسببه أن قابيل قتل أخاه هابيل حين أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج [كلا] من البطنين توأم الآخر، وكانت توأم قابيل أجمل، فحسد عليها أخاه هابيل، فقتله، وهما أول قاتل ومقتول من بني آدم. الفصل الثاني الحديث الأول عن كثير: قوله: ((ما جئت لحاجة)) أي حاجة أخرى غير أن أسمع منك الحديث، وتحديث أبي الدرداء بما حدثه يحتمل أن يكون مطلوب الرجل بعينه، أو يكون بيان أن سعيه مشكور عند الله، ومطلبه من أسنى المطالب، ولم يذكر هنا ما هو مطلوبه، والأول أغرب وأقرب. وإنما أطلق الطريق والعلم ليشملا ي جنسها أي طريق كان، من مفارقة الأوطان، والضرب في البلدان إلى غير ذلك كما سبق، و ((علماً)) أي علم كان من علوم الدين، قليلاً كان أو كثيراً، رفيعاً أو غير رفيع. وقيد ((طريقاً)) بقوله: ((من طرق الجنة)) ليشير إلى أنه تعالى يوفقه للأعمال الصالحة، فيوصله بها إلى الجنة، ويسهل عليه ما يزيد به علمه؛ لأنه أيضاً طريق من طرق الجنة، بل هو أقربها وأعظمها؛ لأن صحة الأعمال وقبولها متوقفة على العلم. والضمير المجرور في ((به)) عائد إلى ((من))، والباء للتعدية، أي يوفقه أن يسلك طريق الجنة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى العلم، والباء للسببية، ويكون سلك بمعنى سهل، والعائد إلى ((من)) محذوف، والمعنى سهل الله له بسبب العلم طريقاً من طرق الجنة، فعلى الوجه الأول ((سلك)) من السلوك، فعدي بالباء، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف، كقوله تعالى: ((يسلكه عذاباً صعداً)) قيل: عذاباً مفعول ثان. وعلى التقديرين نسبة سلك إلى الله تعالى على طريق المشاكلة، ((وإن الملائكة ...)) جملة معطوفة على الجملة الشرطية، وكذا الجمل الآتية المصدرة بـ ((إن)) على سبيل الترقي. ووضع الأجنحة يحتمل أن يكون حقيقة وإن لم يشاهد، أي بكف أجنحتها عن الطيران، وتنزل لسماع الذكر، كما ورد: ((إلا ونزلت عليهم بالسكينة، وحفت بهم الملائكة)) وأن يكون

به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)). رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، والدارمي، وسماه الترمذي قيس بن كثير [212]. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجازاً عن التواضع، كقوله تعالى: ((واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)) وقيل: معناه المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم. قوله: ((رضي لطالب العلم)) مفعول له، وليس فعلا لفاعل الفعل المعلل، فيقدر مضاف، أي إرادة رضى. قوله: ((وإن العالم)) أثبت لهم العلم، وجعلهم معلمين بعد أن كانوا طالبين متعلمين ترقياً، ووصفهم بما هو أعلى مما وصفهم أولاً، حيث جعل الموجودات من الملائكة والثقلين وغيرهم حتى الحيتان في البحر مستغفرين لهم، طالبين لتخليتهم مما لا ينبغي ولا يليق بهم من الأوضار والأدناس، لأن بركة علمهم وعملهم وإرشادهم وفتواهم سبب لرحمة العالمين. وذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تتميم لاستيعاب جميع أنواع الحيوانات على طريقة الرحمن الرحيم، كما بيناه في ((فتوح الغيب)). وأما تخصيص الحيتان بالذكر فللدلالة على أن إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم، كما قال: ((بهم يمطرون، وبهم يرزقون))، حتى الحيتان التي لا تفتقر إلى الماء افتقار غيرها لكونها في جوف الماء تعيش أيضاً ببركتهم، فلما ذكر ما يحصل به التخلية عن النقائص عقبه بما يشير بالتحلية من إثبات النور. ((قض)): العبادة كمال ونور يلازم ذات العابد لا يتخطاه، فشابه نور الكواكب، والعلم كما يوجب للعالم في نفسه فضلاً وشرفا يتعدى منه إلى غيره، فيستضيء بنوره، ويكمل بواسطته، لكنه كمال ليس للعالم من ذاته، بل نور يتلقاه من النبي [صلوات الله عليه]، فلذلك شبه بالقمر- انتهى كلامه. ولا تظنين أن العالم المفضل عاطل عن العمل، ولابد العابد عن العلم، بل إن علم ذلك غالب على عمله، وعمل هذا غالب على علمه، ولذلك جعل العلماء وراث الأنبياء الين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريقة العارفين بالله، وسبيل السائرين إلى الله.

213 - وعن أبي أمامة الباهلي، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على ـــــــــــــــــــــــــــــ كتب شيخنا شيخ الإسلام قطب الزمان أبو حفص السهروردي إلى الإمام فخر الدين الرازي مكتوباً فيه: إذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله التي تنفد البحار دون نفادها، ويبقى العلم على كمال قوته، لا يضعفه تردده في تجاويف [متحرية الأفكار] وبسعيه وبقوته يتلقى [الفهوم] المستقيمة. وهذه رتبة الراسخين في العلم المتوسمين بصورة العمل، وهم وراث الأنبياء عليهم السلام [كرعياهم] على العلم، وعلمهم على العمل، فتناوب العلم والعمل فيهم، حتى صفت أعمالهم ولطفت، فصارت مسامرات [سرية]، ومحاورات روحية، فتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها، وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها، وسرايتها إلى الاستعدادات. وفي إتباع الهوى إخلاد إلى الأرض، قال الله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه}. وقوله: ((ليستغفر)) مجاز من إرادة استقامة حال المستغفر له، من طهارة النفس، ورفعة المنزلة، ورخاء العيش؛ لن الاستغفار من العقلاء حقيقة، ومن الغير مجاز. والفاء في قوله: ((فمن أخذ)) مسببية، أي من ورث العلم ورث حظاً وافراً. ويجوز أن يكون الضمير في ((فمن أخذه)) يعني اسم الإشارة كما في قول الشاعر: فيه سواد وبياض وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي كان ذلك، والمشار إليه جميع المذكورات. ((حس)): عن قتادة باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه، وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول. [قال] وعن الثوري قال: وعن الثوري قال: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وعنه أيضاً: ما أعلم اليوم شيئاً أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية. وعن الحسن قال: من طلب العلم يريد ما عند الله كان خيراً له مما طلعت عليه الشمس. وعن ابن وهب قال: كنت عند مالك قاعداً أسأله، فرآني أجمع كتابي لأقوم، قال مالك: أين تريد؟ قال: قلت: أبادر إلى الصلاة، قال: ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صح فيه النية، أو ما أشبه ذلك. وعن الشافعي قال: طلب العلم أفضل من الصلوة النافلة. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((كفضلي)) هذا التفضيل موافق للحديث السابق من حيث المبالغة وما به التفضيل؛ فإن المخاطبين بقوله: ((أدناكم)) هم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شبهوا بالنجوم في قوله عليه الصلاة والسلام: ((أصحابي كالنجوم)) الحديث حسنه الإمام

أدناكم)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)). رواه الترمذي. [213]. 214 - ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً، ولم يذكر: رجلان. وقال: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا هذه الآية: {إنما يخشى الله من عباده العلماء})) وسرد الحديث إلى آخره [214]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصنعاني. وشبه صلى الله عليه وسلم بالقمر ليلة البدر فيما رويناه عن الترمذي عن جابر بن سمرة قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو أحسن من القمر)). والمبالغة التي تعطيها ((أدناكم)) تقرب منها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((سائر الكواكب))؛ لأن فضل القمر على بقية الكواكب أجمع يستلزم ذلك التفاوت العظيم بين البدر وبين كوكب هو أدنى الكواكب في الضوء كالسها. وهذا التشبيه ينبهك على أن لابد للعالم من العبادة، وللعابد من العلم؛ لأن تشبيههما برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالصحابة يستدعي المشاركة فيما فضلوا به من العلم والعمل، وكيف والعلم مقدمة للعمل، وصحة العمل متوقفة على اللعم؟. وقوله: ((إن الله وملائكته)) جملة مستأنفة لبيان التفاوت العظيم بين العالم والعابد، وأن نفع العابد مقصور على نفسه، ونفع العلم متجاوز إلى الخلائق حتى النملة. وكذا قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} استشهاد لبيان علة الفضل؛ لأن العالم الحقيقي أعرف بالله وبجلاله وكبرياء شأنه من العابد الذي غلبت عبادته على علمه، فيكون العالم أتقى منه، قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وفي الحديث ((وأرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به)). وأما عطف ((أهل السموات)) على ((الملائكة)) فتخصيص للملائكة بحملة العرش، وسكان [أمكنتها] من السموات والأرض من الملائكة المقربين، كما ثبت في النصوص، وفي ((يصلون))

215 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس لكم تبع، وإن رجلاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً)). رواه الترمذي. [215]. 216 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكلمة الحكمة ضالة ـــــــــــــــــــــــــــــ تغليب للعقلاء على غيرهم واشتراك، فإن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الغير الدعاء وطلب الخير. وذكر النملة وتخصيصها مشعر بأن صلوتها لحصول البركة النازلة من السماء، فإن دأب النملة القنية وادخار القوت في جحرها، ثم التدرج منها إلى الحيتان، وإعادة كلمة الغاية للترقي، كما مر في الحديث السابق. والله أعلم. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((إن الناس لكم تبع)) أي تابعون، فوضع المصدر موضعه مبالغة، نحو: رجل عدل. ((لكم)) خطاب للصحابة، يعني الناس يأتونكم من أقطار الأرض وجوانبها، يطلبون العلم منكم بعدي، لأنكم أخذتم أفعالي وأقوالي، واتبعتموني فيهما، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً، وأمروهم بالخير، وعظوهم علوم الدين. والاستيصاء قبول الوصية، وبمعنى التوصية أيضاً، ويعدي بالباء، ويقال: استوصيت زيداً بعمرو خيراً، أي طلبت زيداً أن يفعل بعمرو خيراً. التوربشتي والقاضي: حقيقة ((استوصوا)) اطلبوا الوصية والنصيحة لهم عن أنفسكم. وأقول: هو من باب التجريد، أي ليجرد كل واحد منكم شخصاً من نفسه، ويطلب منه التوصية في حق الطالبين ومراعاة أحوالهم. ((وإن رجالاً يأتونكم)) عطف على ((إن الناس))، و ((يتفقهون)) جملة استئنافية لبيان علة الإتيان، أو حال من الضمير المرفوع في ((يأتوكم)) وهو أقرب إلى الذوق، يعني حق على جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها متابعتكم، وحق عليهم أن يأتوكم جميعاً، ويأخذوا منكم أمر دينهم، فإذا لم يتمكنوا منه فعليهم أن يستنفروا رجالاً يأتونكم ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. فالتعريف في ((الناس)) لاستغراق الجنس، والتنكير في ((رجالا)) للنوع، أي رجالاً صفت نياتهم، وخلصت عقائدهم، يضربون أكباد الإبل لطلب العلم، وإرشاد الخلق. وفي تصدير الجملة الشرطية بـ ((إذا)) التحقيقية تحقيق للوعد، وإظهار للإخبار عن الغيب، فيكون معجزة. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله ((الكلمة الحكمة)) ((التوربشتي والأشراف)): ((الكلمة الحكمة))، ويرى بالإضافة، ويروى ((الكلمة الحكيمة)) كلها قريب، والمراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، ويدل على معنى فيه دقة، والحكيم المتقن للأمور الذي له غور فيها، وقال مالك- رضي الله عنه-: الحكمة الفقه في دين الله، وقال العلم الحكمة، ونور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل. و ((ضالته)) أي مطلوبه، أي الحكيم يطلب الحكمة، ربما تكلم بها من ليس لها بأهل، ثم وقعت إلى أهلها، فهو أحق بها

الحكيم. فحيث وجدها فهو أحق بها)). رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث. [216] ـــــــــــــــــــــــــــــ من الذي قالها، كالضالة إذا وجدها صاحبها فإنه أحق بها من غيره، أي كما أن صاحب الضالة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده، وكذلك الحكيم لا ينظر إلى خساسة من تفوه بالكلمة الحكمة، بل يأخذها منه أخذ صاحب الضالة إياها ممن هي عنده. والمراد أن الناس متفاوتون في فهم المعاني، واستنباط الحقائق المحتجبة، واستكشاف الأسرار المرموزة، فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك حقائق الآيات ودقائق الأحاديث على من رزق فهما وألهم تحقيقاً، ولا ينازع كما لا ينازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها. أو كما أن الرجل إذا وجد ضالة في مضيعة فسبيله أن لا يتركها بل يأخذها، ويتفحص عن صاحبها حتى يجده، ويردها عليه، كذلك من سمع كلاماً لم يفهم معناه، أو لا يبلغ كنهه، فعليه أن لا يضيعه، وأن يحمله إلى [من] هو أفقه منه، فلعله يفهم منه ما لا يفهمه، ويستنبط منه مالا يستنبط، أو كما أن صاحب لضالة أخذ ضالته ممن وجدها لا يحل له منع مالكها منها، فإنه أحق بها، كذلك العالم إذا سئل عن معنى ورأى في السائل فطانة واستعداداً لذلك العلم فعليه أن يعلمه إياه، ولا يحل منعه منه. قيل: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز أن تمنح غير الحكيم الحكمة؛ فإنها ليست بضالته، كما لا يجوز تسليم الضالة إلى غير صاحبها. وأقول: إذا روى ((الكلمة الحكمة)) جعلت الكلمة نفس الحكمة مبالغة، كقولهم: رجل عدل، وإذا روى ((الحكيمة)) يكون من الإسناد المجازي؛ لأن الحكيم قائلها، لقوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم}. ((الجوهري)): الضالة ما ضل من البهيمة: [الذكر] والأنثى، وفي إضافتها إلى الحكيم إشارة إلى أن من سمعها وهو غير عارف بها وجب عله أن يعيها، ويتحرى في تأديتها إلى عارفها؛ لأنه أحق بها وأهلها، وكذلك الحكيم يجب عليه أن يسر بها ويغتنمها، ويراعيها حق رعايتها؛ لأنه أهلها وأحق بها. شبه حالة كلمة الحكمة في أن من سمعها ووعاها، ولزم عليه حفظها [وأداؤها] إلى من يستحقها، ثم انتهاز فرصة الحكيم بها- بحالة بهيمة ضائعة وجدها غير صاحبها، ولزم عليه أن يحتفظ بها، ويوصلها إلى صاحبها، ثم فرح صاحبها بنيل ما ضاع عنه. وفي الحديث دليل على وجوب أداء اللفظ بعينه. أما والله! إن هي إلا كلمة حكيمة ضالة [كل] حكيم.

217 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [217]. 218 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)). رواه ابن ماجه، وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) إلى قوله ((مسلم)). وقال: هذا حديث متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روى من أوجه كلها ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن ابن عباس: قوله: ((أشد من ألف عابد)) لأن الشيطان كلما فتح باباً من الأهواء على الناس، وزين الشهوات في قلوبهم، بين الفقيه العارف بمكائد ومكامن غوائله للمريد السالك ما سد ذلك الباب، ويجعله خائباً خاسراً، بخلاف العابد فإنه ربما يشتغل بالعبادة وهو في حبائل الشيطان، ولا يدري، وقد مر في حديث معرفة اللمتين- لمة الملك ولمة الشيطان ما يوضح هذا المعنى. الحديث السادس عن أنس: قوله: ((طلب العلم فريضة)) ((قض)): المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد من تعلمه، لمعرفة الصانع، والعلم بوحدانيته، ونبوة رسوله، وكيفية الصلاة؛ فإن تعلمه فرض عين، وعلى هذا كلام الشارحين. وأقول: قوله: ((وواضع العلم عند غير أهله)) يشعر بأن كل علم يختص باستعداد وله أهل، فإذا وضعه في غير موضعه فقد ظلم، فمثل معنى الظلم بتقليد أخس الحيوان بأنفس الجواهر تهجيناً لذلك الواضع، وتنفيراً عنه، وفي تعقيب هذا التمثيل قوله: ((طلب العلم)) إعلام بأن المراد بالطلب طلب كل من المستعدين بما يليق بحاله ويوافق منزلته، بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامة، وعلى العالم أن يخص كل طالب بما هو مستعد له. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي- قدس [الله] سره-: اختلف في العلم الذي هو فريضة، قيل: هو علم الإخلاص، ومعرفة آفات النفوس، وما يفسد الأعمال؛ لأن الإخلاص مأمور به، وخدع النفس وغرورها وشهواتها تخرب مباني الإخلاص المأمور به، فصار علم ذلك فرضاً. وقيل: معرفة الخواطر وتفصيلها فريضة؛ لأن الخواطر هي منشأ الفعل، وبذلك يعلم الفرق بين لمة الملك، ولمة الشيطان، وقيل: هو طلب علم الحلال حيث كان أكل الحلال فريضة. وقيل: هو علم البيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، إذا أراد الدخول في شيء من ذلك يجب عليه طلب علمه، وقيل: هو علم الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام.

219 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين)). رواه الترمذي. [219] 220 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)). رواه الترمذي، والدارمي. [220] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: هو طلب علم التوحيد بالنظر والاستدلال، أو النقل. وقيل: هو طلب علم الباطن، وهو وما يزداد به العبد يقيناً، وهو الذي يكتسب بصحبة الصالحين، والزهاد المقربين، فهم وراث علم النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث السابع عن أبي هريرة: قوله: ((حسن سمت)) ((فا)): هو أخذ النهج ولزوم المحجة، وأنشد الأصمعي: خواضع بالركبان خوضاً عيونها وهن إلى البيت العتيق سوامت ثم قيل لكل طريقة ينتجها الإنسان في تحري الخير والتزيي بزي الصالحين. ((تو)): حقيقة الفقه في الدين ما وقع في القلب، ثم ظهر على اللسان، فأفاد العلم، وأورث الخشية والتقوى، فأما ما يتدارس ليتعزز به فإنه بمعزل من الرتبة العظمى؛ لأن الفقه تعلق بلسانه دون قلبه. أقول: قوله: ((خصلتان لا تجتمعان)) ليس المراد أن واحداً منها قد يحصل في المنافق دون الأخرى، بل هو تحريض للمؤمنين على اتصافهم بهما معاً، والاجتناب عن أضدادهما، فإن المنافق من يكون عارياً منهما، وهو من باب التغليظ، ونحوه قوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة} وليس من المشركين من يزكى، لكن حث للمؤمنين على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين. و ((حسن)) عطف ((ولا فقه)) على ((حسن سمت)) وهو مثبت؛ لأنه في سياق النفي. الحديث الثامن عن أنس: قوله: ((في سبيل الله)) ((مظ)): وجه مشابهة طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله أنه إحياء الدين، وإذلال الشيطان، وإتعاب النفس، وكسر الهوى واللذة. أقول: ويؤيده قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية، حض المؤمنين على التفقه في الدين، وأمرهم بأن ينفر من كل منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى طائفة يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، وفي قوله ((حتى يرجع)) إشارة إلى أنه بعد الرجوع وإنذار القوم له درجة أعلى من تلك الدرجة؛ لأنه حينئذ وارث الأنبياء في تكميل الناقصين.

221 - وعن سخبرة الأزدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد، وأبو داود الراوي يضعف. 222 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)) رواه الترمذي [222] 223 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سئل عن علم علمه ثم كتمه؛ ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي [223]. 224 - ورواه ابن ماجه عن أنس. 225 - وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن سخيرة: قوله: ((كان كفارة)) الكفارة ما يستر الذنوب ويزيلها، من: كفر إذا ستر. الحديث العاشر عن أبي سعيد: قوله: ((لن يشبع)) شبه استلذاذه بالمسموع باستلذاذه بالمطعوم؛ لأنه أرغب وأشهى، وأكثر إتعاباً لتحصيله، و ((حتى)) للتدرج في استماع الخبر والترقي في استلذاذه، والعمل به إلى أن يوصله الجنة ويبلغه إليها؛ لأن سماع الخبر سبب العمل، والعمل سبب دخول الجنة ظاهراً. ولما كان قوله: ((لن يشبع)) فعلاً مضارعاً يكون فيه دلالة على الاستمرار تعلق حتى به. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثم كتمه)) ((ثم)) فيه استبعادية؛ لأن تعلم العلم إنما كان لنشره، ولدعوة الناس إلى طريق الحق، والكاتم يزاول إبطال هذه الحكمة، وهو بعدي عن الحكيم المتقن. وقوله: ((بلجام)) من باب التشبيه لبيانه بقوله: ((من النار))، كقوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} شبه ما يوضع فيه من النار بلجام في الدابة، وهو

ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله النار)) رواه الترمذي [225]. 226 - ورواه ابن ماجه عن ابن عمر. 227 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يبتغي به ـــــــــــــــــــــــــــــ إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحق. وخصم اللجام بالذكر تشبيهاً له بالحيوان الذي سخر ومنع من قصد ما يريده، فإن العالم شأنه أن يدعو الناس إلى الحق، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم، قال الله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه} لاسيما وقد سئل عما يضطره إلى الجواب، فإذا امتنع منه جوزي بما امتنع عن الاعتذار، كما قال الله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون}. ويدخل في زمرة من {نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم}. ((خط)): هذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه، ويتعين فرضه عليه، كمن رأى من يريد الإسلام، ويقول: علمني ما الإسلام، وكمن يرى حديث عهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول: علمني كيف أصلي، وكن جاء مستفتياً في حلال وحرام يقول: أفتوني وأرشدوني، فإنه يلزم في هذه الأمور أن لا يمنع الجواب، فمن فعل كان آثماً مستحقاً للوعيد، وليس كذلك الأمر في النوافل الأمور التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها. ومنهم من يقول: هو علم الشهادة. الحديث الثاني عشر عن كعب: قوله: ((ليجاري)) ((التوربشتي والقاضي)): المجاراة المفاخرة، مأخوذة من الجري لأن كل واحد من المتفاخرين يجري مجرى الآخر. و ((المماراة)) المحاجة والمجادلة، من المرية، وهو الشك؛ فإن كل واحد من المحتاجين يشك فيما يقول صاحبه، أو يشكك بما يورد على حجته. أو المري، وهو مسح الحالب الضرع ليستنزل ما به من اللبن؛ فإن كلا من المتناظرين يستخرج ما عند صاحبه. و ((السفهاء)) الجهال، فإن عقولهم ناقصة مرجوحة بالإضافة إلى عقول العلماء. أوقل: ههنا ألفاظ متقاربة: المجاراة، والمماراة، والمجادلة. فالأول محظور مطلقاً، لأن المجاراة المقاومة وجعل الرجل نفسه مثل غيره، يعني لا يطلب العلم لله، بل ليقول للعلماء: أنا

وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا؛ لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)). يعني ريحها. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه [227]. ـــــــــــــــــــــــــــــ عالم مثلكم، ويتكبر ويترفع على الناس، لذلك فهو مذموم كله، والوعيد مترتب عليه، ولا يستثنى منه. وأما المماراة والمجادلة قد يستثنى منهما كما في قوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً} أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه، ولا تجهلهم ولا تعنف بهم في الرد عليهم، كما قال الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} أي بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف، والسفهاء خفاف الأحلام، فلا تجادلهم، ولا تقل لهم: أنا أعلم وأنتم السفهاء، فتثور الخصومة والشحناء. ويفهم منه أن بعضاً من المراء محمود، وهو أن يمتري الأستاذ التلميذ، فينظر ما مقدار فهمه أو تحصيله، من المراء، وهو مسح الحالب الضر. ولعل منه سؤال جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور الصحابة ليريهم الله أنه صلى الله عليه وسلم ملئ من العلوم، وعلمه مأخوذ من الوحي، فيزيد رغبتهم ونشاطهم فيه، وهو المعنى بقوله: ((ليعلمكم أمر دينكم)) كما سبق. ((مظ)): ((أو يصرف به)) أي يطلب العلم على نية تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه العوام إليه، وجعلهم إياه معقب القدم. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة: قوله: ((عرضاً من الدنيا)) العرض متاح الدنيا وحطامها، ويقال: إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ونكره ليتناول جميع أنواع الأعراض، ويندرج فيه قليله وكثيره. قوله: ((لم يجد عرف الجنة)) ((تو)): قد حمل هذا المعنى على المبالغة في تحريم الجنة على المختص بهذا الوعيد، كقولك: ما شممت قتار قدره، للمبالغة في التبري عن تناول الطعام، أي ما شممت رائحتها، فكيف بالتناول عنها؟ وليس كذلك، فإن المتوعد به إذا كان من أهل الإيمان لابد أن يدخل الجنة، عرفنا ذلك بالنصوص الصحيحة، وذلك أنه مقيد بيوم القيامة، والناس أحوالهم فيه مختلفة، فإن الآمنين من الفزع الأكبر- خصوصاً العلماء الزاهدون- إذا

228 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من ـــــــــــــــــــــــــــــ وردوه يمدون برائحة الجنة تقوية لقلوبهم، وتسلية لهمومهم، على مقدار مراتبهم، وهذا البائس المبتغي للأغراض الفانية يكون كصاحب أمراض حادثة في دماغه، مانعة من إدراك الروائح، لا يجد رائحة الجنة، ولا يهتدي إليها لأمر أمراض قلبه. أقول: قوله ((لا يتعلمه)) حال إما من فاعل ((تعلم))، ومن مفعوله؛ لأنه تخصيص بالوصف، ويجوز أن يكون صفة أخرى لـ ((علماً)). وفيه أن من تعلم لرضى الله مع إصابة العرض الدنيوي لا يدخل تحت هذا الوعيد؛ لأن ابتغاء وجه الله تعالى يأبى إلا أن يكون متبوعاً غالباً، فيكون العرض تابعاً، قال الله تعالى: ((من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة)). فيه تقريع وتوبيخ للمريد؛ لأن من تعلم العلم أو جاهد لينال عرضاً من أعراض الدنيا يجب أن يوبخ، ويقال في حقه: ما هذه الدناءة؟ أرضيت بالخسيس الفاني وتركت الرفيع الباقي؟ ما لك لا تريد به وجه الله وطلب مرضاته ليمنحك ما تريده، ويتبعه هذا الخسيس أيضاً؟ راغماً أنفه، كما ورد: ((من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وتأتيه الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله ضيعته عليه)). ووصف العلم بـ ((ابتغاء وجه الله)) يجوز أن يكون للتفضلة والتمييز، فإن بعضاً من العلوم مما يستعاذ منه، كما ورد: ((أعوذ بالله من علم لا ينفع)). ويجوز أن يكون للمدح، كما ورد: ((العلوم ثلاثة)) والوعيد من باب التغليظ والتهديد. سمعت بعض العلماء الزاهدين يقول: من طلب الدنيا بالعلوم الدنيوية كان أهون عليه من أن يطلبها بغيرها من العلوم، فهو كمن جر جيفة بآلة من آلات الملاهي، وذاك كمن جرها بأوراق تلك العلوم. ومثله ما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن بعضهم: ((لأن تطلب الدنيا بالدف والمزمار خير من أن تطلبها بدينك)) والله أعلم بالصواب. الحديث الرابع عشر عن ابن مسعود: قوله: ((نضر الله)) ((تو)): النضرة الحسن والرونق، يتعدى ولا يتعدى، وروي بالتخفيف والتشديد، والمعنى خصه تعالى بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته، من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمة في الآخرة، حتى يرى عليه رونق الرخاء ورفيف النعمة. وإنما خص حافظ سنته ومبلغها بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. قوله: ((ووعاها)) ((خط)): وعى يعي وعياً إذا حفظ كلاماً بقلبه، ودام على حفظه ولم ينسه. قوله: ((ورب حامل فقه)) ((رب)) وضعت للتقليل، فاستعيرت في الحديث للتكثير. وقوله: ((إلى

هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة ـــــــــــــــــــــــــــــ من هو أفقه منه)) صفة لمدخول ((رب)) استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أداه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه. ((تو)): ((لا يغل)) يروى بفتح الياء وضمها، وكسر العين على الصيغتين، فالأول من الغل الحقد، والثاني من الإغلال الخيانة، والمعنى المؤمن لا يغل، ولا يخون في هذه الأشياء الثلاثة، أو لا يدخله ضغن يزيله عن الحق حين يفعل شيئاً من ذلك. ((فا)): المعنى أن هذه الخلال تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والفساد. و ((عليهن)) في موضع الحال، أي لا يغل قلب المؤمن كائناً عليهن، وإنما انتصب عن النكرة لتقدمه. ((تو)): وجه التناسب بين قوله: ((نضر الله عبداً)) وبين قوله: ((ثلاث لا يغل)) هو أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حث من سمع مقالته على أدائها علمهم أن قلب المسلم لا يغل على هذه الأشياء، خشية أن يضنوا بها على ذوي الإحن والحقد لما يقع بينهم من التحاسد والتباغض، وبين أن أداء مقالته إلى من يسمعها من باب إخلاص العمل لله تعالى والنصيحة للمسلمين، فلا يحل له أن يتهاون به، لأنه يخل بالخلال الثلاث. ((قض)): قوله: ((ثلاث)) استئناف تأكيد لما قبله، فإنه صلى الله عليه وسلم لما حضر على تعليم السنن ونشرها قفاه برد ما عسى أن يعرض مانعاً- وهو الغل- من ثلاثة أوجه: أحدها أن تعلم الشرائع ونقلها ينبغي أن يكون خالصاً لوجه الله، مبرأ عن شوائب المطامع والأغراض الدنيوية، وما كان كذلك لا يتأثر عن الحقد والحسد. وثانيها أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم، وهي من وظائف الأنبياء، فمن تعرض لذلك وقام به كان خليفة لمن يبلغ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم لا يحسن من حامل الأخبار وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنع عدوه. وثالثها أن التناقل ونشر الأحاديث إنما يكون غالباً بين الجماعات، فحث على لزومها، ومنع عن التأبي عنها لحقد وضغينة يكون بينه وبين حاضريها ببيان ما فيها من الفائدة العظمى، وهي إحاطة دعائهم من ورائهم، فيحرسهم عن مكائد الشيطان وتسويله. وأقول: يمكن أن يقال- والله أعلم-: إن قوله: ((ثلاث)) استئناف، وهي المقالة التي استوصى في حقها أن يبلغ، والكلام السابق كالتوطئة والتمهيد لها اعتناء بشأنها، والعض عليها بالنواجذ، كأن قائلاً لما سمع تلك التوصية البليغة اتجه له أن يقول: ما تلك المقالة التي استوجبت ذلك الدعاء المرغب في أداء ما سمع؟ أجيب هن ثلاث. وإنما استوجبت هذه التوصية البليغة؛ لأنها جمعت بين التعظيم لأمر الله تعالى، فإن إخلاص العمل هي مقدمة مطلوبة في

للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)). رواه الشافعي والبيهقي في المدخل [228]. ـــــــــــــــــــــــــــــ كل أعمال صالحة- وبين الشفقة على خلق الله من النصيحة لهم إن كان فوقهم، ومن التبرك بدعائهم والانخراط في سلكهم وأداء حقوقهم إن كان دونهم. ولعل رواية ((يغل)) - بالضم- من الإغلال، يقال: غل شيئاً من المغنم غلولا، وأغل إغلالا، إذا أخذه في خفية- أرجح؛ لأن الخيانة في إخلاص العمل هي رؤية الغير، قال الله تعالى: {ول يشرك بعبادة ربه أحدا} وفي حق المسلمين ترك نصيحتهم وإرادة الخير لهم. فإن النصيحة حق لهم عليه، فإن تركها خانهم. وفي حق نفسه أن يحرمها من تركه دعاء المؤمنين، وإخراجه من زمرتهم، فيكون كالغنم القاضية عن القطيع متعرضاً لمكائد الشيطان وتسويله. قوله: ((فإن دعوتهم)) ((نه)): الدعوة المرة الواحدة من الدعاء، أي تحوطهم وتثبتهم وتحفظهم، يريد بهم أهل السنة والجماعة. وكلام صاحب النهاية يرشد إلى أن الصواب فتح ((من)) موصولاً مفعولاً لـ ((تحيط)). وقد يجوز أن يكون تقدير الكلام: فعليه أن يلزم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. قال محيي السنة: اختلف أهل العلم في نقل الحديث بالمعنى، فرخص فيه جماعة، قال واثلة ابن السقع: إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم. وإليه ذهب الحسن، والشعبي، والنخعي. قال أيوب عن ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، واللفظ مختلف، والمعنى واحد. قال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. قال سفيان الثوري: إن قلت: إني حدثتكم كما سمعت فلا تصدقوني، فإنما هو المعنى. وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس. وذهب قوم إلى إتباع اللفظ، منهم ابن عمر، وهو قول القاسم بن محمد، وابن سيرين، ورجاء بن حيوة، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وعبد الوارث، ويزيد بن زريع، ووهيب، وبه قال أحمد، ويحيى. قال محيي الدين النواوي: قال مسلم في حديث أبي معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي حديث وكيع يرفعه. وهذا الذي فعله مسلم من احتياطه، ودقيق نظره، وغزير علمه، وثقوب فهمه، فإن أبا معاوية ووكيعاً اختلفت روايتهما، فقال أحدهما: قال أبو هريرة: قال رسول الله،

ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الآخر: عن أبي هريرة يرفعه. وهذا بمعنى ذلك عند أهل العلم، ولكن أراد مسلم أن لا يروى بالمعنى؛ فإن الرواية بالمعنى حرام عند جماعات من العلماء، وجائزة عند الأكثرين، إلا أن الأولى اجتنابها. أقول- والله أعلم-: في قول محيي السنة: رخص بعضهم، وفي قول محيي الدين: الأولى، إيذاناً بأن العزيمة هو الاحتياط، وأداء اللفظ بعينه، وعليه دل ظاهر الحديث من وجوه أحدها: نفس الدعاء، فإنه ينبئ عن عدم التغيير، لأنه لو وضع موضع ((نضر الله)) رحم الله، أو غفر الله له، وما شاكلهما، لفاتت المنسبة، فإن من حفظ ما سمعه ووعاه وأداه كما سمع من غير تغيير كأنه جعل المعنى غضاً طرياً، ومن بدل وغير فقد جعله مبتذلاً ذاوياً. وثانيها: اختصاص العبد بالذكر دون امرئ مسلم، بمعنى الاستكانة والمضي لأمر الله تعالى ورسوله بلا امتناع، وعدم استنكاف من أداء ما سمع إلى من هو أعلم منه، فإن حقيقة العبودية مشعرة بذلك، ومن ثم ورد قوله: ((بين العبد والكفر ترك الصلاة)) ولم يقل: بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، وهو الظاهر. وثالثها: المقالة خصت من بين الكلام، والحديث، والخبر، لأن حقيقة القول هو المركب من الحروف المبرزة، مفرداً كان أو مركباً، ليدل على وجوب أداء اللفظ المسموع، وينصره الحديث الآتي: ((فيبلغه كما سمعه)). ورابعها: أن إرداف ((ووعاها)) ((حفظها)) مشعر بمزيد التقرير؛ لأن الوعي إدامة الحفظ وعدم النسيان. وأوثر ((أدائها)) على ((رواها)) و ((بلغها)) ونحوهما دلالة على أن تلك المقالة مستودعة عنده، واجب أداؤها إلى من أهو أحق بها وأهلها، غير مغير ولا متصرف فيها. وخامسها: تخصيص ذكر الفقه دون العلم؛ ليؤذن بأن الحامل غير عار عن العلم؛ إذ الفقه علم بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة، ولو قيل: غير عالم، لزم جهله. وسادسها: تكرير ((رب))، وإناطة كل بمعنى يخصها، فإن السامع أحد رجلين: إما أن لا يكون فقيهاً فيجب عليه أن لا يتغير؛ لأنه غير عارف بالألفاظ المترادفة، فيخطئ فيه، أو يكون عارفاً بها، لكنه غير بليغ، فربما يضع أحد المترادفين موضع الآخر، ولا يقف على رعاية المناسبات بين لفظ ولفظ، فإن المناسبة لها خواص ومعان لا يقف عليها إلا ذو دراية بأقانين النظم؛ لأنه يستنبط من ذلك اللفظ المغير أحكامه وأسراراً لا يستنبطها غيره. فإن شئت فتأمل ما رويناه عن البخاري أن البراء بن عازب دعا بقوله: ((اللهم إني أسلمت نفسي إليك)) فلما انتهى إلى قوله: ((بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)) قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ونبيك الذي أرسلت)) أي لا تقل: ورسولك، بل قل: ونبيك ((نه)) قيل: إن النبي فعيل بمعنى فاعل للمبالغة من: النبأ الخبر،

229 - ورواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، عن زيد ابن ثابت. إلا أن الترمذي، وأبا داود لم يذكرا: ((ثلاث لا يغل عليهن)) إلى آخره. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه أنبأ عن الله، وقيل: إنه مشتق من النباوة، وهو الشيء المرتفع، وإنما رد عليه ليختلف اللفظان، ويجمع له التباين من معنى النبوة والرسالة، ويكون تعديداً للنعمة في الحالتين، وتعظيماً للمنة على الوجهين. وقال أبو الحسن الهروي في دلائل النبوة: وهذا القسم من الفصاحة موجود في القرآن والخطب، وكلام البلغاء، فإن من سمع كلام غيره عرف صاحبه، وفرق بين من طبعه وبين غيره، كما هو مشهور بين جرير والفرزدق، ومنه قوله تعالى: ((والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى)) فتفكر في ألفاظها وحسن مواقعها، هل تجد لفظة لو أبدل مكانها غيرها ناب منابها؟ إذ لو قيل: والكوكب إذا سقط، أو غرب، أو أفل، وقيل: ما زاغ نبيكم عن الهوى، أو ما أخطأ رسولكم، أو قيل: ما حاد رسولكم عن الرشد، وما أشبه ذلك هل يغني غناء ما عليه النظم المعجز؟ وهل تجد له طراوة وطلاوة؟ كلا! وعليه فقس جميع الآيات والكلام النبوي. ونعم ما قال من قال: لكل مقام مقال، ولكل لفظة مع صاحبتها مجال. هذا واتفقت الفصحاء من علماء البيان أن للألفاظ أيضاً خواص كما للأدوية، أودعها الله تعالى فيها بلطفه وحكمته، فإذا تحرى الطبيب الحاذق تركيباً حدد وعين أوزان الأدوية وأعددها، كالترياق الأكبر، فإذا نقص أو زيد على القدر المحدود أو غير وبدل دواء بغيره لم تحصل تلك الفائدة المقصودة من ذلك التركيب. وسمعت مشايخنا يقولون: في الأسماء التسعة والتسعين وتخصيص عددها فوائد، لا ينبغي أن يزاد عليها ولا ينقص، ومن ثم أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم التسعة والتسعين بقوله: ((مائة إلا واحدة)). مثالها كوالد أوصى ولده: إني دفنت لك دفينة في موضع كذا، فإذا خطوت كذا خطوات فزت بها، فالولد إن نقص من تلك الخطوات شيئاً أو زاد عليها شيئاً لم يفز بها. وأن الأطناب والإيجاز، والحذف والإضمار، والتقديم والتأخير، والحصر وعدمه، لاسيما توسيط العاطف بين الجمل وعراها عنه، وطريق المجازات، والكنايات، والتشبيهات، والتحسين الراجع إلى اللفظ والمعنى باب ذو ذيول، وكلام ذو أطراف، قلما يقف عليه إلا المهرة من علماء البيان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، وأوتي جوامع الكلم، وكلامه مصبوب في هذه الأساليب، ومسبوك في هذه الأقاليب، فلابد من مراعاتها. ((والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل)).

230 - وعن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع)) رواه الترمذي وابن ماجه [230]. 231 - ورواه الدارمي عن أبي الدرداء. 232 - وعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي [232] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن ابن مسعود: قوله: ((كما سمعه)) إما حال من فاعل ((بلغه))، أو من مفعول، أو مفعول مطلق، و ((ما)) موصولة، أو مصدرية. فإن قلت: ألفاظ هذا الحديث مخالفة لألفاظ الحديث السابق، فما تقول فيه؟ قد سبق أن لكل مقام مقالا، وهذا الحديث عام بخلاف ذلك؛ لما قلنا: إن المراد من ((مقالتي)) تلك الخلال الثلاث، فالمراد بقوله: ((شيئاً)) عموم الأقوال والأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضوان الله عليهم- يدل عليه صيغة ((منا)) بلفظ الجمع، ولهذا وقع ((امرأ)) موقع ((عبداً)) وهو أعم من لفظ العبد، على ما أولناه. وكذا وضع مبلغ أي مبلغ إليه موضع ((فقيه)) وهو أعلم، والسامع أعم من ((حال فقه))، ولهذا وصف المبلغ إليه هنا بالواعي، ونسبة في ذلك الحديث إلى السامع. فيحتمل أن يراد به إيصال السند بنقل الثقة الضابط؛ فإن الواعي قد يطلق على الضابط المتقن، قال الله تعالى: {وتعيها أذن واعية}. فتدبر، ليتحقق لك ما قدرناه في الحديث السابق. الحديث السادس عشر عن ابن عباس: قوله: ((الحديث عني)) يجوز أن يراد بالحديث الاسم، والمضاف محذوف، أي احذروا رواية الحديث عني. وأن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، و ((عني)) متعلق به. والاستثناء منقطع، المعنى احذروا مما لا تعلمونه من التحديث عني، لكن لا تحذروا مما تعلمونه. و ((متعمداً)) حال من المستتر في ((كذب)) الراجع إلى ((من))، وفيه تشديد في رواية الحديث من غير علم الرواية وسند الحديث إلى الثقات، حيث رتب عليه ((من كذب علي متعمداً)) ونحوه: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) والله أعلم.

233 - ورواه ابن ماجه عن ابن مسعود وجابر، ولم يذكر: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم)). 234 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)). وفي رواية: ((ومن قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي [234]. 235 - وعن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)). رواه الترمذي، وأبو داود [235]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن ابن عباس: قوله: ((من قال في القرآن برأيه)) سيجيء بيانه في الحديث الآتي. الحديث الثامن عشر عن جندب: قوله: ((فأصاب)) ((تو)): المراد بالرأي قول لا يكون مؤسساً على علوم الكتاب والسنة، بل يكون قولا يقوله برأيه على حسب ما يقتضيه عقله. وعلم التفسير علم يؤخذ من أفواه الرجال كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ومن أقوال الأئمة وتأويلاتهم، ثم ينظر فيه بالمقاييس العربية كالحقيقة والمجاز، والمجمل والمفصل، والعام والخاص؛ ثم يتكلم فيه على حسب ما تقتضيه أصول الدين، فيؤول القسم الذي يفتقر فيه إلى التأويل على وجه يشهد بصحته ظاهر التنزيل؛ فمن لم يستجمع هذه الشرائط، وخاض في بيان كتاب الله بالظن والتخمين، فالحري أن يكون قوله مهجوراً، وسعيه مثبوراً، وحسبه من الزاجر مخطئ عند الإصابة، فيباعد ما بين المجتهد والمتكلف! فإن المجتهد مأجور على الخطأ، والمتكلف مأخوذ بالصواب. وقال صاحب جامع الأصول: يحمل النهي على وجهين: أحدهما أن يكون له رأي وميل من طبعه وهواه، فيؤول على وفق رأيه، ولو لم يكن له ذلك الهوى لا يلوح له ذلك. وثانيهما أن يسارع إلى التفسير بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الإضمار، والتقديم والتأخير، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر. فالمبتدع إذا جاء بمحمل في المتشابه على وفق بدعته فأصاب رأيه- لأن محامل المتشابه كثيرة- فإنه مخطئ في التأويل، حيث لم يرده إلى المحكم، أو إلى ما كان عليه السلف

236 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المراء في القرآن كفر)) رواه أحمد، وأبو داود [236]. 237 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون في القرآن، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا: ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد، وابن ماجه [237]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصالح. وأن الجاهل إذا قال في قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} الناقة لم تكن عمياء فأصاب الظاهر، وأخطأ المراد بها وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة، أي دلالة ظاهرة، ومعجزة باهرة. وقال أيضاً: وما يستعمله الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع نحو قولهم في قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} ويشيرون إلى القلب: إنه طاغ على كل أحد، فهو ممنوع، وإن كان القصد صحيحاً. وقال حجة الإسلام: إن الطامات وهي صرف ألفاظ الشرع من ظواهرها إلى أمور لم تسبق منها إلى الإفهام- كدأب الباطنية- من قبيل البدعة المنهي عنها؛ فإن الصرف عن مقتضى ظاهرها من غير اعتصام فيه بالنقل عن الشارع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل عقلي حرام. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المراء)) ((قض)): المراد بـ ((المراء)) فيه التدارؤ، وهو أن يروم تكذيب القرآن ليدفع بعضه ببعض، فيطرق إليه قدحاً وطعناً. ومن حق الناظر في القرآن أن يجتهد في التوفيق بين الآيات، والجمع بين المختلفات، ما أمكنه؛ فإن القرآن يصدق بعضه بعضاً، فإن أشكل عليه من ذلك ولم يتيسر له التوفيق فليعتقد أنه من سوء فهمه، وليكل إلى عالمه، وهو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. ((حس)): قيل: هو المراء في قراءته، وهو أن ينكر بعض القراءات المروية وقد أنزل الله القرآن على سبعة أحرف، فتوعدهم بالكفر لينتهوا عن المراء فيها، والتكذيب بها، إذ كلها قرآن منزل يجب الإيمان به. الحديث العشرون عن عمرو بن شعيب: قوله: ((يتدارءون)) التدارء دفع كل من المتخاصمين قول صاحبه بما يقع له من القول، قال الله تعالى: ويدرءون بالحسنة السيئة}. وأشار بهذا

238 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلق)). رواه في شرح السنة [238]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى التدافع الذي كان بينهم. ((ضربوا كتاب الله بعضه ببعض)) بيان لاسم الإشارة، والمضاف محذوف، أي بمثل هذا. ((مظ)): مثال ذلك أن أهل السنة يقولون: إن الخير والشر من الله بدليل قوله تعالى: {قل كل من عند الله}. ويقول القدري: ليس كذلك، بدليل قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فقد دفع وتأول القدري آية من القرآن بمثلها، وهذا الاختلاف منهي عنه، بل الطريق في الآيات التي بينها تناقض في الظاهر أن يؤخذ ما عليه إجماع المسلمين منها، وتؤول الآية الأخرى على وجه يتفقان فيه، كما نقول: فقد انعقد الإجماع على أن الخير والشر بتقدير الله، وهذا موافق لقوله تعالى: {قل كل من عند الله} لكنه مخالف في الظاهر للآية الأخرى، وفي الحقيقة موافق لها، فإن المفسرين قالوا: إن قوله تعالى: {وما أصابك من حسنة} متصل بما قبلها، والمعنى فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يعني المنافقون لا يعلمون ما هو الصواب؛ لأنهم يقولون: ما أصابك من حسنة إلى آخرها. وقيل: الآية مستأنفة، أي ما أصابك يا محمد أو إنسان من حسنة، أي من فتح، وغنيمة، وراحة وغيرها، فمن فضل الله، وما أصابك من سيئة أي من هزيمة، وتلف مال، وجوع، ومرض، وجزاء ما عملت من الذنوب وقوله: ((اضربوا كتاب الله بعضه ببعض)) معناه دفع أهل التوراة الإنجيل، وأهل الإنجيل التوراة. وكذلك دفع أهل التوراة ما لا يوافق مرادهم من التوراة، وكذلك أهل الإنجيل. ((تو)): ((ضربوا)) أي خلطوا بعضه ببعض، فلم يميزوا بين المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، من قولهم: ضربت اللبن بعضه ببعض، أي خلطته. ويحتمل أن يكون بمعنى الصرف، فإن الراكب إن أراد صرف وجه الدابة عن جهتها ضربها بعصاه، أي صرفوا كتاب الله بعضه ببعض عن المراد منه إلى ما مال إليه أهواءهم. أقول: والوجه ما قاله المظهر، لما سبق أن قوله: ((ضربوا بعضه ببعض)) بيان لاسم الإشارة، والمشار إليه ((التدارؤ)) اللهم إلا أن يحمل الضرب والخلط على ما يلزم منه الدفع والتدارؤ. الحديث الحادي والعشرون عن ابن مسعود: قوله: ((على سبعة أحرف)) ((تو)): حرف الشيء

ـــــــــــــــــــــــــــــ طرفه، وحروف التهجي سميت بذلك؛ لأنها أطراف الكلمة، والمراد بالأحرف في الحديث أطراف اللغة العربية، فكأنه قال: على سبع لغات من لغات العرب: كقريش، وثقيف، وطيء، وهوازن، وأهل اليمن. والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كافة الخلائق بهذا الكتاب المبارك، وعامة العرب كانت قبائلهم شتى ولغاتهم مختلفة، وكانوا أمة أمية، فلو كلفوا بالقراءة على حرف واحد لشق عليهم؛ لأنه لو كلف أهل قبيلة أن يقرأ بلغة قبيلة أخرى لم يستطع، وتعذر عليه، ومن نظائره القسم المشترك نحو: الإمالة، والوقف، وتخفيف الهمزة، والتقاء الساكنين، والزيادة والإبدال، والإدغام، فالقريشي إذا كلف الهمز، واليمني إذا كلف تركه، والأسدى إذا كلف الفتح في حروف المضارع عسر عليهم، قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. وكان من فضل الله ورحمته على هذه الأمة المرحومة إلهام نبيها أن يسأل التخفيف في ذلك، حتى رخص لهم فيه إذا كان المعنى واحداً. ومن الدليل على صحة ما ذكرناه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ أنت وأمتك على حرف واحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل الله عز وجل معافاته، ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك. ثم رجع إليه الثانية فقال: ((إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين))، وساق الحديث إلى قوله: ((أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، كلما قرءوا بها أصابوا)). وأقول: ينبغي على هذا أن ينزل قوله: ((لكل آية منها)) إلى آخره، على معنى الاختلاف في القراءات كما فعل المظهر، حيث قال: حرف حد، ولكل حرف مطلع، يعني حد كل حرف معلوم في التلاوة، لا يجوز مخالفتها، مثل عدم جواز إبدال الضاد بحرف آخر، وكذلك سائر الحروف لا يجوز إبدالها بآخر إلا ما جاء في القراءة، ولا ينزل على غيره هذه المعاني؛ لئلا يختل نظم الحديث. فيلزم من هذا التأويل أن يكون لكل حال من أحوال الكلمة- كالإمالة، وإبدال الحرف، والإدغام مثلاً- ظهر وبطن، وحد ومطلع، فيفوت ما يقصد من معنى الحديث كما سنبينه. ((قض)): قيل: أراد بـ ((سبعة أحرف)) أجناس الاختلاف التي تؤول إليها الاختلاف القراءة، وأن اختلافها إما أن يكون في المفردات أو المركبات، والثاني كالتقديم والتأخير، مثل: {وجاءت سكرة الموت بالحق}، وجاءت سكرة الحق بالموت. والأول إما أن يكون بوجود الكلمة وعدمها، مثل: {فإن الله هو الغني الحميد}، وقرئ بالضمير وعدمه. أو بتبديل الكلمة بغيرها مع اتفاق المعنى، مثل: {كالعهن المنفوش} والصوف المنفوش. واختلافه.

ـــــــــــــــــــــــــــــ مثل: {وطلح منضود} وطلع منضود أو بتغييرها، إما بتغيير هيآته كإعراب مثل: ((هن أطهر لكم)) بالرفع والنصب، أو صورة مثل: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} وننشرها، أو حرف مثل: باعد، وبعد بين أسفارنا. وقيل: أراد أن في القرآن ما هو مقروء على سبعة أوجه، كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} فإنه قرئ بالضم، والفتح، والكسر، منوناً، وغير منون وبالسكون. وقيل: معناه أنه أنزل مشتملاً على سبعة معان: الأمر، والنهي، والقصص، والأمثال، والوعد، والوعيد، والموعظة. وأقول: المعاني السبعة هي العقائد، والأحكام، والأخلاق، والقصص، والأمثال، والوعد، والوعيد. واعلم أن الحديث أيضاً له ظهر وبطن، وحد ومطلع، فلابد من بيان ما يتعلق بظاهره من اللغة، والإعراب، والكشف عما يتعلق بباطنه مما يختص به من التأويل، وبيان المقام والمطلع. أما اللغة فإن ((سبعة)) موضوعة للعدد المخصوص، وحرفه طرفه، يقال: حرف السيف، وحرف السفينة، وحرف الجبل، وحرف الهجاء طرف الكلمة المرتبط بعضها ببعض، والحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، وحد الدار ما يتميز به. والمطلع المصعد ومكان الاطلاع من موضع عال، وأما الإعراب فإن ((علي)) فيه ليس بصلة ((أنزل)) كما في قوله تعالى: {أنزل على عبده الكتاب}، بل هو حال، وقوله: ((لكل آية منها ظهر)) جملة اسمية صفة لـ ((سبعة))، والراجع في ((منها)) للموصوف، وكذا قوله: ((لكل حد مطلع)) صفة له، والعائد محذوف، ويشهد له رواية معالم التنزيل: ((ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع)). وأما المقام فإن الحديث وارد في باب العلم وبيان سبعة وجوه القرآن ودقته وغربته. وأما التأويل فإنه صلى الله عليه وسلم وصف سعة علم القرآن بلفظة السبعة المعنى به الكثرة لا العدد المخصوص، كما وصفه تعالى بها في قوله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} والأحرف هنا كالكلمات في الآية، فيجب أن تحمل الأحرف على أجناس الاختلاف التي لا تدخل تحت الحصر، ثم قسم صلى الله عليه وسلم كل حرف تارة بالظهر والبطن، وأخرى بالحد والمطلع، فالظهر ما يبينه النقل، والبطن ما يستكشفه التأويل.

239 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العلم ثلاثة: آية ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الكواشي: لو قيل: ما معنى {لا ريب فيه}؟ فتقول: لا شك، فهذا تفسير. فإن قيل: قد نفيت الريب وقد ارتابوا؟ فإن أجبت أنه في نفس صدق، وإذا تؤمل وجد كذلك، فانتفى عنه الريب، فهذا تأويل تلخيصه: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية. والحد هو المقام الذي يقتضي اعتبار كل من الظهر والبطن فيه، فلا محيد عنه. والمطلع المكان الذي يشرف منه على توفية خواص كل مقام حقه، وليس للحد والمطلع انتهاء؛ لأن غايتهما طريق العارفين بالله، وما يكون سراً بين الله تعالى وبين المصطفين من أنبيائه وأوليائه. فمطلع الظاهر تعلم العربية، والتمرن فيها، وتتبع ما يتوقف عليه معرفة الظاهر والنقل، ومطلع الباطن بتصفية النفس بالرياضة. ويؤيد هذا التأويل قول محي السنة في معالم التنزيل: قيل: الظهر لفظ القرآن، والبطن تأويله، والمطلع الفهم، وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر من التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره، {وفوق كل ذي علم عليم}. والتفهم يكون بصدق النية، وتعظيم الحرمة، وطيب الطعمة. وفي شرح السنة: قال أبو الدرداء: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة. والله أعلم. الحديث الثاني والعشرون عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((العلم ثلاثة)) ((غب)): العلم إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: أحدهما إدراك ذات الشيء، والثاني الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه، فالأول هو المتعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: {لا تعلمهم نحن نعلمهم}، والثاني إلى مفعولين، نحو قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} - انتهى كلامه. والتعريف في ((العلم)) للعهد، وهو ما علم من الشارع أنه ما هو، وهو العلم النافع في الدين، فإذن العلم مطلق يجب أن يقيد بما يفهم منه المقصود، فيقال: علم الشريعة معرفة بثلاثة أشياء، والتقسيم حاصر، وبيانه أن قوله: ((آية محكمة)) يشتمل على معرفة كتاب الله تعالى وما يتوقف عليه معرفته؛ لأن المحكمة هي التي أحكمت عبارتها، بأن حفظت من الاحتمالات والاشتباه، وكانت أم الكتاب أي أصله، فتحمل المتشابهات عليها، أو ترد إليها، ولا يتم ذلك إلا للماهر الحاذق في علم التفسير والتأويل، الحاوي لمقدمات يفتقر إليها من الأصولين وأقسام العربية.

محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة. وما كان سوى ذلك فهو فضل)) رواه أبو داود، وابن ماجه [239]. 240 - وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال)) أبو داود [240]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((سنة قائمة)) معنى قيام السنة ثباتها ودوامها بالمحافظة عليها، من: قامت السوق إذا نفقت، لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق، الذي تتوجه إليه الرغبات، ويتنافس فيه المخلصون، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. ودوامها إما أن يكون بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرجال، والجرح، والتعديل، ومعرفة الأقسام من الصحيح، والحسن، والضعيف، المتشعب منه أنواع كثيرة، وما يتصل بها من المتممات، وإما أن يكون بحفظ متونها من التغيير والتبديل بالإتقان والتيقظ، وبتفهم معانيها واستنباط العلوم الجمة منها؛ لأن جلها بل كلها من جوامع الكلم التي أوتي وخص بها هذا النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل، لاسيما هذه الكلمة الفاذة الجامعة مع قصر متنها وقرب طرقها علوم الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((أو فريضة عادلة)) إذا فسر بما أسلفناه في قوله: ((طلب العلم فريضة)) على ما تكلم فيه العلماء من الفرائض المتكاثرة- كانت شاملة لجميع أنواعها، وإذا ذهب إلى أن ((العادلة)) هي المستقيمة المستنبطة من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، رجع المعنى إليه، وسميت عادلة لأنها معادلة أي مساوية لما أخذ منها. ونقف من هذا على أن المراد بقوله: ((وما سوى ذلك فهو فضل)) أن الفضل واحد الفضول الذي لا مدخل له في أصل علوم الدين، وما يستعاذ منه حيناً بقوله: ((أعوذ بالله من علم لا ينفع)). قال صاحب المغرب: الفضل الزيادة وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه، حتى قيل: فضول بلا فضل، وطول بلا طول. ثم قيل لمن يشتغل بما لا يعنيه: فضولي. وأما الطب فليس بفضول؛ لما ثبت بنصوص السنة الافتقار إليه، والله أعلم. الحديث الثالث والعشرون عن عوف: قوله: ((لا يقص)) القص التحدث بالقصص، ويستعمل في الوعظ. ((مظ)): ((المختال)) هو المتكبر، من: اختال إذا تكبر، والخيلاء التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه. ((تو)): قيل: هذا في الخطبة؛ لأن الأمر فيها إلى الأمراء، وإلى

241 - ورواه الدارمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي روايته: ((أو مراء)) بدل ((أو مختال)) [241]. 242 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه)) رواه أبو داود [242]. 243 - وعن معاوية، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. رواه أبو داود [243]. ـــــــــــــــــــــــــــــ من يتولاها من قبلهم. قلت: وكل من وعظ وقص داخل في غمارهم، وأمر موكول إلى الولاة، فالثالث مختال؛ لأنه نصب نفسه تكبراً وطلباً للرياسة. وأقول: قوله: ((لا يقص)) ليس بنهي، بل هو نفي وإخبار، أي هذا الفعل ليس بصادر إلا عن هؤلاء الثلاثة، وقد علم أن الاقتصاص مندوب إليه، فيجب تخصيصه بالأمير والمأمور، دون المختال؛ لأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، وذلك أنه دل ذمة عليه الصلاة والسلام الثالث على استحماده الأولين، هذا كما إذا رأيت أمراً خطيراً قلت: لا يخوض في هذا العمل إلا أحد رجلين: حكيم عارف بكيفية الورود فيها والصدور عنها، أو غمر جاهل لا يدري كيف يدخل فيها ويخرج منها، فيهلك. وهذا المعنى أنسب إلى الباب، ولو حمل الحديث على النهي الصريح لزم أن يكون المختال مأموراً. والله أعلم. الحديث الرابع والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((من أفتى)) ((شف)): يجوز أن يكون ((أفتى)) الثاني بمعنى استفتى، أي كان إثمه على من استفتاه؛ فإنه جعله في معرض الإفتاء بغير علم. ويجوز أن يكون الأول مجهولا، أي فإثم إفتائه على من أفتاه، أي الإثم على المفتي دون المستفتي، وإذا عى ((أشار)) بعلى كان بمعنى المشورة، أي استشاره، وسأله كيف أفعل هذا الأمر. الحديث الخامس والعشرون عن معاوية: قوله: ((نهى)) ((فا)): ((الأغلوطة)) أفعولة من الغلط، كالأحدوثة، والأحموقة. ((نه)): أراد المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شر

244 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض)). رواه الترمذي [244]. 245 - وعن أبي الدرداء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتنة، وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين، لا يكاد يكون إلا فيما يقع إيذاء. ومثله قول ابن مسعود: ((أنذرتكم صعاب النطق)) يريد به المسائل الدقيقة الغامضة. الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تعلموا)) ((تو)): ذهب بعض الناس إلى أن المراد من ((الفرائض)) ههنا علم المواريث، ولا دليل معه، والظاهر أن المراد منها الفرائض التي فرضها الله تعالى على عبادة. وقيل: ويمكن أنه أراد صلى الله عليه وسلم بالفرائض السنن الصادرة منه صلى الله عليه وسلم. المشتملة على الأوامر والنواهي الدالة عليها، كأنه قال: تعلموا الكتاب والسنة، ينقطعان بقبضه صلى الله عليه وسلم، إذ أحدهما أوحى إليه، وثانيهما إعلام منه صلى الله عليه وسلم للأمة به، ومثل هذا في المعنى قوله: ((هذا أوان أن يختلس العلم من الناس)) أي علم الوحي، وكأنه لما شخص بصره إلى السماء كوشف باقتراب أجله، فأعلم الأمة أنه مقبوض. وأقول: في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض فرائض مثل ما في القرآن، كما سبق في حديث المقدام بن معد يكرب: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) وفي حديث العرباض: ((ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر))، وأنه صلى الله عليه وسلم مبين ما في القرآن، فيؤخذ التفسير والتأويل مما بينه وعلمه، وما لم يبينه يحمل على ما بينه، قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس من نزل إليهم ولعلهم يتفكرن} عطف ((ولعلهم يتفكرون)) على مقدر، أي لتبين للناس بعض ما نزل إليهم فيعلموا، ولعلهم يتفكرون فيما لم يتبين ويردونه إلى ما علموه. ((حس)): التأويل المقبول ما يستنبط المعنى مما قبل وما بعد موافقاً للكتاب والسنة، لفظ هذا معناه. والله أعلم. الحديث السابع والعشرون عن أبي الدرداء: قوله: ((يختلس)) أي يختلس فيه، صفة ((أوان))، و ((حتى)) غايته، أي يسلب العم منكم حتى لا تقدروا أن تستنزلوا بسؤالكم شيئاً من العلوم

السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)) رواه الترمذي [245]. 246 - وعن أبي هريرة رواية: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون ـــــــــــــــــــــــــــــ السماوية، والاختلاس استعارة للإمساك من نزول العلم، ونظيره قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الكشاف: أي أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحرام والحلال، والتوقيف على الشرائع، وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد. والله أعلم. الحديث الثامن والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رواية)) نصب على التمييز، وهو كناية عن رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان موقوفا. قوله ((يوشك)) أي يقرب، و ((أن يضرب الناس)) في موضع الرفع اسم لـ ((يوشك))، والمسند والمسند إليه أغنيا عن الخبر، و ((يضرب أكباد الإبل)) كناية عن السير السريع؛ لأن من أراد ذلك يركب الإبل؛ ويضرب على أكبادها بالرجل. ((تو)): كأنه عبارة عن سرعة السير، وإدمان الإدراج، وقطع الشقة الشاسعة، حتى تستضر المطي بذلك، فتقطع أكبادها، وتمسها الأدواء بذلك من شدة العطش، فتصير كأنما ضربت أكبادها. وفي إيراد هذا القول تنبيه على أن طلبة العلم أشد الناس حرصاً، وأعزهم مطلباً؛ لأن الجد في طلب الشيء إنما يكون على قدر شدة الحرص، وعزة المطلب. قوله: ((عالم المدينة)) ((تو)): ذكر الشيخ أبو محمد في كتابه عن ابن عيينه أنه قال: هو مالك. وعن عبد الرزاق أنه قال: هو العمري الزاهد، وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. ((مظ)): أراد بالعمري عمر بن عبد العزيز والصحيح ما رواه الترمذي وذكر في المتن؛ لأن عمر بن عبد العزيز من أهل الشام. وقال صاحب الجامع: عبد العزيز بن عبد الله أحد فقهاء المدينة وأعلامهم، سمع ابن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر،

العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة)) رواه الترمذي في جامعه. قال ابن عيينة: إنه مالك بن أنس، ومثله عن عبد الرزاق، قال إسحاق بن موسى: وسمعت ابن عيينة أنه قال: هو العمري الزاهد واسمه عبد العزيز بن عبد الله [246]. 247 - وعنه، فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)). رواه أبو داود [247]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعبد الله بن دينار، وأبا حازم، وحميد الطويل، وهشام بن عروة. الحديث التاسع والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((فيما أعلم)) أي في جملة ما أعلم، يجوز بضم الميم حكاية عن قول أبي هريرة رضي الله عنه، وفتحها ماضياً من الإعلام حكاية عن فعله رضي الله عنه. وقوله: ((من يجدد)) جامع الأصول: قد تكلم العلماء على تأويله، وكل واحد أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه، وحمل الحديث عليه، والأولى الحمل على العموم؛ فإن لفظة ((من)) تقع على الواحد والجمع، ولا تخص أيضاً بالفقهاء؛ فإن انتفاع الأمة بهم وإن كان كثيراً [فإن انتفاعهم بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ والزهاد أيضاً كثير]- إذ حفظ الدين وقوانين السياسة وبث العدل وظيفة أولي الأمر، وكذا القراءة وأصحاب الحديث ينفعون بضبط التنزيل والأحاديث التي هي أصول الشرع وأدلته، والزهاد ينفعون بالمواعظ، والحث على لزوم التقوى، والزهد في الدنيا- لكن المبعوث ينبغي أن يكون مشاراً إليه مشهوراً في كل فن من هذه الفنون. ففي رأس المائة الأولى من أولي الأمر عمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء محمد بن على الباقر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وغيرهم من طبقاتهم. ومن القراء عبد الله بن كثير، ومن المحدثين ابن شهاب الزهري وغيره من التابعين وتابعي التابعين. وفي رأس المائة الثانية من أولي الأمر المأمون، ومن الفقهاء الشافعي- وأحمد بن حنبل لم يكن مشهوراً حينئذ- واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة، وأشهب من أصحاب مالك ومن الإمامية علي بن موسى الرضا ومن القراء يعقوب الحضرمي ومن المحدثين يحيى بن معين، ومن الزهاد معروف الكرخي.

248 - وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)). رواه البيهقي [248]. وسنذكر حديث جابر: ((فإنما شفاء العي السؤال)) في باب التيمم إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الثالثة من أولي الأمر المقتدر بالله ومن الفقهاء أبو العباس بن شريح الشافعي وأبو جعفر الطحاوي الحنفي وابن خلال الحنبلي وأبو جعفر الرازي الإمامي ومن المتكلمين أبو الحسن الأشعري ومن القراء أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد ومن المحدثين أبو عبد الرحمن النسائي. وفي الرابعة من أولى الأمر القادر بالله، ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني الشافعي، وأبو بكر الخوارزمي الحنفي، وأبو محمد عبد الوهاب المالكي، وأبو عبد الله الحسين الحنبلي، والمرتضى الموسوي أخو الرضى الشاعر، ومن المتكلمين القاضي أبو بكر الباقلاني، وابن فورك، ومن المحدثين الحاكم بن التبع، ومن القراء أبو الحسن الحمامي، ومن الزهاد أبو بكر الدينوري. وفي الخامسة من أولي الأمر المستظهر بالله، ومن الفقهاء الإمام أبو حامد الغزالي الشافعي، والقاضي محمد بن المروزي الحنفي، وأبو الحسن الزاغوي الحنبلي، ومن المحدثين رزين العبدري، ومن القراء أبو الفراء القلانسي. هؤلاء كانوا مشهورين في الأمة المذكورة، وإنما المراد بالذكر ذكر من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه، والله أعلم. الحديث الثلاثون عن إبراهيم: قوله: ((يحمل هذا العلم من كل خلف))، ((من)) يحتمل أن تكون تبعيضية مرفوعاً فاعل ((يحمل)) و ((عدوله)) بدل منه، وأن تكون بيانيه على طريقة: لقيني منك الأسد. جرد من الخلف الصالح الدول الثقات، وهم هم، كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}. وعلى التقديرين فيه تفخيم لأمرهم، وتعظيم لشأنهم. وقوله: ((ينفون)) إما حال من الفاعل، أو استئناف، وهو الأوجه، كأنه قيل: لم خص هؤلاء بهذه المنقب العلية؟ فأجيب لأنهم يحمون مشارع الشريعة، ومتون الرواية من تحريف الذين يغلون في الدين؛ والأسانيد من القلب والانتحال، وتولى الكاذبين؛ والمتشابه من تأويل الزائغين المبتدعين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها. ووزان هذا الحديث وزان قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم

الفصل الثالث 249 - عن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة)). رواه الدارمي [249]. ـــــــــــــــــــــــــــــ آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} على أن يكون ((وآخرين)) عطفاً على ((هم)) في ((يعلمهم))، فإن قوله: ((هذا العلم)) إشارة إلى الكتاب والحكمة، وقوله: ((من الخلف عدوله)) بمنزلة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}. وفيه تعريض باليهود، وتحريفهم وتبديلهم التوراة وتأويلها بالباطل، وإحماد عظيم لهذه الأمة المرحومة، وبيان لجلالة قدر المحدثين، وعلو مرتبتهم. ولعمري! إن الرواية من أقوى أركان الدين، وأوثق عرى اليقين، لا يرغب في نشره إلا كل صادق تقي، ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي. قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وقال محمد ابن أسلم الطوسي: قرب الأسانيد قرب إلى الله تعالى، وقال الحاكم: لولا كثرة مواظبة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد. لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث، وقلب الأسانيد. قوله: ((وانتحال)) ((نه)): كان بشر بن أثير يقول الشعر، ويهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحله بعض العرب- أي ينسبه إليهم، من النحلة، وهي النسبة بالباطل. ((غب)): الانتحال ادعاء الشيء وتناوله، ومنه: فلان ينتحل الشعر. وأقول: لعل الأول الأنسب بمعنى الحديث. والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن الحسن: قوله: ((وهو يطلب العلم)) الجملة الاسمية وقعت حالا من مفعول ((جاء)) والمعنى من أدركه الموت في حال استمراره في طلب العلم ونشره ودعوة الناس إلى الطريق المستقيم، فبينه وبين النبيين درجة، ونحوه في التقدير بالحال {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، أي داوموا على حالة الإسلام، وواظبوا عليها، بحيث إذا أردككم الموت تكونوا مسلمين. وقد سبق أن وراث الأنبياء هم العلماء الزاهدون في الدنيا المتنزهون عن شوائب الهوى، الداعون الخلق إلى الله تعالى، فهم الذين يحيون الإسلام. وأكد درجة بـ ((واحدة)) لأنها

250 - وعنه، مرسلاً، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالماً يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل؛ أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم)). رواه الدارمي [250]. 251 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل الفقيه في الدين؛ إن احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه)) رواه رزين [251]. ـــــــــــــــــــــــــــــ تدل على الجنسية وعلى العدد، والذي سيق له الكلام هو العدد للدلالة على قرب منزلتهم من النبيين، فلو لم يقيد أوهم التنكير فيها التفخيم والتعظيم، فأزيل الوهم بالتوكيد. والله أعلم. الحديث الثاني عن الحسن: قوله: ((فضل هذا العالم)) أطنب في الجواب كل الإطناب وكان يكفي في جواب أيهما أفضل؟ أن يقال: الأول، أو العالم، لتعظيم شأنه، وتقريره في ذهن السامع، وإعجابه منه. ولفظة ((هذا)) في الحديث كما في قول الشاعر: هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه من نسل شيبان بين الضال والسلم وهذا الحديث يقرر ما ذهبنا إليه في شرح فضل العالم على العابد مطلقين أنهما مقيدان بالعبادة والعلم؛ لأن المطلق محمول على المقيد إذا كان في أمر واحد وفاقاً. فإن قلت: بم عرفت أن العابد كان أيضاً متحلياً بالعلم لكنه دونه؟ قلت: لو لم يكن عالماً لم يتوجه السؤال؛ لأن كل واحد يعلم أن العالم العامل أفضل من الجاهل، فالمراد العالم الذي يشتغل بخويصة نفسه دون غيره. ويدل عليه تقييد الأول بقوله: ((ثم يجلس فيعلم)). الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((الفقيه)) وهو المخصوص بالمدح. و ((في الدين))

252 - وعن عكرمة، أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن؛ ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم؛ ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ متعلق به، أي الذي فقه في الدين. ومثله ما جاء في التنزيل: {وإني خفت الموالي من ورائي} الجار والمجرور متعلق بصلة اللام على وجه، فعلى هذا يجوز أن تكون الجملة الشرطية حالاً من الضمير في ((الفقيه))، والظاهر أن تكون جملة مستأنفة، بياناً لاستحقاقه التمدح. ويجوز أن يكون صفة ((الفقيه)) إذا جعل التعريف للجنس، نحو قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني وقوبل ((نفع)) بـ ((أغنى)) لتعم الفائدة، أي نفع الناس وأغناهم بما يحتاجون إليه، ونفع نفسه وأغناها بما يحتاج إليه، من قيام الليل، وتلاوة كتاب الله، وغيرهما من العبادات. والله أعلم. الحديث الرابع عن عكرمة: قوله: ((فإن أبيت)) أي فإن أبيت التحديث مرة فمرتين، وإن أردت الإكثار فثلاث مرات. و ((هذا القرآن)) إشارة إلى تعظيمه فرتب وصف التعظيم على الحكم للإشعار بالعلية، أي لا تحقر هذا العظيم الشأن. ((ولا ألفينك)) من باب لا أرينك، أي لا تكن بحيث ألفينك وأجدك في هذه الحالة، وهي أن تأتي القوم وحالهم كيت وكيت، و ((تأتي)) حال من الضمير المنصوب في ((ألفينك))، ((وهم في حديث)) حال من المرفوع في ((تأتي))، و ((فتقص)) و ((فتقطع)) معطوفان على ((تأتي))، و ((فتملهم)) منصوب جواب للنهي. قوله: ((وانظر السجع من الدعاء)) فإن قلت: كيف حذر عن السجع في الدعاء وأكثر الأدعية المأثورة مسجعة؟ قلت: التعريف في السجع للعهد، وهو السجع المذموم الذي كان الكهان والمتشدقون يتعاطونه ويتكلفونه في محارواتهم، لا الذي يقع في فصيح الكلام بلا كلفة منهم؛ فإن كل الفواصل التنزيلية واردة على ذلك، ويعضده إنكاره صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أسجع كسجع الكهان؟)) على من قال: أأدى لمن لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يطل. المعنى تأمل في السجع الذي ينافي إظهار الاستكانة والتضرع والتخشع في الدعاء فاجتنبه؛ فإنه أقرب إلى الإجابة. و ((عهدت)) أي عرفت من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يجتنبون مثل ذلك السجع. ونحوه في حديث أم زرع: ((لا يسأل عما عهد)) أي عما كان يعرفه هو في البيت من طعام وشراب ونحوهما.

253 - وعن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم فأدركه، كان له كفلان من الأجر، فإن لم يدركه، كان له كفل من الأجر)). رواه الدارمي [253]. 254 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه والبيهقي في ((شعب الإيمان)) [254]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن واثلة: قوله: ((فأدركه)) وهو أبلغ من لو قيل: حصله؛ لأن الإدراك بلوغ أقصى الشيء، قال الله تعالى: {بل إدراك علمهم في الآخرة} [غب]: قيل معناه بل يدرك علمهم في الآخرة أي إذا حصلوا في الآخرة] لأن ما يكون ظناً في الدنيا فهو في الآخرة يقين. و ((الكفل)) الحظ الذي فيه الكفالة أي الضمان، كأنه تكفل بأمره، قال الله تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته}. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مما يلحق)) وهو خبر ((إن)) أي كائن مما يلحقه، ولا يجوز أن يكون تبعيضياً لما ينافي الحصر الذي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينقطع عمله إلا من ثلاث)) كما مر، والجمل المصدرة بـ ((أو)) من قسم الصدقة الجارية، و ((أو)) فيها للتنويع والتفصيل. وأما قوله: ((أو صدقة أخرجها من ماله)) فداخل في الصدقة الجارية، ولإرادة هذا المعنى أتبعه بقوله: ((تلحقه من بعد موته)). وفي عطف ((حياته)) على ((صحته)) إشارة إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم في جواب من قال: أي الصدقة أعظم أجراً؟: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا)) أي صدقة أخرجها في زمان كمال حيويته ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به.

255 - وعن عائشة، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل أوحى إلي: أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة؛ ومن سلبت كريمتيه؛ أثبته عليهما الجنة. وفضل في علم خير من فضل في عبادة. وملاك الدين الورع)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [255]. 256 - وعن ابن عباس، قال: تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها. رواه الدارمي [256]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يقول)) حال من المفعول، وكان الأصل سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخر القول وجعل حالا؛ ليفيد الإبهام والتبيين، وهو أوقع في النفس من الأصل. و ((كريمتيه)) أي عينيه أي الكريمتين عليه، وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك. و ((الجنة)) منصوب بنزع الخافض، ويناسب أن يقال التنكير في الفصل الأول للتقليل، وفي الثاني للتكثير، والملاك- بكسر الميم- ما به إحكام الشيء وتقويته وإكماله، والورع في الأصل الكف عن المحارم، والتحرج منه، ثم استعير للكف عن المباح والحلال، وكان من حق الظاهر أن يقال: وملاك العلم والعمل، فوضع الدين موضعهما تنبيهاً على أنهما توأمان لا تستقيم مفارقتهما، وأنهما لا يكملان بدون الورع. الحديث الثامن عن ابن عباس: قوله: ((إحيائها)) شبه الليل بالميت الذي لا غناء فيه، وأثبت له الإحياء على الاستعارة التخييلية، ثم كنى عنه بصلاة التهجد؛ لأن في قيام الليل كل نفع للقائم فيه، ومن نام فقد فقد نفعاً عظيماً، قال الله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون} إلى قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} نكر ((نفس)) وأوقعها في سياق النفي، ونفى عنها دراية ما ادخر للمجتهد من السرور، يعني نوع عظيم من الثواب ادخره الله لأولئك، وأخفاه من جميع الخلائق، فلا تعلم النفوس كلهن، ولا نفس واحدة

257 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده فقال: ((كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه؛ أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل، فهم أفضل، وإنما بعثت معلماً)). ثم جلس فيهم. رواه الدارمي [257]. 258 - وعن أبي الدرداء، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حد العلم الذي إذا بلغه الرجل كان فقيهاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً في أمر دينها، بعثه الله فقيهاً، وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً)). [258] ـــــــــــــــــــــــــــــ منهن، ولا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فإذا كان ثواب التهجد هذا، فما ظنك بثواب التدارس الذي الساعة منها أفضل من إحيائها؟. الحديث التاسع عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((أما هؤلاء)) تقسيم للمجلسين باعتبار القوم أو الجماعة بعد التفريق بينهما باعتبار النظر إلى المجلسين في إفراد الضمير، ((ويرغبون إليه)) أي يرغبون فيما عند الله من الثواب متوسلين إليه، والمفعول الثاني المحذوف في ((أعطاهم)) يرجع إلى ما عند الله المقدر، أي إن شاء أعطاهم ما عنده من الثواب. وفي تقييد القسم الأول بالمشيئة وإطلاق القسم الثاني إشارة إلى بون بعيد بينهما. وفي قوله: ((إنما بعثت معلماً)) إشعار بأنهم منه، وهو منهم، ومن ثم جلس فيهم. الحديث العاشر عن أبي الدرداء: قوله: ((ما حد العلم)) ((غب)): حد الشيء الوصف المحيط بمعناه، المميز عن غيره. قال محيي الدين: معنى الحفظ هنا أن ينقل الأحاديث الأربعين إلى المسلمين، وإن لم يحفظها ولا عرف معناها، هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا بحفظها ما لم ينقلها إليهم. واتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقة، وقد صنف العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، فأول من علمته صنف فيه عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسوي، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني، وأبو بكر الآجري، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، ومحمد بن عبد اله بن محمد

259 - وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون من أجود جوداً؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((الله تعالى أجود جوداً)) ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علماً فنشره، يأتي يوم القيامة أميراً وحده، أو قال: أمة واحدة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ بن عبد الله الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق من المتقدمين والمتأخرين. وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. وأقول: ضمن ((حفظ)) معنى رقب، وعداه بعلى، يقال: احفظ على عنان فرسي ولا تغفل عني، عن المبرد. وفي أساس البلاغة: وهو حفيظ عليه رقيب. وفي المغرب: الحفظ خلاف النسيان، وقد يجعل عبارة عن الصون وترك الابتذال، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المرفوع العائد إلى ((من)) في ((من حفظ))، يعني من جمع أحاديث متفرقة مراقباً إياها بحيث تبقى مستمرة على أمتي، بعثه الله فقيهاً، مثل قوله تعالى: {ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} أي أقم لنا أميراً ننتهض معه للقتال. فالمعنى من فعل ذلك أقامه الله فقيهاً يعلم الناس الخير. فإن قلت: كيف طابق ((من حفظ)) جواباً عن سؤال السائل ((ما حد العلم))؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يؤخذ لازم معنى الجواب وزبدته، وهي معرفة أربعين حديثاً بأسانيدها، مع رعاية صحيحها وحسنها، على أن يعلمها الناس ويحث على العمل بما هو المقصود فيها، كأنه قيل: حد العلم الذي يصير به الرجل فقيهاً هذا. وثانيهما أن الجواب من الأسلوب الحكيم أي لا تسأل عن حد الفقيه فإنه لا جدوى فيه، بل كن فقيهاً، فإن الفقيه من أقامه الله تعالى لنشر العلم، وتعليم الناس ما ينفعهم، في أمر دنياهم وعقابهم من العلم والعمل. والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن أنس: قوله: ((من أجود جوداً؟)) ((غب)): الجود بذلك المقتنيات مالا كان أو علماً، يقال: رجل جواد، وفرس جواد، أي يجود بمدخر عدوه، ويقال: في المطر الكثير جود، وفي الفرس جودة، وفي المال جود. وجاد الشيء جودة فهو جيد، ووصف الباري تعالى بالجود لما نبه عليه قوله تعالى: ((أعطي كل شيء خلقه ثم هدي)).

260 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها)). ورى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: ((من)) الاستفهامية مبتدأ، و ((أجود)) خبره، و ((جودا)) تمييز مزال عن الأصل فيه وجهان: أحدهما أن أجود أفعل من الجودة، أي أحسن جوداً وأبلغه. وثانيهما من جود الكرم، أي من الذي جوده أجود؟ فيكون إسناداً مجازياً، كما في قولك: جد جده. أو استعارة مكنية شبه جوده بإنسان يصدر منه الجود، ثم خيل أنه إنسان جواد بعينه، ثم نسب إليه ما يلازمه من الجود مبالغة لكماله في صاحبه، وعليه قوله تعالى: {يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} الضمير في ((أشد)) للخشية، لا للناس؛ لأن أفعل إذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله، كقولك: زيد أفره عبداً، فالفراهة للعبد لا للزيد، والضمير في ((أجود)) راجع إلى ((بني آدم)) على تأويل الإنسان، أو للجود. وقوله: ((أميراً وحده)) أي وحده كالجماعة فيها أمير مأمور، نحو قوله في الرواية الأخرى: قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً} أي كان وحده بمنزلة الجماعة مجتمعة على أمر عظيم، يقتدون عظيماً، لحيازته الكمال والأخلاق الحميدة، وأنشد: وليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد قال ابن مسعود: إن معاذا كان أمة قانتاً لله، فقيل له: ذاك إبراهيم؟ فقال؟ الأمة الذي يعلم الخير. وروى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {معاذ أمة قانت لله، ليس بينه وبين الله تعالى يوم القيامة إلا المرسلون}. انظر إلى هذه الكريمة كيف جعلت العالم الثاني المرسلين في هذا الحديث، ورابع أربعة فيما نحن بصدده: الله عز وجل، وحبيبه، وخليله صلوات الله عليهما و ((بعدي)) يحتمل البعد في المرتبة، وفي الزمان، والأول أظهر. ونشر العلم يعم التدريس، والتصنيف، وترغيب الناس فيه. الحديث الثاني عشر عن أنس: قوله: ((منهومان)) ((نه)): النهمة بلوغ الهمة في الشيء، وفي الحديث: ((إذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله)) ومنه النهم من الجوع. أقول: إن ذهب في الحديث إلى الأصل كان ((لا يشبعان)) استعارة لعدم انتهاء حرصهما، وإن ذهب إلى الفرع يكون تشبيهاً لبيانه بقوله: ((منهوم في العلم))، جعل أفراد المنهوم ثلاثة: أحدها المعروف، وهو المنهوم من الجوع، والآخرين من العلم والدنيا، وجعلهما أبلغ من المتعارف، ولعمري إنه كذلك، وإن كان المحمود منهما هو العلم، ومن ثم أمر الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل رب

الإيمان)) وقال: قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح [260]. 261 - وعن عون، قال: قال عبد الله بن مسعود: منهومان لا يشبعان صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان؛ أما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. ثم قرأ عبد الله: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} قال: وقال الآخر {إنما يخشى الله في عباده العلماء}. رواه الدارمي [261]. ـــــــــــــــــــــــــــــ زدني علما}، ويعضده ما في الحديث الآتي من قوله: ((أما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن)) والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن عون: قوله: ((قال: وقال: الآخر)) أي قال عون: وقال ابن مسعود بعد قراءته ما سبق، وهو قوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى}: الآخر أي الاستشهاد الآخر هو قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وفي الآيتين المستشهدتين تلويح إلى بعد الحالتين، وأنشد:

262 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أناساً من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرأون القرآن، يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا. ولا يكون ذلك، كما لا يجتني من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتني من قربهم إلا- قال محمد بن الصباح: كأنه يعني- الخطايا)) رواه ابن ماجه [262]. ـــــــــــــــــــــــــــــ راحت مشرقة وراحت مغربة فأنى يلتقي مشرق ومغرب فإن طالب الدنيا يزداد بعداً من الله تعالى لسوء أدبه، وجرأته على الله تعالى، وصاحب العلم يزداد قرباً لخشيته الله ومراعاته أدب الحضرة القدسية. والله أعلم. الحديث الرابع عشر عن ابن عباس: قوله: ((سيتفقهون)) أي سيدعون الفقه في الدين ويأتون الأمراء. فإن قيل لهم: كيف تجمعون بين التفقه والتقرب إليهم؟ يقولون: نأتي إلى آخره. ((ولا يكون ذلك)) أي لا يصح ولا يستقيم الجمع بين الأمرين؛ لما سبق أن مثل هذا النفي مستلزم لنفي الشيء مرتين تعميماً أو تخصيصاً. ثم ضرب له مثلاً بقوله: ((كما لا يجتني)) شبه التقرب إليهم إصابة جدواهم، ثم طلب الخيبة فالخسران والخسارة في الدارين بطلب الجني من القتاد، فإنه من المحال؛ لأنه لا يثمر إلا الجراحة والألم. وتخصيص المشبه به بالقتاد، وأنه لا يصلح إلا للنار تلميح إلى أن المشبه لا يستأهل إلا لها، وكذا من ركن إليهم تمسهم النار، كما قال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكوا النار}، والاستثناء من باب قوله: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وأطلق المستثنى ليعم في جنس المضرة، أي لا يجدي إلا مضار الدارين، ويدخل فيه الخطايا أيضاً. روى أن الزهري لما خالط السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك! أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك. أصبحت شيخاً كبيراً، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه}. واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت- أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدونك ممن لم يؤد حقاً، ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً

263 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: لو أن أهل العلم صانوا العلم، ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم؛ فهانوا عليهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جعل الهموم هماً واحداهم آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم [في] أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) رواه ابن ماجه [263]. 264 - ورواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) عن ابن عمر من قوله: ((من جعل الهموم)) إلى آخره. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء؛ فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك! فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} فإنك تعامل من لا يجهل، وتحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. الحديث الخامس عشر عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((لسادوا به)) وذلك أن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يصونه من الابتذال، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. قال الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا ذكور الرجال أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزهون عن سفافها. قوله: ((سمعت نبيكم)) هذا الخطاب توبيخ للمخاطبين، حيث خالفوا أمر نبيهم، فخولف بين العبارتين افتتاناً. هم بالأمر يهم إذا عزم عليه. قوله: ((الشعب)) من الوادي ما اجتمع منه

265 - وعن الأعمش، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله)) رواه الدارمي مرسلاً [265]. 266 - وعن سفيان، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال لكعب: من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون. قال: فما أخرج العلم من قلوب العلماء؟ قال: الطمع. رواه الدارمي [266]. ـــــــــــــــــــــــــــــ طرف، وتفرق طرف، وشعبت الشيء إذا فرقته. ((وهم آخرته)) بدل من ثاني مفعول ((جعل))، وكذا قوله: ((أحوال الدنيا)) من فاعل ((تشعبت))، وعدل من ظاهر قوله، وجعل هم الدنيا هموماً إلى ((تشعبت الهموم به)) ليؤذن بتصرف الهموم فيه وتفريقها إياه في أودية الهلاك، وأن الله تعالى تركه وهمومه، ولم يتكفل أحواله، بخلاف الأول فإنه تكفل الله تعالى أمر همومه بنفسه، وكفاه مؤنته. والله أعلم. الحديث السادس عشر عن الأعمش: قوله: ((آفة العلم النسيان)) ظاهر. الحديث السابع عشر عن سفيان: قوله: ((من أرباب العلم)) أي من الذي ملك العلم ورسخ فيه، ويستحق أن يسمى بهذا الاسم؟ وأجاب بقوله: ((الذين يعملون بما يعلمون)) وهم الذين سماهم الله تعالى الحكماء في قوله: {من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا} لأن الحكيم من علم دقائق الأشياء وأتقنها برصانة العمل، ولذلك ذيله بقوله: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} وقد سبق شرحه. فعلم منه أن العالم ما لم يعمل لم يكن من أرباب العلم، بل كان كمثل الحمار يحمل أسفاراً. والفاء في ((فما أخرج)) جزاء شرط محذوف، والتعريف في ((العلم)) للعهد الخارجي، وهو ما يعلم من قوله: ((أرباب العلم)) أي إذا كان أرباب العلم من جمع بين العلم والعمل فلم ترك العالم العمل؟ وما الذي دعاه إلى ترك العمل ليعزل عن هذا الاسم؟ قال: الطمع في الدنيا، والرغبة فيها.

267 - وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر. فقال: ((لا تسألوني عن الشر، وسلوني عن الخير)) يقولها ثلاثاً، ثم قال: ((ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء)) رواه الدارمي [267]. 268 - وعن أبي الدرداء، قال: إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: عالم لا ينتفع بعلمه)) رواه الدارمي [268]. 269 - وعن زياد بن حدير، قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا! قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدرامي [269]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر عن الأحوص: قوله: ((يقولها ثلاثاً)) حال من فاعل ((قال))، والضمير المؤنث راجع إلى الجملة، وهي قوله: ((لا تسألوني)) إلى آخره. وإنما نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن مثل هذا السؤال وكرر ثلاثاً لأنه نبي الرحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وإنما كانوا شر الشر وخير الخير لأنهم سبب صلاح العالم، وإليهم تنتهي أمور الدين والدنيا، وبهم الحل والعقد، ومن ثم فسر بعضهم ((أولي الأمر)) بالعلماء في قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. فإذا فسدوا فسد الناس كلهم، وفسادهم متابعتهم الهوى، وركونهم إلى الظلمة، لطمع حطام الدنيا. والله أعلم. الحديث التاسع عشر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((إن من أشر الناس)) أي من شر الناس. ((الجوهري)): هو لغة ضعيفة، و ((من)) فيه زائدة، و ((عالم)) خبر ((إن)). الحديث العشرون عن زياد: قوله: ((ما يهدم)) الهدم إسقاط البناء، وهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمس المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام: ((بني الإسلام على خمس)) الحديث،

270 - وعن الحسن، قال: العلم علمان: فعلم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله عز وجل على ابن آدم. رواه الدارمي [270]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائغة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين وحكم المزورين. وإنما قدمت زلة العالم لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين، كما جاء: ((زلة العالم زلة العالم)) والله أعلم. الحديث الحادي والعشرون عن الحسن: قوله: ((فعلم)) الفاء تفصيلية، وفي قوله: ((فذلك)) سببية، من باب قوله: ((خولان فانكح)) أي هؤلاء خولان الذين اشتهرت نساءهم بالرغبة فانكح منهم، فكذلك قوله: ((علم في القلب)) دل على كونه مرغوباً فيه، فرتب عليه ما بعده. وفي عكسه قوله: ((فذلك حجة الله))، فإن ذلك صاحب العلم اللساني الذي لم يتأثر منه بقلبه محجوج عليه، ويقال له: {لم تقولون ما لا تفعلون}. ويمكن أن يحمل الحديث على علمي الظاهر والباطن. قال أبو طالب المكي: علم الظاهر وعلم الباطن هما علمان أصلان لا يستغنى أحدهما عن صاحبه، بمنزلة الإسلام والإيمان، مرتبط كل واحد منهما بالآخر كالجسم والقلب، لا ينفك أحدهما من صاحبه. وقال روينا في بعض الأخبار أن في بعض الكتب المنزلة على بني إسرائيل: ((لا تقولوا: العلم في السماء من ينزل به، ولا في نجوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يعبر يأتي به. العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصديقين؛ أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويعطيكم)). وقيل: علم الباطن يخرج من القلب فيقع على القلب، وعلم الظاهر يخرج من اللسان فلا يجاوز الأذن. قال الشيخ أبو حامد في الأحياء: من انكشف ولو الشيء اليسير له بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري، فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ولم ذلك من نفسه قط، فينبغي أن يؤمن به؛ فإذن درجة المعرفة فيه غزيرة جداً. ويشهد لذلك شواهد الشرع، والتجار، والوقائع، فكل حكمة تظهر في القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو

271 - وعن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم- يعني مجرى الطعام-. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بطريق الكشف والإلهام. قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}، قيل: يجعل له مخرجاً من الإشكالات والشبه، ويرزقه من حيث لا يحتسب فيعلمه علماً من غير تعلم، ويفطنه من غير تجربة. وروي: ((من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)) وقول علي رضي الله عنه: ((ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطي الرجل في كتابه)) وليس هذا بالتعلم، وسيأتي في الحديث الذي يليه لمعة من تلك اللمعات. الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((وعائين)) شبه نوعي العلم بالظرفين لاحتواء كل منهما ما لم يحتويه الآخر، ولعل المراد بالأول علم الأحكام والأخلاق، وبالثاني علم الأسرار المصون عن الأغيار، المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان. وأنشد الشيخ أبو حامد لزين العابدين في المنهاج: يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي: أنت ممن تعبد الوثنا ولا ستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا قال بعض العارفين: العلم المكنون والسر المصون علم هذه الطائفة، وهو نتيجة الخدمة، وثمرة الحكمة، لا يظفر به إلا الغواصون في بحار المجاهدات، ولا يسعد به إلا المصطفون بأنوار المشاهدات، إذ هو أسرار متمكنة في القلوب، لا يظهر إلا بالرياضة، وأنوار ملمعة في العيون لا تنكشف إلا للقلوب المرتاضة، وأهل الغرة بالله لها منكرون، وعنها مدبرون. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: علومهم كلها إنباء عن وجدان. وإغراء إلى عرفان، وذوق محقق بصدق الحال، ولم يف بنطق المقال، فاستعصت نكتها على الإشارة، وطفحت على العبارة، وتهاديها الأرواح بدلالة الالتئام والائتلاف، وكرعت حقائقها من حر الألطاف، وقد اندرس كثير من دقيق علومهم كما انطمس كثير من حقائق رسومهم. وقد قال الجنيد رحمه الله: علمنا هذا طوى بساطه منذ كذا سنة، ونحن نتكلم في حواشيه. وروى الشيخ أبو طالب المكي عنه أنه قال: لو أن العلم الذي أتكلم به من عندي لفنى وانقطع، ولكنه من حق بدا، وإلى حق يعود.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة. وقال آخر: من كان محباً للدنيا، أو مصراً على الهوى- لم يتحقق بشيء من هذا العلم أبداً. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له من هذا العلم حرفان، كبر وبدعة. وقد سبق نبذ من هذا من أوائل حالهم ومنشأ علومهم في الحديث السابق. ومما أنشد: تنافس أهل الجود في طلب المجد وحثوا مطايا الشوق في مخلص القصد وداموا لعزم السير في طلب العلى ففازوا بطيب الوصل من دوحتي نجد إذا ما دعوا يوماً لكشف ملمة لهم همم تسمو إلى العلم الفرد هم القوم هاموا فاستقاموا على السرى رأيت الفتى النشوان كالأسد الورد بحار الحياء والحلم والعلم والتقى ديار السخا والعز والشكر والحمد كنوز الصفا والعشق والصدق والولا لهم من بحار الغيب ورد على ورد عليهم سلام الله ما هبت الصبا قبيل ابتسام الصبح في طالع سعد لعمري! لقد أحسن وصدق فيما قال وأجاد، إذا ما دعوا يومًا لكشف ملمة البيت؛ لأنهم هم الرجال الذين استقاموا على ما قالوا، وصدقوا فيما عاهدوا. وأما المتسمون برسمهم والمسمون باسمهم، الذين قنعوا في الحقيقة بالاسم والرسم، وتقنعوا بالمراقع والرقص فليسوا من الرجال في شيء بل هم أعجز من العجائز في المعارك. قال الشيخ أبو حامد- رحمه الله-: متصوفة أهل الزمان- إلا من عصمه الله تعالى- اغتروا بالرأي، والمنطق، والهيئة من السماع والرقص، والطهارة، والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر، ومن تنفس الصعداء، أو خفت الصوت في الحديث إلى غير ذلك، فظنوا بذلك أنهم منهم، فلم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة، ومراقبة القلب، وتطهر الباطني والظاهر من الآثام الخفية والجلية، وكل ذلك من أوائل منازل المتصوفة ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم من الصوفية، فكيف ولم يحوموا قط حولها؟ بل يتكالبون على الحرام والشبهات، وأموال المسلمين، ويتنافسون في الفلس والرغيف والحبة، ويتحاسدون على النقير والقطمير، ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء. ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان تكتب أسماؤهم في الديوان، فتاقت نفسها أن يكتب اسمها فيهم، فلبت درعاً ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وحركاتهم والتفاتهم وشمائلهم فيها، وتوجهت إلى المعسكر، فلما نفذت إلى ديوان

272 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: يا أيها الناس! من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العرض، وأمرت بالتجرد عن المغفر والدرع لتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان، فإذا هي عجوز ضعيفة، فقيل لها: أجئت للاستهزاء بالملك؟ ولاستحماق أهل حضرته؟ فحينئذ تنكل نكالا ليس بعده. هكذا حال المدعين في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء، وافتضحوا على رؤوس الأشهاد. وقال: منهم طائفة ادعت علم المعرفة، ومشاهدة الحق، ومجاوزة المقامات والأحوال، ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ، إلا أنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها، ويظن أن ذلك علم أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين بعين الازدراء فضلاً عن العوام، حتى إن الفلاح يترك فلاحته، والحائك حياكته، ويلازمهم أياماً، ويتلقف منهم هذه الكلمات المزيفة يرددها، كأنه يتكلم عن الوحي، ويخبر عن سر الأسرار، ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء، فيقول في العباد: إنهم أجراء متعبون، ويقول في العلماء: إنهم بالحديث عن الله تعالى محجوبون، ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق، وأنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار والمنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين. ومنهم من يقول: الإعمال بالجوارح لا وزن لها، وإنما النظر إلى القلب، وقلوبنا عاكفة والهة بحب الله تعالى، وإنما نخوض الدنيا بأبداننا وقلوبنا في الحضرة الربوبية، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب، وهم يرفعون بذلك درجة أنفسهم عن درجات الأنبياء إذ كان يصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة، حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية. وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى، وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصر في مجلدات، ولا تستقصي إلا بعد شرح علوم المكاشفة، وذلك مما لا رخصة في ذكره، إذ السالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره، والذي لم يسلكه لم ينتفع بسماعه، بل ربما يستضر به؛ إذ يورثه ذلك دهشة من حيث لا يسمع ما لا يفهم. الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((أن تقول لما لا تعلم)) ((أن تقول)) اسم ((إن))، و ((من العلم)) خبره. و ((الله أعلم)) عبارة عن لا أدري. أي بعض العلم قول لا أدري. وذلك أن المفتي إذ أفتى بكل ما يسأل لا يخلو إما أن يكون جد عالم، أو يكون بخلافه، كما ورد: ((حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضوا وأضلوا))، أو يكون

273 - وعن ابن سيرين، قال: إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم. رواه مسلم. 274 - وعن حذيفة، قال: يا معشر القراء! استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ متوسطاً يميز بين ما يعلم وما لم يعلم، فيفتي بما يعلم، ويقول: ((الله أعلم)) فيما لا يعلم. كما سئل مالك عن أربعين مسألة، فقال في ستة وثلاثين: لا أدري. قوله: {وما أنا من المتكفلين} أي من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعاً، ولا مدعياً ما ليس عندي. روينا في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قرأ {وفاكهة وأبا} قال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا- أو قال: ما أمرنا- بهذا. وفي الكشاف عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سئل عن الأب؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟ والله أعلم. الحديث الرابع والعشرون عن ابن سيرين: قوله: ((إن هذا العلم)) التعريف فيه للعهد، وهو ما جاء به الرسول صلوات الله عليه لتعليمه الحق من الكتاب والسنة، وهما أصول الدين، والمراد بالمأخوذ منه العدول الثقات المتقنون كما سبق في الحديث الآخر من الفصل الثاني، وهو قول: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) الحديث. و ((عن)) صلة ((تأخذون)) على تضمين معنى يروون، ودخول الجارة على الاستفهام هنا كدخوله في قوله تعالى: {على من تنزل الشياطين} تقديره: أعمن تأخذون. وضمن ((انظر)) معنى العلم، والجملة الاستفهامية سدت مسد المفعولين تعليقاً. الحديث الخامس والعشرون عن حذيفة: قوله: ((القراء)) ((نه)): في الحديث: ((أكثر منافقي أمتي قراؤها)) وهم الذين يحفظون القرآن نفياً للتهمة عن أنفسهم ويعتقدون تضييعه، وكان المنافقون في عصر النبي صلى الله عليه وسل بهذه الصفة. أقول- وبالله التوفيق-: إن الناس لم يخلقوا إلا للعبادة، والعبادة لا تتم إلا بالإخلاص، والمقصود منها تقرب العبد إلى الله، وكان العبد يتحرى فيهما السير إلى الله، ويتوخى سلوك طريق الاستقامة ليوصله إلى المقصود، والطريق هو الإسلام والاستسلام، وإليه الإشارة بقوله

275 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من جب الحزن)). قالوا: يا رسول الله! وما جب الحزن؟ قال: ((واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة)). قيل: يا رسول الله! ومن يدخلها؟ قال: ((القراء المراؤون بأعمالهم)). رواه الترمذي، وكذا ابن ماجه، وزاد فيه: ((وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)). قال المحاربي: يعني الجورة [275]. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} فمن سلك الطريق، وثبت عليها، ولم يأخذ يميناً وشمالاً، فقد فاز فوزاً عظيماً، وسبق من ركب متن الرياء وأخذ على يمين الصراط وشماله، ثم إذا ثبت المرائي، ودام على اعوجاجه، ولم يرجع إلى المستقيم، هام في أودية الضلال، وأداه الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر- أعاذنا الله منه- وهو المراد بقوله: ((ضللتم ضلالاً بعيداً)). ((غب)): الضلال العدول عن الصراط المستقيم، وتضاده الهداية، ويقال لكل عدول من المنهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً- ضلال: فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً. قيل: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة، فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى المقرطس من المرمى، وما عداه من الجوانب كلها ضلال، فإذا كان كذلك صح أن يستعمل لفظ الضلال في من يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد. الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((جب الحزن)) هو علم، والإضافة فيه كما هي في دار السلام، أي دار فيها السلامة من آفة وحزن. و ((من يدخلها)) عطف على محذوف، أي ذلك الشيء عظيم هائل، فمن الذي يستحقه؟ ومن الذي يدخل فيه؟ والتعوذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: ((هل من مزيد)) وكالتميز وكالتغيظ في قوله تعالى: ((تكاد تميز من الغيظ)) والظاهر أن يجرى ذلك على المتعارف؛ لأن الله على كل شيء قدير. ((الكشاف)): سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في

276 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [276]. ـــــــــــــــــــــــــــــ القلب وتبيينه، وتميزها وتغيظها تشبه لشدة غليانها بالكفار بغيظ المغتاظ وتميزه واضطرابه عند الغضب. الحديث السابع والعشرون عن علي: قوله: ((أن يأتي)) أتى متعد إلى مفعول واحد بلا واسطة، فعدى بعلى ليشعر بأن الزمان عليهم حينئذ بعد أن كان لهم. وفي معناه قول الجرهمي: أتت دون ذاك الدهر أيام جرهم وطارت [بذاك] العيش عنقاء مغرب وخص القرآن بالرسم والإسلام بالاسم دلالة على مراعاة القراء لفظ القرآن من التجويد في حفظ مخارج حروفه، وتحسين الألحان فيه؛ دون التفكر في معانيه، والامتثال بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، وليس كذلك الإسلام؛ فإن الاسم باق، والمسمى مدروس، فإن الزكاة التي شرعت للشفقة على خلق الله اندرست، ولم يبق منها عين ولا أثر، وأكثر الناس ساهون عن الصلاة تاركونها، وليس أحد يأمرهم بالمعروف فيقيمونها، وعلى هذا قوله: ((وهي خراب من الهدى)) أي من ذي الهدى أو الهادي؛ لأنه لو وجد الهادي لوجد هدي، فأطلق الهدي وأريد الهادي على سبيل الكناية، وهو يحتمل معنيين: أحدهما أن خراب المساجد من أجل عدم الهادي الذي ينفع الناس بهداه في أبواب الدين ويرشدهم إلى طريق الخير. وثانيهما أن خرابها لوجود هداة السوؤ الذين يزيغون الناس ببدعتهم وضلالتهم، وتسميتهم بالهداة من باب التهكم كما في قوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى} ((الكشاف)): تهكم به في قوله تعالى: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} ولهذا المعنى عقب هذه الجملة على سبيل الاستئناف لبيان الموجب بقوله: {علماؤهم شر من تحت أديم السماء} إلى آخره. و ((في)) في ((فيهم تعود)) كفى في قولهم: {أو لتعودن في ملتنا} وقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي يستقر

277 - وعن زياد بن لبيد، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: ((ذاك عند أوان ذهاب العلم)). قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرؤه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة! أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!)) رواه أحمد، وابن ماجه، وروى الترمذي عنه نحوه [277]. 278 - وكذا الدارمي عن أبي أمامة [278]. 279 - وعن ابن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا العلم ـــــــــــــــــــــــــــــ عود ضررهم فيهم، ويتمكن منهم كل التمكن، و ((أديم السماء)) وجهه، وكذا ((أديم الأرض)) وهو صعيدها. وقيل: منه اشتق اسم آدم لكون جسده منه. الحديث الثامن والعشرون عن زياد: قوله: ((شيئاً)) التنكير فيه للتهويل، أي شيئاً هائلاً، والواو في: ((وكيف)) للعطف، أي متى يقع ذلك الهول؟ وكيف يذهب العلم والحال أن القرآن بين الناس مستمر دائم إلى يوم القيامة؟ وعند وجود القرآن كيف يذهب العلم؟ و ((إن)) في: ((وإن كنت لأراك)) مخففة من المثقلة، واللام علامة لها، وضمير الشأن محذوف، و ((أفقه)) ثاني مفعول ((أراك)) و ((من)) زائدة في الإثبات، أو متعلقة بمحذوف، أي كائناً من أفقه رجل، وأضاف أفعل إلى المفر النكرة إرادة للاستغراق. قوله: ((لا يعملون بشيء)) حال من فاعل ((يقرأون))، يعني يقرأون التوراة والإنجيل غير عاملين بشيء مما فيهما. نزل العالم الذي لم يعمل بعلمه منزلة الجاهل بل هو بمنزلة الحمار الذي يحمل أسفاراً. الحديث التاسع والعشرون عن ابن مسعود: قوله: ((تعلموا العلم)) قد مضى شرح ما في معناه في الحديث الخامس والعشرين وما يليه من الفصل الثاني. قوله: ((إني امرؤ مقبوض)) كقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} أي كوني امرأ مثلكم علة لكوني مقبوضاً لا أعيش أبداً.

وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس؛ فإني امرؤ مقبوض، والعلم سينقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحداً يفصل بينهما)). رواه الدارمي، والدارقطني [279]. 280 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل علم لا ينتفع به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله)) رواه أحمد، والدارمي [280]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثلاثون عن أبي هريرة: قوله: ((مثل علم لا ينتفع)) هذا التشبيه على نحو قولهم: ((النحو في الكلام كالملح في الطعام)) في الصلاح باستعمالها، والفساد بإهمالها، لا في القلة والكثرة، تشبيه العلم بالكنز وارد في مجرد عدم النفع في الانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكف لا؟ وإن العلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باق، والكنز فان. فإن المال يفني عن قريب وإن العلم باق لا يزال

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة الفصل الأول 281 - عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن- أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة والنور، ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الطهارة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي مالك: قوله: ((الطهور)) قال الشيخ محيي الدين: جمهور أهل اللغة علي أن الطهور والوضوء يضمان إذا أريد بهما المصدر، ويفتحان إذا أريد بهما اسم ما يتطهر به، كذا عن الأنباري. وذهب الخليل، والأصمعي، وأبو حاتم السجستإني، والأزهري، وجماعة إلي أنه بالفتح في الاسم والمصدر. والطهارة أصلها النظافة والتنزه، وقال: هذا حديث عظيم، وأصل من أصول الإسلام، مشتمل علي مهمات قواعد الدين. وأصل الشطر النصف، قيل: معنى ((شطر الإيمان)) أن الأجر في الوضوء ينتهي إلي نصف أجر الإيمان، وقيل: إن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا، وكذلك الوضوء، إلا أن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان، فصار لتوقفه عليه في معنى الشطر. وقيل: المراد بالإيمان الصلاة، قال الله تعالي: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} والطهارة شرط في صحتها، فصارت كالشطر، وليس بلازم في الشطر أن يكون نصفاً حقيقياً. ويحتمل أن يقال: الإيمان تصديق بالقلب، وانقياد بالظاهر، وهما شطران، والطهارة انقياد في الظاهر. وقوله: ((الحمد لله تملأ الميزان)) بيان عظم أجرها، وقد تظاهرت النصوص من القرآن والسنة علي وزن الأعمال. وقوله: ((تملآن أو تملأ)) ضبطناهما بالتاء المثناة من فوق، فالأول ظاهر، والثاني فيها ضمير الجملة. وقيل: معناه لو قدر ثوابهما جسما لملأ ما بين السماوات والأرض. وسبب عظم فضلهما اشتمالهما علي تنزيه الله تعالي في ((سبحان الله)) والتفويض والافتقار إلي الله في ((الحمد لله)). وقوله: ((والصلاة نور)) معناه أنها تمنع من المعاصي، وتنهي عن الفحشاء والمنكر، وتهدي للصواب كالنور. وقيل: أريد بالنور الأمر الذي يهتدي به صاحبه يوم القيامة، قال الله تعالي:

والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)). رواه مسلم. [281] ـــــــــــــــــــــــــــــ {يسعى نورهم بين أيديهم}. وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق، لفراغ القلب فيها، وإقباله علي الله ظاهراً وباطناً، وقيل: النور هو السيماء في وجه المصلي من أثر السجود. ((والصدقة برهان)) معناه يفزع إليها كما يفزع إلي البرهان، فإن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في الجواب. وقيل: يوسم المتصدق بسيماء يعرف بها فيكون برهاناً، فلا يسأل عن المصرف. وقيل: معناه أنها حجة علي إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها، قال الله تعالي: {الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم}، والمعنى بـ ((الصبر)) الصبر علي طاعة الله وعلي اجتناب معصيته، وعلي النائبات والمكاره، أي لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً علي الصواب. وقوله: ((القرآن حجة)) معناه أنه ينتفع إن تلاه وعمل به، وإلا فهو وبال عليه. وقوله: ((كل الناس يغدو)) معناه كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها من الله تعالي بطاعته فيعتقها، ومنهم من يبيعها من الشيطان والهوى فيهلكها. ((شف)): الغدو سير أول النهار، وهو ضد الرواح، وقد غدا يغدو غدواً مأخوذ من الغدوة- بالضم- وهي ما بين الصبح وطلوع الشمس، والبيع والشرى يطلق أحدهما علي الآخر لارتباط كل منهما بالآخر، ولما كان كل واحد من المتعاقدين من عادته اختيار ما في يد صاحبه علي ما في يده، وإيثاره عليه بالمبادلة معه- وضع لفظ البيع و [الشرى] مكان ترك حالة وكسب أخرى، والمراد هاهنا صرف النفس في الأغراض التي توخاها النفس وتوجهت نحوها، واستعمالها فيها، فإن آثر آخرته علي دنياه، واشتراها بالدنيا- فقد أعتقها، أعني نفسه عن أليم عقابه، وإن آثر دنياه علي آخرته، واشتراها بالآخرة- فقد أوبقها، أي أهلكها، بأن جعلها عرضة لعظيم عذابه. قوله: ((فبائع نفسه)) خبر، أي هو يشتري نفسه، بدليل قوله: ((فمعتقها))، والإعتاق إنما هو يصح من المشتري، وهو محذوف المبتدأ، فإنه يحذف كثيراً بعد الفاء الجزائية. وقوله: ((فمعتقها))، خبر بعد الخبر، ويجوز أن يكون بدل بعض من قوله: ((فبائع نفسه)).

وفي رواية: ((لا إله إلا الله والله أكبر، تملآن ما بين السماء والأرض)). لم أجد هذه الرواية في ((الصحيحين)) ولا في كتاب الحميدي، ولا في ((الجامع))؛ ولكن ذكرها الدارمي بدل ((سبحان الله والحمد لله)). [281] م ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول- وبالله التوفيق-: لعل المعني بالإيمان هاهنا شعبه، كما في قوله صلوات الله عليه: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) والطهور، والحمد لله، وسبحان الله، والصلاة، والصدقة، والصبر، والقرآن أعظم شعبها التي لا تنحصر، وتخصيص ذكرها لبيان فائدتها، وفخامة شأنها. فبدأ بالطهور وجعله شطر الإيمان، أي شعبة منه، ومجازه كمجازه في قوله تعالي: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه، وأنشد: وأطعن بالقوم شطر الملوك حتى إذا خفق المجدع وتقريره [أي تقدير كون الطهور شعبة من الإيمان] بوجوه: أحدها: أنه صلوات الله عليه جعل نقصان الدين في قوله للنساء: ((أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلي! قال: فذلك من نقصان دينها)) فكل مانع يمنع المكلف من الطاعة هو موجب نقصان دينه، وما يرفع المانع لا يبعد أن يعد من الدين. وثانيها: أن طهارة الظاهر أمارة لطهارة الباطن؛ لأن الظاهر عنوان الباطن، فكما أن طهارة الظاهر ترفع الخبث والحدث من الظاهر- ليستعد للشروع في العبادات- كذلك طهارة الباطن- وهي التوبة- تفتح باب السلوك للسائرين إلي الله تعالي؛ ومن ثم جمعهما في قوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، وقيد كل واحد منهما بمحبة مستقلة. وثالثها: أنه قد اشتهر أن من أراد الوفود إلي العظماء يتحرى بتطهير ظاهره من الدنس والأوضار، ولبس الثياب النقية الفاخرة، فوافد مالك الملك ذي العزة والجبروت أولي وأحرى بذلك، ومن ثم شرعت نظافة البدن والثوب، والتطيب في أيام الأعياد والجمعات، قال الله سبحانه وتعالي لحبيبه- صلوات الله عليه-: {وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر}، وكان من حق الظاهر بناء علي ما ذكر أن يؤخر «وربك فكبر» عن قرينتها، لكن قدم ما هو مقدم في المقصود، وإن كان مؤخراً في الوجود لأن الغايات والكمالات سابقة في الإرادة لاحقة في الوجود، وعليه قوله تعالي: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان}. ولما أراد الله تعالي أن

282 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلكم علي ما يمحو الله به الخطايا. ويرفع به الدرجات)). قالوا: بلي يا رسول الله! قال: ((إسباغ الوضوء ـــــــــــــــــــــــــــــ يسري بحبيبه- صلوات الله عليه- ويقربه شرح صدره وأخرج قلبه فطهره، علي ما رويناه في حديث المعراج وشرح الصدر «فاستخرج قلبي، وغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشى إيماناً وحكمة» الحديث. قال الإمام فخر الدين الرازي: لا يبعد أن يكون حصول الدم الأسود الذي غسلوه من قلبه- صلوات الله عليه- علامة الميل والركون إلي الهوى، والتحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة كون صاحبه مواظباً علي الطاعات، محترزاً عن السيئات. يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد. فإن قلت: هل في تخصيص الصلاة بالنور، والصبر بالضياء فائدة؟ قلت: أجل؛ لأن الضياء فرط الإنارة، قال الله تعالي: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً}. ولعمري! إن الصبر بنيت عليه أركان الإسلام، وبه أحكمت قواعد الإيمان؛ لأنه تعالي لما مدح عباده المخلصين بقوله تعالي: {وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً- إلي قوله- واجعلنا للمتقين إماما} (2) عقبه بقوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} فوضع الصبر موضع تلك الأعمال الفاضلة والأخلاق المرضية؛ لأنه ملاكها، وعليه يدور قطبها. ((غب)): الصبر حبس النفس عما يقتضيه الهوى، وتختلف مواقعه، وربما يخالف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان في مصيبة فيقال: صبر لا غير، وضده الجزع، وإن كان في محاربة سمى شجاعة، وضدها الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمى صاحبه رحيب الصدر، وضده ضيق النفس، وإن كان في إمساك النفس من الفضولات سمي قناعة، وضدها الحرص والشره، وإن كان في إمساك كلام في الضمير يسمى كتماناً، وضده الإفشاء، وإن كان في بذل مال سمي صاحبه جواداً، وضده البخيل، وعلي هذا تقاس جميع الفضائل. قوله: ((والقرآن حجة)) ختم تلك الشعب به، وسلك به مسلكاً غير مسلكها دلالة علي كونه سلطاناً قاهراً، وحكماً فيصلاً، يفرق بين الحق والباطل، حجة الله في الخلق، به السعادة والشقاوة. وقوله: ((كل الناس يغدو)) مجمل، والفاء في قوله: ((فبائع)) تفصيلية، وفي قوله: ((فمعتقها)) سببية، المعنى: كل الناس يسعى في الأمور، فمنهم من يبيعها من الله تعالي، فيعتقها من النار، أو يبيع * من الشيطان فيوبقها.

علي المكاره، وكثرة الخطى إلي المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)). 283 - وفي حديث مالك بن أنس: ((فذلكم الرباط فذلكم الرباط)) [ردد] مرتين. رواه مسلم. وفي رواية الترمذي: ثلاثاً. [283] ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: ما وجه اتصال هذه الجملة بما قبلها؟ قلت: هي استئنافية علي تقدير سؤال سائل، قد تبين من هذا التقرير الرشد من الغي، فما حال الناس بعد ذلك. فأجيب: كل الناس يغدو إلي آخره. وموقع هذا السؤال موقع الفاء في قوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} الآية، بعد قوله: {قد تبين الرشد من الغي} والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((ما يمحو الله)) محو الخطايا كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة دلالة علي غفرانها، ورفع الدرجات عبارة عن إعلاء المنازل في الجنة. وإسباغ الوضوء استيعاب المحل بالغسل، وتطويل الغرة، وتكرار المسح والغسل ثلاثاً. وأصل الوضوء من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، وسمي وضوءاً لأنه ينظف المتوضئ ويحسنه. ((نه)): أثبت سيبويه الوضوء، والطهور، والوقود بالفتح في المصادر، وهي تقع علي الاسم، والمصدر. و ((المكاره)) جمع مكره- بفتح الميم- من الكره، المشقة والألم. وقيل: منها إعواز الماء، والحاجة إلي طلبه، أو ابتياعه بالثمن الغالي. قوله: ((وانتظار الصلاة)) ((مظ)): إذا صلي بالجماعة أو منفرداً ينتظر صلاة أخرى، ويعلق فكره بها، إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه وقلبه معلق بها ينتظر حضورها، وكل ذلك داخل في هذا الحكم، ويؤيده ما ورد: ((ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)). قوله: ((الرباط)) يقال: رابطت إذا لازمت الثغر، وهو أيضاً اسم لما يربط به، وسمي المكان الذي خص بإقامة حفظة فيه رباطاً. ((قض)): المرابطة ملازمة العدو، مأخوذ من الربط، وهو الشد، والمعنى أن هذه الأعمال هي المرابطة الحقيقية؛ لأنها تسد طرق الشيطان علي النفس، وتقهر الهوى وتمنعها عن قبول الوساوس، وإتباع الشهوات، فيغلب بها حزب الله جنود الشيطان، وذلك هو الجهاد الأكبر، إذ الحكمة في شرع الجهاد تكميل الناقصين، ومنعهم عن الفساد والإغواء. أقول- والله أعلم-: وفيما ذكر معنى ما يروى: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر)) لإتيان اسم الإشارة الدال علي بعد منزلة المشار إليه القريب في مقام التعظيم، وإيقاع

284 - وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره))، متفق عليه. 285 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا توضأ العبد المسلم- أو المؤمن- فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه؛ خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقياً من الذنوب)) رواه مسلم. [285] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرباط المحلي بلام الجنس خبراً لاسم الإشارة- كما في قوله تعالي: {الم ذلك الكتاب} إذ التعريف في الخبر للجنس، المعنى المذكور [و] هو الذي يستحق أن يسمى رباطاً، كان غير ذلك لا يستأهل أن يسمى بهذا الاسم بالنسبة إليه؛ لما فيه من قهر أعدى عدو الله النفس الأمارة بالسوء، وقمع شهواتها، وقلع مكائد الشيطان وإغوائه. ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه بعد اهتمام- كرره تكريراً، والله أعلم. الحديث الثالث عن عثمان: قوله: ((فأحسن الوضوء)) الفاء موقعة موقع ((ثم)) التي لبيان المرتبة، دلالة علي أن الإجادة في الوضوء- من تطويل الغرة، وتكرار المسح، والغسل ثلاثاً، ومراعاة آدابه من استقبال القبلة، والدعاء المأثور عن السلف وغيرها- أفضل وأكمل من أداء ما وجب مطلقاً. ((وخرجت خطاياه)) تمثيل وتصوير لبراءته عن الذنوب كلها علي سبيل المبالغة، لكن هذا العام خص بالصغائر. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((خرج)) جواب الشرط، والفاء في ((فغسل)) مرتبة له علي الشرط، أي إذا أراد الوضوء فغسل خرج من وجهه كل خطيئة. قوله: ((كل خطيئة نظر إليها)) أي نظر إلي سببها، إطلاقاً لاسم المسبب علي السبب مبالغة، وكذا في البواقي. فإن قلت: ذكر لكل عضو ما يختص به من الذنوب، وما يزيلها عن ذلك العضو، والوجه مشتمل علي العين، والفم، والأنف، والأذن، فلم خصت بالذكر دونها؟ قلت: العين طليعة القلب ورائده، فإذا ذكرت أغنت عن سائرها، ويعضد هذا التأويل حديث عبد الله الصنابحي في الفصل الثالث: ((فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه)). والضمير في ((مشتها)) راجع إلي خطيئة، ونصب بنزع الخافض، أو

286 - وعن عثمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)). رواه مسلم. [286] ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون مصدراً، أي مشت المشية، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجعله الوارث منا)) أي اجعل الجعل. و ((بعينيه))، و ((يداه))، و ((رجلاه)) كلها تأكيدات تفيد مبالغة في الإزالة. الحديث الخامس عن عثمان: قوله: ((صلاة مكتوبة)) أي مفروضة، من كتب كتاباً إذا فرض، وهو مجاز؛ فإن الحاكم إذا كتب شيئاً كان ذلك حكماً وإلزاماً. والخشوع في الصلاة خشية القلب، وإلزام البصر موضع السجود، وجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أن يستعمل الآداب، فيتوقى كف الثوب، والعبث بجسده وثيابه، والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض، ونحوها. ((تو)): اكتفي بذكر الركوع عن السجود لأنهما ركنان متعاقبان، فإذا حث علي إحسان أحدهما حث علي الآخر، وفي تخصيصه بالذكر تنبيه علي أن الأمر فيه أشد، فافتقر إلي زيادة توكيد؛ لأن الراكع يحمل نفسه في الركوع، ويتحامل في السجود علي الأرض. ((قض)) و ((شف)): تخصيص الركوع بالذكر تحريض عليه؛ فإنه من خصائص المسلمين. أقول: لعل هذا علي الغالب؛ لما قال تعالي لمريم: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} قيل: أمرت بأن تركع مع الراكعين، ولا تكون مع من لا يركع. والأولي أن يقال: إنما خص الركوع بالذكر دون السجود لاستتباعه السجود؛ إذ لا يستقل عبادة وحده، بخلاف السجود فإنه يستقل عبادة، كسجدة التلاوة والشكر. قوله: ((ما لم يؤت)) ((تو)): إن إثبات يأت علي بناء الفاعل في كتاب المصابيح غير سديد؛ لأن الحديث من مفاريد مسلم، ولم يروه إلا من الإيتاء، وإن كان ((لم يأت)) أوضح معنى من قولهم: أتى فلان حداً وأتى منكراً، لكن الذي يعتمد عليه من جهة الرواية هو الإيتاء. ومنهم من يروى علي بناء المفعول، والمعنى ما لم يعمل كبيرة، وضع الإيتاء موضع العمل؛ لأن العامل يعطي العمل من نفسه، قال الله تعالي: {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها} أي لأعطوا ذلك من أنفسهم. ويحتمل أن يكون معنى بناء المفعول ما لم يصب بكبيرة، من قولهم: أتى فلان في بدنه، أي أصابته علة. والواو في قوله: ((وذلك الدهر كله)) للحال، وذو الحال المستتر في خبر كانت، وهو قوله: ((كفارة)). ((شف)): المشار إليه إما تكفير الذنوب، أي تكفير الصلاة المكتوبة الصغائر لا يختص بفرض واحد، بل فرائض الدهر تكفر صغائره، وإما معنى ((ما لم يؤت كبيرة)) هو عدم الإتيان

287 - وعنه أنه توضأ فأفرغ علي يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى إلي المرفق ثلاثاً، ثم غسل يده اليسرى إلي المرفق ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال: ((من توضأ وضوئي هذا، ثم يصلي ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ولفظه للبخاري. 288 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)). رواه مسلم. [288] ـــــــــــــــــــــــــــــ بالكبيرة، أي عدم إتيان الكبيرة في الدهر كله مع الإتيان بالمكتوبة كفارة لما قبلها. وأما ما قيل: ((من المكتوبة))، أي المكتوبة تكفر ما قبلها ولو كان ذلك ذنوب العمر، والوجه هو الأول؛ لما ورد: ((الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)). وانتصب ((الدهر)) ظرفاً لمقدر، أي وذلك مستمر في جميع الدهر. قال المؤلف: قد وجدت ((ما لم يؤت)) في صحيح مسلم، وفي شرحه للنواوي، وفي كتاب الحميدي، كما ذكره الشيخ التوربشتي، وقال محيي الدين النواوي، معنى قوله: ((كانت كفارة لما قبلها)) أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر؛ فإنها لا تغفر، وليس المعنى أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت كبيرة لا يغفر شيء من الصغائر؛ فإن هذا وإن كان محتملاً فلا نذهب إليه. وقال العلماء: إن هذا الحديث وما أشبهه صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن وجد كبيرة ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، وإلا كتب له به حسنات، ورفعت به درجات. الحديث السادس عن عثمان: قوله: ((توضأ فأفرغ)) عطف ((فأفرغ)) إلي آخره علي سبيل البيان علي المبين، كما عطف تعالي {فإن فاءوا} علي قوله: {تربص أربعة أشهر} علي مذهب صاحب الكشاف. ((مح)): الجمهور علي أن الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو جذب الماء بالنفس إلي الأقصى، وتدل عليه الرواية الأخرى: ((استنشق واستنثر)) فجمع بينهما، وهو مأخوذ من النثرة طرف الأنف. وقد أجمعوا علي كراهة الزيادة علي الثلاث المستوعبة للعضو، وإذا لم يستوعب إلا بغرفتين فهي واحدة، ولم يذكر العدد في مسح الرأس، فالظاهر الاكتفاء بالواحدة. قوله: ((نحو وضوئي هذا)) ((مح)): إنما قال: ((نحو)) ولم يقل: ((مثل))؛ لأن حقيقة مماثلة وضوئه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره، وفيه استحباب ركعتين فأكثر عقيب كل وضوء، وهي سنة

289 - عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ- أو فيسبغ- الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله- وفي رواية: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده ـــــــــــــــــــــــــــــ مؤكدة. قال جماعة من أصحابنا: وتفعل هذه الصلاة في أوقات النهي وغيرها؛ لأن لها سبباً، ولو صلي فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له هذه الفضيلة، كما تحصل تحية المسجد بذلك. والمراد بقوله: ((لا يحدث نفسه بشيء)) أي من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة، ولو عرض له حديث فأعرض عنه عفي له ذلك، وحصلت الفضيلة؛ لما أنه تعالي عفا عن هذه الأمة الخواطر التي تعرض ولا تستقر، وعلي ما ذكرت من كلام المازري، والقاضي عياض. ((مظ)): معنى قوله: ((لا يحدث نفسه)) لا تجرى في قلبه وسوسه في الأمور الدنيوية، ليكون حاضر القلب غير ساه وغافل، وقلما يمكن الحضور بالكلية، ويحتمل أن يراد [إخلاص العمل لله]، لا لطلب الجاه [والتسلس]، وأن يراد ترك العجب، بأن لا يرى لنفسه منزلة رفيعة بأدائها، بل ينبغي أن يحقر نفسه كيلا يغتر فيتكبر. الحديث السابع عن عقبة: قوله: ((مقبل عليهما بقلبه ووجهه)) المراد بوجهه الذات، أي مقبلاً عليهما بظاهره وباطنه، مستغرقاً خاشعاً هائباً. ومعنى ((وجب)) هاهنا أن الله تعالي يدخله الجنة تفضلاً وتكرماً، بحيث لا يخالف وعده كمن وجب عليه شيء. و ((مقبل)) وجد بالرفع في الأصول، وفي بعض النسخ: ((مقبلاً)) منصوباً حالاً؛ وكونه مرفوعاً مشكل؛ لأنه إما صفة ((مسلم)) علي أن ((من)) زائدة، وفيه بعد للفواصل، وإما خبر مبتدأ محذوف، فيكون حالا، وفيه بعد أيضاً؛ لخلوه عن الواو والضمير، اللهم إلا أن يقال: إن المبتدأ المقدر كالملفوظ، فحينئذ يكون من قبيل: كلمته فوه إلي في، والوجه العربي أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، ويقال: هو فاعل ينازع فيه ((يقوم)) و ((يصلي)) علي سبيل التجريد، كقول [الشاعر]: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوى الغنائم أو يموت كريم أي أموت كريماً. فجعل الحال فاعلاً للفعل علي التجريد، وعليه قراءة عمير: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة} بالرفع، بمعنى فحصلت السماء وردة. فالمعنى يصلي مقبل متناه في إقباله، ملقى علي الركعتين بشراشره. ومنه قراءة من قرأ: {فهب لي من لدنك ولياً يرثني وارث من آل يعقوب}. الحديث الثامن عن عمر: قوله: ((ما منكم من أحد)) من الثانية زائدة، والأولي بيانية، والجار مجرور حال علي ضعف.

لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)) هكذا رواه مسلم في ((صحيحه)) والحميدي في ((أفراد مسلم))، وكذا ابن الأثير في ((جامع الأصول)). [289] وذكر الشيخ محيي الدين النووي في آخر حديث مسلم علي ما رويناه، وزاد الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)). والحديث الذي رواه محيي السنة في ((الصحاح)): ((من توضأ فأحسن الوضوء)) إلي آخره، رواه الترمذي في ((جامعه)) بعينه إلا كلمة ((أشهد)) قبل ((أن محمداً)). 290 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أشهد أن لا إله إلا الله)) القول بالشهادتين عقيب الوضوء إشارة إلي إخلاص العمل لله، وطهارة القلب من الشرك والرياء، بعد طهارة الأعضاء من الحدث والخبث ((مح)): يستحب أن يقال عقيب الوضوء كلمتا الشهادة، هذا متفق عليه. وينبغي أن يضم إليهما ما جاء في رواية الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) ويضم أيضاً ما رواه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة مرفوعاً: ((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك وأتوب إليك)). قال أصحابنا: وتستحب هذه الأذكار للمغتسل أيضاً. قوله: ((يدخل)) الأظهر أنها استئنافية؛ لصحة قيام ليدخل موقعها. الحديث التاسع عن أبي هريرة: قوله: ((يدعون)) ((غب)): الدعاء كالنداء، لكن النداء قد يقال إذا قيل: ((يا)) من غير أن يضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلان، وقد يستعمل كل واحد موضع الآخر، ويستعمل استعمال التسمية، نحو: دعوت ابني زيداً، أي سميته، ودعوته إذا سألته {ادع لنا ربك يبين لنا}، ودعوته إذا استغثته، {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون}. قوله: ((غراً محجلين)) ((شف)): الغر جمع الأغر، وهو الأبيض الوجه، والمحجل من الدواب التي قوائمها بيض، مأخوذ من الحجل، وهو القيد، كأنها مقيدة بالبياض، وأصل هذا في الخيل. ومعناه أنهم إذا دعوا علي رؤوس الأشهاد أو إلي الجنة كانوا علي هذه الشية.

291 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)). رواه مسلم. [291] ـــــــــــــــــــــــــــــ وانتصابهما علي الحال. ويحتمل أن يكون ((غراً)) مفعولاً ثانياً ليدعون، كما يقال: فلان يدعى ليثاً، فالمعنى أنهم يسمون بهذا الاسم لما يرى عليهم من آثار الوضوء. والمعنى هو الأول، يدل عليه قوله صلوات الله عليه: ((يأتون يوم القيامة غراً محجلين))؛ لأنهما العلامة الفارقة بين هذه الأمة وبين سائر الأمم. أقول: لا تبعد التسمية باعتبار الوصف الظاهر، كما يسمى رجل به حمرة بأحمر؛ للمناسبة بين الاسم والمسمى، وهو أظهر؛ لأن القصد هو الشهرة والتمييز في الأصل المستعار منه، وقد ضرب بهما مثلاً في المعاني، قال مروان بن أبي حفصة: تشابه يوماه علينا فأشكلا فما نحن ندري أي يوميه أفضل أيوم نداه الغمر أم يوم بأسه .... وما منهما إلا أغر محجل قوله: ((أن يطيل غرته)) أي غسل غرته، بأن يوصل الماء من فوق الغرة إلي تحت الحنك طولا، ومن الأذن إلي الأذن عرضاً. الحديث العاشر عن أبي هريرة: قوله: ((تبلغ الحلية من المؤمن)) ضمن ((تبلغ)) معنى تتمكن، وعدى بمن، أي تتمكن من المؤمن الحلية مبلغاً يتمكنه الوضوء منه. قال أبو عبيد: الحلية هاهنا التحجيل يوم القيامة من أثر الوضوء. ((مح)): وقد اعترض بعض الحفاظ من ذلك علي أبي عبيد، وقال: لو حمل علي قوله تعالي: {يحلون فيها من أساور} لكان أولي. وهو غير مستقيم، إذ لا مرابطة بين الحلية والحلي؛ لأن الحلية السيماء، والحلي التزين. ويمكن أن يجاب عنه بأنه مجاز عن ذلك. ((نه)): يقال: حليته أحليه تحلية إذا ألبسته الحلية، وجمعها حلي، كلحية ولحي، وربما ضم، وتطلق الحلية علي الصفة أيضاً. (مح) وقد استدلوا بالحديث علي أن [الوضوء] من خصائص هذه الأمة- زادها الله تعالي شرفاً وقال آخرون: ليس الوضوء مختصاً، وإنما المختص الغرة والتحجيل، واحتجوا بقوله صلوات الله عليه: ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي)). وأجيب بأنه حديث ضعيف معروف الضعف، ولو صح لاحتمل أن تكون الأنبياء اختصت بالوضوء دون أممهم إلا هذه الأمة.

الفصل الثاني 292 - عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ علي الوضوء إلا مؤمن)) رواه مالك، وأحمد وابن ماجه، والدارمي. [292] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن ثوبان: قوله: ((استقيموا)) ((قض)): الاستقامة اتباع الحق، والقيام بالعدل، وملازمة المنهج المستقيم. وذلك خطب عظيم، لا يتصدى لإحصائه إلا من استضاء قلبه بالأنوار القدسية، وتخلص عن الظلمات الإنسية، وأيده الله تعالي من عنده، وأسلم شيطانه بيده- وقليل ما هم- فأخبرهم بعد الأمر بذلك أنهم لا يقدرون علي إيفاء حقه، والبلوغ إلي غايته، كيلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا علي ما يأتون به، ولا ييأسوا من رحمة الله فيما يدرون عجزاً وقصوراً لا تقصيراً. وقيل: معناه ولن تحصوا ثوابه. ((غب)): الإحصاء التحصيل بالعد، يقال: أحصيت كذا، من لفظ الحصا، واستعمال ذلك فيها من حيث أنهم كانوا يعتمدونها بالعد، كاعتمادنا فيه علي الأصابع، قال الله تعالي: {وأحصى كل شيء عددا} أي حصله وأحاط به. ((مظ)): ((استقيموا)) أي الزموا الطريق المستقيم في الدين، من الإتيان بجميع المأمورات، والانتهاء عن جميع المناهي. وأقول- والله أعلم-: قوله: ((ولن تحصوا)) إخبار واعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، كما اعترض ((ولن)) تفعلوا)) بين الشرط والجزاء في قوله تعالي: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا} كأنه صلوات الله عليه لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جداً تداركه بقوله: ((لن تحصوا)) رحمة ورأفة من الله علي هذا الأمة المرحومة، كما قال تعالي: {فاتقوا الله ما استطعتم} بعد ما نزل: {اتقوا الله حق تقاته} أي واجب تقواه، وهو القيام بالواجبات،

293 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ علي طهر، كتب له عشر حسنات)). رواه الترمذي. [293] ـــــــــــــــــــــــــــــ واجتناب المحرمات. قال الكواشي: لما نزلت: {اتقوا الله حق تقاته} قالوا: يا رسول الله! من يقوى علي هذا؟ فنزل: {فاتقوا الله ما استطعتم} ثم نبههم صلوات الله عليه علي ما تيسر لهم من ذلك ولا يشق عليهم بقوله: ((واعلموا))، أي إن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها، وهي الصلاة التي هي جامعة لكل عبادة من القراءة، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والإمساك عن كلام الغير، والمفطرات، وهي معراج المؤمن، ومقربته إلي جناب الحضرة الأقدس، فالزموها، وأقيموا حدودها، لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان، فحافظوا عليها، فإنه لا يحافظ عليها إلا كل مؤمن تقي. وأيضاً في ذكر الصلاة إشارة إلي تطهير الباطن {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر}، وفي الوضوء إلي تطهير الظاهر، وإليه ينظر قوله تعالي: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} ومن ثمة خيرها علي سائر الأعمال؛ لأن محبة الله منتهي سؤال العارفين. وقوله: ((ولا يحافظ علي الوضوء)) جملة مذيلة، فالمراد بالمؤمن الجنس، والتنكير للتعظيم. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((من توضأ علي طهر)) ((حس)): تجديد الوضوء مستحب إذا كان قد صلي بالوضوء الأول صلاة، فريضة كانت أو تطوعاً، وكرهه قوم إذا لم تتقدم علي التجديد صلاة.

الفصل الثالث 294 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور)) رواه أحمد. [294] 295 - وعن شبيب بن أبي روح، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه. فلما صلي، قال: ((ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟! وإنما يلبس علينا القرآن أولئك)) رواه النسائي. [295] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر: قوله: ((مفتاح الجنة الصلاة)) جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة، كما جعل الوضوء مقدمة للصلاة، فكما لا تتأتى الصلاة بدون الوضوء، كذلك لا يتهيأ دخول الجنة بدون الصلاة. وفيه دليل لمن يكفر تارك الصلاة، وعلي أنها الفارقة بين الإيمان والكفر، ولغيره هو حث علي الصلاة وبعث عليها، وأنها مما لا يستغنى عنها قط. الحديث الثاني عن شبيب: قوله: ((لا يحسنون الطهور)) سبق بيان الإحسان في الوضوء في الفصل الأول. وفيه إشارة إلي أن السنن والآداب مكملات للواجبات ترجى بركتها، وفي فقدانها سد باب الفتوحات الغيبية، وأن بركتها تسري في الغير كما أن التقصير فيها يتعدى إلي حرمان الغير. ثم تأمل أيها الناظر في هذه الحالة! فإن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره إذا كان يتأثر من مثل تلك الهيئة، فكيف بالغير من صحبة أهل الأهواء، والبدع، والمعاشرة معهم- أعاذنا الله منها- وصحبة الصالحين علي عكس ذلك، كما ورد ((هم قوم لا يشقى بهم جليسهم)). الحديث الثالث عن رجل من بني سليم: قوله: ((عدهن)) هذا ضمير مبهم يفسره ما بعده،

296 - وعن رجل من بني سليم، قال: عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي- أو يده- قال: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. [296] 297 - وعن عبد الله الصنابحي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض، خرجت الخطايا من فيه. وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه. وإذا غسل وجهه، خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه. فإذا غسل يديه، خرجت الخطايا من تحت أظفار يديه. فإذا مسح برأسه، خرجت الخطايا. ـــــــــــــــــــــــــــــ كقوله تعالي: {فسواهن سبع سموات}، والمفسر قوله: ((التسبيح)) إلي آخره، جعل التحميد ضعف التسبيح؛ لأنه جامع لصفات الكمال من الثبوتية والسلبية، والتسبيح تنزيهه عن النقائض، فهو من السلبية. وقوله: ((في يدي)) أي أخذ أصابع يدي، وجعل يعقدها في الكف خمس مرات علي عدد الخصال، وقد سبق تفسيرها في الحديث الأول من هذا الباب. قوله: ((يملأ)) أي يملأ الثواب إن قدر جسماً، والتكبير نفي من الغير صفة الكبرياء والعظمة؛ لأن أفعل محمول علي المبالغة. والكبرياء مختص به تعالي فيمتلئ العارف عند ذلك هيبة وجلالاً، فلا ينظر إلي ما سواه. والله أعلم. الحديث الرابع عن عبد الله الصنابحي: قوله: ((وإذا استنثر)) خص الاستنثار لأن القصد خروج الخطايا، وهو مناسب للاستنثار؛ لأنه إخراج الماء من أقصى الأنف بعد الاستنشاق. و ((نافلة له)) أي زائدة علي تكفير السيئات، وهي رفع الدرجات؛ لأنها كفرت بالوضوء، والنفل الزيادة والفضل، ومنه قوله تعالي: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} وهو ولد الولد.

من رأسه حتى تخرج من أذنيه. فإذا غسل رجليه، خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من [تحت] أظفار رجليه. ثم كان مشيه إلي المسجد وصلاته نافلة له)). رواه مالك والنسائي. [297]. 298 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا)). قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)). فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((أرأيت لو أن رجلاً ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((المقبرة)): (مح) بضم الباء، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات، والكسر قليلة، والدار منصوب بالاختصاص أو [النداء]؛ لأنه مضاف، والمراد بالدار علي الوجهين الجماعة والأهل. ويحتمل علي الأول المنزل. والاستثناء بقوله: ((إن شاء الله)) - مع أن الموت لا شك فيه- للعلماء فيه أقوال، والأظهر أنه وارد علي التبرك كما في قوله تعالي: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين}. وقال الخطابي وغيره: إن ذلك من عادة من يحسن الكلام به، وقال أيضاً: في الحديث أن السلام علي الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام علي (عليكم). والثالث أن الاستثناء عائد إلي اللحوق بالمكان المتبرك؛ لأنه مشكوك فيه. و ((وددت)) تمنى رؤيتهم في الحياة، وقيل: بعد الموت. ((وأنتم أصحابي)) ليس نفياً لأخوتهم، ولكن ذكره مزية لهم بالصحبة علي الأخوة، فهم إخوة وصحابة، واللاحقون إخوة فحسب، قال تعالي: {إنما المؤمنون إخوة}. أقول: ولعل الظاهر أن يحمل علي اللاحقين بعد حياته صلوات الله عليه. فإن قلت: فأي اتصال لهذه الودادة بذكر أصحاب القبور؟ قلت: عند تصور السابقين يتصور اللاحقون، أو كوشف له صلوات الله عليه عالم الأرواح [فشاهد الأرواح] المجندة السابقين منهم واللاحقين. وسؤالهم بقولهم: ((كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟)) أي في المحشر، مبني

له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟)) قالوا: بلي، يا رسول الله! قال: ((فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم علي الحوض)) رواه مسلم. [298] 299 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلي ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك وعن شمالي ـــــــــــــــــــــــــــــ علي أنك تمنيت رؤيتهم في الدنيا، وإنما يتمنى ما لم يمكن حصوله، فإذن كيف تعرفهم في الآخرة؟ وإنما حملناه علي الآخرة ليطابق قوله: ((غر محجلة)) لظهورهما حينئذ. والظهر في ((بين ظهري خيل)) مقحم. ((نه)): ومنه ((فأقاموا بين ظهرانيهم)) أي أقاموا بينهم علي سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، ومعناه أن ظهراً منهم قدامه، وظهراً وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقاً. قوله: ((بهم)) قيل: هي السود، وقيل: البهيم الذي لا يخالط لونه لوناً سواه، قرنه بالدهم تأكيداً للسواد. قوله: ((أرأيت لو أن رجلاً)) ((رجلاً)) اسم ((أن)) علي تأويل رجلاً ما من الرجال، وما بعده خبر له، وجواب ((لو)) ((لا يعرف))، وهمزة التقرير مقحمة مؤكدة للتي سبقت؛ لأن معنى أرأيت أخبرني. قوله: ((وأنا فرطهم)) أي متقدمهم إلي حوضي في المحشر، يقال: فرط يفرط فهو فارط، إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء، ويهيئ لهم الدلاء والأرشية. الحديث السادس عن أبي الدرداء: قوله: ((وأنا أول من يؤذن له- إلي قوله- أن يرفع رأسه)) إشارة إلي مقام الشفاعة كما ورد في قوله: ((فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجداً- إلي قوله- فيقول لي: ارفع محمد)) الحديث. وقوله: ((تعرف)) بمعنى تميز؛ ليستقيم تعلق ((من)) به، أي كيف تميز أمتك من بين سائر الأمم؟ ((وفيما بين نوح)) حال من ((الأمم)) كالبيان له، أي الأمم كائنة فيما بين نوح، ولو قيل: هو ظرف لـ ((تعرف)) لرجع المعنى كيف تعرف أمتك فيما بين نوح، ولم يكن لقوله: ((من الأمم)) معنى. وإنما خص ذكر نوح والأنبياء قبله قد بعثوا، لشهرته أو للتغليب، كما في قوله تعالي: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية. و ((إلي)) في قوله: ((إلي أمتك)) للانتهاء، أي مبتدئاً من نوح منتهياً إلي أمتك.

(1) باب ما يوجب الوضوء

مثل ذلك)). فقال رجل: يا رسول الله! كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلي أمتك؟ قال: ((هم غر محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم)) رواه أحمد. [299] (1) باب ما يوجب الوضوء الفصل الأول 300 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) متفق عليه. 301 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) رواه مسلم. [301] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يؤتون كتبهم بأيمانهم)) وقوله: ((تسعى بين أيديهم ذريتهم)) لم يأت بالوصفين تفضلة وتمييزاً كالأول، بل أتى بهما مدحاً لأمته، وابتهاجاً بما أوتوا من الكرامة والفضيلة. باب ما يوجب الوضوء الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((لا تقبل صلاة من أحدث)) ((مظ)): المعنى لا يقبل الله صلاة بغير الوضوء، إلا إذا لم يجد الماء ووجد التراب، فيقوم التيمم مقام الوضوء، وإن لم يجدهما يصلي فرض الوقت لحرمة الوقت، ثم إن مات قبل وجدان الماء والتراب لم يأثم، وإن وجدهما يقضي. أقول: ((حتى يتوضأ)) غاية قوله: ((لا تقبل))، والضمير في ((يتوضأ)) للمحدث، سماه محدثاً وإن كان طاهراً باعتبار ما كان، كقوله تعالي: {وآتوا اليتامى أموالهم}. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((من غلول)) الغلول الخيانة من الغنيمة والمراد هنا الحرام، قرن عدم قبول الصدقة من الحرام بعدم قبول الصلاة دون الوضوء إيذاناً بأن

302 - وعن علي، قال: كنت رجلاً مذاء، فكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ)). متفق عليه. 303 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توضأوا مما مست النار)) رواه مسلم. [303] قال الشيخ الإمام الأجل محيي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ بحديث ابن عباس: ـــــــــــــــــــــــــــــ التصدق تزكية النفس من الأوضار، وطهارة لها، كما أن الوضوء كذلك، ومن ثم صرح بلفظ الطهور، وهو المبالغة في الطهر. الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((مذاء)) ((قض)): المذاء كثير المذي من: أمذى، وللشافعي قولان فيما إذا خرج من أحد السبيلين خارج غير معتاد، كالدم والمذي: أحدهما أنه يتعين غسله، ولا يجوز الاقتصار علي الحجر لندوره، وخصوصاً في المذي للزوجته وانتشاره. ويعضده ظاهر الحديث. والثاني جواز الاقتصار نظراً إلي المخرج، والمراد من الأمر بالغسل لتتقلص عروقه، وينقطع المذي. ((تو)): وإنما استحى من سؤال النبي صلوات الله عليه لمكان فاطمة رضي الله عنها منه، ولأن ما يستحى منه من الأوطار النفسإنية والتأثيرات الشهوإنية مما لا يكاد يفصح به أولو الأحلام، وخاصة بحضرة الأكابر. وإنما أمر بالغسل لاحتمال أنهم كانوا لا يتنزهون عن المذي تنزههم عن البول، ولا يرونه بمثابة البول في وجوب التطهر منه، فأمرهم صلوات الله عليه بالغسل، وفيه دليل علي نجاسته. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((توضؤوا)) ((قض)): الوضوء في أصل اللغة هو غسل بعض الأعضاء وتنظيفه، من الوضاءة بمعنى النظافة، والشرع نقله إلي الفعل المخصوص وقد جاء هاهنا علي أصله والمراد منه وفي نظائره غسل اليدين لإزالة الزهومة توفيقاً بينه وبين حديث ابن عباس وأم سلمة ونحوهما. ومنهم من حمله علي المعنى الشرعي، وزعم أنه منسوخ بحديث ابن عباس، وذلك إنما يتقرر أن لو علم تاريخهما، وتقدم الأول. لا يقال: ابن عباس متأخر الصحبة فيكون حديثه ناسخاً، لأنا نقول: تأخر الصحبة وحده لا يقتضي تأخر الحديث، نعم! لو كانت صحبته بعد وفاة الآخر أو غيبته دل ذلك علي تأخره، أما لو اجتمعنا عند الرسول صلوات الله عليه فلا، لجواز أن يسمع الأقدم صحبة بعد سماعه.

304 - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلي ولم يتوضأ متفق عليه. 305 - وعن جابر بن سمرة، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: ((إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ)). قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: ((نعم! فتوضأ من لحوم الإبل)). قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم)). قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) رواه مسلم [305] 306 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) رواه مسلم. [306] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: وقد صرح ابن الصلاح في كتابه بالنسخ، حيث قال: مما يعرف به النسخ قول الصحابي: ((كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار)). الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((أنتوضأ من لحوم الإبل؟)) ((مظ)): الوضوء من أكل لحم الإبل واجب عند أحمد بن حنبل، وعند غيره المراد منه غسل الكفين؛ لما في لحم الإبل من رائحة كريهة، ودسومة غليظة، بخلاف لحم الغنم ((والمرابض)) جمع مربض- بفتح الميم وكسر الباء- وهو موضع الربوض، والربوض للغنم كالاضطجاع للإنسان، وكالبروك للجمل. وكره الصلاة في مبارك الإبل لما لا يؤمن نفورها، فيلحق المصلي ضرر من صدمة وغيرها، فلا يكون له حضور. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((حتى يسمع)) ((حس)): معناه حتى يتيقن الحدث، لا أن سماع الصوت أو وجود الريح شرط؛ [فإنه قد يكون أصم لا يسمع الصوت] وقد يكون أخشم لا يجد الريح. وينتقض طهره إذا تيقن الحدث. قال الإمام: في الحديث دليل علي أن الريح الخارجة من أحد السبيلين توجب الوضوء. وقال أصحاب أبي حنيفة: خروج الريح من القبل لا يوجب الوضوء. وفيه دليل علي أن اليقين لا يزول بالشك في شيء من أمر الشرع، وهو قول عامة أهل العلم.

307 - وعن عبد الله بن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فمضمض، وقال: ((إن له دسماً)) متفق عليه. 308 - وعن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح علي خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه! فقال: ((عمداً صنعته يا عمر!)) رواه مسلم. 309 - وعن سويد بن النعمان: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء- وهي من أدنى خيبر- صلي العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا، ثم قام إلي المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلي ولم يتوضأ. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فلا يخرجن من المسجد)) أقول: يوهم أن حكم غير المسجد بخلاف المسجد، لكن أشير به إلي أن الأصل أن يصلي المؤمن التقي في المسجد؛ لأنه مكان الصلاة ومعدنها، وكأن من هو خارج منه خارج من حكم المصلي مبالغة، فعلي المؤمن ملازمته، والمواظبة علي إقامة الصلوات مع الجماعات. والله أعلم. الحديث السابع عن عبد الله بن عباس: قوله: ((إن له دسماً)) الجملة استئنافية، تعليل للتمضمض، وفيها إشعار بأن الدسومة علة مناسبة له، وقيل: المضمضة بالماء مستحبة عن كل ماله دسومة؛ إذ تبقى في الفم منه بقية تصل إلي [بطنه] في الصلاة، فعلي هذا ينبغي أن يمضمض من كل ما خيف منه الوصول إلي بطنه في الصلاة طرداً للعلة، ويؤيده حديث السويق كما سيجيء. الحديث الثامن عن بريدة: قوله: ((عمداً صنعته)) الضمير المنصوب فيه بمعنى اسم الإشارة، والمشار إليه المذكور في الصلوات الخمس بوضوء واحد، والمسح علي الخفين. ((وعمداً)) تمييز أو حال من الفاعل، قدم اهتماماً بشرعية المسألتين في الدين، أو اختصاصاً رداً لزعم من لا يرى جواز المسح علي الخفين. وفيه دليل علي أن من قدر أن يصلي صلوات كثيرة بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يغلب عليه الأخبثان. الحديث التاسع عن سويد: قوله: ((ثرى)) أي بل مأخوذ من الثرى- التراب الندي الذي تحت التراب الطاهر، يقال: ثرى التراب تثرية إذا رش عليه الماء. و ((السويق)) ما [يجرش] من الشعير والحنطة وغيرهما للزاد.

الفصل الثاني 310 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا وضوء إلا من صوت أو ريح)). رواه أحمد، والترمذي [310]. 311 - وعن علي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي، فقال: ((من المذي الوضوء، ومن المني الغسل)) رواه الترمذي [311]. 312 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) رواه أبو داود، والترمذي، والدارمي [312]. 313 - ورواه ابن ماجه عنه وعن أبي سعيد. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((لا وضوء إلا من صوت)) نفي جنس أسباب التوضؤ، واستثنى منه الصوت والريح، والنواقض كثيرة، لعل ذلك في صورة مخصوصة، فالمراد نفي جنس الشك وإثبات اليقين، أي لا يتوضأ عن شك مع سبق ظن الطهارة إلا بيقين الصوت والريح. الحديث الثاني ظاهر. الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وتحريمها التكبير)) ((مظ)): سمى الدخول في الصلاة تحريماً، لأنه يحرم الكلام، والأكل، والشرب، وغيرها علي المصلي، فلا يجوز الدخول في الصلاة إلا بالتكبير مقارناً به النية. والتحليل جعل الشيء المحرم حلالا، وسمى التسليم به لتحليل ما كان محرماً علي المصلي؛ لخروجه عن الصلاة، وهو واجب عند الشافعي، مستحب عند أبي حنيفة رضي الله عنهما؛ إذ لو خرج من الصلاة بما يناقضها بعد ما جلس في آخر الصلاة بقدر التشهد تمت. وأقول: شبه الشروع في الصلاة بالدخول في تحريم الملك الكريم المحمي عن الأغيار، وجعل فتح باب الحرم بالتطهر عن الأدناس والأوضار، وجعل الالتفات إلي الغير والاشتغال به تحليلاً، تنبيهاً علي التكميل بعد الكمال، والله أعلم.

314 - وعن علي بن طلق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن)). رواه الترمذي، وأبو داود. [314] 315 - وعن معاوية بن أبي سفيان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما العينان وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء)) رواه الدارمي. [315] 316 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ)). رواه أبو داود [316] قال الشيخ الإمام محيي السنة، رحمه الله: هذا في غير القاعد، لما صح: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن علي بن طلق: قوله: ((إذا فسا أحدكم)) فإن قلت: ما وجه اتصال هاتين الهنتين؟ قلت: لعل ذلك أن الله تعالي إذا لم يجوز للعبد المؤمن هذا القدر من الهنات، ومنعه من التقرب إليه بسببها- فما ظنك بتلك العظيمة الشنعاء؟ ومن ثمة جعل {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} معترضاً بين المفسر وهو قوله تعالي: {نساؤكم حرث لكم} والمفسر وهو قوله: {فأتوهن من حيث أمركم الله}. الحديث الخامس عن معاوية: قوله: ((إنما العينان)) أي العينان كالوكاء للسه، شبه عين الإنسان وجوفه ودبره بقربة لها فم مشدود بالخيط، وشبه ما يطلقه من الغفلة عند النوم بحل ذلك الخيط من فم القربة، وفيه تصوير لقبح صدور هذه الغفلة من الإنسان. ((قض)): ((الوكاء)) ما يشد به الشيء، و ((السه)) الدبر، وأصله السته، لجمعه علي استاه، وتصغيره علي ستيهة، والمعنى أن الإنسان إذا تيقظ أمسك ما في بطنه، فإذا نام زال اختياره، واسترخت مفاصله، فلعله يخرج منها ما ينقض طهره. وذلك إشارة إلي أن نقض الطهارة بالنوم وسائر ما يزيل العقل ليس لأنفسها، بل لأنها مظنة خروج ما ينتقض الطهر به، ولذلك خص عنه نوم ممكن المقعد من الأرض. الحديث السادس عن علي ظاهر.

317 - عن أنس، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون. رواه أبو داود، والترمذي، إلا أنه ذكر فيه: ينامون. بدل: ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم. [317] 318 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الوضوء علي من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله)) رواه الترمذي وأبو داود. [318] 319 - وعن بسرة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مس أحدكم ذكره، فليتوضأ)) رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [319] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أنس: قوله: ((حتى تخفق)) ((فا)): الخفقة النعسة الخفيفة، وفي الغريبين: معنى تخفق رءوسهم أي تسقط أذقانهم علي صدورهم. وقيل: هو من الخفوق والاضطراب. الحديث الثامن عن ابن عباس ظاهر. الحديث التاسع عن بسرة: قوله: ((إذا مس أحدكم ذكره)) ((تو)) قيل: ما روى طلق: أن النبي

320 - وعن طلق بن علي، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. قال: ((وهل هو إلا بضعة منه؟)) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وروى ابن ماجه نحوه. قال الشيخ الإمام محيي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم طلق. [320] 321 - وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا أفضى أحدكم بيده ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر فقال: ((هل هو إلا بضعة منك)) منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم طلق، وذلك أن طلقاً قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجد المدينة، وذلك في السنة الأولي من الهجرة، وأسلم أبو هريرة عام خيبر في السنة السابعة. وقال: ادعاء النسخ فيه قول مبني علي الاحتمال، وهو خارج عن الاحتياط، إلا أن يثبت هذا القائل أن طلقا توفي قبل إسلام أبي هريرة، أو رجع إلي أرضه ولم يبق له صحبة بعد ذلك، وما يدري هذا القائل أن طلقا سمع هذا الحديث بعد إسلام أبي هريرة؟. وذكر الخطابي أن أحمد بن حنبل كان يرى الوضوء من مس الذكر، وكان ابن معين يرى خلاف ذلك، وفي ذلك دليل ظاهر علي أن لا سبيل إلي معرفة الناسخ والمنسوخ منهما. وأقول: فإذن الأخذ بالأحوط أولي. ((مظ)): قال محيي السنة في حديث طلق: إنه منسوخ، هو قول الخطابي، وعلي تقدير تعارضهما نعود إلي قول الصحابة. قال علي وابن مسعود، وابن عباس، وأبو الدرداء، وعمار رضي الله عنهم: إن المس لا يبطل، وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال عمر، وابنه، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم: إنه يبطل، وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه. الحديث العاشر عن أبي هريرة: قوله: ((إذا أفضى)) أوصل، وهو لازم عدى بالباء، و ((البضعة)) قطعة من اللحم. الحديث الحادي عشر عن عائشة: قوله: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه)) ((خط)): يحتج به من يذهب إلي أن الملامسة المذكورة في الآية معناها الجماع دون اللمس بسائر البدن، إلا أن أبا داود ضعفه، وقال: هو منقطع؛ لأن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، والمرسل أن يروي

إلى ذكره ليس بينه وبينها شيء فليتوضأ)) رواه الشافعي والدارقطني. [321] 322 - ورواه النسائي عن بسرة؛ إلا أنه لم يذكر: ((ليس بينه وبينها شيء)). 323 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: لا يصح عند أصحابنا بحال إسناد عروة عن عائشة، وأيضاً إسناد إبراهيم التيمي عنها. وقال أبو داود: هذا مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة. [323] 324 - وعن ابن عباس، قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفاً ثم مسح يده بمسح كان تحته، ثم قام فصلي. رواه أبو داود، وابن ماجه. [324] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل حديثاً عمن لم يعاصره. وهو بين المحدثين علي أنواع، واصطلحوا في تسمية أنواعه، فمنه المرسل المطلق، وهو أن يقول التابعي: قال رسول الله كذا، ومنه قسم يسمى بالمنقطع، وهو غير الأول، ومنه قسم يسمى بالمعضل، وهو أن يكون بين المرسل إلي رسول الله أكثر من رجل. ((مظ)): اختلف العلماء في المسألة: قال أبو حنيفة: المس لا يبطل بدليل هذا الحديث، وقال الشافعي وأحمد: يبطل بلمس الأجنبيات، وهذا القول مروي عن عبد الله بن عمر، وابن مسعود. وعند مالك يبطل بالشهوة وإلا فلا. الحديث الثاني عشر عن ابن عباس: قوله: ((بمسح)) وهو بكسر الميم الكساء والجمع أمساح، ومسوح. وفيه دليل علي أن كل ما مسته النار لا يبطل الوضوء وكذا الذي يليه.

325 - وعن أم سلمة، أنها قالت: قربت إلي النبي صلى الله عليه وسلم جنباً مشوياً فأكل منه، ثم قام إلي الصلاة ولم يتوضأ، رواه أحمد. [325] الفصل الثالث 326 - وعن أبي رافع، قال: أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة، ثم صلي ولم يتوضأ. رواه مسلم. 327 - وعنه قال: أهديت له شاة، فجعلها في القدر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما هذا يا أبا رافع؟)) فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله! فطبختها في القدر. قال: ((ناولني الذراع يا أبا رافع!))، فناولته الذراع. ثم قال: ((ناولني الذراع الآخر))، فناولته الذراع الآخر. ثم قال: ((ناولني الآخر)). فقال: يا رسول الله! إنما للشاة ذراعان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك لو سكت لناولتني ذراعاً فذراعاً ما سكت)). ثم دعا بماء فتمضمض فاه، وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلي، ثم عاد إليهم فوجد عندهم لحماً بارداً، فأكل، ثم دخل المسجد فصلي ولم يمس ماء. رواه أحمد. [327]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أم سلمة ظاهر. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي رافع: قوله: ((بطن الشاة)) يعني الكبد وما معها من القلب وغيرهما. قوله: ((أشهد)) فيه معنى القسم، ولهذا أدخل اللام علي ((قد)) جواباً له، أي والله لقد كنت أشوي، وفيه دلالة علي إثبات هذه الدعوى عند الخلاف فيها بين الصحابة، وإنما ضمن الشهادة معنى القسم لأن الشهادة إخبار عن مواطأة القلب اللسان واعتقاد ثبوت المدعي. الحديث الثاني عن أبي رافع: قوله: ((ذراعاً فذراعاً)) الفاء فيه للتعاقب كما في قوله: ((الأمثل

328 - ورواه الدارمي عن أبي عبيد إلا أنه لم يذكر ((ثم دعا بماء)) إلي آخره. [328] 329 - وعن أنس بن مالك، قال: كنت أنا وأبي وأبو طلحة جلوساً، فأكلنا لحماً وخبزاً، ثم دعوت بوضوء، فقالا: لم تتوضأ؟ فقلت: لهذا الطعام الذي أكلنا. فقالا: أتتوضأ من الطيبات؟! لم يتوضأ منه من هو خير منك. رواه أحمد. [329] 330 - وعن ابن عمر، كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة. ومن قبل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء. رواه مالك والشافعي. [330] 331 - وعن ابن مسعود، كان يقول: من قبلة الرجل امرأته الوضوء. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالأمثل)) و ((ما)) في ((ما سكت)) للمدة، المعنى ناولني، ذراعاً غب ذراع إلي ما لا نهاية له ما دمت ساكتاً، فلما نطقت انقطعت. الحديث الثالث والرابع عن ابن عمر: قوله: ((وجسها)) ((نه)): التجسس التفتيش عن بواطن الأمور، وقوله: ((من الملامسة)) أي التي ذكرها الله تعالي في قوله سبحانه: {أو لامستم النساء}. وقوله: ((ومن قبل)) إلي آخره، تفريع علي ما أصله من قبل، أي إذا كان التقبيل والجس من جملة الملامسة المنصوص عليها فيلزم أن يتوضأ من قبل أو جس. ولو كان بدل الواو في ((ومن قبل)) فاء لكان أظهر، إلا أن الرواية أفصح؛ لأنه أخبر عن القضيتين، وفوض الترتيب إلي ذهن السامع. الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((من قبلة الرجل)) أي يجب منها الوضوء، وفي تقديم الخبر علي المبتدأ المعرف إشعار بالخلاف، ورد علي من يقول: ليس حكم التقبيل والجس حكم سائر النواقض، فرد وقيل: ليس حكمه إلا كحكم تلك النواقض، فيكون من قصر القلب.

(2) باب آداب الخلاء

332 - وعن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: إن القبلة من اللمس، فتوضؤوا منها. [332]. 333 - وعن عمر بن عبد العزيز، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوضوء من كل دم سائل)). رواهما الدارقطني، وقال: عمر بن عبد العزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد، ويزيد بن محمد مجهولان. [333] (2) باب آداب الخلاء الفصل الأول 334 - عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)). متفق عليه. قال الشيخ الإمام محيي السنة، رحمه الله: هذا الحديث في الصحراء؛ وأما في البنيان، فلا بأس لما روى: ـــــــــــــــــــــــــــــ باب [آداب] الخلاء الفصل الأول الحديث الأول عن أبي أيوب: قوله: ((إذا أتيتم الغائط)) [نه]: الغائط المطمئن من الأرض، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة الغائط؛ لأن العادة أن يقضى في المنخفض؛ لأنه أستر له، ثم اتسع فيه حتى صار يطلق علي النجو نفسه، أي البراز. قوله: ((ولكن شرقوا)) ((مظ)): عند الشافعي استقبال القبلة واستدبارها غير محرم في البنيان، وعند أبي حنيفة يستوي الصحراء والبنيان في تحريم استقبال القبلة واستدبارها. ((حس)): في الحديث من الفقه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، واختلف أهل العلم، فذهب جماعة إلي تعميم النهي، والتسوية في الصحراء والبنيان، وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: ((شرقوا أو غربوا)) هذا خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته علي ذاك السمت، فأما من كانت قبلته إلي جهة المشرق أو المغرب فإنه ينحرف إلي الجنوب أو الشمال. وذهب جماعة من أهل العلم إلي أن النهي عن الاستقبال والاستدبار في الصحراء، فأما في البنيان فلا بأس بهما، وبه قال

335 - عن عبد الله بن عمر، قال: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام- متفق عليه. 336 - وعن سلمان، قال: نهانا- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم. 337 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي وجماعة؛ لأن الصحراء لا تخلو عن مصل من ملك، أو إنسي، أو جني، فإذا قعد مستقبل القبلة أو مستدبرها ربما يع بصر مصل علي عورته، ونهي عن ذلك، وهذا المعنى مأمون في الأبنية، فإن الحشوش محضرة الشياطين. الحديث الثاني عن سلمان: قوله: ((أو أن نستنجي)) ((فا)): الاستنجاء قطع النجاسة، من: نجوت الشجرة، وأنجاها واستنجاها، إذا قطعها من الأرض. و ((رجيع)) فعيل بمعنى مفعول، والمراد الروث أو العذرة؛ لأنه رجع أي رد من حال إلي أخرى، وكل مردود رجيع ((مظ)) النهي عن الاستنجاء نهي تنزيه وكراهة لا تحريم والاستنجاء بثلاثة أحجار واجب عند الشافعي وإن حصل النقاء بأقل منها، وعند أبي حنيفة النقاء متعين لا العدد ((خط)): سمى الرجيع رجيعاً لرجوعه عن حال الطهارة إلي النجاسة. وقال: لا يجوز الاستنجاء بعظم ميتة أو مذكاة، قيل: علة النهي لملاسة العظم، فلا يزيل النجاسة، وقيل: علته أنه يمكن مصه أو مضغه عند الحاجة، وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العظم زاد إخوانكم من الجن)). الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((من الخبث)) ((حس)): الخبث- بضم الباء- جمع الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم. ويروى بسكون الباء، ويراد به الكفر، والخبائث الشياطين. وخص الخلاء لأن الشياطين تحضر الأخلية؛ لأنها يهجر فيها ذكر الله، وذكر هذا في الغريبين أيضاً. ((تو)): ((الخبث)) ساكنة الباء، فإنه مصدر خبث الشيء يخبث خبثاً. وفي إيراد الخطابي هذا اللفظ في جملة الألفاظ التي يرويها الرواة ملحونة نظر؛ لأن الخبيث إذا جمع يجوز أن تسكن الباء للتخفيف، كما يفعل في سبيل وسُبُل وسُبْل، ونظائرها من الجموع، وهذا الباب مستفيض في كلامهم غير نادر، ولا يسع أحداً مخالفته، إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولي؛ لئلا تشتبه بالخبث الذي هو المصدر.

338 - وعن ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول- وفي رواية لمسلم: لا يستنزه من البول-؛ وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها بنصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ فقال: ((لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((وما يعذبان في كبير)) ((حس)): معناه أنهما لا يعذبان في أمر يشق ويكبر عليهما الاحتراز عنه، فإنه لم يشق عليهما الاستتار عند البول، وترك النميمة، ولم يرد أن الأمر فيهما هين غير كبير في أمر الدين. ((نه)): وكيف لا يكون كبيرة وهما يعذبان فيه؟ قوله: ((لا يستتر)) روى في شرح السنة هذا الحديث في باب الاستتار عند قضاء الحاجة وقال: قال عبد الواحد الأعمش: ((كان لا [يستتر] من البول))، وفي رواية أخرى: [((وكان لا يستنتر))] وروى بعضهم: ((لم يكن يستنزه))، والاستنتار من البول كالاجتذاب مرة بعد أخرى، يعني الاستبراء، والنتر الجذب بالعنف. ((شف)): في الغريبين وفي الفائق والنهاية: يستنثر من البول بنون بين التائين من الاستنتار، ورووا هذا الحديث في باب النون مع التاء، وفي الغريبين: الاستنتار كالاجتذاب مرة بعد أخرى، يعني الاستبراء. قال الليث: النتر جذب فيه جفوة، هذا هو الذي يساعد عليه المعنى لا الاستتار، وعليه كلام الشيخ محيي الدين كما سيجيء [إيفاء]. ((فا)): الجريدة السعفة التي جردت عنها الخوص أي قشرته، وكل شيء قشرته عن شيء فقد جردته. وقوله: ((لعله أن يخفف)) شبه لعل بعسى، وأتى بأن في خبره، قال المالكي: الرواية يخفف عنها علي التوحيد والتإنيث وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في ((لعله)) و ((عنها)) إلي الميت باعتبار كونه إنساناً وكونه نفساً. ويجوز كون الهاء في ((لعله)) ضمير الشأن، وفي ((عنها)) للنفس، وجاز تفسير الشأن بأن وصلتها، مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنها في حكم جملة لاشتمالها علي مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مطلوبي حسب وعسى، في نحو: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} وفي: {وعسى أن تكرهوا شيئاً}. ويجوز في قول الأخفش أن تكون ((أن)) زائدة مع كونها ناصبة كزيادة البار ومن، مع كونهما جارتين. ومن تفسير ضمير الشأن وصلتها: قول عمر- رضي الله عنه- ((فما هو إلا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت وحتى ما تقلني رجلاي)).

ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: لعل الظاهر أن يكون الضمير مبهماً يفسره ما بعده، كما في قوله تعالي: {ما هي إلا حياتنا الدنيا}. قال صاحب الكشاف: هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأن الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت. والرواية بتثنية الضمير في ((عنهما)) لا تستدعي إلا هذا التأويل. ((مح)): ((بنصفين)) حال، والباء زائدة للتأكيد. وأما وضعه صلى الله عليه وسلم الجريدتين علي القبر فقال العلماء: هو محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم سأل الشفاعة لهما فأجيب بالتخفيف عنهما إلي أن ييبسا. وقد ذكر مسلم في آخر الكتاب في الحديث الطويل حديث جابر: ((أن صاحبي القبرين أجيبت شفاعتي [فيهما])) أي برفع] ذلك عنهما ما دام القضيبان رطبين. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهما تلك المدة. وقيل: لكونهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، كذا مذهب كثيرين أو الأكثرين من المفسرين في قوله تعالي: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قالوا: معناه وإن من شيء حي. ثم قالوا: معناه: وإن من شيء حي. ثم قالوا: حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلي أنه علي عمومه، ثم اختلفوا هل يسبح حقيقة أم في دلالة علي الصانع، فيكون مسبحاً منزهاً بصورة حالية؟ والمحققون علي أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله تعالي عنه في قوله: {وإن منها لما يهبط من خشية الله}. وإذا كان العقل لا يحيل التمييز فيها، وجاء النص به وجب المصير إليه. واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث؛ لأنه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريد فبتلاوة القرآن أولي، وقد ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان. ففيه أنه رضي الله عنه تبرك بفعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر الخطابي ما يفعله الناس علي القبور من الأخواص ونحوها متعلقين بهذا الحديث، وقال: لا أصل له، ولا وجه له. وأما فقه الباب ففيه إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل الحق، وفيه نجاسة الأبوال. وفي الرواية الثانية: ((لا يستنزه من البول)) وهو غلط. وفيه تحريم النميمة؛ لأن المشي بالنميمة والسعي بالفساد من أقبح القبائح، لاسيما مع قوله صلى الله عليه وسلم ((كان يمشي)) بلفظ ((كان)) لتي للحالة المستمرة غالباً. وفيه أيضاً أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة بلا شك. أقول: وممكن أن يقال: إن معرفة الحكمة من كونها ما داما رطبين يمنعان العذاب كمعرفة عدد الزبإنية في أنه تعالي هو المختص بها.

339 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا اللاعنين)). قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلي في طريق الناس أو في ظلهم)). رواه مسلم. [339] 340 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه)). متفق عليه. 341 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((اتقوا اللاعنين)) ((حس)): معناه اتقوا الأمرين الجاليين اللعن، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم. وفي حديث آخر في هذا الباب ((اتقوا الملاعن الثلاث)) وهي جمع ملعنة، وهي الفعلة التي تلعن فاعلها، كأنها مظنة اللعن ومعلمة له، كما يقال: ((الولد مبخلة مجبنة)) وأرض مأسدة. قوله: ((الذي يتخلي)) المضاف محذوف أي تخلي الذي يتخلي أو عبر عن الفعل بفاعله، والمراد من ظلهم ما اختاروه نادياً ومقبلا. الحديث السادس عن أبي قتادة: قوله: ((فلا يتنفس في الإناء)) لعل علة النهي تغير ما في الإناء به، ((ولا يتمسح)) أي لا [يستنجي]. فإن قيل: كيف يستنجي بالحجر، فإن أخذه بشماله والذكر بيمينه فقد مس ذكره، وهو منهي عنه، وكذلك العكس؟ قلنا: طريقه أن يأخذ الذكر بشماله، ويمسحه علي جدار أو حجر كبير بحيث لا يستعمل يمينه، لا في أخذ الذكر، ولا في الحجر، كذا في المظهر والأشرف. وأقول: من دخل الخلاء الأغلب أن يبتلي بما يخرج من السبيلين، فيكون النهي بمسح اليمين أي الاستنجاء بها مختصاً بالدبر، ونهي المس مختصاً بالقبل، ويعلم منه [أنه] إذا أخذ الحجر باليمين، ومسح بشماله ذكره عليه لم يكره. الحديث السابع عن أبي هريرة: قوله: ((فليستنثر)) مضى شرحه. ((استجمر)) أي تمسح بالأحجار الصغار، والإيتار أن يتحراه وتراً ثلاثاً أو خمساً.

342 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي بالماء)). متفق عليه الفصل الثاني 343 - عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أبو داود: هذا حديث منكر. وفي روايته: وضع بدل: نزع. 344 - وعن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. رواه أبو داود [344] 345 - وعن أبي موسى، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أنس: قوله: ((يدخل الخلاء)) الخلاء ممدود المتوضأ، لخلو الإنسان فيه، والإداوة المطهرة، والعنزة أطول من العصا وأقصر من الرمح فيها سنان، وحملها لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعد بحيث لا يراه الناس دفعاً لضرر وغائلة، ولنبش الأرض الصلبة لئلا يرتد البول. و ((يستنجي بالماء)) أي يزيل النجوة والعذرة به، والنجوة ما ارتفع من الأرض، جعل كناية عن الحدث؛ لأن صاحب الحاجة يتستر بها، كما جعل الغائط- وهو المطمئن من الأرض- كناية عنه. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس: قوله: ((نزع خاتمه)) وذلك لما كان عليه: ((محمد رسول الله)) وفيه دليل علي وجوب تنحيه المستنجي اسم الله، واسم رسوله، والقرآن. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((البراز)) ((تو)): هو- بفتح الباء- اسم للفضاء الواسع، كنوا به عن حاجة الإنسان، يقال: ((تبرز)) إذا تغوط، وهما كنايتان حسنتان، يتعففون عما يفحش ذكره، صيانة للألسنة عما تصان عنه الأبصار. وكسر الباء فيه غلط؛ لأن البراز- بالكسر- مصدر: بارز في الحرب. الحديث الثالث عن أبي موسى: قوله: ((أتى دمثاً)) ((فا)): دمث المكان دمثاً إذا لان وسهل. ((شف)): الارتياد افتعال من الردود، كالابتغاء من البغي، ومنه الرائد طالب المرعى،

فأراد أن يبول، فأتى دمثاً في أصل جدار، فبال. ثم قال: ((إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله)). رواه أبو داود. [345] 346 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدون من الأرض. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [346] 347 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم: إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار. ونهي عن الروث والرمة. ونهي أن يستطيب الرجل بيمينه. رواه ابن ماجه، والارمي. [347] ـــــــــــــــــــــــــــــ يقال: راد الكلأ وارتاده. والمعنى فليطلب مكاناً مثل هذا، فحذف المفعول لدلالة الحال عليه. ((خط)): ويشبه أن يكون الجدار الذي قعد إليه جداراً عادياً غير مملوك لأحد؛ فإن البول يضر بأصل البناء، ويوهي أساسه، وهو صلوات الله عليه لا يفعل ذلك في ملك أحد إلا بإذنه، أو يكون قعوده متراخياً عن جذم البناء، فلا يصيبه البول فيضر به. الحديث الرابع عن أنس: قوله: ((حتى يدنو من الأرض)) يستوي فهي الصحراء والبنيان؛ لأن رفع الثوب كشف للعورة، وهو لا يجوز إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل أن يقرب من الأرض. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((إنما أنا لكم مثل الوالد)) ((خط)): هذا الكلام بسط للمخاطبين وتإنيس؛ لئلا يحتشموه، ولا يستحيوا عن مسألته فيما يعرض لهم من أمر دينهم، كما لا يستحي الولد عن مسئلة الوالد فيما عن وعرض له. وفي هذا بيان وجوب طاعة الآباء، وأن الواجب عليهم تأديب أولادهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين. ((فا)): الرمة بمعنى الرميم، وهو العظم البالي، أو جمع رميم، كخليل وخلة، رم العظم إذا بلي. ((نه)): نهي عنها لأنها كانت ميتة وهي نجسة أو لأنه لملاسته لا يقلع النجاسة. ((حس)): تخصيص النهي

348 - وعن عائشة، قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى. رواه أبو داود. [348] 349 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ذهب أحدكم إلي الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [349] 350 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنها زاد إخوانكم من الجن)). رواه الترمذي، والنسائي، إلا أنه لم يذكر: ((زاد إخوانكم من الجن)). [350] ـــــــــــــــــــــــــــــ بهما يدل علي الاستنجاء يجوز بكل ما يقوم مقام الحجر في الإنقاء، وهو كل جامد طاهر قالع غير محترم، من مدر، وخشب، وخزف، وخرق. وسمي الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة، وتطهير موضعها من البدن، والله أعلم. الحديث السادس عن عائشة: قوله: ((كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى)) ((كانت)) بمعنى الاستمرار والعادة، و ((الأذى)) ما تستكرهه النفس الزكية، ومنه سمي المحيض أذى، فينبغي أن يفسر الطهور بما يقابله بما تستطيبه النفس الطاهرة، [فقولها]: ((لخلائه)) فيه إيماء إلي أن دخوله المسجد بالرجل اليمنى المضمن في قوله: ((لطهوره)). و ((ما)) في قوله: ((وما كان)) مجرور المحل عطف علي ((خلائه)) و ((كان)) تامة، و ((من)) بيان لـ ((ما)) هذا من آداب الله التي أدب بها حبيبه ونجيه وصفيه صلوات الله عليه. الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((يستطيب)) بالرفع مستأنف علة للأمر، والباء الأولي للتعدية، والثانية للآلة، كما في قولك: ضربت بالسوط. وقوله: ((يجزئ)) أي يكفي ويغني عن الماء، وينوب عنه، ذكره عقب قوله: ((يستطيب)) أي يزيل النجاسة ويطهر موضعها؛ استطابة للنفوس بهذا الترخيص. الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((فإنه زاد إخوانكم من الجن)) فيه دليل علي أن الجن

351 - وعن رويفع بن ثابت، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه)). رواه أبو داود [351]. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلمون حيث سماهم إخواناً للمسلمين، وأنهم يأكلون. روى الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود في ليلة وفود الجن: ((أولئك جن نصيبين جاءوني فسألوني المتاع- والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة، قلت: وما يغني منهم ذلك؟ قال: إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا روثة إلا وجدوا منها حبها الذي كان فيها يوم أكلت، فلا يستنج أحدكم بعظم ولا روثة)). فعلي هذا يعود الضمير في ((فإنه)) إلي الروث والعظام باعتبار المذكور، كما ورد في شرح السنة، وجامع الأصول، وبعض نسخ المصابيح، وفي بعضها وفي جامع الترمذي ((فإنها))، فالضمير للعظام، والروث تابع لها، وعليه قوله وتعالي: {وإذا رأوا تارة أو لهواً}. الحديث التاسع عن رويفع: قوله: ((ستطول بك)) الباء للإلصاق، والسين للتأكيد في الاستقبال، والفاء في ((فأخبر)) جزاء شرط محذوف، والتقدير لعل الحياة ستمتد ملتصقاً بك ومستمراً، فإذا طالت الحياة فأخبر. وفيه إظهار للمعجزة بإخباره عن الغيب من تغيير يحصل في الدين بعد القرن الأول، وأن هذه الأمور المذكورة مهتم بشأنها، ومن ثم عدل إلي الاسم المظهر من المضمر، حيث لم يقل: ((فإني بريء)) إظهاراً للموجدة والغضب. قوله: ((من عقد)) ((فا)): قيل: هو معالجتها حتى تنعقد وتتجعد، من قولهم: جاء فلان عاقداً عنقه، إذا لواه تكبراً. وقيل: كانوا يعقدونها في الحروب، فأمرهم صلوات الله عليه بإرسالها، لما فيها من التأنث. قوله: ((أو تقلد وتراً)) قال أبو عبيدة: الأشبه أنه نهي عن تقليد الخيل أوتار القسي لئلا تصيبها العين، أو مخافة اختناقها به، لاسيما عند شدة الركض. روى أنه صلوات الله عليه أمر بقطع الأوتار من أعناق الخيل تنبيهاً به علي أنها لا ترد شيئاً من قدر الله، وأن الله هو الصارف للبلايا، والحافظ عن المكاره. الحديث العاشر عن أبي هريرة: قوله: ((من استجمر فليوتر)) في الاستجمار بالوتر إشارة إلي

352 - وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أكل فما تخلل، فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، ومن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)). رواه أبو داود، وابن ماجة، والدارمي. [352] ـــــــــــــــــــــــــــــ جواز الاستنجاء بأقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنفية. ((خط)): المراد أن الاستجمار بالحجر خاصة ليس بعزيمة لا يجوز تركها إلي غيرها، لكنه إذا استنجى بالحجارة فليجعله وتراً، ثلاثاً أو خمساً، وإلا فلا حرج إن تركه إلي غيره. وقال أيضاً: في قوله: ((من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)) دليل علي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم يدل علي الوجوب وإلا لما كان يحتاج إلي بيان سقوط وجوبه بقوله: ((لا حرج)) أي لا إثم. وقال أيضاً: في قوله: ((فليوتر)) دليل علي وجوب الثلاث؛ لأنه من المعقول أنه صلوات الله عليه لم يرد به الوتر الذي هو واحد؛ لأنه زيادة صفة علي الاسم، ولا يحصل بأقل من واحد، فعلم أنه صلوات الله عليه قصد به ما زاد علي الواحد وأدناه الثلاث. وأقول: لعله أراد أن الاستجمار هو إزالة النجاسة بالجمار، ولو أريد الفرد لقيل: فليستجمر بواحد. فلما عدل إلي الوتر علم أن المراد التنقية، وذلك لا يحصل بالواحد علي الغالب، فوجب الحمل علي الوصف الذي هو خلاف الشفع، ويحصل به النقاء، وأقله الثلاث. و ((ما)) في ((فما تخلل)) يجوز أن تكون شرطية، والجزاء ((فليلفظ))، والشرطية جزاء للشرط الأول، و ((مالاك فليبتلع)) عطف علي ((تخلل))، ويجوز أن تكون ((ما)) موصولة عطفاً علي ((أكل))، وخبره ((فليلفظ))، وأن يكون ((فليلفظ)) خبراً للموصول، والفاء لتضمنه معنى الشرط والجملة جزاء، والثاني أوجه. ((مظ)): وإنما قيل: ((فما تخلل فليلفظ، ومالاك فليبتلع)) لأنه ربما يخرج مع الخلال دم، ومالاك بلسانه أي أداره في الفم ومضغه مؤمن من خروج الدم للين اللسان، وإنما نفي الحرج من الخلال لأنه لم يتيقن خروج الدم معه، وإن تيقن حرم أكله. قوله: ((فإن لم يجد إلا أن يجمع)) ((خط)): أمر النبي صلوات الله عليه بالتستر ما أمكن، وبأن لا يكون قعود الإنسان بحيث تقع عليه أبصار الناظرين فيهتك الستر، أو يهب عليه الريح

353 - وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي؛ إلا أنهما لم يذكرا: ((ثم يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه)). [353] 354 - وعن عبد الله بن سرجس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولن أحدكم في جحر)). رواه أبو داود، والنسائي. [354] ـــــــــــــــــــــــــــــ فيصيبه البلل فيتلوث ثيابه وبدنه، وكل ذلك من لعب الشيطان به، وقصده إياه بالفساد- انتهي كلامه. والاستثناء في ((إلا أن يجمع)) متصل، أي فإن لم يجد ما يستتر به إلا جمع كثيب من رمل فليجمعه ويستدبره. ومعنى التعليل في قوله: ((فإن الشيطان يلعب به إذا لم يستتر)) يمكنه من وسوسة الغير إلي النظر إلي مقعده. الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن مغفل: قوله: ((ثم يغتسل)) هو عطف علي الفعل المنهي، و ((ثم)) استبعادية، أي بعيد من العاقل الجمع بينهما، ويجوز فيه الرفع، والنصب، والجزم، وسيأتي توجيهه في الفصل الأول من باب أحكام المياه. ((خط)): هذا إذا كان المكان صلباً ولم يكن للبول مسلك، فيتوهم المغتسل أنه أصابه شيء من رشاشه، فإنه يورث عامة الوسواس. الحديث الثاني عشر عن عبد الله: قوله: ((في جحر)) ((تو)): وجه النهي أن الجحر مأوى الهوام المؤذية وذوات السموم، فلا يؤمن أن يصيبه مضرة من قبل ذلك. ويقال: إن الذي يبول في الجحر يخشى عليه عادية الجن، وقد نقل أن سعد بن عبادة الخزرجي قتلته الجن، لأنه بال في جحر بأرض حوران. وروي في كتب الفقه أنه سمع من الجحر: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عبادة ورميناه بسهـ م فلم نخط فؤاده والله أعلم بصحته.

355 - وعن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)). رواه أبو داود، وابن ماجة. [355] 356 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت علي ذلك)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة. [356] 357 - وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) رواه أبو داود، وابن ماجة. [357] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن معاذ: قوله: ((اتقوا الملاعن)) مضى شرحه في الحديث الخامس من الفصل الأول. وقوله: ((في الموارد)) واحدها مورد، وهو مفعل من الورود، وهو الماء الذي يرد عليه الناس من عين أو نهر. و ((قارعة الطريق)) هي الطريق الواسعة التي يقرعها الناس بأرجلهم، أي يدقونها ويمرون عليها. الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد: قوله: ((يضربان)) الضرب في الأرض الذهاب فيها، والأصل فيه أن الذاهب في الأرض يضربها برجليه. ((تو)): يقال: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض إذا سافرت. وأقول: ((الغائط)) نصبه بنزع الخافض، أي للغائط، ويحتمل أن يكون ظرفاً، أي يضربون في الأرض المطمئنة للغائط، فحذف المفعول له لدلالة الظرف عليه، و ((يضربان، ويتحدثان)) صفتا ((الرجلان))؛ لأن التعريف فيه للجنس، أي رجلان من جنس الرجال، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، أي هما يضربان ويتحدثان، استئنافاً أو حالاً علي بعد، و ((كاشفين)) حال مقدرة من ضمير ((يضربان))، ولو جعل حالاً من ضمير ((يتحدثان)) استئنافاً لم تكن مقدرة، وعلي التقادير النهي منصب علي المجموع. ((حس)): لا يذكر الله بلسانه علي قضاء الحاجة ولا في المجامعة، بل في النفس. قال أبو عمرو: سلم علي النبي صلوات الله عليه وهو يبول فلم يرد عليه. وإذا عطس في الخلاء يحمد الله في نفسه، قال الحسن، والشعبي، والنخعي. الحديث الخامس عشر عن زيد: قوله: ((إن هذه الحشوش)) ((نه)): ((يعني الكنف، ومواضع قضاء

358 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وإسناده ليس بقوي. [358] 359 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: ((غفرانك)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [359] 360 - وعن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أوركوة، فاستنجى، ثم مسح يده علي الأرض، ثم أتيته بإناء آخر، فتوضأ. رواه أبو داود، وروى الدارمي والنسائي معناه. [360] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجة، الواحد الحش- بالفتح- وأوصله من الحش البستان؛ لأنهم كانوا كثيراً ما يتغاطون في البساتين). ((ومحتضرة)) أي يحضرها الجن والشياطين. الحديث السادس عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ستر)) مبتدأ، والخبر ((أن يقول))، و ((ما)) موصولة مضاف إليها، وصلتها الظرف. الحديث السابع عشر عن عائشة: قوله: ((غفرانك)) ((تو)): الغفران مصدر كالمغفرة، والمعنى أسألك غفرانك، ذكر العلماء في تعقيبه صلى الله عليه وسلم الخروج من المتوضى بهذا الدعاء وجهين: أحدهما أنه استغفر من الحالة التي اقتضت هجران ذكر الله تعالي، فإنه كان يذكر الله علي سائر أحواله إلا عند الحاجة، والآخر أنه وجد القوة البشرية قاصرة عن الوفاء بشكر ما أنعم الله عليه من تسويغ الطعام والشراب، وتقريره القوى المفطورات لمصلحة البدن، وترتيب الغذاء من حين التناول إلي أوان المخرج، فلجأ إلي الاستغفار اعترافاً بالقصور عن بلوغ حق تلك النعم. الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة: قوله: ((في تور)) التور إناء من صفر أو حجارة كالإجانة يتوضأ منه، و ((الركوة)) إناء صغير من جلد يشرب منه الماء، والجمع ركا.

361 - وعن الحكم بن سفيان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ، ونضح فرجه. رواه أبو داود، والنسائي. [361] 362 - وعن أميمة بنت رقيقة، قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل. رواه أبو داود والنسائي. [362] 363 - وعن عمر، قال: رإني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، فقال: ((يا عمر! لا تبل قائماً))، فما بلت قائماً بعد. رواه الترمذي، وابن ماجه. قال الشيخ الإمام محيي السنة، رحمه الله: قد صح: [363] 364 - عن حذيفة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم، فبال قائماً. متفق عليه. قيل: كان ذلك لعذر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر عن الحكم: قوله: ((ونضح)) ((نه)): الانتضاح بالماء هو أن يأخذ قليلاً منه فيرش به مذاكيره بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس، وقد نضح عنه الماء، ونضحه به إذا رشه عليه. ((تو)): قيل: إنه صلوات الله عليه كان يفعل ذلك قطعاً للوسوسة، وقد أجاره الله تعالي عن تسليط الشيطان، لكن يفعله تعليماً للأمة، أو يفعله ليرتد البول، ولا ينزل منه الشيء بعد الشيء. الحديث العشرون عن أميمة: قوله: ((من عيدان)) ((الجوهري)): العود من الخشب، واحد العيدان والأعواد، وإنما جمعه اعتباراً للأجزاء كبرمة أعشار. الحديث الحادي والعشرون عن عمر: قوله: ((لا تبل)) ((مظ)): علة النهي أنه تبدو العورة بحيث يراه الناس، ولأنه لا يأمن من رجوع البول إليه، وهذا نهي تنزيه. الحديث الثاني والعشرون عن حذيفة: قوله: ((سباطة)) ((نه)): السباطة والكناسة الموضع الذي يرمي فيه التراب، والأوساخ، وما يكنس الناس من المنازل، وإضافتها إلي القوم إضافة تخصيص لا تمليك؛ لأنها كانت مواتاً سباخة. ((حس)): السباطة تكون في الأغلب مرتفعة عن

الفصل الثالث 365 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه؛ ما كان يبول إلا قاعداً. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي. [365] 366 - وعن زيد بن حارثة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل أتاه في أول ما أوحي إليه، فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غرفة من الماء، فنضح بها فرجه)). رواه أحمد، والدراقطني. 367 - وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاءني جبريل، فقال: يا محمد! إذا توضأت فانتضح)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وسمعت محمداً- يعني البخاري- يقول: الحسن بن علي الهاشمي الراوي منكر الحديث. [367] ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه الأرض، لا يرتد فيها البول علي البائل، وتكون سهلا. وقيل: إنه صلوات الله عليه لم يجد مكاناً للقعود، وقيل: كان برجله جرح لم يتمكن من القعود معه. قال الشافعي: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً، فلعله كان به ذلك وإلا فالمعتاد من فعله البول قاعداً، وهو الاختيار. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((ما كان يبول إلا قاعداً)) الحديث يؤيد ما ذكره أن بوله قائماً كان لعذر اضطره إليه. الحديث الثاني سبق شرحه. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((منكر الحديث)) قال ابن الصلاح: قيل: هو ما تفرد به من ليس ثقة ولا ضابطاً. قال البرديجي: هو الفرد الذي لا يعرف متنه من غير رواية، والصواب ما تقدم.

368 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: ((ما هذا ياعمر؟)) قال: ماء تتوضأ به. قال: ((ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت لكانت سنة)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [368] 369 - وعن أبي أيوب، وجابر، وأنس، أن هذه الآية لما نزلت: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المتطهرين}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الأنصار! إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟)) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء. قال: ((فهو ذاك، فعليكموه)). رواه ابن ماجه [369] 370 - وعن سلمان، قال: قال بعض المشركين، وهو يستهزئ: إني لأرى صاحبكم يعلمكم حتى الخراءة. قلت: أجل! أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم. رواه مسلم، وأحمد واللفظ له. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((فقام عمر)) في الحديث إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم ما فعل أمراً ولا تكلم بشيء إلا بأمر الله، وأن سننه أيضاً مأمور بها وإن لم تكن فرضاً، وأنه كان يترك ما هو أولي به تخفيفاً علي الأمة، ورحمة عليهم، وأن الأمر مبني علي اليسر. الحديث الخامس عن أبي أيوب: قوله: ((فيه)) الضمير راجع إلي مسجد قباء، وقيل: إلي مسجد المدينة، والتطهر: [بناء المبالغة] يحتمل التطهير التام ويحتمل التثليث، ولذلك أجابوا عن السؤال بقولهم: ((نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء)) ومحبتهم للتطهير أنهم يؤثرونه علي أنفسهم، ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهي له علي إيثاره، ومحبة الله إياهم أنه يرضي عنهم، ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه. قوله: ((فهو ذاك)) أي ثناء الله تعالي إثر تطهركم البالغ، و ((فعليكموه))، أي الزموا التطهير ولا تفارقوه. الحديث السادس عن سلمان: قوله: ((حتى الخراءة)) ((مظ)): الخراءة مكسورة الخاء ممدودة- التخلي والقعود عند الحاجة، وأكثر الرواة يفتحون الخاء ويقصرونها. ((الجوهري)): هي بالفتح مصدر، وبالكسر اسم. وأما جواب سلمان فهو من باب الأسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما

371 - وعن عبد الرحمن بن حسنة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده الدرقة فوضعها، ثم جلس فبال إليها. فقال بعضهم: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة. فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ويحك! أما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟! كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم، فعذب في قبره)). رواه أبو داود وابن ماجه [371]. 372 - ورواه النسائي عنه عن أبي موسى. 373 - وعن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها. فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بل ـــــــــــــــــــــــــــــ استهزأ كان من حقه أن يهدد، أو يسكت عن جوابه، لكنه رضي الله عنه ما التفت إلي ما قال وما فعل من الاستهزاء، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يلقن السائل المجد، يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك أن تترك العناد، وتلزم الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بتطهر ظاهرك وباطنك من الأرجاس والأنجاس. وقريب منه قوم صالح عليه السلام، سألوا مؤمنيهم مستهزئين: {أتعلمون أن صالحاً مرسل} أجابوا {إنا بما أرسل به مؤمنون} أي إرساله أمر معلوم مكشوف لا كلام فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فإنا آمنا به، وامتثلنا ما أمر به، وانتهينا عما نهي عنه. قوله: ((ليس فيها رجيع)) صفة مؤكدة لأحجار، مزيلة لتوهم متوهم أنها مجاز، أو واردة علي التغليب، وفيه استقصاء للإرشاد، ومبالغة للرد علي المشرك. الحديث السابع عن عبد الرحمن: قوله: ((وفي يده الدرقة)) أي جعلها حائلاً بينه وبين الناس، وبال مستقبلاً إليها، ((الدرقة)) الترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. ((نه)): ((ويح)) كلمة تقال لمن ترحم وترفق به، يقال: ويح زيد، وويحاً له، وويح له. و ((قرضوه)) قطعوه، شبه نهي هذا المنافق عن الأمر بالمعروف عند المسلمين بنهي صاحب بني إسرائيل ما كان معروفاً عندهم وفي دينهم، والقصد فيه توبيخه وتهديده، وأنه من أصحاب النار، فلما عيره بالحياء وفعل النساء وبخه بالوقاحة، وأنه ينكر ما هو معروف بين رجال الله [من] الأمم السابقة واللاحقة. الحديث الثامن عن مروان، والتاسع عن أنس، والعاشر عن ابن مسعود: قوله: ((حممه)) ((حس)): الحمم الفحم، وما أحرق من الخشب أو العظام ونحوهما، والاستنجاء به منهي؛ لأنه

(3) باب السواك

إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس. رواه أبو داود [373]. 374 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافإني)) رواه ابن ماجه [374]. 375 - وعن ابن مسعود، قال: لما قدم وفد الجن علي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة؛ فإن الله جعل لنا فيها رزقاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه أبو داود [375]. (3) باب السواك الفصل الأول 376 - عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق علي أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ جعل رزقاً للجن، فلا يجوز إفساده عليهم. وفيه أيضاً أنه إذا مس ذلك المكان وناله أدنى غمز وضغط تفتت لرخاوته، [فيتعلق] به شيء منه متلوثاً بما يلقاه من تلك النجاسة، وفي معناه الاستنجاء بالتراب، وفتات المدر ونحوهما. والله أعلم. باب السواك الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((لولا أن أشق)) شق علي الشيء يشق شقاً ومشقة، والاسم منه الشق- بالكسر- ((قض)): ((لولا)) يدل علي انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحقيقة أنها مركبة من ((لو)) و ((لا))، و ((لو)) يدل علي انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فيدل هاهنا مثلاً علي انتفاء الأمر لانتفاء نفي المشقة، وانتفاء النفي ثبوت، فيكون الأمر منفياً لثبوت المشقة. وفيه دليل علي أن الأمر للوجوب لا للندب من وجهين: أحدهما أنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية، فلو كان للندب لما جاز ذلك. وثإنيهما أنه جعل الأمر ثقلاً ومشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان دليلاً علي الوجوب. أقول: إذا كان ((لولا)) يستدعى امتناع الشيء لوجود غيره، وظاهر أن المشقة نفسها ليست بثابتة، لابد من مقدر، أي لولا خوف المشقة أو توقعها لأمرتهم. قال الشيخ السعيد أبو إسحاق

377 - وعن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك. رواه مسلم. 378 - وعن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيرازي في كتاب اللمع في الأصول: في هذا الحديث دليل علي أن الاستدعاء علي وجه الندب ليس بأمر حقيقة، فإن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمر به، فدل علي أن المندوب إليه غير مأمور به. ((نه)): السواك- بالكسر- والمسواك ما تدلك به الأسنان من العيدان، يقال: ساك فوه يسوكه إذا دلكه بالسواك، فإذا لم يذكر الفم، قلت: استاك. ((مح)): يستحب أن يستاك بعود من أراك، وبما يزيل التغير من الخرقة الخشنة، والسعد، والأشنان، والإصباع إن لم تكن لينة إن لم يجد غيرها عند بعض الأصحاب. ويستحب أن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فمه عرضاً، ولا يستاك طولاً لئلا يدمي لحم أسنانه، فإن خالف صح مع كراهة. أقول: ((عرضاً)) في قوله حال من الفم، كذا في شرح الإمام الرافعي رضي الله عنه. الحديث الثاني عن شريح: قوله: ((إذا دخل بيته)) ((مظ)): وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الغالب أنه لا يتكلم في الطريق، والفم يتغير بالسكوت، فيستاك ليزيله، وهو تعليم لأمته، فمن سكت ثم أراد التكلم مع صاحبه يستاك لذلك؛ لئلا يتأذى من رائحة فمهز الحديث الثالث عن حذيفة: قوله: ((للتهجد)) ((تو)): أخذ التهجد من الهجود، وهو النوم يقال: هجدته فتهجد، أي أزلت هجوده نحو مرضته. فالتهجد التيقظ، ولما كان الذي يريد التعبد لربه في جوف الليل يتيقظ ليصلي- عبر عن صلاة الليل بالتهجد. قوله: ((يشوص)) ((نه)): أي يدلك أسنانه وينقيها. وقيل: هو أن يستاك من سفل إلي علو، وأصل الشوص الغسل، و ((من)) في ((من الليل)) تبعيضية مفعول التهجد، كقوله تعالي: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} أي عليك بعض الليل، فتهجد به عبادة زائدة لك علي الصلوات الخمس.

379 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاض الماء)) - يعني الاستنجاء- قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. رواه مسلم. وفي رواية: ((الختان)) بدل: ((إعفاء اللحية)). لم أجد هذه الرواية في ((الصحيحين)) ولا في كتاب ((الحميدي)). ولكن ذكرها صاحب ((الجامع)) وكذا الخطابي في ((معالم السنن)). 380 - عن أبي داد برواية عمار بن ياسر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((عشر من الفطرة)) أي عشر خصال من السنة. ((حس)): أي من سنة الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم، وأول من أمر بها إبراهيم عليه السلام فذلك قوله: {وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}. ((مح)): معناه أنها من سنن الأنبياء عليهم السلام، وفي بعضها خلاف في وجوبه، كالختان، والمضمضة، والاستنشاق، ولا يمتنع قران الواجب بغيره، كما قال تعالي: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} والإيتاء واجب، والأكل مباح؛ فالختان واجب عند الشافعي وكثير من العلماء علي الرجال والنساء، وسنة عند مالك وأكثر العلماء. والتقليم سنة، ويستحب أن يبدأ بمسبحة يده اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإبهام، ثم خنصر اليسرى إلي إبهامها، ثم يبدأ بخنصر الرجل اليمنى، فيتمم بخنصر اليسرى. ونتف الإبط سنة، ويحصل أيضاً بالحلق والنورة. وقص الشارب سنة [ويستحب أن يبدأ بالأيمن ولو ولي غيره يقصه، كان من غير هتك مروءة ولا خرمة، بخلاف الإبط والعانة والمختار أن يقص الشارب] حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفه من أصله. وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحفوا الشوارب)) فأحفوا ما طال علي الشفتين. و ((غسل البراجم)) أي عقد الأصابع ومقاطعها، وهي- بفتح الباء- جمع برجمة- بضم الباء والجيم- سنة ليست مختصة بالوضوء، ويلتحق بها ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ، وما يجتمع في داخل الأنف، وكذا جميع الوسخ في البدن. ((وانتقاص الماء)) بالقاف والصاد المهملة، فسره وكيع بالاستنجاء، وأبو عبيدة وغيره بانتقاص البول بسبب استعمال المال في غسل المذاكير. ((فا)): انتقاص الماء أن يغسل مذاكيره ليرتد البول؛ لأنه إذا لم يغسل نزل منه شيء بعد شيء، فيعسر استبراؤه، فلا يخلو الماء من أن يراد به البول، فيكون المصدر مضافاً إلي المفعول،

الفصل الثاني 381 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب)). رواه الشافعي، وأحمد، والدارمي، والنسائي، ورواه البخاري في ((صحيحه)) بلا إسناد. 382 - وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من سنن المرسلين: ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أن يراد به الماء الذي يغسل به، فيكون مضافاً إلي الفاعل علي معنى التعدية، والانتقاص يكون متعدياً ولازماً، قال عدى بن الوغلا: لم ينتقص مني المشيب قلامة الآن حين بدا ألب وأكيس ((إعفاء اللحية)) توفيرها، يقال: عفا الشعر والنبت إذا كثر، وعفوت أنا وأعفيته لغتان، وقص اللحية كان من صنيع الأعاجم، وهو اليوم شعار كثير من المشركين، كالأفرنج، [والهنود]، ومن لا خلاق له في الدين من الفرق الموسومة بالقلندرية- طهر الله عنهم حوزة الدين. قوله: ((نسيت)) الاستثناء مفرغ، و ((نسيت)) مؤول، أي لم أتذكره العاشرة فيما أظن شيئاً من الأشياء إلا أن يكون المضمضة. ((حس)): الختان وإن كان مذكوراً في جملة السنن فإنه واجب عند كثير من العلماء، وذلك أنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر، قال بعضهم: الدليل علي وجوب الختان أن ستر العورة واجب، وكشفه جائز لحاجة الختان، فلو لم يكن الختان واجباً لما جاز ترك الواجب لتحصيل المندوب. وأيضاً قطع عضو سليم حرام، وهاهنا جائز، فلو لم يكن القطع واجباً لبقى أصل التحريم علي ما كان. وأيضاً إذا لم يختن بقى البول في القلفة، فيمنع صحة الصلاة. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((مطهرة)) ((مظ)): هي مصدر ميمي يحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي مطهر للفم، وكذا ((المرضاة))، أي محصل لرضي الله تعالي. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول، أي مرضي للرب. وأقول: يمكن أن يقال: إنهما مثل ((مبخلة ومجبنة))، أي السواك مظنة للطهارة والرضي، أي يحمل السواك الرجل علي الطهارة ورضي الله، وعطف ((مرضاة)) يحتمل الترتب بمعنى الإخبار عنهما، وتفويض الترتيب إلي الذهن، فتكون الطهارة به علة الرضا، وأن تكونا مستقلين في العلية. الحديث الثاني عن أبي أيوب: قوله: ((أربع)) اختصر ((مظ)) كلام التوربشتي حيث قال: في الحياء ثلاث روايات: إحداها- بالحاء المهملة وبالياء التحتإنية- يعني به أن ما يقتضي الحياء من

الحياء- ويروي الختان-، والتعطر، والسواك، والنكاح)) رواه الترمذي. [382] 383 - وعن عائشة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ، إلا يتسوك قبل أن يتوضأ. رواه أحمد، وأبو داود [383]. 384 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه. رواه أبو داود. الفصل الثالث 385 - عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرإني في المنام أتسوك بسواك، ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين، كستر العورة، وترك الفواحش وغير ذلك، لا الحياء الجبلي نفسه؛ فإن جميع الناس فيه مشترك. وثإنيها الختان- بخاء معجمة وتاء فوقها نقطتان- وهو من سنة الأنبياء كما سبق. وثالثها الحناء- بالحاء المهملة والنون المشددة- وهو ما يخضب به، وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها تصحيف؛ لأنه يحرم علي الرجال خضاب اليد والرجل تشبيهاً بالنساء، وأما خضاب الشعر به فلم يكن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يصح إسناده إلي المرسلين. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((فيستيقظ)) يجوز فيه الرفع للعطف، ويكون النفي منصباً عليهما معاً، والنصب جواباً للنفي، كقوله تعالي: {فتطردهم فتكون من الظالمين} فإنه جواب لقوله: {ما من حسابك عليهم من شيء}؛ لأن الاستيقاظ مسبوق بالنوم، كأنه مسبب عنه، وفي إيرادها كذا علي سبيل الإطناب إشارة إلي أن ذلك كان دأبه وعادته في تلك الحالة المألوفة، ولو قيل: لا يستيقظ ((من نوم إلا يتسوك)) لم يفد هذه الفائدة ((مظ)): وإنما يتسوك عند الاستيقاظ لإزالة تغير الفم الحاصل بالنوم، فيتطيب به إذا ذكر الله، أو قرأ القرآن، أو تكلم مع الملك والإنس، وليقتدوا به. الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((فأبدأ به)) ((مظ)): يعني فأبدأ باستعماله قبل الغسل، لينالني بركة فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل علي أن استعمال مسواك الغير برضاه غير مكروه، وهي إنما فعلت لما بين الزوج والزوجة من الانبساط. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((أتسوك)) ثالث مفاعيل ((أرى)) بحذف ((أن)) ورفع الفعل كقوله:

فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلي الأكبر منهما)). متفق عليه. 386 - وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما جاءني جبريل عليه السلام قط إلا أمرني بالسواك، لقد خشيت أن أحفي مقدم في)) رواه أحمد. [386] 387 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أكثرت عليكم في السواك)). رواه البخاري. 388 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك أن كبر، أعط السواك أكبرهما. رواه أبو داود. [388] ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغي والمفعول الأول الضمير المرفوع المستتر في الفعل، والثاني المنصوب البارز، وقد تقرر جواز أن يكون الفاعل والمفعول في باب علمت واحداً، و ((في المنام)) ظرف، أي رأيت نفسي في المنام متسوكاً. ومعنى ((كبر)) أي قدم الكبير علي الصغير في مناولة السواك. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((لقد خشيت)) جواب قسم محذوف، أي والله لقد خشيت أن يستأصل لثتي من كثرة استعمال السواك بسبب وصية جبريل عليه السلام ومداومتي عليها. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((في السواك)) أي في شأنه وأمره، وفائدة هذا الإخبار مع كونهم عالمين به إظهار الاهتمام بشأن السواك، وتوحي ملازمتهم إياه؛ لكونه مطهرة للفم، ومرضاة للرب. وقوله: ((أكترث عليكم)) المفعول محذوف، أي أطلت الكلام في السواك كائناً عليكم. الحديث الرابع عن عائشة قوله: ((يستن)) ((نه)): الاستنان استعمال السواك وهو افتعال من الأسنان، أي يمره عليها. وفي حديث عائشة رضي الله عنها ((فأخذت الجريدة فسننته بها)) أي

389 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تفضل الصلاة التي يستاك لها علي الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفاً)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [389] 390 - وعن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لولا أن أشق علي أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلي ثلث الليل)). قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه علي أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلي الصلاة إلا استن، ثم رده إلي موضعه. رواه الترمذي، وأبو داود إلا أنه لم يذكر: ((ولأخرت صلاة العشاء إلي ثلث الليل)) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [390] ـــــــــــــــــــــــــــــ سوكته بها. وقيل: الاستنان مأخوذ من السنن، وهو إمرارك الشيء الذي فيه جروشة علي شيء آخر، ومنه المسن الذي يشحذ به الحديد. وفيه من الأدب تقديم حق الأكبر من الحاضرين علي من هو أصغر منه في السلام، والشراب، والطيب ونحوها، وفيه استعمال سواك الغير برضاه ليس بمكروه علي ما يذهب إليه بعض من يتقذر، إلا أن السنة فيه أن يغسله أولاً ثم يعطيه لغيره. قوله: ((أن كبر)) هو الموحى به، أي أوحي أن فضل السواك أن تقدم من هو أكبر من الآخر. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((سبعين)) مفعول مطلق، أو ظرف، أي يفضل مقدار سبعين، ((والضعف)) تمييز أريد به مثل العدد المذكور. ((غب)): الضعف هو من الألفاظ المتضايفة، كالنصف، والزوج، وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: أضعفت الشيء وضعفته، ضممت إليه مثله فصاعداً، فإذا قلت: أعط فلاناً ضعفين، فإنه يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يضاعف الآخر، فلا يخرجان عن الاثنين، قال تعالي: {فآتهم عذاباً ضعفاً من النار} سألوا أن يعذبهم عذاباً بضلالهم، وعذاباً بإضلالهم. الحديث السادس عن أبي سلمة، مضى شرحه في الفصل الأول من الباب. قوله: ((حديث حسن صحيح)) يعني له إسنادان: أحدهما صححي، والآخر حسن.

باب سنن الوضوء الفصل الأول 391 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب سنن الوضوء ((مظ)): لم يرد بالسنن الوضوء فقط، بل أريد أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله من الفرائض والسنن، يقال: جاء في السنة كذا، أي في الحديث. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((فإنه لا يدري)) ((قض)): إذا ذكر الشارع حكماً، وعقبه وصفاً مصدراً بالفاء، أو بأن، أو بهما- كان ذلك إيماء إلي أن ثبوت الحكم لأجله، مثال ((إن)) قوله: ((إنها من الطوافين عليكم والطوافات)) بعد قوله: ((إنها ليست بنجسة))، ومثال الفاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يحج فليمت))، ومثال الجمع قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: ((فإنه يحشر ملبياً)) بعد قوله: ((لا تقربوه طيباً))، وقوله: ((فإنه لا يدري أين باتت يده)) فإنه يدل علي أن الباعث علي الأمر بالغسل احتمال النجاسة. روى محيي الدين عن الشافعي وغيره من العلماء أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا، فلا يؤمن أن تطوف يده علي الموضع النجس، أو علي بثرة أو قملة أو غير ذلك. وفي الحديث مسائل: منها: أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة يتنجس، وإن قلت ولم يغيره. ومنها: الفرق بين ورود الماء علي النجاسة، وبين ورودها عليه، فإنها إذا أوردت عليه نجسته، وإن كان كثيراً دون القلتين، وإذا أورد عليها أزالها، وإن كان قليلاً. ومنها: أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالأحجار، بل يبقى نجساً معفواً عنه في حق المصلي. ومنها: استحباب غسل النجاسة ثلاثاً، فإنه إذا أمر به ف المتوهمة ففي المحققة أولي. ومنها: استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج إلي حد الوسوسة. ومنها: استعمال ألفاظ الكنايات فينا يتحاشى من التصريح به، حيث قال: ((لا يدري أين باتت يده))، ولم يقل: فلعل يده وقعت علي دبره، أو ذكره أو علي نجاسة. والنهي عن الغمس قبل غسل اليد مجمع عليه، لكن الجماهير علي أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو غمس لم يفسد الماء، ولم يأثم الغامس.

392 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت علي خيشومه)). متفق عليه. 393 - وقيل لعبد الله بن زيد: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بوضوء فأفرغ علي يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين مرتين إلي المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلي قفاه، ثم ردهما حتى يرجع إلي المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. رواه مالك، والنسائي. ولأبي داود نحوه ذكره صاحب ((الجامع)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)) هذا في حق ما بات مستنجياً بالأحجار معرورياً ومن باب وحاله علي خلاف ذلك ففي أمره سعة، ويستحب له أيضاً أن يغسلها، لأن السنة إذا وردت لمعنى، لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى ((حس)): علق النبي صلى الله عليه وسلم غسل اليدين بالأمر الموهوم، وما علق بالموهوم لا يكون واجباً، فأصل الماء واليدين علي الطهارة، فحمل الأكثرون هذا الحديث علي الاحتياط، وذهب الحسن البصري وأحمد في إحدى الروايتين إلي الظاهر، وأوجبا الغسل، وحكماً بنجاسة الماء. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((فليستنثر)) استنثر حرك النثرة، وهي طرف الأنف، ويجوز أن يكون بمعنى نثرت الشيء إذا بددته. ((تو)) و ((قض)): ((الخيشوم)) أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، الذي هو موضع الحس المشترك، ومستقر الخيال، فإذا نام تجتمع فيه الأخلاط، ويبس عليه المخاط، ويكل الحس، ويتشوش الفكر، فيرى أضغاث أحلام، فإذا قام من نومه وترك الخيشوم بحاله استمر الكسل والكلال، واستعصى عليه النظر الصحيح، وعسر الخضوع والقيام علي حقوق الصلاة وأدائها. ثم قال التوربشتي: ما ذكر هو من طريق الاحتمال، وحق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن الأسرار الربوبية، ومعادن الحكم الإلهية أن لا يتكلم في هذا الحديث وأخواته بشيء؛ فإن الله تعالي خص رسوله صلوات الله عليه بغرائب المعإني، وكاشفه عن حقائق الأشياء ما يقصر عن بيانه باع الفهم، ويكل عن إدراكه بصر العقل. وقيل: المشاعر الخمسة كل منها آلة العلم، وطريق معرفة الله سوى الخيشوم، فلذلك كان مقرب الشيطان، وموضع دخوله فيه. أقول: لعل خلافه أولي، لأن أنسب المشاعر بعالم الأرواح حس الشم، ولذلك حبب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب وحرم عليه تناول ما يخالفه، وقال أبو الطيب: مسكية النفحات إلا أنها وحشية بسواهم لا تعبق ولأن الشيطان اللص إنما يهم بقطع الطريق الموصل، وسد مسالك روح الله إلي قلب العبد، وأنشد شيخنا شيخ الإسلام في العوارف للعامري

394 - وفي المتفق عليه: قيل لعبد الله بن زيد بن عاصم: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء، فأكفأ منه علي يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلي المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلي الكعبين، ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلي قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلي المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيا جبلي النعمان بالله خليا طريق الصبا يخلص إلي نسيمها أجد بردها، أو يشف مني حرارة علي كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت علي قلب محزون تجلت همومها أشار الشيخ بالجبلين إلي الشيطان والنفس الأمارة. روى محيي الدين عن القاضي عياض: يحتمل بيتوتة الشيطان في الخياشيم أن يكون علي الحقيقة؛ فإن الأنف أحد المنافذ التي يتوصل منها إلي القلب، لاسيما وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق، سواه وسوى الأذنين. وفي الحديث: ((إن الشيطان لا يفتح غلقاً)) وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم. ويحتمل أن يكون علي الاستعارة، فإنما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذر يوافق الشيطان. قوله: ((فأكفأ)) ((نه)): يقال: كفأت الإناء إذا كببته، وإذا أملته، ((ثم أدخل يده)) أي في الإناء، ((ثم استخرجها)) أي يده من الإناء مع الماء، وفيه إشارة إلي أنه قبل غسل اليدين ما أدخلهما فيه، بل أكفأ الماء عليهما، وعند غسل الرجلين صب الماء عليهما. وفيه أيضاً أن الماء بعد إدخاله اليد في المرة الثانية بقى علي طهارته وطهوريته غير مستعمل، اللهم إلا أن يقال: إنه نوى جعل اليد آله له.، ومذهب مالك أن المستعمل في الحدث طهور، وكرهه مع وجود غيره لأجل الخلاف، وكذا الحكم عنده في الماء القليل تحله النجاسة ولم تغيره. قال أبو حامد في الإحياء: كنت أود أن مذهب الشافعي كمذهب مالك في أن الماء وإن قل فلا ينجس إلا بالتغير، إذ الحاجة ماسة إليه، ومثار الوساوس اشتراط القلتين، ولأجله شق علي الناس ذلك وهو لعمري

وفي رواية: فمضمض واستنشق واستثنر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء. وفي رواية أخرى: فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثاً. وفي رواية للبخاري: فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه إلي الكعبين. وفي أخرى له: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة. 395 - وعن عبد الله بن عباس، قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، لم يزد علي هذا، رواه البخاري. 396 - وعن عبد الله بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين. رواه البخاري. 397 - وعن عثمان، رضي الله عنه، أنه توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً. رواه مسلم. 398 - وعن عبد الله بن عمرو قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، ـــــــــــــــــــــــــــــ سبب المشقة. ومما لا شك فيه أن ذلك لو كان مشروطاً لكان أولي المواضع بتعسر الطهارة مكة والمدينة، إذ لا تكثر فيها المياه الجارية، ولا الراكدة الكثرة، ومن أول عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي آخر عصر الصحابة لم ينقل واقعة في الطهارة، ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات، وكانت أوإني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات، وتوضؤ عمر بماء في جرة نصرإنية كالصريح في أنه لم يعول إلا علي عدم تغير الماء، وكان استغراقهم جميع الهم والكد في تطهير القلوب وتساهلهم في أمر الظاهر له. وقوله: ((بدأ بمقدم رأسه)) إلي آخره تفسير لقوله: ((فأقبل بهما وأدبر)). قال المؤلف: وإنما أطنبنا الكلام في هذا الحديث لأن ما ذكر في المصابيح في الصحاح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك والنسائي، وأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقيبه، وبقية الروايات إنما أوردها تنبيهاً علي أن ما في المصابيح منها. الحديث الثالث، والرابع، والخامس عن عثمان: قوله: ((فتوضأ ثلاثاً)) أي غسل كل عضو من أعضاء الوضوء ثلاث مرات؛ وإنما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، وأخرى مرتين وثلاثة تعليماً للأمة أن كل ذلك جائز، والأكمل أكمل، والزيادة علي الكمال نقصان وخطأ، وظلم وإساءة، كما سيرد. الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو قوله: ((بماء بالطريق)) الظرف الأول خبر ((كان))

فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني صفة ((ماء)) أي كنا نازلين بماء كائن في طريق مكة، و ((تعجل)) بمعنى استعجل كقوله تعالي: {فمن تعجل في يومين} يعني طلبوا تعجيل الوضوء عند فوات العصر، فتؤضئوا عاجلين، كقوله تعالي: {إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام إلي الصلاة فاغسلوا. وقوله: ((ويل لهم)) مبتدأ وخبر، كقولك: سلام عليك. قال أبو القاء: {فويل للذين يكتبون} ابتداء وخبر، ولو نصب لكان له وجه علي أن يكون التقدير: ألزمهم الله ويلا، واللام للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر، والويل مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأن فاءه وعينه معتلتان. و ((العقب)) ما أصاب الأرض من مؤخر الرجل إلي موضع الشراك. ((نه)) الويل الحزن، والهلاك، والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، وخص ((العقب)) بالعذاب لأنه العضو الذي يغسل، فالتعريف فيه للعهد. وقيل: أراد صاحب العقب، حذف المضاف. وإنما قال ذلك لأنهم كانوا لا يستقصون علي أرجلهم في الوضوء. قال محيي الدين: في هذا الحديث دلالة علي وجوب غسل الرجلين، وأن المسح لا يجزئ وعليه جمهور الفقهاء في الأعصار والأمصار، وقالوا أيضاً: لا يجب المسح مع الغسل، وهو مذهب أبي داود، ولم يثبت خلاف هذا من أحد يعتد به في الإجماع. وقالت الشيعة: الواجب مسحهما. وإن من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلي صفات متعددة متفقون علي غسل الرجلين، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ويل للأعقاب من النار)) وعيد وتهديد عظيم لمن لم يستكمل الغسل، فهو دليل الوجوب، وقد صح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف الطهور. فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً- إلي أن قال- ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد علي هذا أو نقص فقد أساء وظلم)) وهذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره بالأسإنيد الصحيحة- انتهي كلامه. وذهبت الشيعة إلي أنه يمسح علي الرجلين؛ لقوله تعالي: {وامسحوا برءوسكم

ـــــــــــــــــــــــــــــ وأرجلكم} فإنه تعالي عطف الرجل علي الرأس، والرأس ممسوح، فكذا الرجل. قلت: وقد قرئ بالنصب عطفاً علي قوله: ((وأيديكم)) فإذا ذهب إلي المسح يبقى مقتضى النصب غير معمول به، بخلاف العكس؛ فإن المسح مغمور بالغسل، علي أن الأحاديث الصحيحة التي كادت تبلغ مبلغ التواتر معاضدة لقراءة النصب؛ فوجب تأويل القراءة بالكسرة، وفيه وجوه: أحدها العطف علي الجوار، كقوله تعالي: {عذاب يوم أليم} فالأليم صفة العذاب فأخذ إعراب اليوم للمجاورة، وقوله تعالي: {عذاب يوم محيط}، {وحور عين} بالجر، بعد قوله: {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق} لأن ((حور)) لا يصلح عطفها علي ((أكواب))؛ لأن الحور لا يطاف بها، وقولهم: جحر ضب خرب. وفائدة العطف ما قاله صاحب الكشاف: اكتساب المعطوف- أي الأرجل المغسولة- عن المعطوف عليه- وهو الرأس الممسوح- قلة انصباب الماء علي الأرجل؛ لأنها مظنة لإفراط الصب عليها. والثاني قول ابن الحاجب: هذا الأسلوب- أي عطف أرجلكم علي رءوسكم- مع إرادة كونها مغسولة من باب الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى ولكل واحد منهما متعلق، جوزت ذكر أحد الفعلين، وعطف متعلق المحذوف علي المذكور علي حسب ما يقتضيه لفظه، حتى كأنه شريكه في أصل الفعل، قال: يا ليت بعلك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً وكقول الآخر: علفته تبناً وماءاً بارداً. والثالث قول الزجاج: يجوز ((أرجلكم)) بالخفض علي معنى فاغسلوا؛ لأن قوله: {إلي الكعبين} قد دل عليه؛ لأن التحديد يفيد الغسل، كما في قوله: {إلي المرافق} ولو أريد المسح لم يحتج إلي التحديد، كما قال تعالي في الرءوس: {فامسحوا برءوسكم} من غير تحديد، وتنسيق الغسل علي المسح كما قال الشاعر: متقلداً سيفاً ورمحاً. وكان حاصل قول ابن الحاجب من هذا، والله أعلم.

399 - وعن المغيرة بن شعبة، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلي العمامة وعلي الخفين. رواه مسلم. 400 - عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره وترجله وتنعله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن المغيرة: قوله: ((فمسح بناصيته)) ((قض)): اختلفوا في المسح علي العمامة، فمنعه أبو حنيفة- رضي الله عنه- ومالك مطلقاً، وجوز الثوري، وأحمد، وداود الاقتصار علي مسحها، إلا أن أحمد اعتبر أن يكون التعمم علي طهر كلبس الخف. وقال الشافعي: لا يسقط الفرض بالمسح عليها؛ لظاهر الآية الدالة علي وجوب إلصاق المسح بالرأس، والأحاديث المعاضدة لها، لكن لو مسح من رأسه ما يطلق عليه اسم المسح، وكان يعسر عليه رفعها، وأمر اليد المبتلة عليها بدل الاستيعاب، كان حسناً. الحديث الثامن عن عائشة: قوله: ((يحب التيمن)) قال الشيخ محيي الدين: في قوله: ((ما استطاع)) إشارة إلي شدة المحافظة علي التيمن، وهذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب، والسراويل، والخف، ودخول المسجد، [والسواك]، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وترجيل الشعر- وهو مشطه- ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل، والشرب، والمصافحة، وغير ذلك مما هو في معناه- يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضده كدخول الخلاء، وخروج المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسراويل، والخف، وما أشبه ذلك- فيستحب فيه التياسر، وذلك كله لكرامة اليمين وشوفها. وأجمع العلماء علي أن تقديم اليمين علي اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته الفضل. أقول: قوله: ((في طهوره، وترجله، وتنعله)) بدل من قوله: ((في شأنه)) بإعادة العامل، ولعله صلى الله عليه وسلم إنما بدأ فيها بذكر الطهور لأنه فتح لأبواب الطاعات كلها. فبذكره يستغنى عنها، كما سبق في قوله: ((الطهور شطر الإيمان))، وثنى بذكر الترجل وهو يتعلق بالرأس، وثلث بالتنعل وهو مختص بالرجل؛ ليشمل جميع الأعضاء والجوارح، فيكون كبدل الكل من الكل.

الفصل الثاني 401 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لبستم وإذا توضأتم، فابدأوا بأيامنكم)) رواه أحمد، وأبو داود. [401] 402 - وعن سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [402] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((إذا لبستم وإذا توضأتم)) خصا بالذكر وكرر أداة الشرط ليؤذن باستقلالهما، وأنهما يستتبعان جميع ما يدخل في الباب. أما التوضؤ فقد سبق ذكره آنفاً، وأما اللباس فإنه من النعم الممتن بها في قوله تعالي: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً ليواري سوآتكم وريشاً} إشعاراً بأن التستر باب عظيم في التقوى، ولذلك حين عصى آدم ربه عاقبه بإبداء السوءة، ونزع لباس التقوى عنه. ((نه)): قوله: ((فابدأوا بأيامنكم)) الحديث، كذا وجدناه في نسخ المصابيح، والرواية المعتد بها ((بميامنكم))، ولا فرق بين اللفظين من طريق العربية، فإن الأيمن والميمنة خلاف الأيسر والميسرة، غير أن الحديث تفرد أبو داود بإخراجه في كتابه، ولفظه: ((بميامنكم)) فعلينا أن نتبع لفظه. قال المؤلف: وقد وجدت في كتاب أي داود في باب النعال، وفي شرح السنة، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي كما في كتاب المصابيح ((بأيامنكم))، وقال: تفرد أبو داود بإخراجه، وقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده أيضاً برواية أبي هريرة. الحديث الثاني عن سعيد: قوله: ((لا ضوء لمن لم يذكر اسم الله)) ((قض)): هذه الصيغة حقيقة في نفي الشيء، وتطلق مجازاً علي نفي الاعتداد به لعدم صحته، كقوله عليه السلام: ((لا صلاة إلا بطهور)) أو كماله كقوله: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) والأول أشيع وأقرب إلي الحقيقة، فتعين المصير إليه ما لم يمنعه مانع، وهاهنا محمولة علي نفي الكمال، خلافاً لأهل الظاهر؛ لما روى ابن عمر وابن مسعود أنه عليه السلام قال: ((من توضأ فذكر اسم الله كان

403 - ورواه أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة. 404 - والدارمي عن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، وزادوا في أوله: ((لا صلاة لمن لا وضوء له)) [404]. 405 - وعن لقيط بن صبره، قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء. قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً))، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وروى ابن ماجه، والدارمي إلي قوله: ((بين الأصابع)) [405]. 406 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك)) رواه الترمذي. وروى ابن ماجه نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب [406]. ـــــــــــــــــــــــــــــ طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله كان طهوراً لأعضاء وضوئه))، ولم يرد به الطهور عن الحدث؛ فإنه لا [يتجزى]، بل الطهور عن الذنوب. الحديث الثالث عن لقيط: قوله: ((أخبرني عن الوضوء)) التعريف فيه للعهد الذهني، وهو ما اشتهر بين المسلمين، وتعورف عندهم أن الوضوء ما هو، فيكون الاستخبار عن أمر زائد علي ما عرفه، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((أسبغ الوضوء)) أي كماله: إيصال الماء من فوق الغرة إلي تحت الحنك طولا، ومن الأذن إلي الأذن عرضاً، مع المبالغة في الاستنشاق والمضمضة. هذا في الوجه، وأما في اليدين والرجلين فإيصال الماء إلي فوق المرافق والكعبين، مع تخليل كل واحد من أصابع اليدين والرجلين، فتأمل في بلاغة هذا الوجوب الموجز.

407 - وعن المستورد بن شداد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [407] 408 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: ((هكذا أمرني ربي)) رواه أبو داود. [408] 409 - وعن عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته. رواه الترمذي والدارمي. [409] 410 - وعن أبي حية، قال: رأيت علياً توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلي الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي، والنسائي. [410] 411 - وعن عبد خير، قال: نحن جلوس ننظر إلي علي حين توضأ فأدخل يده اليمنى فملأ فمه، فمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاث مرات، ثم قال: من سره أن ينظر إلي طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره. رواه الدارمي. [411] 412 - وعن عبد الله بن زيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثاً. رواه أبو داود، والترمذي. [412] 413 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، وأذنيه: باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه. رواه النسائي. [413] 414 - وعن الربيع بنت معوذ: أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت: فمسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة. [414] وفي رواية، أنه توضأ فأدخل أصبعيه في جحري أذنيه. رواه أبو داود، وروى الترمذي الرواية الأولي، وأحمد وابن ماجه الثانية.

415 - وعن عبد الله بن زيد: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه. رواه الترمذي. ورواه مسلم مع زوائد. 416 - وعن أبي أمامة، ذكر وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان يمسح الماقين، وقال: الأذنان من الرأس، رواه ابن ماجه، وأبو داود والترمذي. وذكراً: قال حماد: لا أدري: ((الأذنان من الرأس)) من قول أبي أمامة أم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. [416] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع إلي الحادي عشر عن ابن عباس: قوله: ((بالسباحتين)) ((تو)) يعني بهما المسبحتين، وهما السبابتان، والسباحة والمسبحة من التسميات الإسلامية، وضعوها مكان السبابة؛ لما في السبابة من المعنى المكروه، والإبهام الإصبع العظمى، وهي مؤنثة والجمع، أباهيم. ((شف)): فيه إرشاد إلي أن باطنهما هو البادي للنظر منهما، وظاهرهما هو الملتصق بالرأس، وهو غير البادي منهما. الحديث الثاني عشر عن الربيع: قوله: ((صدغيه)) الصدغ ما بين الأذن والعين، ويسمى أيضاً الشعر المتدلي عليه صدغاً. ((حس)): اختلفوا في تكرار مسح الرأس، هل هو سنة أم لا؟ فذهب أكثرهم إلي أنه يمسح مرة واحدة، ومنهم الأئمة الثلاثة، والمشهور من مذهب الشافعي أن المسح ثلاثاً سنة بثلاثة مياه جدد. الحديث الثالث عشر عن عبد الله: قوله: ((مسح رأسه بماء غير فضل)) أي أخذ له ماء جديداً، ولم يقتصر علي البلل الذي بيديه، وهذا الحديث مخرج في كتاب مسلم، ولا شك أن المؤلف لم يشعر أنه في كتاب مسلم، ونقله عن كتاب الترمذي، فجعله من جملة الحسان. أقول: لا عليه إن ورد في الكتابين، وذكره في قسم الحسان، ولم يذكره في الصحاح، وغايته أن ترك الأولي. الحديث الرابع عشر عن أبي أمامة: قوله ((يمسح الماقين)) ((تو)): الماق طرف العين الذي يلي الأنف. قال أبو عبيد الهروي: وفي كتاب الجوهري: الذي يلي الأنف والأذن، واللغة المشهورة [مؤق] العين. وفيه لغة أخرى، وهي ماق علي مثال قاض، وإنما مسحهما علي وجه الاستحباب مبالغة في الإسباغ، ونظراً إلي حد الكمال، وذلك لأن العين قلما تخلو من قذف ترميه من كحل وغيره، أو رمض يسيل منها، فينعقد علي طرف العين، فيفتقر إلي تنقيته وتنظيفه بالمسح. والذي يقتضيه تفسير أبي عبيدة مسح طرف العين مما يلي الأنف، والذي

417 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلي النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد علي هذا فقد أساء وتعدى وظلم)) رواه النسائي، وابن ماجه، وروى أبو داود معناه [417]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقتضيه قول الجوهري مسح الماقين من كل عين، وهذا أمثل وأحوط؛ لأن المعنى الذي وجدناه في مسح الطرف الذي يلي الأنف وجدناه في مسح الطرف الآخر- انتهي كلامه. وإنما قدم المؤلف ابن ماجه علي أبي داود والترمذي ليرجع الضمير في ((ذكرا)) إليهما، وإنما نشأت تردد الحماد من راوي الحديث عن أبي أمامة؛ لأن لفظة: ((وقال)) يحتمل أن يكون عطفاً علي ((كان))، فيكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقدير: أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل الوجه، ويمسح الماقين، ولم يوصل الماء إلي الأذنين، وقال: هما من الرأس، فيمسحان بمسحه، وأن يكون عطفاً علي ((قال))، فيكون من قول الراوي، فالتقدير: قال الراوي: ذكر أبو أمامة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل الوجه، ويمسح الماقين، ولم يغسل الأذنين؛ لأنهما من الرأس. ((حس)): اختلفوا في أنه هل يأخذ للأذنين ماء جديداً؟ فذهب الشافعي إلي أنهما عضوان علي حالهما، يمسحان ثلاثاً بثلاثة مياه جدد، وذهب أكثرهم إلي أنهما من الرأس، يمسحان معه. قال الزهري: هما من الوجه يمسحان معه، وقال الشعبي: ظاهرهما من الرأس، وباطنهما من الوجه. قال حماد: يغسل ظاهرهما وباطنهما. وقال إسحاق: الاختيار أن يمسح مقدمهما مع الوجه، ومؤخرهما مع الرأس. الحديث الخامس عشر عن عمرو: قوله: ((يسأله)) حال من فاعل ((جاء)) أي جاء سائلاً عن الكمال، كما مضى في الحديث الثالث، والكلام فيه حذف وإضمار، أي فأراد أن يريه ما سأل عنه رأي العين، فقام وتوضأ، وغسل أعضاء الوضوء، ومسح الرأس والأذنين كلا منهما ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: ((هكذا الوضوء)) ولو اقتصر علي القول بغسل أعضاء الوضوء ثلاثاً ثلاثاً لم يفد هذه الفائدة، إذ ليس الخبر كالمعاينة. قوله ((فمن زاد علي هذا فقد أساء)) ((قض)): أي أساء الأدب، فإن الازدياد استنقاص لا استكمله الشرع، وتعد عما حد له وجعل غاية التكميل، وظلم بإتلاف الماء، ووضعه في غير موضعه. قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد علي الثلاث أن يأثم. وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد علي الثلاث إلا رجل مبتلي. وأقول: يمكن أن يقال: إنه أساء الأدب حيث زاد علي مؤدبه، وما يفعل ذلك إلا من تعدى طوره، وجاوز حده، حيث يوهم أنه أعلم منه، ولا يصدر ذلك إلا

418 - وعن عبد الله بن المغفل، أنه سمع ابنه يقول، اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، قال: أي بني سل الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [418] 419 - وعن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحداً أسنده غير خارجه، وهو ليس بالقوي عند أصحابنا. [419] ـــــــــــــــــــــــــــــ عمن ابتلي بالجنون، ومن توهم ذلك فقد ظلم نفسه، حيث عرضها لسخط الله ومقته، هذا معنى قول ابن المبارك وأحمد رضي الله عنهما، والله أعلم. الحديث السادس عشر عن عبد الله بن مغفل: قوله: ((أي بني)) ((تو)): أنكر الصحابي علي ابنه في هذه المسألة؛ لأنه طمح إلي ما لا يبلغه عملا وحالاً، حيث سأل منازل الأنبياء والأولياء، وجعلها من باب الاعتداء في الدعاء؛ لما فيها من تجاوز عن حد الأدب، والنظر الداعي إلي نفسه بعين الكمال، والاعتداء في الدعاء يكون من وجوه كثيرة، والأصل فيه أن يتجاوز عن مواقف الافتقار إلي بساط الانبساط، أو يميل إلي أحد شقي الإفراط والتفريط في خاصة نفسه، وفي غيره إذا دعا له أو عليه، والاعتداء في الطهور استعماله فوق الحاجة، والمبالغة في تحري طهوريته، حتى يفضي به إلي الوسواس- انتهي كلامه. فعلي هذا ينبغي أن يروى الطهور بضم الطاء، ليشمل التعدي في استعمال الماء، والزيادة علي ما حد له. الحديث السابع عن أبي بن كعب: قوله: ((الولهان)) ((تو)): هو مصدر وله يوله ولهاً وولهاناً، وهو ذهاب العقل، والتحير من شدة الوجد، فسمي به شيطان الوضوء إما لشدة حرصه علي طلب الوسوسة في الضوء، وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة، حتى يرى صاحبها حيران ذاهب العقل، لا يدري كيف يلعب به الشيطان- انتهي كلامه. يريد أن الولهان مصدر وضع موضع اسم الفاعل للمبالغة في تحيره؛ لشدة حرصه علي إيقاع الناس في التحير، أو تحير الناس بإيقاع وسوسته، فأسند إليه إسناداً مجازياً، لأنه حاملهم عليها، كما يقال: ناقة ضبوث، أي ضابثة.، والضبث الجس والقبض علي الشيء، وإنما جعلت ضابثة لما بها من السمن الداعي إلي الضبث والجس، مثل الحلوب والركوب، كذا في أساس البلاغة.

420 - وعن معاذ بن جبل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه، رواه الترمذي. [420] 421 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها أعضاءه بعد الوضوء. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الراوي ضعيف عند أهل الحديث. [421] الفصل الثالث 422 - عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر- هو محمد الباقر- حدثك جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، مرتين مرتين، ثلاثاً ثلاثاً؟ قال: نعم. رواه الترمذي. وابن ماجه. [422] 433 - وعن عبد الله بن زيد، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وقال: ((هو نور علي نور)). [423] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وسواس الماء)) أي وسواس الولهان، فوضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال وسواسه في شأن الماء، وإيقاع الناس في التحير، حتى يتحيروا: هل وصل الماء إلي أعضاء الوضوء والغسل أو لم يصل؟ وهل غسل مرة أو مرتين أو أكثر؟ أو هل هو طاهر أو نجس؟ أو بلغ قلتين أم لا؟ وغير ذلك، والله أعلم. الحديث الثامن عشر والتاسع عشر ظاهران. الفصل الثالث الحديث الأول عن ثابت: قوله: ((حدثك جابر)) من عادة المحدثين أن يقول القارئ بين يدي الشيخ: حدثك فلان عن فلان، يرفع إسناده وهو ساكت يقرر ذلك، كما يقول الشيخ: حدثني فلان عن فلان، ويسمعه الطالب. الحديث الثاني عن عبد الله بن زيد: قوله: ((نور علي نور)) إشارة إلي قوله: ((إن أمتي غر محجلون من آثار الوضوء)) أو هداية علي هداية سنة علي فرض، يهدي الله لنوره من يشاء.

424 - وعن عثمان، رضي الله عنه. قال: إن رسول الله توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء إبراهيم)) رواهما رزين. والنووي ضعف الثاني في: ((شرح مسلم)). 425 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتوضأ لكل صلاة، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث. رواه الدارمي. [425] 426 - وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهراً، عمن أخذه؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل، حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهراً، فلما شق ذلك علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبد الله: يرى أن به قوة علي ذلك، ففعله حتى مات. رواه أحمد. [426] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عثمان: قوله: ((هذا وضوء الأنبياء قبلي)) مضى الكلام فيه. قوله: ((رواهما)) أي حديث عبد الله بن زيد وحديث عثمان، والنواوي ضعف حديث عثمان. الحديث الرابع عن أنس: قوله: ((يتوضأ لكل صلاة)) في الحديث إشعار بأن تجدد الوضوء كان واجباً ثم نسخ، بشهادة الحديث الآتي. الحديث الخامس عن محمد بن يحيى: قوله: ((عمن)) متعلق بمعنى ((أرأيت)) لا بلفظه، أي أخبرني عمن أخذه، والضمير بمعنى اسم الإشارة، والمشار إليه الوضوء المخصوص. قوله: ((فقال: حدثته)) أي حدثته معنى ما قاله لا ما تلفظ به، فإن لفظه هو حدثني، ونحوه قوله تعالي: {قل للذين كفروا ستغلبون}، قرئ بالياء والتاء فالياء التحتإنية هي إذاً لفظ ما توعد به بعينه، وبالتاء إذا تلفظ معنى ما توعد به لا لفظه، فالقائل في قوله: ((فقال: حدثته)) هو المسئول عنه في قوله: ((أرأيت)). وفي الحديث تنبيه علي فخامة أمر السواك، حيث أقيم مقام مثل ذلك الواجب، فكاد أن يكون واجباً عليه صلى الله عليه وسلم.

(6) باب الغسل

427 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف يا سعد؟)) قال: أفي الوضوء سرف؟! قال: ((نعم! وإن كنت علي نهر جار)) رواه أحمد، وابن ماجه [427]. 428 - وعن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من توضأ وذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله؛ لم يطهر إلا موضع الوضوء)) [428]. 429 - وعن أبي رافع، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ وضوء الصلاة حرك خاتمه في أصبعه، رواهما الدارقطني، وروى ابن ماجه الأخير [429] (6) باب الغسل الفصل الأول 430 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جلس أحدكم بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل)). متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الغسيل)) - بالجر- صفة حنظلة، روي عن عروة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة حنظلة ابن أبي عامر: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنباً، وغسلت إحدى شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج، فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الملائكة تغسله)). الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((وإن كنت علي نهر جار)) تتميم لإرادة المبالغة فيما ذكر، أي نعم ذلك تبذير وإسراف فيما لم يتصور فيه التبذير، فكيف بما تفعله؟ ويحتمل أن يراد بالإسراف الإثم. ((نه)): وقد تكرر ذلك الإسراف في الحديث، والغالب علي ذكره الإكثار من الذنوب والخطايا. باب الغسل الفصل الأول الحديث الأول: عن أبي هريرة قوله: ((إذا جلس الرجل)) ((قض)): قيل: ((شعبها الأربع)) يداها، ورجلاها،

431 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الماء من الماء)). رواه مسلم. قال الشيخ الإمام محيي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: رجلاها وشفراها، ولذلك كنى عنها بالشعب. ((وجهدها)) جامعها، قال ابن الأعرابي: الجهد- بالفتح- من أسماء النكاح، ولعله كناية مأخوذة من الجهد بمعنى المبالغة. واختلف العلماء في وجوب الغسل بالإيلاج، فذهب جمهور الصحابة ومن بعدهم إلي أن الإيلاج الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن لم ينزل، لهذا الحديث وغيره من الأخبار المعاضدة له، وذهب سعد بن أبي وقاص في آخرين من الصحابة إلي أنه لا يجب الغسل ما لم ينزل. وقال به الأعمش وداود، وتمسكوا بقوله عليه السلام: ((الماء من الماء)) أي الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء، وذلك يفيد الحصر عرفاً. وأجيب بأنه منسوخ بقول أبي بن كعب: ((كان الماء من الماء شيء في أول الإسلام، ثم ترك ذلك بعده، وأمر بالغسل إذا مس الختان الختان)). ورجح التوربشتي التأويل الثاني وقال: لأنه يتناول سائر الهيئات التي يتمكن بها المباشر من إربه، وإذا فسر باليدين والرجلين اختصت بهيئة واحدة. وإنما عدل إلي الكناية بذكر ((شعبها الأربع)) للاجتناب عن التصريح بذكر الشفرين، ولو أريد به اليدان والرجلان لصرح بها، وقيل: جهدها حفزها ودفعها. وأرى أصل الكلمة من الجهد الذي هو الجد في الأمر، وبلوغ الغاية، وإنما عبر عنه بهذا اللفظ المبهم تنزهاً عن التفوه بما يفحش ذكره صريحاً ما وجد إلي الكناية سبيلاً، إلا في صورة تدعو الضرورة إلي التصريح علي ما ذكر في حديث ماعز بن مالك وغيره، لتعلق الحد بذلك، وقد اعتمد في هذا الحديث علي فهم المخاطبين، فعبر عنه بالجهد، والمراد منه التقاء الختإنين، عرفنا ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حيث سألها أبو موسى رضي الله عنها عن ذلك، فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل)). وهو حديث صحيح حسن. الحديث الثاني، والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إنما الماء من الماء)) أحد المائين هو المني، والآخر هو الغسول الذي يغتسل به، أي وجوب الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء الدافق، وقد صح أنه منسوخ. ((تو)): قول ابن عباس: إنما الماء من الماء)) في الاحتلام؛ فإنه قول قاله من طريق التأويل والاحتمال، ولو انتهي الحديث بطوله إليه لم يكن ليأوله هذا التأويل، وذلك أن أبا سعد الخدري رضي الله عنه قال: ((خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلي قباء حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل، فقال عتبان: يا رسول الله! أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن، ماذا عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الماء من الماء)). وهو حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه.

432 - وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء، وفي الاحتلام. رواه الترمذي، ولم أجده في ((الصحيحين)). 433 - وعن أم سلمة، قالت أم سليم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يستحي من الحق؛ فهل علي المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: ((نعم، إذا رأت الماء)). فغطت أم سلمة وجهها، وقالت: يا رسول الله! أو تحتلم المرأة؟ قال: ((نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟!)). متفق عليه. [433] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أم سلمة: قوله: ((إن الله لا يستحيي)) ((تو)): أي لا يمتنع منه، ولا يتركه ترك الحيي منا، قالته اعتذاراً عن تصريحها بما ينقبض عنه النفوس البشرية لاسيما بحضرة الرسالة، أي أن الله تعالي بين لنا أن الحق ليس مما يستحي منه، وسؤالها هذا كان منا لحق الذي ألجأ الضرورة إليه، وقالت عائشة: ((نعم النساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)). قوله: ((أو تحتلم المرأة)) في الصحيحين وكتاب الحميدي وجامع الأصول بغير الهمزة، وفي نسخ المصابيح بالهمزة. قوله: ((تربت يمينك)) ترب الشيء- بالكسر- أصابه التراب، ومنه: ترب الرجل أي افتقر، كأنه لصق بالتراب. وقد ذكر أبو عبيد اختلاف أهل العلم في معنى أمثال هذه الكلمة، وذلك يتعلق باختلاف مواضع الاستعمال، مثل قولهم للرجل: قاتله الله ما أفطنه وما أعقله، والآخر: قاتله الله ما أخبثه، فقولهم هذا علي معنى الدعاء عليه والدم له، والأول علي معنى المدح والتعجب من فطنته وعقله، وذلك يقع موقع قولك: لله دره. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تربت يمينك)) كلمة لم يرد بها الدعاء عليها، وإنما خرجت مخرج التعجب من سلامة صدرها، وقوله: ((فبم يشبهها ولدها)) ((قض)): هذا استدلال علي أن لها منياً كما للرجل مني، والولد مخلوق منها، إذ لو لم يكن لها ماء وكان الولد من مائه المجرد لم يكن يشبهها؛ لأن الشبه بسبب ما بينهما من المشاركة في المزاج الأصلي المعين المعد لقبول التشكلات والكيفيات المعينة من مبدعه تبارك وتعالي، فإن غلب ماء الرجل ماء المرأة وسبق نزع الولد إلي جانبه، ولعله يكون ذكراً، وإن كان بالعكس نزع الولد إلي جانبها، ولعله يكون أثنى، قوله: ((فمن أيهما)) ((من)) فيه زائدة، فالمعنى أي المائين سبق يكون منه الشبه.

434 - وزاد مسلم برواية أم سليم: ((إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه)). 435 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في لماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب علي رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء علي جسده كله. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: يبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يفرغ بيمينه علي شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ. 436 - وعن ابن عباس، قال: قالت ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا فسترته بثوب، وصب علي يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه علي شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فمضمض واستنشق، وغسل وجه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ثلاث غرفات)) وفي أصل المالكي: ((ثلاث غرف)). قال: حكم العدد من ثلاثة إلي عشرة أن يضاف إلي أحد جموع القلة الستة، وهي أفعل، وأفعال، وأفعلة، وفعلة، والجمع بالألف والتاء، وبالواو والنون، فإن لم يكن للمعدود جمع قلة جيء بدله بالجمع المستعمل، كقولك: ثالثة سباع، وثلاثة ليوث، فإن كان له جمع قلة وأضيف إلي جمع كثرة لم يقس عليه، كقوله تعالي: {ثلاثة قروء} مع ثبوت أقراء، ولكن لا عدول عن الإتباع عند صحة السماع. ومن هذا القبيل قول حمران: ((ثم أدخل يمينه في الإناء ثلاث مرار)). مع ثبوت مرات. فعلي هذا قول عائشة رضي الله عنها يقتضي أن يقال: ((ثلاث غرفات))؛ لأن [فعلي] عند البصريين جمع كثرة، ويصح عند الكوفيين؛ لأن فعلي- بضم الفاء وكسرها جمع قلة. وهذا الحديث وقوله تعالي: {فأتوا بعشر سور}. يؤيد قولهم في فعل، وقوله تعالي: {ثمإني حجج} في فعل. الحديث السادس عن ابن عباس: قوله: ((غسلا)) - بضم الغين- كالغسول، والمغتسل، وهو

وذراعيه، ثم صب علي رأسه، وأفاض علي جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوباً فلم يأخذ، فانطلق وهو ينفض يديه متفق عليه، ولفظه البخاري. 437 - وعن عائشة، قالت: إن امرأة من الأنصار سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسلها في المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: ((خدي فرصة من مسك فتطهري بها)). قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: ((تطهري بها))، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال ((سبحان الله! تطهري بها)). فاجتذبتها إلي، فقلت لها تتبعي بها أثر الدم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الماء الذي يغتسل به، كالأكل لما يؤكل، والغسل أيضاً الاسم من غسلت الشيء غسلا- بالفتح- والغسل الذي هو الاسم من غسلت بتسكين السين وبضمه والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من الخطمي وغيره. ((قض)) ومن فوائد هذه الحديث الدلالة علي أن الأولي تقديم الاستنجاء وإن جاز تأخيره، لأنهما طهارتان مختلفتان، فلا يجب الترتيب بينهما، واستعمال اليسرى فيه ودلكها علي الأرض مبالغة في إنقائها، وإزالة ما عبق بها، والوضوء قبل الغسل واختلف في وجوبه، فأوجبه داود مطلقاً، وقوم إذا كان محدثاً، أو كان الفعل مما يوجب الجنابة والحدث، ومنصوص الشافعي أن الوضوء يدخل في الغسل، فيجزئه لهما، وهو قول مالك، وتأخير غسل الرجلين إلي آخر الغسل هو مذهب أبي حنيفة، وقول للشافعي، والمذهب أن لا يؤخر لرواية عائشة رضي الله عنها، ((والتنحي)) أي التباعد عن مكانه لغسل الرجلين، وترك النشف لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الثوب، وجوار النفض، والأولي تركه، لقوله صلى الله عليه وسلم ((إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم))، ومنهم من حمل النفض ها هنا علي تحريك اليدين في المشي، وهو تأويل بعيد. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فرصة)) هي- بالكسر- قطعة قطن، أو خرقة، أو صوف، تمسح بها المرأة من الحيض، و ((من مسك)) صفة لفرصة، ومتعلق الجار محذوف، إما أن يقدر خاصاً، أو عاماً فعلي الأول التقدير: فرصة مطيبة من مسك، وهذا التفسير موافق لما ورد في الصحاح: ((فرصة ممسكة)) ((حسن)): أي خذي قطعة من صوف مطيبة بمسك، وأنكر القتيبي هذا لأنهم لم يكونوا أهل وسع يجدون المسك، فعلي هذا قالوا: تكون الرواية، ((فرصة من مسك)) .. بفتح الميم أي من جلد عليه صوف، وعلي أن يكون المتعلق عاماً أي فرصة كائنة من مسك، لا يجوز أن يراد بالمسك الطيب؛ لأن الفرصة لا تكون مسكاً، فيجب أن يقال كما في الفائق: إن الممسكة الخلق التي أمسكت، كثيراً أو لا يستعمل الجديد للانتفاع به، ولأن الخلق أصلح لذلك وأوفقه.

348 - وعن أم سلمة، قالت: قلت يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفانقضه لغسل الجنابة؟ فقال: ((لا، أنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات، ثم تفضين عليه الماء؛ فتطهرين)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): هذا القول أمتن وأحسن وأشبه بصورة الحال، ومن الدليل علي صحة ذلك قوله: ((فتطهري بها))، ولو كان المعنى علي أنها متطيبة بالمسك لقال: فتطيبي بها، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك لإزالة أثر الدم عند التطهر، ولو كان لإزالة الرائحة الحاصلة من المحيض لأمر به بعد إزالة أثر الدم. ((وسبحان الله)) فيه معنى التعجب. ((الكشاف)): الأصل في ذلك أن يسبح الله في رؤية التعجب من صانعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منها، ومعنى التعجب في الحديث أن يقال: كيف يخفي مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلي فكر. الحديث الثامن عن أم سلمة: قوله: ((أشد ضفر رأسي)) أبو عبيد الضفر- بالضاد- نسج الشعر، وإدخال بعضه في بعض، و ((الضفيرة)) الذؤابة. ((تو)) الحثو والحثي: الثارة، يقال: حثى يحثو حثواً، وحثى يحثى حثياً، ومعنى ((الحثيات)) الثارات التي يثير فيها الماء بيديه ويفيضها علي رأسه، ويمكن أن يراد بالحثية القبضة الواحدة التي تعم سائر البدن، وهذا أقرب، وعلي هذا فالحثيات بمعنى الغسلات الثلاث، وعلي الأول إنما نص علي الثلاث، لأن الكفاية في إفاضة الماء علي سائر الجسد يحصل به في غالب الأحوال، وعلي الثاني يكون التنصيص فيها علي الثلاث علي وجه الاستحباب دون الوجوب. قوله: ((أن تحثي)) ((شف)): هو بإسكان الياء؛ لأنه خطاب للمؤنث، فنصبه بحذف النون، إذ أصله: تحثين، حذفت نونه بأن الناصبة للمضارع، ولا يجوز فيه فتح الياء. ((حس)): العمل علي هذا عند عامة أهل العلم، أن نقض الضفائر لا يجب في الغسل إذا كن الماء يتخللها، وإلا فيجب النقض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة)) وهو غريب الإسناد وقال إبراهيم النخعي نقض الضفائر واجب علي كل حال. ((شف)): في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك)) إلي آخره دليل علي أن الدلك في الغسل غير واجب، وعلي أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين.

439 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلي خمسة أمداد. متفق عليه. 440 - وعن معاذة، قالت: قالت عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان. متفق عليه. الفصل الثاني 441 - عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالمد)) وهو رطل وثلث رطل بالبغدادي، والصاع أربعة أمداد. الحديث العاشر عن معاذة: قوله: ((أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم)) أبرز الضمير ليعطف عليه المظهر، فإن قلت: كيف يستقيم العطف، إذ لا يقال: اغتسل رسول الله؟ قلت: هو علي تغليب المتكلم علي الغائب، كما غلب المخاطب علي الغائب في قوله تعالي: {اسكن أنت وزوجك الجنة}. عطف ((وزوجك)) علي ((أنت)). فإن قلت: الفائدة في تغليب {اسكن} هي أن آدم كان أصلاً في سكنى الجنة، وحواء تابعة له، فما الفائدة فيما نحن فيه؟ قلت: الإيذان بأن النساء محل الشهوات، حاملات للاغتسال، فكن أصلاً فيه. قوله: ((بيني وبينه)) ((مظ)): أي موضع الإناء بيني وبينه، وهو واسع الرأس نجعل أيدينا فيه، ونأخذ الماء، فيبادرني ويسبقني ويأخذ قبلي، وفيه دليل علي أن الماء الذي غمس فيه الجنب يده طاهر مطهر. ((شف)): فيه دليل علي أن فضل ماء الجنب طهور، فإن كل واحد من النبي صلى الله عليه وسلم ومن عائشة رضي الله عنها اغتسل بما فضل عن صاحبه. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التقدير: أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء مشترك بيني وبينه، فيبادرني، ويغتسل ببعضه، ويترك لي ما بقى، فأغتسل أنا منه؟ قلت: يخالفه الحديث الآتي في آخر باب مخالطة الجنب، وهو: ((أنه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل- إلي قوله- وليغترفا جميعاً)) والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((شقائق الرجال)) ((تو)): أي نظائرهم في

يذكر احتلاماً. قال: ((يغتسل)). وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللاً. قال: ((لا غسل عليه)). قالت أم سليم: هل علي المرأة ترى ذلك غسل؟ قال: ((نعم، إن النساء شقائق الرجال)). رواه الترمذي، وأبو داود. [440] وروى الدارمي، وابن ماجه، إلي قوله: ((لا غسل عليه)). [441] 442 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا. رواه الترمذي، وابن ماجه. [442] 443 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة)). رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وقال ـــــــــــــــــــــــــــــ الخلق والطباع، كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خلقت من آدم عليه السالم وشقت منه، وشقيق الرجل أخوه، لأن نسبه شق من نسبه، وذلك باعتبار أنهما شقا من ماء واحد. قال الشاعر: يا بن أمي ويا شقيق نفسي أنت خليتني لأمر شديد ((خط)): فيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطاباً للنساء إلا في مواضع مخصوصة. وقال: ظاهر الحديث يوجب الاغتسال [إذا رأي البلة، وإن لم يتيقن أنها الماء الدافق، وهو قول جماعة من التابعين، وأكثر العلماء أنه لا يجب الاغتسال] حتى يعلم أنه بلل الدافق، واستحبوا الغسل احتياطاً، ولم يختلفوا في عدم وجوب الغسل إذا لم ير البلل، وإن رأي في النوم أنه احتلم. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((إذا جاوز الختان)) وقيل: جاء في بعض الروايات: ((إذا التقى الختانان)) ((نه)): أي إذا حاذى أحدهما الآخر، سواء تلامساً أم لا، يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا وتقابلا، وتظهر فائدته فيما إذا لف علي عضوه خرقة ثم جامع، فإن الغسل يجب. ((شف)): هذا المعنى في رواية ((جاوز)) أظهر؛ فإن لفظ المجاوزة يدل عليه. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((فاغتسلوا الشعر وأنقوا البشرة)) علل الوصف بالظف وهو لفظة ((تحت))، ثم رتب عليه الحكم بالفاء، وعطف عليه ((فأنفقوا)) للدلالة علي أن الشعر قد يمنع وصول الماء، كما أن الوسخ يمنع ذلك، فإذا يجب استقصاء الشعر بالغسل، وتنقية البدن عن الوسخ، ليخرج المكلف عن العهدة باليقين.

الترمذي: هذا حديث غريب، والحارث بن وجيه الراوي وهو شيخ، ليس بذلك. [443] 444 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار)). قوال علي: فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، ثلاثاً، رواه أبو داود، وأحمد، والدارمي، إلا أنهما لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي. [444] 445 - وعن عائشة: رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [445] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وهو شيخ ليس بذاك)) أي كبر وغلب عليه النسيان والغفلة، وليس بذاك الذي يوثق به، أي روايته ليست بقوية. الحديث الرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((من جنابة)) متعلق بـ ((ترك))، و ((لم يغسلها)) صفة ((موضع شعرة))، أنت الضمير باعتبار المضاف إليه، وهذا يقوى ما ذهبنا إليه في تفسير قوله: ((تحت كل شعرة جنابة، وقوله: ((كذا وكذا)) كناية عن العدد مثل كم، كما أن كيت وكيت كناية عن الحالة والقصة، أي يضاعف العذاب أضعافاً كثيرة، وأخرج الفعل علي ما لم يسم فاعله، وكنى بكذا عن العدد- ليدل علي فظاعته وشدته، ومن ثم بالغ علي رضي اله عنه في قوله: ((عاديت)) حيث عدل من الشعر إلي الرأس، واستعار المعاداة للحلق تمثلاً لرأسه بالعدو والمناوئ، يعني فعلت برأسي ما يفعل العدو بالعدو، من استئصال الشعر وقطع دابره، مخافة عدم وصول الماء إلي موضع شعره. ذكر في الغريبين أنه حكى أبو عدنان عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ((عاديت شعري))، أي رفعته عند الغسل، وعاديت الشيء باعدته. ويعضد ما ذكرنا من استئصال الشعر ما رواه الدارمي في آخر هذا الحديث: ((وكان علي رضي الله عنه يجز شعره))، وفيه أن المداومة علي حلق الرأس سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرره علي ذلك، ولأنه رضوان الله عليه من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بإتباع سنتهم، والعض عليها بالنواجذ. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا يتوضأ)) ((مظ)): هذا يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم

446 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه بالخطمى وهو جنب يجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء. رواه أبو داود [446]. 447 - وعن يعلي، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الله حيي ستير يحب الحياء والتستر، فإذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر)). رواه أبو داود، والنسائي وفي راويته، قال: ((إن الله ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء)) [447]. الفصل الثالث 448 - عن أبي بن كعب، قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ـــــــــــــــــــــــــــــ اكتفي بوضوء قبل الغسل، وأنه صلى الله عليه وسلم ويكتفي بالنية عن الوضوء، فإنه إذا ارتفع الحدث الأكبر يندرج تحته الأصغر، والحكم كذلك في الفقه. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الخطمي)) - بالكسر- نبت يغسل به الرأس، و ((يجتزئ)) به أي يقتصر عليه، ((قض)): فيه تسامح فإن ظاهره يدل علي أنه كان يقتصر علي استعمال الماء المخلوط بالخطمى، ومن المعلم أن الذي يغسل رأسه به يفيض الماء علي رأسه بعده مراراً ليزيل أثره، فلعله أراد أنه عليه السلام يقتصر علي ما يزيله ولا يفيض بعد إزالته ماء مجدداً للغسل، والله أعلم. وكذا في النهاية. أقول: إن من عادة الناس في الاستحمام أن يبدأوا بتنقية البدن بالماء والخطمى، ثم بعد ذلك ينوون رفع الجنابة، ويصبون علي رؤوسهم بما يختصونه بالغسل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بالأول. الحديث السابع عن يعلي: قوله: ((حيي ستير)) ((تو)): المعنى إن الله تبارك وتعالي تارك للمقابح، ساتر للعيوب والفضائح، يحب الحياء والتستر من العبد، لأنهما خصلتان تقضيان به إلي التخلق بأخلاق الله. أقول: هذا من باب التعريض، وصف الله تعالي بالحيي والستير تهجياً لفعل الرجل، وحثاً له علي تحري الحياء والتستر، كقوله تعالي: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به}. وصفهم بالإيمان به- وليسوا ممن لا يؤمن- حثاً للمؤمنين علي الاتصاف بصفات الملائكة المقربين من الإيمان بالله. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي بن كعب: قوله: ((إنما كان الماء)) سبق شرحه في الحديث الثاني من الباب الثاني.

(7) باب مخالطة الجنب وما يباح له

ثم نهي عنها، رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [448] 449 - وعن علي، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء. فقال رسول الله صلي الله عليه نسلم: ((لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك)). رواه ابن ماجه. [449] 450 - وعن ابن عمر، قال: كان الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل البول من الثوب سبع مرات، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل، حتى جعلت الصلاة خمساً. وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة، رواه أبو داود. (7) باب مخالطة الجنب وما يباح له الفصل الأول 451 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه. قوله: ((لو كنت مسحت)) قد تقرر أن ((لو)) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فالمعنى أنه لم يجزئك الغسل، لأنك في زمان الغسل ما مسحت بالماء علي ذلك الموضع، وفيه [أنه يلزمه] الغسل جديداً وقضاء الصلاة. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كانت الصلاة)) يعني ليلة المعراج؛ لأن الله تعالي فرض علي هذه الأمة خمسين صلاة، لا أنهم صلوا خمسين، والحديث مشهور. باب مخالطة الجنب الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((وأنا جنب)) ((نه)): أجنب يجنب إجناباً، إذا صار جنباً، والجنابة الاسم، وهي في الأصل البعد، وسمي الإنسان جنباً لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبة الناس. قوله: ((فانسللت)) ((نه)): أي مضيت وخرجت بتأن وتدريج. ((مظ)): ((الرحل)) أي ما بين

جئت، وهو قاعد. فقال: ((أين كنت يا أبا [هريرة]؟)) فقلت له، فقال: (([سبحان الله! إن] المؤمن لا ينجس)). هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه، وزاد بعد قوله: فقلت له: لقد لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. وكذا البخاري في رواية أخرى. 452 - عن ابن عمر، قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم)). متفق عليه. 453 - (3) وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة. متفق عليه. 454 - (4) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود؛ فليتوضأ بينهما وضوءاً)). رواه مسلم. 455 - (5) وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف علي نسائه بغسل واحد. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرحل، وهو ما كان مع المسافر من الأقمشة، والرحل أيضاً الموضع الذي نزل فيه القوم. ((حس))، فيه جواز مصافحة الجنب ومخالطته، وهو قول عامة أهل العلم، واتفقوا علي طهارة عرق الجنب والحائض. وفيه دليل علي جواز تأخير الاغتسال للجنب، وأن يسعى في حوائجه. ((قض)): يمكن أن يحتج به علي من قال: الحدث نجاسة حكمية، وأن من وجب عليه وضوء أو غسل فهو نجس حكماً. [الحديث الثاني عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قوله: ((توضأ، واغسل)) عطف ((واغسل)) علي ((توضأ)) وفيه دليل علي أن الواو لمطلق الجمعية؛ لأن الغسل مقدم علي الوضوء، ولذا قدم الوضوء اهتماماً بشأنه وتبركاً] الحديث الثالث، والرابع عن أبي سعيد قوله: ((توضأ وضوء)) إنما أتى بالمصدر تأكيداً؛ لئلا يتوهم أن المراد بالوضوء غير المتعارف، كما في الأصل، وهذا يعضده الحديث السابق: ((توضأ وضوءه للصلاة)). الحديث الخامس عن أنس: قوله: ((يطوف بغسل واحد)) ((مح)): فإن قيل: أقل القسم ليلة لكل امرأة، فكيف طاف علي الجميع في ليلة واحدة؟ والجواب أن القسم في حقه صلى الله عليه وسلم هل كان واجباً دائماً؟ فيه خلاف. قال أبو سعيد الاصطخري: لم يكن واجباً، وإنما كان القسم بالسوية منه تكرماً وتبرعاً، والأكثرون علي أنه واجب، فعلي هذا كان طوافه صلى الله عليه وسلم عليهن برضاهن، وأما الطواف بغسل واحد فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بينهما.

456 - (6) وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل علي كل أحيانه. رواه مسلم. وحديث ابن عباس سنذكره في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالي. الفصل الثاني 457 - عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه، فقالت: يا رسول الله! إني كنت جنباً، فقال: ((إن الماء لا يجنب)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وروى الدارمي نحوه [457]. 458 - وفي ((شرح السنة)) عنه، عن ميمونة، بلفظ ((المصابيح)). [458] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عائشة: قوله: ((علي كل أحيانه)) ((مح)): الذكر نوعان: قلبي، ولسإني، والأول أعلاهما، وهو المراد في الحديث، وفي قوله تعالي: {اذكروا الله ذكراً كثيراً}، وهو أن لا ينسى الله علي كل حال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حظ وافر من هذين النوعين، إلا في حالة الجنابة ودخول الخلاء، فإنه يقتصر فيهما علي النوع الأعلي، الذي لا أثر فيه للجنابة، ولذلك إذا خرج من الخلاء يقول: ((غفرانك)). الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((اغتسل في جفنة)) حال، أي مدخلة يدها في جفنة، ليطابق قوله: ((إن الماء لا يجنب)). ((تو)): أي الماء إذا غمس فيه الجنب يده لم ينجس، وإنما قال ذلك لأن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام وقد أمروا بالاغتسال من الجنابة، كما أمروا بتطهير البدن عن النجاسة، فربما سبق إلي فهم بعضهم أن العضو الذي عليه الجنابة في سائر الأحكام كالعضو الذي عليه النجاسة، فيحكم بجنابة الماء من غمس عضو الجنب فيه، كما يحكم بنجاسته من غمس النجس فيه، فبين لهم أن الأمر بخلاف ذلك- انتهي كلامه. فإن قلت: كيف الجمع بين هذا الحديث وبين حديث حميد في الفصل الثالث: ((نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة))؟ قلت: هذا الحديث يدل علي الجواز، وذلك علي ترك الأولي، فالنهي تنزيه لا تحريم.

459 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة، ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل. رواه ابن ماجه، وروى الترمذي نحوه [459]. وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)). 460 - وعن علي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه- أو يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة رواه أبو داود، والنسائي. وروى ابن ماجه نحوه [460]. 461 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن)). رواه الترمذي [461]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((يستدفئ بي)) أي يطلب مني الحرارة، ومنها قوله تعالي: {ولكم فيها دفء} أي تتخذون من أوبارها وأصوافها ما تستدفئون به. وفيه أن بشرة الجنب طاهرة؛ لأن الاستدفاء إنما يحصل من مس البشرة البشرة. الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ويأكل معنا اللحم)) لعل انضمام أكل اللحم مع قراءة القرآن للإشعار بجواز الجمع بينهما من غير وضوء أو مضمضة كما في الصلاة. ((تو)): ((ليس)) بمعنى ((إلا))، تقول: ما جاءني القوم ليس زيداً. ويضمر اسمها فيها، وينصب خبرها بها، كأنك قلت: ليس الجائي زيداً، مكان قولك: جاءني القوم ليس زيداً. ((حس)): اتفقوا علي أن الجنب لا يجوز له قراءة القرآن، وهو قول ابن عباس. وقال عطاء: الحائض لا تقرأ

462 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)). رواه أبو داود [462]. 463 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب)). رواه أبو داود، والنسائي [463]. ـــــــــــــــــــــــــــــ القرآن، إلا طرف آية، والأحسن أن يتطهر الجنب والحائض لذكر الله تعالي، فإن لم يجدا ماءاً فتيمماً. الحديث الرابع، الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وجهوا)) ((الجوهري)): الوجه والوجهة بمعنى، والهاء عوض من الواو، والمواجهة المقابلة، ووجهت وجهي لله، فعدى في الحديث ((بعن)) الدلالة علي معنى الصرف، يقال: وجه عنه، أي صرف عنه، ووجه إليه، أي أقبل. وفي إيراد اسم الإشارة إشارة إلي تحقير تلك البيوت، وتعظيم شأن المساجد، أي لا يصح ولا يستقيم أن تكون المساجد ممراً لتلك البيوت، وقوله: ((فإني لا أحل)) إلي آخره بيان للوصف الذي يرد علي الحكم السابق، وعلة له، ولذلك وضع المسجد مقام الضمير. ((حس)): لا يجوز للجنب ولا للحائض المكث في المسجد، وبه قال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وجوز الشافعي المرور فيه، وبه قال مالك، وجوز أحمد والمزني المكث أيضاً، وأولوا {عابري سبيل} بالمسافرين يصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون. وقال ابن الحاجب في تفريعة: الجنابة تمنع دخول المسجد وإن كان عابراً علي الأشهر- انتهي كلامه. وفسروا {عابري سبيل} بالمسافرين. وأقول: الوجه أن يقدر مضاف، ويفسر {عابري سبيل} بالمار في المسجد، و {إلا} بمعنى ((غير)) صفة لـ {جنباً}، أي لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً غير عابري سبيل، فيدل المفهوم علي جواز مرور الجنب في المسجد، فعلي هذا يحسن العطف بقوله: {وإن كنتم مرضي أو علي سفر} عليه لكونه في معنى الشرط، أي لا تقربوا موضع الصلاة إن كنتم مجنيين حتى تغتسلوا، وإن كنتم مرضي إلي آخره، فيطابق ما في المائدة: {وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضي} الآية. فإن السابق في كليهما في شأن الواجدين للماء غير معذورين، واللاحق فيهما في المعذورين. الحديث السادس عن علي رضي الله عنه قوله: ((لا تدخل الملائكة)) الشارحون: المراد بـ ((الملائكة)) الملائكة النازلون بالبركة والرحمة، الذين يطوفون علي العباد للزيارة واستماع الذكر، دون الكتبة؛ فإنهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين في أحوالهم السيئة والحسنة؛ لقوله تعالي: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإن معكم من لا

464 - وعن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)). رواه أبو داود [464]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يفارقكم، فاتقوا الله واستحيوا منهم)). أما امتناعهم عن البيت الذي فيه الصورة فلحرمة الصورة، ومشابهة ذلك البيت بيوت الأصنام، وهذا اللفظ عام، لكن خص بما هو منبوذ يوطأ ويداس؛ فإن الرخصة وردت فيه. وأما امتناعهم عن البيت الذي فيه كلب فلأنه نجس، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((الكلب خبيث)) والملائكة أشرف خلق الله، وهم المكرمون الممكنون من أعلي مراتب الطهارة، وبينهما تضاد كما بين النور والظلمة، ومن ساوى نفسه بالكلاب فحقيق أن ينفر عن بيته الملائكة، واستثنى عن عمومه كل الماشية، والزرع، والصيد؛ لمسيس الحاجة. وأما امتناعهم عن البيت الذي فيه الجنب، فلأنه ممنوع عن معظم العبادات، والمراد به الجنب الذي يتهاون في الغسل، ويؤخره حتى يمر عليه وقت الصلاة، ويجعل ذلك دأباً وعادة له، فإنه مستخف بالشرع، متساهل في الدين، لا أي جنب كان؛ لما ثبت من تأخيره عليه الصلاة والسلام غسل الجنابة من موجبه زماناً، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف علي نسائه بغسل واحد، وكان ينام بالليل وهو جنب. وأقول: لعل الاقتران في المذكور لعلة النجاسة عيناً أو حكماً، فإن الشرك نجاسة {إنما المشركون نجس}، حيث جعلوا الأصنام شركاء لله، والمصور يجعل نفسه شريكاً لله في التصوير، ومن امتنع من عبادة الله تعالي وتقاعد عنها وتكاسل فيها فهو ملحق بمن عبد غير الله تعالي تغليظاً؛ لن الخلق إنما خلقوا لعبادة الله، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقرن بالكلب لخسته، وأنه مال إلي الطبيعة والعالم السفلي، ولم يرتفع إلي العالم العلوي ليشابه الملائكة المقربين، {ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب}. الحديث السابع عن عمار رضي الله عنه: قوله: ((المتضمخ)) ((تو)): الضمخ التلطخ والإكثار منه حتى يقطر، و ((الخلوق)) طيب يتخذ من الزعفران، وإنما استحق أن لا تقربه الملائكة لأنه توسع في الرعونة، وتشبه بالنساء، مع أنه خالف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينته عما نهاه عنه. أقول: أما اقتران الجنب بالكافر وتصريح الجيفة بدل الميت تغليظاً فقد سبق بيانه، وأما ((المتضمخ بالخلوق)) فإنه لما خالق السنة، وابتع هواه، وظن أن ما فعله حسن فهو بالمخالفة نجس ونزل منزلة جيفة الكافر، ووضع موضع الكلب في الحديث السابق. وفيه إشعار بأن من خالف الكتاب والسنة وإن كان في الظاهر مزيناً مطيباً مكرماً عند الناس فهو في الحقيقة أخس من الكلب، وأدون، والله أعلم.

465 - وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ((أن لا يمس القرآن إلا طاهر)) رواه مالك والدارقطني [465]. 466 - وعن نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة، فقضى ابن عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل في سكة من السكك، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه علي الحائط ومسح بهما علي وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد علي الرجل السلام، وقال: ((إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا إني لم أكن علي طهر)). رواه أبو داود [466]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عبد الله: قوله: ((وأن لا يمس القرآن)) أخرج الجملة مخرج الحصر، وخص (بما وإلا)، وقد صرح الزجاج في قوله تعالي: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} بأن هذا التركيب يفيد التأكيد والشمول، كما تفيده صيغ المؤكدات، فلا تحتمل المجاز. والحديث بيان لقوله تعالي: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} فإن الضمير في {لا يمسه} يحتمل أن يرجع إلي القرآن و ((لا)) ناهية و {المطهرون} هم الناس، وأن يرجع إلي الكتاب المعني به اللوح المحفوظ، ولا نافية، ((والمطهرون)) هم الملائكة، فالحديث كشف عن المراد، وأن الهي وارد علي الناس، ويعضده مقام مدح القرآن الكريم، وبكونه ثابتاً في اللوح المحفوظ، يكون الحكم بقوله: {لا يمسه} مرتباً علي الوصفين المناسبين للقرآن المشعرين بالعلية، والله أعلم. الحديث التاسع والعاشر، عن نافع: قوله: ((في حاجة)) أي في شأن حاجة، والتنكير فيها للشيوع، لعل ما بعدها يقيدها بقضاء الحاجة. وقوله: ((أن قال)) بدل من حديثه، أي كان من قوله كذا. و ((خرج من غائط)) أي فرغ منه، فتجوز فيه؛ لأن الخروج إنما يكون بعد الفراغ. و ((ضرب بيديه)) جواب ((إذا))، و ((حتى)) هي الداخلة علي الجملة الشرطية ولعل هذا الحائط كان قد علاه الغبار؛ ليصح التيمم به عند الشافعي، وإلا فهو صحيح عند أبي حنيفة. وفيه أن من شرط ذكر الله أن يكون الذاكر طاهراً كيف ما كان، وأن ذكر الله وإن لم يكن صريحاً- كما في السلام- ينبغي أن يكون علي الطهارة، فإن المراد هنا السلامة، لكنه مظنة لأن يكون اسماً من أسماء الله تعالي. ((حس)): فيه بيان أن رد السلام وإن كان واجباً، فالمسلم علي الرجل في مثل

467 - وعن المهاجر بن قنفذ: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى يتوضأ، ثم اعتذر إليه، وقال: ((إني كرهت أن أذكر الله إلا علي طهر)). رواه أبو داود. وروى النسائي إلي قوله: حتى توضأ. وقال: فلما توضأ رد عليه [467]. الفصل الثالث 468 - عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجنب، ثم ينام، ثم ينتبه، ثم ينام، رواه أحمد [468]. 469 - وعن شعبة، قال: إن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا اغتسل من الجنابة، يفرغ بيده اليمنى علي يده اليسرى سبع مرار، ثم يغسل فرجه، فنسى مرة كم أفرغ، فسألني: فقلت لا أدري. فقال: لا أم لك! وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض علي جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطهر. رواه أبو داود [469]. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الحالة مضيع حظ نفسه؛ فلا يستحق الجواب. وفيه دليل علي كراهة الكلام علي قضاء الحاجة، وعلي أن التيمم في الحضر لرد السلام مشروع. ((مظ)): فيه دليل علي أن من قصر في جواب السلام بعذر يستحب أن يعتذر إليه، حتى لا ينسبه إلي الكبر، وعلي وجوب رد السلام؛ لأن تأخره للعذر يؤذن بوجوبه. الفصل الثالث الحديث الأول ظاهر. الحديث الثاني عن شعبة: قوله: ((لا أم لك)) ((نه)): ولا [أبالك]، وهو أكثر ما يذكر في المدح، أي لا كافي لك غير نفسك، وقد يذكر في معرض الذم، كما يقال: لا أم لك، وفي معرض التعجب ودفعاً للعين، كقولهم: لله درك، في معنى جد في أمرك وشمر؛ لأن من له أب اتكل عليه في بعض شأنه. أقول: إنما جاء الفرق بين ((لا أب لك)) و ((لا أم لك)) لأن الأب إذا فقد دل علي استقلال الابن؛ لأنه هو القائم في أمر ولده ما دام حياً، فإذا مات استقل هو بنفسه، لكن الأم منسوب إليها الرفق والشفقة، ففقدانها ذم له، وما في الحديث وارد علي الذم، لما أتبعه من قوله: ((وما يمنعك أن تدري))، والواو في ((وما يمنعك)) عطف للجملة الاستفهامية علي جملة الدعاء، والجامع كونهما إنشائيتين.

(8) باب المياه

470 - وعن أبي رافع، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم علي نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله! ألا تجعله غسلاً واحداً آخراً؟ قال: ((هذا أزكى وأطيب وأطهر)). رواه أحمد، وأبو داود [470]. 471 - وعن الحكم بن عمرو، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وزاد: أو قال: ((بسؤرها)) وقال: هذا حديث حسن صحيح [471]. 472 - وعن حميد الحميري. قال: لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة)). زاد مسدد: وليغترفا جميعاً. رواه أبو داود، والنسائي، وزاد أحمد في أوله: ((نهي أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله)) [472]. 473 - رواه ابن ماجه عن عبد الله بن سرجس [473]. (8) باب المياه الفصل الأول 474 - عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي رافع: قوله: ((أزكى وأطيب وأطهر)) التطهر مناسب للظاهر، والتزكية والتطيب للباطن، فالأولي لإزالة الأخلاق الذميمة، والأخرى للتحلي بالشيم الحميدة. الحديث الرابع عن الحكم: قوله: ((أو قال: بسؤرها)) شك الراوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بفضل طهور المرأة أو بسؤرها. وهو بالهمز: بقية الشيء الطاهر وقد سبق في الحديث العاشر من الفصل الأول من باب الغسل أن الماء الذي غمس فيه الجنب يده طاهر مطهر. الحديث الخامس ظاهر. باب أحكام المياه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((الدائم)) ((فا)): هو الساكن، دائم الماء يدون، وأدمته أنا، ومنه: يدوم الطائر، وهو أن يترك الخفقان بجناحيه في الهواء، ودوام الشيء مكثه

وفي رواية لمسلم، قال: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)). قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة)) قال: يتناوله تناولاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسكونه. ((قض)): ((الذي لا يجري)) صفة ثإنية تؤكد الأولي، و ((ثم يغتسل فيه)) عطف علي الصلة، وترتيب الحكم علي ذلك يشعر بأن الموجب للمنع أنه يتنجس به، فلا يجوز الاغتسال به، وتخصيصه بالدائم يفهم منه أن الجاري لا يتنجس إلا بالتغير. أقول: لعله امتنع من العطف علي ((يبولن)) وارتكب هذا [التعسف] للاختلاف بين الإنشائي والإخباري، والمعنى عليه أظهر فيكون ((ثم)) مثل الواو في ((لا تأكل السمك وتشرب اللبن)) عطف الاسم علي الفعل علي تأويل الاسم، أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، أي لا تجمع بينهما؛ لأن الاغتسال في الماء الدائم وحده غير منهي، أو مثل الفاء في قوله تعالي: {ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي}، أي لا يكن من أحد البول في الماء الموصوف ثم الاغتسال فيه، فـ ((ثم)) استبعادية، أي يبعد من العاقل الجمع بين هذين الأمرين. فإن قلت: علام تعتمد في نصب ((يغتسل)) حتى يتمشى لك هذا المعنى؟ قلت: إذا قوى المعنى لا يضر الفرع؛ لأنه حينئذ من باب: [أحضر الوغى]. ((مح)): الرواية ((يغتسل)) مرفوع، أي لا تبل ثم أنت تغتسل، وذكر أبو عبد الله بن مالك أنه يجوز جزمه عطفاً علي موضع ((يبولن)) ونصبه بإضمار ((أن))، وإعطاء ((ثم)) حكم واو الجمع، قال: أما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد، بل البول فيه منهي عنه، سواء أريد الاغتسال منه أم لا. أقول: في قوله: ((أما النصب فلا يجوز)) نظراً؛ لما جاء في التنزيل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} والواو للجمع، والمنهي هنا الجمع والإفراد، بخلاف قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. ((مظ)): وجه النهي عن البول في الماء الواقف أن الماء إن كان دون القلتين يتنجس، وإن كان قلتين فلعله يتغير فيتنجس، وإلا فيتنجس بسبب تعاقب الناس عليه بالبول تأسياً بفعله. ((حس)): وفيه دليل علي أن الجنب إذا أدخل يده فيه لتناول الماء لا يتغير به حكم الماء، وإن أدخل فيه ليغسلها من الجنابة تغير الحكمة. ((وفي رواية لمسلم)) أي لمسلم روايتين: إحداهما متفق عليها، وثإنيتهما هذه.

475 - وعن جابر. قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد. رواه مسلم. 476 - وعن السائب بن يزيد، قال: ذهبت بي خالتي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع. فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة ثم توضأ، فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلي خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): ((لا يغتسل أحدكم في الماء وهو جنب)) وتقييد الحكم بالحال يدل علي أن المستعمل في غسل الجنابة إذا كان راكداً لا يبقى علي ما كان، وإلا لم يكن للنهي المقيد فائدة، وذلك إما بزوال الطهارة كما قاله أبو حنيفة، أو بزوال الطهورية كما قال الشافعي في الجديد. ((مح)): هذا النهي في بعض المياه للتحريم، وفي بعضها للكراهة، فإن كان الماء كثيراً جارياً لم يحرم البول فيه؛ لمفهوم الحديث، ولكن الأولي اجتنابه. وإن كان قليلاً جارياً، فقيل: يكره، والمختار أنه يحرم؛ لأنه ينجسه. وإن كان كثيراً راكداً فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل: يحرم لم يكن بعيداً؛ فإن النهي يقتضي التحريم علي المختار، إذ ربما أدت إلي تنجسه بالإجماع لتغيره، أو إلي تنجسه عند أبي حنيفة ومن وافقه في أن الغدير الذي يتحرك طرفه بتحرك الطرف الآخر ينجس بوقوع نجاسة فيه، وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه؛ لأنه ينجسه. قال أصحابنا وغيرهم: التغوط في الماء كالبول فيه وأقبح. الحديث الثاني، والثالث عن السائب بن يزيد: قوله: ((وجع)) الوجع المرض، وجع فلان يوجع [وينجع] وياجع فهو وجع، أي مريض. وقوله: ((فشربت من وضوئه)) ((قض)): يجوز أن يكون المراد به فضل وضوئه، وأن يكون المراد ما انفصل من أعضاء وضوئه، وعلي هذا يكون دليلاً علي طهارة المستعمل، وللمانع أن يحمله علي التداوي. ((وخاتم النبوة)) أثر كان بين كتفيه، نعت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يعلم بها أنه النبي الموعود المبشر به في تلك الكتب، وصيانة لنبوته عن تطرق التكذيب والقدح إليها، صيانة الشيء المستوثق بالختم. قوله: ((زر الحجلة)) ((تو)): الرواية بتقديم الزاي المنقوطة علي الراء المهملة المشددة، و ((الحجلة)) - بتحريك الجيم- قيل: إن المراد به واحد الأزرار التي يشد بها حجال العرائس من الكلل والستور، وهذا بعيد من طريق البلاغة، قاصر في التشبيه والاستعارة، ثم إنه لا يلائم الأحاديث المروية في خاتم النبوة. وقيل: إن المراد منه بيضة الحجلة، وهي القبجة، وهذا القول يوافق الأحاديث الواردة في هذا الباب، غير أن الزر بمعنى البيضة لم يوجد في كلام العرب.

الفصل الثاني 477 - عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: إنما هو ((رز)) بتقديم الراء المهملة، مأخوذ من قولهم: رزت الجرادة، وهو أن تدخل ذنبها في الأرض لتلقى بيضها، وهذا أشبه بما في الحديث، إلا أن الرواية لم تساعده، والذي ينصر القول الثاني ما رواه الترمذي في كتابه عن جابر بن سمرة: ((كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة)). أقول: في قوله: ((قاصر عن التشبيه والاستعارة)) نظر؛ لأن الاستعارة هي ذكر أحد طرفي التشبيه، والمراد به الطرف الآخر، وهاهنا الطرفان مذكوران، فلا يكون استعارة، ولا يجب في التشبيه أن يكون المشبه موافقاً للمشبه به في جميع الأوصاف، فيكفي في ((خاتم النبوة)) أن يكون شيئاً ناتئاً من الجسد، له نوع مشابهة بزر الحجلة، كما في قوله تعالي: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب}، فإن خلقه من تراب بيان لما شبه به عيسى بآدم، وآدم مخلوق من تراب حقيقة، وعيسى مخلوق منه حقيقة بوسائط كثيرة، وقول ابن المعتز: كأن البرق مصحف قار فانطباقاً مرة وانفتاحاً ولم ينظر إلي شيء من أوصاف المشبه والمشبه به سوى الهيئة من انقباض بعد انبساط. الفصل الثاني: الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وما ينوبه)) مجرور عطف علي سبيل البيان، نحو: أعجبني زيد وكرمه، ناب المكان وانتابه، إذا تردد إليه مرة بعد مرة، ونوبة بعد نوبة. ((خط)): وفيه دليل علي أن سؤر السباع نجس، وإلا لم يكن لمسألتهم عنه ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، وذلك لأن المعتاد من طباع السباع إذا وردت المياه أن تخوض فيها وتبول، وقلما تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها. ((قض)): ((القلة)) الجرة التي يستقي بها، سميت بذلك لأنها تقل باليد. وقيل: ((القلة)) ما يستقله البعير، وفي تقدير القلتين بالأمناء خلاف، فقيل: خمسمائة رطل، وقيل: ستمائة، وقيل: خمسمائة من، وسند جميع ذلك مذكور في الكتب الفقهية، فليطلب منها. والحديث بمنطوقه يدل علي أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس بملاقاة النجاسة، فإن قوله: ((لم يحمل)) معناه لم يقبل،

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. وفي أخرى لأبي داود: ((فإنه لا ينجس)). [477] 478 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قيل يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة- وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي [478]. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يقال: فلان لا يحتمل ضيماً إذا امتنع عن قبوله، ودفع عن نفسه، وذلك إذا لم يتغير بها، فإن تغير بها كان نجساً، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه)). وبمفهومه علي أن ما دونه ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يتغير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علق عدم التنجس ببلوغه قلتين، والمعلق بشرط عدم عند عدمه، فيلزم تغاير الحالتين في التنجس وعدمه، والمفارقة بين الصورتين حال التغير منتفية إجماعاً، فتعين أن يكون حين ما لم يتغير، وذلك ينافي عموم الحديث المذكور، فمن قال بالمفهوم وجوز تخصيص المنطوق به كالشافاعي خصص عمومه به، فيكون كل واحد من الحديثين مخصصاً للآخر، ومن لم يجوز ذلك لم يلتفت إليه، وأجرى الحديث علي عمومه، كمالك فإنه قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير قل أو كثر. ((مظ)): الماء الكثير عندنا قدر قلتين، وعند أبي حنيفة الكثير هو الغدير العظيم الذي لو حرك أحد جوانبه لم تتحرك الجوانب الأخر. أقول: قوله: ((لم يحمل)) يحتمل أنه لضعفه لم يحمله، ولقوته لم يقبل، ويرحج الثاني الرواية الثانية: ((فإنه لا ينجس)). الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((من بئر بضاعة)) ((تو)): بضاعة دار بني ساعدة بالمدينة، وهم بطن من الخزرج، وأهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها، والمحفوظ في الحديث الضم، و ((الحيض)) جمع حيضة- بكسر الحاء- الخرقة التي تستسفرها المرأة في المحيض، و ((النتن)) الرائحة الكريهة، والمراد هاهنا الشيء المنتن، كالعذرة، والجيفة. ووجه معنى ((يلقى فيها)) أن البئر كانت بمسيل من بعض الأودية التي يحل بها أهل البادية، فتلقى تلك القاذورات بأفنية منازلهم،

479 - وعن أبي هريرة، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الطهور ماؤه، والحل ميتته)). رواه مالك، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [479] ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكسحها السيل فيلقيها في البئر، فعبر عنه القائل علي وجه يوهم أن الإلقاء من الناس كان لقلة تدينهم، وهذا مما لا يجوزه مسلم، بل لا يرتضيه الكافر، فأنى نظن ذلك بالذين هم أفضل القرون وأزكاهم وأطهرهم؟ وعلي هذا النحو فسره الخطابي. والتعريف في ((الماء)) للعهد الخارجي، أي الماء المسئول عنه طهور لا ينجسه شيء لكثرته، ثم لكونه في حكم المياه الجاري؛ فإن السيل إذا ألقى في مثل تلك البئر قذراً أو نتناً ثم طفح عليها احتمل بعبابه ما ألقى فيها، فلا يسلب عنه إذا حكم الطهورية. أقول: قوله: ((في حكم المياه الجارية)) إلي آخره تحكم لتصحيح مذهبه في الماء الكثيرة. ((حس)): هذا الحديث غير مخالف لحديث ابن عمر في القلتين؛ لأن ماء بئر بضاعة كان كثيراً لا يتغير بوقوع هذه الأشياء فيه، وسئل قيم بئر بضاعة عن عمقها، فقال: أكثر ما يكون الماء فيها إلي العانة، قيل: فإذا نقض كان دون العورة، قال أبو داود: مددت ردائي عليها فإذا عرضها ستة أذرع. ولما كان ماء البئر المسئول عنه كثيراً، وسألوه عنه ليعموا حكم مثل هذا الماء في الطهارة والنجاسة أخرج النبي صلوات الله عليه الجواب عليه، وقال: ((إن الماء طهور))، وفي قوله: ((إن الماء طهور)) دليل علي أن غير الماء لا يطهر؛ حتى لا يجوز الوضوء بشيء من الأنبذة؛ لأن اسم الماء لا يقع عليه، وإن كان مشتداً فهو خمر نجس، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: يجوز الوضوء بجميع الأنبذة. وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز بنبيذ التمر عند عدم الماء. واحتجوا بما روى عن أبي زيد عن ابن مسعود قال: ((سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ما في إداوتك؟ قلت: نبيذ، فقال: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منه))، قال: وهذا حديث غير ثابت؛ لأن أبا زيد مجهول، وقد صح عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ((لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) قال: وإن ثبت فلم يكن ذلك نبيذاً متغيراً، بل كان ماء معداً للشرب نبذ فيه تمرات ليجتذب ملوحته، ويدل علي ما ذكرنا قوله تعالي: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً}، عدل تعالي من الماء عند عدمه إلي التيمم، فلا يجوز أن يتخللهما شيء. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((هو الطهور ماؤه)) نقل الواحدي عن الزجاج أنه قال:

480 - وعن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: ((ما في إداوتك؟)) قال: قلت: نبيذ. قال: ((تمرة طيبة وماء طهور)). رواه أبو داود، وزاد أحمد، والترمذي: فتوضأ منه. [480] وقال الترمذي: أبو زيد مجهور. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطهور اسم للماء الذي يتطهر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهراً في نفسه، مطهراً لغيره؛ لأن عدولهم عن صيغة فاعل إلي فعول أو فعيل لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعإني، فكما لا يجوز التسوية بين صابر وصبور، وشاكر وشكور، كذلك في طاهر وطهور، والشيء إذا كان طاهرا في نفسه لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهر منه، حتى يصفه بطهور لزيادة، وإذا نقلنا الطاهر إلي طهور لم يكن إلا لزيادة معنى، وذلك المعنى ليس إلا التطهير. فإن قيل: بناء الطهور من: طهر يطهر طهارة، وهو لازم، فكيف يجوز تعديته بتطهير غيره؟ قلنا: النظر في هذه اللفظة أدى إلي أن فيه معنى التطهير؛ لأنه لا يجوز إطلاقه علي الماء الذي ليس بمطهر، لأن العرب لا تسمى الشيء الذي لا يقع به التطهير طهوراً، فمن هذا الوجه يجب أن يعلم، لا من التعدي واللزوم. أقول: وكان من ظاهر الجواب عن سؤاله أن يقال: نعم، فأطنب وزاد في الجواب، وأخرج الجملتين مخرج الحصر، حيث عرف [خبريهما]، يعني ماء البحر لسعته وغزارته حكمه حكم سائر المياه في طهوريته، وحل ميتته، لا يتجاوز إلي النجاسة والحرمة، فاعلم هذا الجواب بأن الزيادة علي ما يقتضي الحال ذكره من شأن الهادي المرشد، والحكيم العارف بالأدواء والدواء. ((حس)): في الحديث فوائد: منها أن التوضؤ بماء البحر يجوز مع تغير طعمه ولونه، ومنها أن الطهور هو المطهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تطهير ماء البحر لا عن طهارته، ولولا أنهم عرفوه من الطهور لكان لا يزول إشكالهم بقوله: ((هو الطهور ماؤه)). وقيل: الطهور ما يتكرر منه التطهير، كالصبور والشكور، وهو قول مالك، جوز الوضوء بالماء المستعمل. ومنها أن حكم جميع حيوان البحر إذا ماتت سواء في الحل؛ لقوله تعالي: {أحل لكم صيد البحر}. ((مظ)): الحوت حلال: والضفدع حرام بالاتفاق، والسرطان حرام في أصح القولين، وكذلك ما يعيش في الماء والبر، فأما ما لا يعيش في البر ففيه ثلاثة أقوال، ثالثها ما يؤكل شبيهه في البر حلال، وما لا فحرام.

481 - وصح عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 482 - وعن كبشة بنت كعب بن مالك- وكانت تحت ابن أبي قتادة- أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرإني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا بنة أخي! قالت: فقلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي زيد رضي الله عنه: قوله: ((ليلة الجن)) هي الليلة التي جاءت الجن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهبوا به إلي قومهم ليتعلموا منه الدين. و ((الإداوة)) المطهرة، و ((النبيذ)) التمر أو الزبيب المنبوذ في الماء؛ لتتغير ملوحته ومرارته بالحلاوة، وقد مر الكلام فيه آنفاً. ((تو)): حديث نبيذ التمر قد روى عن ابن مسعود من غير وجه وروى عن ابن عباس عن ابن مسعود، وروي عن أبي رافع مولي عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود، وعن أبي زيد عن ابن مسعود، وفي أسإنيد سائر لأهل النقل فيها مقال، غير أن الحديث إذا روي من طرق شتى غلب علي ظن المجتهد كونه حقاً، لاسيما عند من يرى المسلمين كلهم عدولا في إخبار الديانات، والذي ذكره المؤلف من صحة حديث علقمة عن ابن مسعود هو علي ما ذكره، ولكنا نرى ترك القول بتلك الأحاديث مهما لم نجد إلي الجمع بينها وبين حديث علقمة عنه سبيلا، وقد وجدنا، وهو أن نقول: يحتمل أنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مفاوضة الجن، ودعائهم إلي الإسلام، وكان قد خرج معه فأقعده بمدرجته، علي ما ذكر في الحديث عن ابن مسعود: فانطلقت معه إلي المكان الذي أراد، فخط لي خطاً، وأجلسني فيه، وقال لي: ((لا تخرج من هذا))، فبت فيه حتى أتإني مع السحر. ويحتمل أنه لم يكن معه حين خرج، ثم لحقه بعد أن فرغ من دعوة الجن في ليلته، ثم كان الأمر علي ما ذكر في أحاديثه في ليلة الجن. وهذا الوجه أوثق؛ لما في بعض طرق حديث علقمة عن عبد الله، الذي استدل به المؤلف: أن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدنا ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل استطير ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات قوم، فلما كان في وجه الصبح- أو قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، ثم ساق الحديث، وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في كتابه، ولا تنافي بينه وبين قوله: قال في ليلة الجن؛ لأن سحر تلك الليلة كان مليلة الجن. وتعليل ترك العمل بحديث أبي زيد وغيره عن ابن مسعود بأن ذلك كان بمكة قبل استقرار الأحكام، وقبل نزول المائدة بسنين كثيرة، أوجه من الإقدام علي رد تلك الأحاديث، والله أعلم. الحديث الخامس عن كبشة بنت كعب: قوله: ((فأصغى لها)) أي أمالها، ليسهل عليه الشرب

نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 483 - وعن داود بن صالح بن دينار، عن أمه، أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلي عائشة. قالت: فوجدتها تصلي، فأشارت إلي: أن ضعيها. فجاءت هرة فأكلت منها. فلما انصرفت عائشة من صلاتها، أكلت من حيث أكلت الهرة. فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم)). وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. رواه أبو داود. [483]. ـــــــــــــــــــــــــــــ منه. وقوله: ((من الطوافين)) قال أبو الهيثم: الطائف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية. ((تو)): ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا القول علي وجه البيان لقوله: ((إنها ليست [بنجسة])) أي إنها تطوف عليكم في منازلكم، فتماسحونها بأيديكم وثيابكم، ولو كانت نجسة لأمرتم بالمجانبة عنها، وتخلية البيوت عنها، فشق ذلك عيكم. ((مح)): في الروضة: سؤر الهرة طاهر لطهارة عينها، ولا يكره. ولو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل فثلاثة أوجه، الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها ثم ولغت لم ينجسه، وإلا ينجسه. والثاني ينجسه مطلقاً، والثالث عكسه. أقول: قوله: ((إنها من الطوافين عليكم)) بعد قوله: ((إنها ليست بنجس)) من باب ترتيب الحكم علي الوصف المناسب إشعاراً بالعلية، وهذا الوصف أعني ((الطوافين)) يقتضي أن يكون سؤر الهرة علي تقدير نجاسة فمها معفواً عنه للضرورة، إذ لا يمكن الاحتراز عنه كطين الشارع ونحوه، ويؤيده قول عمر في الحديث الأول في الفصل الثالث: ((لا تخبرنا)) كما سنقرره، وهذا هو المختار عند أبي حامد الغزالي، فإنه قال: والأحسن تعميم العفو للحاجة. ((مظ)): سؤر الهرة مكروه عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي. ونداؤه لزوجة ابنه: ((يا بنة أخي)) علي عرف العرب، فإنها تنادي بعضهم لبعض بيا أخا فلان، وإن لم يكن أخاً بالحقيقة، ويجوز في تعارف الشرع أيضاً؛ لأن المؤمنين إخوة. الحديث السادس عن داود: قوله: ((أن ضعيها)) ((أن)) مفسرة؛ لأن في الإشارة معنى القول، ولقرب المسافة بين المتكلم والإشارة استثنى الرمز من المتكلم في قوله تعالي: {ألا تكلم الناس

484 - وعن جابر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: ((نعم، وبما أفضلت السباع كلها)). رواه في ((شرح السنة)) [484]. 485 - وعن أم هانئ، قالت: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وميمونة في قصعة فيها أثر العجين. رواه النسائي، وابن ماجه [485]. الفصل الثالث 486 - عن يحيى بن عبد الرحمن، قال: إن عمر خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً. فقال عمرو: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمرو بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد علي السباع وترد علينا. رواه مالك [486]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثلاثة أيام إلا رمزاً} أي إشارة بيد أو رأس أو غيرهما. ((الكشاف)): فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام، فكيف استثنى منه؟ قلت: لما أدى مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً، وفيه دليل علي أن مثل هذه الإشارة جائزة في الصلاة. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((أفضلت)) أي أبقت من فضالة الماء الذي تشربه، وهو مثل: أسأرت من السؤر. ((تو)): كلمة ((ما)) في الموضعين بمعنى الذي، وقد رواه بعض الناس بالمد، ولا أراه إلا تصحيفاً. الحديث الثامن عن أم هانئ: قوله: ((أثر العجين)) الظاهر أن أثره في تلك القصة لم يكن كثراً مغيراً للماء. الفصل الثالث الحديث الأول عن يحيى بن عبد الرحمن قوله: ((لا تخبرنا)) يعنيى أن إخبارك به وعدم إخبارك سواء، فإن أخبرتنا بأسوأ الحال فهو عندنا سائغ؛ لأنا نخالط السباع، وهي واردة علينا، وأن الله تعالي قسم لها من هذا الماء ما أخذت بطونها، وقسم لنا ما بقى منها، فهو وضوؤنا وشرابنا. وإنما عدل إلي ((ما أخذت في بطونها)) من ((ما شربتها)) ليشعر بأن ما شربتها حقها الذي قسم الله لها، وما فضلت فهو حقنا.

(9) باب تطهير النجاسات

487 - وزاد رزين، قال: زاد بعض الرواة في قول عمر: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب)). 488 - وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر عن الطهر منها. فقال: ((لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غير طهور)). رواه ابن ماجه [488]. 489 - عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: لا تغتسلوا بالماء المشمش؛ فإنه يورث البرص. رواه الدارقطني [489]. (9) باب تطهير النجاسات الفصل الأول 490 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبع مرات)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري: قوله: ((عن الطهر)) هو بدل عن قوله: ((عن الحياض)) بإعادة العامل، والطهر هو التطهر، والله أعلم. باب تطهير النجاسات الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((شرب الكلب في إناء)) ضمن ((شرب)) معنى ((ولغ))، فعدى تعديته. قوله: ((طهور إناء أحدكم)) ((مح)): الأشهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها، لغتان. ((نه)): ولغ الكلب إذا شرب بلسانه، يقال: ولغ يلغ ولغاً وولوغاً. و ((طهور إناء أحدكم)) مبتدأ، و ((إذا)) ظرف معمول للمصدر، والخبر ((أن يغسله))، كما أن ((إذا)) في قول تعالي: {والنجم إذا هوى} ظرف للقسم، وليس بشرط، ونحو: آتيك إذا احمر البسر. ((حس)): مذهب أكثر المحدثين أن الكلب إذا ولغ في ماء أو مائع يغسل سبع مرات، إحداهن مكدرة بالتراب، وقال مالك والأوزاعي: لا ينجس الماء ولكن يجب غسله تعبداً. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا عدد في غسله، ولا تعفير، بل هو كسائر النجاسات. وفي صحيح البخاري:

وفي رواية لمسلم: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب)). 491 - وعنه، قال: قام أعرابي، فبال في المسجد، فتناوله الناس. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوه وهريقوا علي بوله سجلا من ماء- أو ذنوباً من ماء- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان عطاء لا يرى بشعر الإنسان بأساً أن يتخذ منه الخيوط والحبال وسؤر الكلاب وممرها في المسجد. وقال الزهري: إذا ولغ في الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ بها. وقال سفيان: هذا الفقه بعينه، يقول الله عز وجل: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا ماء وفي النفس منه شيء يتوضأ ويتيمم. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((فتناوله الناس)) أي وقعوا فيه يؤذونه. ((نه)): في الحديث: ((إن رجلاً كان ينال من الصحابة)) يعني الوقيعة فيهم، يقال منها: نال ينال نيلاً إذا أصاب. و ((أهريقوا)) أمر من أهرق يهرق- بسكون الهاء- إرهاقاً، نحو اسطاع، وأصله أراق، فأبدلت الهمزة هاء ثم جعلت عوضاً عن ذهاب حركة العين، فصارت كأنها من نفس الكلمة، ثم أدخل عليها الهمزة. و ((السجل)) يذكر، وهو الدول قل فيه الماء أو كثر، ((والذنوب)) يذكر ويؤنث، وهي ما ملئ ماء، ((من ماء)) زيادة وردت تأكيداً، ويحتمل أن يكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون للتخيير لما بينهما من فرق، وأن يكون من كلام الراوي للترديد، وهذا ظاهر. ((خط)): في الحديث دليل علي أن الماء إذا ورد علي النجاسة علي سبيل المكاثرة والغلبة طهرها وعلي أن غسالات النجاسة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، وإن لم تكن مطهرة، ولولاه لكان الماء المصبوب علي البول أكثر تنجيساً للمسجد من البول نفسه، وزاد. ((حس)): فيه دلالة علي أن الأرض إذا أصابتها نجاسة لا تطهر بالجفاف، ولا يجب حفر الأرض، ولا نقل التراب إذا صب عليه الماء. ((مظ)): الحفر والنقل واجب عند أبي حنيفة، وأن الشمس إذا جفتها طهرت عنده. وأقول: قوله: ((ميسرين)) حال، والمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان الصحابة مقتدين به ومهتدين بهديه كانوا متبوعين، كما ورد: ((الناس لكم تبع)). وقوله: ((ولم تبعثوا معسرين)) عطف علي قوله: ((وإنما بعثتم ميسرين)) علي طريقة الطرد والعكس، تقريراً بعد تقرير، ودلالة علي أن الأمر مبني علي اليسر قطعاً .. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((مه مه)) ((مه)) كلمة بنيت علي السكون، وهو اسم سمي به الفعل، ومعناه اكفف،؛ لأنه زجر، فإن وصلت تؤنث، يقال: مه مه، ويقال:

492 - وعن أنس، قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزرموه، دعوه)). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر؛ إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن)). أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأمر رجلا من القوم، فجاءوا بدلو من الماء، فسنه عليه. متفق عليه. 493 - وعن أسماء بنت أبي بكر، قال: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مهمهت به، أي زجرته، و ((زرم البول)) - بلكسر- إذا انقطع، وكذلك كل شيء ولي، وأزرمه غيره، وفي الحديث: ((لا تزرموا [ابني])) أي لا تقطعوا عليه بوله، وسننت الماء علي وجهي أي أرسلته إرسالاً من غير تفريق، فإذا فرقته في الصب قلت بالشين المعجمة، كلها في الصحاح. وقوله: ((إن هذه المساجد)) إنما أتى باسم الإشارة والمشار إليه حاضر مشاهد لا لبس فيه للدلالة علي تعظيم المشار إليه وتفخيمه؛ ليكن كالوصف المناسب المشعر بنزاهتها عما لا يليق بالتعظيم، وصونها عن الأقذار والأنجاس، فيكون اسم الإشارة في قوله: ((هذا البول)) للتحقير علي عكس الأول. قوله: ((أو كما قال)) أي قال هذا القول، أو قال قولا يشابهه، شك الراوي فيه. و ((قال)) الثاني من كلام الراوي. الحديث الرابع عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: قوله: ((كيف تصنع)) يتعلق بالاستخبار، أي أخبرني كيف تصنع إحدانا إلي آخره، و ((الحيضة)) - بالكسر- الاسم من الحيض، والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض، كالقعدة والجلسة من الجلوس والقعود، وبالفتح المرة الواحدة من نوبة. ((نه)): القرص الدلك بأطراف الأصابع والأظفار مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره، وهو أبلغ في إزالة النجاسة، والنضح الرش، وقد يستعمل في الصب شيئاً فشيئاً، وهو المراد به. ((خط)): النضح الرش، وقد يكون بمعنى الغسل، وفي الحديث دليل علي تعين الماء في إزالة النجاسة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها بإزالة الحيضة به، فوجب إزالة سائر النجاسات به، إذ لا فرق بين جميع النجاسات إجماعاً.

494 - وعن سليمان بن يسار، قال: سألت عائشة عن المني يصيب الثوب. فقالت: كنت أغسله من ثوب رسول الله، فيخرج إلي الصلاة وأثر الغسل في ثوبه. متفق عليه. 495 - وعن الأسود وهمام، عن عائشة، قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 496 - وبرواية علقمة والأسود، عن عائشة نحوه، وفيه: ثم يصلي فيه. 497 - وعن أم قيس بنت محصن: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال علي ثوبه، فدعا بماء فنضحه، ولم يغسله. متفق عليه. 498 - وعن عبد الله بن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس، والسادس عن الأسود: قوله: ((أفرك)) الفرك الدلك حتى يذهب الأثر من الثوب. ((حس)): مذهب الشافعي أن المني طاهر، وعند أصحاب الرأي نجس، يغسل رطبه، ويفرك يابسه، ومن قال بالطهارة قال: حديث الغسل لا يخالف حديث الفرك، وهو علي طريق الاستحباب والنظافة، والحديثان إذا أمكن استعمالهما لم يجز حملهما علي التناقض. الحديث الساعب عن أم قيس: قوله: ((في حجره)) بفتح الحاء وكسرها، والجمع الحجور. ((قض)): المراد من النضح رش الماء بحيث يصل إلي جميع موارد البول من غير جري، والغسل إجراء الماء علي موارده، والفارق بين الصبي والصبية أن بولها بسبب استيلاء الرطوبة والبرد علي مزاجها يكون أغلظ وأنتن، فتفتقر إزالتها إلي مزيد مبالغة بخلاف الصبي. ((خط)) وغيره: ليس تجويز من جوز النضج في الصبي من أجل أن بوله ليس بنجس، ولكن من أجل التخفيف. ((مح)): هذا هو الصواب، ومن قال: إنه طاهر، فهو مخطئ، وفي الحديث دليل علي استحباب حمل الأطفال إلي أهل الفضل للتبرك بهم، سواء كانوا في حال الولادة أو غيرها، وفيه الندب إلي حسن المعاشرة واللين والرفق والتواضع بالصغار وغيرهم. الحديث الثامن عن عبد الله بن عباس: قوله: ((إذا دبغ الإرهاب)) ((فا)): سمى إهاباً لأنها أهبة للحي وبناء للحماية علي جسده، كما قيل له: مسك لإمساكه ما وراءه، وهذا كلام قد سلك فيه

499 - وعنه، قال: تصدق علي مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به!))، فقالوا: إنها ميتة، فقال: ((إنما حرم أكلها)). متفق عليه. 500 - وعن سودة زود النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم مازلنا ننبذ فيه حتى صار شناً. رواه البخاري. الفصل الثاني 501 - عن لبابة بنت الحارث، قالت: كان الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلك التمثيل. ((شف)): في حديث ابن عباس في الإرهاب وفي حديث سودة دليل علي أن الجلد يطهر ظاهره وباطنه بالدباغ، حتى جوز استعمال في الأشياء الرطبة، وتجوز الصلاة فيه. الحديث التاسع عن عبد الله بن عباس: قوله: ((إنما حرم أكلها)) ((مح)): رويناه علي وجهين: حرم- بفتح الحاء وضم الراء- وحرم- بضم الحاء وكسر الراء المشددة- ((حس)): فيه دليل لمن ذهب إلي أن ما عدا المأكول من أجزاء الميتة غير محرم الانتفاع، كالشعر، والسن، والقرن ونحوها، وقالوا: لا حياة فيها، فلا ينجس بموت الحيوان، وجوز استعمال عظام الفيلة، وقالوا: لا بأس بتجارة العاج، واحتجوا بما روى عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتر لفاطمة سوارين من عاج)). والمراد منه عند غيرهم الذبل، وهو عظم سلحفاة البحر. ((مح)): اختلفوا في طهارة جلود الميتة بالدباغ، فذهب الشافعي إلي أن يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة إلا الكلب، والخنزير، والتولد بينهما من أحدهما وغيره، ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه، ويجوز استعماله في الأشياء المائعة واليابسة، ولا فرق بين مأكول اللحم، وغيره. وروى هذا المذهب عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. وإذا طهر بالدباغ هل يجوز أكله؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها لا يجوز بحال، والثاني يجوز، والثالث يجوز أكل جلد مأكول اللحم، ولا يجوز غيره. وإذا طهر الجلد بالدباغ فهل يطهر الشعر الذي عليه تبعاً للجلد؟ إذا قلنا بالمختار في مذهبنا أن شعر الميتة نجس، فيه قولان للشافعي، أصحهما لا يطهر، لأن الدباغ لا يؤثر فيه بخلاف الجلد. الحديث العاشر عن سودة: قوله: ((شنا)) ((نه)): الشنان الأسقية الخلقة، واحدها شن وشنة، وهي أشد تبريداً للماء من الجدد. والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن لبابة بنت الحارث: قوله: ((في حجر رسول الله)) مضى شرحه في الحديث السابع من الفصل الأول.

في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبال علي ثوبه. فقلت: البس ثوباً، وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: ((إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [501]. 502 - وفي رواية لأبي داود، والنسائي، عن أبي السمح، قال: ((يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)). 503 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور)). رواه أبو داود [503]. ولابن ماجه معناه. 504 - وعن أم سلمة، قالت لها امرأة: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطهره ما بعده)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي. وأبو داود والدارمي وقالا: المرأة أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف [504]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني، والثالث عن أبي هريرة: قوله: ((إذا وطئ أحدكم)) ((حس)): ذهب أهل العلم إلي ظاهر هذا الحديث، وقالوا: إذا أصاب أسفل الخف أو النعل نجاسة فدلكه بالأرض حتى ذهب أثرها طهر، وجازت الصلاة فيها، وبه قال الشافعي في القديم، ومستنده ظاهر هذا الحديث. وقال في الجديد. لابد من غسله بالماء، وعلي هذا يؤول هذا الحديث بما إذا وطئ نجاسة يابسة فتشبث بهما شيء منها، فزال بالدلك، كما أول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة الذي بعد هذا: ((يطهره ما بعده))، علي أن السؤال إنما صدر فيما جر من الثياب علي ما كان يابساً من القذر مهما تشبث منه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المكان الذي بعده يزيل ذلك عنه، وإلا فالإجماع منعقد علي أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطهر إلا بالغسل. ((تو)): بين الحديثين بون بعيد، فإن حمل حديث أم سلمة علي ظاهره مخالف للإجماع؛ لأن الثوب إذا نجس لم يطهره إلا الغسل، بخلاف الخف فإن جماعة من التابعين ذهبوا إلي أن الدلك يطهره، علي أن حديث

505 - وعن المقدام بن معدي كرب، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس جلود السباع، والركوب عليها. رواه أبو داود، والنسائي. [505] 506 - وعن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: نهي عن جلود السباع. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وزاد الترمذي، والدارمي: أن تفترش. [506]. 507 - وعن أبي المليح: أنه كره ثمن جلود السباع. رواه [الترمذي في اللباس من ((جامعه)). وسنده جيد]. 508 - وعن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [508]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي هريرة حسن لم يطعن فيه، وحديث أم سلمة مطعون؛ لأن من يرويه أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهي مجهولة. أقول: كأن الشيخ التوربشتي تكلم علي قول محيي السنة، وفرق بين الخف والثوب، فحمل الخف علي النجاسة الرطبة، وخصص حديث الذيل بالنجاسة اليابسة، والظاهر أن كليهما محمولان علي الرطب، لقوله صلى الله عليه وسلم في الأول: ((فإن التراب له طهور)). وفي الثاني: ((يطهره ما بعده))، والتطهر إنما يتصور بعد التنجس، ويؤيد هذا التأويل الحديث الأول في الفصل الثالث من هذا الباب، وبناء الأمر علي اليسر ودفع الحرج. الحديث الرابع، والخامس عن المقدام: قوله: ((عن لبس جلود السباع)) ((مظ)): هذا لنهي يحتمل أن يكون نهي تحريم؛ لأن استعمالها إما قبل الدباغ فلا يجوز؛ لأنها نجسة، وإما بعده، فإن كان عليه الشعر فهي أيضاً نجسة؛ فإن الشعر لا يطهر بالدباغ؛ لأن الدباغ لا يغير الشعر عن حاله، ولا يؤثر فيه. ويحتمل أن يكون نهي تنزيه إذا قلنا: إن الشعر يطهر بالدباغ- كما في الوسيط- لأن لبس جلود السباع والركوب عليها من دأب الجبابرة، وديدن المتكبرين، وعمل المسرفين، وسجية المترفين، فلا يليق بسمة أهل الصلاح. الحديث السادس عن أبي مليح: قوله: ((كره ثمن جلود السباع)) ((مظ)): وذلك قبل الدباغ لنجاستها، وأما بعده فلا كراهة. الحديث السابع عن عبد الله بن عكيم: قوله: ((أن لا تنتفعوا)) ((تو)): قيل: إن هذا الحديث

509 - وعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. رواه مالك، وأبو داود [509]. 510 - وعن ميمونة، قالت: مر علي النبي صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثال الحمار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أخذتم إهابها)). قالوا: إنها ميتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطهرها الماء والقرظ)). رواه أحمد، وأبو داود [510]. 511 - وعن سلمة بن المحبق، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك علي أهل البيت، فإذا قربة معلقة، فسأل الماء. فقالوا: يا رسول الله! إنها ميتة. فقال: ((دباغها طهورها)). رواه أحمد، وأبو داود [511]. الفصل الثالث 512 - عن امرأة من بني عبد الأشهل، قال: قلت: يا رسول الله! إن لنا طريقاً ـــــــــــــــــــــــــــــ ناسخ للأخبار الواردة في الدباغ؛ لما في بعض طرقه: ((أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر)). والجمهور علي خلافه؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث صحة واشتهاراً، ثم إن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حدث من حكاية حال، ولو ثبت فحقه أن يحمل علي نهي الانتفاع قبل الدباغ. الحديث الثامن والتاسع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لو أخذتم)) ((تو)): ((لو)) هذه بمعنى ليت، والذي لاقى بينهما أن كل واحد منهما في معنى التقدير ومن ثم أجيبتا بالفاء. ((مظ)): جواب ((لو)) محذوف، أي لو أخذتم إهابها فدبغتموه لكان حسناً. ((والقرظ)) ورق السلم يدبغ به. ((شف)): في قوله: ((دباغها طهورها)) دليل علي عدم وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ وبعده، كما هو أحد قولي الشافعي. الحديث العاشر عن سلمة: قوله: ((المحبق)) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء المكسورة والقاف، وأصحاب الحديث يفتحون الباء. الفصل الثالث الحديث الأول عن امرأ من بني عبد الأشهل: قوله: ((أليس بعدها طريق هي أطيب)) معنى هذا الحديث وحديث أم سلمة في الفصل الثاني قريبان. ((خط)): قال أحمد: ليس معناه إذا

إلي المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: ((أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟)) قلت: بلي. قال: ((فهذه بهذه)). رواه أبو داود. [512] 513 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتوضأ من الموطئ. رواه الترمذي. [513]. 514 - وعن ابن عمر، قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك. رواه البخاري. 515 - وعن البراء [بن عازب]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس ببول ما يؤكل لحمه)). [515]. 516 - وفي رواية جابر، قال: ((ما أكل لحمه فلا بأس ببوله)). رواه أحمد، والدارقطني. [516] ـــــــــــــــــــــــــــــ أصابه بول ثم مر بعده علي الأرض أنها تطهره، ولكنه يمر بالمكان فيقذره، ثم يمر بمكان أطيب منه فيكون هذا بذلك، ليس علي أنه يصيبه منه شيء. وقال مالك فيما روى: إن الأرض يطهر بعضها بعضاً، إنما هو أن يطأ الأرض القذرة، ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها يطهر بعضاً، فأما النجاسة مثل البول ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد، فإن ذلك لا يطهره إلا الغسل، قال: وهذا إجماع الأمة. ((خط)): وفي إسناد الحديثين معاً مقال؛ لأن الأول عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهي مجهولة لا يعرف حالها في الثقة والعدالة، والحديث الآخر عن امرأة من بني عبد الأشهل، والمجهول لا يقوم له الحجة في الحديث. الحديث الثاني، والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: وقوله: ((من الموطئ)) أي في موضع الوطء، هذا إذا كان يابساً نجساً، وأما إذا كان رطباً فيجب الغسل. وقوله: ((الكلاب تقبل)) وهذا إنما كان في أوقات باردة، ولم يكن للمسجد أبواب تمنعها من العبور. و ((الرش)) هاهنا هو الصب بالماء، ((لا يصبون)) أي الماء علي تلك المواضع لأجل إقبالهم وإدبارهم. الحديث الرابع عن البراء: قوله: ((لا بأس ببول ما يؤكل لحمه)) ((مح)): في الروضة: لنا وجه أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران، وهو قول أبي سعيد الاصطخري من أصحابنا، واختاره الرويإني، وهو مذهب مالك وأحمد.

(10) باب المسح علي الخفين

(10) باب المسح علي الخفين الفصل الأول 517 - عن شريح بن هانئ، قال: سألت علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] عن المسح علي الخفين، فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. رواه مسلم. 518 - وعن المغيرة بن شعبة: أنه غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك. قال المغيرة: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط، فحملت معه إداوة قبل الفجر، فلما رجع أخذت أهريق علي يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه، فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة: وألقى الجبة علي منكبيه، وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلي العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما، ثم ركب وركبت، فانتهينا إلي القوم، وقد قاموا إلي الصلاة، ويصلي بهم عبد الرحمن بن عوف، وقد ركع بهم ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المسح علي الخفين الفصل الأول الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((فتبرز)) التبرز الخروج إلي المبرز ((قبل الغائط)) نحوه، أي تبرز لأجله. ((نه)): ((الإداوة)) - بالكسر- إناء صغير من جلد، وجمعها الأداوى، مثل المطايا، يقال: حسرت كمي عن ذراعي أحسره حسراً، كشفت وخرجت، و ((أهويت)) أي قصدت الهوى من القيام إلي القعود، وقيل: الإهواء إمالة اليد إلي الشيء ليأخذ. ((حس)): فيه دليل علي أن المسح إنما يجوز إذا لبسهما علي كمال الطهارة، وأنه إذا غسل إحدى رجليه ثم لبس الخف ثم غسل الأخرى فلبس الآخر، لا يجوز المسح عليهما، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل طهارة القدمين معاً قبل لبس الخفين شرطاً لجواز المسح عليهما، وعلة لذلك، والحكم العلق بشرط لا يصح إلا بوجود شرطه، ذكره الخطابي. وفيه دليل علي أن من أدرك شيئاً من الصلاة مع الإمام يأتي به معه، ثم يتمها بعد ما سلم، وعلي جواز الاستعانة في الطهارة بالخادم. ((مح)): ((سبقتنا)) ضبطناه في الأصول بفتح السين والباء والقاف، وبعدها تاء مثناة من فوق ساكنة، أي وجدت قبل حضورنا، وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته هذه وتأخر أبي بكر الصديق في صلاته في حديث آخر ليتقدم

ركعة، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم يتأخر، فأومأ إليه، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين معه، فلما سلم، قام النبي صلى الله عليه وسلم، وقمت معه، فركعنا الركعة التي سبقتنا. رواه مسلم. الفصل الثاني 519 - عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما، رواه الأثرم في ((سننه))، وابن خزيمة، والدارقطني. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد، هكذا في ((المنتقى)). [519] 520 - وعن صفوان بن عسال، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم. رواه الترمذي، والنسائي. [520] ـــــــــــــــــــــــــــــ النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرق بينهما أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم؛ لئلا يختل ترتيب صلوة القوم، بخلاف قضية أبي بكر رضي الله عنه. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((أن يمسح)) فمفعول ((رخص))، و ((ثلاثة أيام)) ظرف له، يعني رخص لهم أن يمسحوا ثلاثة أيام ويوماً وليلة. الحديث الثاني عن صفوان: قوله: ((سفراً)) وهو جمع سافر، كتجر جمع تاجر، وصحب جمع صاحب، و ((لكن من غائط)) حق ((لكن)) أن يخالف ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً، محققاً أو مؤولاً، فالمعنى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزع خفافنا في الجنابة، لكن لا ننزع ثلاثة أيام ولياليهن من بول أو غائط وغيرهما إذا كنا سفراً، فعلي هذا لا يلزم رد هذه الرواية علي ما ذهب إليه الشيخ التوربشتي؛ لأن هذا ميل إلي المعنى دون اللفظ. قال ابن جني في قوله تعالي: {وما يخدعون إلا أنفسهم} علي قراءة عبد السلام بن شداد: هذا من أشد مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام، فيأخذه إليه، ويصرفه بحسب ما يؤثره. ((مظ)): فإن قيل: لم لا يجوز المسح علي الخف للمغتسل ويجوز للمتوضئ؟ قلنا: لأن الجنابة يقل وقوعها، فلا يكون في نزع الخف مشقة، بخلاف سائر الأحداث. ((تو)): هذا الحديث

512 - وعن المغيرة بن شعبة، قال: وضأت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فمسح أعلي الخف وأسفله. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث معلول. وسألت أبا زرعة ومحمداً- يعني البخاري- عن هذا الحديث، فقالا: ليس بصحيح. وكذا ضعفه أبو داود. [521] 522 - وعنه، أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح علي الخفين علي ظاهرهما. رواه الترمذي، وأبو داود. [522] 523 - وعنه، قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح علي الجوربين والنعلين، رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [523] ـــــــــــــــــــــــــــــ أحسن ما روي في التوقي، مع ما فيه من الحجة القائمة علي الفرقة الزائغة عن القول بمسح الخف، وهو قول الصحابي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا)) ولفظ الأمر فيه من أقوى الحجج، وأقوم الدلائل، علي أنه الحق الأبلج، والسنة القائمة. الحديث الثالث عن المغيرة: قوله: ((وضأت)) أي سكبت الوضوء علي يديه صلى الله عليه وسلم فمسح أعلي الخف وأسفله. ((حس)): عن علي رضي الله عنه قال: ((لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح علي ظاهر خفيه)). ومسح أعلي الخف واجب، ومسح أسفله سنة عند بعض أهل العلم؛ لما روي المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلي الخف وأسفله، والحديث مرسل؛ لأنه يرويه ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة، وثور لم يسمع هذا عن رجاء، قال أبو عيسى: سألت أبا زرعة ومحمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، قالا: ليس بصحيح. قوله: ((معلول الحديث)) المعلول عبارة عما فيه أسباب خفية غامضة قادحة، وقيل: المعلول ما وهم فيه ثقة برفع المرفوع، أو بتغير إسناده، أو زيادة، أو نقصان يغير المعنى. الحديث الرابع والخامس عن المغيرة: قوله: ((علي الجوربين والنعلين)) ((خط)): معنى قوله: ((والنعلين)) هو أن يكون قد لبس النعلين فوق الجوربين، وقد أجاز المسح علي الجوربين جماعة من السلف، وذهب إليه نفر من فقهاء الأمصار، منهم سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك بين أنس والأوزاعي، والشافعي: لا يجوز المسح علي الجوربين، وقد ضعف أبو داود هذا الحديث، وذكر أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث به.

(10) باب التيمم

الفصل الثالث 524 - عن المغيرة، قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم علي الخفين. فقلت: يا رسول الله! نسيت؟ قال: ((بل أنت نسيت؛ بهذا أمرني ربي عز وجل)). رواه أحمد، وأبو داود. [524] 525 - وعن علي [رضي الله عنه]: أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلي الله ليع وسلم يمسح علي ظاهر خفيه. رواه أبو داود، وللدارمي معناه. [525] (10) باب التيمم الفصل الأول 526 - عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلنا علي الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً. وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((بل أنت نسيت)) يحتمل حمله علي الحقيقة، أي نسيت إني شارع، فنسبت النسيان إلي، أو يكون بمعنى أخطأت، فجاء النسيان علي المشاكلة، قدم الجار والمجرور علي عامله اهتماماً بشأنه؛ لأن الكلام فيه. الحديث الثاني ظاهر. باب التيمم الفصل الأول الحديث الأول عن حذيفة: قوله: ((فضلنا علي الناس بثلاث)) هذه الخصال من بعض خصائص هذه الأمة المرحومة، ثنتان منها لرفع الحرج ووضع الإصر، كما قال تعالي: {ولا تحمل علينا إصراً كما حملته علي الذين من قبلنا}، وواحدة إشارة إلي رفع الدرجات العالية

527 - وعن عمران، قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصلي بالناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ((ما منعك يا فلان! أن تصلي مع القوم؟)) قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)). متفق عليه. 528 - وعن عمار، قال جاء رجل إلي عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ((إنما كان ـــــــــــــــــــــــــــــ في المناجات بين يدي بارئهم، صافين صفوف الملائكة المقربين، كما قال: {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون}. ((خط)): إنما جاء علي مذهب الامتنان علي هذه الأمة، بأن رخص لهم في الطهور بالأرض والصلاة عليها في بقاعها، وكانت الأمم السالفة لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم. ((شف)): فيه دليل علي أن أداء الصلاة بالتيمم لا يجوز عند قدرته علي الوضوء بالماء. ((حس)): خص التراب بالذكر لكونه طهوراً، ولهذا قال الشافعي: لا يصح التيمم بالزرنيخ، والنورة، والجص ونحوها، وإنما يجوز بما يقع عليه اسم التراب في كل أرض يعلق باليد منها غبار، وجوز أصحاب الرأي التيمم بما ذكرنا وغيرها من طبقات الأرض؛ لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)). قلنا: حديث حديفة مفسر، والمفسر من الحديث يقضي علي المجمل. الحديث الثاني عن عمران: قوله: ((فلما انفتل)) يقال: فتل وجهه عني أي صرفه، وقوله: ((إذا)) للمفاجأة، وهو مبتدأ، و ((برجل)) خبره، أي فأجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، والجملة جواب ((لما)). ((الكشاف)): الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه، لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوراً، وهو مذهب أبي حنيفة. فإن قلت: فما تصنع بقوله في سورة المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} أي بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت: قالوا: إن ((من)) لابتداء الغاية، فإن قلت: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسف. قلت: ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء. الحديث الثالث عن عمار: قوله: ((فتمعكت)) أي تمرغت، يقال: تمعكت الدابة وتمرغت إذا

يكفيك هكذا)) فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه علي الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. رواه البخاري. ولمسلم نحوه، وفيه: قال: ((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض. ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)). 529 - وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((مررت علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلي جدار، فحته بعصى كانت معه، ثم وضع يديه علي الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي)). ولم أجد هذه الرواية في: ((الصحيحين))، ولا في: ((كتاب الحميدي))؛ ولكن ذكره في: ((شرح السنة)) وقال: هذا حديث حسن. [529] ـــــــــــــــــــــــــــــ تقلبت في التراب، قاس عمار استعمال التراب علي استعمال الماء في الجنابة. ((حس)): في الحديث فوائد: منها أن مسح الوجه واليدين تارة يكون بدلاً عن غسل أعضاء الوضوء في حق المحدث، وأخرى عن غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والميت عند العجز، أو عند فقدان الماء، وتارة عن غسل لمعة من بدنه بسبب الجرح في بعض أعضاء الووضء، وأنه يكفي في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول علي، وابن عباس، وعمار، وجمع من التابعين رضي الله عنهم. وذهب عبد الله بن عمر، وجابر، وجمع من التابعين رضي الله عنهم والأكثرون من فقهاء الأمصار إلي أن التيمم ضربتان. ((قض)): في الحديث دليل علي أن الضربة الواحدة كافية في التيمم، وقد قال به أحمد، وداود، وهو رواية عن مالك، وقول قديم للشافعي، وذهب الجمهور إلي أنه لابد من ضربتين؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، ومعاضدة القياس والاحتياط له، وقد روي ذلك عن عمار أيضاً. وأقول: حديث عمار أورده أبو داود في سننه، وسيجيء في آخر الفصل الثالث. الحديث الرابع عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة في جامع الأصول بكسر الصاد وتشديد الميم: قوله: ((حته)) أي خدشه. ((حس)): فيه أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار، فإن الحت والخدش إنما كان كذلك، وأن ذكر الله يستحب فيه الطهارة. قوله: ((ولم أجد هذه الرواية في الصحيحين)) ورواية الصحيحين مذكورة في أول الفصل الثالث من هذا الباب.

الفصل الثاني 530 - عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشره، فإن ذلك خير)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [531] وروى النسائي نحوه إلي قوله: ((عشر سنين)). 531 - وعن جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر علي الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا علي النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك. قال: ((قتلوه، قتلهم الله؛ ألا سألوا إذا لم يعلموا! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب علي جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده)). رواه أبو داود. [531] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي ذر: قوله: ((وضوء المسلم)) الوضوء- بفتح الواو- الماء، وفي الكلام تشبيه، أي الصعيد الطيب كالماء في الطهارة. ((وإن لم يجد الماء عشر سنين)) مبالغة لا تحديد، وهذا من الشرط الذي يقطع عنه جزاؤه لمجرد المبالغة، و ((فليمسه)) - بضم الياء وكسر الميم- مضارع أمس البشر، والبشرة وجه الجلد. ((مظ)): ليس معنى ((فإن ذلك خير)) أن الوضوء والتيمم كلاهما جائز عند وجود الماء لكن الوضوء خير، بل المراد منه أن الوضوء واجب عند وجود الماء، ولا يجوز التيمم، وهذا نظير قوله تعالي: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا}، مع أنه لا خير ولا حسن لمستقر أصحاب النار ومقيلهم. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((فشجه في رأسه)) أي أوقع الشج فيه، نحو: يجرح في عراقبها نصل. وكذا قوله: ((خرجنا في سفر)). قوله: ((ألا سألوا)) ((ألا)) حرف تحضيض دخل علي الماضي فأفاد التنديم، و ((إذا)) ظرف فيه معنى التعليل، ويدل علي رواية ((إذا)) والفاء للتسبيب، و ((العي)) عدم الضبط والبيان، يقال: عي بالأمر وتعي به إذا لم يضبطه، وعايا صاحبه معاياة إذا ألقى عليه كلاماً أو علماً لا يهتدي لوجهه، استعارة الشفاء لمعنى الإزالة استعارة مصرحة، أو

532 - ورواه ابن ماجه، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. [532] 533 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمم صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، ولم يعد الآخر. ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك. فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك)). وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك الأجر مرتين)). رواه أبو داود، والدارمي، وروى النسائي نحوه. [533] 534 - وقد روى هو وأبو داود أيضاً عن عطاء بن يسار مرسلا. الفصل الثالث 535 - عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل علي الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ استعارة العي للمرض علي المكنية، وفيه مطابقة معنوية؛ لأنه قوبل العي بعدم العلم، والمقابل الحقيقي للعي للإطلاق، وللجهل العلم، المعنى لم لم يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال، أو لم لم تسألوا عن الشيء حين لم تهتدوا إليه؛ فإن شفاء العي السؤال. ((التعصيب)) الشد بالعصابة والخرقة. ((خط)): وفيه أنه صلى الله عليه وسلم عابهم بالإفتاء بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وفيه أن الجمع بين التيمم وغسل سائر بدنه بالماء، ولم ير أحد الأمرين كافياً دون الآخر جائزاً. الحديث الثالث عن أبي سعيد ظاهر. الفصل الثالث الحديث الأول، والثاني عن عمار بن ياسر: قوله: ((الآباط)) ((الجوهري)): الإبط ما تحت الجناح، يذكر ويؤنث، والجمع آباط، وإنما ذهبوا إلي هذا نظراً إلي أن اليد في آيتي التيمم مطلقة غير مقيدة، فحملت علي مسمى اليد، وهو من رءوس الأصابع إلي المنكب، وأما في آية الوضوء فهي مقيدة بالمرفقين، وذلك أن ((إلي)) ليس لبيان الغاية، بل لإسقاط ما وراءها، إذ

(11) باب الغسل المسنون

536 - وعن عمار بن ياسر: أنه كان يحدث: أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلي المناكب والآباط من بطون أيديهم. رواه أبو داود. [536] (11) باب الغسل المسنون 537 - عن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)). متفق عليه. 538 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غسل يوم الجمعة واجب علي كل محتلم)). متفق عليه. 539 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق علي كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لولاها لاستوعب الوظيفة الكل، كذا ذكره صاحب الهداية. وأما الجمهور فنظروا إلي أن التيمم فرع علي الوضوء وتخفيف، فلأن يذهب إلي أقل من الأصل أولي من أن يذهب إلي أكثر، فردوا المطلق علي المقيد. وقد حكى ابن الحاجب في تفريعه فيمن تيمم إلي الكوعين ثلاثة أقوال: أحدهما صحة الصلاة، والثاني يعيد في الوقت، والثالث يعيد أبداً. باب الغسل المسنون الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إذا جاء أحدكم)) الظاهر أن ((الجمعة)) فاعل، كقوله تعالي: {فإذا جاءتهم الحسنة} وقوله {أن يأتي أحدكم الموت} وفيه أنه لا يصح غسل الجمعة قبل الصبح، والأمر للندب. الحديث الثاني، والثالث عن أبي هريرة: قوله: ((محتلم)) أي بالغ؛ لأن الصبي غير مأمور. ((خط)): ذهب أكثر الفقهاء إلي أنه غير واجب، وتأولوا الحديث علي معنى الترغيب فيه،

الفصل الثاني 540 - عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت؛ ومن اغتسل فالغسل أفضل)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي. [540] 541 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غسل ميتاً فليغتسل)). رواه ابن ماجه. [541] ـــــــــــــــــــــــــــــ حتى يكون الواجب علي معنى التمثيل والتشبيه، واستدلوا بأنه قد عطف عليه الاستنان والطيب، ولم يختلفوا في أنهما غير واجبين، فكذلك المعطوف، وفيه نظر؛ لما سبق من جواز عطف الندب علي الواجب. ((حس)): أراد به وجوب الاختيار لا وجوب الحتم، كما يقول الرجل لصاحبه: حقك علي واجب، ولا يريد به اللزوم الذي لا يسع تركه. ((تو)): وذلك لأن القوم كانوا عمالا في المهنة، يلبسون الصوف، وكان المسجد ضيقاً، ويتأذى بعضهم من بعض من رائحة عرقهم، فندبهم إلي الاغتسال بلفظ الوجوب؛ ليكون أدعى إلي الإجابة، وقد علم ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب. أقول: سيرد في الفصل الثالث حديث مشبع فيه، وفي إيراده قوله: ((يغسل فيه رأسه وجسده)) استئنافاً بعد قوله: ((يغتسل)) بيان لذلك، فإن تخصيص ذكر غسل الرأس والجسد كالوصف المشعر بالعلية للحكم؛ لأنهما مكانا الوسخ والرائحة الكريهة، والحديث الثالث مطلق محمول علي الحديثين الأولين حيث قيدا بالجمعة. الفصل الثاني الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((فبها ونعمت)) ((فا)): الباء متعلقة بفعل مضمر، ي فبهذه الخصلة أو الفعلة تنال الفضلـ والخصلة هي الوضوء، و ((نعمت)) أي ونعمت الخصلة هي، فحذف المخصوص بالمدح. وقيل: أي فبالرخصة أخذ، ونعمت السنة التي ترك. وفي هذا انحراف عن مراعاة حق اللفظ، فإن الضمير الثاني يرجع إلي غير ما يرجع إليه الضمير الأول. ويحتمل أن يقال: عليه بتلك الفعلة. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((من غسل ميتاً)) ((حس)): اختلفوا فيه، فذهب بعضهم

وزاد أحمد والترمذي وأبو داود: ((ومن حمله فليتوضأ)). 542 - وعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت. رواه أبو داود. [542] ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي وجوبه، وأكثرهم إلي أنه غير واجب. ((خط)): يشبه أن من رأي الاغتسال منه إنما رأي لإصابة الغاسل من رشاش المغسول شيء، وربما كان علي بدن الميت نجاسة وهو لا يعلم، فيجب عليه غسل جميع بدنه، فإذا أمن منه لا يجب الاغتسال. قوله: ((ومن حمله)) ((حس)): حمله أي مسه، وقيل: ((فليتوضأ)) معناه فليكن علي وضوء حالة ما يحمله، ليتهيأ له الصلاة عليه. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((من أربع)) ((من)) فيه لابتداء الغاية، أي أنشأ وابتدأ اغتساله من أربع، أي من جهة أربعة أشياء وبسببها، وإنما لم يؤت بمن في يوم الجمعة لأن الاغتسال له ولكرامته، ولا بسببه وما يلحق الشخص من الأذى كما في الثلاث الأخر. ((خط)): قد يجمع اللفظ قرائن الألفاظ، والأسماء المختلفة الأحكام والمعإني ترتبها وتنزلها منازلها، فأما الاغتسال من الجنابة فواجب بالاتفاق، وأما الاغتسال للجمعة فقد قام الدليل علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ويأمره استحباباً. ومعقول أن الحجامة إنما يغتسل منها لإماطة الأذى ولرشاش لا يؤمن منه، فهو مستحب للنظافة. وقيل: لا يفهم من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل الميت، فالإسناد مجازي، كما قيل: إنه رجم ماعزاً، أي أمر برجمه، لا أنه رجمه بنفسه، ويقال: قطع الأمير اللص.

543 - وعن قيس بن عاصم: أنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [543]. الفصل الثالث 544 - عن عكرمة، قال: إن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا بن عباس! أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا؛ ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب. وسأخبركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون علي ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، إنما هو عريشـ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصفوف، حتى ثارت منهم رياح، آذى بذلك بعضهم بعضاً. لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرياح، قال: ((يا أيها الناس! إذا كان هذا اليوم؛ فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه)). قال ابن عباس: قم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن قيس: قوله: ((فأمره أن يغتسل)) ((حس)): ذهب الأكثرون إلي أنه يستحب لمن أسلم أن يغتسل ويغسل ثيابه إذا لم يكن قد لزمه غسل في حال الكفر، وذهب بعضهم إلي وجوبه. ((مظ)): هل يغتسل قبل الشهادتين أو بعدهما؟ فيه خلاف، والأصح لا، فيؤمر أولاً بالشهادتين، ثم بالغسل، والغرض من الاغتسال التطهير من النجاسة المحتملة والوسخ والرائحة الكريهة، فيستعمل السدر لإزالة ذلك والتطيب، وعند مالك وأحمد يجب عليه الغسل وإن لم يكن جنباً. الفصل الثالث الحديث الأول عن عكرمة: قوله: ((أترى)) من الرأي، أي أتذهب إليه وتقول به؟ و ((إنما هو عريش)) أي لم يكن سقف المسجد كسائر السقوف مرتفعة، بل كان شيئاً يستظل به من الشمس كعريش الكرم. وقوله: ((ثم جاء الله بالخير)) عطف علي قوله: ((بدء الغسل))، وفي ((ثم)) معنى التراخي في الزمان والرتبة، ولذا نسب إلي الله تعالي، و ((كفوا)) بالتخفيف، من قولهم: كفاه مئونته.

(12) باب الحيض

العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعضهم الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق. رواه أبو داود. [544] (12) باب الحيض الفصل الأول 545 - عن أنس بن مالك، قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالي: {ويسألونك عن المحيض} الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) فبلغ ذلك اليهود. فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما. فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الحيض الفصل الأول الحديث الأول عن أنس: قوله: ((فيهم)) كذا في جامع مسلم، وجامع الأصول، وفي المصابيح وشرح السنة: ((منهم)). وقوله: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) تفسير للآية وبيان لقوله تعالي: {فاعتزلوا النساء في المحيض}، فإن الاعتزال شامل للمجانبة عن المؤاكلة والمصاحبة والمجامعة، لكنه قيد بقوله تعالي: {فأتوهن من حيث أمركم الله} فعلم أن المراد منه المجامعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) أي الجماع، إطلاقاً لاسم السبب علي المسبب؛ لأن عقد النكاح سبب للجماع، و ((أن قد وجد عليهما)) أي غضب عليهما، ويعبر عن الغضب بالموجدة. ((حس)): اتفقوا علي تحريم غشيان الحائض، ومن فعله عالماً عصى، ومن استحله كفر؛ لأنه محرم بنص القرآن، ولا يرتفع التحريم إلا بقطع الدم والاغتسال عند أكثرهم بنص الكتاب. ((مظ)): عن أبي حنيفة والشافعي ومالك يحرم ملامسة الحائض فيما بين السرة والركبة، وعند

546 - وعن عائشة، قالن: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وكلانا جنب، وكان يأمرني، فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف، فأغسله، وأنا حائض. متفق عليه. 547 - وعنها، قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه علي موضع في، فيشرب؛ وأتعرق العرق، وأن حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيضع فاه علي موضع في. رواه مسلم. 548 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن. متفق عليه. 549 - وعنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ناوليني الخمرة من المسجد)). فقلت: إني حائض. فقال: ((إن حيضتك ليست في يدك)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي يوسف ومحمد، وفي وجه لأصحاب الشافعي أنه يحرم المجامعة فحسب، ودليلهم هذا الحديث، والأولون استدلوا بحديث عائشة الذي يأتي بعد هذا. قوله: ((فاستقبلتهما هدية)) أي فاستقبل الرجلين شخص معه هدية يهديها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسناد مجازي. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((فأتزر)) ((تو)): صوابه بهمزتين، فإن إدغام الهمزة في التاء غير جائز، ولما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها من البلاغة بمكان علمنا أنه نشأ من بعض الرواة. ((فيباشرني)) أي يضاجعني، ويواصل بشرته بشرتي دون جماع، يعني أنه كان يستمتع مني بعد أن يأمرني بشد الإزار، فتمس بشرته بشرتي. وفيه دليل علي حرمة الاستمتاع بما تحت الإزار، وبه قال الشافعي في الجديد، خوفاً من أن يقع في الحرام؛ لأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ((مظ)): في الحديث دليل علي ترك مجانبة الحيض، وعلي المعتكف إذا أخرج بعض أعضائه من المسجد لم يبطل اعتكافه. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((وأتعرق العرق)) في الغريبين: بالفتح وسكن الراء، العرق أي العظم الذي قشر عنه معظم اللحم بالأسنان، ويبقى عليه بقية. الحديث الرابع، والخامس عن عائشة: قوله: ((الخمرة)) ((قض)) الخمرة ((بالضم)) سجادة صغيرة تؤخذ من سعف النخل، مأخوذة من الخمر بمعنى التغطية، فإنها تخمر موضع السجود، أو وجه

550 - وعن ميمونة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرط، بعضه علي وبعضه عليه، وأنا حائض. متفق عليه. الفصل الثاني 551 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً؛ فقد كفر بما أنزل علي محمد. رواه الترمذي. وابن ماجه، والدارمي وفي روايتهما: ((فصدقه بما يقول؛ فقد كفر)). وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من [حديث] حكيم الأثرم، عن أبي تيمية، عن أبي هريرة. [551] ـــــــــــــــــــــــــــــ المصلي عن الأرض. والحيضة- بكسر الحاء- فعلة من الحيض بمعنى الحال التي تكون الحائض عليها من التحيض والتجنب، وقد روى بالفتح، وهي المرة من الحيض. وفيه دليل علي أن للحائض أن تتناول شيئاً من المسجد. ((حس)): في الحديث من الفقه أن للحائض أن تتناول الشيء بيدها من المسجد، وأن من حلف أن لا يدخل داراً أو مسجداً فإنه لا يحنث بإدخال بعض جسده فيه. قال قتادة: الجنب يأخذ من المسجد ولا يضع فيه. ((مظ)): قوله: ((من المسجد)) يجوز أن يعلق بقوله: ((ناوليني))، وهو الظاهر، وأن يعلق بقولها: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم)). الحديث السادس عن ميمونة: قوله: ((في مرط)) ((فا)): المروط أكسية من صوف، وربما كانت من حز. ((شف)): فيه دلالة علي أن أعضاء الحائض كلها سوى الفرج طاهرة، وإلا فالصلاة في مرط واحد بعضه علي النجاسة وبعضه علي المصلي لا يجوز. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((أتى)) لفظ مشترك هنا بين المجامعة وإتيان الكاهن، وفي قوله صلى الله عليه وسلم تغليظ شديد، ووعيد هائل، حيث لم يكتف بـ ((كفر)) بل ضم إليه ((بما أنزل علي محمد))، وصرح بالعلم تجريداً، والمراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي من ارتكب هذه الهنات فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه. وفي تخصيص ذكر المرأة المنكوحة ودبرها دلالة علي أن إتيان الأجنبية لاسيما الذكران أش نكيراً، وفي تأخير الكاهن عنهما ترق من الأهون إلي الأغلظ. ((مظ)): الكاهن هو الذي يخبر عما يكون في الزمان المستقبل بالنجوم وما شاكلها، من

552 - وعن معاذ بن جبل، قال: قلت: يا رسول الله! ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: ((ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل)). رواه رزين. وقال محيي السنة: إسناده ليس بقوي. [552] 553 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقع الرجل بأهله، وهي حائض، فليتصدق بنصف دينار)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. [553] 554 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا كان دماً أحمر، فدينار، وإذا كان دماً أصفر، فنصف دنيا. رواه الترمذي. [554] الفصل الثالث 555 - عن زيد بن أسلم، قال: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يحل ـــــــــــــــــــــــــــــ أكاذيب الجن، والمسترقة من الملائكة أحوال أهل الأرض، من قدر أعمالهم، وأرزاقهم، وما يحدث من الحوادث، فيأتون الكهنة فيخلطون في كل حديث مائة كذبة، فيخبرون الناس بها، يعني من فعل هذه الأشياء واستحلها، وصدق الكاهن فقد كفر، ومن لم يستحلها فهو كافر النعمة فاسق. الحديث الثاني عن معاذ: قوله: ((التعفف عن ذلك أفضل)) ((مظ)): التجنب عما فوق الإزار أفضل، وحكم الحديث ضعيف؛ لما تقدم أن الاتزار والمباشرة فوقه جائز، ولو كان التعفف أفضل لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولي به. الحديث الثالث، والرابع عن ابن عباس: قوله: ((فليتصدق بنصف دينار)) ((حس)): [اختلفوا في جوب الكفارة بوطء الحائض فأكثرهم علي أن الكفارة الاستغفار فحسب] وبه قال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وذهب جماعة إلي وجوبها، وبه قال الشافعي أيضاً، والدليل عليه هذا الحديث. الفصل الثالث الحديث الأول عن زيد بن أسلم: قوله: ((تشد عليها إزارها)) يحتمل أن يكون منصوباً علي

(13) باب المستحاضة

لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها)). رواه مالك، والدارمي مرسلاً. [555] 556 - وعن عائشة، قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال علي الحصير، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندن منه حتى نطهر. رواه أبو داود. [556] (13) باب المستحاضة الفصل الأول 557 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني امرأة استحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: ((لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدع الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حذف ((أن)). فإن قلت: كيف يستقيم هذا جواباً عن قوله: ((ما يحل لي))؟ قلت: يستقيم مع قوله: ((ثم شأنك بأعلاها)) كأنه قيل: يحل لك ما فوق الإزار. ((نه)): أي استمتع بما فوق فرجها، فإنه غير مضيق عليك فهي. و ((شأنك)) منصوب بإضمار فعل، ويجوز رفعه علي الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: مباح أو جائز. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((عن المثال)) ((نه)): المثال الفراش، وهذا الحديث مخالف لما سبق، لعله منسوخ، اللهم إلا أن يحمل الدنو والقربان علي الغشيان، كما في قوله تعالي: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، فإن كل واحد من الزوجين يدنو ويقرب من الآخر عند الغشيان. باب المستحاضة الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إني امرأة أستحاض)) ((قض)): يقال: استحيضت المرأة تستحاض، علي البناء للمفعول، وقوله: ((إنما ذلك عرق وليس بحيض)) معناه أن ذلك دم عرق انشق، وليس بحيض؛ فإنه دم تميزه القوة المولدة، هيأه الله تعالي من أجل الجنين، ويدفعه إلي الرحم في مجار مخصوصة، فيجتمع فيه، ولذلك سمي حيضاً، من قولهم: استحوض الماء، أي اجتمع، فإذا كثر وامتلأ الرحم ولم يكن فيه جنين أو كان أكثر مما يحتمله

الفصل الثاني 558 - عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك، فأمسكي عن الصلاة؛ فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق)). رواه أبو داود، والنسائي. [558] 559 - وعن أم سلمة، قالت: إن امرأة كانت تهراق الدم علي عهد رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ ينصب منه. وقوله: ((فإذا أقبلت حيضتك)) يحتمل أن يكون المراد به الحالة التي كانت تحيض فيها فيكون رداً إلي العادة، وأن يكون المراد به الحال التي تكون للحيض من قوة الدم في اللون والقوام، ويؤيده ما روي ابن شهاب عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فدعي الصلاة))، فيكون رداً علي التمييز، وقد اختلف العلماء فيه، فأبو حنيفة منع اعتبار التمييز مطلقاً، والباقون عملوا بالتمييز في حق المبتدأة، واختلفوا فيما إذا تعارضت العادة والتمييز، فاعتبر مالك وأحمد وأكثر أصحابنا التمييز، ولم ينظروا إلي العادة، وعكس ابن خيران. الفصل الثاني الحديث الأول، والثاني عن أم سلمة: قوله: ((يعرف)) أي يعرفه النساء، وهذا دليل التمييز. وقوله: ((تهراق)) قال الحافظ أبو موسى: كذا جاء علي ما لم يسم فاعله، ولم يجيء تهريق، فإما أن يكون تقديره: تهراق هي الدم، والدم وإن كان معرفة فهو تمييز، وله نظائر، وإما أن يجري تهراق مجرى: نفست المرأة غلاماً، ونتجت الفرس مهراً. وزاد صاحب النهاية: ويجوز رفع الدم علي تقدير تهراق دماؤها، ويكون الألف واللام بدلاً من الإضافة، كقوله تعالي: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} أي نكاحه أو نكاحها. ((حس)): ((الاستثفار أن يشد ثوباً يحتجز به علي موضع الدم يمنع السيلان، ومنه ثفر الدابة وهو ما يشد تحت ذنبها، فالمرأة إذا صلت تعالج نفسها علي قدر الإمكان، وإن قطر الدم بعد ذلك تصح صلاتها، ولا إعادة عليها، وكذلك حكم سلس البول، ويجوز للمستحاضة الاعتكاف في المسجد والطواف. الحديث الثالث عن عدي: قوله: ((أقراءها)) هي جمع قرء، وهو مشترك بين الطهر والحيض، والمراد هنا الحيض، والقرينة قوله: ((التي كانت تحيض فيها)).

صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ((لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل)). رواه مالك، وأبو داود، والدارمي. وروى النسائي معناه. [559] 560 - وعن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده- قال يحيى بن معين: جد عدي اسمه دينار- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في المستحاضة: ((تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم، وتصلي)). رواه الترمذي، وأبو داود [560] 561 - وعن حمنة بنت جحش، قال: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره. فوجدته في بيت أختي زينت بنت جحش، فقلت: يا رسول الله! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصلاة والصيام. قال: ((أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم)) قالت: هو أكثر من ذلك. قال: ((فتلجمي)). قالت: هو أكثر من ذلك، قال: ((فاتخذي ثوباً)). قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن حمنة: قوله: ((حيضة)) ((تو)): بفتح الحاء علي المرة الواحدة، ولم يقل: حيضاً، لتمييز تلك الحال التي كانت عليها من سائر أحوال المحيض في الشدة، والكثرة، والاستمرار، والواو في ((وأخبره)) للجمع مطلقاً، وإلا كان التقدير: فأخبره وأستفتيه. ((وأنعت لك الكرسف)) ((فا)): أي أصفه لك لتعالجي به مقطر الدم. قيل: في قوله: ((أنعت)) إشارة إلي حسن أثر القطن وصلاحه لك؛ لأن النعت أكثر ما يستعمل في وصف الشيء بما فيه من حسن. والتلجم شديد اللجام، وهو شبيه بقوله: ((استثفري))، ((وأنج ثجاً)) أي أصب صباً شديداً، ومطر ثجاج إذا انصب جدا، والثج سيلان دماء الهدي. ((خط)): أصل الركض الضرب بالرجل، يريد به الإضرار والإفساد، أي وجد الشيطان بذلك طريقاً إلي التلبيس عليها في أمر دينها وقت طهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك، ((فا)): ((فتحيضي)) أي اقعدي أيام حيضك، ودعي الصلاة فيها والصوم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سآمرك بأمرين، أيهما صنعت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم)). قال لها: ((إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت؛ فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة، أو أربعاً وعشرين ليلة، وأيامها، وصومي؛ فإن ذلك يجزئك. وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن، ميقات حيضهن وطهرهن. وإن قويت علي أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء. ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي وتغتسلين مع الفجر فافعلي؛ وصومي إن قدرت علي ذلك)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهذا أعجب الأمرين إلي)). رواه أحمد؛ وأبو داود؛ والترمذي. [561] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): ((أو)) في ((أو سبعة أيام)) ليس للتخييرـ ولا لشك الراوي، بل العددان لما استويا في أنهما غالب العادات ردها الشارع إلي الأوفق منهما، كعادات النساء المماثلة لها في السن المشاركة لها في المزاج بسبب القرابة والسكن. و ((في علم الله)) أي فيما أعلمك الله، أو في علمه الذي بينه للناس وشرعه لهم. والظاهر أنها كانت مبتدأة، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي غالب عادة النساء، وهو الست أو السبع. قوله: ((وكذا فافعلي) شبه بقية الأشهر في الحيض والطهر بهذا الشهر المنعوق ثم شبه حالها فيما ذكر بحال سائر النساء في أوقات حيضهن وطهرهن، فقال: ((كما تحيض النساء)) أي افعلي مثلما ذكرت لك من أن تحيضي ستة أو سبعة، كما تفعل النساء في ميقات حيضهن، وكذا فافعلي ما ذكرت لك من أن تغتسلي فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها، كما تفعله النساء في ميقات طهرهن. وفي الكلام تشبيهان، ولف ونشر مرتان، هذا أحد الأمرين المذكورين في الحديث، وثإني الأمرين قوله: ((وإن قويت)) إلي آخره، بدليل قوله: ((هذا أعجب الأمرين إلي)). فإن قلت: فما معنى قوله أولاً: ((وإن قويت عليهما)) وثإنياً: ((وإن قويت علي أن تؤخرين الظهر))؟ قلت: لما خيرها بين الأمرين بمعنى: إن قويت علي المرين بما تعلمين من حالك وقتك فاختاري أيهما شئت، ووصف أحد الأمرين، [رأي عجزها] عن الاغتسال لكل صلاة قال لها: دعي ذلك إن لم تقوي عليه، ((وإن قويت علي أن تؤخري الظهر)) إلي آخره، ويفهم من قوله: ((وإن قويت علي أن تؤخرين)) أنها إن عجزت عنه أيضاً نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إلي أسهل

الفصل الثالث 562 - عن أسماء بنت عميس، قالت: قلت: يا رسول الله! إن فاطمة بنت أبي حبيس استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! إن هذا من الشيطان. لتجلس في مركن، فإذا رأت صفارة فوق الماء؛ فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلا واحداً وتوضأ فيما بين ذلك)). رواه أبو داود، وقال: [ورواه إبراهيم عن ابن عباس، وهو قول إبراهيم النخعي، وعبد الله بن شداد] [562] 563 - روى مجاهد عن ابن عباس: لما اشتد عليها الغسل، أمرها أن تجمع بين الصلاتين. [563] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأيسر من ذلك علي قدر الاستطاعة، هذا معنى قول الخطابي: لما رأي النبي صلى الله عليه وسلم قد طال عليها، وقد جهدها الاغتسال لكل صلاة رخص لها في الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، كالمسافر رخص له في الجمع بين الصلاتين؛ لما يلحقه من مشقة السفر. وذهب إلي إيجاب الغسل عليها عند كل صلاة علي، وابن مسعود، وابن الزبير، وبعض العلماء رضوان الله عليهم أجمعين. وذهب ابن عباس إلي الجمع بين الصلاتين بغسل واحد. ((شف)): مذهب ابن عباس أشبه بهذا الحديث، ومذهب علي رضي الله عنه أقرب وأليق بالفقه. وأقول: السنة أحق أن تتبع، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السهلة السمحة، روينا عن عائشة رضي الله عنها: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً)) متفق عليه. وإثبات النونات في قوله: ((أن تؤخرين وتعجلين)) وغيرهما في مواقع ((أن)) المصدرية منقول علي ما هو مثبت في كتب الأحاديث، مع أن توجيه إثباتها متعسر، اللهم إلا أن يتحمل ويقال: إن هذه هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن مقدر، والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن أسماء: قوله: ((فإذا رأت صفارة)) أي إذا زالت الشمس وقربت من العصر ترى فوق الماء شعاع الشمس شبه صفارة؛ لأن شعاعها حينئذ يتغير ويقل، فيضرب إلي الصفرة، وأما حديث مواقيت الصلاة وقت العصر فمعناه تصفر اصفراراً كاملاً، والعلم عند الله تعالي.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الفصل الأول 564 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلي الجمعة، ورمضان إلي رمضان؛ مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. رواه مسلم. 565 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الصلاة قال شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي (قدس الله سره)): اشتقاق الصلاة، قيل: هي من الصلي، وهو النار، والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تعرض علي النار، وفي العبد اعوجاج؛ لوجود نفسه الأمارة بالسوء، وسبحات وجه الله الكريم لو كشف حجابها أحرقت من أدركت، يصيب بها المصلي من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربإنية ما يزول به اعوجاجه بل يحقق به معراجه، فالمصلي المصطلي بالنار، ومن اصطلي بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يعرض علي النار إلا تحلة القسم. الفصل الأول الحديث الأول: عن أبي هريرة ((رضي الله عنه)): قوله: ((والجمعة إلي الجمعة)) المضاف محذوف، أي صلاة الجمعة، و ((إلي)) متعلق بالمصدر أي صلاة الجمعة منتهية إلي الجمعة، وعلي هذا صوم رمضان منتهياً إلي صوم رمضان، و ((مكفرات)) خبر عن الكل، و ((لما بينهن)) معمول لاسم الفاعل، ولذا دخلت اللام فيه، و ((إذا اجتنبت)) شرط وجزاؤه ما دل عليه ما قبله؛ وإنما ذهبنا إلي أن الصلاة إلي الصلاة مكفرة ما بينهما دون خمس صلوات إلي خمس صلوات، لما يرد بعده من الحديث الآتي. الحديث الثاني: عن أبي هريرة ((رضي الله عنه)): قوله: ((لو أن نهراً)) لو الامتناعية تقتضي أن تدخل علي الفعل الماضي وأن يجاب، والتقدير: لو ثبت نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً لما بقى من درنه شيء، فوضع الاستفهام موضعه تأكيداً وتقريراً، إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار أي أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ وفي رواية: ((ما تقول ذلك يبقى من

566 - وعن ابن مسعود قال: إن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالي: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذا؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) وفي رواية: ((لمن عمل بها من أمتي)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ درنه)) قال المالكي: فيه شاهد علي إجراء فعل القول مجرى فعل الظن، والشرط أن يكون فيه فعلاً مضارعاً مسنداً إلي المخاطب متصلا باستفهام. وقوله: ((ذلك)) مفعول أول، و ((يبقى)) [ثإني]، و ((ما)) الاستفهامية نصب ((يبقى)) وقدم؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، والتقدير أي شيء تظن ذلك الاغتسال مبقياً من درنه، هذا التقدير علي اللغة المشهورة. وأما سليم فهم يجرون أفعال القول كلها مجرى الظن بلا شرط فيقولون: قلت زياداً منطلقاً ونحو ذلك، وعلي اللغة المشهورة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((البر يقولون بهن)) أي البر يظنون ((البر)) مفعول أول، و ((بهن)) مفعول [ثإني]، وهما في الأصل مبتدأ وخبر، و ((من)) في قوله: ((من درنه)) استغراقية زائدة لما دخل في حيز الاستفهام، و ((درنه)) فاعل ((يبقى)) وفيه مبالغة في نفي درن الذنوب ووسخ الآثام؛ ومن ثم ما اكتفوا في الجواب ((بلا)) بل زادوا فيه. والفاء في ((فذلك)) جواب شرط محذوف أي إذا أقررتم ذلك، وصح عندكم فهو مثل الصلوات إلي آخره، ومصداق ذلك قوله تعالي: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} قيل: صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف، وزلفا من الليل صلاة العشاء الثالث. الحديث الثالث: عن ابن مسعود: قوله: ((إن رجلا أصاب)) وهو أبو اليسر، روى الترمذي عنه أنه قال: ((أتتني امرأة تبتاع تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي البيت فأهويتها فقبلتها)). و ((هذا)) مبتدأ))، و ((لي)) خبر مقدم، و ((ألي)) حرف الاستفهام لإرادة التخصيص، أي: أختص لي هذا الحكم أو عام لجميع المسلمين، فأجاب بقوله: ((لجميع الأمة كلهم)) أي هذا لهم وأنت منهم، فلا يقدر المبتدأ مؤخراً في الجواب؛ لئلا يختل المعنى، إذ يصير التقدير أمختص لجميع المسلمين فهو خلف من القول؛ لأنه لا يقال: مختص بهم، بل يقال: عام فيهم. فإن قلت: أي فرق بين الروايتين؟ قلت: الأولي عامة مخصصة بالدليل، فدلالتها علي المقصورة ظاهرة، والثانية منصوصة فيه، والفاء في ((فأنزل الله)) معطوف علي مقدر أي فأخبره، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلي الرجل، فأنزل الله تعالي يدل علي الحديث الآتي.

567 - وعن أنس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدا فأقمه علي. قال: ولم يسأله عنه. وحضرت الصلاة فصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، قام الرجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً، فأقم في كتاب الله. قال: ((أليس قد صليت معنا؟)) قال: نعم. قال: ((فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك- أو حدك-)). متفق عليه. 568 - وعن ابن مسعود، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلي الله تعالي؟ قال: ((الصلاة لوقتها)). قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)). قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع: عن أنس: قوله: ((أصبت حداً)) أي فعلت شيء يوجب الحد، ((ولم يسأله عنه)) أي لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل عن موجب الحد ما هو أصغيرة أم كبيرة؟. فإن قلت: ما الفرق بين معنى ((علي)) في قوله: ((أقمه علي)) و ((في)) في قوله: ((فأقم في))؟ قلت: الضمير في قوله: ((فأقمه)) راجع إلي الحد، فحسن لذلك معنى الاستعلاء، ((وكتاب الله)) في قوله: ((فأقم في كتاب الله)) يراد به الحكم، فهو يوجب ((في)) بمعنى الاستقرار فيه، وكونه ظرفاً يستقر فيه أحكام الله تعالي. هذا أبلغ لدلالته علي غاية انقياده وإذعانه له، والعدول من الحكم إلي كتاب الله لمزيد الإشعار بالعلية، يعني كتاب الله يوجب أن يذعن له وينقاد. ((قض)): صغائر الذنوب تقع مكفرات بما يتبعها من الحسنات، وكذا ما خفي من الكبائر؛ لعموم قوله تعالي: {إن الحسنات يذهبن السيئات} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أتبع الحسنة السيئة تمحها)) فأما ما ظهر منها وتحقق عند الحاكم لم يسقط حدها إلا بالتوبة، وفي سقوطه بها خلاف، وخطيئة هذا الرجل في حكم المخفي لأنه ما بينها، فلذلك سقط حدها بالصلاة، لاسيما وقد انضم إليها ما أشعر بإنابته عنها وندامته عليها، والترديد من شك الراوي. الحديث الخامس عن ابن مسعود: قوله: ((لوقتها)) اللام فيه مثلها في قوله تعالي: {فطلقوهن لعدتهن} أي مستقبلات لعدتهن، وقولك: لقيته لثلث بقين من الشهر. تريد مستقبل الثلث، وليس كما في قوله تعالي: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} و {قدمت

569 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لحياتي} بمعنى الوقت؛ لئلا يتكرر الوقت. ((وحدثني بهن)) أي قص الحديث علي الثلاثة المذكورة، بدليل قوله: ((ولو استزدته لزادني)) و ((ثم)) في قوله: ((ثم أي)) مرتين، للدلالة علي تراخي المرتبة لا لتراخي الزمان. ((تو)): هذا الحديث مشكل لما يعارضه من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال وأحبها إلي الله تعالي، ثم الاختلاف الذي يقع في الترتيب بين تفصيلها، ففي هذا الحديث ما ذكر فيه، وفي حديث أبي ذر ((قال: يا رسول الله، أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله))، وفي حديث أبي سعيد ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله)) إلي غير ذلك من الأحاديث في هذا المعنى، ووجه التوفيق أنه صلى الله عليه وسلم أجاب لكل بما يوافق غرضه، وما يرغب فيه، أو أجاب علي حسب ما عرف من حاله بما هو يليق به وأصلح له؛ توفيقاً له علي خفي عليه، وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا، ولا يريد تفضيله في نفسه علي جميع الأشياء ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال، ولواحد دون آخر، وذلك مثل قولك في موضع يحمد فيه السكوت: لا شيء أفضل من السكوت، وقولك حيث يحمد الكلام: لا شيء أفضل من الكلام. ولقد تعاضدت النصوص علي فضل الصلاة علي الصدقة، ثم إن تجددت حال تقتضي مواساة مضطر، أو إصلاح ذات بين فتكون الصدقة حينئذ أفضل، وعلي هذا فضل الجهاد علي غيره؛ لأنه السبب الداعي إلي الإيمان، والخلة المظهرة لكلمات الله العليا، لاسيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ من أجل القربات، وأعظم المثوبات؛ لاشتماله علي إظهار الدين، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. أقول: ويعضده حديث الأنمارية حيث وصفت أبناءها الكملة: ولدت لزيادة العبسي ربيعاً الكامل، وعمارة الوهاب، وقس الحفاظ، [وأسد] الفوارس، حين سئلت أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، لا بل فلان، ثم قالت: لكنهم إن كنت أعلم أيهم أفضلهم، كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفها. والأسلوب من باب الرجوع من التفصيل إلي الإجمال تنبيهاً علي نفاد الوصف دون كمالهم. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) ترك الصلاة مبتدأ، والظرف خبره، ومتعلقه محذوف قدم ليفيد الاختصاص، ويؤيده الحديث الخامس في الفصل الثالث من الباب، وهو قوله: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير

ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة)) وظاهر الحديث نظير قوله تعالي: {ومن بيننا وبينك حجاب} وقوله: {وجعل بين البحرين حاجزا} فإذا ذهب إلي هذا المعنى يوجب خلاف المقصود؛ ولذلك قيل فيه وجوه: أحدها: أن ترك الصلاة معبر عن فعل ضده؛ لأن فعل الصلاة هو الحاجز بين الإيمان والكفر، فإذا ارتفع ارتفع المانع، وعليه كلام التوربشتي حيث قال: إن العبد إذا ترك الصلاة لم يبق بينه وبين الكفر فاصلة فعليه [يؤيس] منه، لأن إقامة الصلاة هي الخصلة المفارقة بين الفئتين والحكم الحاجز بين الأمرين، ولما لم يكن بين المنزلتين منزلة أخرى، والتهاون بحفظ حد الشرع كاد يفضي بصاحبه إلي حد الكفر، عبر عنه بارتفاع البينونة. وثإنيها: قول القاضي: يحتمل أن يؤول ترك الصلاة بالحد الواقع بينهما، فمن تركها دخل الحد، وحام حول الكفر ودنا منه. وثالثها: قوله أيضاً متعلق الظرف محذوف تقديره ترك الصلاة وصلة بين العبد والكفر، والمعنى يوصله إليه. وأقول: أمتن الوجوه وأقواها الثاني، ثم الوجوه الثلاثة من باب التغليظ أي المؤمن لا يتركها، نحو قوله تعالي: {ولله علي الناس حج البيت ن استطاع إليه سبيلا ومن كفر} ويمكن أن يقال: إن الكلام مصبوب علي غي مقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر أن يقال: بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، أو بين المؤمن والكافر تركها، فوضع موضع المؤمن العبد، وموضع الكافر الكفر، فجعله نفس الكفر مبالغة، وإشعاراً بأن حقيقة العبودة أن يخضع لمعبوده، ويشكر نعمه الظاهرة والباطنة، وحقيقة من اتصف بالكفر أن يستنكف عن عبوديته، ويستر حق نعمته وعظمته. وأظهر الشكر وأكمله، وقوامه وعموده أداء الصلاة وإقامتها، كأنه قيل: الفرق بين المؤمن والكافر ترك أداء شكر النعم الحقيقي، فمن أقامها فهو مؤمن، ومن تركها فهو كافر، فعلي هذا المعنى الكفر بمعنى كفران النعمة. ((غب)): العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها غلا من له غاية الإفضال، وهو الله سبحانه وتعالي. ((حس)): اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمداً، فذهب جماعة إلي تكفيره، قال عمر: ((لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)) وقال ابن مسعود: ((تركها كفر))، وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وذهب الآخرون: إلي أنه لا يكفر، وحملوا الحديث علي من تركه جاحداً، أو علي الزجر والوعيد. وقال حماد بن زيد، ومكحول، والشافعي: تارك الصلاة يقتل كالمرتد، ولا يخرج عن الدين، وقال أصحاب الرأي: لا يقتل بل يحبس ويضرب حتى يصلي، وبه قال الزهري.

الفصل الثاني 570 - عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات افترضهن الله تعالي، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له علي الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له علي الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) رواه أحمد، وأبو داود. وروى مالك، والنسائي نحوه [570] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عبادة بن الصامت: قوله: ((لوقتهن)) أي قبل أوقاتهن وأولها، وسبق مجازه في الحديث الخامس من الفصل. وفي عطف ((وخشوعهن)) علي ((ركوعهن)) وجهان: أحدهما: أن يكون ذكره للتكرير والتقرير. ((الكشاف)) في قوله تعالي: {واركعوا مع الراكعين} الركوع: الخضوع والانقياد، فيكون العنى فأتم خضوعهن بعد حضوع، أي خضوع مضاعف، كقوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلي الله} كررهما لشدة الخطب النازل. ((غب)): ليس من شرط الخطاب أن يقصر في الأوصاف علي وصف دون آخر، وإن ذكر لا يكون لغواً. وثإنيهما: أن يراد بالركوع الأركان، أي أتم أركانها، وخص بالذكر دون غيره من الأركان تغليباً، كما سميت الركعة ركعة. قوله: ((كان له علي الله عهد)) ((قض)): شبه وعد الله بإثابته المؤمنين علي أعمالهم بالعهد الموثوق به، الذي لا يخلف، ووكل أمر التارك إلي مشيئته تجويزاً لعفوه، وأنه لا يجب علي الله شيء، ومن ديدن الكرام محافظة الوعد، والمسامحة في الوعيد. أقول: أراد أن العهد هنا مستعار للوعد علي سبيل التبعية؛ ولذلك علق به قوله: ((أن يغفر)) بحذف الباء، كما يقال: وعد بكذا، وفائدة الاستعارة المبالغة في إيجاز الوعد وإيفائه؛ فإن خلف الوعد كنقض العهد فلا يجوز ذلك لاسيما من الكرام. هذه المبالغة في جانب الوعد، وأما في جانب الوعيد فجيء بـ ((إن)) مقارنة بها المشيئة ليؤذن بالمسامحة والتساهل في الوعيد. ((ومن لم يفعل)) كناية عن الأفعال الثلاثة- وهي (أحسن) و (صلي) و (أتم) - مع متعلقاتها عبر به عنها وجازة، واختصاراً. ((الكشاف)): ألا ترى أن الرجل يقول: ضربت زيداً في موضع كذا علي

571 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) رواه أحمد والترمذي. [571] 572 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبو داود، وكذا رواه في ((شرح السنة)) عنه. [572] ـــــــــــــــــــــــــــــ صفة كذا، وشتمته وتكلمت به، ويعد كيفيات وأفعالاً، فيقول له: بئسما فعلت، ولو ذكرت ما أنبئت عنه، لطال عليك. و ((خمس صلوات)) مبتدأ، ((افترضهن)) صفة له، والجملة الشرطية بعده جزاؤه. الحديث الثاني عن أبي أمامة قوله: ((صلوا حمسكم)) إنما أضاف الصلاة، والصوم والزكاة والطاعة إليهم؛ ليقابل العمل بالثواب في قوله: ((جنة ربكم)) ولينعقد البيع بين الرب والعبد، كما في قوله تعالي: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. قوله: ((وأطيعوا ذا أمركم)). ((مظ)) أي الخليفة والسلطان وغيرهما من الأمراء. أقول: إنما عدل من قوله: أميركم؛ ليكون أبلغ وأشمل، كما في قوله تعالي: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فإن قلت: لم صرح بالمضاف في قوله: ((زكاة أموالكم)) وأضمر في قوله ((خمسكم)) أي صلواتكم، وأبهم في قوله: ((شهركم)) أي: رمضانكم. قلت: للدلالة علي أن الإنفاق من المال أمر أشق وأصعب علي النفس، أي أنفقوا مما تحبون، وما هو شقيقة أنفسكم، ومنه قوله تعالي: {ولا تؤتوا السفاء أموالكم} والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معاشهم، أي لا تؤتوا السفهاء ما تقومون بها، وتتعيشون منها. الحديث الثالث عن عمرو بن شعيب: قوله: ((مروا)) مروا أمر حذفت همزته تخفيفاً، فلما حذفت فاء الفعل لم يحتج إلي همزة الوصل لتحريك الميم، يعني إذا بلغ أولادكم سبع سنين فأمروهم بأداء الصلاة؛ ليعتادوها ويستأنسوا بها. فإذا بلغوا عشراً ضربوا علي تركها، وفرقوا بين

573 - وفي ((المصابيح)) عن سبرة بن معبد. 574 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر)). رواه أحمد والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [574]. الفصل الثالث 575 - عن عبد الله بن مسعود، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخ والأخت مثلا في المضاجع؛ لئلا يقعوا فيما لا ينبغي؛ لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة وإن كن أخوات. أقول: إنما جمع بين الأمر بالصلاة، والفرق بينهم في المضاجع في الطفولية تأديباً ومحافظة لأمر الله كله؛ لأن الصلاة أصلها وأسبقها، وتعليماً لهم بين الخلق، وأن لا يقفوا مواقف التهم، فيتجنبوا محارم الله كلها. الحديث الرابع عن بريدة: قوله: ((بيننا وبينهم)) ((قض)): الضمير الغائب للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دمائهم بالعهد المقتضي إبقاء المعاهد والكف عنه، والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عيهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم وسائر الكفار سواء. ((تو)): ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لما استؤذن في قتل المنافقين: ((ألا إني نهيت عن قتل المصلين)). وأقول: يمكن أن يكون الضمير عاماً في من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان منافقاً أم لا، يدل عليه الحديث الآخر من هذا الباب. وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: ((ولا تترك صلاة مكتوبة معتمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة)). الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((عالجت امرأة)) أي داعبتها وزاولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة، غير إني ما جامعتها و ((ما)) في ((ما دون)) موصولة أي أصبت منها ما يجاوز المس أي المجامعة، و ((الفاء)) في قوله: ((فاقض)) سببية أي أنا حاضر بين يديك، ومنقاد

هذا، فاقض في ما شئت. فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت علي نفسك. قال: ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئاً. فقام الرجل، فانطلق. فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. فقال رجل من القوم: يانبي الله! هذا له خاصة؟ فقال: ((بل للناس كافة)). رواه مسلم. 576 - وعن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج زمن الشتاء، والورق يتهافت، فأخذ بغصنين من شجرة. قال: فجعل ذلك الورق يتهافت. قال: فقال: ((يا أبا ذر!)) قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ((إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه، كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة)). رواه أحمد. [576] 577 - وعن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي سجدتين لا يسهو فيهما؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه)). رواه أحمد [577] ـــــــــــــــــــــــــــــ لحكمك غير مانع لما تريد مني، فاقض في ما أنت قاض و ((هذا)) مثلها اسم الإشارة في قوله تعالي: {ها أنتم هؤلاء} و ((فاقض)) مثله فيه ((حاججتم)) علي استئناف ((أنتم)) مبتدأ و ((هؤلاء)) خبره، و ((حاججتم)) جملة مستأنفة مبينة لها يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقاء! لأنكم جادلتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ وقوله: ((فقال رجل من القوم)) قيل: هو عمر بن الخطاب، وقيل: معاذ، وقد سبق شرح الحديث في الحديث الثالث من الفصل الأول. الحديث الثاني عن أبي ذر (رضي الله عنه): قوله: ((ويتهافت)) التهافت السقوط المتواتر، و ((فجعل ذلك الورق)) أي طفق الأوراق من الغصنين تهافت تهاتفاً سريعاً، لأنهما عند القبض بهما ونفضهما أسرع سقوطاً من تركهما علي حالهما، و ((يريد بها وجه الله)) حال إما من الفاعل أو المفعول، أي خالصة له، وأصل ((تهافت)) تتهافت سقطت عنه إحدى التائين. الحديث الثالث عن زيد بن خالد الجهني (رضي الله عنه): قوله ((سجدتين)) أي ركعتين، غلبت السجدة علي سائر الأركان كما غلبت الركعة عليها. وقوله: ((لا يسهو فيها)) أي يكون

578 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها، وكانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة. ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) روه أحمد، والدارمي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [578] 579 - وعن عبد الله بن شقيق، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي. [579] ـــــــــــــــــــــــــــــ حاضر القلب يقظان النفس، يعلم من نياجي وبما يناجيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنك تراه)) الحديث، ولهذا المعنى خصت السجدة في التغليب دون الركوع تلميحاً إلي قوله تعالي: {واسجد واقترب}. الحديث الرابع عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قوله: ((ذكر الصلاة)) أي أراد أن يذكر فضلها وشرفها، فقال: إلي آخره، فالذكر بمعنى الشرف والفضل كما في قوله تعالي: {ص~ والقرآن ذي الذكر} و ((من حافظ عليها)) أي يحفظها من أن يفع زيغ في فرائضها وسننها، وآدابها، يداوم عليها ولا يفتر عنها. ومعنى البرهان والنور سبق في قوله صلى الله عليه وسلم ((الطهور شطر الإيمان)) الحديث. وفي قوله: ((كان مع قارون، وهامان، وأبي بن خلف)) تعريض بأن من حافظ عليها كان مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. ((وأبي بن خلف)) هو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك. الحديث الخامس بن عبد الله بن شقيق: قوله: ((لا يرون)) يرون من الرأي، و ((شيئاً)) مفعوله، و ((من الأعمال)) نعته، كذا الجملة- وهي: تركه الكفر- و ((غير)) استثناء والمستثنى منه الضمير الراجع إلي ((شيئاً)) ويجوز أن يكون ((غير)) صفة أخرى لـ ((شيئاً)) المعنى: ما كنوا معتقدين ترك شيء من الأعمال يوجب الكفر إلا الصلاة، ومعناه ما يجيء في الحديث من الفصل

(1) باب مواقيت الصلاة

580 - وعن أبي الدرداء، قال: أوصإني خليلي ((أن لا تشرك بالله شيئاً، وإن قطعت وحرقت. ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً؛ فمن تركها متعمداً، فقد برئت منه الذمة. ولا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر)) رواه ابن ماجه [580] (1) باب مواقيت الصلاة الفصل الأول 581 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس، كان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. ووقت صلاة العشاء إلي نصف ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث من باب المواقيت ((من حفظ الصلاة وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع)). الحديث السادس عن أبي الدرداء: قوله: ((أوصإني خليلي)) لما كان هذا الحديث في الوصية متناهياً وللزجر عن رذائل الأخلاق جامعاً، وضع خليلي مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهاراً لغاية تعطفه وشفقته عليه، و ((لا تشرك)) نهي و ((أن)) مفسرة لأن في ((أوصى)) معنى القول، ((ولا تترك، ولا تشرك)) معطوفان عليه، قرن ترك الصلاة وشرب الخمر مع الشرك إيذاناً بأن الصلاة عمود الدين وتركهما ثلمة في الدين، وأن شرب الخمر كعابدة الوثن؛ ولأن أم الأعمال ورأسها اصلاة، وأم الخبائث الخمر، فأنى يجتمعان؟ قال الله تعالي: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر} ثم عقب كلا من المنهيات بما يزيد المبالغة فيها. فقوله: ((إن قطعت أو حرقت)) تتميم لمعنى النهي عن الشرك. وقوله: ((من تركها- إلي آخره-)) تتميم لمعنى النهي عن ترك الصلاة وكذا قوله: ((فإنها مفتاح كل شر)) تتميم للنهي عن شرب الخبمر وقد برئت منه الذمة)) كناية عن المنكر تغليظاً. باب المواقيت الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((إذا زالت)) زوال الشمس عبارة عن ميلها من جانب الشمال إلي اليمين إذا استقبلت القبلة. وقوله: ((وكان ظل الرجل كطوله)) هذا مذكور في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وليس مذكوراً في المصابيح إلا قوله: ((ما لم يحضر العصر)) وفائدة ذكره مزيد تقرير وبيان، أنه ليس من بين لظهر والعصر وقت مشترك. ((قض)): فيه دليل

الليل الأوسط. ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان)). رواه مسلم. 582 - وعن بريدة، قال: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة. فقال له: ((صل معنا هذين- يعني اليومين-. فلما زالت الشمس أمر بلال فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره: ((فأبرد بالظهر)). فأبرد ـــــــــــــــــــــــــــــ علي أنه لا اشتراك بين الوقتين، وقال مالك: إذا صار ظل كل شيء مثله من موضع زيادة الظل، كان بقدر أربع ركعات من ذلك الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر؛ لأن جبريل صلي العصر في اليوم الأول، والظهر في اليوم الثاني في ذلك الوقت. والشافعي: أول ذلك بانطباق آخر الظهر وأول العصر علي الحين الذي صار ظل كل شيء مثله لهذا الحديث؛ ولأنه لا يتمادى قدر ما يسع أربع ركعات فلابد من تأويل، وتأويله علي ما ذكرنا أولي قياساً علي سائر الصلوات. وقوله: ((وقت العصر ما لم تصفر الشمس)) يريد به وقت الاختيار، وكذا ما ورد في حديث جبريل لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) وكذا قوله في وقت العشاء؛ فإن الأكثرين ذهبوا إلي أن وقت جوازه يمتد إلي طلوع الصبح الصادق، لما روي عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس التفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة: أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى)) خص الحديث في الصبح فيبقى علي عمومه في الباقي. وقوله: ((ما لم يسقط الشفق)) يدل علي أن وقت المغرب يمتد إلي غروب الشفق، وإليه ذهب الشافعي قديماً، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصاب الرأي. وذهب مالك، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي في قوله الجديد إلي أن صلاة المغرب لها وقت واحد، لأن جبريل صلاها في اليومين في وقت واحد، وهو قدر وضوء، وأذان، وإقامة، وقدر خمس ركعات متوسطات. وسقوط الشفق غروبه، والمراد به الحمرة التي تلي الشمس، كما رواه ابن عمر، وابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم. وهو قول مكحول، وطاوس، ومالك، والثوري، وابن أبي ليلي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن. وروي عن أبي هريرة: ((أنه البياض الذي يعقب الحمرة)) وبه قال ابن عبد العزيز، والأوزاعي، وأبو حنيفة. قوله: ((نصف الليل الأوسط)) ((مظ)): الأوسط صفة الليل- يعني بقدر نصف الليل الأوسط

بها- فأنعم أن يبرد بها-، وصلي العصر والشمس مرتفعة- أخرها فوق الذي كان-، وصلي المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلي العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلي الفجر فأسفر بها. ثم قال: ((أين السائل عن وقت الصلاة؟)). فقال الرجل: أنا يا رسول الله! قال: ((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا طويل ولا قصير- فنصف الليل الأوسط يكون بالنسبة إلي ليل قصير أكثر من نصفه، وبالنسبة إلي ليل طويل أقل من نصفه. وقوله: ((قرني الشيطان)) ذكر فيه وجوه: أحدها: أن الشيطان ينتصب قائماً في وجه الشمس عند طلوعها ليكون طلوعها بين قرنيه أي فوديه، فيكون مستقبلاً لمن يسجد للشمس، فتصير عبادتهم له، فنهوا عن الصلاة في ذلك الوقت مخالفة لعبدة الشيطان. وثإنيها: أن يراد بقرنيه حزباه اللذان يبعثهما حينئذ لإغواء الناس، يقال: هؤلاء قرن أي نشر. وثالثها: أنه من باب التمثيل، شبه الشيطان فيما يسول لعبدة الشمس ويدعوهم إلي معاندة الحق بذوات القرون التي تعالج الأشياء وتدافعها بقرونها. ورابعها: أن يراد بالقرن القوة، من قولهم: أنا مقرن له أي مطيع له، ومعنى التثنية تضعيف القوة، كما في قوله (عليه الصلاة والسلام) في حديث يأجوج ومأجوج: ((قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم))، أي لا قدرة ولا طاقة، ويقال: ما لي في هذا الأمر يد ولا يدان، كقول الحجاج: بقتالهم اضربا عنقه، ومنه قوله تعالي {ألقيا في جهنم} والمختار هو الوجه الأول؛ لمعاضدته الروايات. الحديث الثالث عن بريدة (رضي الله عنه): قوله: ((فأذن)) فيه حذف أي أمر بلالا بالأذان فأذن. و ((بيضاء نقية)) أي لم تختلط بها صفرة فهي صافية، و ((أن)) في ((فلما أن كان)) زائدة مؤكدة كقوله تعالي: {فلما أن جاء البشير}. ((مظ)): كان تامة، أي فلما دخل أو حصل اليوم الثاني، وجواب ((لما)) ((أمره فأبرد)) أي أمره بالإبراد، فقال: ((أبرد بالظهر فأبرد)). وقوله: ((فأنعم أن يبرد بها)) بدل من قوله: ((فأبرد بها)) أي فزاد علي الإبراد وبالغ فيه حتى انكسر الحر، وهذا مثل قولك: ((أحسن إلي فلان وأنعم)) أي بالغ في الإحسان. ((فا)): حقيقة الإبراد الدخول في البرد، كقولك: أظهرنا ((والباء)) للتعدية، والمعنى أدخل الصلاة في البرد، ((خط)): الإبراد هو أن تتفيأ الأفناء وينكسر وهج الحر، فهو برد بالإضافة إلي حر الظهيرة. ((نه)): أسفر الصبح إذا انكشف وأضاء وأسفر بها، أي أخرها إلي أن يطلع الفجر الثاني.

الفصل الثاني 583 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمني جبريل عند البيت مرتين. فصلي بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلي بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلي بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلي بي العشاء حين غاب الشفق، وصلي بي الفجر حين حرم الطعام والشراب علي الصائم. فلما كان الغد؛ صلي بي الظهر حين كان ظله مثله وصلي بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلي بي المغرب حين أفطر الصائم وصلي بي العشاء إلي ثلث الليل، وصلي بي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فقال الرجل: أنا)) فإن قلت: كيف طابق قوله: أنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين السائل؟ قلت: إما أن يقدر أين السائل ومن هو؟ فيطابق قوله: ((أنا)) أو تقدير الجواب: ههنا، ثم قيل: من هو؟ فقال: أنا. ((مظ)): ((أخرها فوق الذي كان أخرها بالأمس)) يريد أن صلاة العصر بالأمس كانت مؤخرة عن الظهر لا أنها كانت مؤخرة عن وقتها. قوله: ((بين ما رأيتم)) ((مظ)): ((وقت صلواتكم ما رأيتم)) يعني بينت أول الوقت لما أديت الصلاة في اليوم الأول، وبينت آخر الوقت لما أديتها في اليوم الثاني، فالصلاة جائزة في أول الوقت وأوسطه وآخره، والمراد بآخر الوقت هنا آخر الوقت في الاختيار لا الجواز، بل تجوز صلاة الظهر بعد الإبراد التام ما لم يدخل وقت العصر، ويجوز العصر بعد ذلك التأخير الذي هو فوق الذي كان ما لم تغرب الشمس، وصلاة المغرب ما لم يغب الشفق في قول. وتجوز صلاة العشاء ما لم يطلع الفجر، وصلاة الفجر بعد الإسفار ما لم تطلع الشمس. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس (رضي الله عنه): قوله: ((كانت)) الضمير للشمس، والمراد منه الفيء؛ لأنه بسببها، فالإسناد مجازي، والفيء هو الظل، ولا يقال إلا للراجع منه، وذلك بعد الزوال. وقال حميد بن ثور: فلا الظل من برد الضحى يستطيعه ولا الفيء من برد العشي يذوق قال ابن السكيت: الظل ما تنسخه الشمس، والفيء ما ينسخ الشمس. قوله: ((قدر الشراك)) ((نه)): الشراك أحد سيور النعل التي يكون علي وجهه، وقدره ههنا ليس علي معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يبين إلا بأقل ما يرى من الظل، وكان حينئذ بمكة هذا القدر، والظل مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل،

الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين)). رواه أبو داود، والترمذي. [583] الفصل الثالث 584 - عن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئاً، فقال له عروة: أما إن جبريل قد نزل فصلي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة! قال: سمعت بشير بن أبي مسعود، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ فإذا كان أطول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير لشيء من جوانبها ظل، فكل بلد يكون أقرب إلي خط الاستواء، ومعدل النهار، يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنهما إلي جهة الشمال يكون الظل فيه أطول. تم كلامه. ومعنى زوال الشمس: هو أن يكون ظل كل شيء من أول النهار إلي المغرب كبيراً، ثم يأخذ في النقصان قليلاً قليلاً إلي أن وقف لمحه، وهو وقت الاستواء، فإذا زال الظل بعده إلي المشرق فهو أول وقت الظهر، فإذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال يدخل وقت العصر. فقوله أولاً في: ((صلي بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله)) يراد منه مع ظل الزوال. وقوله ثإنياً: ((صلي بي الظهر حين كان ظله مثله)) ليس المراد منه ظل الزوال فلا يكونان في وقت واحد. قد وافق هذا قول المظهر علي سبيل توارد الخواطر، وهذا تأويل أولي من تأويل القاضي في الحديث الأول من الباب. والتعريف في قوله: ((الوقت ما بين هذين الوقتين)) للعهد، أي أول وقت صليت فيه، وآخر وقت، وما بينهما، هو الوقت، كما مر في الحديث السابق والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن شهاب: قوله: ((شيئاً)) صفة مصدر محذوف أي أخر تأخيراً يسيراً- يعني أخر صلاة العصر حتى غبر شيء من وقته. قوله: ((أما أن جبريل)) قال المالكي: ((أما))

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نزل جبريل فأمني، فصليت معه. ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه)) يحسب بأصابعه خمس صلوات. متفق عليه. 585 - وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كتب إلي عماله إن أهم أموركم عندي الصلاة؛ من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. ثم كتب: أن صلوا الظهر إن كان الفيء ذراعاً، إلي أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ـــــــــــــــــــــــــــــ حرف استفتاح بمنزلة ألا، ويكون أيضاً بمعنى حقاً، ذكر ذلك سيبويه ولا تشاركها إلا في ذلك، و ((أمام)) ضبط في شرح مسلم بكسر الهمزة وفي جامع الأصول مقيد، بالكسر والفتح، فبالفتح ظرف، وبالكسر إما أن يكون منصوباً بفعل مضمر، أعني: أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خبر كان المحذوف، كما سبق في قوله: ((أول ما خلق الله القلم)) أي كان القلم. قال المالكي: هو المعارف الواقعة أحوالاً، كأرسلها العراك، وجاءوا قضهم بقضيضهم. قال الشيخ محيي الدين: يوضح معنى الكسر في هذا الحديث قوله: ((نزل جبريل فأمني، فصليت معه)) يقال: ليس في هذا الحديث بيان أوقات الصلاة؟ يجاب عنه بأنه كان معلوماً عند المخاطب، فأبهمه في هذه الرواية، وبينه في رواية جابر وابن عباس. وأقول: قوله: ((اعلم ما تقول يا عروة)) تنبيه منه علي إنكاره إياه، ثم يصدره بـ ((أما)) التي هي من طلائع القسم أي تأمل ما تقول، وعلام تحلف وتنكر؟ ومعنى إيراد عروة الحديث أي كيف لا أدري ما أقول؟ وأنا صحبت، وسمعت ممن صحب، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع منه هذا الحديث، فعرفت كيفية الصلاة وأوقاتها وأركانها، و ((نحسب)) بالنون حال من فاعل نقول، أي نقول: هو ذلك القول ونحن نحسب بعقد أصابعه صلى الله عليه وسلم وهذا مما يشهد بإيقانه، وضبطه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): قوله: ((من حفظها وحافظ عليها)) المحافظة علي الصالة أن لا يسهو عنها، ويؤديها في أوقاتها، ويقيم أركانها، ويوكل نفسه بالاهتمام بها، وبما ينبغي أن يتم به أوصافها، فالتكرير بمعنى الاستقامة والدوام، كما في قوله

ثلاثة قبل مغيب الشمس، والمغرب إذا غابت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلي ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، والصبح والنجوم بادية مشتبكة. رواه مالك. [585] 586 - وعن ابن مسعود، قال: كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلي خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلي سبعة أقدام. رواه أبو داود، والنسائي. [586] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}. ((ولما سواها)) أي سوى الصلاة، من الواجبات والمندوبات، والآداب؛ لأنها أعظم أركان الدين، ورأس الإسلام، وأم العبادة. و ((إن كان الفيء ذراعاً)) إن كان مصدر والوقت مقدر أي وقت كونه قدر ذراع. ((قدر ما يسير)) ظرف لقوله: ((مرتفعة)) أي ارتفاعها مقدار أن يسير الراكب كذا فرسخاً إلي المغرب، ((فلا نامت عينه)) دعاء بنفي الاستراحة علي من يسهو عن صلاة العشاء وينام قبل أدائها، كما يشهد له الحديث الأول من باب تعجيل الصلاة: و (((بادية مشتبكة)) أي ظاهرة مختلطة. الحديث الثالث: عن ابن مسعود (رضي الله عنه): قوله: ((كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((خط)): هذا أمر مختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي في جميع المدن والأمصار؛ وذلك أن العلة في طول الظل وقصره زيادة ارتفاع الشمس في السماء أو انحطاطها وكلما كانت أعلي وإلي محاذاة الرأس في مجراها أقرب كان الظل أقصر وكلما كانت أخفض من محاذاة الرأس أبعد كان الظل أطول، وكذلك ظلال الشتاء أبداً يراها أطول من ظلال الصيف في كل مكان، وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة وهما من الإقليم الثاني فيذكرون أن الظل في أول الصيف في شهر آزار ثلاثة أقدام وشيء يشبه أن تكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام. وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أن في تشرين الأول خمسة أقدام أو خمسة وشيء، وفي الكانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء، فقول ابن مسعود منزل علي هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني.

(2) باب تعجيل الصلوات

(2) باب تعجيل الصلوات الفصل الأول 587 - عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي علي أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولي حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلي رحله في ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تعجيل الصلاة الفصل الأول الحديث الأول: عن سيار بن سلامة: قوله: ((الهجير)) ((نه)): الهجير والهاجر اشتداد الحر فيه نصف النهار، وزاد في الفائق: أنث صفة الهجير، وهي الاسم الموصول؛ لكون الصلاة مرادة، ومن ذلك قول حسان: يسقون من ورد البريص عليهم بردي يصفق بالرحيق السلسل أراد ماء بردي فذكر يصفق لذلك. وقيل أنثها لكونها في معنى الهاجرة. قوله: ((تدعونها الأولي)) ((نه)): قيل لها الأولي لأنها أول صلاة أظهرت وصليت، ((قض)): سمى صلاة الظهر الأولي؛ لأنها أول صلاة النهار. ((نه)): ((تدحض)) أي تزول عن وسط السماء إلي جهة المغرب، كأنها دحضت أي زلفت. و ((في أقصى المدينة)) صفة لرجل وليس بظرف للفعل، وحياة الشمس استعارة لبقاء لونها وقوة ضوئها، وأنها لم يدخلها التغير بدنو المغيب لأنه جعل مغيبها لها موتا. قوله: ((ونسيت ما قال) أي قال الراوي: ونسيت ما قال أبو برزة في صلاة المغرب. قال الخليل: العتمة من الليل بعد غيبوبة الشفق، وقد عتم الليل يعتم وعتمته ظلامه، ولعل تقييد صلاة الظهر بقوله ((التي تدعونها الأولي)) للإشعار بتعليل تقديمها في أول وقتها، والعشاء بقوله: ((تدعونها العتمة)) للإيذان بأن تأخيرها موافق لمعنى العتمة، ولم يقيد غيرهما من الصلوات لأن اهتمام التقديم والتأخير فيهما أولي. ((حس)): أكثرهم علي كراهة النوم قبل العشاء، ورخص بعضهم، وكان ابن عمر يرقد قبلها، وبعضهم رخص في رمضان قال محيي السنة: إذا غلبه النوم لم يكره له إذا لم يخف فوت الوقت، وأما الحديث بعده فقد كرهه جماعة، منهم سعيد بن المسيب قال: لأن أنام عن العشاء أحب إلي من أن ألغو بعدها، ورخص بعضهم التحدث في العلم، وفيما لابد منه من الحوائج مع الأهل والضيف. ((وينفتل)) ينصرف، يقال: فتله عن وجهه أي صرفه فانصرف، وهو قلب ((لفت)).

أقصى المدينة والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلي المائة. وفي رواية: ولا يبالي بتأخير العشاء إلي ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها والحديث بعدها. متفق عليه. 588 - وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: فقال كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء: إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس. متفق عليه. 589 - وعن أنس، قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا علي ثيابنا اتقاء الحر. متفق عليه، ولفظه للبخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني: عن محمد بن عمرو بن الحسين بن علي (رضي الله عنه): قوله: ((إذا وجبت)) أي سقطت الشمس في المغيب، فأصل الوجوب السقوط، قال الله (تعالي): {فإذا وجبت جنوبها} ومنه قول الشاعر أطاعت بنو عوف أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب قوله: ((والعشاء)) نصب علي تقدير: وصلي العشاء، والجملتان الشرطيتان في محل النصب حالان من الفاعل أي صلي العشاء معجلا إذا كثر الناس، ومؤخراً إذا قلوا، ويحتمل أن يكونا من المفعول، والراجع إليه محذوف إذ التقدير: عجلها وأخرها، نظيره قوله تعالي: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} إن الشرطية حال من الكلب، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة. قوله: ((بغلس)) ((نه)): هو ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. الحديث الثالث: عن أنس بن مالك (رضي الله عنه): ((بالظهائر)) وهي ظهيرة النهار وأراد بها الظهر، بها الظهر، وجمعها إرادة ظهر كل يوم، ((وسجدنا علي ثيابنا)) ((شف)): أول الشافعي الحديث بأن المراد بالثوب غير ما لبسه، كالمصلي ونحوه، ولم يجز السجود علي ثوب هو لابسه، لأحاديث واردة فيه.

590 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)). 591 - وفي رواية للبخاري عن أبي سعيد ((بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلي ربها، فقالت: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)). متفق عليه. وفي رواية للبخاري: فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها، وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((من فيح جهنم)) ((خط)): معناه سطوع حرها وانتشارها، وأصله السعة والانتشار، يقال: مكان أفيح أي واسع، وقيل: أصله الواو يقال: فاح يفوح فهو فيح، مثل هان يهون فهو هين، ثم خففنا. وقوله: ((اشتكت النار)) جملة مبينة للأولي- وإن دخلت الواو بين البيان والمبين- كما في قوله تعالي: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} الآية. بعد قوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} ((تو)): ذكر في أول الحديث أن شدة الحر من فيح جهنم، وهو يحتمل أن يكون حقيقة أو مجازاً، فبين بقوله: ((فأذن لها بنفسين)) إلي آخره. أن المراد منه الحقيقة لا غير، ثم نبه علي أن أحد النفسين يتولد منه ((أشد ما تجدون من الزمهرير)). ((قض)): اشتكاء النار مجاز عن كثرتها وغليانها وازدحام أجزائها بحيث يضيق عنها مكانها، فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء علي مكانها، ونفسها لهبها وخروج ما يبرز منها، مأخوذ من نفس الحيوان، وهو الهواء الدخإني الذي تخرجه القوة الحيوإنية فينقي منه حوالي القلب. وقوله: ((أشد ما تجدون من الحر)) خبر مبتدأ محذوف أي ذلك أشد. وتحقيقه أن أحوال هذا العالم عكس أمور ذاك العالم وآثارها، فكما جعل مستطابات الأشياء وما يستلذ به الإنسان في الدنيا أشباه نعمي الجنان، وهو من جنس ما أعد لهم فيها؛ ليكونوا أميل إليها وأرغب فيها، ويشهد لذلك قوله تعالي: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} كذا جعل الشدائد المؤلمة والأشياء المؤذية أنموذجاً لأحوال الجحيم، وما

592 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلي العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة علي أربعة أميال أو نحوه. متفق عليه. 593 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا اصفرت، وكانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ يعذب بها الكفرة العصاة، ليزيد خوفهم وانزجارهم عما يوصلهم إليها؛ فما يوجد من السموم فمن حرها، وما يوجد من الصراصر المجمدة فمن زمهريرها، وهو طبقة من طبقات الجحيم. ويحتمل الكلام وجوها أخر والله (سبحانه وتعالي) ورسوله أعلم بالحقائق وأقول جعله ((أشد مبتدأ خبره محذوف أولي من عكسه، لدلالة الرواية للبخاري، وأما الفاء في الخبر فلإضافة ((أشد)) إلي ((ما)) الموصوفة أو الموصولة. الحديث الخامس والسادس عن أنس (رضي الله عنه): قوله: ((تلك)) هو إشارة إلي ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن، و ((يجلس- إلي آخره-)) جملة استئنافية بيان للجملة السابقة، ويجوز أن تكون حالا ((والشمس)) مفعول ((ترقب)) و ((إذا)) ظرف مفعول به بدل اشتمال من الشمس، كقوله تعالي: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت} يعني: ترقب وقت اصفرار الشمس، وحصوله بين قرني الشيطان، وعلي هذا ((قام)) استئناف، ويجوز أن يكون ((إذا)) للشرط ((وقام)) جزاءه، فالشرطية استئنافية. وقوله: ((فنقر)) من نقر الطائر الحبة نقراً التقطها. وتخصيص الأربع بالنقر وفي العصر ثمإني سجدات، اعتبارا بالركعات، فكذا تخصيص العصر بالذكر دون سائر الصلوات؛ لأنها هي الصلاة الوسطى قال الله تعالي: {حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}. قيل: إنما خصها بالذكر، لأنها تأتي في وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم، وحرصهم علي قضاء أشغالهم، وشرههم بها إلي انقضاء وظائفهم. ((مظ)): يعني من أخر صلاة العصر إلي الاصفرار فقد شبه نفسه بالمنافقين؛ فإنهم لا يعتقدون حقيقة الصلاة، بل يصلون لدفع السيف، ولا يبالون بتأخيرها؛ لأنهم لا يطلبون بها فضيلة ولا ثواباً حتى يصلوها في الوقت؛ فالواجب علي المسلم أن يخالف المنافق.

594 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله)). متفق عليه. 595 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة العصر، فقد حبط عمله)). رواه البخاري. 596 - وعن رافع بن خديج، قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن ابن عمر (رضي الله عنه): قوله: ((وتر أهله)) ((فا)): أي خرب أهله وماله وسلب، من وتر بفلان إذا قتل حميمه أو نقص وقلل، من الوتر وهو الفرد، ومنه قوله تعالي: {لن يتركم أعمالكم} ويروي بنصب الأهل ورفعه، فمن نصب جعله مفعولا ثإنياً لوتر، وأضمر فيها مفعولاً أقيم مقام الفاعل عائداً إلي ((الذي تفوته)) ومن رفع لم يضمر، وأقام الأهل مقام الفاعل؛ لأنهم المصابون المأخوذون؛ فمن رد النقض إلي الرجل نصبهما، ومن رده إلي الأهل والمال رفعهما. قال ابن عبد البر: ويحتمل أن يلحق بالعصر باقي الصلاة، ويكون نبه بالعصر علي غيرها. الحديث الثامن عن بريدة (رضي الله عنه): قوله: ((حبط عمله)) حبط عمله حبطا وحبوطاً بطل ثوابه، وليس ذلك من إحباط ما سبق من عمله؛ فإن ذلك في حق من مات مرتداً، كقوله تعالي: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} بل يحمل الحبوط علي عمله في يومه، أي لاسيما في الوقت الذي يقرب أن ترفع أعمال العباد إلي الله تعالي. وأما دلالة الآية علي اختصاص إحباط عمل المرتد دون غيره، فإن ((من)) شرطية، وكان من حق الظاهر أن يقال: من يرتدد فيمت كافراً فحبط عمله، قدم معنى الضمير المجرور أي في عمله، وجعله اسم إشارة وبني الخبر عليه؛ لإفادته الاختصاص، عرفه من ذاقه، ولأهل السنة دلائل في الأصول رداً علي المعتزلة مشهورة لا يهمنا الآن ذكرها. الحديث التاسع عن رافع (رضي الله عنه): قوله: ((مواقع)) أي مواضع وقوع سهمه. يعني يصلي المغرب في أول الوقت بحيث لو رمي سهم يرى أين سقط.

597 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلي ثلث الليل الأول. متفق عليه. 598 - وعنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس. متفق عليه. 599 - وعن قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت، تسحرا، فلما فرغا من سحورهما؛ قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلي الصلاة، فصلي، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهم في الصلاة؟ فقال قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. رواه البخاري. 600 - وعن أبي ذر، قال: قال [لي] رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا كنت عليك أمراء يميتون الصلاة- أو [قال]: يؤخرون [الصلاة] عن وقتها -؟ قلت: فما ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن عائشة (رضي الله عنها): قوله: ((فيما بين أن يغيب الشفق إلي ثلث الليل)) يشكل توجيه ((إلي)) لأن الظاهر أن يقال: فيما بين مغيب الشفق وثلث الليل، اللهم إلا أن يتمحل فيقدر لمغيب الشفق أجزاء ليختص ((بين)) بها، وتجعل ((إلي)) حالا من فاعل ((يصلون)) أي يصلون فيما بين هذه الأوقات منتهين إلي ثلث الليل. الحديث الحادي عشر عن عائشة (رضي الله عنها): قوله: ((متلفعات)) أي متلحفات، التلفع شد اللفاع، وهو ما يغطي الوجه ويتلحف به، ((والمرط)) بالكسر كساء من صوف، أوخز يؤتزر به، و ((ما)) في ((ما يعرفن)) نافية؛ و ((من)) ابتدائية بمعنى أجل. الحديث الثاني عشر عن أنس (رضي الله عنه): قوله: ((قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية)) ((تو)): هذا القدر لا يسوغ لعموم المسلمين الأخذ به، وإنما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لإطلاع الله إياه، وكان صلى الله عليه وسلم معصوماً عن الخطأ في أمر الدين. و ((السحور)) بفتح السين هو المحفوظ ولو ضم جاز في اللغة، كالوضوء والوضوء. الحديث الثالث عشر عن أبي ذر: قوله: ((كيف أنت)) كيف يسأل عن الحال، أي ما حالك حين ترى من هو حاكم عليك متهاوناً في الصلاة يؤخرها عن وقتها، وأنت غير قادر علي مخالفته، إن صليت معه فاتتك فضيلة أول الوقت، وإن خالفته خفت أذاه وفاتتك فضيلة الجماعة؟ فسأل: ((فماذا تأمرني)) أي كيف أفعل حينئذ؟ و ((عليك)) خبر كان، أي كانت الأمراء مسلطين عليك قاهرين لك. شبه إضاعة الصلاة وتأخيرها عن موقتها بجيفة ميتة تنفر عنها

تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم؛ فصل، فإنها لك نافلة)). رواه مسلم. 601 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطباع، كما شبه المحافظة عليها وأدائها في وقت اختيارها بذي حياة له نضارة وطراوة في عنفوان شبابه، ثم أخرجها مخرج الاستعارة وجعل القرينة ((يميتون))؛ لأنه لازم المشبه به. ((مح)): المراد بتأخيرها عن وقتها المختار لأنهم لم يكونوا يؤخرونها عن جميع وقتها. وفي الحديث الحث علي الصلاة في أول الوقت، وفيه أن الإمام إذا أخرها عن أول وقتها يستحب للمأموم أن يصليها في أول الوقت منفرداً ثم يصليها مع الإمام، فيجتمع له فضيلة أول الوقت وفضيلة الجماعة، فلو اقتصر علي أحد هذين الأمرين هل له ذلك أم لا؟ فيه خلاف، والمختار الانتظار إن لم يفحش التأخير. وفيه الحث علي موافقة الأمراء في غير معصية؛ لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، وفيه أن الصلاة الأولي تقع فرضاً، والثانية نفلا، وفيه أنه لا بأس في إعادة سائر الصلوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة. ولنا وجه أن لا يعيد الصبح والعصر لأن الثانية نفل ولا نفل بعدهما، وكذا صلاة المغرب لا تعاد؛ لئلا تصير شفعاـ وهو ضعيف. وفي الحديث أيضاً دليل علي صدق النبوة، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر به وقد وقع في زمن بني أمية. الحديث الرابع عشر والخامس عشر عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((من أدرك ركعة)) ((حس)): أراد ركعة بركوعها وسجودها، والصلاة تسمى سجوداً، كما تسمى ركوعاً، قال الله تعالي: {ومن الليل فاسجد له} أي صل، كما قال الله تعالي: {واركعوا مع الراكعين} أي صلوا مع المصلين. وفيه دليل علي أن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح أو غربت وهو في صلاة العصر أن صلاته لا تبطل، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أصحاب أبي حنيفة: تبطل صلاة الصبح إذا طلعت وهو فيها، ولا تبطل صلاة العصر إذا غربت وهو فيها. ((مح)): قال أبو حنيفة: ((تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس، لأنه دخل وقت النهي عن الصلاة، بخلاف غروب الشمس)) والحديث حجة عليه. وفي الحديث ثلاث مسائل: إحداها: إذا

602 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فليتم صلاته. وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فليتم صلاته)). رواه البخاري. 603 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارته أن يصليها إذا ذكرها)). وفي رواية: ((لا كفارة لها إلا ذلك)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أدرك من لا تجب عليه الصلاة ركعة من وقتها لزمته تلك الصلاة، وذلك في الصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمي عليه يفيقان، والحائض والنفساء إذا تطهروا، والكافر يسلم، فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل خروج وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وإن أدرك دون ركعة كتكبيرة ففيه قولان، أصحهما تلزمه؛ لأنه أدرك جزء منه؛ ولأنه لا يشترط قدر الصلاة بكمالها بالاتفاق، فينبغي أن لا يفرق بين تكبيرة وركعة. وأجابوا عن الحديث: أن التقييد بالركعة خرج علي الغالب، ولا يشترط إمكان الطهارة معها. وثإنيها: إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها فصلي ركعة في الوقت ثم خرج الوقت كان مدركاً لأدائها، وتكون كلها أداء علي الصحيح، وقيل: كلها قضاء، وقيل: ما وقع في الوقت أداء. تظهر فائدة الخلاف في مسافر صلي ركعة في الوقت وباقيها بعده. فإن قلت: الجميع أداء فله قصرها، وإن قلت: كلها قضاء أو بعضها وجب إتمامها أربعاً في قول من يمنع قصر الفائت في السفر. وثالثها: إذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة كان مدركاً لفضيلة الجماعة بلا خلاف، وإن لم يدرك ركعة فالأصح أنه يكون مدركاً لفضيلة الجماعة؛ لأنه أدرك جزء منه، والحديث محمول علي الغالب. الحديث السادس عشر عن أنس (رضي الله عنه): ((أو نام عنها)) ضمن ((نام)) معنى غفل؛ أي غفل عنها في حال نومه. والكفارة عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها وتمحوها، وهي فعالة للمبالغة، كقتالة وضرابة، وهي من الصفات الغالبة في الأسمية. ((خط)): يحتمل ذلك وجهين، أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها، والآخر: أنه لا يلزمه في نسيانه غرامة، ولا زيادة تضعيف، ولا كفارة من صدقة ونحوها، كما يلزم في ترك الصوم. قوله: وفي رواية ((لا كفارة)) أراد زاد في رواية أخرى هذه العبارة؛ لأن هذه الرواية بدل من الرواية السابقة؛ لأن اسم الإشارة يقتضي مشاراً إليه، وهو قوله: ((أن يصليها إذا ذكرها)) جيء بالثانية تأكيداً وتقريراً علي سبيل الحصر؛ لئلا يتوهم أن لها كفارة غير القضاء.

604 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط في اليقظة. فإذا نسى أحدكم صلاة أو نام عنها؛ فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالي قال: {وأقم الصلاة لذكري}. رواه مسلم. الفصل الثاني 605 - عن علي [رضي الله عنه]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا علي! ثلاث لا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن أبي قتادة (رضي الله عنه): قوله: {أقم الصلاة لذكري} ((تو)): الآية تحتمل وجوها كثيرة من التأويل، ولكن الواجب أن تصار إلي وجه يوافق الحديث، لأنه حديث صحيح، فالمعنى: أقم الصلاة لذكرها؛ لأنه إذا ذكرها فقد ذكر الله، أو يقدر المضاف أي لذكر صلاتي، أو وقع ضمير الله موقع ضمير الصلاة لشرفها وخصوصيتها، ويؤيدها قراءة من قرأ ((أقم الصلاة لذكري)) وروى مسلم عن ابن شهاب أنه قرأها: ((للذكرى))، وروى النسائي أيضاً أن الزهري روى عن سعيد بن المسيب هذه القراءة، أقول: اللام الأولي بمعنى الوقت، والثانية بدل من المضاف إليه، وهو ضمير الصلاة، كأنه قيل: أقم الصلاة وقت ذكرها. فإن قلت: ما معنى تأويل الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل الآية مستشهداً لقوله؟ قلت- والله أعلم -: إن قوله تعالي: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} جيء به تتمة لبيان موجب قوله: {وأنا اخترتك} وأن يقوم الكليم بكلمة التوحيد وعبادة الله تعالي ويداوم عليها ولا يفتر عنها لمحة، وإذا وقع فتور من نسيان أو غفلة يعود إلي ما يجب عليه من إدامة الذكر، وقد علم أن أولي مكان الذكر وأفضله هو الصلاة، فأقيم مقام ذلك الفتور إقامة الصلاة التي هي مسببة عنه إذا غفلت عن الصلاة التي هي مكان للذكر تنبيه لها واذكرني فيها. وفيه دليل علي أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. الفصل الثاني الحديث الأول عن علي (رضي الله عنه): قوله: ((الصلاة إذا أتت)) ((تو)): في أكثر النسخ المقروءة ((أتت)) بالتائين، وكذا عن أكثر المحدثين، وهو تصحيف، وإنما المحفوظ من ذوي الإتقان ((آنت)) علي زنة حانت يقال: أنى يإني إني أي حان، و ((الأيم)) من لازوج له، رجلا كان أو امرأة، ثيباً كان أو بكراً، وقد آمت المرأة من زوجها تأيم أيمة وأيما وأيوما، ورجل أيم، سواء كان تزوج أم لم يتزوج، و ((الكفؤ)) المثل، وفي النكاح أن يكون الرجل مثل المرأة في الإسلام، والحرية، والصلاح والنسب، وحسن الكسب، والعمل. ((شف)). فيه دليل علي أن الصلاة علي

تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً)). رواه الترمذي. [605] 606 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله)). رواه الترمذي. [606] 607 - وعن أم فروة، قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة لأول وقتها)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [607] وقال الترمذي: لا يروى الحديث إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث. 608 - وعن عائشة، قال: ما صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله تعالي. رواه الترمذي. [608] 609 - وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي بخير- أو ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنازة لا تكره في الأوقات المكروهة. أقول: جمع تعجيل الصلاة والجنازة والأيم في قرن واحد لما يشتملها من معنى اللزوم فيها، وثقل محلها علي من لزم عليه مراعاتها والقيام بحقها. الحديث الثاني: عن ابن عمر (رضي الله عنه): قوله: ((من الصلاة)) بيان للوقت، و ((رضوان الله)) خبر، إما بحذف المضاف أي الوقت الأول سبب لرضوان الله، أو علي المبالغة، وأن الوقت الأول عين رضي الله كقولك: رجل صوم، ورجل عدل. ((حس)): قال الشافعي: ((رضوان الله)) إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون عن المقصرين. الحديث الثالث: عن أم فروة: قوله: ((لأول وقتها)) اللام للتأكيد، وليس كما في قوله تعالي: {قدمت لحياتي} لأن الوقت مذكور، ولا كما في قوله تعالي: {فطلقوهن لعدتهن} أي قبل عدتهن؛ لذكر لفظة الأول، فيكون تأكيداً. الحديث الرابع والخامس: عن أبي أيوب (رضي الله عنه): قوله: ((شبكت النجوم)) ((نه)): ظهرت جميعاً واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها. ((حس)): اختار أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم تعجيل المغرب.

قال: ((علي الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلي أن تشتبك النجوم)). رواه أبو داود. [609] 610 - ورواه الدارمي عن العباس. [610] 611 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق علي أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلي ثلث الليل أو نصفه)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [611] 612 - وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم بها علي سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم)). رواه أبو داود. [612] 613 - وعن النعمان بن بشير، قال: أنا أعلم بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة. رواه أبو داود، والدارمي. [613] 614 - وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسفروا بالفجر، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع: عن معاذ بن جبل: قوله: ((أعتموا)) ((قض)): أعتم الرجل إذا دخل في العتمة، كما يقال: أصبح إذا دخل في الصباح، والعتمة ظلمة الليل، وقال الخليل: العتمة من الليل ما بعد غيبوبة الشفق، أي صلوها بعد ما دخلتم في الظلمة، وتحقق لكم سقوط الشفق، ولا تستعجلوا فيها فتوقعوها قبل وقتها. وعلي هذا لم يدل علي أن التأخير فيه أفضل، ويحتمل أن يقال: إنه من العتم الذي هو الإبطاء، ياقل: اعتم الرجل إذ أخرـ والتوفيق بين قوله: ((لم تصلها أمة قبلكم)) وقوله في حديث جبريل: ((هذا وقت الأنبياء من قبلك)) أن يقال- والله أعلم -: إن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم، ولم تكتب علي أممهم كالتهجد؛ فإنه واجب علي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجب علينا. أو يجعل ((هذا)) إشارة إلي وقت الإسفار؛ فإنه قد اشترك فيه جميع الأنبياء الماضية والأمم الدارجة، بخلاف سائر الأوقات. الحديث الثامن: عن النعمان بن بشير قوله: ((الثالثة)) أي ليلة ثالثة من الشهر، وهو بدل من قوله: ((لسقوط القمر)) أي وقت غروبه.

فإنه أعظم للأجر)). رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. وليس عند النسائي: ((فإنه أعظم الأجر)). الفصل الثالث 615 - عن رافع بن خديج، قال: كنا نصلي العصر مع رسوله صلى الله عليه وسلم ثم تنحر الجزور فتقسم عشر قسم، ثم تطبخ، فنأكل لحماً نضيجاً قبل مغيب الشمس. متفق عليه. 616 - وعن عبد الله بن عمر، قال مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة. فخرج إلينا حيث ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري: أي شيء شعله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: ((إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل علي أمتي لصليت بهم هذه الساعة)). ثم أمر المؤذن، فأقام الصلاة وصلي. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع: عن رافع بن خديج: قوله: ((أسفروا)) أي طولوا صلاة الفجر وأمدوها إلي الإسفار؛ فإنه أوفق للأحاديث الواردة بالتغليس والتعجيل فيه. ((حس)): حمل الشافعي الإسفار المذكور في هذا الحديث علي تيقن طلوع الفجر وزوال الشك، يدل علي هذا ما روي عن ابن مسعود الأنصاري ((أن رسول)) الله صلى الله عليه وسلم غلس الصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلي الإسفار حتى قبضه الله)). الفصل الثالث الحديث الأول: عن رافع بن خديج: قوله: ((جزور)) الجزور البعير، ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اللفظة مؤنثة، يقال: هذه الجزور- وإن أردت ذكرا- والجمع جزر وجزائر، وفي تخصيص القسم بالعشر، والطبخ بالنضج، وعطف ((تنحر)) علي ((نصلي)) بـ ((ثم)) إشعار بامتداد الزمان، وأن الصلاة واقعة في أول الوقت. الحديث الثاني: عن عبد الله بن عمر: قوله: ((صلاة العشاء)) ظرف لقوله ((ينتظر)) أي ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة العشاء. قوله: ((ذهب ثلث الليل)) ((مح)): اختلفوا أهل العلم هل الأفضل تقديم العشاء أو تأخيرها؟ ومن فضل التأخير احتج بهذا الحديث ومن فضل التقديم احتج بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقديمها، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز، أو لشغل أو لعذر، واعلم أن التأخير المذكور في هذا الحديث تأخير لم يخرج به عن الاختيار؛

617 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخفف الصلاة. رواه مسلم. 618 - وعن أبي سعيد قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: ((خذوا مقاعدكم))، فأخذنا مقاعدنا، فقال: ((إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم، لأخرت هذه الصلاة إلي شطر الليل)). رواه أبو داود، والنسائي. [618] 619 - وعن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تعجيلاً للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلاً للعصر منه. رواه أحمد، والترمذي. [619] 620 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل. رواه النسائي. [620] 621 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون عليكم بعدي أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها)). فقال رجل: يا رسول الله! أصلي معهم؟ قال: ((نعم)). رواه أبو داود. [621] ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو نصف الليل أو ثلثه. قوله. ((لصليت بهم هذه الساعة)) أي لدمت علي صلاتها في مثل هذه الساعة. الحديث الثالث والرابع والخامس: عن أم سلمة (رضي الله عنها): قوله: ((أشد تعجيلا للظهر)) لعل هذا إنكار عليهم بالمخالفة. الحديث السادس: ظاهر. الحديث السابع: مضى شرحه في الحدي الثالث عشر من الفصل الأول الحديث الثامن: عن قبيضة بن وقاص (رضي الله عنه): قوله: ((فهي لكم وهي عليهم)) يعني إذا صليتم في أول وقتها، ثم تصلون معهم تكون منفعة صلاتكم لكم، ومضرة الصلاة ووبالها عليهم؛ لما أخروها، كما مر في الفصل الأول في الحديث الثالث عشر. قوله: ((ما صلوا القبلة)) أي ما صلوا نحو القبلة نحو قوله تعالي: {فولوا وجوهكم شطره}.

(3) باب فضائل الصلاة

622 - وعن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم، وهي عليهم، فصلوا معهم ما صلوا القبلة)). رواه أبو داود. [622] 623 - وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أنه دخل علي عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. رواه البخاري. (3) باب فضائل الصلاة الفصل الأول 624 - عن عمارة بن رويبة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يلج ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع: عن عبيد الله بن عدي بن الخيار (رضي الله عنه): قوله: ((إمام فتنة)) يريد من أثار الفتنة وأهاج المحاربة مع أمير المؤمنين وحصره في بيته، والمراد بإمام العامة الإمامة الكبرى وهي الخلافة، وبإمام الفتنة الإمامة الصغرى، وهي الإمامة في الصلاة فحسب، وفي إيقاع إمام فتنة في مقابلة إمام عامة إشارة إلي حقية إمامته وإجماع الناس عليها، وبطلان من يناوئه ويعاديه. ثم انظر إلي إنصاف أمير المؤمنين بما أجاب وأثبت لهم الإحسان والإساءة، وأمر بمتابعة إحسانهم، والاجتناب عن إساءتهم، وأخرج الجملة مخرج العموم حيث وضع الناس موضع ضميرهم، وفيه دليل علي جواز الصلاة خلف الفرقة الباغية وكل بر وفاجر. والتحرج: التأثم ((نه)): الحرج في الأصل الضيق، ويقع علي الإثم والحرام. باب فضائل الصلاة الفصل الأول الحديث الأول عن عمارة بن رويبة: قوله: ((لن يلج النار)): لن لتأكيد النفي في المستقبل وتقريره، وفيه دليل علي أن الوارد في قوله تعالي: {وإن منكم إلا واردها} ليس بمعنى الدخول، وهذا أبلغ من لو قيل: يدخل الجنة، علي ما مر في باب الإيمان. وخص الصلاتين بالذكر، لأن وقت صلاة الصبح وقت لذيذ الكرى والنوم، والقيام فيه أشق من القيام في غيره،

النار أحد صلي قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر. رواه مسلم. 625 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي البردين دخل الجنة)). متفق عليه. 626 - وعن أبي هريرة، [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الله تعالي: {تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} وصلاة العصر وقت قوة الاشتغال بالتجارة، وحينئذ يحمى البيع والشرى، فما ينتهي عنه إلا من كمل دينه، قال الله تعالي: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ولأن الوقتين مشهودان تشهدهما ملائكة الليل والنهار، ويرفعون فيهما أعمال العباد إلي الله تعالي والمسلم إذا حافظ عليهما مع ما فيه من التثاقل والمشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ علي غيرهما أشد محافظة، وما عسى أن يقع منه التفريط، فالحري أن يقع مكفراً، فيغفر له ولن يلج النار. الحديث الثاني عن أبي موسى: قوله: ((البردين)) في شرح السنة والفائق والغريبين: والأبردان الغداة والعشي، وزاد في الفائق: لطيب الهواء وبرده فيهما، وأنشد لحميد بن ثور: فلا الظل من برد الضحى يستطيع ولا الفيء من برد العشي يذوق وزاد في شرح السنة: أراد بهما صلاة الفجر والعصر؛ لكونهما في طرفي النهار. الحديث الثالث عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((يتعاقبون)) ((مح)): قيل: إن الضمير في ((يتعاقبون)) ضمير الفاعل، وهي لغة بني الحارث، وحكموا فيه قولهم: أكلوني البراغيث، وعليه حمل الأخفش قوله تعالي: {وأسروا النجوى الذين ظلموا}. وأكثر النحويين لا يجوزون، ويجعلون الاسم بدلا عن الضمير. ومعنى ((يتعاقبون)) تأتي طائفة عقيب طائفة، واجتماعهم في الوقتين من لطف الله وكرمه بعباده؛ ليكون شهادة لهم بما شهدوه من الخير،

627 - وعن جندب القسري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي صلاة الصبح؛ فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه علي وجهه في نار جهنم)). رواه مسلم. وفي بعض نسخ ((المصابيح)): القشيري بدل القسري. 628 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا؛ ولو يعلموا ما في التهجير، لاستبقوا إليه؛ ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما السؤال عنهم وهو أعلم بهم، فتعبد منه للملائكة كما يكتب الأعمال وهو أعلم بالجميع، قال الأكثرون: إن هؤلاء الملائكة هم حفظة الكتاب، وقيل: يحتمل أن يكونوا غيرهم. وأقول: كرر ((ملائكة)) وجيء بها نكرة؛ دلالة علي أن الثانية غير الأولي. كقوله تعالي: {غدوها شهر ورواحها شهر}. وفي قوله ((يعرج الذين باتوا فيكم)) إيذان بأن ملائكة الليل لا يزالون حافظين العباد إلي الصبح، وكذلك ملائكة النهار إلي الليل، ودليل علي قول الأكثرين. الحديث الرابع عن جندب (رضي الله عنه): قوله: ((القسري)) هو بفتح القاف وسكون السين المهملة، كذا صححه النواوي. في سائر نسخ المصابيح ((القشيري)) بضم القاف والشين المعجمة وهو غلط. قوله: ((فلا يطلبنكم)) من باب أرينكم، هاهنا وقع النهي علي مطالبة الله تعالي إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم، وفيه مبالغات؛ لأن الأصل لا تخفروا ذمته، فجيء بالنهي، كما ترى، وصرح بضمير الله، ووضع المنهي الذي هو مسبب موضع التعرض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد الطلب وكرر الذمة، ورتب عليه الوعيد. المعنى من صلي صلاة الصبح فهو في ذمة الله تعالي فلا تتعرضوا له بشيء يسير؛ فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله تعالي ولن يفوته، فيحيط بكم من جوانبكم كما يحيط المحيط بالمحاط، ويكبكم في النار. والضمير في ((ذمته)) يجوز أن يعود إلي الله تعالي وإلي ((من)). وقيل يحتمل أن يكون المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان، فيكون المعنى لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به. وإنما خص صلاة الصبح بالذكر؛ لما فيه امن الكلفة والمشقة، وأداؤها مظنة خلوص الرجل، ومنته إيمانه، ومن كان مؤمناً خالصاً فهو في ذمة الله تعالي وعهده. الحديث الخامس: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((لو يعلم الناس)) المعنى لو علموا ما في النداء، والصف الأول من الفضيلة، ثم حاولوا الاستباق إليه- لوجب عليهم ذلك، فوضع

629 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل علي المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبوا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المضارع موضع ما يستدعيه ((لو)) من الماضي؛ ليفيد استمرار العلم، وأنه مما ينبغي أن يكون علي بال منه، وأتى بـ ((ثم)) المؤذنه بتراخي رتبة الاستباق عن العلم، وقدم ذكر ((النداء)) دلالة علي تهيؤ المقدمة الموصلة إلي المقصود الذي هو المثول بين يدي رب العزة فيكون من المقربين، وأطلق مفعول ((يعلم)) يعني ((ما)) ولم يبق أن الفضيلة ما هي ليفيد ضرباً من المبالغة، وأنه مما لا يدخ تحت الحصر والوصف، وكذا تصوير حالة الاستباق بالاستهام فيه من المبالغة حدها؛ لأنه لا يقع إلا في أمر يتنافس فيه المتنافسون، ويرغب فيه الراغبون، ولاسيما إخراجه مخرج الاستثناء والحصر، وليت شعري! بماذا يتشبث ويتمسك من طرق سمعه هذا البيان، ثم يتقاعد عن الجماعة خصوصاً عن الاستباق إلي الصف الأول؟ ولعله يعتذر بأنه خارج من زمرة من سمع وأطاع، فلما فرغ من الترغيب في الاستباق إلي الصف الأول عقبه بالترغيب في إدراك أول الوقت، ولذلك أوجب أن يفسر ((التهجير)) بالتبكير كما ذهب إليه الكثيرون. ((نهظ)): ((التهجير)) التبكير إلي كل شيء والمبادرة إليه، يقال: هجر تهجيراً فهو مهجر، وهي لغة حجازية أراد المبادرة إلي أول وقت الصلاة، ومنه حديث الجمعة: فالمهجر إليها كالمهدي بدنة. ((قض)): لا يقال: الأمر بالإبراد ينافي الأمر بالتهجير والسعي إلي الجماعة بالظهيرة؛ لأنا نمنع ذلك. فإن كثيراً من أصحابنا حمل الأمر به علي الرخصة، فعلي هذا يكون الإبراد رخصة، والتهجير سنة، ومن حمل ذلك علي الندب فله أن يقول: الإبراد تأخير الظهر أدنى تأخير بحيث يقع الظل ولا يخرج بذلك عن حد التهجير؛ فإن المهاجرة تطلق علي الوقت؛ إلي أن يقرب العصر. ((والاستفهام)) الاقتراع، قيل: سمي به لأنها سهام يكتب عليها الأسماء فمن وقع له منها سهم فاز بالحظ المقسوم. قوله: ((ولو حبوا)) ((نه)): الحيوان يمشي علي يديه وركبتيه أواسته. وحبا البعير إذا برك، ثم زحف من الإحباء، وحبا الصبي إذا زحف علي إليته. الحديث السادس: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: ((ليس صلاة)) قال المالكي: قد ثبت أن ليس من أخوات كان فيلزم أن يجري مجراها في أن لا يكون اسمها نكرة إلا بمصحح كما يلزم ذلك في الابتداء، ومصححه وقوعه بعد نفي، وإذا جاز وقع اسم كان نكرة محضة بعد نفي كما في قول الشاعر: إذا لم يكن أحد باقياً فإن التأسي دواء الأسى فلأن يجوز وقوعه اسم ليس أولي، لملازمتهما النفي. وفي الحديث شاهد علي استعمال ليس

630 - وعن عثمان [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلي الصبح في جماعة؛ فكأنما صلي الليل كله)). رواه مسلم. 631 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلبنكم الأعراب علي اسم صلاتكم المغرب)) قال: ((وتقول الأعراب: هي العشاء)). ـــــــــــــــــــــــــــــ للنفي العام المستغرق به الجنس، وهو مما يغفل عنه، ويؤيده الاستثناء منه في قوله تعالي: {ليس لهم طعام إلا من ضريع}. ولك أن تجعل ((ليس)) حرفاً لا اسم لها ولا خبر وفي قول ابن عمر ((رضي الله عنه)): ((أليس ينادي)) شاهد علي استعماله حرفاً، أشار إلي ذلك سيبويه، وحمل عليه قول بعض العرب: ((ليس الطيب إلا المسك)) بالرفع، وأجاز في قولهم: ((ليس خلق الله مثله)) حرفية ((ليس)) وفعليتها، علي أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر، وإن جوز الوجهان في: ((ليس ينادي لها)) فغير ممتنع، انتهي كلامه. وإنما خص الصبح والعشاء بالذكر لأن أحدهما ترك لطعم النوم ولذته، والآخر شروع في النوم، ولا يحب ذلك إلا الكسلان، أو المنافق والذين {إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي يراءون الناس}، وهذه حالة المنافقين. الحديث السابع: عن عثمان (رضي الله عنه): قوله: ((من صلي العشاء في جماعة)) خصا بالذكر لما فيهما من ترك النوم ولذاته كما مر، فلا يؤثرهما إلا كل مخلص تقي ((تتجافي جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)). فلما آثروا السهر والتهجد فيهما علي النوم سرى ثوابهما إلي سائر أوقات الهجود. قوله: ((فكأنما صلي الليل كله)) لعله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن صلاة الصبح قامت مقام صلاة الليل كله، بل أراد بقيتها التي استبقتها صلاة العشاء، ونحوه قوله تعالي: {خلق الأرض في يومين} إلي قوله: {في أربعة أيام} قال الزجاج: في ((في أربعة أيام)): في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. ويجوز أن يجعل كلا من العشاء والصبح مستقلاً بما رتب عليه. وإنما قيل أولاً: ((قام)) لأن صلاة الليل يعبر عنها بقام، كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم. وقيل ثإنيا: ((صلي الليل كله)) ولم يقل: ((قام)) ليشاكل قوله: ((صلي الصبح)). الحديث الثامن: عن ابن عمر (رضي الله عنه): قوله: ((لا يغلبنكم الأعراب علي اسم

632 - وقال: ((لا يغلبنكم الأعراب علي اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها تعتم بحلاب الإبل)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاتكم)) يقال: غلبه علي كذا غصبه منه، وفي ((أساس البلاغة)): غلبته علي شيء أخذته منه، والمعنى لا تتعرضوا لما هو من عادتهم من تسميتهم المغرب بالعشاء والعشاء بالعتمة فتغضب منكم الأعراب اسم العشاء التي سماها الله بها، فتبدلوا بها العتمة، والنهي علي الظاهر للأعراب، وعلي الحقيقة لهم كما سبق. فإن قلت: ما موقع الفاء في قوله: ((فإنها في كتاب الله)) وفي ((فإنهم تعتم))؟ قلت: الأولي علة للنهي، والثانية علة للتسمية، المعنى لا يغلبنكم الأعراب علي اسم صلاتكم العشاء؛ لأن اسمها في كتاب الله العشاء، وهم يسمونها بالعتمة؛ لأنها تعتم بحلاب الإبل. ((تو)): الأعراب يحلبون الإبل بعد غيبوبة الشفق حتى يمد الظلام رواقة، ويسمى ذلك الوقت العتمة، وكان ذلك مستفيضاً في اللغة العربية، فلما جاء الإسلام وتمهدت قواعده، وأكثر المسلمون من أن يقولوا العتمة بدل صلاة العشاء- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلبنكم الأعراب)) أي لا تطلقوا هذا الاسم علي ما هو متداول بين المسلمين، فيغلب مصطلحهم علي الاسم الذي جئتكم به من الله. فإن قيل: ما وجه التوفيق بينه وبين الحديث السابق عن أبي هريرة (رضي الله عنه): ((لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا)) والحديثان صحيحان؟ قلنا: ذكر بعضهم أن أبا هريرة سمع هذا الحديث قبل نزول قوله تعالي: {يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلي قوله: ((بعد صلاة العشاء)) فلما نزلت نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمية بالعتمة. وفي تقدم نزول الآية علي الحديث بحث؛ لأنه بالعكس علي ما تقرر في التاريخ. والوجه أن يقال: إن ذلك كان في بدء الأمر جائز، فلما كثر إطلاقهم وجرت ألسنتهم به نهاهم رسول الله صلي الله عليه وسلم عنه، لئلا يغلب ألسنة الجاهلية علي الإسلامية. ((حس)): كرهوا تسمية العشاء بالعتمة، وكان ابن عمر (رضي الله عنه) إذا سمعها صاح وغضب، وقال: إنما هو العشاء. وقال مالك: وأحب أن لا تسمى إلا بما سماها الله تعال. ومنهم من لم يكره، لما روت عائشة (رضي الله عنها): ((أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة)) وروى أبو هريرة (رضي الله عنه): ((لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا)). قال الشيخ محيي الدين: في الجواب وجهان: أحدهما: أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي من العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني: يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء لأنها

633 - وعن علي [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق ((حبسونا عن صلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أشهر عند العرب من العشاء، وإنما كانوا يطلقونها علي المغرب. وأقول: لعل النهي إنما ورد علي التسمية بها وتداولها بين الناس، والقصد بالذكر في الأحاديث الواردة فيه العتمة هو الوصف والنظر إلي أصل اللغة تحريضاً علي إيقاع صلاة العشاء في وقت الاختيار عند تكامل الظلمة، والله أعلم. الحديث التاسع: عن علي (رضي الله عنه) قوله: ((يوم الخندق)) هو يوم الأحزاب سنة أربع من الهجرة، وقيل: خمس منها. قوله: ((صلاة الوسطى)) كما في رواية البخاري ونسخ المصابيح، وإضافة الصلاة إلي الوسطى كما هي في قوله تعالي: {وما كنت بجانب الغربي} فعند الكوفيين هي من إضافة الموصوف إلي الصفة، والبصريون يقدرون محذوفاً، أي عن الصلاة الوسطى، يعني عن فعل الصلاة الوسطى. واختلفوا في الصلاة الوسطى، قيل: هي العصر، وعليه كثير من الصحابة والتابعين، وذهب إليه أبو حنيفة، وأحمد، وداود (رضي الله عنهم) والحديث نص عليه لبيان الوسطى بصلاة العصر. وقيل: هي الصبح، وعليه بعض الصحابة والتابعين، وذهب إليه مالك، والشافعي (رضي الله عنهما). وقيل: هي الظهر، وقيل: المغرب، وقيل: العشاء. وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، أبهمها تحريضاً المغرب، وقيل: العشاء. وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها، أبهمها تحريضاً للخلق علي المحافظة علي أداء جميعها، كما أخفي ليلة القدر. وساعة الإجابة في يوم الجمعة. قوله: ((ملأ الله بيوتهم)) ((شف)): خصهما بالذكر لأن أحدهما مسكن الأحياء، والآخر مضجع الأموات، أي جعل الله النار ملازمة لهم بحيث لا تنفك عنهم، لا في حياتهم ولا في مماتهم. أقول: دعا عليهم بعذاب الدارين، من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم وسبي زراريهم، وهدم دورهم، ومن عقابهم في الآخرة باشتعال قلوبهم ناراً، ووقوع الزجر والنكال في جهنم خالداً. فالأسلوب إما من المشاكلة لذكره النار في البيوت، أو من الاستعارة استعيرت النار للفتنة، وعلي الثاني هو من باب قوله تعالي: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} حيث استعمل ملأ في الحقيقة والمجاز مجازاً.

الفصل الثاني 634 - عن ابن مسعود، وسمرة بن جندب، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الوسطى صلاة العصر)). رواه الترمذي. [634] 635 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالي: (إن قرآن الفجر كان مشهودا))، قال: ((تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)). رواه الترمذي. [635] الفصل الثالث 636 - عن زيد بن ثابت، وعائشة، قالا: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. رواه مالك عن زيد، والترمذي عنهما تعليقاً. [636] 637 - وعن زيد بن ثابت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد علي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها. فنزلت: (حافظوا علي ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة (رضي الله عنه): قوله: {إن قرآن الفجر} أي سميت صلاة الفجر قرآنا- وهو القراءة- لأنها ركن، كما سميت ركوعاً وسجوداً وقنوتاً، أي قياماً مشهوداً تشهده الملائكة ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وفائدة تسمية الصبح بالقرآن الحث علي طول القراءة فيها، فيسمع القرآن، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة. الفصل الثالث الحديث لأول عن زيد بن ثابت وعائشة (رضي الله عنهما): قوله: ((تعليقاً)) التعليق يستعمل فيما حذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، مثاله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، قال ابن عباس كذا، قال سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كذا. الحديث الثاني عن زيد: قوله: {حافظوا علي الصلوات} أي ما كان ينبغي أن تضيعوها لثقلها عليكم فإنها هي الوسطى، أي الفضلي، من قولهم: الأفضل الأوسط، ولذلك أوردت وعطفت علي الصلاة لانفرادها بالفضل، فالصفة بالوسطى أي الفضلي واردة للإشعار بعلية الحكم.

الصلوات والصلاة الوسطى)). وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. رواه أحمد، وأبو داود. [637] 368 - وعن مالك، بلغة أن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. رواه في الموطأ. [638] 639 - ورواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً. 640 - وعن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من غدا إلي صلاة الصبح غدا براية الإيمان، ومن غدا إلي السوق غدا براية إبليس)). رواه ابن ماجه [640]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قال: إن قبلها صلاتين)). أي قال الراوي: سميت صلاة الظهر بالوسطى لأنها واقعة في وسط النهار وقبلها صلاتان وبعدها صلاتان، كما أن العصر توصف بالوسطى لأنها واقعة بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وإليه ذهب أبو سعيد الخدري، وأسامة بن زيد. الحديث الثالث والرابع عن سلمان (رضي الله عنه): قوله: ((براية الإيمان- إلي آخره -)) تمثيل لبيان حزب الله وحزب الشيطان، فمن أصبح يغدوا إلي المسجد كأنه يرفع أعلام الإيمان ويظهر شرائع الإسلام، ويتحرى في توهين أمر المخالفين، وفي ذلك ورد الحديث: ((فذلكم الرباط)). ومن أصبح يغدو إلي السوق فهو من حزب الشيطان، يرفع أعلامه، ويشد من شوكته، وينصر حزبه، ويتوخى توهين دينه. وفي قوله: ((يغدو)) إشارة إلي أن التبكير إلي السوق محظور، ومن تأخر وراح بعد أداء وظائفه لطلب الحلال وما يتقوم به صلبه للعبادة ويتعفف عن السؤال- كان من حزب الله.

(4) باب الأذان

(4) باب الأذان الفصل الأول 641 - عن أنس، قال: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة. قال إسماعيل: فذكرته لأيوب. فقال: إلا الإقامة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الأذان الفصل الأول الحديث الأول عن أنس (رضي الله عنه): قوله: ((ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى)) يشبه أن يكون ذكر الأول بمعنى الوصف، والفاء في الثاني السببية، يعني وصفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لإعلام الناس وقت الصلاة إيقاد النار لظهوره، وضرب الناقوس لصوته، كان ذلك سببا في ذكر اليهود والنصارى، وقوله: ((إلا الإقامة)) أي يقول بلال كل كلمة من كلمات الإقامة مرة مرة إلا لفظ الإقامة، وهي: قد قامت الصلاة، فإنه يقولها مرتين. ((قض)): لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى المسجد، شاور الصحابة فيما يجعل علما للوقت، فذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، أي فذكر جمع من الصحابة النار والناقوس، فذكر آخرون منهم أن النار شعار اليهود، والناقوس شعار النصارى، فلو اتخذنا أحد الأمرين شعاراً لالتبس أوقاتنا بأوقاتهم. وقوله: ((فأمر بلال)) يفيد عرفا أن الرسول أمره، فإن من اشتهر بطاعة أمير إذا قال: أمرت بكذا، فهم منه أمر الأمير له. وأيضاً مقصود الراوي بيان شرعيته، وهي لا تكون إلا ذا كان الأمر صادراً من الشارع. وذلك حين ما ذكر عبد الله بن زيد الأنصاري رؤياه. وقوله: ((أن يشفع الأذان)) أن يأتي بألفاظه شفعا. وقوله: ((أن يوتر الإقامة)) دليل علي أن الإقامة فرادى، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الزهري، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقد رواه ابن عمر. وبلال، وسعد القرظي، وهو كان مؤذن مسجد قباء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفة بلال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عهده. واحتج من زعم أنه مثنى بما روي ذلك عن عبد الله بن زيد، وقول أبي محذورة: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة)) وذلك معارض بما روي من الإفراد عنهما أيضاً، وحديث أبي محذورة ما سمعت أحداً بموجبه غير محمد بن إسحاق بن خزيمة؛ لأنه يقتضي الترجيع في الأذان؛ إذ

642 - وعن أبي محذورة، قال: ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه. فقال: ((قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم تعود فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي علي الصلاة، حي علي الصلاة. حي علي الفلاح، حي علي الفلاح. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ به يصير تسع عشرة كلمة، والتثنية في الإقامة، والقائل بأحدهما لا يقول بالآخر. الحديث الثاني عن أبي محذورة: قوله: ((ألقى)) أي لقنني كل كلمة من هذه الكلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يعني بذلك أبو محذورة تصوير تلك الحالة واستحضارها عند السامع تقريراً وتأكيداً، ولهذه الدقيقة عدل من لفظ الماضي إلي المضارع في قوله: ((ثم تعود فتقول)): أشهد أن لا إله إلا الله- مرتين- وأشهد أن محمداً رسول الله- مرتين- من غير جهر، ثم ارفع صوتك، وقل كل واحدة من هاتين الكلمتين مرتين. ويسمى رفع الصوت بالمرتين اللتين يرفع بهما صوته ترجيعاً، ولا ترجيع في كلمات الأذان إلا في كلمتي الشهادة، لأن الترجيع هو رفع الصوت بكلمتي الشهادة بعد قوله بالخفض مرتين، والتلفظ بالخفض ليس في كلمة من كلمات الأذان سوى الشهادتين. والترجيع سنة عند الشافعي، وعند أبي حنيفة ليس بسنة. ((نه)): قيل: الله أكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته، وفي ((الغريبين)): قيل:: معناه الله كبير، فوضع أفعل موضع فعيل، كما قال الشاعر: إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل أي مائل، وقال الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول أي عزيزة طويلة وأقول: ذكر في ((المفصل)): أفعل يضاف إلي نحو ما يضاف إليه ((أي))، وله معنيان: أحدهما أنه يراد أنه زائد علي المضاف إليهم في الخصلة التي هو وهم فيها شركاء. والثاني أن يؤخذ مطلقاً له الزيادة فيها إطلاقاً، ثم يضاف، لا للتفضيل علي المضاف إليهم، لكن لمجرد التخصيص، كما يضاف ما لا تفضيل فيه، وذلك نحو قولك: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، كأنك قتل: عادلا بني مرواه. وقوله: ((أن يؤخذ مطلقاً له الزيادة فيها إطلاقاً)) يحتمل

الفصل الثاني 643 - عن ابن عمر، قال: كان الأذان علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. رواه أبو داود، والنسائي والدارمي. [634] ـــــــــــــــــــــــــــــ معنيين: أحدهما- وهو الظاهر- أن أفعل قطع عن متعلقه قصداً إلي نفس الزيادة إيهاماً للمبالغة نحو: فلان يعطي ويمنع، أي يوجد حقيقتهما، وإفادته المبالغة من حيث أن الموصوف تفرد بهذا الوصف، وانتهي أمره فيه إلي أن لا يتصور من يشاركه فيه، ولهذا السر قال أولا: ((مطلقاً))، ثم أتبعه بقوله: ((إطلاقاً)). وثإنيهما- وعليه كلام شارح الباب- أن يراد بالزيادة الزيادة علي الغير لكن علي العموم قال: ليس معنى قوله: ((أعدلا بني مرواه)) التفضيل عليهم لأن المروإنية كلهم جورة، لكن المراد تعريف أنه من بني مرواه، كأنه قال: الأشج أعدل الناس، وهذا الأعدال من بني مروان. وفيه نظر؛ لأن قوله: ((يؤخذ مطلقاً)) وتأكيده بقوله: ((إطلاقاً)) لا يساعد؛ لأن المنوي كالملفوظ. ولا قوله: ((كأنك قلت: عادلاً بني مروان))؛ لأن أعدلا إذا أريد به عادلاً كان بالنسبة إلي بني مروان مجازاً، وهو حينئذ حقيقة في إرادة الغير، فقد اجتمعت الحقيقة والمجاز علي لفظ واحد في حال واحد. وأيضاً يلزم أن يكون محضة وغير محضة، فثبت أن الاحتمال الأول أولي. وعليه يحمل كل ما جاء في وصف الباري (عزو علا) من نحو: أكبر، وأعلم؛ فإنه لا ينبغي أن يتوهم في وصفه المبارك المشارك، والله أعلم. ذكر في النهاية والغريبين أن الراء في ((أكبر)) ساكنة في الأذان والصلاة، كذا سمع موقوفاً غير معرب في مقاطعة، كقولهم: حي علي الصلاة، حي علي الفلاح، والمعنى هلموا إليها، وأقبلوا، وتعالوا مسرعين، ومنه حديث ابن مسعود: ((إذا ذكر الصالحون فحيهل بعمر)) أي ابدأ به وأعجل بذكره، وهما كلمتان جعلتا كلمة واحدة. ((الجوهري)): فتحت الياء في حي لسكونها وسكون ما قبلها، كما قيل: ليت، ولعل، والعرب تقول: حي علي الثريد، وهو اسم لفعل الأمر. وأقول: لما قيل: حي، أي أقبل قيل له: علي أي شيء؟ أجيب: علي الصلاة. ذكر نحوه في (الكشاف) في قوله: {هيت لك}. ((وأقبل)) يعدى بـ ((علي))، يقال: أقبل عليه بوجهه، وقال الله (تعالي): {وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون}. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((كان الأذان علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي في عهده، عدى بعلي لمعنى الظهور والاستعلاء.

644 - وعن أبي محذورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة. رواه أحمد. والترمذي، وأبو داود والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. [644] 645 - وعنه، قال: قلت: يا رسول الله! علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسه قال: ((تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ترفع بها صوتك. ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، تخفض بها صوتك. ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي علي الصلاة، حي علي الصلاة. حي علي الفلاح، حي علي الفلاح. فإن كان صلاة الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله)) رواه أبو داود. [645] 646 - وعن بلال، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تثوبن في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: أبو إسرائيل الراوي ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث. [646] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي محذورة: قوله: ((والإقامة سبع عشرة كلمة)) تفصيله: الله أكبر أربع كلمات، أشهد أن لا إله إلا الله مرتان، وكذا أشهد أن محمداً رسول الله- ولا يقولهما في السر بخلاف الأذان- حي علي الصلاة مرتان، حي علي الفلاح مرتان، وقد قامت الصلاة مرتان، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله كلمة. وبهذا قال أبو حنيفة. وأما الشافعي فيقول: الإقامة إحدى عشرة كلمة؛ لأنه يقول كل كلمة مرة إلا كلمة الإقامة والتكبير؛ لما رواه ابن عمر وأنس. الحديث الثالث والرابع بلال رضي الله عنه: قوله: ((لا تثوبن)) (فآ) الأصل في التثويب أن الرجل إذا جاء مستصرخاً لوح بثوبه، فيكون ذلك دعاء وإنذاراً، ثم كثر حتى سمي الدعاء تثويباً. وقيل: هو ترديد الدعاء، تفعيل من: ثاب إذا رجع، ومنه قيل لصوت المؤذن ((الصلاة خير من النوم)): التثويب. وزاد في النهاية: فإن المؤذن إذا قال: ((حي علي الصلاة)) فقد دعاهم، فإذا قال بعده: ((الصلاة خير من النوم)) فقد رجع إلي كلام معناه المبادرة.

647 - وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل ما بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني)). رواه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم، وهو إسناد مجهول. [647] 648 - وعن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن أذن في صلاة الفجر)) فأذنت فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [648] الفصل الثالث 649 - عن ابن عمر، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود. قال عمر: أولا تبعثون رجلا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((فترسل)) ((نه)): أي تأن ولا تعجل، يقل: ترسل فلان في كلامه ومشيته، إذا لم يعجل، وهو والترسل سواء. ((فا)): وحقيقة الترسل تطلب الرسل وهو الهينة والسكون. قوله: ((فاحذر)) ((نه)): أي أسرع، قال: حدر في قراءته وأذانه يحدر حدراً، وهو من الحدور ضد الصعود يتعدى ولا يتعدى، قوله: ((المعتصر)) ((نه)) هو الذي يحتاج إلي الغائط ليتأهب للصلاة قبل دخول وقتها، وهو من لعصر، أو المعصر الملجأ والمستخفي. الحديث السادس عن زياد بن الحارث: قوله: ((أن أذن)) أن هي المفسرة لما في ((أمرني)) من معنى القول. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فيتحينون)) أي يقدرون حينها ليأتوا إليها فيه، والحين الوقت من الزمان، والواو في ((أو لا تبعثون)) عطف علي محذوف، أي أتقولون بموافقة اليهود والنصارى ولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، فالهمزة إنكار للجملة الأولي، ومقررة للثإنية حثاً وبعثاً. قوله: ((ينادي)) في شرح مسلم عن القاضي عياض: الظاهر أنه إعلام وإخبار بحضور وقتها، وليس علي صفة الأذان الشرعي. ((مح)): هذا هو الحق، لما يؤذن بوجه التوفيق بين هذا وبين ما روي عن عبد الله بن زيد: أنه رأي الأذان في المنام، وذلك أن يكون هذا في مجلس آخر.، فيكون الواقع أولا الإعلام، ثم رؤية عبد الله بن زيد الأذان، فشرعه النبي صلى الله عليه وسلم إما

ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يا بلال! قم فناد بالصلاة)). متفق عليه. 650 - وعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلي الصلاة. قال: أفلا أدلك علي ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلي: قال: فقال: تقول: الله أكبر، إلي آخره. وكذا الإقامة فلما أصبحت، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت. فقال: ((إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك)). فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلله الحمد)). رواه أبو داود، والدارمي، وابن ماجه؛ إلا أنه لم يذكر الإقامة. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، لكنه لم يصرح قصة الناقوس. 651 - وعن أبي بكرة، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركة برجله. رواه أبو داود. [651] 652 - وعن مالك، بلغة أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح. فوجده نائماً. فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح. ـــــــــــــــــــــــــــــ بوحي، أو باجتهاد علي مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له، وليس هو عملاً بمجرد المنام. الحديث الثاني عن عبد الله بن زيد: قوله: ((طاف بي)) ((الجوهري)): طيف الخيال مجيئه في النوم، تقول منه: طاف الخيال يطيف طيفاً ومطافاً، و ((رجل)) في الحديث فاعل طاف، وهو طيف الخيال. قوله: ((أندى صوتاً)) ((غب)): أصل النداء من الندى، أي الرطوبة، يقال: صوت ندي رفيع، واستعارة النداء للصوت من حيث أن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ويعبر بالندى عن السخاء، يقال: فلان أندى كفاً من فلان. ((مح)): قيل: من هذا الحديث يؤخر استحباب كون المؤذن رفيع الصوت حسنه. الحديث الثالث والرابع عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((فأمره عمر أن يجعلها في نداء

(5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

رواه في الموطأ. [652] 653 - وعن عبد الله بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل أصبعيه في أذنيه، وقال: ((إنه أرفع لصوتك)). رواه ابن ماجه [653]. (5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن الفصل الأول 654 - عن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصبح)). ليس هذا إنشاء أمر ابتدعه من تلقاء نفسه، بل كان سنة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه حديث أبي محذورة في الفصل الثاني في الحديث الثالث: قلت: ((يا رسول الله! علمني سنة الأذان- إلي قوله –: ((الصلاة خير من النوم)) في غير ما شرع. ويحتمل أن يكون من ضروب الموافقة كما مر آنفاً في حديث ابن عمر، قال عمر رضي الله عنه: ((أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فناد بالصلاة)). الحديث الخامس: عن عبد الرحمن: قوله: ((أرفع لصوتك)) المفضل والمفضل عليه حالتان، يعني حالة جعل إصبعيه في أذنيه أرفع لصوته في غير تلك الحالة. ولعل الحكمة أنه إذا سد صماخيه لا يسمع إلا الصوت الرفيع، فيتحرى في استقصائه كالأطروش، بخلاف إذا تركهما خاليتين. باب فضل الأذان وإجابة المؤذن الفصل الأول الحديث الأول عن معاوية: قوله: ((أطول الناس)) ((حس)): قال ابن الأعرابي: معناه أكثرهم أعمالاً، يقال: لفلان عنق من الخير أي قطعة. وقال غيره: أكثرهم رجاءاً؛ لأن من يرجى شيئاً طال إليه عنقه، فالناس يكونون في الكرب، يشرئبون أن يؤذن لهم في دخول الجنة. وقيل.

655 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نودي للصلاة، أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين،. فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب، أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري: كم صلي؟)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه الدنو من الله. وقيل: أراد أنهم لا يلجمهم العرق، فإن الناس يوم القيامة يكونون في العرق بقد أعمالهم. وقيل: معناه أنهم يكونون رؤساء يومئذ، والعرب تصف السادة بطول العنق. وقيل: الأعناق الجماعة، يقال: جاء عنق من الناس، أي جماعة، ومعنى الحديث أن جمع المؤذنين يكون أكثر فإن من أجاب دعوتهم يكون معهم. وروى بعضهم: ((إعناقاً)) بكسر الهمزة، أي إسراعاً إلي الجنة. أقول: قوله: ((أكثرهم أعمالاً)) نحو قوله: صلى الله عليه وسلم: ((أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يدا)) أي أكثركن عطاء، سمي العمل بالعنق باعتبار ثقله، قال الله (تعالي) {فمن ثقلت موازينه} فلما سمي العمل بالعنق جيء بقوله: ((أطول الناس)) كالترشيح لهذا المجاز، وكذلك اليد لما سمي بها العطاء أتبعها بالطول مراعاة للمناسبة. وقوله: ((أكثرهم رجاء)) كناية رمزية، ولذلك علل بقوله: ((لأن من يرجى شيئاً طال إليه عنقه)). وقوله: ((الدنو من الله)) هذا كناية تلويحية؛ لأن طول العنق يدل علي طول القامة، ولا ارتياب أن طول القامة ليس مطلوباً بالذات، بل لامتيازهم عن سائر الناس وارتفاع شأنهم، كما وصفوا بالغر المحجلين للامتياز والاشتهار، وكذا قوله: ((إنهم لا يلجمهم العرق)) من هذه الكناية؛ لأن الوصف بطول القامة إما يكون للامتياز، وهو لرفعة الشأن كما سبق، أو للنجاة من المكروه. وقوله: ((يكونون رؤساء))، فيه استعارة ((الكشاف)): شبهوا بالأعناق، كما قيل: هم الرؤوس والنواصي والصدور. وقوله: ((وقيل: الأعناق الجماعة)) فعلي هذا الطول مجاز عن الكثرة؛ لأن الجماعة إذا توجهوا مقصداً لهم امتداد في الأرض. وقوله: ((إعناقاً)) أي إسراعاً، فعلي هذا الطول يحتمل الحقيقة، ويجوز أن يقال: إن طول العنق عبارة عن عدم التشوير والخجل، فإن الخجل متنكس الرأس متقلص العنق. قال الله تعالي: {لو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم}. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ضراط)) شبه شغل الشيطان نفسه وإغفاله عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطاً تقبيحاً له. وقوله: ((حتى لا يسمع)) كرر (حتى)) خمس مرات، أولاهن والرابعة والخامسة بمعنى ((لكي))، والثانية والثالثة دخلتا علي الجملتين الشرطيتين، وليستا للتعليل.

656 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا أنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)). رواه البخاري. 657 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلي علي صلاة، صلي الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يخطر الشيطان)) قال في ((أساس البلاغة)): خطر الرجل برمحه إذا مشى به بين الصفين، وهو يخطر في مشيه يهتز. قال الحماسي: ذكرتك والخطى يخطر بيننا، المعنى الشيطان يدخل ويحجز بينهما بوسوسة القلب، فلا يتمكن من الحضور في الصلاة، كقوله (تعالي): {أن الله يحول بين المرء وقلبه} يعني يميته، فلا يتمكن من إخلاص القلب، وإسناد الحيلولة إلي الله تعالي مجاز عند المعتزلة، لأن الحائل هو الشيطان، وإسناده إلي الله (تعالي): لتمكينه تعالي إياه منها، وبالعكس عند أهل السنة. و ((يظل)) - بفتح- الظاء من الظلول، كي يصير من الوسوسة بحيث لا يدري كم صلي، ومعنى التثويب سبق في الفصل الثاني. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((مدى صوت المؤذن)) ((تو)): أي غاية صوته، إنما ورد البيان علي الغاية مع حصول الكناية بقوله: ((لا يسمع صوت المؤذن)) تبينهاً علي أن آخر ما ينتهي إليه صوت المؤذن يشهد له كما يشهد له الأولون، وفيه حث علي استفراغ الجهد في رفع الصوت بالأذان. ((قض)): غاية الصوت يكون أخفي لا محالة، فإذا شهد له من بعد عنه وصول إليه من صوته فلأن يشهد له من هو أدنى منه وسمع منادي صوته أولي. وقوله: ((إلا شهد له)) ((تو)): المراد من شهادة الشاهدين له- وكفي بالله شهيداً- اشتهاره يوم القيامة فيما بينهم بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله تعالي يهين قوماً ويفضحهم بشهادة الشاهدين، فكذلك يكرم قوماً تكميلاً لسرورهم وتطييباً لقلوبهم. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((الوسيلة)) ((نه)): وهي في الأصل ما يتوسل به إلي الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل، وإنما سميت تلك المنزلة من الجنة بها لأن الواصل إليها يكون قريباً من الله تعالي فائزاً بلقائه، مخصوصاً من بين سائر الدرجات بأنواع المكرمات، وأما الوسيلة المذكورة في الدعاء المروي عنه بعد فقيل: هي شفاعة، يشهد لها قوله في آخر الدعاء: ((حلت له شفاعتي)).

658 - وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال المؤذن الله أكبر، الله أكبر؛ فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال أشهد أن محمد رسول الله؛ قال: أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال: حي الصلاة؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي علي الفلاح؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر، الله أكبر؛ قال: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله؛ قال: لا إله إلا الله من قلبه، دخل الجنة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: أن أكون أنا هو)) قيل: إن ((هو)) خبر كان، وضع بدل إياه، وقد سبق بحثه، ويحتمل أن يكون ((أنا)) للتأكيد، بل يكون مبتدأ و ((هو)) خبره، والجملة خبر ((أكون)). ويمكن أن يقال: إن هذا الضمير وضع موضع اسم الإشارة، أي أكون أن ذلك العبد، كما في قول رؤية: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق قيل له: إن أردت الخطوط فقل: كأنها وإن أردت السود والبلق فقل: كأنهما، فقال: أردت كأن ذاك. الحديث الخامس عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((إذا قال المؤذن)) إذا شرطية، وقوله: ((فقال)) عطف علي الشرط، وجزاء الشرط قوله: ((دخل الجنة))، والمعطوفات بـ ((ثم)) مقدرات بحرف الشرط والفاء، ويجوز أن يكون ((فقال)) جواباً للشرط، وكذا ((قال)) في المعطوفات، وإنما وضع الماضي موضع المستقبل لتحقيق الموعود، قوله: ((لا حول)) ((غب)): الحال لما يختص به الإنسان وغيره من الأمور المعتبرة في نفسه وجسمه، أو ما يتصل به، والحول ما له من القوة في أخذ هذه الأحوال، ومنه قيل: لا حول ولا قوة إلا بالله. ((مظ)): أي لا حركة ولا حيلة ولا خلاص من المكروه، ولا قوة علي الطاعة إلا بتوفيق الله. أقول: إن الرجل إذا دعى بالحيعلتين كأنه قيل له: أقبل بوجهك وشراشرك علي الهدى عاجلاً، وعلي الفلاح آجلاً، أجاب بأن هذا أمر عظيم، وخطب جسيم، وهي الأمانة التي عرضت علي السماوات والأرض، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، فكيف أحملها مع ضعفي وتشتت أحوالي؟ ولكن إذا وفقني الله بحوله وقوته لعلي أقوم بها. ((مح)): يستحب إجابة المؤذن بالقول مثل قوله إلا في الحيعلتين فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. لكل من سمعه من متطهر ومحدث، وجنب وحائض، وغيرهم ممن لا مانع له من الإجابة، فمن سمع أسباب المنع أن يكون في الخلاء، أو جماع أهله، أو نحوهما، ومنها أن يكون في صلاة فيسمع المؤذن لم يوافقه فإذا سلم أتى بمثله. فإذا فعله في الصلاة فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي، أظهرهما يكره؛ لأنه إعراض عن الصلاة، ولكن لا تبطل صلاته لأنه أذكار. فلو

659 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: حي علي الفلاح، أو الصلاة خير من النوم، بطلت صلاته إن كان عالماً بتحريمه، لأنه كلام آدمي. وقال القاضي عياض: اختلفوا هل يقوله عند سماع كل مؤذن أم الأول فقط؟ الحديث السادس عن جابر: قوله: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة)) ((تو)): قيل: إنما وصف الدعوة بالتمام لأنها ذكر الله (عز وجل)) يدعى بها إلي عبادته، وهذه الأشياء وما والاها هي التي تستحق صفة الكمال والتمام، وما سوى ذلك من أمور الدنيا يعرض النقص والفساد. ويحتمل أنها وصفت بالتمام لكونها محمية عن النسخ والإبدال، باقية إلي يوم التناد. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((والصلاة القائمة)) أي الدائمة التي لا تغيرها ملة، ولا تنسخها شريعة. ((وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)) الموصول مع الصلة إما بدل، أو نصب علي المدح، أو رفع بتقدير أعني أو هو، ولا يجوز: أن يكون صفة للنكرة، وإنما نكر لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقاماً أي مقام، مقاماً يغبطه الأولون والآخرون، محموداً يكل عن أوصافه ألسنة الحامدين. ((شف)): المراد بوعده تعالي نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالي: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} روي عن ابن عباس رضي الله عن أنه قال: هذه الآية: أي مقاماً يحمدك فيه الأولون والآخرون، ويشرف علي جميع الخلائق، يسأل فيعطى، ويشفع فيشفع، أي ليس أحد إلا تحت لوائك. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي)). أقول: -وبالله التوفيق- إن قوله: الله أكبر إلي قوله: محمد رسول الله، هي الدعوة التامة، وكلمة التوحيد الباقية الدائمة، كما قال الله (تعالي): {وجعلها كلمة باقية في عقبه} أي عقب إبراهيم، وقوله: حي علي الصلاة، هو المشار إليه بقوله: الصلاة القائمة في قوله تعالي: {ويقيمون الصلاة} فإن المكلف إذا أقبل عليها بكليته، ويحافظ بتعديل أركانها، ويصونها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها- كانت قائمة مستقيمة، من أقام العود إذا قومها، فهاتان الكلمتان وسيلتان إلي طلب الفلاح، والفوز في العقبى بالدرجات العالية المشار إليها بقوله: آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي يقوم فيه لشفاعة الأولين والآخرين، وبخلاصهم من كرب يوم القيامة، وإيصالهم إلي جناب، ونعيم، ولقاء رب العالمين، جعلنا الله (سبحانه) بفضله الكريم وكرمه الجسيم من زمرتهم، ومن المنخرطين في مسلكهم، ويرحم الله عبداً قال: آمينا.

660 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار. فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلي الله عليه سلم: ((علي الفطرة)). ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خرجت من النار)) فنظروا إليه فإذا هو راعي معزى. رواه مسلم. 661 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبه ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه)) رواه مسلم. 662 - وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين كل أذإنين صلاة، بين كل أذإنين صلاة)) ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن إنيس: قوله: ((يغير إذا طلع الفجر)))) كقوله (تعالي)): {فالمغيرات صبحا} والإغارة كبس القوم علي غفلة، وهي بالليل أولي، ولعل تأخيرها إلي الفجر لاستماع الأذان. وقوله: ((فإن سمع أذاناً)) أقام الأذان موضع الضمير إشعاراً بأن من حق الأذان وكونه من الدين الأمان وأن لا يتعرض أهله، ولا يغار عليهم، وقوله: ((فسمع رجلا)) الفاء فيه فصيحة، يعني ولما كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يسمع الأذان قبل الإغارة استمع فسمع. ((يغير)) جيء بصيغة المضارع ليفيد الاستمرار لبيان عادته ودأبه. قوله: ((علي الفطرة)) أي أنت، أوقعتها علي الفطرة، والثاني أولي ليطابق ((خرجت)) يعني أوقعتها علي الفطرة التي فطر الناس عليها، ثم قوله بعد ذلك: ((خرجت من النار)) بعد استماعه كلمة التوحيد إشارة إلي استمراره علي تلك الفطرة، وعدم تصرف الوالدين فيه بالشرك. وأما قوله: ((خرجت)) بصيغة الماضي ففيه وجهان: إما قاله تفاؤلا، أو قطعاً؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم صدق، ووعد الله حق. والمعزى- بكسر الميم- والمعز واحد، وهما اسم جنس، وواحد المعزى ماعز، وهو خلاف الضأن. الحديث الثامن والتاسع عن عبد الله: قوله: ((بين كل أذإنين)) غلب الأذان علي الإقامة، وسماهما باسم واحد ((خط)): حمل أحد الاسمين علي الآخر شائع: كقولهم: الأسودان التمر والماء، وإنما الأسود أحدهما. وكقولهم: سيرة العمرين، يريدون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. ويحتمل أن يكون الاسم لكل واحد منها حقيقة؛ لأن الأذان في اللغة الإعلام، فالأذان إعلام بحضور الوقت، والإقامة أذان بفعل الصلاة. قيل: لا يجوز حمله علي ظاهره؛ لأن الصلاة واجبة بين كل أذإني وقتين، وقد خير رسول الله فقال في المرة الثالثة: ((لمن شاء)).

الفصل الثاني 663 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن. اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والشافعي، وفي أخرى له بلفظ ((المصابيح)) [663]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)) حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته علي صلاة النفل بين الأذإنين؛ لأن الدعاء لا يرد بينهما لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم أرشد الأئمة)) وفي ((المصابيح)) بلفظ الماضي في الصيغتين. ((قض)): الإمام متكفل أمور صلاة الجمع فيتحمل القراءة عنهم، إما مطلقاً عند من لا يوجب القراءة علي المأموم، أو إذا كانوا مسبوقين، ويحفظ عليهم الأركان، والسنن، وعدد الركعات، ويتولي السفارة بينهم وبين ربهم في الدعاء، والمؤذن أمين في الأوقات يعتمد الناس علي [صوته] في الصلاة، والصيام، وسائر (الوظائف) المؤقتة. وقوله: ((أرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين)) دعاء أخرجه في صورة الخبر تأكيداً، وإشعاراً بأنه من الدعوات التي تتلقى بالمسارعة إلي إجابتها، وعبر بصيغة الماضي ثقة بالاستجابة، فكأنه أجيب سؤاله وهو يخبر عنه موجوداً، والمعنى أرشد اللهم الأئمة للعلم بما تكلفوه والقيام به والخروج من عهدته، واغفر للمؤذنين ما عسى يكون منهم من تفريط في الأمانة التي حملوها. ((شف)): يستدل به علي تفضيل الأذان علي الإمامة؛ لأن حال الأمين أفضل من حال الضمين. تم كلامه. ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الأمين يتكفل الوقت فحسب، وهذا الضامن متكفل لأركان الصلاة، ومتعمد إلي السفارة بين القوم وبين ربهم في الدعاء، فأين أحدهما من الآخر؟ فكيف لا والإمام خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤذن بلال رضي الله عنه؟ وكذا فرق بين الدعاء بالإرشاد وبينه بالغفران، لأن الإرشاد هي الدلالة الموصولة إلي البغية. والغفران مسبوق بالذنب. ((خط)): في الحديث دلالة علي استحباب تولي الأذان وكراهة تولي الإمامة، لأن الدعاء بالإرشاد إنما يكون فيما فيه خطر أي أمر عظيم. قال أيضاً: ليس هذا الضمان مما يوجب الغرامة من هذا في شيء، يعني لا يلزم علي الإمام إثم بالإمامة بل يحصل له ثواب.

664 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أذن سبع سنين محتسباً؛ كتب له براءة من النار)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [664] 665 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعجب ربك من راعي غنم في رأسه شظية للجبل، يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلي عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة)). رواه أبو داود، والنسائي. [665] 666 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة علي كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مولاه، ورجل أم قوماً وهم به رضوان، ورجل ينادي بالصلوات الخمس كل يوم وليلة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((محتسباً)) (فا) الاحتساب من حسب كالاعتداد من العدد، إنما قيل: احتسب العمل لمن ينوي به وجه الله لأن له حينئذ أن يعتد عمله، فجعله في حال مباشرة الفعل كأنه معتد. والحسبة اسم من الاحتساب، كالعدة من الاعتداد. ومنه حديث عمر: ((احتسبوا يا أيها الناس أعمالكم، فإنه من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته)). الحديث الثالث عن عقبة بن عامر: قوله: ((يعجب ربك)) ((حس)): التعجب علي الله مجاز؛ لأنه لا يخفي عليه أسباب الأشياء والتعجب مما خفي سببه ولم يعلم، فاملعنى عظم ذلك عنده، وكبر لديه، وقيل: معناه الرضي. ((نه)) الشظية الفلقة من الحصى، والجمع الشظايا. أقول: الخطاب في قوله: ((يعجب ربك)) عام لكل من يتأتى منه السماع لفخامة الأمر، فيؤكد معنى التعجب، وقوله تعالي: ((فانظروا)) تعجيب للملائكة من ذلك الأمر بعد التعجيب لمزيد التفخيم، وكذا تسميته بالعبد وإضافته إلي الله (تعالي) والإشارة بهذا تعظيم علي تعظيم. وقوله: ((يخاف منه)) الأظهر أنه جملة مستأنفة وإن احتمل الحال، فهو كالبيان لعلة عبوديته، واعتزاله عن الناس حق اعتزال؛ لتخصيص ذكر الشظية مع المعزى دون الضأن. وفيه إشعار بأنه كان عالماً بالله تعالي عارفاً لجلالته، وأنه من الذين قيل فيهم {إنما يخشى الله من عبادة العلماء} وأن اعتزاله عن الناس إنما هو للفتنة والفرار بدينه، كاعتزال الفتية إلي الكهف قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} وكذلك أمنه الله مما كان يخافه، وزاد عليه بإدخاله الجنة. قيل: وفي الحديث دليل علي جواز الأذان والإقامة للمنفرد. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((كثبان)) جمع كثيب، وهو ما ارتفع من

667 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس. وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وروى النسائي: إلي قوله ((كل رطب ويابس))، وقال: ((وله مثل أجر من صلي)). [667] 668 - وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي. قال: ((أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ علي أذانه أجراً)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [668] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرمل كالتل الصغير، عبر عن الثواب بكثبان المسك لرفعته وظهور فرحه، وروح الناس من رائحته، لتناسب حال هؤلاء الثلاثة، فإن فائدة أعمالهم متجاوزة إلي الغير. وصف المؤذن بالفعل المضارع تصويراً لفعله، واستحضاراً له في ذهن السامع استعجاباً منه، وخص الإمام بالرضي دون المؤذن لأنه متكفل ومتول للسفارة بينهم وبين الله تعالي بالدعاء، وعليه اعتماد المأموم، تصلح صلاته بصلاح صلاته، وتفسد بفسادها. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مدى صوته)) ((نه)): أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو قدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقام المؤذن ذنوب له تملأ تلك المسافة- لغفر الله له، فيكون هذا تمثلاً. قوله: ((وشاهد الصلاة يكتب له)) عطف علي قوله: ((المؤذن يغفر له)) وفيه إشعار بأن الجملة الثانية مسببة عن الأولي، وأن العطف بيان لحصول الجملتين في الوجود، وتفويض ترتب الثانية علي الأولي موكول إلي ذهن السامع الذكي، وإن كانت متأثرة عن الأولي ومسببة عنها بهذا الاعتبار كذلك الأولي متأثرة عن الثانية باعتبار مضاعفة الثواب، وإليه أشار من قال: يغفر للمؤذن لأن كل من سمع صوته أسرع إلي الصلاة، ثم غفرت خطاياه للصلاة المسببة لندائه، فكأنه لأجل إسراع الشاهد قد غفر للمؤذن، والله أعلم. فالضمير المجرور في ((له)) للشاهد لا للمؤذن كما يظن، ويشهد له حديث أبي هريرة: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف علي صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً)) والله أعلم. الحديث السادس عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((واقتد بأضعفهم)) جملة إنشائية عطفت علي: ((أنت إمامهم)) وهي خبرية علي تأويل أمهم، عدل إلي الإسمية دلالة علي الثبات، وأن إمامته قد حصلت وهو صلى الله عليه وسلم يخبر عنه، وفيه من الغرابة أنه جعل المقتدي مقتدياً تابعا، يعني كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتد أيضاً أنت ضعفه، واسلك سبيل التخفيف في القيام والقراءة. ((تو)): إنما ذكره بلفظ الاقتداء تأكيداً للأمر المحثوث عليه؛ لأن من شأن المقتدي أن

669 - وعن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: علمني رسول الله أن أقول عند أذان المغرب: ((اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [669] 670 - وعن أبي أمامة، أو بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن بلالا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقامها الله وأدامها)). وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان. رواه أبو داود. [670] 671 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد الدعاء بين الأذان ـــــــــــــــــــــــــــــ يتابع المقتدي به، ويجتنب خلافه. قيل: تمسك به من منع الاستئجار علي الأذان، ولا دليل فيه، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم أمره بذلك أخذاً بالأفضل. ((خط)): أخذ المؤذن الأجر علي أذانه مكروه من مذاهب أكثر العلماء، قال الحسن أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله تعالي. وكرهه الشافعي رضي الله عنه. وقال: يرزقه الإمام من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مرصد لمصالح لدين. وأقول: لعل الكراهة لما أن المؤذن متبرع في نداء المصلين، وسبب في اجتماعهم، فإذا كان مخلصاً خلصت صلاتهم، قال الله تعالي: {اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون}. ((مظ)) فهي أن الإمامة ينبغي أن تكون بإذن الحاكم، وأن يستحب للإمام التخفيف في الصلاة، واستحباب الأذان بغير أجرة. الحديث السابع عن أم سلمة: قوله: ((هذا إقبال ليلك)) المشار إليه ما في الذهن، وهو مبهم مفسر بالخبر. وقوله: ((إدبار نهارك وأصوات دعائك)) عطف علي الخبر. و ((فاغفر لي)) مرتب عليها بالفاء، نبه علي صدور فرطات من القائل في نهاره السابق، والثاني كالوسيلة لاشتماله علي ذكر اسم الله، والدعوة إلي الطاعة لطلب الغفران، والدعاة جمع داع، كقضاة جمع قاض. الحديث الثامن عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((فلما أن قال)) لما الشرطية تستدعي فعلاً، فيكون التقدير: فلما انتهي إلي أن قال: وقد اختلف في ((قال)) متعد أو لازم، فمن جعله لازماً يجعل المقول مصدراً، ومن ذهب إلي أنه متعد فالمقول عنده مفعول به. قوله: ((قال في سائر الإقامة)) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سوى قد قامت الصلاة من ألفاظ الإقامة نحو ما قاله المؤذن، علي ما مر في الحديث الخامس من الفصل الأول من الباب. الحديث التاسع والعاشر عن سهل بن سعيد قوله: ((عند البأس)) البأس الشدة والمحاربة،

والإقامة)). رواه أبو داود، والترمذي. [671] 672 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثنتان لا تردان: -أو قلما تردان – الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً)). وفي رواية ((وتحت المطر)). رواه أبو داود، والدارمي؛ إلا أنه لم يذكر: ((وتحت المطر)). [672] 673 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رجل: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط)). رواه أبو داود. [673] ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((حين يلحم)) بدل منه، وفي الغريبين: ألحم الرجل واستلحم إذا أنشب في الحرب فلم يجد مخلصاً، ولحم إذا قتل، فهو ملحوم ولحيم. فسره القاضي وقال: لحمه إذا التصق اللحم بالعظم أو يهم بعضهم بقتل بعض، من: لحم فلان فهو ملحوم إذا قتل كأنه جعل لحماً. أقول: قرن الدعاء بين الأذإنين عند حضور الشيطان بعد الأذان لإيقاع الخطرات والوساوس، ودفع المصلي إياه بالالتجاء والاستغاثة، كما قال الله (سبحانه وتعالي): {قل أعوذ برب الفلق} إلي آخره بالدعاء عند التحام البأس والمحاربة مع أعداء الدين؛ لكونهما مجاهدين في سبيل الله، وإلي المعنى الأول ينظر ما رويناه في الحديث الثاني من هذا الباب ((فإذا قضي النداء أقبل- أي الشيطان- حتى إذا ثوب بالصالة أدبر)) وإلي الثاني يلمح ما ورد في الحديث الثاني من باب الوضوء (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وقد حققناه في موضعه. قوله: ((وتحت المطر)) روى شيخنا شيخ الإسلام في ((العوارف)): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الغيث ويتبرك به، وقال: ((حديث عهد بربه)) وأنشد في الكتاب: تضوع أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار الحديث الحادي عشر ظاهر.

الفصل الثالث 674 - عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء)). قال الراوي: والروحاء من المدينة: علي ستة وثلاثين ميلاً رواه مسلم. 675 - وعن علقمة بن وقاص، قال: إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية كما قال مؤذنه. حتى إذا قال: حي علي الصلاة؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما قال: حي علي الفلاح؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك. رواه أحمد. [675] 676 - وعن أبي هريرة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال مثل هذا يقيناً، دخل الجنة)) رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((حتى يكون مكان الروحاء)) يعني يبعد الشيطان من المصلي بعد ما بين المكإنين، أو التقدير يكون الشيطان مثل الروحاء في الحمودة والبعد. الحديث الثاني عن علقمة: قوله: ((إلا بالله العلي العظيم)) ((نه)): هذه الزيادة نادرة في الروايات. الحديث الثالث، والرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((قال: وأنا وأنا)) عطف علي قول المؤذن: أشهد، علي تقدير العامل لا الانسحاب، أي أنا أشهد كما تشهد، والتكرير في ((وأنا)) راجع إلي الشهادتين، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مكلفاً بأن يشهد علي رسالته كسائر الأمة. الحديث الخامس عن ابن عمر: قوله: ((في كل يوم)) في حذف، أي كتب له بسبب تأذينه

(6) باب تأخير الأذان

677 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذن يتشهد قال: ((وأنا وأنا)) رواه أبو داود. [677] 678 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أذن ثنتي عشرة سنة؛ وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، ولكل إقامة ثلاثون حسنة)) رواه ابن ماجه. [678] 679 - وعنه، قال: كنا نؤمر بالدعاء عند أذان المغرب. رواه البيهقي في: ((الدعوات الكبير)). (6) باب تأخير الأذان الفصل الأول 680 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم))، قال: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. متفق عليه. 681 - وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل؛ ولكن الفجر المستطير في الأفق)) رواه مسلم، ولفظه للترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ كل مرة في كل يوم، كذا في ((شرح السنة)). قوله: ((عند أذان المغرب)) كذا لعل هذا الدعاء هو ما مر في الحديث السابع من الفصل الثالث من الباب. الحديث السادس ظاهر. باب الفصل الأول الحديث الأول، والثاني عن سمرة: قوله: ((الفجر المستطير)) ((نه)): هو الذي انتشر ضوؤه واعترض في الأفق، كأنه طار في نواحي السماء، بخلاف المستطيل الذي يسمى بذنب السرحان.

682 - وعن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وابن عم لي، فقال: ((إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) رواه البخاري. 683 - وعنه، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة؛ ليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم)) متفق عليه. 684 - وعن أبي هريرة، [رضي الله عنه]، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلة، حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: ((اكلأ لنا الليل. فصلي بلال ما قدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما تقارب الفجر، استند بلال إلي راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه، وهو مستند إلي راحلته، فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أي بلال!)) فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك. قال: ((اقتادوا)). فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن مالك بن الحويرث: قوله: ((كما رأيتموني أصلي)) ((ما)) نكرة موصوفة، أي صلوا كصلاة رأيتموني أصليها. قوله: ((ثم ليؤمكم أكبركم)) فيه دليل علي فضل الإمامة علي الأذان، حيث أطلق الأذان وخيرهما فيه، وقيد الإمامة. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قفل)) ((نه)): قفل يقفل إذا عاد من سفره، وقد يقال للسفر قفول في المجيء والذهاب، والتعريس نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. والكلاءة الحفظ والحراسة، يقال: كلأته أكلوه كلاءة وأنا كالئ وهو مكلوء. فقوله: ((غلبت بلالاً عيناه)) عبارة عن النوم، كأن عينيه قهرته فيما يرومه من النوم، فجعلته مغلوباً. ((نه)): يقال: فزع من نومه أي هب وانتبه، كأنه من الفزع والخوف؛ لأن من تنبه لا يخلو من فزع ما. ((شف)): في استيقاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الناس وفزعه إيماء إلي أن النفس الزكية وإن غلبت عليها بعض الأحيان شيء من الحجب البشرية لكنها عن قريب ستزول، وإن كل من هو أزكى كان زوال حجابه أسرع. قوله: ((أخذ بنفسي)) أراد أن الله تعالي كما توفاكم في النوم توفإني، من قوله تعالي: {الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}.

ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلي بهم الصبح. فلما قضى الصلاة، قال ((من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالي قال: {وأقم الصلاة لذكري})) رواه مسلم. 685 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) متفق عليه. 686 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة. فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اقتادوا)) اقتادوا أمر، و ((فاقتادوا)) فعل ماض، و ((شيئاً)) نصب علي المصدر، أي اقتياداً قليلاً. ((نه)): قاد البعير واقتاده جر حبله، كأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحولوا من ذلك المكان إلي مكان آخر. ((حس)): اختلفوا في معنى مفارقة ذلك المكان، فمن لم يجوز قاء الفائتة في الوقت المنهي قال: إنما فعل ذلك لترتفع الشمس، ومن يجوز- وهم الأكثرون- قالوا: معناه أنه أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابتهم فيه هذه الغفلة والنسيان، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأخذ كل واحد [رأس] راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان)). ((مح)): إن قيل: كيف ذهب النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ونام عنها مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن عيني تنامان ولا ينام قلبي))؟ قلنا فيه وجهان: أصحهما أنه لا منافاة بينهما؛ لأن القلب إنما يدرك الأمور الباطنة، كاللذة، والألم، ونحوهما ولا يدري الحسيات، مثل طلوع الفجر وغيره، وقيل: وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين النائمة. والثاني أنه كان له حالان: ينام القلب تارة، وأخرى لا ينام، فصادف هذا الموضع حالة المنام. وهو ضعيف. أقول: ولعل الوجه الثاني أولي؛ لما ورد: ((أنه صلى الله عليه وسلم اضطجع فنام حتى نفخ فآذنه بلال باللصلاة، فصلي ولم يتوضأ)) وعللوه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((تنام عيني ولا ينام قلبي)) والحديث مؤول بأنه نسى، ليسن. الحديث السادس عن أبي قتادة: قوله: ((أذا أقيمت الصلاة)) أي إذا نادى المؤذن بالإقامة، وأقيم المسبب مقام السبب ((حس)): فيه دليل علي جواز تقديم الإقامة علي خروج الإمام ثم ينتظر خورجه. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا تأتوها تسعون)) حال من ضمير

وفي رواية لمسلم: ((فإن أحدكم إذا كان يعتمد إلي الصلاة فهو في صلاة)). وهذا الباب خال عن الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــ الفاعل، وهو أبلغ في النهي من لا تسعوا؛ لتصوير حال سوء الأدب، وأنه مناف لما هو أولي به من الوقار والسكينة، ومن ثم عقبه بما ينبه علي حسن الأدب من قوله: ((وأتوها تمشون)) كقوله تعالي: {وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً} ثم ذيل المفهومين بقوله: ((وعليكم السكينة)) أي الزموا السكينة في جميع أموركم، خصوصاً في الوفود إلي جناب رب العزة، والفاء جزاء شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولي بكم فما أدركتم فصلوا. فإن قلت: كيف الجمع بين النهي عن السعي في الحديث والأمر به في قوله تعالي: {فاسعوا إلي ذكر الله}؟ قلت: السعي في الآية بمعنى القصد والنية، ويستعمل السعي في التصرف في كل عمل، قال الله تعالي: {فلما بلغ معه السعي}، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} يدل عليه بقوله: {وذروا البيع} أي اشتغلوا بأمر معادكم وما والاه من ذكر الله، واتركوا أمر معاشكم من البيع والشراء، كقوله تعالي: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}. قال الحسن (رحمه الله): ليس السعي علي الأقدام، ولكنه علي النيات والقلوب. ((حس)): اختلفوا فيمن يخاف فوت التكبيرة الأولي فمنهم من قال: يسرع، حتى قيل: يهرول، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع إلي المسجد. ومنهم من كره الإسراع، واختار المشي بالوقار لهذا الحديث، وقال: فيه دليل علي أن ما يدركه المرء من صلاة إمامه هو أول صلاته؛ لأن لفظ الإتمام يقع علي باقي شيء تقدم أوله، وهو مذهب علي، وأبي الدرداء رضي الله عنهما وجمع من التابعين، وبه قال الشافعي. قوله: ((يعتمد إلي الصلاة فهو في صلاة)) ((مح)): يستحب للذاهب إلي الصلاة أن لا يعبث بيده، ولا يتكلم بقبح، ولا ينظر نظراً قبيحاً، ويتجنب ما أمكنه مما يتجنبه المصلي، وإذا وصل إلي المسجد وقعد ينتظر الصلاة، كان الاعتناء بما ذكرناه آكد، وفي رواية: ((وعليه السكينة والوقار)) قيل هما بمعنى، وجمع بينهما تأكيداً، والظاهر أن بينهما فرقاً، وأن السكينة التإني في الحركات، واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في الهيئة وغض البصر، وخفض الصوت والإقبال علي طريقه بغير التفات، ونحو ذلك.

الفصل الثالث 687 - عن زيد بن أسلم، قال: عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم، وقد فزعوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: ((إن هذا واد به شيطان)) فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، ويتوضؤوا، وأمر بلالا أن ينادي للصلاة- أو يقيم -، فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف وقد رأي من فزعهم، فقال: ((يا أيها الناس! إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا في حين غر ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن زيد بن أسلم: قوله: ((فاستيقظ)) كرره لينيط به قوله: ((وقد فزعوا)) وهو من باب الترديد. كقول الشاعر: من يلق يوماً علي علاته هرماً يلق السماحة والجود له خلقاً قوله: ((إن الله قبض أرواحنا)) هذا تسلية للقوم مما فزعوا منه، وأن تلك الغفلة كانت بمشيئة الله، كما أن قول بلال في الحديث السابق: ((أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)) كان اعتذاراً منه لما غفل ونام. وقوله: ((ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا)) إشارة إلي الموت الحقيقي الذي ينبه عليه قوله تعالي: {فيمسك التي قضي عليها الموت}. وقوله: ((إن الله قبض أرواحنا)) إشارة إلي الموت المجازي في قوله تعالي: {ويرسل الأخرى} أي النفس التي لم تمت في منامها. ويحتمل قوله: ((أو نسيها)) أن يكون شكاً من الراوي، وأن يكون تفريعاً في الحديث، أي غفل عنها بسبب النوم أو نسيها بأمر آخر. وضمن فزع معنى الالتجاء فعدى بإلي أي التجأ إلي الصلاة فزعاً ((نه)): ((فافزعوا إلي الصلاة)) أي الجأوا إليها، واستعينوا بها علي دفع الأمر الحادث. قوله: ((فإن الشيطان أتى بلالا)) إلي آخر الحديث، فإن قلت: كيف أسند هذه الغفلة ابتداء إلي الله (سبحانه وتعالي) في قوله صلى الله عليه وسلم وقول بلال، ثم أسنده إلي الشيطان ثإنياً؟ قلت: هو من المسألة المشهورة في خلق أفعال العباد وكسبها، وتقريرها إلي الله تعالي أراد خلق النسيان أو النوم فيهم، فمكن الشيطان من اكتساب ما هو جالب للغفلة من الهدوء وغيره. ((نه)): الهدوء

(7) باب المساجد ومواضع الصلاة

هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها))، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أبي بكر الصديق، فقل: ((إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام)). ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا، فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. رواه مالك مرسلاً. 688 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صيامهم وصلاتهم)) رواه ابن ماجه. [688] (7) باب المساجد ومواضع الصلاة الفصل الأول 689 - عن ابن عباس، قال: لما دخل! النبي صلى الله عليه وسلم البيت، دعا في نواحيه كلها ـــــــــــــــــــــــــــــ السكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطرق، وفي الحديث إظهار المعجزة، ولذلك صدقه الصديق بالشهادة. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((معلقتان)) صفة لـ ((خصلتان))، و ((المسملين)) خبر للمبتدأ الموصوف، و ((صيامهم وصلاتهم)) بيان للخصلتين أو بدل منهما، شبهت حالة المؤذنين وإناطة الخصلتين للمسلمين [بهم] بحالة الأسير الذي في عنقه ربقة الرق وقد لا يخلصه منها إلا المن والفداء، والوجه الأمر الذي لزم الشخص ولا تفصى له عنه إلا بالخروج عن عهدته وبهذا الاعتبار قيل في حقهم: إنهم أمناء. باب المساجد ومواضع الصلاة الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قبل الكعبة)) بضم الباء وسكونها، والقبل نقيض الدبر، والقبلة الجهة، سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، ((تو)): المراد منها الجهة التي فيها الباب. ((خط)): معنى قوله: ((هذه القبلة)) أن أمر القبلة قد استقر علي هذا

ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: ((هذه القبلة)) رواه البخاري. 690 - ورواه مسلم عنه، عن أسامة بن زيد. ـــــــــــــــــــــــــــــ البيت، ولا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إلي الكعبة أبداً فهي قبلتكم، قال: ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم علمهم السنة في مقام الإمام واستقباله القبلة، من وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها الثلاثة، وإن كان الصلاة في جميع جهاتها مجزية. ((قض)): ذهب عامة العلماء إلي جواز النفل داخل الكعبة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الذي يليه، واختلف في الفرض، فذهب الجمهور إلي جوازه. ومنع منه مالك، وأحمد وحكي عن محمد بن جرير أنه قال: لا يجوز فيها الإتيان بالفرض ولا بالنفل متمسكاً بهذا الحديث، وهو مع ضعف دلالته لا يعارض حديث ابن عمر (رضي الله عنهما)؛ لأنه حكاية دخوله يوم الفتح، فلو كان ابن عباس (رضي الله عنهما) يحكي غيره فلا يعارضه، وإن كان يحكيه- والظاهر ذلك- فالحديث مرسل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما دخل أغلق عليه الباب، ولم يكن ابن عباس معه، فلا يقاوم المسند. أقول- والعلم عند الله-: في قوله: ((فالحديث مرسل)) بحيث؛ لأنه من رواية مسلم متصل قطعاً، فإنه قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن ابن بكر، قال أنبا محمد ابن بكر، أنبا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله؟ قال: لم يكن ينهي عن دخوله ولكن سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت ... الحديث، ومن رواية البخاري. قال: حدثنا إسحاق بن نصر نا عبد الرزاق أنبا ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت ... الحديث؛ فابن عباس علي رواية مسلم ليس براو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يوهم الإرسال في رواية البخاري، وهو مشكل، لأن المرسل ضعيف، وشرط الصحيح اتصال السند، ولعل العذر أن يقال باختلاف الزمان وتعدد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن الكاتب سقط منه راوي ابن عباس أو يقال: كان ابن عباس مع من دخل، لكن لم يشعر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقريب منه ما ذكر الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم بإسناده عن بلال (رضي الله عنه): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وصلي فيها بني العمودين)) وبإسناده عن أسامة: ((أنه صلى الله عليه وسلم دعا في نواحيها ولم يصل)). وأجمع أهل الحديث علي الأخذ براوية بلال،؛ لأنه مثبت، ومعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. والمراد الصلاة المعهودة، ويؤيده قول ابن عمر: ((نسيت أن أسأله كم صلي)) وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء، فرأي أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم

691 - وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي، وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يؤمئذ علي ستة أعمدة ثم صلي. متفق عليه. 692 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)) متفق عليه. 693 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ صلي النبي صلى الله عليه وسلم ورآه بلال لقربه، ولم ير أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، فجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها، وقال أيضاً: إنما أغلقها صلى الله عليه وسلم ليكون أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، ولئلا يجتمع الناس فيزدحموا فينالهم ضرر أو يشوش عليه الحال بسبب لغطهم. تم كلامه. وأما قوله أولاً: ((وهو مع ضعفه لا يعارض)) فضعيف أيضاً، وبيان قوة دلالة الحديث علي المطلوب أن قول ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: ((لم يصل حتى خرج)) يؤذن بأن فعله صلى الله عليه وسلم بيان؛ لأن موضع الصلاة ليس بداخل البيت بل خارجه، ثم قوله بعد الصلاة: ((هذه القبلة)) علي سبيل الحصر حيث عرف الخبر شاهد صدق عند العلماء النظم وترتيب الكلام أن هذه الجملة واردة علي بيان الموجب، يعني لا ينبغي أن يتوجه إلي القبلة إلا من خارج؛ لأن القبلة ليست إلا المشار إليها من الخارج. بقى أن يقال: إن الحديثين تعارضا فحمل أحدهما علي النسخ، والله أعلم. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((علي ستة أعمدة)) وذلك قبل أن بناها الحجاج في فتنة ابن الزبير وهدم الكعبة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلاة في مسجدي هذا)) قال الشيخ ابن عبد السلام في قواعده: يحتمل الاستثناء أن يراد به أن الصلاة في مسجدي لا يفضله بألف بل بدونها، ويحتمل أن يراد أن الصلاة في المسجد الحرام تفضل علي الصلاة في مسجدي بألف. أقول: ويحتمل المساواة أيضاً. الحديث الرابع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((لا تشد الرحال)) كناية عن

694 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري علي حوضي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ النهي عن المسافرة إلي غيرها من المساجد، وهو أبلغ مما لو قيل: لا تسافر؛ لأنه صور حالة المسافرة وتهيئة أسبابها وعدتها من المراكب والأدوات والتزود وفعل الشد، ثم أخرج النهي مخرج الإخبار، أي لا ينبغي ولا يستقيم أن يقصد بالزيارة وبالرحلة إلا هذه البقاع الشريفة؛ لاختصاصها بالمزايا والفضائل؛ لأن إحداها بيت الله، وحج الناس وقبلتهم، رفع قواعدها الخليل (عليه السلام)، والثانية قبلة الأمم السالفة، عمرها سليمان (عليه السلام)، والثالثة أسست علي التقوى، وأشادها خير البرية، فكان المسافرة إليها وفادة إلي بإنيها. ((حس)): لو نذر أن يصلي في مسجد من هذه المساجد الثلاثة يلزمه أن يأتيه فيصلي فيه، فإن صلي في غيرها من المساجد لا يخرج عن نذره، ولو نذر أن يصلي في مسجد سواها لا يتعين، وعليه أن يصلي حيث شاء. ((شف)): لو نذر أن يصلي أو يعتكف في المسجد الحرام يتعين هو ولو عين مسجد المدينة للصلاة أو للاعتكاف تعين أحد هذين المسجدين، ولا يقوم غيرهما مقامهما، ولو نذر أن يصلي في مسجد سوى هذه الثلاثة ولو عين المسجد الأقصى للصلاة أو الاعتكاف تعين أحد هذه المساجد الثلاثة، ول يقوم غيرها مقامها. ولو نذر أن يصلي في مسجد سوى هذه المساجد الثلاثة لا يتعين، وعليه أن يصلي حيث شاء. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما بين بيتي ومنبري)) ((حس)): قيل: معنى الحديث أن الصلاة في ذلك الموضع والذكر فيه يؤدي إلي روضة من رياض الجنة، ومن لزم العبادة عن المنبر يسقى يوم القيامة من لحوض، وهذا كما قال: ((عائد المريض علي مخارف الجنة)) يعني عيادة المريض تؤديه إليها، وكما جاء في الحديث: ((الجنة تحت ظلال السيوف)) يريد أن الجهاد يؤديه إلي الجنة. ((تو)): إنما سمي تلك البقعة المباركة روضة لأن زوار قبره وعمار مسجده من الملائكة والجن والإنس لم يزالوا مكبين فيها علي ذكر الله وعبادته، إذا صدر منها فريق وردها آخرون، كما جاء: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)) وقال: ((منبري علي حوضي)) أي علي حافته وعقره، فمن شهده مستمعاً إلي أو متبركاً بذلك الأثر شهد الحوض. ونبه صلى الله عليه وسلم علي أن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء الجهالة، كما أن الحوض مورد الأكباد الظامئة في حر القيامة، وهما متلازمان، لا مطمع لأحد في الآخر دون الشفاعة بالأول. هذا، ونحن لا نقطع بالقول في المناسبة بشيء، بل نذهب فيها إلي الاستنباط والتأويل، ونعتقد أن المراد منه ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق وإن لم تهتد إليه أفهامنا وعقولنا.

695 - وعن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، فيصلي فيه ركعتين. متفق عليه. 696 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلي الله مساجدها، وأبغض البلاد إلي الله أسواقها)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ولما شبه المسافة التي بين البيت والمنبر بروضة الجنة لأنها مكان الطاعات والذكر ومواقع السجود والفكر، أتى بقوله: ((ومنبري علي حوضي)) تنبيهاً علي أن استمدادها من البحر الزاخر النبوي، ومكانه المنبر الموضوع علي الكوثر، يفيض منه العلم الإلهي، فجعل فيضان العلم اللدني من المنبر إلي الروضة وتروي الناس به والعمل بموجبه سبباً لريهم م الحوض الكوثر، وحصولهم في رياض الجنة، ونظير ما بين البيت والمنبر الأرض الطيبة التي أنبتت الكلأ والعشب الكثير في الحديث الذي ورد في باب العلم، ونظير الحوض الموضوع عليه المنبر الأحاديث المذكورة فيه. فإن قلت: الذي يفهم من كلام الشارحين أن الحديث وارد علي التسبب، فما يقتضيه علم البيان؟ قلت: كلتا الجملتين من باب التشبيه البليغ، فإن قوله: ((ما بين بيتي ومنبري)) مبتدأ، حمل عليه ((روضة من رياض الجنة)) كما يقال: زيد بحر، شبه تلك البقعة الطيبة التي تفيض عليها بركات الوحي السماوي والعلم الإلهي فتثمر الأعمال الصالحة والأفكار الصائبة، من رياض الجنة التي فيها حلول رضوان الله، وحصول ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولذلك شبه صفة المنبر العجيبة الشأن بصفة الحوض الكوثر، فكما أنه صلى الله عليه وسلم يشفي غليل الجهل بماء علمه، ويشفي عليله بمواعظه ونصائحه، كذلك يروي صدى كرب يوم القيامة بماء الكوثر، فلما أريد المبالغة وتناهي التشبيه جعل المنبر الذي هو منصة العلم علي حافة الحوض، كما تقول: زيد كالبحر في العلم، ثم هو علي ساحر بحر العلم يغرف منه ويفيض علي الناس، فكأنه نظر إلي هذا المعنى من قال: فاضت علي الدنيا وآخره من كوثر المصطفي طوبى لآلاء الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مسجد قباء)) ((مظ)): فيه دليل علي أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحب، وأن الزيارة يوم السبت سنة. وقباء (مقصور وممدود) مسجد خارج المدينة قريب منها. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أحب البلاد)) لعل تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصاً تلميح إلي قوله تعالي: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي

697 - وعن عثمان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بني لله مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة)) متفق عليه. 698 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غدا إلي المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح)) متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ خبث لا يخرج إلا نكدا}. قال قتادة: المؤمن سمع كتاب الله بعقله فوعاه وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلافه، وذلك لأن زوار المسجد {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الآية، وقصاد الأسواق شياطين الجن والإنس من الغفلة الذين غلبهم الحرص والشدة، وذلك لا يزيد إلا قرباً من الله تعالي ومن أوليائه، وهذا لا يورث إلا دنوا من الشيطان وحزبه، اللهم إلا من يعمد إلي طلب الحلا الذي يصون به دينه وعرضه، {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}. ويجوز أن يقدر مضاف، فيرجع الضمير في ((مساجدها)) و ((أسواقها)) إليه، أي أحب بقاع البلاد مساجدها، والله أعلم. الحديث الثامن عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((بيتاً في الجنة)) وفي رواية: ((مثله)) ((مح)): يحتمل مثله في القدر والمساحة، ولكنه أنفس هيئة بزيادات كثيرة، ويحتمل مثله في مسمى البيت وإن كان أكبر مساحة وأشرف. أقول: والاحتمال الثاني هو الوجه لأن التنكير في قوله: ((مسجداً)) ينبغي أن يحمل علي التقليل، وفي ((بيتاً)) علي التكثير والتعظيم؛ ليوافق ما جاء: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة ...)) الحديث. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((له نزله)) النزل ما يهيأ للنزيل، و ((كلما غدا)) ظرف، وجوابه ما دل عليه ما قبله، وهو العامل فيه، المعنى كلما استمر غدوة ورواحة يستمر إعداد نزله في الجنة، فالغدو والرواح في الحديث كالبكرة والعشي في قوله تعالي: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} يراد بهما الديمومة لا الوقتان المعلومان. ((مظ)): من عادة الناس أن يقدموا طعاماً إلي من دخل بيوتهم، والمسجد بيت الله، فمن دخله أي وقت كان من ليل أو نهار يعطيه الله أجره من الجنة، لأن الله تعالي أكرم الأكرمين؛ فلا يضيع أجر المحسنين.

699 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام)) متفق عليه. 700 - وعن جابر، قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد)). قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك. فقال: ((يا بني سلمة! دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((فأبعدهم)) الفاء فيه للاستمرار، كما في قوله: ((الأمثل فالأمثل)) و ((الأكمل فالأكمل)) قوله: ((من الذي يصلي)) يعني من أخر الصلاة وانتظر الإمام ليصلي معه أعظم أجراً من الذي يصلي في وقت الاختيار ولم ينتظر الإمام. ويحتمل أن يراد بقوله: ((يصلي)) يصليها مع الإمام ثم ينام، أي لا ينتظر الصلاة الثانية، فهو دون من صلي مع الإمام وانتظر الصلاة الثانية. وفي قوله: ((ثم ينام)) غرابة؛ لأنه جعل عدم الانتظار نوماً؛ فيكون المنتظر وإن نام فيه يقظان؛ لأنه مراقب للوقت، كالمرابط ينتظر فرصة المجاهدة، وهذا يضع تلك الأوقات كالنائم فهو كالأجير الذي أدى ما عليه من العمل ثم مضى لسبيله. والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بنو سلمة)) ((تو)): بنو سلمة- بكسر اللام- بطن من الأنصار، وليس في العرب سلمة- بكسر اللام- غيرهم، كانت ديارهم علي بعد من المسجد، وكانت المسافة تجهدهم في سواد الليل، وعند وقوع الأمطار، واشتداد البرد، فأرادوا أن يتحولوا إلي قرب المسجد، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، فرغبهم فيما عند الله تعالي من الأجر علي نقل الخطى إلي المسجد. أقول: في النداء بقوله: ((يا بني سلمة)) والظاهر الاستغناء عنه استرضاء عند قصدهم، وإحماد لهم علي نياتهم، ولذلك أتبعه بقوله: ((دياركم)) أي عليكم والزموها لأنكم أحقاء أن يضاعف ثوابكم، ويجعل لكل لسان صدق في الآخرين. و ((تكتب)) يروى بالجزم علي جواب الزموا، ويجوز الرفع علي الاستئناف لبيان الموجب. وأثر الشيء حصول ما يدل علي وجوده يقال له: أثر، والجمع آثار، قال الله تعالي: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} فالمراد بالكتابة إما كتب صحائف الأعمال وبالآثار الخطى، فالمعنى أن كثرة الخطى إلي المساجد سبب لزيادة الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم

701 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأبعدهم ممشاً)) وإما كتب ما في السير، والمراد بالآثار ما يؤثر في الكتب المدونة من سير الصالحين، فالمعنى لزومكم دياركم وبعد ممشاكم يكتب في سير السلف وآثار الصالحين، فيكون سبباً لحرص الناس وجدهم واجتهادهم في حضور الجماعات، فمن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يظلهم الله)) ((حس)): معناه إدخاله تعالي إياهم في رحمته ورعايته. وقيل: المراد منه ظل الشمس، لأنه جاء في رواية من طريق هذا الحديث ((ظل عرشه)). ((غب)): الظل [ضد الضحى]، وهو أعم من الفيء، ويعبر عن العزة والمنعة والرفاهية، يقال: أظلني فلان أي حرفني وجعلني في ظله، أي عزه، ومناعته. قوله: ((لا تعلم شماله)) ((شف)): قيل: فيه حذف أي لا يعلم من بشماله ما ينفق يمينه، وقيل: يراد به المبالغة في إخفائها، وأن شماله لو تعلم لما علمها. أقول: ((في ظله)) تأكيد وتقرير لقوله: ((يظلهم))؛ فإن ((يظلهم)) يحتمل أن يراد به ظله أو ظل غيره، فجيء به نفياً لظل الغير، وكذا قوله: ((يوم لا ظل إلا ظله)) علي نفي جنس الظل وإثبات ظله تقرير له يعني أن الله تعالي يحرسهم من كرب الآخرة ويكنفهم في كنف رحمته، ونظير الحديث قوله تعالي: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} يعني لما سلمت قلوبهم في الدنيا من الشرك الأصغر والأكبر والمعاصي، وأخلصوا أعمالهم لله تعالي جعلهم الله تعالي تحت ظل رحمته، ونفعهم برأفته وعاطفته، ولهذا السر لم يقل: سلطان عادل بل قال: إمام عادل. ومن نشأ في عبادة الله من صغر سنه يسلم من المعاصي غالباً. ومن تعلق قلبه بالمسجد لا يكون إلا تقياً. كما ورد: ((المسجد بيت كل تقي)). وقوله: ((اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) عبارة عن خلوص المودة في الغيبة والحضور، فهو في الإخلاص كالمنفق المستخفي، والذاكر الدامع في الخلوة، وكذا وصف المرأة بالحسن والجمال. وقول الرجل: ((إني أخاف الله)) فيه دلالة علي المقام للدحض الذي لا تثبت فيه الأقدام قال الله

702 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف علي صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلي المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة؛ فإذا صلي، لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)). وفي رواية: قال: ((إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه)). وزاد في دعاء الملائكة. ((اللهم اغفر له، اللهم تب عليه. ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) متفق ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي: {وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}. سمعت والدي قدس روحه يقول: كان من التابعين فتى جميل الصورة، وضئ الوجه، راودته امرأة ذات حسن وجمال، فامتنع، فأبت إلا ما أرادت، وغلقت الأبواب، فلما اضطر أذن لدخول الخلاء، فلوث بالقذرة ثيابه ووجهه وخرج، فلما رأته طردته، فرأي يوسف عليه الصلاة والسلام في المنام، فشكر صنيعه وبزق في فمه، فرزق علم رؤيا المنام، وتأويل الأحاديث، والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلاة الرجل)) مبتدأ والمضاف محذوف، أي ثواب صلاته، والضمير في ((تضعف)) راجع إليه، وفي تخصيص ذكر السوق والبيت إشعار بأن مضاعفة الثواب علي غيرهما من الأماكن التي لم تلزمه لزومهما لا يكون أكثر مضاعفة منهما. وقوله: ((وذلك)) الجملة الحالية كالتعليل للحكم، كأنه لما أضاف الصلاة إلي الرجل والتعريف فيه للجنس أفاد أن صلاة الرجل الكامل الذي لا يلهيه أمر دنيوي عن ذكر الله في بيت الله يضعف أضعافاً؛ لأن مثل هذا الرجل لا يقصر في شرائطها، وأركانها، وآدابها، فإذا توضأ أحسن الوضوء، وإذا خرج إلي الصلاة لا يشوبه شيء مما يكدرها، فإذا صلي لم يتعجل للخروج، ومن شأنه هذا فجدير بأن يضعف ثواب صلاته. وقوله: ((اللهم صل عليه)) جملة مبينة لقوله: ((يصلي عليه)) وهو أفخم من أن لو قيل ابتداء: لا تزال الملائكة تقول: اللهم صل عليه، للإبهام والتبيين. وقوله: ((اللهم ارحمه)) طلبت لهم الرحمة من عند الله بعد طلب الغفران؛ لأن صلاة الملائكة علي العباد استغفار لهم. وفي قوله: ((كانت الصلاة تحبسه)) إشارة إلي النفس اللوامة التي تشتهي استيفاء لذاتها واشتغالها بخلع العذار، والصلاة تنهاها عن هواها، وتحبسها في بيت الله تعالي

703 - وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) رواه مسلم. 704 - وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) متفق عليه. 705 - وعن كعب بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس فيه)) متفق عليه. 706 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما كانت آمرة بالمعروف في قوله: ((لا يخرجه إلا الصلاة)) فإذا لزم مصلاه وانتظر الصلاة الأخرى اطمأنت، وقيل لها: {يأيتها النفس المطمئنة} فإذا طلبت الملائكة الغفران والرحمة لها قيل لها: {ارجعي إلي ربك} إلي آخره الآية. وقوله: ((لا يخرجه)) إما مفعول مطلق، أو حال مؤكدة. وقوله: ((ما لم يؤذ)) أي أحداً من المسلمين بلسانه ويده، فإنه كالحدث المعنوي، ومن ثم أتبعه بالحدث الظاهري. ((تو)): ((يحدث)) بتخفيف الدال من الحدث، ومن شددها فقد أخطأ، وقد روى هذا الحديث الترمذي في كتابه، وفيه: ((فقال رجل من حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة؟ فقال: ((فساء أو ضراط)). قلت: ولعل الرجل إنما استفسره لأن الإحداث يستعمل علي معنى إصابة الذنب، فاشتبه عليه المعنى. الحديث الرابع عشر عن أبي أسيد رضي الله عنه: قوله: ((اللهم افتح)) لعل السر في تخصيص ذكر الرحمة بالدخول والفضل بالخروج أن من دخل اشتغل بما يزلفه إلي الله وإلي ثوابه وجنته، فناسب أن يذكر الرحمة، فإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرزق الحلال، فناسب الفضل كما قال الله تعالي: {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} ولما لم يزل الإنسان في التقصير لزم في الحالتين طلب الغفران. الحديث الخامس والسادس والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ينشد))

707 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشركة المنتنة؛ فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) متفق عليه. 708 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الزاق في المسجد خطيئة؛ وكفارتها دفنها)) متفق عليه. 709 - وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): ينشد يطلب، يقال: نشدت الضالة أنشدها نشدة ونشداناً طلبتها، فأنشدتها بالألف إذا عرفتها، وزاد عليه في النهاية من النشيد رفع الصوت. ((خط)): ويدخل في هذا كل أمر لم يبن المسجد له، من البيع، والشرى، ونحو ذلك من أمور معاملات الناس، واقتضاء حقوقهم، وقد ذكر بعض السلف المسألة في المسجد، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق علي السائل المعترض في المسجد. أقول: إن في أمر الضالة في تعلق قلب صاحبها واهتمامه بشأنها كما يجد كل أحد من نفسه تشديداً، فوضع لذلك باب من الفقه، فأوردت فيها أحاديث كثيرة، فكان يجب علي كل أحد أن ينشدها ويعاون صاحبها، فلما أمر بهذا الدعاء فهم منه أن غيرها بالطريق الأولي أن يدفع ويرد. الحديث الثامن عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((هذه الشجرة)) ((حس)): جعل الثوم من الشجرة، والشجرة ما له ساق وأغصان، وما لا يقوم علي ساق فهو نجم، قال الله تعالي: {والنجم والشجر يسجدان} فيسمى به تغليباً. ((تو)): قال العلماء: ويلحق بالثوم كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من به بخر أو جرح له رائحة. قال القاضي عياض: وقاس العلماء علي هذا مجامع الصلاة غير المسجد، كمصلي العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات، والعلم والذكر، والولائم، لا الأسواق ونحوها. الحديث العشرون عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((النخاعة في المسجد)) ((نه)): وهي البزقة التي تخرج من فيصل الفم مما يلي أصل النخاع، والنخاع الخيط الأبيض في فقار الظهر. ((شف)): التعريف في النخاع الأذى كما في قوله: دخلت السوق في بلد كذا. و ((مماط)) صفة الأذى، أو تكون صفة للنخاعة.

710 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلي الصلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)). 711 - وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه. 712 - وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا يبصق أمامه)) ((مظ)): لعل المراد من النهي أن يبصق المصلي تلقاء وجهه صيانة للقبلة عما ليس فيه تعظيمها. أقول: قوله: ((فإنما يناجي الله)) تعليل للنهي شبه العبد وتوجهه إلي الله تعالي في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار، وكشف الأسرار، واستنزال رأفته، ورحمته مع الخشوع والخضوع بمن يناجي مولاه ومالكه، ومن شرائط حسن الأدب أن يقف محازيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة أمامه؛ حتى لا يصدر منه من تلك الهنات شيء، وإن كان الله تعالي منزهاً عن الجهات؛ لأن الآداب الظاهرة والباطنة مرتبطة بعضها مع بعض، وأما جواز البصاق عن اليسار وتحت قدميه مع كونه في المناجاة فلا يتصور فيه معنى المجازاة والمقابلة. قوله: ((ولا عن يمينه)) ((تو)): يحتمل أن يراد بالملك الذي يحضره عند الصلاة من جهة التأييد والإلهام بقلبه، والتأمين علي دعائه، ويكون سبيله سبيل الزائر، ومن حق المزور أن يكرم زائره فوق ما يختصه من الكرام الكاتبين، ويحتمل أن يخص صاحب اليمين بالكرامة تنبيهاً علي ما بين الملكين المزية كما بين اليمين والشمال، وتميزاً بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولهذا نكره. كأنه أراد ملكاً مكرماً مفضلاً، أو ملكاً غير الذي تعلمون من الحفظة. الحديث الثاني والعشرون عن عائشة: قوله: ((في مرضه)) لعله صلى الله عليه وسلم عرف بالمعجزة أنه مرتحل، فخاف من الناس أن يعظموا قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعن اليهود والنصارى وصنيعهم لئلا يعاملوا قبره معاملتهم. و ((اتخذوا)) جملة مستأنفة علي سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: لم يلعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا .... ((قض)): لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً، لعنهم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه. أما من اتخذ مسجداً في جوار صالح، أو صلي في مقبرته، وقصد به الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجه نحوه- فلا حرج عليه، ألا ترى أن مرقد إسماعيل (عليه السلام) في المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي لصلاته. والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمقابر المنبوشة؛ لما فيها من النجاسة.

713 - وعن جندب، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم. 714 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والعشرون عن جندب: قوله: ((ألا وإن من كان قبلكم)) الواو تقتضي معطوفاً عليه، و ((إن)) روي بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن من كان قبلكم، وإن روى بالكسر فالتقدير: أنبهكم وأقول: إن من كان قبلكم، وحرف التنبيه الثانية مقحمة بين السبب والمسبب، ومن ثم جاء بالفاء، المعنى أنبهكم علي تلك الفعلة الشنيعة تنبيهاً. ((غب)): تنبيه لئلا تصنعوا صنيعهم، وكما كرر التنبيه كرر النهي أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني أنهاكم)) بعد قوله: ((لا تتخذوا)) ولا تظنوا أن هذا النهي مجاز، بل هو علي حقيقته، وفائدة هذه المبالغة والتكرير غاية التحذير، وكذا فائدة تكرير ((كان)) في الشرط والجزاء الدلالة علي أن تلك الغفلة القبيحة كانت مستمرة فيهم، وهي دأبهم وهجيراهم. ((حس)): اختلف أهل العلم في الصلاة في المقبرة، فكرهها جماعة، وإن كانت التربة طاهرة والمكان طيباً، واحتجوا بهذا الحديث، ومنهم من ذهب إلي أن الصلاة فيها جائزة، وتأويل الحديث هو أن الغالب من أمر المقابر اختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومها، والنهي لنجاسة المكان، فإن كان المكان طاهراً فلا بأس. الحديث الرابع والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ولا تتخذوها قبوراً)) ((تو)): هذا محتمل لمعان: أحدهما أن القبور مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، فلا يصلي فيها، وليس كذلك البيوت، فصلوا فيها. وثإنيها أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر، لا عنها في البيوت، فصلوا فيها، ولا تشبهوها بها. والثالث أن مثل الذاكر كالحي وغير الذاكر كالميت؛ فمن لم يصل في البيت جعل نفسه كالميت، وبيته كالقبر. والرابع قول الخطابي: لا تجعلوا بيوتكم أوطاناً للنوم، فلا تصلوا فيها، فإن النوم أخو الموت. وقد حمل بعضهم النهي عن الدفن في البيوت، فذلك ذهاب عما يقتضيه نسق الكلام، علي أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة رضي الله عنها مخافة أن يتخذ قبره مسجداً. أقول: ((من)) في ((من صلاتكم)) تبعيضية وهو مفعول أول ((اجعلوا))، والثاني ((في بيوتكم))، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، فقدم الثاني للاهتمام بشأن البيوت، وأن من حقها أن يجعل لها نصيب من الطاعات، فتصير مزينة منورة بها؛ لأنها مأواكم ومواقع منقلبكم ومثواكم، وليست كالقبور التي لا تصلح لصلاتكم، وأنتم خارجون عنها، وداخلون فيها، والله أعلم.

الفصل الثاني 715 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) رواه الترمذي. [715] 716 - وعن طلق بن علي، قال: خرجنا وفداً إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا فاستوهبناه من فضل طهوره. فدعا بماء، فتوضأ وتمضمض، ثم صبه لنا في إداوة، وأمرنا، فقال: ((اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجداً. قلنا: إن ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) ((تو)) الظاهر أن المعنى بالقبلة في هذا الحديث قبلة المدينة؛ فإنها واقعة بين المشرق والمغرب، وهي إلي الطرف الغربي أميل. ((مظ)): المشارق والمغارب كثيرة، قال الله تعالي: {رب المشارق والمغارب} وأول المشارق مشرق الصيف، وهو مطلع الشمس في أطول يوم من السنة، وذلك قريب من مطلع السماك الرامح، يرتفع عنه في الشمال قليلاً، وآخر المشارق مشرق الشتاء، وهو مطلع الشمس في أقصر يوم في السنة، وهو قريب من مطلع قلب العقرب. ينحدر عنه في الجنوب قليلاً. وأول المغارب مغرب الصيف، وهو مغيب القرص عند موضع غروب السماك الرامح، وآخر المغارب مغرب الشتاء، وهو مغيب القرص عند مغرب قلب العقرب. فمن جعل من أهل الشرق أول المغارب عن يمينه وآخر المشارق عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، والمراد بأهل الشرق أهل الكوفة، وبغداد، وخوزستان، وفارس، وعراق، وخراسان، وما يتعلق بهذه البلاد. الحديث الثاني عن طلق بن علي قوله: ((وفداً)) الوفد الجماعة القاصدة عظيماً من الشيءون وهي حال، ((وبيعة)) متعبد النصارى، والفاء في ((فاستوهبناه)) عطفت ما بعدها علي المجموع، أي خرجنا وفعلنا كيت وكيت فاستوهبناه. و ((من)) في قوله: ((من فضل طهوره)) تبعيضية منصوبة بدل من المفعول. قوله: ((أمرنا)) أي أراد أن يأمرنا بالخروج ((فقال: اخرجوا)) والضمير في ((فإنه)) يحتمل أن يكون للماء الوارد والمورود، أي الماء لا يزيد المورود الطيب ببركته إلا طيبا، والمورود الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيباً.

البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال: ((مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيباً)) رواه النسائي. [716] 717 - وعن عائشة، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور، وأن ينظف ويطيب. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [717] 718 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرت بتشييد المساجد)). قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. رواه أبو داود. [718] 719 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)) رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. [719] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ينشف)) علي بناء المجهول. ((الجوهري)): نشف الثوب العرق- بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه شربه بسببه المجاورة. وفيه جواز التبرك بماء زمزم ونقله إلي البلاد الشاسعة، وعليه يحتمل التبرك بما بقى من فضل طعام العلماء والمشايخ وشرابهم وخرقهم. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في الدور)) ((تو)): أي في المحلات، الدار لغة العامر المسكون والعامر المتروك، وهي من الاستدار، لأنهم كانوا يحيطون بطرف رمحهم قدر ما يريدون أن يتخذوه مسكناً، ويدورون حوله، قال الشاعر: الدار دار وإن زالت حوائطها والبيت ليس ببيت وهو مهدوم الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((لتزخرفنها)) تعليل للأمر المنفي، والنون لمجرد التأكيد، كما في قوله تعالي: {واتقوا فتنة لا تصيبن} إذا كانت ((لا)) نافية، أي ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلي التزخرف، وفيه نوع توبيخ وتإنيب، ويجوز فتح اللام علي جواب القسم، وهو الأظهر أي: والله لتزخرفنها. ((نه)) الزخرف: النقوش والتصاوير بالذهب وأصل الزخرف للذهب وكمال حسن الشيء. ((حس)): التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالي: {ولو كنتم في بروج مشيدة} وهي التي طول بناؤها. كانت اليهود والنصارى تزخرف المساجد عندما حرفوا وبدلوا أمر دينهم، وأنتم ستصيرون إلي حالهم، وسيصير إلي المرآة بالمساجد، والمباهاة بتشييدها وتزيينها، وكان المسجد علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، زاد فيه عمر رضي الله عنه فبناه علي بنيانه علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وسقفه بالساج. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من أشراط الساعة)) ((نه)): الأشراط العلامات، واحدها شرط- بالتحريك- ((أن يتباهي)) أي يتفاخر، مبتدأ ((ومن أشراط الساعة))

720 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)) رواه الترمذي، وأبو داود. [720] 721 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [721] ـــــــــــــــــــــــــــــ خبره، قدم للاهتمام لا للتخصيص؛ لأن في أشراطها كثرة، ولما كان هذا الضيع من قبل الناس، لاسيما من أمته، قدمه اهتماماً لمزيد الإنكار عليهم. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((القذاة)) ((نه)): القذي جمع قذاة، وهو ما يقع في العين من تراب، أو تبن، أو وسخ. لابد ههنا من تقدير مضاف، أي أجور أعمال أمتي وأجر القداة، أو أجر إخراج القذاة، و ((القذاة)) تحتمل الجر و ((حتى)) بمعنى إلي، فحينئذ التقدير إلي أجر إخراج القذاة، فـ ((يخرجها من المسجد)) جملة مستأنفة للبيان، والرفع عطفاً علي أجور، والتقدير ما مر، وحتى يحتمل أن تكون هي الداخلة علي الجملة فحينئذ التقدير حتى أجر القذاة يخرجها. علي الابتداء والخبر. وشرط الحديث مقتبس من قوله تعالي: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}. وإنما قال: ((أوتيها)) ولم يقل ((حفظها)) لينبه به علي أنها كانت نعمة عظيمة أولاها الله تعالي إياه ليقوم بها، ويشكر مولاها، فلما نسيها كأنها كفر تلك النعمة، فبالنظر إلي هذا المعنى كان أعظم حرمان، وإن لم يعد من الكبائر، فلما عد إخراج القذة التي لا يعبأ به لها من الأجور تعظيماً لبيت الله سبحانه وتعالي عد أيضاً النسيان من أعظم الجرم تعظيماً لكلام الله (سبحانه وتعالي) كأن فاعل ذلك عد الحقير عظيماً بالنسبة إلي العظيم، فأزاله عنه، وصاحب هذا عد العظيم حقيراً، فأزاله عن قلبه. انظر إلي هذه الأسرار العجيبة التي احتوتها الكلمات اليسيرة. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الحديث السابع عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((بشر المشائين)) في وصف النور بالتمام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلي وجه المؤمنين يوم القيامة وقولهم فيه: {ربنا أتمم لنا نورنا} في قوله تعالي: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} وإلي قصة المنافقين وقولهم للمؤمنين: {انظروا نقتبس من نوركم}.

722 - ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس. [722] 723 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر})) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [723] ـــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب ((الكشاف)): ((لا يخزي)) تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق، واستحماد إلي المؤمنين علي أنه عصمهم الله من مثل حالهم؛ يسعى نورهم علي الصراط. قال ابن عباس: يقولون أتمم لنا نورنا إلي أطفأ نور المنافقين إشفاقاً. وفيه أن من انتهز هذه الفرصة وهي المشي إلي المساجد في الظلم في الدنيا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. ومن تقاعد عنها لا يؤمن أن يتهكم بهم ويقال لهم: {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}. فحق لذلك أن لا تختص هذه البشارة لعظمها وفخامتها بمبشر دون مبشر. ويعضده ما رويناه عن مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((من سره أن يلقى الله تعالي غداً مسلماً فليحافظ علي هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى فإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم، لضللتم، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف)). الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((يتعاهد)) ((تو)): وهو بمعنى التعهد، وهو التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، وتعدت فلاناً، وتعهدت ضيعتي، وهو أفصح من تعاهدت؛ لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين. وهذا الحديث رواه أبو عيسى الترمذي في كتابه، وفي رواية: ((يعتاد المسجد))، وفي رواية أخرى له: ((يتعاهد))، فالاعتياد معاودته إلي المسجد كرة بعد أخرى لإقام الصلاة، وكلاهما حسن، وأولي الروايتين بالتقديم علي ما تشهد لها البلاغة لا السند: ((يعتاد المسجد)). أقول الجواب عن قوله أولاً: التعاهد أفصح من التعهد، أن العكس أولي ((الكشاف)) في قوله تعالي: {يخادعون الله}: عنى به فعل، إلا أنه قد أخرج في زنة فاعلت؛ لأن الزنة في أصلها للمبالغة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه، إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه، وإذا كان كذلك فكيف يظن في كلام أفصح الفصحاء ما هو أفصح منه؟ وعن قوله ثإنياً: فأولي الروايتين بالتقديم علي تشهد لها البلاغة لا السند: يعتاد المسجد، أن السند أولي أن يقدم ويتبع، علي أنه أبلغ من غيره، فإن ((يتعاهد))

724 - وعن عثمان بن مظعون، قال: يا رسول الله! إئذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام)). فقال: إئذن لنا في السياحة. فقال: ((إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)). فقال: إئذن لنا في الترهب. فقال: ((إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة)). رواه في ((شرح السنة)). [724] 725 - وعن عبد الرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة. قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: أنت أعلم)) قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ أشمل معنى، وأجمع لما يناط به أمر المساجد من العمارة والاعتياد وغيرها، ألا ترى كيف استشهد صلى الله عليه وسلم: {إنما يعمر مساجد الله} ((الكشاف)): العمارة تتناول رم ما استرم منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها لله، واعتيادها للعبادة والذكر- ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه- وصيانتها مما لم تبن له المساجد، من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث. وقوله: ((فاشهدوا له)) أي اقطعوا له القول بالإيمان، فإن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب علي سبيل القطع. الحديث التاسع عن عثمان بن مظعون: قوله: ((من خصى)) ((تو)) يقال: خصيت الفحل خصاء، أي سللت خصيته، واختصيت إذا فعلت ذلك بنفسك، وتقدير الكلام: ليس منا من خصى، ولا من اختصى، فحذف: ((من)) لدلالة ما قبلها عليها، والمعنى ليس من فعل ذلك ممن يهتدي بهدينا ويتمسك بسنتنا. انتهي كلامه. ولعل إيجاب تقدير ((من)) لئلا يتوهم أن التهديد وارد علي من جمع بين الخصاء والاختصاء، ولا يتناول من تفرد بأحدهما، ولا النافية جيء بها مؤكدة للنفي بين المعطوف والمعطوف عليه. وقوله: ((في السياحة)) فالسياحة مفارقة الأمصار، والذهاب في الأرض، كفعل عباد بني إسرائيل. قوله: ((في الترهب)) ((نه)): من رهبته، وأصلها من الرهبة والخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها. فإن قلت: هل تسمى هذه الأجوبة بأسلوب الحكيم؟ قلت: لا يبعد ذلك؛ لأن ظاهر الجواب المنع، فلما أرشدهم إلي ما هو الأصوب والأهم بحالهم، من القصد في الأمور والتجنب عن طرفي الإفراط والتفريط المذمومين، دخلت في الأسلوب، ولما كان السؤال الأول بعيداً من الحكمة- وهي ما خلق الإنسان لأجله من تكاثر النسل لعبادة الله- قدم الزجر والتوبيخ تنبيهاً علي ما هو الأولي.

((فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات والأرض، وتلا: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين})) رواه الدارمي مرسلاً، وللترمذي نحوه عنه. [725] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن عبد الرحمن: قوله: ((في أحسن صورة)) ((نه)): الصورة ترد في كلام العرب علي ظاهرها، وعلي معنى حقيقة الشيء وهيئاته، وعلي معنى صفتيه يقال: صورة الفعل كذا، وصورة الأمر كذا وكذا، أي صفته. ((تو)): هذا الحديث مستند إلي رؤيا رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أورده الطبرإني في كتابه عن معاذ بن جبل (رضي الله عنه): أنه صلى الله عليه وسلم صلي ذات يوم صلاة الغداة وقال: ((إني صليت الليلة ما قضى لي، ووضعت جنبي في المسجد، فأتإني ربي في أحسن صورة)) الحديث، ورواه أبو عبد الله أحمد في مسند عن معاذ بن جبل، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة الغداة، ثم أقبل علينا، فقال: ((إني سأحدثكم: إني قمت من الليل، فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي (عز وجل) في أحسن صورة)) وساق الحديث وأصح طرق هذا الحديث ما رواه أبو عبد الله في مسنده. ((قض)): فإذا ذهب إلي أن ذلك رؤيا رآها في المنام فلا إشكال، إذ الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلاً، والمتشكل بغير شكله. ثم لا يعد ذلك خللاً في الرؤيا وخللاً في خلد الرائي، بل له أسباب أخر تذكر في علم المنامات، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء (عليهم السلام) إلي التعبير. وإذا ذهب إلي أن ذلك في اليقظة فلابد من التأويل، فنقول وبالله التوفيق: صورة الشيء ما يتميز به الشيء من غيره، سواء كان عين ذاته، أو جزؤه المميز، وكما يطلق ذلك في الجثة يطلق في المعإني، فيقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فصورته تعالي- والله أعلم- ذاته المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الأشياء، كما قال الله تعالي: {ليس كمثله شيء} البالغة إلي أقصى مراتب الكمال. ((نه)): يجوز أن يكون المراد بالصورة أنه تعالي أتاه في أحسن صفة، ويجوز أن يعود المعنى إلي النبي صلى الله عليه وسلم أي أتإني ربي وأنا في أحسن صورة، وتجرى معإني الصورة كلها عليه، إن شئت ظاهرها، وإن شئت هيئتها أو

ـــــــــــــــــــــــــــــ صفتها، فأما إطلاق ظاهرة الصورة علي الله تعالي فلا يجوز- تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً- ((مظ)): إذا أجريت الصورة علي الله تعالي ويراد بها الصفة كان المعنى إن ربي تعالي كان أحسن إكراماً ولطفاً ورحمة علي من وقت آخر. وإذا أجريت علي النبي صلى الله عليه وسلم كان المعنى أنا في تلك الحالة كنت في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه تعالي علي. ((تو)): مذهب أكثر أهل العلم من السلف في أمثال هذا الحديث أن يؤمن بظاهره، ولا يفسر بما تفسر به صفات الخلق، بل ينفي عنه الكيفية، ويوكل علم باطنه إلي الله تعالي فإنه سبحانه يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يشاء من وراء أستار الغيب مما لا سبيل لأحد إلي إدراك حقيقته بالجد والاجتهاد، فأولي أن لا يتجاوز هذا الحد، فإن الخطب فيه جليل، والإقدام عليه مزلة اضطربت عليه أقدام الراسخين شديد. ولأن نرى أنفسنا أحقاء بالجهل والنقصان. أزكى وأسلم من أن ننظر إليها بعين الكمال، وهذا لعمر الله هو المنهج الأقوم، والمذهب الأحوط، غير أن في زماننا هذا اتسع الخرق علي الراقع، إذ حملت أكثر أبناء الزمان داعية الفتن المستكنة في نفوسهم علي الخوض في هذه الغمرة، حتى لو ذكر لهم مذهب السلف سارعوا إليه بالطعن، وإذا عجزوا عن التأويل لغموض المراد ولقصورهم في علم البلاغة أفضى بهم ذلك إلي التكذيب، حتى صار العدول عن التأويل في هذا الزمان مظنة للتهمة في العقائد. وذريعة للمضلين إلي توهين السن، فأدت بنا هذه القضية إلي سلوك هذا المسلك الوعر، واختيار التأويل، فنقول- والله الموفق لإصابة الحق- ثم ذكر الشيخ ما سبق من الأقوال في تأويل الصورة. قوله: ((الملأ الأعلي)) ((نه)): الملأ الأعلي الملائكة. ((تو)): وصفوا بذلك إما اعتباراً بمكانهم، أو مكانتم، والمراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم في السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين. ((قض)): واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلي ثبت تلك الأعمال والصعود بها إلي السماء وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وأناقتها علي غيرها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل؛ لاختصاصهم بها، وفضلهم علي الملائكة بسببها، مع تهافتهم في الشهوت، وتماديهم في الجنايات، والوجهان الأخيران ذكرهما الشيخ التوربشتي أيضاً. قوله: ((فوضع كفه)) ((قض)): هو مجاز في تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه، وإيصال فيضه إليه؛ لأن ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلي أنفسهم بعض خدمهم وتسرهم بعض أحوال مملكتهم يلقون أنفسهم علي ظهره ويلقون أنفسهم علي ظهره ويلقون سواعدهم علي عنقه تلطفاً به، وتعظيماً لشأنه وتنشيطه له في فهم ما يقوله. فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة، كناية عن التخصيص لمزيد الفضل والتأييد، وتمكين للملهم في الروع. قوله: ((فوجدت بردها بين ثديي)) كناية عن

ـــــــــــــــــــــــــــــ وصول ذلك الفيض إلي قلبه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإيقانه له يقال: ثلج صدره وأصابه برد اليقين، لمن تيقن الشيء وتحققه. قوله: ((فعلمت ما في السماء والأرض)) يدل علي أن وصول ذلك الفيض صار سبباً لعلمه، ثم استشهد بالآية، والمعنى أنه تعالي كما أرى إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ملكوت السموات والأرض، وكشف له ذلك، فتح علي أبواب الغيوب، حتى علمت ما فيها من الذوات، والصفات، والظواهر، والمغيبات، فعلوت من الملك وهو أعظمه. ((مظ)) ((نرى)) لفظ مضارع، ومعناه ماض، أي أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض أي خلقهما. أقول- والله أعلم- قول المظهر: ((معناه ماض)) محمول علي أن معناه حين استشهد به في الحديث ماض ليستقيم معنى تشبيه حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالة خليل الله. وإلا فهو في مستقره من التنزيل علي ما هو عليه مضارع علي حكاية الحال الماضية استغراباً واستعجاباً، والمشبه بكذلك غير المشبه في الحديث، وكذا المشار إليه. الكشاف: ((كذلك نوري)) أي مثل ذلك التعريف يجوز أن يكون المشار إليه. ما سبق من معنى قوله: {وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة} الآية، وهو المعرفة والبصارة التي يمكن بها من إنذاره إياه، وتضليل قومه، فيكون قوله: {فلما جن عليه الليل رأي كوكباً} كالتفصيل والبيان بمعنى المثل في ((كذلك)). و ((ليكون)) إما معطوف علي محذوف، أي هديناه لطريق الاستدلال ليحتج به قومه، وليكون من الموقنين، وإما أن يكون معلله محذوفاً أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك والجملة معطوفة علي الجملة السابقة. ثم في الاستشهاد بالآية نكتة، وهي أنك إذا أمعنت النظر في الرؤيتين، ودققت الفكر بين العلمين، علمت أن بينهما بوناً بعيداً، وذلك أن الخليل (عليه الصلاة والسلام) رأي ملكوت السموات والأرض أولاً، ثم حصل له الإيقان لوجود منشأها ثإنياً، والحبيب صلى الله عليه وسلم رأي المنشيء ابتداء، ثم علم ما في السموات- والأرض- إنتهاء، كما قال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله أولاً، جواباً عن قول الشيخ أبي القاسم القشيري: ما رأيت شيئاَ إلا رأيت الله بعده. ثم إن الحبيب حصل له عين اليقين بالله، والخليل علم اليقين بالله، والحبيب علم الأشياء كلها، والخليل رأي ملكوت الأشياء. قوله: ((في الكفارات)) ((نه)): هي عبارة عن الفعلة والخصلة من شأنها أن تكفر الخطيئة، أي تسترها وتمحوها، وهي فعالة للمبالغة، كضرابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الأسمية. ((قض)): كرر قوله: ((فيم يختصم الملأ الأعلي)) إعادة للسؤال بعد التعليم. سميت الخصال المذكورة كفارات لأنها تكفر ما قبلها من الذنوب، بدليل قوله: ((وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه)).

726 - وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه: ((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: نعم، في الكفارات)). والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي علي الأقدام إلي الجماعات، وإبلاغ الوضوء في ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ومن فعل ذلك عاش بخير)) هو من قوله كقوله تعالي: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} الآية. أي لنرزقنه في الدنيا حياة طيبة، وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً فمعه ما يطيب عيشته، وهو القناعة والرضي بقسمة الله تعالي؛ وأما الفاجر فأمر علي العكس، إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه، وعن ابن عباس: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه. ومعنى ((يموت بخير)) أنه يأمن في العاقبة، ويكون له روح وريحان إذا بلغت الحلقوم، ويقال له: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}. قوله: ((كيوم ولدته أمه)) يوم مبني علي الفتح، للإضافة إلي الماضي، وإذا أضيف إلي المضارع اختلفت في أنه مبني أو معرب، والأصح الثاني، يعني من فعل ذلك يكون مبرءاً عن الذنوب، كما كان مبرءاً عنها يوم ولدته أمه. قوله: ((أسألك الخيرات)) وهي ما عرف في الشرع من الأفعال الحميدة، والأقوال المرضية وغيرها، يدل عليه قوله: ((ترك المنكرات))، فلما طلب ما يرفع به درجته، ويزلفه إلي خيرة القدس، أراد التواضع والاستكانة، - بأنه – طلب حب المساكين، بأن يعيش معهم، ويموت معهم، ويحشر معهم. قوله: ((فتنة)) ((مظ)): أي إذا أردت أن تضل قوما عن الحق قدر موتي غير مفتون، أي غير ضال. قوله: ((والدرجات)) مبتدأ، وما بعده خبر، أي ما يرفع به الدرجات، أو يوصل إلي الدرجات العالية هذه الخصال الثلاث، لأنه إذا عاشر الخلق يقوم بحقهم، من بذل السلام، وإطعام الطعام، وإذا ناموا عامل الحق بالقيام، فنال بها الدرجات العلي، قال الله تعالي: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} فلا غرو إذا إن اغتبط الملائكة البشر بتلك الكفارات، وهذه الدرجات، نفعنا الله بها. والله تعالي أعلم. الحديث الحادي عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((ضامن علي الله)) عدى ((ضامن)) بـ ((علي)) تضميناً لمعنى الوجوب علي سبيل الوعد، أي يجب علي الله وعداً أن يكلأه من مضار

المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضي إليك غير مفتون)). قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام. ولفظ هذا الحديث كما في ((المصابيح)) لم أجده عن عبد الرحمن إلا في ((شرح السنة)). [726] 728 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة كلهم ضامن علي الله: رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامن علي الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلي المسجد، فهو ضامن علي الله [حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة]؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن علي الله)) رواه أبو داود. [727] ـــــــــــــــــــــــــــــ الدين والدنيا. قال صاحب المغرب: قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله (سبحانه وتعالي): ((من خرج مجاهداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فأنا عليه ضامن- أو علي ضامن-)) شك الراوي، والمعنى إني في ضمان ما وعدته في الجزاء حياً وميتاً، وعدى بعلي لتضمن معنى محارم ورقيب. وقوله: ((هو علي ضامن)) قريب المعنى من الأول، إلا أنه تأول الضامن بذي الضمان، فيعود إلي معنى الواجب كأنه قال: هو علي واجب الحفظ والرعاية كالشيء المضمون. ((خط)): ضامن أي مضمون علي الله، فاعل بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق، ويحتمل أن يكون ذو ضمان، كلابن، وتامر. ((تو)): ذكر الشيء المضمون به في أول الثلاثة، ولم يذكر في الثاني والثالث اكتفاء بالأول، فكما أن المجاهد طالب لإحدى الحسنيين: الشهادة، أو الغنيمة، فكذلك الذي يروح إلي المسجد فإنه يبتغي فضل الله ورضوانه، ومغفرته، فهو ذو ضمان علي الله أن لا يضل سعيه، ولا يضع أجره. قوله: ((دخل بيته بسلام)) ((تو)): ذهبوا إلي أن هذا هو الذي سلم علي أهله إذا دخل بيته، والمضمون به أن يبارك عليه وعلي أهل بيته؛ لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه: ((يا بني إذا دخلت علي أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلي أهل بيتك)) وقيل: هو الذي يلزم بيته طلباً للسلامة، وهرباً من الفتنة؛ لقوله تعالي: {ادخلوها بسلام آمنين} أي من الآفات والعوارض. وهذا أوجه، ولملاءمة ما قبله أوفق؛ لأن المجاهدة في سبيل الله سفراً، والرواح إلي المسجد حضراً، ولزوم البيت اتقاء من الفتن أخذ عضها بحجزة بعض، وعلي هذا المضمون به هو رعاية الله تعالي إياه وجواره عن الفتن.

728 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من بيته متطهراً إلي صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلي تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه؛ فأجره كأجر المعتمر. وصلاة علي إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبو داود. [728] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن أبي أمامة: قوله: ((إن صلاة)) حال، أي خرج من بيته قاصداً إلي المسجد لأداء الفرائض، وإنما قدرنا القصد حالاً ليطابق الحج، لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهر منزلة الإحرام، وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، فكيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضي فضل الثاني وجوباً ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثاً، فشبه صلى الله عليه وسلم حال المصلي القاصد إلي الصلاة المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغة وترغيباً للمصلي؛ ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات. ((تو)): شبه أجر المتطهر الخارج من بيته للصلاة المكتوبة بأجر الحاج المحرم، حيث أنه يستوفي أجره من لدن يخرج من بيته إلي أن يرجع إليه كالحاج المحرم فإنه يستوفي أجره من حيث يخرج إلي أن يرجع، وذلك مثل قولنا: فلا كالأسد، فلا يقتضي من تشبيه به سائر الوجوه، بل يحمل علي الشجاعة، فكذلك الأجران لا يقتضيان المشاركة من تشبيه به سائر الوجوه، بل يحمل علي الشجاعة، فكذلك الأجران لا يقتضيان المشاركة من سائر الوجوه. وقال: في قوله: ((وأجره كأجره المعتمر)) إشارة إلي أن نسبة ثواب الخروج للنافلة من الصلوات إلي الخروج لفرائضها نسبة ثواب الخروج للعمرة إلي الخروج إلي الحج. قوله: ((إلي تسبيح الضحى)) فالمكتوبة والنافلة وإن اتفقنا في أن كل واحدة منهما يسبح فيهما، إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض نوافل، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة علي أنها شبيهة بالأذكار في كونها غير واجبة. قوله: ((لا ينصبه إلا إياه)) ((حس)): أي لا يتعبه ولا يزعجه إلا ذلك، وأصله من النصب، وهو معناه المشقة. ((شف)): قوله: ((إياه)) ضمير منصوب منفصل وقع موقع المرفوع المنفصل كما وقع المرفوع المنفصل موقع المنصوب المنفصل في حدث الوسيلة: ((وأنا أرجو أن أكون أن هو)). أقول: وقد سبق توجيه حديث الوسيلة، وأما ههنا فيمكن أن يقال: إن هذا من الميل إلي المعنى دون اللفظ، فمعنى ((لا ينصبه إلا إياه)) لا يقصد ولا يطلب إلا إياه. ((الكشاف)): في قوله: ((فشربوا إلا قليلا)): قرأ أبي والأعمش: ((إلا قليل) بالرفع، وهذا من ميلهم إلي المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً. وهو من باب جليل من علم العربية، فلما كان المعنى فشربوا منه فلم يطيعوه، إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق: لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف. كأنه قيل: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. قوله: ((كتاب في عليين)) ((تو)): أي صلاة علي إثر صلاة عمل مكتوب في عليين. ((نه)): العليون اسم لديوان الملائكة الحفظة، ترفع إليه أعمال الصالحين، وقيل: أراد أعلي الأمكنة

729 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)). قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: ((المساجد)). قيل: وما الرتع؟ يا رسول الله! قال: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي. [729] 730 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبو داود. [730] 731 - وعن فاطمة بنت الحسين، من جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنهم، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلي علي محمد وسلم، وقال: ((رب اغفر ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشرف المراتب. أقول: وقوله: ((وصلاة علي إثر صلاة)) معناه مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها، ولا مزية عليها، ولا شيء من الأعمال أعلي منها، فكنى عن ذلك بقوله: ((عليين)). الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا مررتم برياض الجنة)) تلخيص الحديث إذا مررتم بالمساجد قولوا هذا القول، فلما وضع ((رياض الجنة)) موضع المساجد بناء علي أن العبادة فيها سبب للحصول في رياض الجنة- روعيت المناسبة لفظاً ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل، ووسيلة إلي الفوز النبيل. والرتع ههنا كما في قول إخوة يوسف: {يرتع ويلعب} وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات، والخروج إلي التنزه في الأرياف والمياه، كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلي الرياض والبساتين، ثمرة الشجرة التي غرسها الذاكر في رياض المسجد علي ما ورد: ((لقيت ليلة أسري بي إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) فقال لي: يا محمد! أقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) - لجاء أسلوباً بديعياً، وتلميحاً عجيباً. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومن أتى المسد لشيء فهو حظه)) وهو من قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله)) الحديث. الحديث الخامس عشر عن فاطمة بنت الحسين رضي الله عنها: قوله: ((قال: رب اغفر لي))

لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج صلى الله عليه وسلم، وقال: ((رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)). رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال: ((بسم الله، والسلام علي رسول الله)) بدل: صلي علي محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى. [731] 732 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والاشتراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد. رواه أبو داود، والترمذي. [732] ـــــــــــــــــــــــــــــ أبرز صلى الله عليه وسلم ضمير نفسه عند ذكر الغفران ملتجأ إلي مطاوي الإنكار بين يدي الملك الجبار، وأظهر اسمه المبارك علي سبيل التجريد عند ذكر الصلاة لمحا إلي منصب الرسالة ومنزلة النبوة؛ إجلالا وتعظيماً لشأنها، كأنها غيره، امتثالاً لأمر الله تعالي في قوله: {إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. الحديث السادس عشر عن عمرو بن شعيب: قوله: ((تناشد الأشعار)) ((تو)): التناشد أن ينشد لكل واحد صاحبه نشداً لنفسه أو لغيره، افتخاراً ومباهاة، أو علي وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما يركن إليه النفس، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان فيه تمهيد لقواعد الدين، أو إرغام لمخالفيه فهو خارج عن القسم المذموم وإن خالطه النسيب، وقد كان يفعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينه عنه، ولعلمه فيه بالغرض الصحيح، وأما نهي عمر رضي الله عنه حسان بن ثابت (رضي الله عنه) عن ذلك فالنظر فيه لمصلحة الجمهور، ولا يؤدي منه إلي الاسترسال في الخلافة والمحن، وكان (رضي الله عنه) عارفاً بزمانه، عبقرياً في شأنه، ألمعياً في رأيه، مصيباً في اجتهاده، ولما عارضه حسان بقوله: أنشدته بين يدي من خير منك. فسكت عنه، ولم يكن سكوته لوضوح حق كان قد خفي عليه، بل كان السكوت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأدباً. قوله: ((عن البيع والاشتراء)) ((حس)): روي عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا، إنما هذا سوق الآخرة. وعن عمر (رضي الله عنه) قال لرجلين من أهل الطائف رفعا أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأنه سمع صوت رجل في المسجد، فقال:

733 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي. [733] 734 - وعن حكيم بن حزام، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود. رواه أبو داود في ((سننه))، وصاحب ((جامع الأصول)) فيه عن حكيم. [734] 735 - وفي ((المصابيح)) عن جابر. 736 - وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن هاتين الشجرتين- يعني البصل والثوم- وقال: ((من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)). وقال: ((إن كنتم لابد آكليهما؛ فأميتوهما طبخاً)) رواه أبو داود. [736] 737 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) رواه أبو داود، والترمذي، والدارمي. [737] ـــــــــــــــــــــــــــــ أتدري أين أنت؟ قوله: ((أن يتحلق الناس)) ((تو)): هو أن يجلسوا حلقة حلقة، والنهي يحتمل معنيين: أحدهما أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين، والثاني أن الاجتماع للجمعة خطب جليل: لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها، وتحلق الناس قبل الصلاة موهم بالغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه. ((حس)). في الحديث كراهة التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم، بل يشتغل بالذكر، والصلاة، والإنصات للخبطة، ولا بأس بعد ذلك. الحديث السابع إلي الثامن عشر عن حكيم بن حزام: قوله: ((عن حكيم بن حزام)) قال المؤلف: روى هذا الحديث أو داود في خر كتاب الحدود عن الحكيم، وكذا في جامع الأصول عن الحكيم، وفي كتاب المصابيح عن جابر، ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. قوله: ((أن يستقاد)) ((نه)): استقدت الحاكم سألته أن يقتدي القود أي القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. ((حس)): قال عمر (رضي الله عنه)) فيمن لزمه حد في المسجد: ((أخرجوه))، وعن علي مثله. الحديث التاسع عشر عن معاوية: قوله: ((وقال: من أكلهما فلا يقربن)) الجملة كالبيان للجملة الأولي وإن دخل العاطف، نحو: أعجبني زيد وكرمه، وقول امرئ القيس: ذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود فعطف ((خبرته)) علي ((جاءني)) علي سبيل البيان. وفي النهي عن القربان إشارة إلي أن النهي

738 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله،. رواه الترمذي، وابن ماجه. [738] ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الدخول أولي وأحق، في إضافة المسجد إلي الضمير المعظم إشعار بالعلية، وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن مسجدنا مكان حلول الملائكة المقربين، ومهبط نزول كلام رب العالمين، فهو حري بأن يطيب بأنواع الطيب ويبخر بأصناف الصندل، فأنى يصلح لنتن الشجرتين الخبيثتين؟ والثاني أن يراد جنس المساجد، ومعنى الإضافة اجتماع المؤمنين فيه لأداء فرائض الله تعالي فيجب الاجتناب عما يؤذيهم من الروائح الكريهة، ومن ثم سن الغسل وتنظيف الثياب. قوله: ((لابد)) ((الجوهري)): ((بد)) فرقة، وقولهم: لابد من كذا، كأنه قال: لا فراق منه، والجملة معترضة بين اسم كان وخبره. قوله: ((فأميتوهما طبخاً)) مجاز هذا مجاز قوله: ((يميتون الصلاة)) لكن بالعكس، فإن إحياء الصلاة أداؤها في أول وقتها، حتى تكون طرية رياً، وإماتتها إخراجها عن وقت الاختيار، حتى تكون ذابلة يابسة، فحياة الشجرتين عبارة عن قوة رائحتهما عند طراوتهما، وموتهما إزالة تلك الرائحة بالطبخ، وفيه إشارة لأهل العرفان إلي سر دقيق. الحديث العشرون والحادي والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((المجزرة)) ((نه)): أي الموضع الذي ينحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والشاة، ونهي عنها لأجل النجاسة التي فيها من دماء الذبائح وأرواثها، وجمعها المجازر، والمعاطن جمع معطن، وهو مبرك الإبل حول الماء. ((حس)): اختلفوا في الصلاة في المقبرة والحمام، فرويت الكراهية فيها عن جماعة من السلف لظاهر الحديث، وإن كانت التربة طاهرة، وقالوا: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً)) فدل أن محل القبر ليس بمحل الصلاة. ومنهم من ذهب إلي أن الصلاة جائزة إذا صلي في موضع نظيف منه، وتأويل الحديث هو أن الغالب من أمر الحمام قذارة المكان، ومن أمر المقبرة اختلاط ترتبها بصديد الموتى ولحومها، فالنهي لنجاسته، وإن كان المكان طاهراً فلا بأس، وكذلك المزبلة والمجزرة، وقارعة الطريق، فالنهي عن الصلاة فيها لنجاستها، وفي قارعة الطريق معنى آخر، وهو اختلاف المار يشغله عن الصلاة. وأما فوق ظهر بيت الله، فإن لم يكن بين يديه سترة أي بقية جدار يستقبلها بطلت عند الشافعي، ويصح عند أبي حنيفة وإن لم يكن بين يديه شيء، كما لو صلي علي أبي قبيس متوجهاً إلي هواء البيت. واحتج من جوز الصلاة في هذه الموضع إذا كان المكان طيباً بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً)) ويقال: حديث جابر إنما لإظهار فضيلة هذه الأمة، حيث رخص لهم في الطهور بالأرض، والصلاة في المواضع التي لم تبن للصلاة من بقاعها، بخلاف سائر الأمم، فيجوز أن يدخل فيه التخصيص.

739 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) رواه الترمذي. [739] 740 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): العلية في المعاطن لو كانت النجاسة لم يرخص لهم في المرابض أيضاً؛ لأنهما سيان في هذا الحكم، فأما العلة في المواطن الأخرى المذكورة في الحديث فإنها مختلفة، ثم إن الأمكنة النجسة لا تنحصر في هذه المواضع النجس، ولو كانت العلة النجاسة لكان من الجائز أن يبسط في المزبلة بساطاً في المكان اليابس، أو وجد موضعاً خالياً من النجاسة فصلي فيها، لكن ذلك استخفاف لأمر الدين، لأن من حق الصلاة أن تؤدى في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة. الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في مرابض الغنم)) وفي معناه ما رواه الإمام الشافعي (رضي الله عنه) عن ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أدركتم الصلاة وأنتم في مرابض الغنم فصلوا فيها، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصلاة أنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها فصلوا؛ فإنه جن من جن خلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها؟)). ((قض)): المرابض جمع مربض، وهو مأوى الغنم، والأعطان المبارك، والفارق أن الإبل كثير الشرار، شديد النفار، فلا يأمن المصلي في أعطانها من أن ينفر ويقطع الصلاة عليه، ويتشوش قلبه؛ فيمنعه من الخشوع فهيا، وإليه أشار: ((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)) ولا كذلك في مرابض الغنم. واختلف العلماء في أن النهي الوارد عن الصلاة في المواطن السبعة للتحريم أو للتنزيه، ثم القائلون بالتحريم اختلفوا في الصحة خلافاً مبنياً علي أن النهي هل يدل علي الفاسد؟ وفيه أربعة مذاهب: أحدها أنه يدل مطلقاً، وثإنيها أنه لا يدل مطلقاً، وثالثها الفرق بين ما ورد في العبادات، وبين ما ورد في المعاملات ونحوها، ورابعها الفرق بين ما إذا كان متعلق النهي نفس الفعل، وما يكون لازماً كصوم يوم العيد، والصلاة في الأوقات المكروهة، وبيع الربا، وبين ما لا يكن كذلك، كالصلاة في دار المغصوبة، والودي وأعطان الإبل، والبيع وقت النداء. الحديث الثالث والعشرون عن ابن عباس: قوله: ((زائرات القبور)) ((حس)): كان هذا قبل الترخيص، فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء. وقيل: بل نهي النساء عن زيارة القبور باق، لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور، والنهي عن الإسراج في القبور إنما

القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [740] 741 - وعن أبي أمامة، قال: إن حبراً من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال: ((أسكت حتى يجيء جبريل))، فسكت، وجاء جبريل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؛ ولكن أسأل ربي تبارك وتعالي. ثم قال جبريل: يا محمدا! إني دنوت من الله دنواً ما دنوت منه قط. قال: ((وكيف كان يا جبريل؟)) قال: بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها، وخير البقاع مساجدها. [741] ـــــــــــــــــــــــــــــ كان لتضييع المال، لأنه لا نفع فيه لأحد، ويحتمل أن يكون النهي للاحتزاز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتخاذ القبور مساجد. الحديث الرابع والعشرون عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((إن حبرا)) ((نه)): الخبر والحبر- بفتح الحاء وكسرها- العالم، وكان يقال لابن عباس الحبر والبحر لعلمه وسعته. قوله: ((سكت وقال: أسكت)) أي سكت وقال في نفسه: أسكت، لا أنه نطق به. وفيه أن من استفتى عن مسألة لم يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء عمن هو أعلم منه، ولا يتبادر إلي الاجتهاد ما لم يضطر إليه؛ فإن ذلك من سنة رسول الله وسنة جبريل صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف قرن المساجد بالأسواق؟ وكم من بقاع شر من الأسواق. قلت: ذهب في التقابل إلي معنى الإلهاء والاشتغال. وإن العز الديني يدفعه الأمر الدنيوي. ولا شك أن الأسواق معدن الإلهاء عن ذكر الله وما والاه. ألا ترى إلي أنه تعالي كيف وصف أولياءه الذين جعلوا المسجد مأواهم بقوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع- إلي قوله- رجال لا تلهيهم تجارة

الفصل الثالث 742 - عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله. ومن جاء لغير ذلك؛ فهو بمنزلة الرجل ينظر إلي متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [742] 743 - وعن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي علي الناس زمان ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} وقوله تعالي: {فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع} فعلي هذا قوله: ((شر البقاع أسواقها)) جاء مقرراً لما يعرف به خيرية المساجد، وبضدها تتبين الأشياء، كأنه قال: خير البقاع بقعة مخلصة لذكر الله، مسلمة عن الشوائب الدنيوية، فالجواب من الأسلوب الحكيم، حيث سئل عن الخير أجيب عنه بضده، وقدم الداء علي الدواء؛ والمرض علي الشفاء، لما عسى أن يبدر من المكلف شيء في بيت الشيطان فيتداركه في بيت الرحمن. ولا تظنن أن شأن المساجد وبناءها والاجتماع فيها للجماعات أمر هين. فإن مثل رأس الكرويين وسفير [المسلمين] لم يحصل له دنو مثل ذلك الدنو، وما ذلك إلا لتعظيم المساجد، {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يأت)) أي جاء مسجدي حال كونه غير آت إلا لخير. قوله: ((ومن جاء لغير ذلك)) يوهم أن الصلاة داخلة فيه، وليس كذلك؛ لأن أمر الصلاة مفروغ عنه، وأنها مستثناة من أصل الكلام، وقوله: ((بمنزلة الرجل)) فيه معنى التشبيه كأنه شبه حالة من أتى المسجد لغير الصلاة والتعلم بحالة من ينظر إلي متاع الغير بغير إذنه، ومع ذلك لم يقصد تملكه بوجه شرعي، فإن ذلك محظور وكذلك إتيان المسجد لغير ما بني له محظور، لاسيما مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب توقيره وتعظيمه إجلالاً وتبجيلاً لمكانة صاحبه صلى الله عليه وسلم ولا يدخله عبثاً، ولا ماراً، فكيف بغيرهما؟. الحديث الثاني عن الحسن رضي الله عنه: قوله: ((فليس لله فيهم حاجة)) كناية عن براءة الله (سبحانه وتعالي) عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله (سبحانه وتعالي) منزه عن الحاجة مطلقاً. وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم في ظلمه، حيث يضع الشيء في غير موضعه، وقد مر بيان المضاد بين المسجد والسوق، وما بنينا لأجله.

يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [743] 744 - وعن السائب بن يزيد، قال: كنت نائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب. فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما- أو من أين أنتما-؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رواه البخاري. 745 - وعن مالك، قال: بني عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلي هذه الرحبة. رواه في الموطأ. [745] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن السائب بن يزيد: قوله: ((فحصبني رجل)) ((نه)): أي رجمني بالحصاء، وهي الحجارة الصغار. ((مح)): يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره. قوله: ((لو كنتما من أهل المدينة لأوجتكما)) لما لم تكونا معذورين حينئذ. وقوله: ((ترفعان أصواتكما)) جملة مستأنفة للبيان. الحديث الرابع عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((رحبة)) ((المغرب)): الرحبة- بالفتح- الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته. قال أبو علي الدقاق: لا ينبغي للحائض أن تدخل رحبة مسجد الجماعة، متصلة كانت أو منفصلة. وتحريك الحاء أحسن. وأما في حديث علي (رضي الله عنه) وصف ضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحبة الكوفة فإنها دكان في وسط مسجد الكوفة، كان (رضي الله عنه) يقعد فيه ويعظ. قوله: ((أن يلغط)): اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه.

746 - وعن أنس، قال: رأي النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: ((إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه))، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه علي بعض، فقال: ((أو يفعل هكذا)) رواه البخاري. 747 - وعن السائب بن خلاد، - وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -، قال: إن رجلا أم قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه حين فرغ: ((لا يصلي لكم)). فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، وحسبت أنه قال: ((إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبو داود. [747] 748 - وعن معاذ بن جبل، قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نخامة)) ((نه)): وهي البزقة التي تخرج من أقصى الحلق، ومن مخرج الخاء المعجمة. وقوله: ((حتى رؤي في وجهه)) الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلي معنى قوله: ((شق ذلك عليه)) وهو الكراهة. قوله: ((وإن ربه بينه وبين القبلة)) ((حس)): معناه أنه يقصد ربه بالتوجه إلي القبلة، فيصير بالتقدير كأنه مقصود بينه وبين القبلة، فأمر أن يصان تلك الجهة عن البزاق. ((مح)): الأمر بالبصاق عن يساره وتحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، وأما في المسجد فلا يبصق إلا في ثوبه. الحديث السادس عن السائب بن خلاد رضي الله عنه: قوله: ((لا يصلي لكم)) وكان أصل الكلام لا تصل لهم، فعدل إلي النفي ليؤذن بأنه لا يصلي للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضاً في الإعراض عنه غضب شديد عليه، حيث لم يجعله محلاً للخطاب، وذلك لسوء أدبه بين يدي ربه. قوله: ((فذكر ذلك)) أي ذكر الرجل قولهم: إنك منعتني عن الإمامة، أكذا هو؟ فقال: نعم. وقوله: ((حسبت)) من كلام الراوي، حسبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بهذه الزيادة. الحديث السابع عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: قوله: ((نتراءى عين الشمس)) وضع ((نتراءى)) موضع ((نرى)) للجمع. قوله: ((فثوب)) ((نه)): التثويب ههنا إقامة الصلاة، والأصل فيه

صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: ((علي مصافكم كما أنتم))، ثم انفتل إلينا، ثم قال: ((أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب!. قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً)). قال: ((فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلي لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلي الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمى الدعاء تثويباً لذلك، وكل داع مثوب. قوله: ((تجوز في صلاته)) ((نه)): أي خفف وأسرع بها. وقوله: ((علي مصافكم)) أي اثبتوا عليها، وهي جمع مصف، وهو موضع الصف. ((وأسألك حبك)) يحتمل أن يكون أنني أسألك حبك إياي، أو حبي إياك، وعلي هذا يحمل قوله: ((وحب من يحبك)). وأما قوله: ((حب عمل يقربني إلي حبك)) فيدل علي أنه طالب لمحبة العمل، حتى يكون وسيلة إلي محبة الله تعالي إياه، فينبغي أن يحمل الحديث علي أقصى ما يمكن من المحبة في الطرفين، ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا. وقد أشبعنا القول في معنى الحديث في الفصل الثاني، ونقلنا هناك عن التوربشتي أنه قام: تلك الرؤيا كانت في المنام، واستشهد بالحديث الذي رواه الطبرإني، ويروى أيضاً عن الإمام أحمد بن حنبل: أنها كانت في اليقظة، حيث قال: ((فنعست في صلاتي حتى استيقظت)) وقد روينا في الحديث عن الإمام أحمد: ((فنعست في صلاتي حتى استثقلت)) فدل علي أنها كانت في المنام. قوله: ((النعاس)) النوم القليل، قال الله تعالي: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} والله أعلم. ((غب)) قوله: ((ثم تعلموها)) أي لتعلموها، فحذف اللام، وأنشد الدار الحديثي: قلت لبواب لديه دارنا تيذن فإني حموها وجارها

قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. ثم قال: سل، قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلي حبك)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث صحيح. 749 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل المسجد: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبو داود. [749] ـــــــــــــــــــــــــــــ أصله لتيذن، ولم يضطر إليه إذ يمكنه أن يقول: ايذن لي. لا يقال: أصله يتذن بالرفع، فأسكن ضرورة، إذ لو كان كذلك لقال: ((يئذن أنى)) بغير الفاء. قوله: ((هذا حديث حسن)) قال ابن الصلاح: فيه إشكال؛ لأن الحسن قار عن الصحيح، فالجمع بينهما في حديث واحد جمع بين المتافيين. وجوابه أن ذلك راجع إلي الإسناد، فإذا روي الحديث بإسنادين، أحدهما حسن، والآخر صحيح، استقام أن يقال فيه: إنه حسن صحيح. أو أراد بالحسن معناه الغوي، وهو ما يميل إليه النفس ولا يأباه. الحديث الثامن عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((فإذا قال ذلك)) الفاء دلت علي محذوف، أي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال المؤمن ذلك قال الشيطان)) إلي آخره. الحديث التاسع عن عطاء رضي الله عنه: قوله: ((لا تجعل قبري وثناً)) فيه تشبيه، أي لا تجعل قبري مثل الوثن المعبود في تعظيم الناس وعودهم للزيارة إليه بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد. وقوله: ((اشتد غضب الله)) استئناف، كأنه قيل: لم تدعو بهذا الدعاء وتتضرع فيه ويجعل قبرك كالوثن؟ فأجاب ترحماً علي أمته، وتعطفاً عليهم بقوله: ((أشتد غضب الله)) إلي آخره.

750 - وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلا. [750] 751 - وعن معاذ بن جبل، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان. قال بعض رواته:- يعني البساتين-: رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. 752 - وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) رواه ابن ماجه. [752] 753 - وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)). قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر والحادي والثاني عشر، عن أبي ذر (رضي الله عنه): قوله: ((ثم الأرض لك مسجد)) يعني سألت يا أبا ذر عن أماكن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها أيها أقدم زماناً، فأخبرتك بوضع المسجدين، وتقدمهما علي سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلي أمتي، من تسوية الجناح، وتسوية الأراضي في أداء العبادة فيها، كما ورد: ((جعلت لي الأرض مسجداً)) وطهوراً ولفظ الحديث موافق لقوله تعالي: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} والموضع غير، والبناء غير. ((الكشاف)): ((وضع للناس)) صفة البيت، والواضع

(8) باب الستر

قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عاماً؛ ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصل)). متفق عليه. (8) باب الستر الفصل الأول 754 - عن عمر بن أبي سلمة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملاً به، في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه علي عاتقيه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو الله (عز وجل) ويدل عليه قراءة من قرأ: ((وضع للناس)) تسمية الفاعل، وهو الله تعالي، ومعنى وضع الله جعله متعبداً. قال الإمام في التفسير الكبير: دلالة الآية علي الأولوية في الفضل والشرف أمر لابد منه؛ لأن المقصود الأول من ذكر الأولية بيان الفضيلة ترجيحاً له علي بيت المقدس، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا الفصل. وروي عن علي (رضي الله عنه) أنه سئل أهو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى، والرحمة، والبركة. علي أنهم ذكروا أن الكعبة إنما وضعت عند خلق السموات والأرض. روي في التفسير عن عبد الله بن عمرو ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر علي وجه الأرض عند خلق الأرض والسماء، وكانت زبدة بيضاء علي الماء، ثم دحيت الأرض تحته. ومن ثم سميت مكة أمة القرى. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله تعالي قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)) فيكون وضع بيت المقدس بهذا المعنى في علم الله تعالي أربعين سنة بعد المسجد الحرام، وإن كان بين البنائين مدة متطاولة، فعلي هذا يحمل بناء إبراهيم عليه السلام علي رفع ما انهدم من البيت، كما قال الله تعالي: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} وكذلك داود وسليمان (عليهما الصلاة والسلام) رفعا قاعدة بيت المقدم بعد ما انهدم أو زادا فيه. والله أعلم. باب الستر الفصل الأول الحديث الأول عن عمر بن أبي سلمة: قوله: ((مشتملاً به)) ((مح)): المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين طرفيه معناها واحد هنا. قال ابن السكيت: المتوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه علي منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرف الثوب الذي ألقاه علي الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدها علي صدره.

755 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس علي عاتقيه منه شيء)) متفق عليه. 756 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلي في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه)) رواه البخاري. 757 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلي أعلامها نظرة، فلما انصرف، قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلي أبي جهم، وأتوني بأنبجإنية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قال: ((كنت أنظر إلي علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن يفتنني)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ليس علي عاتقيه منه شيء)) ((مح)): قالت العلماء: حكمته أنه إذا تزين به ولم يكن علي عاتقه منه شيء لم يأمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه علي عاتقه، ولأنه قد يحتاج إلي إمساكه بيده أو يديه، فيشغل بذلك، ولا يتمكن من وضع اليد اليمنى علي اليسىرى، فتفوت السنة، والزينة المطلوبة في الصلاة، قال الله تعالي: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} ثم قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي (رضي الله عنه) والجمهور: هذا النهي للتنزيه، لا للتحريم، فلو صلي في ثوب واحد ساتر لعورته ليس علي عاتقه منه شيء صحت صلاته مع الكراهة. وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلي أنه لا تصح صلاته، عملاً بظاهر الحديث. الحديث الثالث والرابع، عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في خميصة)) ((نه)): الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة سوداء، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديماً. ((تو)): فعلي هذا قول عائشة (رضي الله عنها): ((لها أعلم)) علي وجه البيان والتأكيد. قوله: ((بأنبجإنية)) ((نه)): المحفوظ بكسر الباء، ويروي بفتحها، وهو منسوب إلي منبج المدينة المعروفة، وهي مكسورة الباء، ففتحت في النسب، وأبدلت الميم همزة. وقيل: إنه منسوب إلي

758 - وعن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أميطي عنها قرامك هذا، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)). رواه البخاري. 759 - وعن عقبة بن عامر، قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير، فلبسه ثم صلي فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له، ثم قال: ((لا ينبغي هذا للمتقين)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ موضع اسمه انبجان، وهو أشبه؛ لأن الأول فيه تعسف. وهو كساء يتخذ من الصوف، وهو خمل ولا علم له، وهو من أدون الثياب الغليظة، والهمزة فيها زائدة. ((خط)): إنها منسوبة إلي آذر بيجان، وقد حذفت بعض حروفها وعرب. قوله: ((آنفاً)) ((نه)): يقال: فعلت الشيء آنفاً، أي في أقل ما يقرب مني، وزاد في الفائق: من ائتناف الشيء، وهو ابتداؤه. ((قض)): قيل: أرسل إليه لأنه كان أهداها إياه فلما ألهاه علمها، أي شغله عن الصلاة بوقوع نظره إلي نقوش العلم وألوانه، وتفكره في أن مثل ذلك للرعونة التي تليق به- ردها إليه، واستبدل منه أنبجإنية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه. ((شف)): وفيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيراً ما في النفوس الطاهرة والقلوب الزكية. أقول: وفيه إشارة إلي كراهية الأعلام التي يتعاطاها الناس علي أردائهم، وقد نص عليها. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قرام)) ((نه)): وهو الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من الصوف ذي ألوان، وقيل: القرام الستر الرقيق وراء الستر الغليظ، ولذلك أضافه في حديث آخر، وقيل: قرام ستر. ((وأميطي)) من الإماطة، وهي التنحية، (تعرض لي)) أي يظهر لي نقوشه. الحديث السادس عن عقبة: قوله: ((فروج حرير)) ((نه)): هو القباء الذي شق من خلفه، قيل: الظاهر أن هذا كان قبل التحريم، فنزعه نزع الكاره؛ لما فيه من الرعونة، وذلك مثل ما بدا له في الخميصة. وقيل: كان بعده، وإنما لبسه استمالة لقلب من أهداه إليه، وهو المقوقس صاحب الإسكندرية، أو أكيدر صاحب دومة، أو غيرهما علي اختلاف فيه. أقول: يعلم من مفهوم قوله: ((لا ينبغي هذا للمتقين)) أن ذلك كان قبل التحريم؛ لأن المتقي وغيره في التحريم سواء.

الفصل الثاني 760 - عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله! إني رجل أصيد؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: ((نعم، وازرره ولو بشوكة)) رواه أبو داود، وروى النسائي نحوه. [760] 761 - وعن أبي هريرة، قال: بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهب فتوضأ))، فذهب وتوضأ، ثم جاء. فقال رجل: يا رسول الله! مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: ((إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)) ((رواه أبو داود. [761] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن سلمة رضي الله عنه: قوله: ((أصيد)) ((نه)): هكذا جاء في رواية، وهو الذي في علة لا يمكنه الالتفات معها، والمشهور أصيد من الاصطياد، والثاني أنسب لأن الاصطياد يطلب الخفة، وربما يمنعه الإزار من العدو خلف الصيد، ويدل عليه قول محيي السنة بعد هذا. قوله: ((نعم، وازرره)) أي صل فيه وازرره. ((حس)): هذا إذا كان جيب القميص واسعاً يظهر منه عورته فعليه أن يزر. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مسبل إزاره)) صفة بعد صفة لـ ((رجل)). قال ابن الأعرابي: المسبل الذي يطول ثوبه، ويرسله إلي الأرض، يفعل ذلك تبختراً واختيالاً. ((مظ)): يعني أن الله تعالي لا يقبل كمال صلاة رجل يطول ذيله. وإطالة الذيل عند الشافعي مكروهة، سواء كانت في الصلاة أو غيرها، ومالك يجوزها في الصلاة، ولا يجوزها في المشي؛ لظهور الخيلاء فيه، وليس كذلك في الصلاة. أقول: لعل السر في أمره بالتوضؤ- وهو طاهر- أن يتفكر الرجل في سبب ذلك الأمر، فيقف علي ما ارتكبه من شنعاء، وأن الله تعالي ببركة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطهارة الظاهر يطهر باطنه من التكبر والخيلاء؛ لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن؛ فعلي هذا ينبغي أن يعبر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن الله لا يقبل صلاة المتكبر المختال، فتأمل في طريق هذا التشبيه، ولطف هذا الإرشاد. ومنها ما روي عن عطية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب [خلق] من الشيطان وإن

762 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار)) رواه أبو داود، والترمذي. [762] 763 - وعن أم سلمة، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: ((إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)) رواه أبو داود، وذكر جماعة وقفوه علي أم سلمة. [763] 764 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه. رواه أبو داود، والترمذي. [764] ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) أخرجه أبو داود. ولعل الرجل كان بليغاً متنبهاً للرمزة فطهر ظاهره وباطنه، وإلا فلم يكن يقرره علي ما كان عليه. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حائض)) ((نه)): أي التي بلغت سن المحيض وجرى عليها القلم، حاضت أو لم تحض، ولم يرد في أيام حيضها، لأن الحائض لا صلاة عليها. ((حس)): فيه دليل علي أن رأسها عورة، فلو كشفتها في الصلاة فلا تصح صلاتها، هذا في الحرة، وأما في الأمة فتصح صلاتها مكشوفة الرأس، وعورتها ما بين سرتها وركبتها كالرجل. أقول- والله أعلم-: كان من حق الظاهر أن يقال: لا تقبل صلاة الحرة إلا بخمار، فكنى عنها بما يختص بها من الوصف، توهيناً لها بما يصدر عنها من كشف رأسها، كأنه قيل: غطى رأسك باذات المحيض، ومن ثم سمى الله تعالي المحيض بالأذى. الحديث الرابع عن أم سلمة: قوله: ((في درع)) ((نه)): درع المرأة: فميصها، والسبوغ الشمول والسعة. ((شف)): في الحديث دلالة علي أن ظهر قدميها عورة يجب سترها. ((حس)): قال الشافعي (رضي الله عنه): إذا انكشف شيء مما سوى الوجه واليدين فعليها الإعادة. قوله: ((وذكر)) أي ذكر أبو داود أو أحد من الرواة جماعة من المحدثين وقفوا هذا الحديث، وقصروا به علي أم سلمة. والموقوف عند الإطلاق ما روي عن الصحابي من قوله أو فعله.

765 - وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) رواه أبو داود. [765] 766 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأي ذلك القوم، ألقوا نعالهم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ((ما حملكم علي إلقائكم نعالكم؟)) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن جبريل أتإني فأخبرني أن فيهما قذراً. إذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر، فإن رأي في نعليه قذراً، فليمسحه، وليصل فيهما)) رواه أبو داود، والدارمي. [766] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن السدل)) ((فا)): هو إرسال الثوب من غير أن يضم جانبيه. ((نه)): هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك. ((قض)): السدل منهي عنه مطلقاً؛ لأنه من الخيلاء، وهو في الصلاة أشنع وأقبح. ((تو)): خص النهي بالمصلي لأن عادة العرب شد الإزار علي أوساطهم حال التردد، فإن انتهوا إلي المجالس والمساجد أرخوا العقد وأسبلوا الإزار حتى يصيب الأرض، فإن ذلك أروح لهم، وأسمح بقيامهم وقعودهم، فنهوا عنه في الصلاة؛ لأن المصلي يشغل بضبطه، ولا يأمن أن ينفصل عنه في انتقالاته، لاسيما عند القيام من القعود، فإنه ربما تتشبث فيه عند النهوض رجله فينفصل عنه، فيكون مصلياً في الثوب الواحد، وهو منهي عنه، وربما يضم إليه جوانب ثوبه، فتصدر عنه الحركات المتداركة، وقد شاهدت هذه الهيئة من أناس من أهل مكة يعتادونها. قوله: ((أن يغطي الرجل)) ((قض)): كانت العرب يتلثمون بالعمائم، فيغطون أفواههم، فنهوا عنه، لأنه يمنع حسن اهتمام القراءة، وتكميل السجود. ((حس)): إن عرض له التثاؤب جاز له أن يغطي فمه بثوبه ويده، لحديث ورد فيه. الحديث السادس، والسابع عن أبي سعيد: قوله: ((فوضعهما عن يساره)) صحت روايته بلفظ ((عن)) وفيه معنى التجاوز أي وضعهما بعيداً متجاوزاً عن يساره، ولذلك ألقى الأصحاب نعالهم تأسياً به صلى الله عليه وسلم. ((قض)): فيه دليل علي وجوب متابعته صلى الله عليه وسلم لأنه لما سألهم عن الحامل لهم علي الخلع أجابوا بالمتابعة، وقررهم علي ذلك. وذكر المخصص، علي أن المستصحب للنجاسة إذا جهل صحت صلاته، وهو قول قديم للشافعي (رضي الله عنه)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أعلمه جبريل

767 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم، فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه)). وفي رواية: ((أو ليصل فيهما)) رواه أبو داود، وروى ابن ماجه معناه. [767] الفصل الثالث 768 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته يصلي علي حصير يسجد عليه. قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحاً به. رواه مسلم. 769 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً. رواه أبو داود. [769] ـــــــــــــــــــــــــــــ خلع النعال ولم يستأنف، ومن يرى فساد الصلاة حمل القذر علي ما يستقذر عرفا كالمخاط، وعلي أن من تنجس نعله إذا دلك علي الأرض طهر، وجاز الصلاة فيه، وهو أيضاً قول قديم للشافعي؛ لقوله: ((فليمسحه وليصل فيهما)). ومن يرى خلافه أو بما ذكرناه. ((شف)): في إتيان جبريل عنده صلى الله عليه وسلم وإخباره إياه بما أخبره شدة الاعتناء به وبشأنه صلى الله عليه وسلم وأن عبادته صلى الله عليه وسلم لا تلهيه عن نزول جبريل صلى الله عليه وسلم. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فتكون)) نصب جواباً للنهي أي وضعه عن يساره مع وجود غيره سبب لأن يكون عن يمينه صاحبه، فعلي المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((يصلي علي حصير)) ((مح)): فيه دليل علي جواز الصلاة علي شيء يحول بينه وبين الأرض من ثوب وحصير، وصوف، وشعر، وغير ذلك، سواء نبت من الأرض أم لا قال القاضي عياض: الصالة علي الأرض أفضل من المذكور؛ لأن شرط الصلاة التواضع والخضوع إلا الحاجة، كحر، أو برد، أو نجاسة الأرض.

770 - وعن محمد بن المنكدر، قال صلي جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه، وثيابه موضوعة علي المشجب. فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليرإني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رواه البخاري. 771 - وعن أبي بن كعب، قال: الصلاة في الثوب الواحد سنة. كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا، فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك إذ كان في الثياب قلة؛ فأما إذا وسع الله، فالصلاة في الثوبين أزكى. رواه أحمد [771] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني، والثالث عن محمد: قوله: ((المشجب)) ((نه)): المشجب- بكسر الميم- عيدان تضم رءوسها وتفرج قوائمها، وتوضع عليها الثياب. قوله: ((تصلي)) همزة الإنكار محذوفة، أنكره إنكاراً بليغا، يعني مثل وقد صحبت النبي صلى الله عليه وسلم تصلي في إزار واحد، وثيابك موضوعة علي المشجب؟ فكأنك ما شعرت بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك زجره، وسماه أجمق، يعين كيف تنكر وتزعم إني خالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأينا كان له ثوبان علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((مح)): اجمعوا علي أن الصلاة في ثوبين أفضلـ فلو أوجبناه لعجز من لا يقدر عليهما، وفي ذلك حرج، قال الله تعالي: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد، ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت كان مع وجوده لبيان الجواز. الحديث الرابع عن أبي بن كعب: قوله: ((أزكى)) أي أطهر وأفضل؛ لأن الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالي، أو طهارة النفس عن الخصال الذميمة، وكلا المعنيين محتمل في الحديث، أما الفضل فظاهر، وأما التزكية فلأن المصلي لا يأمن إذا صلي في ثوب واحد م كشف عورته بهبوب ريح، أو حل العقدة، أو غيرهما، بخلاف الثوبين.

(9) باب السترة

(9) باب السترة الفصل الأول 772 - عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلي المصلي والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلي بين يديه، فيصلي إليها. رواه البخاري. 773 - وعن أبي جحيفة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدام، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمراً صلي إلي العنزة بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السترة السترة ما يستر به الشيء، والمراد هاهنا سجادة، أو عصا، أو غير ذلك مما يتميز به موضع السجود. ((مح)): وقال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه، واختلف فيه. قال أصحابنا: ينبغي له أن يدنو من السترة، ولا يزيد علي ثلاثة أزرع، فإن لم يجد عصا ونحوها جمع حجارة أو تراباً، وإلا فليبسط مصلي، وإلا فليخط خطا، وسترة الإمام سترة المأموم إلا أن يجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين الصف الثاني؛ لتقصير أهل الصف الثاني. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((العنزة)) ((نه)): هي مثل نصف الرمح، فيها سنان مثل سنان الرمح. الحديث الثاني عن أبي جحيفة: قوله: ((بالإبطح)) ((تو)): الأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والبطحاء اسم علم للمسيل الذي ينتهي إليه من وادي منى، وهو علي باب المعلي. قوله: ((تمسح به)) ((حس)): فيه دليل علي طهارة الماء المستعمل. ((الجوهري)): الحلة إزار ورداء، لا يسمى حلة حتى يكون ثوبين. ((نه)): وفي الحديث ((أنه رأي رجلاً عليه حلة قد اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر)) ((خط)): قد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر، وكره لهم الحمرة في اللباس، وكان ذلك منصرفاً إلي ما صبغ من الثياب بعد النسج، وأما ما صبغ غزله ثم نسج

774 - وعن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها. متفق عليه. وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلي آخرته. 775 - وعن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك)). رواه مسلم. 776 - وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه)). قال أبو النضر: لا أدري قال: ((أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فغير داخل في النهي؛ لأن مثل هذا يكون بعض ألوانه أحمر، وبعضه لوناً آخر، إلا أن يكون كله أحمر، وإنما نهي لأنه من لباس النساء. ((الجوهري)): فلان شمر إزاره تشميراً، رفعه، ويقال: شمر فلان عن ساقيه، وتشمر في أمره أي خف. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعرض)) ((تو)): يعني يعرض راحلته ينيخها بالعرض من القبلة، حتى تكون معترضة بينه وبين من مر بين يديه، من قولهم: عرض العود علي الإناء، والسيف علي فخذه، إذا وضعه بالعرض. قوله: ((أفرأيت إذا هبت)) أي قال نافع: علمت هذه الحالة عند وجود الراحلة، فأخبرني ما كان يفعل عند ذهابها إلي المرعى؟ فقال ابن عمر: كان يأخذ الرحل، وكان من عادتهم أنهم يحطون رحلها عند سرحها. قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاظ: هب فلان ثم قدم؛ أي سافر، وهبت الناقة في سيرها هبوباً وهبوباً، والركاب الإبل التي يسار عليها، الواحد راحة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع ركب. ((تو)) تعديل الشيء تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي قومته فاستقام. قوله: ((إلي آخرته)) ((تو)): هي التي يستند إليه الراكب. الحديث الرابع عن طلحة: قوله: ((مؤخرة الرحل)) ((مح)): المؤخرة- بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة-، ويقال: بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء، ومع إسكان الهمزة وتخفيف الخاء-، ويقال: آخره الرحل بهمزة ممدودة وكسر الخاء، فهذه أربع لغات. وهي العود الذي في آخر الرحل. الحديث الخامس عن أبي جهيم: قوله: ((بين يدي المصلي)) ظرف للمار، وقوله: ((ماذا عليه)) سد مسد المفعولين ليعلم. وقد علق عمله بالاستفهام.

777 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم إلي شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبي فليقاتله، فإنما هو شيطان)). هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه. 778 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل)). رواه مسلم. 779 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا معترضة بيه وبين القبلة كاعتراض الجنازة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا أدري)) ((تو)): عن الطحاوي في مشكل الآثار: إن المراد أربعون عاماً لا شهوراً وأياماً، واستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلم الذي يمر بين يدي أخيه معترضاً وهو يناجي ربه- عز وجل- لكان أن يقف مكانه مائة عام خيراً له من الخطوات التي خطاها)). الحديث السادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فليقاتله)) ((مح)): أي فليدفعه بالقهر، وليس معناه جواز قتله، بل المعنى المبالغة في كراهية المرور بين المصلي وبين السترة، وقال القاضي عياض: فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قود عليه باتفاق العلماء. وهل تجب الدية أم يكون هدرا؟ فيه مذهبان للعلماء. وهما قولان في مذهب مالك. قوله: ((فإنما هو شيطان)) ((خط)): معناه الشيطان يحمله عليه، أو هو شيطان لأن الشيطان هو المارد من الجن والإنس، وفي الحديث دليل علي أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يقطع الصلاة)) ((تو)): يحمل معنى قطع الصلاة بهذه الأشخاص علي قطعها المصلي عن مواطأة القلب واللسان في التلاوة، والذكر، والمحافظة علي ما يجب عليه محافظته ومراعاته. ((قض)): جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم علي أن صلاة المصلي لا يقطعها ما يمر بين يديه لأحاديث واردة فيه، وحملوا الحديث علي المبالغة في الحث علي نصب السترة، وأن مرور المار مما يشغل قلب المصلي، وذلك قد يؤدي إلي قطع الصلاة. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كاعتراض الجنازة)) جعلت رضي الله عنها نفسها بمنزلة الميت في الجنازة، دلالة علي أنه لم يوجد ما يمنع المصلي من حضور القلب، ومناجاة الرب، بسبب اعتراضي بين يديه، بل كنت كالسترة الموضوعة لدفع المار. هذا التأويل موافقة لما في الحديث السابق من تخصيص ذكر المرأة وقطعها صلاة الرجل، لما فيها ما يقتضي ميل الرجال إلي النساء. والله أعلم.

780 - وعن ابن عباس، قال: أقبلت راكباً علي أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الأحلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلي غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد. متفق عليه. الفصل الثاني 781 - عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صلي أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً. فإن لم يجد؛ فلينصب عصاه. فإن لم يكن معه عصى؛ فليخطط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [781] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ناهزت)) ((تو)): ناهز الصبي البلوغ إذا داناه. قوله: ((بمنى)) ((مح)): فيها لغتان: الصرف، والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها. وكتابها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء، أي يراق. قوله: ((إلي غير جدار)) [خط]: يعني إلي غير سترة، والغرض من الحديث أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، انتهي كلامه. فإن قلت: قوله: ((إلي غير جدار)) لا ينفي شيئاً غيره، فكيف فسره بالسترة؟ قلت: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم وعن عدم جدار، مع أنهم لم ينكروا عليه، وأنه مظنة إنكار- يدل علي حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك، من كون المرور مع السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى غير الجدار لم يكن لهذه الأخبار فائدة. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تلقاء)) ((الجوهري)): جلس تلقاء أي حذاءه، والتلقاء أيضاً مصدر مثل اللقاء. ((قض)): إذا وجد المصلي بناء أو شجراً أو نحو ذلك جعله تلقاء وجهه، وإن لم يجد فلينصب عصاه، وإلا فليخط بين يديه خطاً، حتى يتعين به فصلا فلا يتخطاه المار، وهو دليل علي جواز الاقتصار عليه، وهو قول قديم للشافعي. قال الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم: ما رواه أبو داود من حديث الخط فيه ضعف واضطراب، لأن نصب لسترة علامة ظاهرة لينظر إليه المار فينحرف، والخط ليس بظاهر. [الثاني ((سهل)):] قوله ((لا يقطع)) جواب للأمر. ((حس)): قالوا: يستحب أن يكون مقدار الدنو قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفين. قال عطاء: أدناه ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي وأحمد رضي الله عنهما.

782 - وعن سهر بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم إلي سترة، فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)). رواه أبو داود. [782] 783 - وعن المقداد بن الأسود، قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلي عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله علي حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً. رواه أبو داود [783] 784 - وعن الفضل بن عباس، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلي في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالي بذلك. رواه أبو داود. وللنسائي نحوه. [784] 785 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان)). رواه أبو داود. [785] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن المقداد: قوله: ((لا يصمد)) ((خط)): الصمد القصد، يقال: صمدت صمده، أي قصدت قصده. ((قض)): معناه أنه إذا كان يصلي إلي شيء منصوب بين يديه مما قصده قصداً مستوياً بحيث يستقبله بما بين عينيه، حذراً من أن يضاهي فعله عبادة الأصنام، بل يميل عنه. الحديث الرابع عن الفضل: قوله: ((تبعثان)) أي: تلعبان. ((مظ)): التاء في حمارة وكلبة يحتمل أن تكون للوحدة، وللتإنيث. الحديث الخامس عن أبي سعيد: قوله: ((لا يقطع الصلاة شيء)) يحتمل أن يراد به الدفع، المعنى لا يبطل الصلاة شيء من الدفع، فادفعوا المار بقدر استطاعتكم، حذف المار لدلالة السياق عليه، وأن يراد به المار والضمير المنصوب العائد محذوف. قيل: فيه دليل علي أن المرأة والكلب والحمار لا يقطع. وقيل يقطع للحديث السابق. وقيل تقطعها المرأة الحائض، والكلب الأسود، وبه قال ابن عباس. وقيل: لا يقطعها إلا الكلب الأسود، وبه قالت عائشة رضي الله عنها.

الفصل الثالث 786 - عن عائشة، قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته. فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيه مصابيح. متفق عليه. 787 - وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم أحدكم ماله في أن يمر بين يديه أخيه معترضاً في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)). رواه ابن ماجه. [787] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((غمزني)) ((نه)): هو العصر والكبس باليد، و ((غمزني)) جواب ((إذا))، ((فقبضت)) عطف عيله، وإذا نقل الفاء إلي ((غمزني)) كان الثاني هو الجواب. وفائدة نفي المصابيح اعتذاراً منها رضي الله عنها حيث جعلت رجليها في موضع سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قولها: ((فإذا قام بسطتهما)) فلتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها علي تلك الحالة. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما له)) أي ما له من الإثم، فحذف البيان وأطلق، ليدل الإبهام علي ما لا يقادر قدره من الإثم، وفي الحديث تقديم وتأخير، حيث نقل اللام من ((كان)) جواب لو إلي اسمه وهو ((أن يقيم)) وكذلك ((خير له)) خبر ((كان))، و ((أن يقيم)) الاسم؛ لأنه أوغل في التعريف فقلبه، حيث جعل الخبر اسماً، والاسم خبراً. ويعضد هذا التقدير الحديث الآتي، وذلك أنه أدخل اللام علي الجواب، أي ((كان))، ونصب ((خيراً له)) علي الخبر، فيكون ((أن يخسف)) اسمه. هذا وإن جواب لو في الحديثين ليس المذكور، بل ما دل عليه المذكور، إذ التقدير: لو يعلم المار ما عليه من الإثم لأقام مائة عام، وكانت الإقامة خيراً له، وكذا في الثاني: لو يعلم ما عليه من الإثم لتمنى الخسف به، وكان الخسف خيراً له. ويجوز أن يكون ((كان)) في الحديث الأول زائدة، مثل ما جاء في كلام العرب: ولدت فاطمة بنت الحرشب الكملة من بني قيس لم يوجد كان مثلهم. والتقدير لو يعلم أحدكم ما له ليعلم أن يقيم مائة عام خيراً له من الخطوة فأقام. والأوجه أن يقال: اسم ((كان)) ضمير عائد إلي ((أحدكم))، أو يقدر ضمير الشأن، والجملة

(10) باب صفة الصلاة

788 - وعن كعب الأحبار، قال: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان [أن] يخسف به خيراً من أن يمر بين يديه. وفي رواية: أهون عليه. رواه مالك. [788] 789 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم إلي غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة. وتجزئ عنه إذا مروا بين يديه علي قذفة بحجر)). رواه أبو داود. [789] (10) باب صفة الصلاة الفصل الأول 790 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]: أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلي، ثم جاء فسلم عليه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل)). فرجع فصلي، ثم جاء، فسلم. فقال: ((وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل)). فقال في الثالثة- أو في التي بعدها-: علمني يا رسول الله! فقال: ((إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القلة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ خبر ((كان))، واللام لام الابتداء المقارنة بالمبتدأ، المؤكدة بمضمون الجملة أو اللام التي يتلقى بها القسم، وهو أقرب. والله أعلم. الحديث الثالث والرابع ظاهران. باب صفة الصلاة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وعليك السلام))، قيل: عليك بلا واو يدل علي أن ما قاله بعينه مردود إليه خاصة، وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معه، والدخول فيما قال؛ لأن الواو تجمع بين الشيئين.

ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)). – وفي رواية أخرى: ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) – متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اقرأ بما تيسر)) أتى بالباء وليس في التنزيل الباء دلالة علي أن (اقرأ) يراد به الإطلاق، نحو: فلان يعطي ويمنع، أي أوجد القراءة باستعانة ما تيسر لك، كقوله تعالي: {وأصلح لي في ذريتي} أي أوقع الصلاح فيهم، و ((معك)) حال، و ((حتى)) في القرائن لغاية ما يتم به الركن، فدلت ((حتى)) علي أن الطمإنينة داخلة فيه، والمنصوب حال مؤكدة. ((حس)): أراد بـ ((ما تيسر معك من القرآن)) فاتحة الكتاب إذا كان يحسنها، ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالي في الهدي {فما استيسر من الهدي} والمراد منه شاة ببيان السنة، وفيه دليل علي وجوب القراءة في الركعات كلها، كما يجب الركوع والسجود. ((تو)): من ذهب إلي أن الطمإنينة في الهيئات المذكورة فريضة فتمسك بظاهر اللفظ، ومن ذهب إلي أنها سنة فإنه يؤوله بنفي الكمال، وأن الأمر بالإعادة إنما كان لتركه فرضاً من فروضها، فلما قال: ((علمني)) وصف له كيفية إقامة الصلاة علي نعت الكمال، ولذلك بدأ في تعليمه بالأمر بإسباغ الوضوء، ولم يأمر بالإعادة، ولو لم يكن علي طهر لقال: ارجع فتوضأ والجواب أن أمره صلى الله عليه وسلم بالرجوع والصلاة تم ترتبه علي قوله: ((فإنك لم تصل)) فإن المؤكدة وبناء الخبر علي اسم (إن) لإفادة التقوي في الحكم، وتكراره مرة بعد أخرى، ثم تعليمه إياه الهيئات المذكورة بتلك الصيغ البليغة هيئة بعد أخرى، دلالة علي الاعتناء بشأنها، وأن الكلام منصب إليها، فلا يحمله البليغ إلا علي الحقيقة؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة إذا لم يمنع مانع، لاسيما مع وجود القرائن الداعية إلي إثباتها، ومعاضدة الأحاديث الآتية لها، فلم يأت بشيء يخالفها، وسنبين في الحديث الثالث من الفصل الثالث من باب الركوع ما يحقق ذلك. ((الكشاف)): إذا كان الكلام منصباً إلي غرض من الأغراض جعل سياقة له، وتوجهه إليه، كأنما سواه مرفوض مطروح. وهذا أيضاً جواب عن قوله: وإنما كان لتركه فرضاً من فروضها، ثم قوله: وصف له كيفية إقامة الصلاة علي نعت الكمال. وأما قوله: بدأ في تعليمه بالأمر بإسباغ الوضوء إلي آخره فجوابه أنه صلى الله عليه وسلم عرف بنور معجزاته أنه ترك إسباغ الوضوء دون فرائضه، ولذلك لم يأمر بالإعادة، ثم الأمر باستقبال القبلة مع أنه كان مستقبلاً للأمر بالكمال.

791 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الحمد لله رب العالمين}. وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك الأمر بتكبيرة الإحرام وبقراءة ما تيسر من القرآن، فدلت علي أن المذكورات في الصلاة من جنسها في الفريضة كما يقتضيه علم المعإني والبعيد، علي أن كم للصلاة من فرائض وسنن وآداب لم يذكرها في الحديث، لما لم يكن غرض فيها. ((مح)): هذا الحديث محمول علي بيان الواجبات دون السنن. فإن قيل: لم يذكر فيه كل الواجبات من المجمع عليه، كالنية، والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة، والمختلف فيه كالتشهد الأول، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب أن الواجبات المجمع عليها كانت معلومات عند السائل، فلم يحتج إلي بيانها، وكذلك المختلف فيها، وفيه دليل علي وجوب الاعتدال من الركوع، والجلوس، ووجوب الطمإنينة في الركوع، والسجود والجلوس بين السجدتين، وهو مذهب الجمهور، ولم يوجبها أبو حنيفة وطائفة يسيرة، وهذا الحديث حجة عليهم، وليس عنه جواب صحيح، وأما الاعتدال فمن المشهور من مذهبنا أنه يجب الطمإنينة فهي كما يجب في الجلوس بين السجدتين، ووقف في إيجابها فيه بعض أصحابنا، واحتج هذا القائل بقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((ثم ارفع حتى تعتدل قائماً)) اكتفي بالاعتدال، ولم يذكر الطمإنينة كما ذكر في سائرها. ((تو)) فإن قيل: لم سكت عن تعليمه أولاً حتى افتقر إلي الرجعة كرة بعد أخرى؟ قلنا: إن الرحل لما رجع لإعادة الصلاة ولم يستكشف الحال من مورد الوحي والإلهام، ومصدر الشرائع والأحكام، كأنه اغتر بما عنده من العلم، فسكت صلى الله عليه وسلم عن تعليمه زجراً وتأديباً، وإرشاداً إلي استكشاف ما استبهم عليه بالسؤال، فلما رجع إلي السؤال، وطلب كشف الحال، أرشده إليه وبين ما استبهم عليه، والعلم عند الله. ((مح)): فيه الرفق بالمتعلم والجاهل، وملاطفته، وإيضاح المسألة له، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقه علي المهم، دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها، والقيام بها. وفيه استحباب السلام عند اللقاء وإن تكرر مع قرب العهد، ووجوب رده. وفيه أن من أخل ببعض واجبات الصلاة لا تصح صلاته، ولا يسمى مصلياً، بل يقال: لم يصل. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يستفتح الصلاة)) ((قض)): يبدؤها ويجعل التكبير فاتحها، و ((القراءة)) عطف علي ((الصلاة)) أي يبتدئ القراءة بسورة الفاتحة. فيقرؤها، ثم يقرأ السورة، وذلك لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح، فإنه لا يسمى في العرف قراءة، ولا يدل علي أن

ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً. وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسج حتى يستوي جالساً. وكان يقول في كل ركعتين التحية. وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى. وكان ينهي عن عقبة الشيطان، وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع. وكان يختم الصلاة بالتسليم. رواه مسلم. 792 - وعن أبي حميد الساعدي، قال في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ـــــــــــــــــــــــــــــ التسمية ليست من الفاتحة، إذ ليس المراد أنه كان يبتدئ القراءة بلفظ الحمد لله، بل المراد منه أن يبدأ بقراءة السورة مفتتحها الله كما يقال: قراءتي {قل هو الله أحد}. قوله: ((وكان إذا ركع لم يشخص رأسه)) أي لم يرفعه، من أشخصت كذا رفعته، وشخص شخوصاً إذا ارتفع. قوله: ((ولم يصوبه)) أي لم يرسله، وأصل الصوب النزول من أعلي نحو أسفل ولكن بين ذلك، أي يجعل رأسه بين التصويب والتشخيص بحيث يستوي ظهره وعنقه [كالصفحة] الواحدة، و ((بين)) وإن كان من حقه أن يضاف إلي شيئين فصاعداً إلا أن ((ذلك)) لما كان بمعنى شيئين من حيث وقع مشاراً به إلي مصدر الفعلين المذكورين- حسن إضافته كان بمعنى شيئين من حيث وقع مشارا به إلي مصدر الفعلين المذكورين- حسن إضافته إليه. ((وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً)) دليل علي وجوب الرفع، والاعتدال؛ لأن فعله في الصلاة دليل علي الوجوب ما لم يعارضه ما يدل علي أنه ندب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجب الاعتدال، ولا الرفع، بل لو انحط من الركوع إلي السجود جاز، وروى عن مالك وجوب الرفع وعدمه. قوله: ((وكان يقول في كل ركعتين: التحيات)) أي يتشهد في كل ركعتين، وسمي الذكر المعين تحية وتشهداً لاشتماله علي التحية والشهادة. قوله. ((وكان ينهي عن عقبة الشيطان)) أي الإقعاء في الجلسات وهو أن يضع إليته علي عقبيه. قوله: ((وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع)) أي أن يبسط ذراعيه كما تبسط السباع، ولا يقلبهما هويا إذا سجد، وتقييد النهي بالرجل يدل علي أن المرأة لا [تخوي]. الحديث الثالث عن أبي حميد: قوله: ((أمكن يديه)) ((المغرب)): يقال: مكنه من الشيء وأمكنه منه، أقدره عليه، ومنه الحديث: ((ثم أمكن يديه من ركبتيه)) أي مكنها من أحدهما والقبض عليهما. قوله: ((هصر ظهره)) ((نه)): أي ثناه إلي الأرض، وأصل الهصر أن يأخذ برأس العود فيثنيه إليه ويعطفه. والفقار مفاصل الصلب، واحدتها فقارة بالفتح.

أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه م ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس علي رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد علي مقعدته رواه البخاري. 793 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: ((سمع الله لمن حمده))، ربنا لك الحمد)). وكان لا يفعل ذلك في السجود. متفق عليه. 794 - وعن نافع: أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلي النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري. 795 - وعن مالك بن الحويرث، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده؛ فعل مثل ذلك. وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): اتفقت الأمة علي أن رفع اليد عند التحريم مسنون، واختلفوا في كيفيته، فذهب مالك والشافعي إلي أن يرفع المصلي يديه حيال منكبيه لهذا الحديث ونحوه، وقال أبو حنيفة: يرفعهما حذو أذنيه واختلفوا في كيفية الجلسات، قال أبو حنيفة: يجلس المصلي مفترشاً فيها جميعاً. وقال مالك: ((يتورك)): يجلس متوركاً فيها كلها، وقال الشافعي: يتورك في جلسة الأخير، ويفترش في الأول، كما رواه الساعدي في هذا الحديث، وألحق بالتشهد الأول الجلسات الفاصلة بين السجود؛ لأنها يعقبها انتقالات وهي من المفترش أيسر. الحديث الرابع، والخامس عن نافع: قوله: ((ورفع ذلك)) قال ابن الصلاح، المرفوع هو ما أضيف إلي النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من قول، أو فعل، أو تقرير، سواء كان متصلاً، أو منقطعاً. الحديث السادس عن مالك: قوله: ((فعل مثل ذلك)) أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما فعل عند التكبير. ((قض)) و ((مظ)): فرع الأذن أعلاها. وقال الشافعي: يرفع المصلي يديه عند تكبيرة

796 - وعنه، أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً. رواه البخاري. 797 - وعن وائل بن حجر: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى علي اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قال: ((سمع الله لمن حمده)) رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه)) رواه مسلم. 798 - وعن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى علي ذراعه اليسرى في الصلاة. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإحرام حذاء منكبيه، وقال أبو حنيفة: حذاء أذنيه. ذكر أن الشافعي حين دخل مصر سئل عن كيفية رفع اليدين عند التكبير، فقال: يرفع المصلي بحيث يكون كفاه حذاء منكبيه، وإبهاماه حذاء شحمتي أذنيه؛ لأنه جاء في رواية ((رفع اليدين إلي المنكبين))، وفي رواية ((إلي الأذنين)) وفي رواية ((إلي فروع الأذنين))، فعمل الشافعي بما ذكرناه في رفع اليدين جمعاً بين الروايات الثلاثاء الحديث السابع عن مالك: قوله: ((فإذا كان في وتر)) ((قض)): هذا دليل علي استحباب جلسة الاستراحة، والمراد بالوتر الأولي والثالثة من الرباعيات. الحديث الثامن عن وائل بن حجر: قوله: ((رفع يديه)) حال، أي نظرت النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه حين دخل في الصلاة. وقوله: ((كبر)) بالواو في بعض نسخ المصابيح عطفاً علي ((دخل))، وفي بعضها، وفي صحيح مسلم، وفي كتاب الحميدي، وفي جامع الأصول بغير واو مقيداً بلفظة كذا فوقه، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون حالا وقد مقدرة، وأن يراد بالدخول الشروع فيها، والعزم عليها بالقلب، فيوافق معنى العطف، ويلزم منه المواطأة بين الجارحة واللسان والقلب. قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولسإني والضمير المحجبا وثإنيهما أن يكون ((كبر)) بيانا لقوله: ((دخل في الصلاة))، ويراد بالدخول افتتاحها بالتكبير ونحوه في البيان نحو قوله تعالي: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك علي شجرة الخلد} أو بدلا منه؛ كقول الشاعر: أقول له: ارحل لا تقيمن عندنا- البيت- فعلي الأولي يلزم اقتران النية بالتكبير. الحديث التاسع عن سهل قوله: ((أن يضع الرجل)) في وضع الرجل موضع ضمير الناس تنبيه

799 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلي الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: ((سع الله لمن حمده)) حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا لك الحمد)) ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس. متفق عليه. 800 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة طول القنوت)). رواه مسلم. الفصل الثاني 801 - عن أبي حميد الساعدي، قال في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فاعرض قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلي ـــــــــــــــــــــــــــــ علي أن القائم بين يدي الملك الجبار ينبغي أن لا يهمل شريطة الأدب، بل يضع يده علي يده، ويطأطئ رأسه، كما يفعل بين يدي الملوك. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سمع الله)) ((نه)): أي أجاب حمد وتقبله. يقال: اسمع دعائي أي أجب؛ لأن الغرض السائل الإجابة والقبول. هوى يهوى هويا- بالفتح إذا هبط. وقوله: ((حتى يقضيها)) أي يتمها ويؤديها ((الأزهري)): القضاء في اللغة علي وجوه مرجعها إلي انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم، أو أتم، أو ختم، أو أدى، أو أوجب، أو أعلم، أو أنقذ، أو أمضى- فقد قضى. الحديث الحادي عشر عن جابر: قوله: ((طولت القنوت)) ((نه)): القنوت يرد لمعان متعددة، كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والقراءة والسكوت؛ فيصرف في كل واحد من هذه المعني إلي ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه. ((مظ)): تقدير هذا الحديث: أفضل الصلاة صلاة فيها طول القنوت، أي طول القيام والقراءة. ((شف)): المراد بالقنوت القيام، وفيه إضمار، أي ذات طول القيام. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي حميد: قوله: ((قال في عشرة)) أي أوقع قوله: ((أنا أعلمكم)) في عشرة من الصحابة، قوله: ((فاعرض)) الفاء في جواب الشرط المحذوف، أي إذا كنت أعلم منا فاعرض، ومن ثم لما عرض عليهم وفرغ منه قالوا: صدقت. ((تو)): رضت عليه أمر كذا، وعرضت له

الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه علي ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصبي رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: ((سمع الله لمن حمده)) ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: ((الله أكبر))، ثم يهوي إلي الأرض ساجداً، فيجافي يديه عن جنبيه، و [يفتح] أصابع رجليه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يسجد، ثم يقول: ((الله أكبر))، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم إلي موضع، ثم ينهض، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وقعد متوركاً علي شقه الأيسر، ثم سلم. قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي. رواه أبو داود، والدارمي، وروى الترمذي وابن ماجه معناه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [801]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيء، أظهرته وأبرزته إليه، أعرض- بالكسر لا غير-، وقوله: ((لا يصبى)) في الغريبين: صبى الرجل رأسه تصبية إذا خفضه جداً، وصبا الرجل إذا مال إلي الصبا ((نه)): وشدد للتكثير. وقال الأزهري: الصواب يصوب. قوله: ((ولا يقنع)) ((تو)): أي لا يرفع، يقال: أقنع رأسه إذا رفعه، ومنه قوله تعالي: {مهطعين مقنعي رؤوسهم}. ((ويفتخ)) - بالخاء المعجمة- ((نه)): أي نصبها، وغمز موضع المفاصل منها، وثناها إلي باطن الرجل، وأصل الفتح الكسر، ومنه قيل للعقاب: فتخاء؛ لأنها إذا انحطت كسرت جناحيها. قوله: ((ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه)) ((قض)) لم يذكر الشافعي رضي الله عنه رفع اليدين عند القيام إلي الركعة الأخرى؛ لأنه بني قوله علي حديث ابن شهاب عن سالم، وهو لم يتعرض له، لكن مذهبه إتباع السنة، فإذا ثبت لزم القوم به. قوله: ((ووتر يديه)) أي جعلهما كالوتر، من قولك: وترت القوس، وأوترتها، شبه يد الراكع إذا مدها قابضا علي ركبتيه بالقوس إذا وترت. قوله: ((فأمكن أنفه الأرض)) نصب الأرض بنزع

وفي رواية لأبي داود من حديث أبي حميد: ((ثم ركع فوضع يديه علي ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه، وفرج بين فخذيه غير حامل بطنه علي شيء من فخذيه حتى فرغ، ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، وأٌبل بصدر اليمنى علي قبلته، ووضع كفه اليمنى علي ركبته اليمنى، وكفه اليسرى علي ركبته اليسرى، وأشار بأصبعه- يعني السبابة- وفي أخرى له: وإذا قعد في الركعتين قعد علي بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلي الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. [801] 802 - وعن وائل بن حجر: أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم حين قام إلي الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى إبهاميه أذنيه، ثم كبر. رواه أبو داود. وفي رواية له: يرفع إبهاميه إلي شحمة أذنيه. [802] 803 - وعن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. رواه الترمذي وابن ماجه. [803] 804 - وعن رفاعة بن رافع، قال: جاء رجل فصلي في المسجد، ثم جاء فسلم علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل)) فقال: علمني يا رسول الله! كيف أصلي؟ قال: ((إذا توجهت إلي القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك علي ركبتيك ومكن ركوعك، وامدد ظهرك. فإذا رفع فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلي مفاصلها. فإذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الخافض، أي أقد أنفه وجبهته من الأرض. قوله: ((السبابة)) - ((الكشاف)):- السبابة فعالة من السبب، أي كانت عادة العرب عند السب والشتم الإشارة بالإصبع التي تلي الإبهام. وقوله: ((أفض بوركه اليسرى إلي الأرض)) أي مس بها لأن من الورك الأرض. ((الجوهري)): أفضى بيده إلي الأرض، إذا مسها ببطن راحته في سجوده. الحديث الثاني إلي الرابع، عن رفاعة: قوله: ((وما شاء الله أن نقرأ)) وضع ما شئت أن تقرأ

سجدت فمكن السجود. فإذا رفع فاجلس علي فخذك اليسرى. ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة حتى تطمئن)). هذا لفظ ((المصابيح)). ورواه أبو داود مع تغيير يسير، وروى الترمذي والنسائي معناه. وفي رواية للترمذي، قال: ((إذا قمت إلي الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد، فأقم فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره، وهلله ثم اركع. [804] 805 - وعن الفضل بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع وتضرع وتمسكن، ثم تقنع يديك- يقول: ترفعهما- إلي ربك مستقبلاً ببطونها وجهك، وتقول: يا رب! يارب! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا)). وفي رواية: ((فهو خداج)). رواه الترمذي. [805] ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن مشيئته بمشيئة الله، كما قال الله تعالي: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} قوله: ((مكن ركوعك)) أي من أعضائك أي تمم ركوعك جميع أعضائك متحنيا ثإنيا. وقوله: ((فمكن للسجود)) أي مكن بدنك للسجود، واللام في ((للسجود)) مثلها في قوله تعالي: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء}. الحديث الخامس عن الفضل بن عباس: قوله: ((مثنى مثنى)) ((مظ)): ركعتان ركعتان، فيسلم بعدهما، وهذا في النوافل عند الشافعي ليلاً كان أو نهاراً، وعند أبي حنيفة الأفضل أن يصلي أربعاً ليلاص كان أو نهاراً. قوله: ((تشهد)) إلي آخره ((تو)): وجدنا الرواية فيهن بالتنوين لا غير، وكثير ممن لا علم لهم بالرواية يسردونها علي لفظ الأمر ونراها تصحيفاً. أقول: ((الصلاة)) مبتدأ و ((مثنى مثن)) خبره، والأول تكرير، والثاني توكيد، ((وتشهد في كل ركعتين)) خبر بعد خبر كالبيان لقوله ((مثنى مثنى))، أي ذات تشهد في كل ركعتين، وكذا المعطوفان، ولو جعلت أوامر اختل النظم، وذهبت الطراوة والطلاوة. وأما قوله: ((ثم تقنع يديك)) فطعف علي محذوف، أي إذا فرغت منها فسلم، ثم ارفع يديك سائلاً حاجتك من قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، فوضع الخبري موضع الطلبي. فإن قلت: لو ذهبت إلي أنها أوامر، وعطفت أمراً علي أمر، وقطعت ((تشهد)) عن الجملة الأولي لاختلاف الخبر والطلب، لكانت لك مندوحة عن هذا التقدير. قلت: حينئذ

الفصل الثالث 806 - عن سعيد بن الحارث بن المعلي، قال: صلي لنا أبو سعيد الخدري، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع من الركعتين. قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 807 - وعن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة. فقلت لابن عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم رواه البخاري. 808 - وعن علي بن الحسين مرسلا، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته صلى الله عليه وسلم حتى لقي الله تعالي. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ خرج الكلام الفصيح إلي التعاظل في التركيب وهو مذموم، وذكر ابن الأثير أن توارد الأفعال وتتابعها تعاظل في التركيب وهو مذموم. ونقلنا عنه في التبيان شواهد. قوله: ((تمسكن)) ((نه)): هو من المسكين، مفعيل من السكون؛ لأنه يسكن إلي الناس، وزيادة الميم في الفعل شاذ ولم يروها سيبويه إلا في هذا، وفي تمدرع. قوله: ((فهو كذا وكذا)) كناية عن أن صلاته ناقصة غير تمام، يبين ذلك الرواية الأخرى. وقوله: ((فهو خداج)) ((فا)): الخداج مصدر خدجت الحامل إذا ألقت ولدها قبل وقت النتاج، فاستعير، والمعنى ذات نقصان، فحذف المضاف. ((نه)): وصفها بالمصدر نفسه مبالغة، كقوله: فإنما هي إقبال وإدبار. الفصل الثالث الحديث الأول عن عكرمة: قوله: ((ثنتين وعشرين)) هذا العدد إنما يكون في الصلاة الرباعية، كالظهر بإضافة تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول. قوله: ((ثكلتك أمك)) قد سبق أنها كلمة تعجب، وظاهرها دعاء عليه، وقد يذكر في موضع المدح، والذم، وههنا محمول علي الذم، وعلي هلاكه، رداً لقوله: إنه أحمق، أي: أتقول في حق من اقتفي سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم: إنه أحمق؟ [وقد طبق ذكر الكنية هنا مفصل البلاغة ومحرزها]. وعكرمة هذا مولي ابن عباس. و ((سنة)) خبر مبتدأ محذوف، أي الخصلة التي أنكرتها منه هي سنة أبي القاسم. الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فلم تزل تلك صلاته)) يحتمل أن يكون اسم ((لم يزل)) مستكنا عائداً إلي النبي صلى الله عليه وسلم والجملة الإسمية خبرها، وأن يكون ((تلك)) اسمها، و ((صلاته)) خبرها إذا رويت منصوبة، وبالعكس إذا كانت مرفوعة.

(11) باب ما يقرأ بعد التكبير

809 - وعن علقمة، قال: قال لنا ابن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلي، ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة مع تكبيرة الافتتاح. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. وقال أبو داود: ليس هو بصحيح علي هذا المعنى. [809] / 810 - وعن أبي حميد الساعدي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلي الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه، وقال: ((الله أكبر)). رواه ابن ماجه. [810] 811 - وعن أبي هريرة، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، وفي مؤخر الصفوف رجل، فأساء الصلاة، فلما سلم ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان! ألا تقي الله؟! ألا ترى كيف تصلي؟! إنكم ترون أنه يخفي علي شيء مما تصنعون، والله إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) رواه أحمد. [811] (11) باب ما يقرأ بعد التكبير الفصل الأول 812 - عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة. فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إسكاتك بين التكبير وبين ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأساء الصلاة)) الفاء فيه سببيه، يعني تأخره كان سبباً لإساءة الصلاة، ولهذا عنفه صلى الله عليه وسلم بقوله: إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) قوله: ((ترون)) أ] تظنون، هو فعل ما لم يسم فاعله من رأيت بمعنى ظننت، وهو يتعدى إلي مفعولين، تقول: رأيت زيداً عاقلاً. فإذا بنيته لما لم يسم فاعله تعدى إلي مفعول واحد، وفي الحديث إشارة إلي أنه صلى الله عليه وسلم مع استغراقه في عالم الغيب لم يكن يخفي عليه شيء في عالم الشهادة. باب ما يقرأ بعد التكبير الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم باعد)) أخرجه إلي صيغة المفاعلة للمبالغة، فالخطايا إما أن يريد بها السابقة، أو اللاحقة، فإن أريد بها الثانية كان معناه: إذا قدر

القراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)). متفق عليه. 813 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلي الصلاة- وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاة- كبر. ثم قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ـــــــــــــــــــــــــــــ لي ذنب وخطيئة فباعد بيني وبينه، وإن أريد بها الأولي كان معناه المحو والغفران، وإليه الإشارة بقوله: ((واغسل خطاياي بالماء والثلج)). قوله: ((إسكاته)) ((حس)): الإسكات إفعال من السكوت، لا يراد به ترك الكلام، بل رفع الصوت؛ لقوله: ((ما تقول في إسكاتك)) بالنصب مفعول فعل، أي أسألك إسكاتك ما تقول فيه؟ أو في إسكاتك ما تقول؟ فنصب علي نزل الخافض. قوله: ((بأبي أنت)) ((نه)): الباء متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم، فيكون ما بعده مرفوعاً، تقديره أنت مفدي بأبي وأمي. وقيل: هو فعل، وما بعده منصوب، أي فديتك بأبي وأمي، وحذف هذا المقدر تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب به. قوله: ((بالماء والثلج والبرد)) ((تو)): ذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء، التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، تبياناً لأنواع المغفرة التي لا مخلص من الذنوب إلا بها، أي طهرني من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأنجاس والأوزار، ورفع الجنابة والأحداث. أقول: ويمكن أن يقال: ذكر الثلج والبرد بعد الماء المطلوب منهما شمول أنواع الرحمة بعد المغفرة لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحراة، لأن عذاب النار تقابله الرحمة، ونظيره قوله: برد الله مضجعه، أي رحمه ووقاه عذاب النار. وقولهم: برد الله عين بنيه، أي سره، وسخن الله عين عدوك، أي أحزنه. فعلي هذا التقدير يكون التركيب من باب قوله: متقلداً سيفاً ورمحاً. أي اغسل خطاياي بالماء، أي اغفرها، وزد علي الغفران شمول الرحمة، ثم طلب المباعدة بينه وبين الخطايا، ثم طلب تنقية ما عسى أن يبقى شيء من تلك الخطايا تنقية تامة، ثم سأل ثالثا بعد الغفران غاية الرحمة تحلية بعد التحلية، فيكون هذا التأويل أجمع. والله أعلم. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وجهت وجهي)) ((قض)): أي توجهت بالعبادة، بمعنى أخلصت عبادتي له، ((فطر السموات والأرض)) أي خلقها من غير مثال سبق ((حنيفاً)) مائلاً عن الأديان الباطلة، والآراء الزائغة- من الحنف وهو الميل، و ((نسكي))

رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)). وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي)). فإذا رفع رأسه قال: ((اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد)). وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)). ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)). رواه مسلم. وفي رواية للشافعي: ((والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، أنا بك وإليك، لا منجي منك ولا ملجأ إلا إليك، تباركت)) ـــــــــــــــــــــــــــــ عبادتي. وقيل: ديني ومحياي ومماتي، أي حياتي وموتي له أي هو خالقهما- ومدبرهما. ((وسبحان)) علم للتسبيح، ولا يستعمل إلا منصوباً علي المصدر، ومعنى ((سبحانك)) نزهتك تنزيهاً، و ((لبيك)) مصدر مثنى، من: ألب علي كذا، أي أقام، والمعنى أدوم علي طاعتك دواماً بعد دوام، و ((سعديك)) لا يكاد يستعمل إلا مع لبيك، والمعنى ساعدت طاعتك يارب مساعدة بعد مساعدة. ((والخير كله بيديك)) أي الكل عندك كالشيء الموثوق به المقبوض عليه، يجري مجرى قضائك وقدرك، لا يدرك من غيرك ما لم تسبق به كلمتك، والشر لا يتقرب به إليك، أو لا يضاف إليك بل إلي ما اقترفته أيدي الناس من المعاصي، أو ليس إليك قضاؤه، فإنك لا تقضي الشر من حيث هو شر، بل لما يصحبه من الفوائد الراجحة، فالمقتضي بالذات هو الخير، والشر داخل تحت القضاء.

814 - وعن أنس: أن رجلاً جاء فدخل الصف، وقد حفزه النفس، فقال الله أكبر، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ((أيكم المتكلم بالكلمات؟)) فأرم القوم. فقال: ((أيكم المتكلم بالكلمات؟)) فأرم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((أنا بك)) أي أعتمد وألوذ إليك أي أتوجه وألتجئ، ((تباركت)) تعاظمت وتمجدت، أو جئت بالبركة. وأصل الكلمة الدوام والثبات، ولا تستعمل هذه الكلمة إلا لله تعالي. و ((تعاليت)) عما تتوهمه الأوهام، وتتصوره العقول، ((ولا منجا إلا إليك)) لا مهرب ولا مخلص ولا ملاذ لمن طالبته إلا إليك. و ((منجا)) مقصور ولا يجوز أن يمد، ولا أن يهمز والأصل في الملجأ الهمزة، ومنهم من يلين همزته [ليزاوج] منجا. قال صاحب النهاية في قوله: ((والشر ليس إليك)): هذا الكلام إرشاد إلي استعمال الأدب في الثناء علي الله تعالي أن يضاف إليه محاسن الأشياء دون مساوئها، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته، ومنه قوله تعالي: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. قوله: ((لا إله إلا أنت)) إثبات للإلهية المطلقة لله تعالي علي سبيل الحصر، بعد إثبات الملك له. كذلك في قوله: ((أنت الملك))؛ لما دل عليه تعريف الخبر باللام، ترقيا من الأدنى إلي الأعلي، طبق قوله تعالي: {ملك الناس إله الناس}. وإنما أخر الربوبية في قوله: ((أنت ربي)) لتخصيص الصفة وتقييدها بالإضافة إلي نفسه، وإخراجها عن الإطلاق. وقوله: ((واعترفت بذنبي)) حال مؤكدة مقررة. لمضمون الجملة السابقة. ((وأنا بك وإليك)) أي بك وجدت، وإليك أنتهي، أي أنت المبتدأ والمنتهي. قوله: ((بعد)) أي ذلك، صفة لـ ((شيء)) ((مظ)): أي بعد السموات والأرض، أي لك من الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء غيرهما مما شئت. ((ما قدمت وما أخرت)) أي جميع ما فرط مني. قوله: ((أنت المقدم)) ((مظ)): أنت توفق بعض العباد للطاعات، ((وأنت المؤخر)) أي تخذل بعضهم عن النصرة والتوفيق، أو المعنى أنت الرافع والخافض، والمعز والمذل. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حفزه)) ((تو)): أي اشتد به، والحفز تحريك الشيء من خلفه، يريد النفس الشديد المتتابع، كأنه يحفزه، أي يدفعه من السباق إلي الصلاة. قوله: ((فأرم)) ((مح)): هو بفتح الراء وتشديد الميم، أي سكتوا. قال القاضي عياض: قد روى في غير صحيح مسلم بالزاي المفتوحة وتخفيف الميم من الأزم، وهو الإمساك وهو صحيح معنى.

القوم. فقال: ((أيكم المتكلم بها؟ فإنه! لم يقل بأساً)). فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها. فقال: ((لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها، أيهم يرفعها)). رواه مسلم. الفصل الثاني 815 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله إذا افتتح الصلاة قال: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك)). رواه الترمذي، وأبو داود. [815] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لم يقل بأساً)) يجوز أن يكون مفعولاً به ي لم يتفوه بما يؤخذ عليه، أو مفعولا مطلقاً، أي ما قال قولا نشدد عليه و ((أيهم يرفعها)) مبتدأ وخبر في موضع نصب، أي يبتدرونها ويستعجلون أيهم يرفعها، نحو قوله تعالي: {يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} قال أبو البقاء: أيهم يكفل مبتدأ وخبر في موضع نصب، أي يقترعون أيهم، فالعامل فيه ما دل عليه ((يلقون)). ((قض)): و ((حمداً)) نصب بفعل مضمر دل عليه الحمد، ويحتمل أن يكون بدلاً عنه جارياً علي محله، و ((طيبا)) وصف له، أي خالصاً عن الرياء والشبهة ((مباركاً)) يقتضي بركة وخيراً كثيراً، تتراداف أرفاده، وتتضاعف أمداده. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وبحمدك)) ((خط)): أخبرني ابن الخلاد قال: سألت الزجاج عن الواو في قوله: ((وبحمدك)) قال: معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك. ((تو)): المعنى أنزهتك يا رب من كل سوء، وبحمد سبحتك، ووفقت لذلك. ونصب ((سبحانك)) علي المصدر، أي سبحتك تسبيحاً، فوضع ((سبحانك)) في موضع التسبيح، أقول: قول الرجاج يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون الواو للحال، وثإنيهما أن يكون عطف جملة فعلية علي مثلها، إذ التقدير: أنزهك تنزيهاً، وأسبحك تسبيحاً مقيداً بشكرك، وعلي التقديرين ((اللهم)) معترضة، والجار والمجرور- أعني بحمدك- إما متصل بفعل مقدر والباء سببية، أو حال من فاعل، أو صفة لمصدر محذوف، كقوله تعالي: {ونحن نسبح بحمدك} أي نسبح بالثناء عليك، أو نسبح متلبسين بشكرك، أو نسبح تسبيحاً مقيداً بشكرك. المعنى: لولا الحمد لم يصدر الفعل. إذ كل حمد من المكلف يستجلب نعمة متجددة، ويستصحب توفيقاً إلهيا. ومنه قول داود عليه الصلاة والسلام: ((يارب كيف أقدر أن أشكرك؟ وأن الا أصل إلي شكر نعمتك إلا بنعمتك. وأنشد:

816 - ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من [حديث] حارثة، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن [طالت] الأيام واتسع العمر فإن مس بالمنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء عقبها الأجر قوله: ((تبارك اسمك)) ((تو)): هو (تفاعل) من البركة، وهي الكثرة والاتساع، وتبارك أي [بارك] مثل قاتل، إلا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى، ومعناه: تعالي وتعظم، وكثرت بركاته في السموات والأرض؛ إذ به تقوم وبه تستنزل الخيرات، وفي كتاب الله تعالي: {فتبارك الله أحسن الخالقين} {تبارك الذي نزل الفرقان} {تبارك الذي بيده الملك} وكل ذلك تنبيه علي اختصاصه سبحانه بالخيرات الإبداعية، والبركات المتوالية، وفيه: ((وتعالي جدك)) أي عظمتك. ومنه قول أنس رضي الله عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، أي عظم. وهذا الحديث نجده في كتاب المصابيح، وقد رماه المؤلف بالضعف، وليس الأمر علي ما توهمه، إذ هو حديث حسن مشهور أخذ به من الخلفاء الراشدين عم رضي الله عنه. والحديث مخرج في كتاب مسلم عن عمر رضي الله عنه، وقد أخذ به عبد الله بن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، ولم يكن هؤلاء السادة ليأخذوا بذلك من غير أسوة. ولهذا ذهب إليه كثير من علماء التابعين، واختاره أبو حنيفة وغيره من العلماء رحمهم الله لاستفتاح الصلاة. وإني ينسب هذا الحديث إلي الضعف! وقد ذهب إليه الأجلة من علماء الحديث كسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهوية وغيرهم. فالظاهر أن هذا اللفظ أعني: ضعيف، يريد من بعض الناس، وإن يك من قبل المؤلف فأراه إنما دخل عليه الداخل من كتاب أبي عيسى؛ لأنه روى هذا الحديث في جامعة بإسناده عن أبي سعيد الخدري مع زيادة علي حديث عائشة رضي الله عنها ولفظ حديثه: أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلي الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه)) ثم قال أبو عيسى: كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي. قلت: وعلي بن علي الرفاعي هو الراوي عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد.

817 - وعن جبير بن مطعم، أنه رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال: ((الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا)) ثلاثاً، ((أعوذ بالله من الشيطان، من ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال أبو عيسى: وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث. ثم روى أبو عيسى بعد ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عن الحسن بن عرفة، عن أبي معونة، عن حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال: هذا حديث لا نعرفه من هذا الوجه، وحارثة قد تكلم فيه من قبل حفظه، فظن المؤلف أن هذا الكلام من أبي عيسى طعن في متن هذا الحديث، وليس الأمر علي ما ظن؛ فإن الذي ذكره أبو عيسى في علي الرفاعي في إسناد حديث أبي سعيد لا يكون حجة علي ضعف هذا الحديث؛ لأن سياق حديث أبي سعيد غير سياق حديث عائشة علي ما بينا، ألا ترى أنه قال: وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث، وأحمد قد انتهي إليه حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد موثوق به، فأخذ به كما ذكرنا عن مذهبه. وأما ما ذكره الترمذي من أمر حارثة بن أبي الرجال فإنه قد تكلم في إسناد الحديث من الوجه الذي ذكره، ولم يقل: إن إسناده مدخول فيه من سائر الوجوه، مع أن الجرح والتعديل يقع في حق أقوام علي وجه الاختلاف، وربما ضعف الراوي من قبل أحد الأئمة ووثق من قبل آخرين، وهذا الحديث رواه الأعلام من أئمة الحديث، وأخذوا به، ورواه داود في جامعة عن [حسين بن عيسى]، عن طلق بن غنام، وعن عبد السلام بن [حرب الملائي]، عن [بديل] بن ميسرة، عن أبي [الجوزاء]، عن عائشة رضي الله عنها. وهذا إسناد حسن، رجاله مرضيون، فعلمنا أن أبا عيسى لم يرم هذا الحديث بالضعف علي الإطلاق، وإنما تكلم في الإسناد الذي أورده. ثم إني لم أشبع القول في بيان ذلك إلا حذراً من أن يتسارع إليه طالب علم بالطعن إلي هذا الحديث من غير روية وبصيرة، اتكالاً علي ما يجده في كتاب المصابيح، فيتأثم به، وأعوذ بالله أن أنصر عصبية، أو أدعو إلي عصبية، والله حسبي علي ذلك. قوله: ((وقد تكلم فيه من قبل حفظه)). قال ابن الصلاح: أجمع جماهير أئمة العلم بالحديث والفقه والأصول علي أنه يشترط فيمن يحتج بحديثه العدالة والضبط، والعدالة معروفة، وأما الضبط فأن يكون متيقظاً حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابة إن حدث منه عارفاً لما يختل به المعنى إن روى به. الحديث الثاني عن جبير: قوله: ((الله أكبر كبيراً)) حال مؤكدة، نحو: هو عبد الله شجاعاً، وزيد أبوك عطوفا. قوله: ((بكرة وأصيلا)) ((مظ)): خصا بالذكر لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما. وأقول: الأظهر أن يقال: يراد بهما الدوام، كما في قوله تعالي: {لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أراد دوام الرزق ووروده.

نفخه ونفثه وهمزه)). رواه أبو داود، وابن ماجه؛ إلا أنه لم يذكر: ((والحمد لله كثيرا))، وذكرا في آخره: ((من الشيطان الرجيم)). وقال عمر رضي الله عنه: نفخه الكير، ونفثه الشعير، وهمزه الموتة. 818 - وعن سمرة بن جندب: أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فصدقه إبي ابن كعب. رواه أبو داود. وروى الترمذي، وابن ماجه، والدارمي نحوه. [818] 819 - وعن ابن هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ (الحمد لله رب العالمين)، ولم يسكت. هكذا في ((صحيح مسلم))، وذكره الحميدي في أفراده. وكذا صاحب ((الجامع)) عن مسلم وحده. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الموتة)) - بالضم وفتح التاء المنقوطة فوقها نقطتان- ضرب من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ((تو)): النفخ كناية عن الكبر، كأن الشيطان ينفخ بالوسوسة، فيعظمه في عينه، ويحقر الناس عنده، والنفث عبارة عن الشعر؛ لأنه ينفثه الإنسان من فيه كالرقية. قال: إن كان هذا التفسير من متين الحديث فلا معدل عنه، وإن كان من بعض الرواة فالأنسب أن يراد بالنفث السحر؛ فإنه أشبه لقوله تعالي: {ومن شر النفاثات في العقد} وأن يراد بالهمز الوسوسة، لقوله تعالي: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}، وهمزات الشياطين خطراتها، وهي جمع الهمزة من الهمز، وفسرت الآية بأن الشياطين يحثون أولياءهم علي المعاصي، ويغرونهم عليها، كما يهمز الركضة الدواب المهماز حثا لها علي المشي. قال أبو عبيدة: والموتة الجنون، سماها همزا لأنه جعل من النخص والهمز، وكل شيء دفعته فقد همزته. قوله: ((سكتتين)) ((مظ)): السكتة الثانية عند الشافعي وأحمد رضي الله عنهما كالسكتة الأولي، ومكروهة عند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((استفتح القراءة بالحمد لله)) ليس لقائل أن يقول: هذا يدل أن البسملة ليست من الفاتحة، لأنا نقول: المراد منه السورة ليتميز عن سائرها؛ كما يقال: قرأت ((سورة أنزلناها))، سورة {لم يكن}.

(12) باب القراءة في الصلاة

الفصل الثالث 820 - عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: ((إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال، وسيء الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت)). رواه النسائي. [820] (12) باب القراءة في الصلاة الفصل الأول 822 - عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول الثاني عن محمد بن مسلمة: قوله: ((وأنا أول المسلمين)) هذا لفظ التنزيل حكاية عن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام قيل: إنما قال: أول المسلمين لأن إسلام كل نبي مقدم علي إسلام أمته، وقد ورد هذا الاستفتاح في الحديث الثاني من الفصل الأول، وذكر فيه: ((وأنا من المسلمين)) وهو الظاهر علي الحكاية أي أنا أول المسلمين، فيندرج فيه القائل في حكم نبيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم. باب القراءة في الصلاة الفصل الأول الحديث الأول عن عبادة: قوله: ((لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) سميت فاتحة لأنها فتح بها كتاب الله المجيد، وتفتتح بها الصلاة، وعدى القراءة بالباء وهي متعدية بنفسها علي معنى لم يبدأ القراءة إلا بها. ((شف)): في هذين الحديثين والذي بعدهما دلالة علي وجوب قراءة الفاتحة علي من يقدر عليها.

وفي رواية لمسلم: ((لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً)). 823 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج- ثلاثاً- غير تمام)). فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. قال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالي؛ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: ـــــــــــــــــــــــــــــ ولقائل أن يقول؛ ((فصاعدا)) يدفعه؛ لأن الزائد علي الفاتحة ليس بواجب. قال في النهاية: معنى ((فصاعداً)) فما زاد عليها، كقوله: اشتريته بدرهم فصاعداً، وهو منصوب علي الحال، تقديره فزاد الثمن صاعداً. وقال المظهر: تقدير كون صاعداً حالا أن يقال تقديره: لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط، أو بأم القرآن في حال كون قراءته صاعداً، أي زاد علي أم القرآن. والجواب أن يقال: إن القائلين بوجوب القرآن في الصلاة اختلفوا في ن الفاتحة متعينة أم لا، لكن لم يقل أحد: إن الفاتحة مع غيرها واجبة. فدل هذا الحديث علي وجوب الفاتحة، لا علي الفضل، كأنه قيل: الفاتحة واجبة في حال كونها مقرونة بشيء مما هو غير واجب. ((الكشاف)): في قوله تعالي: {وأتموا الحج والعمرة لله}: الدليل الذي ذكرنا أخرج العمرة من صفة الوجوب، فبقي الحج وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، في أنك تأمره بفرض وتطوع. هذه المسألة مبنية علي أن ملطق الأمر للوجوب إلا ما خصه الدليل. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلاة)) التنكير فيه إن أريد به البعضية كالظهر والعصر وغيرهما كان مفعولا به؛ لأن الصلاة حينئذ تكون اسماً لتلك الهيئات المخصوصة، والفعل واقعاً عليها، وإن أريد الجنس يحتمل أن يكون معفولاً به، وأن يكون مفعولاً مطلقاً. قوله: ((أم القرآن)) ((حس)): سميت الفاتحة بأم القرآن لأنها أوله وأصله، وبه سميت مكة أم القرى؛ لأنها أول الأرض وأصلها، ومنها دحيت. قوله: ((خداج)) ((تو)): أي ناقصة، يقول العرب: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق. وهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، والمعنى فهي مخدجة ذات خداج. أقول: إن شرح هذا الحديث معضل وتطبيقه علي معنى السورة أعضل، ولذلك تكلم فيه العلماء، واختلفوا اختلافاً متبايناً، فلابد من إيراده.

(الحمد لله رب العالمي)؛ قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله تعالي: أنثى علي عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين)، قال: مجدني عبدي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): التمجيد الثناء بصفات الجلال. ووجه مطابقته لقوله تعالي: ((مالك يوم الدين)) هو أنه تضمن أن الله تعالي هو المنفرد بالملك فيه كما في الدنيا، وفي هذا الاعتراف من التعظيم والتفويض للأمر ما لا يخفي. وقال العلماء: المراد بالصلاة في قوله: ((قسمت الصلاة)) الفاتحة، سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها، كقوله: ((الحج عرفة)) وفيه دليل علي وجوبها بعينها في الصلاة. وفحوى ما قاله التوربشتي في هذا المقام هو أنه قد عرف أن المراد من لفظ الصلاة بما أردفه من التفسير والتفضيل أنها الفاتحة. وقال أيضاً: إن التنصيف منصرف إلي آيات السورة، وذلك أنها سبع آيات، فثلث منها ثناء، وثلث مسألة، والآية المتوسطة بين آيات الثناء وآيات المسألة نصفها ثناء ونصفها دعاء. فإذا ليست البسملة آية من الفاتحة. وقال الشيخ محيي الدين: هذا قول واضح، وأجاب الأصحاب بوجوه: أحدها أن التنصيف عائد إلي جملة الصلاة لا إلي الفاتحة، هذا حقيقة اللفظ. والثاني أنه عائد إلي ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة. والثالث معناه فإذا انتهي العبد إلي الحمد لله رب العالمين. ((قض)): الحديث دل علي فضل الفاتحة دون وجوبها، إلا أن يقال: قسمت الصلاة من حيث أنها عامة شاملة لأفراد الصلاة كلها، في معنى قولنا: كل صلاة مقسومة علي هذا الوجه، ويلزمه أن كل ما لا يكون مقسوماُ علي هذا الوجه لا يكون صلاة، والخالية عن الفاتحة لا تكون مقسومة علي هذا الوجه فلا تكون صلاة. أقول: إن الفاء في قول أبي هريرة رضي الله عنه: ((فإني سمعت رسول الله يقول)) وتقرير التثلث في الألفاظ النبوية تفسيراً للتنصيف [يكشفان الغطاء]، ولا مطمع في [التوقيف] علي مغزى الكلام إلا ببيان موقعهما. أما الأول فلأن الفاء رتبت ما بعدها علي ما قبلها ترتيب الدليل علي المدعى؛ لأنه رضي الله عنه استشهد بالحديث الثاني لإثبات الكمال لمطلق الصلاة، ونفي النقصان عنه، كأنه قيل: قسمت الصلاة الكاملة نصفين، فلا يدل علي نفي حقيقة الصلاة كما قال، وفيه أيضاً إيجاب أجزاء الصلاة علي حقيقتها؛ لأن الكلام السابق سبق لها أصالة والثاني تابع له، فتكون الفاء في قوله: ((فإذا قال العبد)) للتعقيب، والشروع في بيان كيفية التقسيم لا المقسوم به، كما ظن الشيخ التوربشتي، وهذا هو الذي عناه شارح الصحيح بقوله: فإذا انتهي العبد إلي الحمد لله رب العالمين.

وإذا قال: ((إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: ((اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)). قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلي هذا قياس سائر الأذكار فيها، وتخصيص الفاتحة لتقديمها ولشرفها، ولينبه بها لاشتمالها علي معإني الكتب السماوية، علي أن مرجع الكل إلي الدعوة إلي تينك الخلتين، أعني العبادة والثناء وإظهار الافتقار، ونفي الحول والقوة إلا به، وبهذا ظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)) ولا بعد أن يتشبث بهذا علي الوجوب، وتحريره أن قوله: ((فهي خداج)) يحتمل معنيين: نفي الكمال كما سبق، ونفي الحقيقة من نفي الجزء الذي تنتفي الكل بانتفائه، فرجحنا الثاني بهذا الاعتبار، وذلك أن الصلاة عبارة عن حركات مخصوصة، وأذكار مخصوصة، فكما تنتقي بإخلال معظم أذكارها، نحو ركوع واحد وسجدة واحدة، كذلك ينبغي أن تنتفي بإخلال معظم حركاتها، وقد تقرر في علم البيان أن إطلاق الجزء علي الكل مشروط بكون ذلك الجزء أعظم، كما مثل شارح الصحيح بقوله: ((الحج عرفة)). وعليه قوله تعالي: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} يعني صلاته. والذي يشد من عضد هذا التقرير توكيد الخداج بالتكرير وتتميمه بالتفسير، ولأن هذا المنهج أحوط وإلي التحقيق أقرب. وأما الثاني فعليه ما ذكره الخطابي: هذا التقسيم راجع إلي المعنى لا إلي الألفاظ المتلوة؛ لأنا نجد الشطر الآخر يزيد علي الشطر الأول من جملة الألفاظ والحروف زيادة بينة، فينصرف إلي المعنى؛ لأن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء، ونصفها دعاء، وقسم الثناء ينتهي إلي قوله: ((إياك نعبد)) وباقي الآية من قسم المسألة، فلهذا قال في هذه الآية: ((بيني وبين عبدي)) تم كلامه. وتحرير ذلك أنه تعالي قسم السورة في هذا التقرير أثلاثا، وقال في الثلث الأول: ((حمدني، وأثنى علي، ومجدني))، فأضافها إلي نفسه. وقال في الثلث الآخر: ((هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل))، فخصه بالعبد، وفي الوسط جمع بينهما، وقال: ((هذا بيني وبين عبدي)) ولأن يربط النصف الأول بالثاني قدم العبادة علي الاستعانة، لأن الوسيلة مقدمة علي طلب الحاجة. وأيضاً أن العبادة متفرعة علي الثلث الأول، لأن استحقاق اختصاص العبادة به تعالي إنما كان لأصل تلك الأوصاف الكاملة، وأن الاستعانة فرع عليها الثلث الآتي، وفسرت به فإن التقدير: كيف أعنيكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم. ولاعتبار المعنى وتضمن الثلث الأول معنى البسملة استغني عنها به، وكذا ثلث الثلث الأول،

824 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، كانوا يفتتحون الصلاة بـ ((الحمد لله رب العالمين)). رواه مسمل. 825 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجعل الطرفين- أعني: ((الحمد لله رب العالمين ... مالك يوم الدين)) مؤسسين علي الوسط؛ لأن الرحمة الإلهية والعواطف الربإنية هي التي اقتضت إخراج الخلق من العدم إلي الوجود والتزود للمسير إلي السعادات الأبدية، والمصير إلي الكمالات السرمدية، وإلي هذا تلميح ما ورد: ((رحمن الدنيا ورحيم الآخرة). فإن قلت: لم قيد الثلث الثاني والثالث بقوله: ((ولعبدي ما سأل)) وأوقعه حالا من ((لعبدي))، وأطلق الأول؟ قلت: لتضمنهما الطلب السؤال، أما في لأول فمستفاد من السين، وفي الثاني من صيغة الأمر، وإنما وضع المظهر موضع المضمر الراجع إلي ذي الجلال، وخص بالعبد وكرر- ليشعر بأن الصلاة معراج المؤمن، ولهذا السر وصف الحبيب بالعبد ليلة المعراج، كما أومأ إليه بقوله تعالي: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وظهر أيضاً أن المصلي يناجي ربه، وحق لذلك أن تسمى الفاتحة بالصلاة، وأن الصلاة لا تصح إلا بها. ولله در الإمام حيث أوجبها فيها. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((يفتتحون الصلاة بالحمد لله)) ((حس)): أول الشافعي رضي الله عنه الحديث وقال: معناه أنهم كانوا يبدأون الصلاة بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، بل هو كما يقال: قرأت البقرة، وآل عمران، يريد السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أمن الإمام)) ((الكشاف)): آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، كما أن رويد سمي به أمهل. ((حس)): قوله: ((فإنه من وافق تأمينه)) عطف علي مضمر، وهو الخبر عن تأمين الملائكة، كما صرح به في قوله بعده: ((إذا أمن القارئ فأمنوا؛ فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه)) الحديث. ((خط)): أي قولوا: آمين مع الإمام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، ولا يدل علي أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، كما يقول

وفي رواية، قال: ((إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)). هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه. وفي أخرى للبخاري، قال: ((إذا أمن القارئ فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)). 826 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين؛ يجبكم الله. فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فتلك بتلك)). قال: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ القائل: إذا رحل الأمير فادخلوا، يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيأ للارتحال، ليكون رحيلكم مع رحيله. ((مح)): المعنى من وافق الملائكة في وقت التأمين فإن غفران الله تعالي مع تأمينهم، هذا هو الصواب. وحكى القاضي عياض أن معناه: وافقهم في الخشوع والإخلاص. واختلفوا في هؤلاء الملائكة، فقيل: هم الحفظة، وقيل: غيرهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فوافق قوله قول أهل السماء)). وأجاب الأولون عنه بأنه إذا قال الحاضرون من الحفظة قالها من فوقهم حتى ينتهي إلي السماء. الحديث الخامس عن أبي موسى: قوله: ((فإن الإمام يركع)) تعليل لترتب الجزء علي الشرط، فإن الجزاء سبب عن الشرط، والسبب مقدم علي المسبب. قوله: ((تلك بتلك)) ((مح)): معناه أن اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلي الركوع [مجبر] لكم بتأخركم في الركوع بعد رفعه لحظة، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه. قوله: ((فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد)) ((مح)): قال أصحابنا وغيرهم: فيه دلالة لمذهب من يقول: لا يزيد المأموم علي قوله: ربنا لك الحمد، ولا يقول معه: سمع الله لمن حمده، ومذهبنا أنه يجمع بينهما الإمام والمأموم، والمنفرد؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).

827 - وفي رواية له عن أبي هريرة، وقتادة: ((وإذا قرأ فأنصتوا)). 828 - وعن أبي قتادة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً، ويطول في الركعة الأولي ما لا يطيل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال: قوله: ((لك الحمد)) هكذا بلا واو، وفي غير هذا الموضع بالواو، والمختار أن الوجهين جائزين، ولا ترجيح لأحدهما علي الآخر. وقال القاضي عياض: علي إثبات الواو يكون قوله: ((ربنا)) متعلقاً بما قبله، تقديره: سمع الله لمن حمده، يا ربنا! فاستجب حمدنا ودعائنا، ولك الحمد. أقول: هذه الرمزة مفتقرة إلي مزيد كشف، وبيان ذلك أن قوله: ((سمع الله لمن حمده)) وسيلة، و ((ربنا لك الحمد)) طلب، وفيها التفات من الغيبة إلي الخطاب، فإذا روي بالعطف يتعلق ((ربنا)) بالأولي؛ ليستقيم عطف الجملة الخبرية علي مثلها، وإذا عزل عنه الواو يتعلق ((ربنا)) بالثانية، فإذا لا يجوز عطف الإنشائي علي الخبري، وتقديره علي الوجه الأول: يا ربنا قبلت في الدهور الماضية حمد من حمدك من الأمم السابقة، ونحن نطلب منك الآن قبول حمدنا، ولك الحمد أولا وآخرا. فأخرجت الأولي علي الجملة الفعلية، وعلي الغيبة، وخص اسم الله تعالي الأعظم بالذكر، والثانية علي الاسمية وعلي الخطاب؛ لإرادة الدوام، ولمزيد إنجاح المطلوب، فعلي هذا الكلام التفاتة واحدة، وعلي الأول التفاتان من الخطاب إلي الغيبة، ومنه إلي الخطاب. والله أعلم. قوله: ((وإذا قرأ فأنصتوا)) ((مظ)): قال أبو حنيفة: لا تجب قراءة الفاتحة وغيرها علي المأموم، بل يسكت ويسمع. وقال الشافعي: يجب عليه قراءة الفاتحة. الحديث السادس عن أبي قتادة: قوله: ((ويسمعنا الآية)) ((مظ)): يعني يقرأ في صلاة الظهر سراً، وربما يرفع صوته ببعض كلمات الفاتحة أو السورة بحيث يسمع، حتى يعلم ما يقرأ من السورة. قوله: ((ما لا يطيل)) يحتمل أن تكون ((ما)) نكرة موصوفة، أي تطويلاً لا يطيله في الركعة الثانية، وأن تكون مصدرية، أي غير إطالته في الركعة الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف.

829 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر. فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة: (آلم تنزيل) السجدة –وفي رواية -: في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا في الركعتين الأوليين من العصر علي قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر علي النصف من ذلك. رواه مسلم. 830 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ (الليل إذا يغشى)، -وفي رواية -: ب (سبح اسم ربك الأعلي)، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك. رواه مسلم. 831 - وعن جبير بن مطعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ (الطور). متفق عليه. 832 - وعن أم الفضل بنت الحارث، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ (المرسلات عرفا). متفق عليه. 833 - وعن جابر، قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلي ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم، ثم صلي وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلي معك العشاء، ثم أتى قومه، فافتتح بسورة البقرة. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي معاذ، فقال: ((يا معاذ! أفتان أنت؟ اقرأ: (والشمس وضحاها) (والضحى) (والليل إذا يغشى) و (سبح اسم ربك الأعلي). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي سعيد: قوله: ((نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي نقدره، والحزر التقدير والخرص. الحديث الثامن إلي الحادي عشر عن جابر: قوله: ((أنافقت)) أي فعلت ما يفعله المنافق، من

834 - وعن البراء، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء: (والتين والزيتون)، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه. متفق عليه. 835 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ (ق والقرآن المجيد) ونحوها، وكانت صلاته بعد تخفيفاً. رواه مسلم. 836 - وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: ((والليل إذا عسعس)، رواه مسلم. 837 - وعن عبد الله بن السائب، قال: صلي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة ـــــــــــــــــــــــــــــ الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة، كما وصفهم الله تعالي بقوله: {وإذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي}، قال تشديداً وتغليظاً. وقوله: ((ولآتين)) يحتمل أن يكول معطوفاً علي الجواب، أي والله لم أنافق ولآتين. وأن يكون إنشاء قسم آخر، والمقسوم به مقدراً. قوله: ((نواضح)) ((نه)): هي الإبل التي يستقى عليها، واحدها ناضح. ((أفتان أنت؟)) استفهام علي سبيل التوبيخ، وتنبيه علي كراهية صنيعه، وهو إطالة الصلاة المؤدية إلي مفارقة الرجل الجماعة فافتتن به. ((حس)): الفتنة هي صرف الناس عن الدين، وحملهم علي الضلالة، قال الله تعالي: ((ماأنتم عليه بفاتنين)) أي بمضلين. ((قض)): فيه دلالة علي جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، فإن من أدى فرضاً ثم أعاد تقع المعادة نفلاً، وعلي أن من أدى الفريضة بالجماعة جاز له إعادتها، وعلي أنه ينبغي للإمام أن يخفف الصلاة، ولا يطولها بحيث يتأذى القوم منها. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن جابر بن سمرة: قوله: ((بعد تخفيفا)) أي بعد صلاة الفجر تخفيفاً في القراءة في بقية الصلاة. الحديث الرابع عشر عن عمرو بن حريث: قوله: ((واليل إذا عسعس)) أي أدبر، وقيل: إذا أقبل ظلامه، هذا يوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفي بهذه الآية، لكن ذكر في شرح السنة أن الشافعي رضي الله عنه قال: يعني به ((إذا الشمس كورت))، بناء علي أن قراءة السورة بتمامها وإن قصرت أفضل من بعضها وإن طال.

فاستفتح سورة (المؤمنين)، حتى جاء ذكر موسى وهارون- أو ذكر عيسى- أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع. رواه مسلم. 838 - وعن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة: بـ (آلم تنزيل) في الركعة الأولي، وفي الثانية: (هل أتى علي الإنسان). متفق عليه. 839 - وعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: استخلف مروان أبا هريرة علي المدينة، وخرج إلي مكة، فصلي لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ سورة (الجمعة) في السجدة الأولي، وفي الآخرة: (إذا جاءك المنافقون)، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة. رواه مسلم. 840 - وعن النعمان بن بشير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة: بـ (سبح اسم ربك الأعلي) و (هل أتاك حديث الغاشية). قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين. رواه مسلم. 841 - وعن عبيد الله: أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما: بـ (ق والقرآن المجيد) و (اقتربت الساعة). رواه مسلم. 842 - وعن أبي هريرة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر إلي الحادي والعشرين: ((كان)) في هذه الأحاديث ليس بمعنى الاستمرار، كما في قوله تعالي: {وكان الإنسان عجولا}، بل هو للحالة المتجددة، كما في قوله تعالي: {من كان في المهد صبيا}. قوله: ((جاء ذكر موسى وهارون)) أي في قوله تعالي: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون}

843 - وعن ابن عباس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}، والتي في (آل عمران): {قل يأهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم}. رواه مسلم. الفصل الثاني 844 - عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ (بسم الله الرحمن الرحيم). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك [844] 845 - وعن وائل بن حجر، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فقال: آمين، مد بها صوته. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي، وابن ماجه. [845] 846 - وعن أبي زهير النميري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأتينا علي رجل قد ألح في المسألة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((أوجب إن ختم)). فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: ((بآمين)). رواه أبو داود. [846] ـــــــــــــــــــــــــــــ أو ذكر عيسى في قوله تعالي: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية}. قوله: ((سعلة)) ((شف)): وهي فعلة من السعال، وإنما أخذ بسبب البكاء. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((ليس بذاك)) المشار إليه ((بذاك)) ما في ذهن من يعني بعلم الحديث، ويعتد بالإسناد القوي. ((تو)): هذا الحديث في إسناده وهن؛ لما تفرد به أبو عيسى بإخراجه عن أحمد بن عبدة عن المعتمر، عن إسماعيل بن حماد، عن أبي سليمان، وهو مجهول. الحديث الثاني عن وائل: قوله: ((آمين مد بها صوته)) ((الكشاف)) في آمين لغتان: مد ألفه، قال: ((ويرحم الله عبداً قال: آمينا))، وقصرها، قال: ((آمين)) فزاد الله ما بيننا بعداً. الحديث الثالث عن [أبي زهير] رضي الله عنه: قوله: ((أوجب)) ((مظ)): أي الجنة لنفسه

847 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي المغرب بسورة (الأعراف) فرقها في ركعتين رواه النسائي. [847] 848 - وعن عقبة بن عامر، قال: كنت أقود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في السفر، فقال لي: ((يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟))، فعلمني (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)، قال: فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلي بهما صلاة الصبح للناس. فلما فرغ، التفت إلي، فقال: ((يا عقبة! كيف رأيت؟)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [848] ـــــــــــــــــــــــــــــ أو أوجب إجابة دعائه، وفيه دليل علي أن من دعا يستحب أن يقول: آمين بعد دعائه، وإن كان الإمام يدعو والقوم يؤمنون فلا حاجة إلي تأمين المأموم. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((صلي المغرب)) [((تو)):] ووجه هذا الحديث أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يبين للناس معالم دينهم بيانا يعرف به الأتم والأكمل، والأدنى والأفضل، ويفصل تارة بقوله، وتاره بفعله، ما يجوز عما لا يجوز، ولما كانت صلاة المغرب أضيق الصلوات وقتا اختار فيها التجوز والتخفيف، ثم رأي أن يصليها في الندرة [علي] ما ذكر في الحديث؛ ليعرفهم أن أداء تلك الصلاة علي تلك الصفة جائز، وإن كان الفضل في التجوز فيه، ويبين لهم أن وقت المغرب يتسع لهذا القدر من القراءة. ((خط)): فيه إشكال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا قرأ علي التإني سورة الأعراف في صلاة المغرب يخل وقت العشاء قبل الفراغ منها، فتفوت صلاة المغرب. وتأويله أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولي قليلاً من سورة ليدرك ركعة من الوقت، ثم قرأ باقيها في الثانية، ولا بأس بوقوعها خارج الوقت، ويحتمل أن يراد بالسورة بعضها. الحديث الخامس عن عقبة: قوله: ((خير سورتين)) الإضافة دلت علي أنك إذا تقصيت القرآن المجيد إلي آخره سورتين سورتين ما وجدت في باب الاستاعذة خيراص منهما، وهو من أسلوب قول الأنمارية: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفها. ويمكن أن يقال: إن عقبة ما سر ابتداء لما لم يكشف له خيريتهما، وما زال منه ما كان هو فيه من الفزع، ولما صلي بهما كوشف له ذلك المعنى ببركة الصلاة، وأزيل ذلك الخوف، فمعنى: ((كيف رأيت؟)) كيف وجدت مصداق قولي: هما خير سورتين قرئتا في باب التعوذ؟ فعلي هذا يكون ((قرئتا)) صيغة مميزة

849 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: ((قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)، رواه في ((شرح السنة)). [849] 850 - ووراه ابن ماجة عن ابن عمر إلا أنه لم يذكر ((ليلة الجمعة)). [850] 851 - وعن عبد الله بن مسعود، قال ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر: بـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد). رواه الترمذي. [851] 852 - ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة إلا أنه لم يذكر: ((بعد المغرب)). [852] 853 - وعن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة. قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان. قال سليمان: صليت خلفه فكان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل. رواه النسائي، وروى ابن ماجه إلي ((ويخفف العصر)). [853] ـــــــــــــــــــــــــــــ لـ ((سورتين)). ((تو)): أشار صلى الله عليه وسلم إلي الخيرية في الحالة التي كان عقبة عليها، وذلك أنه كان في سفره، وقد أظلم عليه الليل، ورآه مفتقراً إلي تعلم ما يدفع به شر الليل، وشر ما أظل عليه الليل، فعين السورتين لما فيهما من وجازة اللفظ، والاشتمال علي المعنى الجامع مع سهولة حفظها، ولم يفهم عقبة المعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم من التخصيص، فظن أن الخيرية إنما تقع علي مقدار طول السورة وقصرها، ولهذا قال: ((فلم يرني سررت بهما جداً)) وإنم صلي النبي صلى الله عليه وسلم ليعرفه أن قراءتهما في الحال منصوص عليها والزمان المشار إليه أمثل وأولي من قراءة غيرهما، ويبين له أنهما يسدان مسد الطوليين. الحديث السادس والسابع عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((ما أحصي)) ((ما)) نافية أي ما أطيق أن أحصي، و ((ما)) في ((ما سمعت)) موصولة، و ((يقرأ)) حال من العائد إلي ((ما))، وكان الأصل ما سمعت قراءته، فأزيل المفعول به عن مقره، وجعل حالا، كما في قوله تعالي: {ربنا [إننا] سمعنا مناديا ينادي} أي نداء المنادي. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من فلان)) ((تو)): قيل هو عمر بن

854 - وعن عبادة بن الصامت، قال: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة. فلما فرغ. قال: ((لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟)) قلنا: نعم، يا رسول الله! قال: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)). رواه أبو داود، والترمذي. والنسائي معناه، وفي رواية لأبي داود، قال: ((وأنا أقول مالي ينازعني القرآن؟ فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن)). [854] 855 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: ((هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟)) فقال رجل: نعم، يا رسول الله! قال: إني أقول: مالي أنازع القرآن؟!)) قال: فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد العزيز، وهذه الرواية لا اعتماد عليها. أقول: وذلك أن عمر بن عبد العزيز ولد سنة إحدى وستين، وأبو هريرة توفي سنة سبع وخمسين، وقيل: ثمان، وقيل: تسع. وأما أنس فروى نحوه علي ما سيأتي في باب الركوع في الفصل الثالث، ونص علي أن فلاناً عمر بن عبد العزيز، وهو صحيح؛ لأن أنساً توفي سنة إحدى وتسعين. ((حس)): هو رجل كان أميرا علي المدينة. ((خط)): السبع المفصل أوله سورة الحجرات، وسمي مفصلاً لأن سورها قصار، كل سورة كفصل من الكلام، وقيل: طواله إلي سورة ((عم)) وأوساطه إلي ((والضحي)). الحديث التاسع عن عبادة: قوله: ((ثقلت)) ((قض)): أي عسرات، وقوله: ((مالي ينازعني القرآن)) معناه لا يتأتى لي، وكإني [أجاذبه]، فيعصي ويثقل علي. قوله: ((لعلكم)) سؤال فيه معنى الاستفهام يقرر فعلهم، ولذلك أجابوا بنعم، كأنه صلى الله عليه وسلم عسرت عليه القراءة، ولم يدر السبب، [فسأل] منهم، يدل عليه قول: ((وأنا أقول: مالي ينازعني القرآن!)). قوله: ((خلف إمامكم)) وحق الظاهر (خلفي) ليؤذن بأن تلك الفعلة غير مناسبة لمن [يتقلد] الإمام. ((مظ)): تعسرت القراءة علي النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة أصوات المأمومين بالقراءة، والسنة أن يقرأ المأموم بالسر، بحيث يسمع كل واحد نفسه، ولا يرفع صوته كيلا يشوش القراءة علي الآخرين. واختلفوا في قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام، فأصح [قول] الشافعي أن يقرأ في السرية والجهرية، ومذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يقرأها في السرية؛ لأن استماعه في الجهرية قراءة الإمام يكفيه، ومذهب أبي حنيفة لا يقرأها في السرية ولا في الجهرية. الحديث العاشر والحادي عشر عن ابن عمر: قوله: ((ما يناجيه به))، ((ما)) استفهامية،

فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وورى ابن ماجه نحوه. [855] 856 - وعن ابن عمر، والبياضي، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المصلي يناجي ربه؛ فلينظر ما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم علي بعض بالقرآن)). رواه أحمد. [856] 857 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وأذا قرأ فأنصتوا)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [857] 858 - وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني. قال: ((قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)). قال: يا رسول الله! هذا لله؛ فماذا لي؟ قال: ((قل: اللهم ارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني)) فقال هكذا بيديه وقبضهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد ملأ يديه من الخير)). رواه أبو داود. وانتهت رواية النسائي عند قوله: ((إلا بالله)). [858] ـــــــــــــــــــــــــــــ والضمير راجع في ((يناجيه)) إلي الرب عز وجل وفي ((به)) إلي ((ما)) و ((ما)) مفعول ((فلينظر)) بمعنى فليتأمل في جواب ((ما يناجيه به))، من القول علي سبيل التعظيم والتبجيل، ومواطأة القلب اللسان، والإقبال إلي الله تعالي [بشراشره]، وذلك إنما يحصل إذا لم ينازعه صاحبه بالقراءة، ومن ثم عقبه بقوله: ((ولا يجهر بعضكم علي بعض بالقرآن)) فعدي بعلي لإرادة معنى الغلبة أي لا يغلب ولا يشوش بعضكم بعضاً جاهراً بالقراءة. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن عبد الله: قوله: ((أن آخذ)) ((غب)): الأخذ حوز الشيء وتحصيله. أقول: الظاهر أن هذه القضية- والله أعلم- ليست بمختصة بالصلاة، لأن الرجل قال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، ومعناه إني لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن، وأتخذه ورداً لي، فأقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فلما علمه ما فيه تعظيم الله تعالي طلب ما يحتاج إليه، ويختص به من الرحمة والعافية [والهداية] والرزق. ويؤيد ما ذكرنا من أن مطلوبه ما يجعله ورداً له لا يفارقه أبداً- قبضة يديه، أي إني لا أفارقها مادمت حيا. ((مظ)): وما أحسن التجاوب الذي بين الأخذ في مفتتح الحديث، والقبض في مختتمه، قوله: ((فقال هكذا)) أي [أشار] إشارة مثل هذه الإشارة المحسوسة.

859 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ (سبح اسم ربك الأعلي)؛ قال: ((سبحان ربي الأعلي)). رواه أحمد، وأبو داود [859] ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم إيراد هذا الحديث في هذا الباب هو الذي حمل الشيخ المظهر علي التكليف في تطبيق الحديث علي الصلاة، حيث قال: اعلم أن هذه الواقعة لا يجوز أن تكون في جميع الأزمان، لأن من يقدر علي تعلم هذه الكلمات يقدر علي تعلم الفاتحة لا محالة، بل تأويله، لا أستطيع أن أعلم شيئاً من القرآن في هذه الساعة، وقد دخل علي وقت الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: سبحان الله إلي آخره؛ فمن دخل لعيه وقت صلاة مفروضة، ولم يعلم الفاتحة، ويعلم شيئاً من التسبيحات- سبحان الله إلي آخره- لزمه أن يقولها في تلك الصلاة بدل الفاتحة فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم الفاتحة. فمن لم يعلم الفاتحة وعلم شيئاص من القرآن لزمه أن يقرأ ما يعلم من القرآن بقدر الفاتحة في عدد الآيات، وهذه الكلمات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ذلك الرجل أن يقرأها في الصلاة. وعلي هذا يتوجه عليه ما ذكره الشيخ التوربشتي: لم يرد السائل بما قال القدر الذي تصح به الصلاة؛ لأن من المستبعد أن يعجز العربي المتكلم بمثل هذا الكلام عن تعلم مقدار ما يصح به الصلاة كل العجز، وإني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص له في الاكتفاء بالتسبيح علي الإطلاق، من غير أن يبين ماله وعليه، ولو كان الأمر علي ما يقتضيه ظاهر اللفظ لعلمه الآية والآيتين مكان هذا القول، ولو قدر [مقدر] أن الرجل أدركته الفريضة ولم يتسع له الوقت أن يتعلم ما يجزئه، فأمره بذلك. فالجواب عن هذا أن لو كان الأمر علي ذلك لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بما يلزمه بعد ذلك، إذ لا يجوز عليه أن يسكت عن البيان عند الحاجة إليه، والله أعلم. الحديث الرابع عشر عن ابن عباس: قوله: ((إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلي)) ((مظ)): عند الشافعي يجوز مثل هذه الأشياء في الصلاة وغيرها، وعند أبي حنيفة لا يجوز إلا في غير الصلاة. أقول: وكذا عند مالك. ((تو)): هذا الحديث لا يدل علي أن هذا كان في الصلاة، إذ لو كان في الصلاة لبينه الراوي، ونقله غيره من الصحابة، مع شدة حرصهم علي الأخذ منه والتبليغ. ولو زعم أحد أنه في الصلاة، قلنا: يحمل ذلك علي غير الفريضة، علي ما في حديث حذيفة رضي الله عنه، لما حدث به عن صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وما أتى علي آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى علي آية عذاب إلي وقف وتعوذ، ولم ينقل شيء من ذلك فيما جهر به من الفرائض مع كثرة من حضرها. والجواب أن الحديث الآتي وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: من قرأ كذا فليقل كذا مراراً ثلاثاً ظاهراً فيما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه، وعلي المخالف دليل الخصوص، ولأن من [يتعانى] هذه الشريطة غالباً يكون حاضر القلب، متخشعا خائفاً راجياً، يظهر افتقاره بين يدي مولاه، 860 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ منكم بـ (التين والزيتون)، فانتهي إلي: (أليس الله بأحكم الحاكمين)؛ فليقل: بلي، وأنا علي ذلك من الشاهدين ومن قرأ: (لا أقسم بيوم القيامة) فانتهي (أليس ذلك بقادر علي أن يحيي الموتى) فليقل: بلي. ومن قرأ (والمرسلات) فبلغ: (فبأي حديث بعده يؤمنون)؛ فليقل: آمنا بالله)). رواه أبو داود والترمذي إلي قوله: ((وأنا علي ذلك من الشاهدين)). [860]

861 - وعن جابر: قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أصحابه، فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلي آخرها، فسكتوا. فقال: ((لقد قرأتها علي الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت علي قوله: ((فبأي آلاء ربكما تكذبان)، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلله الحمد)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [861] ـــــــــــــــــــــــــــــ والصلاة مئنة ذلك ومظنته. وأما قوله: يحمل ذلك علي غير الفرائض، واستدلاله علي مطلوبه بحديث حذيفة، وبحديثه بالليل- فضعيف، علي أن هذا الحديث رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي عن حذيفة كما سيجيء في آخر الفصل الثاني من باب الركوع، وفيه أن حذيفة صلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه ذكر أنه صلي معه في الليل، والظاهر أنه كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الفرائض. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((فبأي حديث بعده يؤمنون)) أي بعد القرآن، لأن القرآن بين الكتب المنزلة آية مبصرة، ومعجزة باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي حديث بعده يؤمنون؟ قوله: ((فليقل: آمنا)) أي قل: أخالف أعداء الله المعاندين، ونؤمن به وبما جاء لينتظم في سلك من له مساهمة في الشهادة من أنبياء الله، وأوليائه. هذا معنى قوله: ((وأن علي ذلك من الشاهدين))؛ لأنه منوال قوله: فلان من العلماء، أي له نصيب معهم في العلم، وأن الوصف كاللقب المشهود له، وهو أبلغ من قولك: فلان عالم. الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أحسن مردوداً)) ((الجوهري)): المردود الرد، وهو مصدر مثل المخلوق [والمعقول]، قال الشاعر: لا يعدم السائلون الخير أفعله إما نوالا وإما حسن مردود نزل سكوتهم وإنصاتهم للاستماع منزلة حسن الرد، فجاء بأفعل التفضيل.

الفصل الثالث 862 - عن معاذ بن عبد الله الجهني، قال: إن رجلاً من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمداً. رواه أبو داود. [862] 863 - وعن عروة، قال: إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، صلي الصبح، فقرأ فيهما بـ ((سورة البقرة)) في الركعتين كلتيهما. رواه مالك. [863] 864 - وعن الفرافصة بن عمير الحنفي، قال: ما أخذت سورة (يوسف) إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح، من كثرة ما كان يرددها. رواه مالك. [864] 865 - وعن [عبد الله بن] عامر بن ربيعة، قال: صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، فقرأ فيهما بسورة (يوسف) وسورة (الحج) قراءة بطيئة، قيل له: إذا لقد كان يقوم حين يطلع الفجر. قال: أجل. رواه مالك [865] 866 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة. رواه مالك. [866] 867 - وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب- (حم الدخان). رواه النسائي مرسلاً. [867] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول إلي السادس عن عامر رضي الله عنه: قوله: ((إذا لقد كان)) إذاً جزاء وجواب، يعني قال رجل لعامر: إذا كان الأمر علي ما ذكرت إذاً والله لقام في الصلاة أول الوقت حين الغلس.

(13) باب الركوع

(13) باب الركوع الفصل الأول 868 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي)). متفق عليه. 869 - وعن البرء، قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود؛ قريباص من السواء. متفق عليه. 870 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الركوع الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أقيموا الركوع)) ((قض)): أي عدلوا وأتموا من أقام العود إذا قومه. قوله: ((فوالله إني لأراكم من بعدي)) أي روائي، حث علي الإقامة، ومنع عن التقصير، فإن تقصيرهم إذ لم يخف علي الرسول، فكيف يخفي علي الله سبحانه وتعالي؟ وإنما علمه بإطلاع الله تعالي إياه، وكشفه عليه. ((شف)): ((أقيموا)) فيه حث علي الإقامة، ومنع عن التقصير، وترك الطمإنينة فيها. الحديث الثاني عن البراء: قوله: ((بين السجدتين)) وقوله: ((وإذا رفع)) معطوفان علي اسم ((كان)) علي تقدير المضاف، أي زمان ركوعه وسجوده، وبين السجدتين، ووقت رفع رأسه من الركوع سواء. ((وإذا)) هنا كما في قوله تعالي: {والنجم إذا هوى} قال [الحسري]: [((إذاً)) قد انسلخ عنه معنى الاستقبل، وصار كالوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمر البسر] ((أي وقت احمراره. ((قض)) قوله: ((ما خلا القيام والقعود استشكل المعنى، فإن مفهوم ذلك، كان أفعال صلاته ما خلا القيام والقعود- أي قعود التشهد- قريباً من السواء)). الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((حتى نقول)) نصب ((نقول)) بحتى وهو الأكثر، ومنهم من لا يعمل حتى إذا حسن (فعل) في موضع (يفع)، كما يحسن في هذا الحديث: حتى قلنا: قد أوهم. وأكثر الرواة علي ما علمنا يرويه بالنصب، وكان تركه من طريق المعنى أتم وأبلغ. أقول: أراد أن المضارع إذا عبر به عن حكاية الحال الماضية لا يحسن فيه الإعمال، وإلا فيحسن،

871 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحنك اللهم ربنا وبحمد، اللهم اغفر لي))، يتأول القرآن. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الحديث من القبيل الأول؛ بدليل قوله: ((قام))، وفيه بحث؛ لما ورد في التنزيل: {مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول} أي إلي الغاية التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: متى نصر الله. وفائدة وضع المضارع موضع الماضي في مثل هذا المقام استحضار تلك الحالة في ذهن السامع [ليتعجب لها]. قوله: ((قد أوهم)) ((فا)): أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب إذا أسقطت منه شيئاً. أقول: في الحديث دليل علي وجوب الطمإنينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). الحديث الرابع: قوله: ((يتأول القرآن)) ((قض)): ((يتأول القرآن)) جملة وقعت حالا عن الضمير في ((يقول))، أي يقوله متأولا للقرآن، أي مبيناً ما هو المراد من قوله تعالي: {فسبح بحمد ربك واستغفره} آتيا بقتضاه، يقال: أول الكلام وتأول الكلام إذا فسر وبين المراد منه، مأخوذ من (آل) إذا رجع، كأن المفسر يصرف الكلام عن سائر الوجوه المحملة إلي المحمل الذي أوله عليه. أقول: الأظهر أن هذا التأويل بمعنى العاقبة ومآل الأمر، كما في قوله تعالي: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} أي عاقبة أمره، وما يؤول إليه من تبين صدقه، وظهور ما صدق به من الوعد والوعيد، فتنزيل الحديث علي الآية أن يقالأ: إنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقوله سبحانه وتعالي: {فسبح بحمد ربك واستغفره} صدقه بفعله. وأظهر ما يقتضي مآل أمر الله سبحانه وتعالي من الامتثال، وحصول المأمور به، كما قال: {والذي جاء بالصدق وصدق به} أي الذي جاء بالقرآن، ويجري العمل به. وقد وافق هذا القول ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين حيث قال: معنى ((يتأول القرآن)) يعمل ما أمر به في قوله سبحانه وتعاال: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)) وكان صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام البديع في الجزالة ليستوفي ما أمر به في الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود؛ لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان يختارها لأداء هذا الواجب الذي أمر به؛ ليكون أكمل [أي]. ((وبحمدك سبحتك ومعناه بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك علي سبحتك، لا بحولي وقوتي. ففيه شكر لله تعالي علي هذه النعمة والاعتراف بها، والتفويض إلي الله تعالي،

872 - وعنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: ((سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)) رواه مسلم. 873 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً؛ فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن الأفضل له. أقول: وإن كان من توارد الخواطر، قوله: ((وبحمدك)) إما حال من فاعل الفعل الذي إنيب المصدر منابه، و ((اللهم ربنا)) معترض؛ وإما عطف جملة علي جملة، وعلي هذا قوله: سبحان الله وبحمده، والله أعلم. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((سبوح قدوس)) ((نه)): يرويان بالضم، والفتح قياس، والضم أكثر استعمالا، وهو من أبنية المبالغة، والمراد بهما التنزيه. ((مظ)): معناهما أنه سبحانه وتعالي طاهر منزه عن أوصاف المخلوقات، وهما خبران لمبتدأ محذوف تقديره: ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس. قوله: ((والروح)) ((تو)): هو الروح الذي به قوام كل حي، غير أنا إذا اعتبرنا النظائر من التنزيل كقوله تعالي: {يوم يقوم الروح والملائكة} وقوله: {تنزل الملائكة والروح} فالمراد به جبريل عليه السلام، خص بالذكر تفضيلاً له علي سائر الملائكة. وقيل: الروح صنف من الملائكة. الحديث السادس عن ابن عباس: قوله: ((ألا إني نهيت)) ((خط)): لما كان الركوع والسجود- وهما غاية الذل والخضوع- مخصوصين بالذكر والتسبيح نهي صلى الله عليه وسلم عن القراءة فيهما، كأنه كره أن يجمع بين كلام الله سبحانه وتعالي وكلام الخلق في موضع واحد فيكون علي السواء. ((قض)): نهي الله تعالي رسوله صلى الله عليه وسلم يدل علي عدم جواز القراءة في الركوع والسجود، لكن لو قرأ لم تبطل صلاته إلا إذا كان المقروء الفاتحة، فإن فيه خلافاً من حيث أنه زاد ركناً، لكن لم يتغير به نظم صلاته. أقول: وفي نسبة نهي القراءة في الركوع والسجود إلي نفسه صلى الله عليه وسلم إيهام أنه صلى الله عليه وسلم مخصوص به، وأن الأمة ليسوا داخلين في النهي، فأزيل الإيهام بأمره صلى الله عليه وسلم إياهم أن يعظموا الله في الركوع، وأن يدعوا في السجود، ودل ذلك علي أن المنهي والمنهي عنه عظيمان، ولذلك

874 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)). متفق عليه. 875 - وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: ((سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد)). رواه مسلم. 876 - وعن أبي سعدي الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ صدرت الجملة بالكلمة التي هي من طلائع القسم، وهي ((ألا)) فإذا نهي مثل الرسول صلى الله عليه وسلم فغيره أولي به، ودل علي أن الأمر بالذكر والتسبيح دون النهي عن القراءة في المرتبة، فنسبها إلي الأمة: قوله: ((فقمن)) ((نه)): قمن وقمن وقمين، أي خليق وجدير، فمن فتح الميم لم يثن ولم يجمع، ولم يؤنث؛ لأنه مصدر. ومن كسر ثنى، وجمع، وأنث، لأنه وصل، وذلك القيمن. الحديث السابع والثامن عن عبد الله: قوله: ((اللهم ربنا لك الحمد)) قد مر بحثه في الفصل الأول في باب القراءة في حديث أبي موسى قوله: ((ملء السموات)) ((خط)): هذا تمثيل وتقريب، والكلام لا يقدر بالمكاييل، ولا يسعه الأوعية، والمراد تكثير العدد، حتى لو يقدر أن تكون تلك الكلمات أجساماً تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما يملأ السموات والأرض. ((تو)): هذا يشير إلي الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استغراق المجهود، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذه نهاية أقدام السابقين، ثم ارتفع فأحال الأمر فيه علي المشيئة، وليس وراء ذلك الحمد منتهي؛ فإن حمد الله أعز من [أن] يعتوره الحسبان، أو يكتنفه الزمان والمكان، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه، وبهذه الرتبة استحق صلى الله عليه وسلم أن يسمى بأحمد. الحديث التاسع عن أبي سعيد: ((أهل الثناء)) أهل يجوز فيه النصب علي المدح،

877 - وعن رفاعة بن رافع، قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه ـــــــــــــــــــــــــــــ والرفع علي أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت أهل الثناء، وكذا: ((أحق ما قال)) أي بما قال، أو يكون التقدير: المذكور من الحمد الكثير أحق ما قال العبد. ويجوز أن يكون ((أحق ما قال)) مبتدأ، وقوله: ((اللهم)) خبره، ((وكلنا لك عبد)) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، والتعريف في ((العبد)) للجنس. وقيل: للعهد، والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. و ((ما)) في قوله: ((ما قال العبد)) موصوفة، أي أحق الأشياء التي يتكلمها العبد إن فصلتها واحداً بعد واحد ثناء الله تعالي من العبد المطيع الخاشع الخاضع، وذلك كقوله تعالي: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} وجاء في بعض النسخ: ((حق ما قال العبد)) فعلي هذا هو كلام تام واقع علي سبيل الاستئناف، وقوله: ((وكلنا لك عبد)) علي هذا تذييل. قوله: ((ذا الجد)) ((غب))؛ سمي ما جعل الله تعالي للإنسان من الحظوظ الدنيوية جداً، وهو البخت. وقيل: جددت وحظظت، وقال الله سبحانه وتعالي: {جد ربنا} أي فيضه وعظمته. قوله: ((منك الجد)) فيه أقوال، ((فا)): ((من)) فيه مثله في قولهم: هو من ذاك، أي بدل ذاك، ومنه قوله: فليت لنا من ماء زمزم شربة. ومنه قوله تعالي: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} والمعنى أن المحظوظ لا ينفعه حظه بذلك، أي بدل طاعتك وعبادتك. ((غب)): المعنى لا يتوصل إلي ثواب الله تعالي في الآخرة بالجد، وإنما ذلك بالجد في الطاعة، وهو الذي أنبأ عنه قوله سبحانه وتعالي: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وقيل: أراد بالجد أبا الأب، وأبا الأم، أي لا ينفع أحداً نسبه، كقوله سبحانه وتعالي: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم}. ((تو)): أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، وعلي هذا فمعنى ((منك)) عندك. ويحتمل وجهاُ آخر، أي لا يسلمه من عذابك غناه. ((مظ)): أي لا يمنع عظمة الرجل وغناه عنه إن شئت به عذاباً. وأقول: يمكن أن يقدر في الوجه الأول: لا ينفع ذا الحظ العظيم بدل توفيقك وعنايتك حظه، فإن الحظ أمر، ونفعه أمر، فلما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)) فهم أن معطي الحظ ومانعه هو الله تعالي ليس غيره، أتبعه بقوله: ((ولا ينفع ذا الجد)) إشعاراً بأن ذلك الحظ المعطى لا ينفع المعطي له إذا لم يمكنه تعالي من استيفاء النفع، فكم يرى من غني وعالم ذي حظ عظيم في علمه وماله لا ينتفع به إذا لم يوفقه الله للعمل والإنفاق، والله أعلم. الحديث العاشر عن رفاعة: قوله: ((أيهم يكتبها أول)) ((مظ)): ((أول)) مبني علي الضم، بأن حذف منه المضاف إليه، وتقديره،: أولهم، يعني كل واحد منهم يسرع ليكتب هذه الكلمات قبل

من الركعة، قال: ((سمع الله لمن حمده)). فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: ((من المتكلم آنفاً؟)). قال: أنا. قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيهم يكتبها أول)). رواه البخاري. الفصل الثاني 878 - عن أبي مسعود الأنصاري، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 879 - وعن عقبة بن عامر، قال: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوها في ركوعكم)) فلما نزلت ((سبح اسم ربك الأعلي) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوها في سجودكم)). رواه أبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [879]. 880 - وعن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد، فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلي، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. وقال الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخر، ويصعد بها إلي حضرة الله تعالي لعظم قدرها، ومضى بقية شرحه وإعرابه في الحديث الثالث من باب ما يقرأ بعد التكبير. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي مسعود رضي الله عنه: قوله: ((حتى يقيم ظهره)) ((مظ)): يعني لا يجوز صلاته من لا يسوي ظهره في الركوع والسجود، والمراد منهما الطمإنينة، وهي واجبة عند الشافعي وأحمد في الركوع والسجود ونحوهما، وعند أبي حنيفة ليست بواجبة. وفيه بحث؛ لأن الطمإنينة أمر، والاعتدال أمر. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((سبح اسم ربك الأعلي)) ((نه)): الاسم ههنا صلة وزيادة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: ((سبحان ربي الأعلي)) فحذف الاسم، وهذا علي قول من زعم أن الاسم غير المسمى، وقيل: يجوز أن يكون الاسم غير صلة، والمعنى تنزه اسمه من أن يبذل، وأن يذكر علي وجه التعظيم. وقال الإمام فخر الدين الرازي: إنه كما يجب تنزيه ذاته عن النقائض، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب.

ليس إسناده بمتصل، لأن عونا لم يلق ابن مسعود [880] 881 - وعن حذيفة: أنه صلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم))، وفي سجوده: ((سبحان ربي الأعلي)). وما أتى علي آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى علي آية عذاب إلا وقف وتعوذ. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. وروى النسائي وابن ماجه إلي قوله: ((الأعلي)) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [881] الفصل الثالث 882 - وعن عوف بن مالك، قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع مكث قدر سورة (البقرة)، ويقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)). رواه النسائي. [882] 883 - وعن ابن جبير، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى- يعني عمر ابن عبد العزيز- قال: قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات. رواه أبو داود، والنسائي. [883] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عون: قوله: ((وذلك أدناه)) ((مظ)): أي أدنى الكمال، وأكمله سبع مرات. الحديث الرابع ظاهر. الفصل الثالث الحديث الأول عن عوف: قوله: ((الجبروت)) ((نه)): وهو فعلوت من الجبر والقهر، وفي الحديث: ((ثم يكون ملك وجبروت)) أي عتو وقهر، و ((الملكوت)) فعلوت من الملك. الحديث الثاني والثالث عن شقيق: قوله: ((لا يتم ركوعه ولا سجوده)) هذا يدل علي أن الطمإنينة فيهما واجبة؛ لأن قوله: ((ولو مت مت علي غير الفطرة)) تهديد عظيم، وتغليظ شديد، يعني أنك غيرت ما ولدت عليه من الملة الحنفية التي هي الإسلام، ودخلت في زمرة المبدلين لدين الله، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يحج فإن شاء فليمت يهودياً، أو نصرإنياً)).

884 - وعن شقيق، قال: إن حذيفة رأي رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت. قال: وأحسبه قال: ولو مت مت علي غير الفطرة التي فطر الله محمد صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 885 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)). قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها). رواه أحمد. [885] ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف دل قوله: ((لا يتم)) علي ذلك؛ فإن تمامها غير متوقف علي الطمإنينة؟. قلت: مر في الحديث الثالث من الفصل الثاني من الباب بيانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((فقال في ركوعه: سبحن ربي العظيم ثلاث مرات قد تم ركوعه وذلك أدناه)). قال المالكي في قوله: ((ولو مت مت)) شاهد علي وقوع اجلواب موافقاً للشرط لفظاً ومعنى لتعلق ما بعده به، وهو أحد المواضع التي تتعرض فيها لفضيلة لتوقف الفائدة عليها، فيكون لها من لزوم الذكر ما للعمدة، ومنه قوله تعالي: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} فلولا قوله ((علي غير الفطرة)) وقوله: ((لأنفسكم)) لم يكن للكلام فائدة. أقول: فائدة المثل الأول تفخيم الأمر، وتهويل ما ارتكبه المصلي من ترك الطمإنينة، علي منوال قوله: ((من أدرك الضمان فقد أدرك)) أي مرعى لا يكتنه كنه. وفائدة المثال الثاني أن فائدة إحسانكم عائدة إليكم، لا يتجاوز إلي الغير، وليس فيه معنى التعظيم. الحديث الرابع عن أبي قتادة: قوله: ((سرقة)) تمييز، ((غب)): السرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء، وصار ذلك في الشرع لتناول الشيء من موضع مخصوص، وقدر مخصوص، أقول: جعل جنس السرقة نوعين: متعارفاً، وغير متعارف، وهو ما ينقص من هذا الركن من الطمإنينة، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، وإنما كان أسوأ؛ لأن السارق إذاأخذ مال الغير بما ينتفع به في الدناي، ويستحل من صاحبه، أو تقطع يده، فيتخلص من عقاب الآخرة، بخلاف هذا السارق، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في العقبى، وليس في يده سوى الضرر والتعب.

(14) باب السجود وفضله

886 - وعن النعمان بن مرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ترون في الشارب والزإني، والسارق؟)) - وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هن فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته)). قالوا. وكيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)). رواه مالك، وأحمد، وروى الدارمي نحوه. [886] (14) باب السجود وفضله الفصل الأول 887 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد علي سبعة أعظم: علي الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن النعمان: قوله: ((أسوأ السرقة)) مبتدأ، و ((الذي يسرق)) خبره علي حذف المضاف، أي سرقة الذي، ويجوز أن السرقة جمع سارق، كفاجر وفجرة، يؤيده حديث أبي قتادة: ((أسوأ الناس سرقة)). باب السجود وفضله الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((أمرت)) ((قض)): يدل عرفاً علي أن الله تعالي أمره، وذلك يقتضي وجوب وضع هذه الأعضاء في السجود، وللعماء فيه أقوال، فأحد قولي الشافعي وقول أحمد: إن الواجب وضع جميعها؛ أخذاً بظاهر الحديث، والقول الآخر له: إن الواجب وضع الجبهة وحده؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اقتصر عليه في قصة رفاعة، وقال: ((ثم يسجد فيمكن جبتهته من الأرض)) وضع الأعظم الستة الباقية سنة، والأمر محمول: ((ولا نكفت)) ليس بواجب والندب، توفيقاً بينهما، ولأن المعطوف علي ((أسجد)) وهو قوله: ((ولا نكفت)) ليس بواجب وفاقاً، ومعناه أن يرسل الثوب والشعر، ولا يضمهما إلي نفسه وقاية لهما من التراب، والكفت الضم. وعند أبي حنيفة يجب وضع أحد العضوين من الجبهة والأنف؛ لوقوع اسم السجود عليه، ولأن عظم الأنف متصل بعظم الجبهة متحد به، فوضعه

888 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)). متفق عليه. 889 - وعن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك)). رواه مسلم. 890 - وعن ميمونة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سجد جافي بين يديه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت. هذا لفظ أبي داواد، كما صرح في: ((شرح السنة)) بإسناده. [890] ـــــــــــــــــــــــــــــ كوضع جزء من الجبهة. وعن مالك، والأوزاعي، والثوري رضي الله عنهم وجوب وضعهما معاً؛ لما روى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يصلي ما يصيب أنفه من الرض فقال: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين)) وقال أيضا: والصحيح أنه مراسيل عكرمة، هكذا ذكره الدارقطني في جامعه، وقد أسند إلي ابن عباس رضي الله عنه ولم يثبت. أقول: قد ذكر التجنب عن كف الثوب في جملة الخشوع في الصلاة في قوله سبحانه وتعالي: {والذين هم في صلاتهم خاشعون}، وقد جمع في الحديث بعضا من الفرض، والسنة والأدب، تلويحاً إلي إرادة الكل. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اعتدلوا)) ((مظ)): الاعتدال في السجود أن يستوي فيه، ويضع كفيه علي الأرض، ويرفع المرفقين عن الأرض، وبطنه عن الفخذين. قوله: ((انبساط الكلب)) ((تو)): صح علي وزن الانفعال، خرج بالمصدر إلي غير لفظه أي يبسطها فينبسط انبساط الكلب. ((نه)): أي يفرشهما علي الأرض في الصلاة،. الحديث الثالث والرابع عن ميمونة: قوله: ((بهمة)) بالفتح. ((نه)): ولد الضأن الذكر والأنثى وجمع البهمة بهم، وجمع البهم بهام. ((مظ)): البهمة في الحديث كانت أنثى بدليل ((أرادت)) وقوله: ((مرت)) بالتاء. أقول: ونظيره ما روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه دخل الكوفة، فالتفت إليه الناس، فقال: سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان كانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل له من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله تعالي، وهو قوله تعالي: {قالت نملة} ولو كان ذكراً لقال: ((قال نملة)) وذلك أن النملة مثل الحمامة، والشاة، في وقولعها علي الذكر والأنثى، فتميز بينهما بعلامة، بنحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهو، وهي.

ولمسلم بمعناه: قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت. 891 - وعن عبد الله بن مالك بن بحينة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه. متفق عليه. 892 - وعن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلإنيته وسره)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن الحاجب: التإنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزالة ذكر من الحيوان، كظلمة وعين، ولا فرق بين أن يكون حيواناً أو غيره، كدجاجة وحمامة، وقد قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالي: ((قالت نملة)) أنثى لورود تاء التإنيث في ((قالت)) وهماً؛ لجواز أن يكون مذكراً في الحقيقة، وورود التإنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي، نحو: جاءت الظلمة. وقلت: كيف يقاس هذا المثال علي الظلمة والجامع مفقود؟ لأن مثل النملة مشترك لفظي يقع علي المذكر والمؤنث، والتاء لبيان الوحدة، فيفتقر في تعيين حد مفهومها إلي نصب قرينة، إما صفة مميزة، نحو: حمامة ذكر، وشاة أنثى، أو علامة تلحق الفعل، نحو: قالت نملة، وقال نملة، أو جعلها خبراً لاسم الإشارة، نحو: هذا بقرة، وهذه بقرة، والظلمة ليست من هذا القبيل، فلا تحتاج إلي بيان، نعم! هي كالعين في معنى الاشتراك لافتقارها إلي القرينة المبينة للتعيين. وينصره ما نقل عن ابن السكيت حيث قال: هذا بطة ذكر، وهذا حمامة ذكر، وهذا شاة ذكر، إذا عنيت كبشا، وهذا بقرة إذا عنيت ثوراً، فإن عنيت به أنثى قلت: هذه بقرة. فالمذهب ما سلكه الإمام، والقول ما قالت حذام. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((مالك)) ((مح)): الصواب أن ينون، ويكتب ابن بالألف؛ لأن ((ابن بحينة)) ليس صفة ((مالك))، بل صفة! ((عبد الله))؛ لأن ((عبد الله)) اسم أبيه ((مالك))، واسم أم عبد الله ((بحينة امرأة مالك)). الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((دقه وجله)) ((نه)): صغير وكبيرة، وقيل: إنما قدم الدق علي الجل؛ لأن السائل متصاعد في مسألته؛ ولأن الكبائر إنما تنشأ في الغالب من الإصرار علي الصغائر، وعدم المبالاة بها، وكأنها وسائل إلي الكبائر، ومن حق الوسيلة أن تقدم إثباتاً ورفعاً.

893 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي علي بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فالتمسته)) أي طلبته، ((قض)): ((وهو في المسجد))، هكذا في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وأكثر نسخ المصابيح، وفي بعضها ((في سجدة))، وفي بعضها ((في السجود)). وقولها فيه: ((فوقعت يدي علي بطن قدميه في السجود)) يدل علي أن الملموس لا يفسد وضوءه، إذ المس الاتفاقي لا أثر له، إذ لولا ذلك لما استمر علي السجود. ((شف)): ويمكن أن يقال: إنه كان بين اللامس والملوس حائل. قوله: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)) ((نه)): وفي رواية أخرى بدأ بالمعافاة ثم ثنى بالرضا، وإنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة لأنها من صفات الأفعال كالإماتة والإحياء، والرضي والسخط من صفات الذات، وصفات الأفعال أدنى رتبة من صفات الذات، فبدأ بالأدنى مترقياً إلي الأعلي، ثم لما ازداد يقيناً وارتقى ترك الصفات، وقصر نظره علي الذات فقال: ((أعوذ بك منك)). ثم لما ازداد قربا استحيا من الاستعاذة علي بساط القرب فالتجأ إلي الثناء، فقال: ((لا أحصي ثناء عليك))، ثم علم أن ذلك قصور فقال: ((أنت كما أثنيت علي نفسك)). وأما علي الرواية الأولي فإنما قدم الاستعاذة بالرضي من السخط؛ لأن المعافاة من العقوبة [تحصل بحصول الرضا]، وإنما ذكرها لأن دلالة الأول عليها دلالة تضمن، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة، فكنى عنها أولا، ثم صربح بها ثإنياً، ولأن الراضي قد يعاقب المصلحة، ولاستيفاء حق الغير. قوله: ((لا أحصي ثناء عليك)) ((مظ)): أي لا أطيق أن أثني عليك كما تستحقه وتحبه، بل أنا قاصر عن أن يبلغ ثنائي قدر استحقاقك، ((أنت كما أثنيت علي نفسك)) بقولك: ((فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)) وما أشبه ذلك من الآيات التي حمدت نفسك فيها. أقل: أصل الإحصاء العد بالحصى، ((غب)): الإحصاء التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا من [لقط] الحصى، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدون عليها بالعد،

894 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كاعتمادنا فيه علي الأصابع. قال صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا)) أي لن تحصلوا ذلك، ووجه تعذر إحصائه وتحصيله هو أن الحق واحد، والباطل كثير، بل أحق بالإضافة إلي الباطل كالمرمى من الهدف، فإصابة ذلك شديدة. أقول: إذا علم ذلك فنقول: إن ((ما)) في قوله: ((كما أثنيت)) يجوز أن تكون موصوفة، وأن تكون موصولة، كقوله تعالي: {ونفس وما سواها} أي الحكيم الباهر الحكمة سوى هذه النفس العجيبة الشأن، والكاف بمعنى مثل، كالمثل في قوله تعالي: {ليس كمثله شيء}، وقوله: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} وقول القبعثري: مثل الأمير يحمل علي الأدهم والأشهب، أي أنت الذات التي لها صفات الجلال والإكرام، ولها العلم الشامل والقدرة الكاملة، تعلم بالعلم الشامل صفات جلالك وإكرامك، وتقدر بقدرتك الكاملة أن تحصي ثناء نفسك، فنفي في قوله: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك)) القدرة والعلم عن نفسه، عجزاً واعترافاً بالقصور، وأثبتهما في قوله: ((أنت كما أثنيت علي نفسك)) لله عز وجل إعظاماً وإجلالاً له، وذلك أن صفات الجلال والإكرام لا نهاية لها، فلا تدرك ولا تطاق إلا بعلم وقدرة لا نهاية لهما. وهذا الثناء يجوز أن يكون بالقول، كما فقي قوله تعالي: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين*} وبالفعل كما في قوله تعالي: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} قالوا: ما أثنى الله علي نفسه تعالي فهو في الحقيقة إظهار فعله، محمدة لنفسه من بث آلائه، وإظهار نعمائه، بمحكمات أفعاله، والله أعلم. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وهو ساجد)) حال سدت مسد الخبر، نظيره ضربي زيداً قائماً، العرب التزمت حذف خبر هذا المبتدأ، وتنكير قائماً، وجعلت المبتدأ عاملا في مفسر صاحب الحال، ويشهد بأن كان المقدرة تامة، وقائماً حال من فاعلها التزام العرب تنكير ((قائماً))، وإيقاع الجملة الإسمية المقرونة بواو الحال موقعه في هذا الحديث وقول الشاعر: خير اقترابي من المولي حليف رضا وشر بعدي منه وهو غضبا المبتدأ فيهما مؤول بمفسر صاحب الحال، يعني بالمصدر المقيد؛ لأن لظفه ما يكون مؤول بالكون؛ والتقدير: أقرب الكون كون، وخير الاقتراب اقتراب. هذا تلخيص كلام ابن مالك، أقول: التركيب من الإسناد المجازي، أسند القرب إلي الوقت- وهو للعبد- مبالغة.

895 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي!! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد؛ فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت؛ فلي النار)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: أين المفضل عليه ومتعلق أفعل التفضيل في الحديث؟ قلت: محذوف، وتقديره: إن للعبد حالتين في العبادة: حالة كونه ساجداً لله تعالي، وحالة كونه متلبساً بغير السجود، فهو في حالة السجود أقرب إلي ربه من نفسه في غير تلك الحالة. ويدل عليه التصريح به فيما روي عن علي رضي الله عنه: ((الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم أي الناس في فسادهم واقترافهم رذائل الأخلاق أشبه بزمانهم من أنفسهم بآبائهم في الصورة والهيئة، وفي اقتنائهم مكارم الأخلاق. ومن شواهد وقوع الحال سادة مسد الخبر ما رواه البخاري: ((عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا)) أي مثل هذه الساعة. قال المالكي: خلوفا منصوب علي الحال، سدت مسد المسند إلي ((نفرنا)) وتقديره: ونفرنا متروكون. ونظيره قوله: ((ونحن عصبة)) بالنصب وهي قراءة تعزى علي علي رضي الله عنه وتقديره: ونحن معه عصبة، وقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: ((كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عاقدي أزرهم)) وتقديره: وهم مؤتزرون عاقدي أزرهم. وهذا النوع من سد الحال مسد الخبر مع صلاحيتها لأن تجعل خبراً شاذاً لا يكاد يستعمل، فالوجه الجيد في هذا القبيل الرفع لمتقضى الخبرية، والاستغناء عن تقدير خبر، وإنما يحسن سد الحال مسد الخبر، إذا لم يصلح جعل الحال خبراً، نحو: ضربي زيداً قائماً، وأكثر شربي السويق ملتوتا، [فإن (قائماً) و (ملتوتا)] لا يصح أن يكونا خبرين لضربي وأكثر. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اعتزل)) ((شف)): أي تباعد، ولك من عدل إلي جانب فهو معتزل، ومنه سميت الفرقة العدلية معتزلة، ورى أن الحسن البصري رحمه الله عليه كان يقرر يوماً مع أصحابه مسألة من الأصول، فاعترض عليه جماعة من أصحابه، فلما قام الحسن من مجلسه اعتزل المعترضون إلي ناحية يقررون تلك المسألة علي خلاف قول الحسن، فلما عااد الحسن ورآهم جالسين في ناحية قال: من المعتزلة؟ وفي رواية: فلما تكرر نكيرهم علي قول الحسن قال لهم: اعتزلوا عنا. قوله: ((يبكي، يقول)) حالان من فاعل ((اعتزل))، مترادفان أو متداخلان. قوله: ((يا ويلتي)) ((فا)): أصله [وي له]، ((نه)): الويل الحزن، والهلاك، ولك من وقع في هلكة دعا بالويل،

896 - وعن ربيعة بن كعب، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)). فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: ((أو غير ذلك؟)). قلت: هو ذاك. قال: ((فأعني علي نفسك بكثرة السجود)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى النداء فيه يا حزني، ويا هلاكي! احضر فهذا أوانك، كأنه ناداه لما عرض له من الأمر الفظيع وهو الندم علي ترك السجود لآدم عليه السلام. أقول: لعل نداء الويل [للتحريم] علي ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والطرد، والخيبة في الدارين، وللحسد علي ما حصل لابن آدم من القرب، والكرامة والفوز في الدارين. الحديث العاشر عن ربيعة: قوله: ((أو غير ذلك)) ((مظ)): ((أو)) بسكون الواو. ((مح)): بفتحها، فالواو عاطفة تقتضي معطوفاً عليه، وهمزة الاستفهام تستدعي فعلا، والمعنى علي الأول: سل غير ذلك، فأجاب ((هو ذاك)) أي مسئولي ذاك، لا أنتهي عنه، وعلي الثاني: أتسأل هذا وهو شاق، وتترك ما هو أهون منه؟ فأجاب مسئولي ذاك، لا أتجاوز عنه، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظة ((ذلك)) التي هي للمشار إليه البعيد؛ لينتهي السائل عنه امتحاناً منه، فلما أجاب بقوله: ((ذاك)) الذي هو المشار إليه المتوسط، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه مصمم علي عزمه غير مستبعد ذلك أجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أعني)) إلي آخره. وفيه أن مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة من الدرجات العالية، التي لا مطمع في الوصول إليها إلا بحصول الزلفي عن الله في الدنيا بكثرة السجود المومأ إليه بقوله: {واسجد واقترب}، فإن في كل سجدة يسجدها العبد رفع درجة، كما سيرد في الحديث الآتي، فلا يزال العبد يترقى بالمدامة علي السجود درجة فدرجة حتى يفوز بالقدح المعلي من القرب إلي الله سبحانه وتعالي، فسأل به مرافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في تلك الدرجات. انظر أيها المتأمل في هذه الشريطة، وارتباط القرينتين لتقف علي سر دقيق، فإن من أراد مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناله إلا بالقرب إلي الله سبحانه وتعالي، ومن رام قرب الله لم ينله إلا بقرب نبي الله تعالي. قال الله تعالي: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أوقع متابعة الرسول بين المحبتين، وذلك أن محبة العبد منوطة بمتابعته ومحبة الله العبد متوقفة علي متابعته صلى الله عليه وسلم، فلوح بقوله: ((أعني علي نفسك)) إلي أن نفسه [بمثابة العدو المناوئ]، فاستعان بالسائل علي قهو النفس، وكسر شهواتها بالمجاهدة، والمواظبة علي الصلاة، والاستعانة بكثرة السجود، حسما للطمع الفارغ من العمل والاتكال علي مجرد التمني وأنشد:

897 - وعن معدان بن طلحة، قال: لقيت ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلين الله به الجنة، فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلي رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. رواه مسلم. الفصل الثاني 898 - عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [898] 899 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)). رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. قال أبو سليمان الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. وقيل: هذا منسوخ. [899] 900 - وعن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)). رواه أبو داود، والترمذي. [900] ـــــــــــــــــــــــــــــ دنيت [للمجد] والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا لا تحسب [المجد] تمرا أنت آكله لم تبلغ [المجد] حتى تلعق الصبرا الحديث الحادي عشر عن معدان: قوله: ((أعمله)) يجوز أن يكون مجزوماً جواباً للأم، و ((يدخلني)) بدلا منه، وذلك لأن معدان لما كان معتقداً لكون الإخبار سبباً لعمله صح ذلك، وأن يكون مرفوعاً صفة للعمل. الفصل الثاني الحديث الأول إلي الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا يبرك)) ((قض)): ذهب

901 - وعن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: ((رب اغفر لي)). رواه النسائي، والدارمي. [901] الفصل الثالث 902 - عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير، رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. [902] 903 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين)) رواه الترمذي. [903] ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثر أهل العلم أن الأحب للساجد أن يضع ركبتيه، ثم يديه؛ لما رواه وائل بن حجر. وقال مالك، والأوزاعي رضي الله عنهما بعكسه لهذا الحديث، والأول أثبت عند أرباب النقل. وقد قيل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخ؛ لما روى عن مصعب بن سعد أنه قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين. فلولا كان حديث أبي هريرة سابقاص علي ذلك لزم النسخ مرتين، وأنه علي خلاف الدليل. ((تو)) كيف ينهي عن بروك البغير ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين، والبعير يضع اليدين قبل الرجلين؟ فالجواب أن الركبة من الإنسان في الرجلين، ومن ذوات الأربع في اليدين. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((عن نقرة الغراب)) يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. قوله: ((افتراش السبع)) وهو أن يضع ساعديه علي الأرض في السجود. قوله: (وأن يوطن الرجل المكان)) ((نه)): قيل: معناه أن يألف الرجل مكانا معلوماً من المسجد مخصوصاً به، يصلي فيه، كالبعير لا يأوى من عطن إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخاً. وقيل: معناه أن يبرك علي ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير، يقال: أوطنت الأرض، وطنتها، واستوطنتها: اتخذتها وطنا ومحلا، ومنه الحديث: ((أنه صلى الله عليه وسلم نهي عن إيطان المساجد)) أي اتخاذها وطناً. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لا تقع بين السجدتين)) - بضم التاء- من

(15) باب التشهد

904 - وعن طلق بن علي الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينظر الله عز وجل إلي صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين ركوعها وسجودها)). رواه أحمد. [904] 905 - وعن نافع، أن ابن عمر كان يقول: من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه علي الذي وضع عليه جبهته، ثم إذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه)). رواه مالك. [905] (15) باب التشهد الفصل الأول 906 - عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في التشهد، وضع ـــــــــــــــــــــــــــــ الإقعاء، كذا في جامع الأصول، هو أن يضع إليته علي عقبيه بين السجدتين، كذا في النهاية، وعن أبي عبيد: هو أن يجلس علي إليته ناصباً قدميه. وفي جعل قوله: ((إني أحب لك)) مقدمة لهذا الأمر اعتناء لشأنه, وفيه أن الملعم والمرشد ينبغي أن يكون رفيقاً لا يواجه من يرشده إلا بما يحبه. الحديث الثالث عن طلق: قوله: ((بين خشوعها)) أي ركوعها، وإنما سمي الركوع خشوعاً وهو هيئة الخاشع تنبيهاً علي أن القصد الأولي من تلك الهيئة الخشوع والانقياد، وقد يعكس لشدة الملازمة بينهما، كما قوله تعالي: ((واركعوا مع الراكعين)) فسر الركوع بالخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين الله سبحانه وتعالي. الحديث الرابع عن نافع: قوله: ((فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه)) علة لوضع اليدين علي الأرض كما وضع الجبهة عليها. وفيه إشارة إلي حديث ابن عباس: ((أمرت أن أسجد علي سبعة أعظم)) والله أعلم. باب التشهد الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((في التشهد)) ((قض)): أي في زمانه،

يده اليسرى علي ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى علي ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة. [906] 907 - وفي رواية: كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه علي ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التي تلي الإبهام يدعو بها، ويده اليسرى علي ركبتيه، باسطها عليها. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وسمي الذكر المخصوص تشهدا لاشتماله علي كلمتي الشهادة، كما سمي دعاء لاشتماله عليه، فإن قوله: سلام عليك، وسلام علينا، دعاء عبر عنه بلفظ الإخبار لمزيد التوكيد. قوله: ((وعقد ثلاثة وخمسين)) أي عقد باليمني عقد ثلاثة وخمسين، وذلك بأن يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل المسبحة، ويضم إليها الإبهام مرسلة. وللفقهاء في كيفية عقدها وجوه، أحدها ما ذكرناه. والثاني: أن يضم الإبهام إلي الوسطى المقبوضة كالقابض ثلاثة وعشرين، فإن الزبير رواه كذلك، والثالث: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويرسل المسبحة، ويحلق الإبهام والوسطى، كما رواه وائل بن حجر. ((وأشار بالسبابة)) أي رفعها عند قول: ((إلا الله)) ليطابق [الفعل القول] علي التوحيد، وفي رواية ((رفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام يدعو بها))، أي يهلل. سمي التهليل والتحميد دعاء لأنه بمنزلة استجلاب لطف الله، واستدعاء صنعه. وقد جاء في الحديث: ((إنما كان أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير)). ((شف)): فيه دليل علي أن في الصحابة من يعرف هذا العقد والحساب المخصوص. قوله: ((فدعا بها)) يحتمل وجهين: أحدهما أن يضمن دعا معنى أشار، والثاني أن يكون ((بها)) حالا أي فدعا مشيراً بها.

908 - وعن عبد الله بن الزبير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى علي فخذه اليمنى، ويده اليسرى علي فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه علي أصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته. رواه مسلم. 909 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام علي الله قبل عباده، السلام علي جبريل، السلام علي ميكائيل، السلام علي فلان. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، أقبل علينا بوجهه، قال: ((لا تقولوا: السلام علي الله؛ فإن الله هو السلام. فإذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل التحيات لله والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين- فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعوه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله بن الزبير: قوله: ((يلقم كفه اليسرى)) يقال: ألقمت الطعام والتقمته إذا أدخلته في فيك، والمعنى يدخل ركبته في راحة كفه اليسرى. الحديث الثالث عن عبد الله: قولنا: ((قلنا السلام)) كانوا يسلمون علي الله تعالي أولا، ثم علي أشخاص معينين من الملائكة والناس، وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلموا علي الله، وبين لهم أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلامة ورحمة له ومنه، فهو مالكها ومعطيها، فكيف يجوز أن يقالك السلام علي الله؟ وأعلمهم أن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم، وعلمهم ما يعمهم، وأمرهم فإفراد صلوات الله عليه بالذكر، لشرفه ومزيد حقه عليهم، وتخصيص أنفهسم، فإن الاهتمام بها أهم. والتحية تفعله من الحياة بمعنى الإحياء والتبقية، والصلاة من الله الرحمة، و ((الطيبات)) ما يلائم ويستلذ به، وقيل: الكلمات الدالة علي الخير، كسقاه الله، ورعاه الله. أتي بالصلوات والطيبات في هذا الحديث بحرف العطف، وقدم ((لله)) عليهما، فيحتمل أن يكونا معطوفين علي ((التحيات))، والمعنى ما سبق، ويحتمل أن يكون ((الصلوات)) مبتدأ، وخبرها محذوف، يدل عليه ((عليك)) و ((الطيبا)) معطوفة عليها، والواو الأولي لعطف الجملة علي الجملة التي قبلها. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكر العاطف أصلاً، وزاد: ((المباركات))، وأخر ((لله))، فتكون صفات. وقوله: ((فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض))، يدل علي أن الجمع المضاف والجمع المحلي باللام للعموم. واختار الشافعي رضي الله عنه رواية ابن عباس، وإن كانت رواية ابن مسعود أشد صحة،

ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه أفقه، ولاشتمال ما رواه علي زيادة، ولأنه الموافق لقوله تعالي: ((تحية من عند الله مباركة طيبة)) ولأنه في لفظه ما يدل علي زيادة ضبطه لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ((وكان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن)). قال الشافعي: ويحتمل أن يكون وقع الاختلاف من حيث إن بعض من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ الكلمة علي المعنى دون اللفظ، وبعضهم حفظ اللفظ والمعنى، وقررهم الرسول صلى الله عليه وسلم علي ذلك وسوغه لهم؛ لأن المقصود هو الذكر، وكله ذكر والمعنى مختلف، ولما جاز في القرآن أن يقرأ بعبارات مختلفة كان في الذكر أجوز. واختار أبو حنيفة رواية ابن مسعود، واختار مالك ما روي عن عمر رضي الله عنه لقوله علي المنبر، ويعلمه الناس، وهو: التحيات لله الزاكيات لله، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام علينا، وعلي عباد الله الصالحين، وإليه ذهب الشافعي قديماً، واستدل عليه بأن عمر رضي الله عنه لا يعلم الناس علي المنبر بين ظهرإني المهاجرين والأنصار إلا ما علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف في أن المصلي أيما قرأ في الصلاة صحت صلاته، إنما الكلام في الفضل. ((فا)): أنكر النبي صلى الله عليه وسلم التسليم علي الله، وعلمهم أن يقولوا عكس ما يجب. ((تو)): السلام بمعنى السلامة، وهما مصدران كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله، وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، ومعناه أنه سالم من كل عيب، وآفة، ونقص، وفناء. ومعنى قولنا: ((سلام عليك)) الدعاء، أي سلمت من المكاره. وقيل: معناه اسم السلام عليك، كأنه يتبرك عليه باسم الله، [والأمثل الدعاء يدل عليه التنكير في قولنا: سلام عليك إذ ليس معناه إلا الدعاء]، وعليه ورد التنزيل، قال الله تعالي: {سلام عليك يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)) ومنه التسليم علي الأموات. ووجه النهي عن السلام علي الله لأن الله عز وجل هو المرجوع إليه المسائل، المتوسل إليه بالدعاء، المتعالي عن المعإني التي ذكرناها في التسليم، فأنى يدعى له وهو المعدو علي الحالات؟ ولأي معنى يطلق عليه ما يستدعيه حاجة المفطورين وتقتضيه نقائض المربوبين؟ وأقول: تمام تقريره أن تسمية الله تعالي بالسلام لما أنه منزه مقدس عن النقائض والعيوب، وأن لا يحل بجانبه الأقداس شائبة خوف، وهذا المعنى مختص به؛ لما ورد: ((أنت السلام)) أي أنت المختص به لا غيرك؛ لتعريف الخبر، و ((منك السلام)) معناه أن غيرك في معرض النقصان والخوف، مفتقر إلي جانبك بأن تؤمنه، ولا ملاذ له غيرك، فدل علي التخصيص تقدير الخبر علي المبتدأ. و ((إليك يعود السلام)) يعني إذا شوهد في الظاهر أن أحداً آمن غيره فهو في الحقيقة راجع إليك، وإلي توفيقك إياه، وأنك غير مستقل به، ومن ثم قدم المعمول علي عامله، ثم إذا

910 - وعن عبد الله بن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: ((التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله. رواه مسلم. ولم أجد في ((الصحيحين))، ولا في الجمع بين الصحيحين: ((سلام عليك)) و ((السلام علينا)) بغر ألف ولام، ولكن رواه ((صاحب الجامع)) عن الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: السلام عليك، ناقضت، حيث توهمت أنه مفتقر إلي ما هو منزه عنه من إزالة الخوف، وتلخيص هذا ما جاء في الدعاء: اللهم! إنك آمن من كل شيء وكل شيء خائف منك، فبأمنك من كل شيء وخوف كل شيء منك آمنا من خوف كل شيء. الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((التحيات)) جمع تحية، وهي الملك، وقيل البقاء، وقيل السلام، وجمعها ليشمل هذه المعإني كلها، كأنه قيل: السلامة، والبقاء، والملك لله عز وجل. وسئلت عن تأليف هذا النظم، قلت: هو جملتان واردتان علي الاستئناف، فإن ((التحيات)) مبتدأ، و ((المباركات)) صفة، والخبر مقدر أي التحيات المباركات لله، فإن العبد لما وجه التحيات إلي الله تعالي اتجه السائل يقول: فما للعبد حينئذ؟ أجيب أن الصلوات الطيبات لله، فالله- عز وجل- يوجهها إليه جزاء لما فعل فضلاً منه ورحمة؛ فإن الصلاة هي الرحمة والبركة وأنواع الخير، وهي المسئولة في قوله: ((اللهم إني أسألك الطيبات)). وحين وصف الله تعالي بالبقاء الدائم والملك الثابت، ووجه السلام إلي نبي الله سبحانه وتعالي أتبعه بذكر التوحيد لله تعالي، والرسالة لنبي الله تعالي، ثم عقبه بالصلوات عليه، ليجمع له بين المنقبتين: النبوة والرسالة، ويحوز له الفضيلتين: الصلاة، والسلام. فإن قلت: ما معنى قولنا: ((سلام عليك أيها النبي)) علي الخطاب، وهلا جيء بها علي الغيبة وهي الظاهرة سياقا، لينتقل من تحية الله- تعالي- إلي تحية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلي تحية النفس، ثم يعم الصالحين من عباده، كالملائكة والأولياء. قلت: نحن نتبع لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه حين علم الحاضرين من الصحابة كيفية التسليم، ومن ذهب إلي الغيبة توخى معنى ما يؤدى به اللفظ بحسب مقام الغيبة، وقريب منه قوله تعالي: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون} بالياء والتاء، فالياء التحتإنية هو اللفظ المتوعد به بعينه، والفوقإنية معنى بحسب مقام الخطاب. وينصر هذا التأويل ما وراء البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أنه قال: ((علمني النبي صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله- إلي قوله- السلام عليك، وهو بين ظهرإنينا، فلما قبض قلنا: السلام علي النبي)). ويمكن أن نأخذ في شرع أهل العرفان، ونقول: ((الصلوات)) محمولة علي ما تعورف من الأركان المخصوصة، و ((الطيبات)) علي كونها خالصة لوجه الله سبحانه وتعالي محصلة للزلفي،

ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قال سبحانه وتعالي: ((قل إن صلوتي ونسكي ومحياي ومماتي لله)) وحينئذ: تقدير السؤال أنهم حين استفتحوا باب الملكوت، واستأذنوا بالتحيات علي الولوج ما فعل بهم؟ أجيب أنه أذن لهم بالدخول في حريم الملك الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة والمناغاة، كما ورد: ((وقرة عيني في الصلاة)) و ((أرحنا يا بلال)) فأخذوا في الحمد والثناء والتمجيد وطلب المزيد، وأسعفوا بحاجاتهم، فعند ذلك نبهوا علي أن هذه المنح والألطاف بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم المحبوب حاضر، فأقبلوا عليه مسلمين بقولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسيأتي عن قريب الكلام في معنى الصلوات إن شاء الله تعالي. قوله: ((المباركات)) ((غب)): أصل البرك صدر البعير، وبرك البعير ألقى بركه، واعتبر منه معنى اللزوم، وسمي محبس الماء بركة للزوم الماء فيها، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، وقال الله تعالي: {وهذا ذكر مبارك} تنبيها علي ما يفيض عيله من الخيرات الإلهية. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلي وجه لا يحصى، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، فيه بركة. قوله: ((السلام عليك)) ((مح)): يجوز فيها وفيما بعده أعني ((السلام علينا)) حذف اللام وإثباته، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين: البخاري، ومسلم. وأقول: أصل سلام عليك: سلمت سلاماً عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلي الرفع علي الابتداء لدلالة علي ثبوت المعنى وإثباته، ثم التعريف في الموضعين إما للعهد التقديري، أي ذلك السلام الذي وجه إلي الأمم السابقة من عباد الله الصالحين- علينا وعلي إخواننا، وإما للجنس، والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد أنه ما هو، وعمن يصدر، وعلي من ينزل- عليك، وعلينا، ويجوز أن تكون للعهد الخارجي، إشارة إلي قوله سبحانه وتعالي: {وسلام علي عباده الذين اصطفي} ولا شك أن هذه التقادير أولي وأحرى من تقدير النكرة. قوله ((عباد الله الصالحين)) ((مح)): العبد الصالح هو القائم بحقوق الله سبحانه وتعالي، وحقوق العباد. وأقول: الصلاح هو استقامة الشيء علي حاله، وإفساد ضده، ولا يحصل الصلاح الحقيقي إلا في الآخرة؛ لأن الأحوال العاجلة وإن وصفت بالصلاح في بعض الأوقات لكن لا تخلو من شائبة فساد وخلل، ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة، خصوصاً لزمرة الأنبياء؛ لأن

الفصل الثاني 911 - عن وائل بن حجر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى علي فخذه اليسرى، وحد مرفقه اليمنى علي فخذه اليمنى، وقبض تنتين، وحلق حلقة، تم رفع أصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها. رواه أبو داود، والدارمي. [911] ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستقامة التامة لا تكون إلا لمن فاز بالقدح المعلي، ونال المقام الأسنى، ومن ثم كانت هذه المرتبة مطلوبة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالي في حق الخليل: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} وحكى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه دعا بقوله: {توفقإني مسلماً وألحقني بالصالحين}. الفصل الثاني الحديث الأول عن وائل: قوله: ((ثم جلس)) عطف علي ما ترك ذكره في الكتاب من صدر الحديث، وهو أن الراوي قال: لأنظرن إلي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة، فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، ثم وضع يديه علي ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس. قوله: ((وحد مرفقه اليمنى علي فخذه اليمنى)) ((مظ)): أي رفع مرفقه عن فخذه، وجعل عظم مرفقه كأن رأس وتد. وأقول: أصل الحد المنع، والفصل بين الشيئين، ومنه سمى حدود الله، والمعنى فصل بين مرفقه وجنبه، ومنع أن يلتصقا في حالة استعلائها علي الفخذ. ((شف)): يحتمل أن يكون ((حد)) مرفوعاً مضافاً إلي المرفق علي الابتداء، وقوله: ((علي فخذه)) الخبر، والجملة حال. وأن يكون منصوباً عطفا علي مفعول ((وضع))، أي يده اليسرى علي فخذه اليسرى، فوضع حد مرفقه اليمنى علي فخذه اليمنى. قوله: ((بدعو بها)) ((مظ)): أي يشير بها إلي وحدإنية الله سبحانه وتعالي في حالة دعائه.

912 - وعن عبد الله بن الزبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بشير بأصبعه إذا دعا، ولا يحركها. رواه أبو داود، والنسائي. وزاد أبو داود: ولا يجاوز بصره إشارته. [912] 913 - وعن أبي هريرة، قال: إن رجلاً كان يدعو بأصبعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحد أحد)). رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [913] 914 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد علي يده. رواه أحمد، وأبو داود. وفي رواية له: نهي أن يعتمد الرجل علي يديه إذا نهض في الصلاة. [914] 915 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين كأنه علي الرضف حتى يقوم. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله بن الزبير: قوله: ((ولا يحركها)) ((مظ)): اختلفوا في تحريك الإصبع إذا رفعها للإشارة، والأصح أن يضعها من غير تحريك، ولا ينظر إلي السماء حين الإشارة إلي التوحيد، بل ينظر إلي إصبعه، ولا يجاوز بصره عنها؛ [كيلا يوهم أن الله سبحانه وتعالي في السماء، تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً] الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أحد أحد)) ((فا)): أراد وحد فقلبت الواو همزة، كما قيل أحد وإحدى، وآحاد، وقد [بلغت] بها القلب مضمومة، مكسورة، ومفتوحة، والمعنى بإصبع واحدة. ((نه)): ((أحد)) أي أشر بإصبع واحدة؛ لأن الذي تدعو إليه واحد، وهو الله سبحانه وتعالي. الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((معتمداً)) أي متكئا، وقوله: ((علي يديه إذا نهض ((مظ)): وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي بخلافه. الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((كأنه علي الرضف)) ((نه)): هو الحجارة المحماة

الفصل الثالث 916 - عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: ((بسم الله، وبالله، التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار)) رواه النسائي. [916] 917 - وعن نافع، قال: كان عبد الله بن عمر، إذا جلس في الصلاة وضع يديه علي ركبتيه، وأشار بأصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لهي أشد علي الشيطان من الحديد)) يعني السبابة. رواه أحمد. [917] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي النار، واحدتها رضفة، وفي رواية بسكون الضاد، قيل: أراد به تخفيف التشهد الأول، وسرعة القيام في الرباعية والثلاثية، وكذا عن المظهر. ((تو)): أراد بالركعتين الأوليين الأولي والثانية من الرباعية، أي لم يكن يلبث إذا رفع رأسه من السجود في هاتين الركعتين حتى ينهض قائماً. أقول: التأويل ضعيف وعذره في الثنائية والثلاثية بقوله: إنما ذكر الصحابي في الرباعية اكتفاء بذكر الأولي في كل ركعتين، متعسف، وأيضاً تأويله هذا الحديث بما ذكر يقدح في إيراد محيي السنة هذا الحديث في باب التشهد، ولأن لفظه ((علي)) وإيقاعها خبر كان يستدعي استقرار علي القعود، وحتى التدريجية تقتضي زماناً يؤثر فيه تلك الحرارة علي التدريج ليستقره، وتخصيص ذكر الرضف دون النار يساعده علي ما ذكر، ولعل شرعية وضع الورك اليسرى علي بطن الرجل اليسرى، والاعتاد علي أصابع الرجل اليمنى في التشهد الأول دون الثاني إشارة إلي معنى الاستقرار. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن نافع: قوله: ((السبابة)) وهي فعالة من السب وهو الشتم، وسبه أيضاً بمعنى قطعة، والحمل علي المعنى الثاني أنسب؛ لذكر الحديد في الحديث، كأن المصلي عند رفعها والإشارة إلي التوحيد يقطع طمع الشيطان من ولايته، وإضلاله، وأمره بالإشراك بالله، كما قال الله سبحانه وتعالي: {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا}.

(16) باب الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

918 - وعن ابن مسعود، كان يقول: من السنة إخفاء التشهد رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال: هذا حديث حسن غريب. (16) باب الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها الفصل الأول 919 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بلي، فأهدها لي. قال: سألنا رسول اله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم عيك. قال: ((قولوا: اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد، كما صليت علي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((من السنة)) ((مح)): إذ قال الصحابي: السنة كذا، ومن السنة كذا، فهو في الحكم كقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا مذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء، وجعله بعضهم موقوفاً ليس بشيء. وأقول: معنى ((من كذا)) شامل لمعنى، قال وفعل وأمر وقرر. والله أعلم. باب الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها ((نه)): معنى ((صل علي محمد)) عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وقيل: لما أمرنا الله بالصلاة عليه لم نبلغ قدر الواجب الواجب من ذلك فأحلنا علي الله تعالي وقلنا: اللهم صل أنت علي محمد لأنك أعلم بما يليق. الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((علمنا كيف نسلم)) ((مظ)): أي علمنا الله كيف الصلاة والسلام عليك في قوله سبحانه وتعالي: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسيلما}. فكيف نصلي علي أهل بيتك؟ وأما إذا كان السؤال عن كيفية الصلاة عليه خاصة فمعنى قوله: ((إن الله علمنا كيف السلام عليك)) أن الله قد علمنا بلسانك وبواسطة بيانك في التحيات: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وأقول: يؤيد الوجه الول قول السائل: ((أهل البيت))، فإنه نصب بيانا لقوله: ((عليكم)) فإن الجمع محتمل لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم مجازاً، ولإجرائه علي حقيقته من إرادة الجماعة، فبين

إبراهيم وعلي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك علي محمد وعلي آل محمد، كما باركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). متفق عليه. إلا أن مسلماً لم يذكر: ((علي إبراهيم)) في الموضعين. ـــــــــــــــــــــــــــــ بقوله: أهل البيت، أي أعني أو أريد أهل البيت، فحينئذ يطابق ما ذكره صلى الله عليه وسلم في جوابه من ذكر محمد مقرون بذكر الآل مرارا. وينصر المعنى الثاني الأحاديث الواردة في التحيات مقرونة بذكر السلام دون الصلاة. ((فا)): أصل آل أهل، فأبدلت الهاء همزة، ثم الهاء ألفا، يدل عليه تصغيره علي أهيل. وتختص بالأشهر الأشرف، كقولهم: الفراء آل محمد، ولا يقال: آل الخياط والإسكاف. ((مظ)): اختلفوا في الآل من هم؟ قيل: من حرمت عليه الزكاة، كبني هاشم، وبني المطلب، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي، وإخوته جعفر وعقيل، وأعمامه صلى الله عليه وسلم حمزة، والعباس والحارث بن عبد المطلب، وأولادهم. وقيل: كل تقي آله عليه الصلاة والسلام. وقراءة التحيات والصلوات علي النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأخيرة واجبة عند الشافعي، ومستحبة عند أبي حنيفة رضي الله عنهما. ((خط)): الصلاة التي بمعنى التعظيم والتكريم لا تقال لغيره، والتي بمعنى الدعاء والتبرك تقال لغيره، ومنه ((صل علي آل أبي أوفي)) أي ترحم عليهم وبارك. أقول: لعل حمل الآل علي العموم من الأصفياء وأتقياء الأمة، فيدخل فيه أهل البيت دخولا أوليا، وكذا الصلاة علي التعظيم والترحم أولي؛ لأن التشبيه في قوله: ((كما صليت علي إبراهيم)) ليس من باب إلحاق الناقص بالكامل، بل من باب بيان حال من لا يعرف بما يعرف، وما عرف من الصلاة علي إبراهيم وآله ليس إلا في قوله تعالي: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}. ((الكشاف)): قوله تعالي: ((رحمة الله وبركاته عليكم)) كلام مستأنف، علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب؛ فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل الرحمة النبوة، والبركات والأسباط من بني إسرائيل، لأن الأنبياء منهم كلهم من ولد إبراهيم. انتهي كلامه. فحينئذ يكون الأتقياء والأصفياء من الأمة موازنة الأنبياء من بني إسرائيل، وقوله: ((إنك حميد مجيد)) تذييل للكلام السابق، وتفسير له علي سبيل العموم، أي إنك حميد فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة، والآلاء المتعاقبة المتوالية، مجيد كريم كثير الإحسان إلي جميع عبادك الصالحين، ومن محامدك وإحسانك أن توجه صلاتك وبركاتك وترحمك علي رسولك نبي الرحمة وآله. ((مح)): ذكر في الأذكار: أجمعوا علي الصلاة علي نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا سائر الأنبياء، والملائكة،

920 - وعن أبي حميد الساعدي، قال: قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قولوا: اللهم صل علي محمد وأزواجه وذريته كما صليت علي آل إبراهيم، وبارك علي محمد وأزواجه وذريته، كما باركت علي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ استقلالا، وأما غيرهم فالجمهور علي عدم الجواز ابتداء، وقيل: إنه حرام، وقيل: إنه مكروه، وقيل: هو ترك الأولي. والصحيح أنه مكروه كراهة تنزيه؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن ذلك. وقال أصحابنا: المعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما أن قولنا: عز وجل مخصوص بالله سبحانه وتعالي، فكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً، لا يقال: أبو بكر وعمر صلي الله عليهما وإن صح معناه. واتفقوا علي جواز جعل غير الأنبياء تبعا لهم في الصلاة، وأما السلام فقال أبو محمد الجويني: هو مثل الصلاة لا يستعمل في الغائب غير الأنبياء، سواء كان حيا أو ميتا، لا يقال: علي عليه السلام والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي حميد: قوله: ((اللهم صل علي محمد)) فإن قلت: كيف يطابق قوله: صل علي محمد وأزواجه وذريته، قوله: كما صليت علي آل إبراهيم حيث لم يذكر فيه إبراهيم كما ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم؟ أجاب القاضي: الآل مقحم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: ((إنه أعطي مزماراً من مزامير آل داود))، ولم يكن له آل مشهور بحسن الصوت. أقول: يمكن أن يقال: إن هذا الحديث يساعد القول الأول في الحديث السابق أن السؤال كان عن الصلاة علي الأهل، فيكون تقدير قوله: كيف نصلي عليك؟ أي علي أهلك، علي هذا يكون ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في الجواب في الحديثين تمهيداً لذكر الأهل تشريفاً لهم، وتكريما. كما قال الله سبحانه وتعالي: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} أي بين يدي رسوله. ((الكشاف)): هو يجري مجرى قولك: سرني زيد وحسن حاله. وأعجبت بعمر وكرمه، وفائدته الدلالة علي قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفي سلك به ذلك المسلك، وإنما ترك ذكر إبراهيم في هذه القرينة وأجرى الكلام علي مقتضى الظاهر لينبه علي هذه الدقيقة، ولو ذكر لم يفهم أنه ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم تمهيداً. قوله: ((وبارك علي محمد)) ((نه)): أي أثبت له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة، وهو من برك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه، ونطلق البركة أيضاً علي الزيادة، والأصل الأول.

921 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: ((من صلي علي واحدة، صلي الله عليه عشراً)). رواه مسلم. الفصل الثاني 922 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي علي صلاة؛ صلي الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات)). رواه النسائي. [922] 923 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولي الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)). رواه الترمذي. [923] 924 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)). رواه النسائي، والدارمي. [924] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلي الله عليه عشراً)) ((مح)): قال القاضي عياض: معنى: صلي عليه، رحمة وضعف أجره، كقوله تعالي: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وقال: وقد تكون الصلاة علي وجهها وظاهرها كلاما تسمعه الملائكة تشريفاً للمصلي وتكريماً له كما جاء: ((وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)). الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن ابن مسعود: قوله: [((من صلي علي صلاة واحدة))] الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة من الله تعالي علي العبد إن كان بمعنى الغفران فيكون من باب المشاكلة- من حيث اللفظ لا المعنى- وإن كان بمعنى التعظيم فيكون من الموافقة لفظاً ومعنى، الأعداد المخصوصة محمول علي المزيد والفضل في معنى المطلوب. قوله: ((أولي الناس بي)) كقوله تعالي: {إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي} يعني أن أخص أمتي بي، وأقربهم مني، وأحقهم بشفاعتي- أكثرهم علي صلاة، من الولي القرب، وضمن معنى الاختصاص فعدي بالباء. الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((سياحين)) صفة ((ملائكة)) ((نه)): يقال: ساح في

925 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). 926 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)). رواه النسائي. [926] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرض يسيح سياحة، إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط علي الأرض، وفيه تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن المفخم. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((رد الله علي روحي)) ينهون إليه صلوات أمته، كما ينهي أمور الرعية إلي الملوك، لعل معناه يكون روحه المقدسة في شأن ما في الحضرة الإلهية، فإذا بلغه سلام أحد من الأمة رد الله سبحانه وتعالي روحه المطهرة من تلك الحالة إلي رد من سلم عليه، وكذلك شأنه وعادته في الدنيا يفيض علي أمته من سحاب الوحي الإلهي ما أفاض الله عليه، ولا يشغله هذا الشأن- وهو شأن إفاضة الأنوار القدسية علي أمته- عن شأنه بالحضرة الإلهية، كما كان في عالم الشهادة لا يشغله شأن عن شأن، والمقام المحمود في العقبى عبارة عن هذا المعنى، فهو عليه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ والعقبى في شأن أمته. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عيداً)) ((تو)): يحتمل أن يراد به واحد الأعياد، أي لا تجعلوا زيارة قبري عيداً، أو قبري مطهر عيد، والمعنى لا تجتمعوا للزيارة اجتماعكم للعيد، فإنه يوم لهو وسرور وزينة، وحال الزيارة مخالفة لتلك الحالة، وكان ذلك من دأب اليهود والنصارى، فأورثهم ذلك الغفلة، وقسوة القلب، ومن عادة عبدة الأصنام أنهم لم يزالوا يعظمون أمواتهم حتى اتخذوها أصناما، وإلي هذا أشار صلى الله عليه وسلم: ((اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله علي قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). ويحتمل أن يكون العيد اسما من الاعتياد، يقال: عادة، واعتاده، وتعوده، أي صار عادة له، يعني لا تجعلوا قبري محل اعتياد تعتادونه؛ لما يؤدي ذلك إلي سوء الأدب، وارتفاع الحشمة. ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) أي لا تتكلفوا المعاودة إلي فقد استغنيتم عنه بالصلاة علي. وأقول: بيان نظم الحديث أن يقال: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، معناه لا تجعلوا بيوتكم كالقبور الخالية عن ذكر الله تعالي وعبادته، لأنها غير صالحة لها، وكذلك لا تجعلوا القبور كالبيوت محلا للاعتياد لحوائجكم، ومكاناً للعبادة والصلاة، أو مرجعاً للسرور والزينة كالعيد.

927 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. رواه الترمذي. [927] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) ((قض)): وذلك أن النفوس القدسية إذا تجردت عن العلائق البدنية عرجت واتصلت بالملأ الأعلي، ولم يبق لها حجاب، فيرى الكل كالمشاهد بنفسها، أو بإخبار الملك لها، وفيه سر يطلع عليه من يتيسر له. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((ثم انسلخ)) ((ثم)) هذه استبعادية، كما في قولك لصاحبك تإنيباً له: بئس ما فعلت، وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها. وكذا الفاء في قوله: ((فلم يصل علي)) و ((فلم يدخلاه الجنة))، ويؤيده ورود هذا الحديث في بعض روايات صحيح مسلم بفظ ((ثم)) بدل الفاء في قوله: ((فلم يدخلاه الجنة)). ونظير وقوع الفاء موقع ((ثم)) الاستبعادية قوله تعالي في سورة الكهف: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها}. وفي سورة السجدة: ((ثم أعرض عنها)). وقد تقرر أن قولهم: ((رغم أنف فلان)) كناية عن غاية الذل والهوان، وأن الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن تعظيمه وتبجيله، فمن عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبه عظمه الله، ورفع قدره في الدارين، ومن لم يعظمه أذله الله فالمعنى: بعيد من العاقل بل من المؤمن المعتقد أن يتمكن من إجراء كلمات معدودة علي لسانه فيفوز بعشر صلوات من الله عز وجل، وبرفع عشر درجات له، وبحط عشر خطيئات عنه، ثم لم يغتنمه حتى يفوت عنه، فحقيق بأن يحقره الله تعالي، ويضرب عليه الذلة والمسكنة، وباء وبغضب من الله تعالي. ومن هذا القبيل عادة أكثر الكتاب أن يقتصروا في كتابة الصلاة والسلام علي النبي صلى الله عليه وسلم علي الرمز. وكذا شهر رمضان شهر الله المعظم، {الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان}، فمن وجد فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظمه الله، ومن لم يعظمه حقره الله تعالي. وتعظيم الوالدين مستلزم لتعظيم الله، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالي الإحسان إليهما وبرهما بتوحيده وعبادته، في قوله تعالي: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} فمستبعد ممن منح ووفق الإحسان إليهما، لاسيما في حال كبرهما، وأنهما عنده في بيته كلحم علي وضم، ولا كافل لهما سواه، إن لم يغتنم هذه الفرصة فجدير بأن يهان ويحقر شأنه.

928 - وعن أبي طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر في وجهه، فقال: ((إنه جاءني جبريل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد! أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً؟)). رواه النسائي، والدارمي. [928] 929 - وعن أبي بن كعب، قال: قلت: يا رسول الله! إني أكثر الصالة عليك، فكم أجع لك من صلاتي؟ فقال: ((ما شئت)). قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)). قلت: ((فالثلثين؟ قال: ((ما شئت، فإن زدت فهو خير لك)). قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذا يكفي همك، ويكفر لك ذنبك)). رواه الترمذي. [929] ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كان من حق ((ثم)) في قوله: ((ثم انسلخ)) علي ما قررت معنى الفاء من أن يقرن بعدم الغفران، وأن يقال: رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم لم يغفر له، أي بعيد منه ذلك، فما فائدة ((انسلخ)) ومجيء ((قبل)) وتأخير ذلك أن يغفر؟ قلت: الإيذان بأنه قد تراخى الغفران عنه لتقصيره، وكان من حقه أن يغفر قبل انسلاخ الشهر غرته، أو عقبها يوما فيوما. قوله: ((فلم يدخلاه الجنة)) لما كان دخول الجنة من الله سبحانه وتعالي بواسطة برهما والإحسان إليهما- أسند إليهما مجازاً، كما في قولك: أنبت الربيع البقل، مبالغة. الحديث السابع عن أبي طلحة: قوله: ((أما يرضيك)) هذا بعض ما أعطى من الرضا في قوله تعالي: {ولسوف يعطيك ربك فترضي}. وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلي الأمة، ومن ثم ظهر تمكن البشر في أسارير وجهه عليه السلام ظرفاً ومكاناً للبشر والطلاقة، وهذا رمز إلي نوع من الشفاعة، فإذا كان الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم توجب هذه الكرامة من الله سبحانه وتعالي، فما ظنك بقيامه وتشمره للشفاعة الكبرى؟ رزقنا الله إياها ولجميع المسلمين، آمين، رب العالمين. الحديث الثامن عن أبي بن كعب: قوله: ((فكم أجعل لك من صلاتي)) ((تو)): المعنى كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي، ولم يزل يعارضه ليوقفه علي حد من ذلك. ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحد له في ذلك حداً؛ ئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولا، ثم لا يغلق عليه باب المزيد ثإنياً، فلم يزل يجعل الأمر فيه مراعياً لقرينة الترغيب والحث علي المزيد حتى قال: ((إذا أجعل لك صلاتي كلها))، أي أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي، فقال: ((إذاً يكفي

930 - وعن فاضلة بن عبيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلي، فقال، اللهم اغفر لي وارحمني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجلت أيها المصلي! إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي ثم ادعه)). قال: ثم صلي رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها المصلي! ادع تجب)). رواه الترمذي، وروى أبو داود، والنسائي نحوه. [930] 931 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء علي الله تعالي، ثم الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعوت لنفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سل تعطه، سل تعطه)). رواه الترمذي. [931] ـــــــــــــــــــــــــــــ همك)) أي ما يهمك من أمر دينك ودنياك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة علي ذكر الله تعالي وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بأداء حقه عن مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء علي نفسه، وما أعظمها من خلال جليلة الإخطار، وأعمال كريمة الآثار! وأرى هذا الحديث تابعاً في المعنى لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل: ((من شعله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)). وأقول: قد تقرر أن العبد إذا صلي مرة علي النبي صلى الله عليه وسلم صلي الله عز وجل عليه عشرة، وأنه إذا صلي وفق الموافقة لله، ودخل في زمرة الملائكة المقربين في قوله تعالي: {إن الله وملائكته يصلون علي النبي}. فأنى يوازي هذا دعاءه لنفسه! الحديث التاسع عن فضالة: قوله: ((عجلت أيها المصلي)) ((قض)): أشار صلى الله عليه وسلم أن من شرط السائل أن يتقرب إلي المسئول عنه قبل طلب الحاجة بما يوجب له الزلفي لديه، ويتوسل بشفيع له بين يديه؛ ليكون أطمع في الإسعاف، وأحق بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل. قوله: ((فقعدت)) يحتمل أن يكون عطفاً علي مقدر، أي إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله سبحانه وتعالي، أي اثن عليه بقولك: التحيات المباركات. الحديث العاشر عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((والنبي)) مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره: حاضر، أو جالس، ونحوه، ((وأبو بكر وعمر)) جملة أخرى عطف علي الجملة الأولي، وهي حال من فاعل ((أصلي))، وقد استغنى بالواو عن الضمير.

الفصل الثالث 932 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يكتال بالمكيال الأوفي إذا صلي علينا أهل البيت؛ فليقل: اللهم صل علي محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت علي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) رواه أبو داود. [932] 933 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البخيل الذي من ذكرت عنده لم يصل علي)). رواه الترمذي، ورواه أحمد عن الحسين بن علي، رضي الله عنهما. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سل تعطه)) ((مظ)): الهاء يجوز أن تكون للسكت، كما في قوله تعالي: ((حسابيه)) و ((كتابيه))، وأن تكون ضميراً للمسئول وإن لم يجر له الذكر، أي سل تعط ما تطلبه. وأقول: الأول أوجه من حيث الإطلاق، نحو قولك: فلان يعطي ويمنع، يعني سل لتصير مقضي الحاجة. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالمكيال الأوفي)) عبارة عن نيل الثواب الوافي، علي نحو قوله تعالي: {ثم يجزاه الجزاء الأوفي}. وقوله: ((إذا صلي علينا)) شرط، جزاؤه ((فليقل))، والشرط مع الجزاء جواب للشرط الأول. ويجوز أن تكون ((إذا)) ظرفا، والعامل ((فليقل))، علي قول من ذهب إلي أن ما بعد الفاء الجزائية يعمل فيما قبله، كما في قوله تعالي: {لإيلاف قريش} فإنه معمول لقوله: {فليعبدوا}. ((وأهل البيت)) مجرور بدل من الضمير المجرور في ((علينا))، كما في قول الشاعر: علي حالة لو أن في القوم حاتما علي جوده لضن بالماء حاتم وأن يكون منصوباً بتقدير أعني وقوله: و ((أهل بيته)) عطف العام علي الخاص، علي طريقة: {ولقد آتيناك سبعا من المثإني والقرآن العظيم}. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل))

934 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي علي عند قبري سمعته، ومن صلي علي نائياً أبلغته)) رواه البيهقي في: ((شعب الإيمان)). [934] 935 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: من صلي علي النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، صلي الله عليه وملائكته سبعين صلاة. رواه أحمد. [935] 936 - وعن رويفع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلي علي محمد وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة؛ وجبت له شفاعيت)) رواه أحمد. [936] ـــــــــــــــــــــــــــــ الموصول الثاني مزيد مقحم بين الموصول وصلته، كما في قراءة زيد بن علي: {الذي خلقكم والذين من قبلكم}. ((الكشاف)): أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً. والتعريف في البخيل للجنس، محمول علي الكمال وأقصى غايته، وقد جاء: ((ليس البخيل من بخل بماله، ولكن البخيل من بخل بمال غيره))، وأبلغ الجود منه من أبغض الجود حتى لا يحب أن يجاد عليه، فمن لم يصل علي النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر عنده منع نفسه من أن يكتال الثواب بالمكيال الأوفي، فهل نجد أحد أبخل من هذا؟ الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((من صلي علي عند قبري سمعته)) فإن قلت: كيف الجمع بين معنى هذا الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفصل الثاني: ((لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) أي لا تتكلفوا المعاودة إلي قبري، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم. قلت: لا ارتياب أن الصلاة في الحضور مشافهة أفضل من الغيبة، لكن المنهي عنه هو الاعتياد الذي يرفع الحشمة، ويخالف التعظيم. الحديث الرابع عن رويفع: قوله: ((أنزله المقعد المقرب)) قيل: هو المقام المحمود. وأقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقامان مختصان به: أحدهما مقام حلول الشفاعة، والوقوف عن يمين الرحمن، يغبطه الأولون والآخرون. وثإنيهما مقعده من الجنة، ومنزله الذي لا منزل بعده.

(17) باب الدعاء في التشهد

937 - وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل نخلا، فسجد، فأطال السجود حتى خشيت أن يكون الله تعالي قد توفاه. قال: فجئت أنظر، فرفع رأسه، فقال: ((مالك؟)) فذكرت له ذلك. قال: فقال: ((إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك إن الله عز وجل يقول لك: من صلي عليك صلاة صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه)) رواه أحمد. 938 - وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي علي نبيك. رواه الترمذي. [938] (17) باب الدعاء في التشهد الفصل الأول 939 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة، يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((تصلي علي نبيك)) يحتمل أن يكون من كلام عمر رضي الله عنه. فيكون موقوفاً، وأن يكون ناقلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ فيه تجريد، جرد صلى الله عليه وسلم فحينئذ فيه تجريد، جرد صلى الله عليه وسلم من نفسه نبياً، وهو هو، وعلي التقديرين الخطاب عام لا يختص بمخاطب دون مخاطب، فالأنسب أن يقال: إن النبي مشتق من النباوة والرفعة، أي لا يرفع الدعاء إلي الله سبحانه وتعالي، حتى يستصحب الرافع معه، يعني أن الصلاة علي النبي هي الوسيلة إلي الإجابة. باب الدعاء في التشهد الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((المسيح الدجال)) قيل: سمي الدجال مسيحاً لأن إحدى عينيه ممسوحة، فيكون فعيلا بمعنى مفعول، أو لأنه يمسح الأرض، أي يقطعها في أيام معدودة، فيكون بمعنى فاعل. وقوله: ((من فتنة المحيا وفتنة الممات)) [قيل: المحيا مفعل من الحياة، والممات مفعل من الموت]. قال الشيخ أبو نجيب السهروردي: يريد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر والرضا، والوقوع في الآفات، والإصرار علي الفساد، وترك متابعة طريق

الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم ومن المغرب)). فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!! فقال: ((إن الرجل إذا غرم: حدث فكذب، ووعد فأخلف)). متفق عليه. 940 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)) رواه مسلم. 941 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول، ((قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهدى. وبفتنة الممات سؤال منكر ونكير مع الحيرة، والخوف، وعذاب القبر، وما فيه من الأهوال والشدائد. ((نه)): المأثم الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الاسم نفسه وضعاً للمصدر موضع الاسم، والمغرب أيضاً مصدر وضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: كالغرم وهو الدين، ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله سبحانه وتعالي، أو فيما يجوز ثم عجز، فأما دين حتاج إليه وهو قادر علي أدائه فلا يستعاذ منه. قوله: ((حدث)) ((قض)): ((إذا حدث)) أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد معذرته في التقصير ((كذب))، ((وإذا وعد)) أي بما يستقبل ((أخلف)). أقول: لم يرد بإدخال ((إذا)) في ((حدث)) و ((وعد)) أنهما شرطان، و ((كذب)) و ((أخلف)) جزاءان، بل أراد بيان ترتبهما عليهما بحرف التعقيب، فكيف يتصور ذلك؟ وأن الشرط في الحديث غرم، و ((حدث)) جزاء، و ((وعد)) عطف عليه، و ((كذب)) و ((أخلف)) مرتبان علي الجزاء، وما عطف عليه. ((مح)): حاصل أحاديث الباب استحباب التعوذ بين التشهد والتسليم، وقوله في هذا الحديث: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليستعذ بالله من أربع)) تصريح باستحبابه في التشهد الآخر، وإشارة إلي أنه لا يستحب في التشهد الأول، ولأنه مبني علي التخفيف. وأما الجمع بين فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام، ونظائره كثيرة. قوله: ((كما يعلمهم السورة)) ((مح)): ذهب طاووس إلي وجوبه، وأمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع بهذا الدعاء فيها، والجمهور علي أنه مستحب.

942 - وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) متفق عليه. 943 - وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده. رواه مسلم. 944 - وعن سمرة بن جندب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلي صلاة أقبل علينا بوجهه. رواه البخاري. 945 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. رواه مسلم. 946 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني، والثالث، والرابع عن أبي بكر: قوله: ((مغفرة)) أي غفراناً، ودل التنكير علي أنه غفران لا يكتنه كنهه، ثم وصفه بقوله: ((من عندك)) مزيداً لذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله ومن لدنه لا يحيط به وصف واصف، كما في قوله تعالي: {وآتيناه من لدنا علما}. الحديث الخامس إلي السابع عن أنس: قوله: ((ينصرف عن يمينه)) ((حس)): روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((إذا كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت عن يساره أخذ عن يساره)) قلت: إذا كان المصلي له حاجة ينصرف إلي جانب حاجته، فإن استوى الجانبان فينصرف إلي أي جانب شاء، واليمين أولي، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن، وإن لم يرد الخروج من المسجد فليقبل علي الناس بوجهه من جانب يمينه، والأحاديث الأربعة أعني: حديث عامر بن سعد، وسمرة بن جندب، وأنس، وعبد الله بن مسعود دخيلة في هذا الباب. الحديث الثامن عن ابن مسعود، قوله: ((لا يجعل)) إلي آخره، فيه أن من أصر علي أمر مندوب، وجعله عزماً ولم يعمل بالرخصة فقد أصاب منه الشيطان من الإضلال، فكيف بمن أصر علي بدعة ومنكر؟ وجاء في حديث عبد الله بن مسعود: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصته، كما يحب أن تؤتى عزيمته)).

947 - وعن البراء، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه. يقبل علينا بوجهه. قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث- أو تجمع- عبادك)). رواه مسلم. 948 - وعن أم سلمة، قالت: إن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من الكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلي من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجل. رواه البخاري. وسنذكر حديث جابر بن سمرة في باب الضحك، إن شاء الله تعالي. الفصل الثاني 949 - وعن معاذ بن جبل، قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع إلي الحادي عشر ظاهر. الفصل الثاني الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((أعني علي ذكرك)) قريب من معنى حديث ربيعة بن كعب في باب السجود، حين سأل مرافقته صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعني علي نفسك بكثرة السجود))، حيث علق المحبة به بملازمة الذكر، والمرافقة بكثرة السجود، والذي يقوله في هذا المقام: إن الذكورات الثلاثة مطلوبات غايات، والمطلوب هو البدايات المؤدية إليها، فذكر الغايات تنبيه علي أنها هي المطالب الأولية، وإن كانت نهايات، وتلك وسائل إليها. فقوله: ((أعني علي ذكرك)) المطلوب منه شرح الصدر، وتيسير الأمر، وإطلاق اللسان، وأن يلهمه ويرشده إلي كيفيته، وإليه لمح قول الكليم عليه السلام: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري- إلي قوله- كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً}. وقوله: ((وشكرك)) المطلوب منه توالي النعم المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه لأنه عسير جداً، ولذلك قال الله تعالي: {وقليل من عبادي الشكور}. وقيل: الشاكر من يرى عجزه عن الشكر وأنشد: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر

لأحبك يا معاذ!)) فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله! قال: ((فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: رب أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي؛ إلا أن أبا داود لم يذكر: قال معاذ: وأنا أحبك. [949] 950 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: ((السلام عليكم ورحمة الله))، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره ((السلام عليكم ورحمة الله)) حتى يرى بياض خده الأيسر. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، ولم يذكر الترمذي: حتى يرى بياض خده. [590] 951 - ورواه ابن ماجه، عن عمار بن ياسر. 952 - عن عبد الله بن مسعود، قال: كان أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته إلي شقه الأيسر إلي حجرته. رواه في ((شرح السنة)). [952] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((وحسن عبادتك)) المطلوب منه التجرد عما يشغله عن عبادة الله، ويلهيه عن ذكر الله سبحانه وتعالي وعن عبادته؛ ليتفرغ لمناجاة الله ومناغاته، وكما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقرة عيني في الصلاة)) و ((أرحنا يا بلال))!، وأخبر عن هذا المقام بقوله: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه))، ثم إذا نظرت إلي القرائن الثلاث وجدتها مرتبة علي البدايات، والأحوال والمقامات، وحق لذلك أن يقول المرشد للطالب عند المصافحة، إني أحبك فقل. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((يسلم عن يمينه)) أي متجاوزاً نظره عن يمينه، كما يسلم أحد علي من في يمينه. و ((السلام عليكم)) إما حال مؤكدة، أي يسلم قائلاً: السلام عليكم، كقوله سبحانه وتعالي: {ثم وليتم مدبرين} أو جملة استئنافية، بياناً علي تقدير ماذا كان يقول؟ فأجيب بقوله: السلام عليكم. الحديث الثالث والرابع عن المغيرة: قوله: ((حتى يتحول)) ((قض)): نهي عن ذلك لئلا يتوهم أنه بعد في المكتوبة، و ((حتى يتحول)) جاءت للتأكيد، فإن قوله: ((لا يصلي في موضع صلي فيه)) أفاد ما أفاده. ((مظ)): نهي عن ذلك ليشهد له الموضعان بالطاعة يوم القيامة، ولذلك يستحب تكثير العبادة في مواضع مختلفة.

953 - وعن عطاء الخراسإني، عن المغيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلي فيه حتى يتحول)) رواه أبو داود وقال: عطاء الخراسإني لم يدرك المغيرة. [953] 954 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم حضهم علي الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة. رواه أبو داود. [954] الفصل الثالث 955 - وعن شداد بن أوس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة علي الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم)) رواه النسائي. وروى أحمد نحوه. [955] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عطاء الخرسإني لم يدرك المغيرة)) بيان لضعف الحديث. ((خحس)): قال محمد بن إسماعيل البخاري ولم يذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه ((لا يتطوع الإمام في مكانه)): ولم يصح، وكان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلي فيه الفريضة، وفعله القاسم- أي محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة. الحديث الخامس عن أنس: قوله: ((حضهم)) ((نه)): الحض الحث علي الشيء، يقال: حضه وحضضه، والاسم الحضيضة- بالكسر والتشديد. الفصل الثالث الحديث الأول عن شداد: قوله: ((والعزيمة علي الرشد)) ((غب)): العزم والعزيمة عقد القلب علي إمضاء الأمر، يقال: عزمته، وعزمت عليه، واعتزمت. فإن قلت: من حق الظاهر أن يقدم العزيمة علي الثبات؛ لأن قصد القلب مقدم علي الفعل والثبات عليه. قلت: تقديمه إشارة إلي أنه

956 - وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته بعد التشهد: ((أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد)) رواه النسائي. [956] 957 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم في ـــــــــــــــــــــــــــــ هو المقصود بالذات؛ لأن الغايات مقدمة في الرتبة وإن كانت مؤخرة في الوجود؛ لقوله تعالي: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} قدم تعليم القرآن علي خلق الإنسان تنبيهاً علي هذا المعنى. قوله: ((قلباً سليماً)) المعنى به الخالي عن العقائد الفاسدة والميل إلي شهوات العاجلة ولذاتها، ويتبع ذلك الأعمال الصالحات؛ إذ من علامة سلامة القلب [تأثيرها إلي الجوارح]، قاله الإمام، كما أن صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج، والتركيب والإيصال، ومرضه عبارة عن زوال إحدى تلك الأمور- كذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له- وهو العلم والخلق الفاضل- ومرضه عبارة عن زوال أحدهما. قوله: ((لساناً صادقاً)) إسناد ((صادقاً)) إلي اللسان مجازي؛ لأن الصدق من صفة صاحبه، فأسند إلي الآلة مبالغة، كما أسند وضع الأوزار إلي الحرب في قوله تعالي: {حتى تضع الحرب أوزارها}، وهو للمحارب. ويجوز أن يكون استعارة مكنية، بأن شبه اللسان بمن ينطق بالصدق لكثرة صدوره عنه، ثم أدخل اللسان علي سبيل الادعاء مبالغة في جنس المشبه به، وخيل أنه هو، ثم أثبت للمستعار ما يلازم المشبه به من الصدق ونسب إليه، ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة. وقوله: ((وأسألك من خير ما تعلم)) ((ما)) موصولة، أو موصوفة، والعائد محذوف، وفي إضافة الخير والشر إليه إيماء إلي قوله تعالي: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} الآية. و ((من)) يجوز أن تكون زائدة علي مذهب من يزيدها في الإثبات، أو بيإنية، والمبين محذوف، أي أسألك شيئاً هو خير ما تعلم، أو تبعيضية، سأله إظهاراً لهضم النفس، وأنه لا يستحق من الخير، وعليه قراءة من قرأ: {اهدنا صراطاً مستقيماً} علي أن التنكير للتقليل، كذا فسره ابن جني في المحتسب. ومنه قول عباس بن الأحنف.

(18) باب الذكر بعد الصلاة

الصلاة تسليمة تلقاء وجهه، ثم يميل إلي الشق الأيمن شيئاً. رواه الترمذي. [957] 958 - وعن سمرة، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد علي الإمام، ونتحاب، وأن يسلم بعضنا علي بعض. رواه أبو داود. [958] (18) باب الذكر بعد الصلاة الفصل الأول 959 - عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإني ليرضيني قليل نوالكم وإن كنت لا أرضي لكم بقليل بحرمة ما قد كان بيني وبينكم من الود إلا عدثم بجميل الحديث الثاني والثالث والرابع عن سمرة: قوله: ((أن نرد علي الإمام)) قيل: ((الرد)) رد المأموم علي الإمام سلامة أي يقول ما قاله، وهو مذهب مالك، يسلم المأموم ثلاث تسليمات: تسليمة يخرج بها من الصلاة تلقاء وجهه ويتيامن يسيرا، وتسليمة علي الإمام. وتسليمة علي من كان علي يساره. قوله: ((ونتحاب)) تفاعل من المحبة. وقوله: ((أن يسلم بعضنا علي بعض)) من عطف الخاص علي العام؛ لأن التحاب أشمل معنى من التسليم، ليؤذن بأنه فتح باب المحبة ومقدمتها. باب الذكر بعد الصلاة الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((كنت أعرف)) ((شف)): يعين كان يكبر الله في الذكر المعتاد بعد الصلاة، فأعرف انقضاء صلاته به. وأقول: هذا إنما يستقيم إذا كان ابن عباس بعيداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفض صوته إلا في هذه التكبيرة. ويحتمل أن يراد كنت أعرف انقضاء كل هيئة يتحول منها إلي أخرى بتكبيرة أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التأويل يخالف الباب.

960 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)). 961 - وعن ثوبان، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام)). رواه مسلم. 962 - وعن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لم يقعد)) ((قض)): إنما ذلك في صلاة بعدها راتبة، أما التي لا راتبة بعدها كصلاة الصبح فلا؛ إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقعد بعد الصبح علي مصلاه حتى تطلع الشمس. ودل حديث أنس رضي الله عنه علي استحباب الذكر وفضله بعد صلاة الصبح، وبعد العصر إلي الطلوع والغروب. الحديث الثالث عن ثوبان: قوله: ((أنت السلام)) ((تو)): أي أنت السلام من المعائب، والحوادث، والتغير، والآفات ((ومنك السلام)) أي منك يرجى، ويستوهب، ويستفاد. ((وإليك يرجع السلام)) أي السلام منك بدؤه، وإليك عوده، في حالتي الإيجاد والإعدام. وأرى قوله ((منك السلام، وإليك يرجع السلام)) واردا مورد البيان لقوله: ((أنت السلام)) وذلك الموصوف بالسلامة فيما يتعارفه الناس لما كان هو الذي وجد تعترضه آفة ممن يصيبه بضرر، وهذا مما لا يتصور في صفات الله- بين أن وصفه سبحانه بالسلام لا يشبه أوصاف المخلوقين فإنهم بصدد الافتقار، وهو المتعالي عن ذلك، فهو السلام الذي يعطي السلامة ويمنعها، ويبسطها ويقبضها، لا تبدأ إلا منه، ولا تعود إلا إليه. وأقول: قد حققنا القول في هذه الكلمات الثلاث في التحيات علي ما يقتضيه علم المعإني من الخواص، لكن ما قدرنا المضاف في قوله: ((وإليه يرجع))؛ ليفيد أن مبدأ السلام منه، ومرجعه إليه، فإذا قدر المضاف بأن يقال: إلي رضاه يرجع السلام، يرجع بمعنى القصر إلي أن السلام مقصور علي رضاه لا إلي رضا الغير، فيبعد المتناول، وهذه القرينة الأخيرة أعني: ((وإليك يرجع السلام)) ما وجدناها في الروايات. الحديث الرابع عن المغيرة: قوله: ((في دبر كل صلاة)) مضى شرحه في الحديث العاشر من الفصل الأول من باب الركوع.

شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) متفق عليه. 963 - وعن عبد الله بن الزبير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلي: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)). رواه مسلم. 964 - وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر)). رواه البخاري. 965 - وعن أبي هريرة، قال، إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلي والنعيم المقيم. فقال: ((وما ذاك؟)) قالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عبد الله بن الزبير: قوله: ((مخلصين)) هو حال عامله محذوف، وهو الدال علي مفعول ((كره))، أي نقول: لا إله إلا الله حال كوننا مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قولنا، كقوله تعالي: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} قوله: ((الدين)) مفعول به لـ ((مخلصين))، و ((له)) ظرف له، قدم الاهتمام. الحديث السادس عن سعد: قوله: ((أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل)) اعلم أن الجود إما بالنفس، وإما بالمال، ويسمى الأول شجاعة ويقابلها الجبن، والثاني سخاوة، ويقابلها البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا من متناه في النقص. قوله: ((من أرذل العمر)) ((نه)): أي آخر في حال الكبر والعجز والخوف، والأرذل من كل شيء الرديء منه. أقول: المطلوب عند المحققين من العمر التفكير في آلاء الله تعالي ونعمائه من خلق الموجودات [فيقيموا] بواجب الشكر بالقلب والجوارح، والخرف الفاقد لهما، فهو كالشيء الردي الذي لا ينتفع به، فينبغي أن يستعاذ منه.

يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقدون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منك، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟)) قالوا: بلي يا رسول الله! قال: ((تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة)). قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)). متفق عليه. وليس قول أبي صالح إلي آخره إلا عند مسلم. وفي رواية للبخاري: ((تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً)) بدل: ((ثلاثاً وثلاثين)). 966 - وعن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معقبات لا يخيب قائلهن- أو فاعلهن- دبر كل صلاة مكتوبة، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدثور)) جمع دثر- بالسكون- وهو المال الكثير، والباء في ((بالدرجات)) بمعنى المصاحبة، وهو أولي وأوقع في هذا المقام من الهمزة المتضمنة لمعنى الإزالة، يعني ذهب أهل الدثور بالدرجات العلي، واستصحبوها معهم في الدنيا والآخرة، ومضوا بها، ولم يتركوا لنا شيئاً منها، فما حالنا يا رسول الله؟ ولو قيل: أذهب أهل الدثور الدرجات، أي أزالوها، لم يكن بذلك. هذا مذهب المبرد، وصاحب الكشاف نص في قوله تعالي: {ذهب الله بنورهم} علي هذا المعنى، ولم يقف علي سر المعإني من النحاة تكلم عليه، وقد أجبنا عن ذلك في فتوح الغيب مستقصى. وهذا الحديث من أقوى الدليل علي ما قصدناه. الحديث الثامن: قوله: ((النعيم المقيم)) وصفه بـ ((المقيم)) تعريضاً بالنعيم العاجل، فإنه قلما يصفو، وإن صفا فهو في وشك الزوال، وسرعة الانتقال. فإن قلت: ما معنى الأفضلية في قوله: ((لا يكون أحد أفضل منكم)) مع قوله: ((إلا من صنع مثل ما صنعتم))، فإن الإفضلية تقتضي الزيادة، والمثلية المساواة؟ قلت: هو من باب قوله: وبلدة ليس بها إنيس إلا اليعافير وإلا العيس يعني إن قدر أن المثلية تقتضي الأفضلية فتحصل الأفضلية، وقد علم أنها تقتضيها، فإذا لا يكون أحد أفضل منك. وهذا علي مذهب التميمي. ويحتمل أن يكون المعنى ليس أحد أفضل

967 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة ـــــــــــــــــــــــــــــ منكم إلا هؤلاء؛ فإنهم يساوونكم، وأن يكون المعنى بأحد الأغنياء، أي ليس أحد منهم أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. قوله: ((ثلاثاً وثلاثين مرة)) يحتمل أن يكون المجموع هذا المقدار، وأن يكون كل واحد منها يبلغ هذا العدد. ((مح)): وذكر هذه الحالات من طرق من [غير أبي صالح]، وظاهرها أنه يسبح ثلاثاً وثلاثين مستقلة، والحمد كذلك، وأما قول سهل: ((إحدى عشرة إحدى عشرة)) فلا ينافي رواية الأكثرين: ((ثلاثاً وثلاثين)) بل معهم زيادة، فيجب قبولها. قوله: ((أهل الأموال)) بدل من ((إخواننا)) وفائدة البدل الإشعار بأن ذلك منهم غبطة لا حسداً، أو ضمن ((سمع)) معنى الإخبار، وعدى بالباء. وفي قوله تعالي: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} إشارة إلي أن الغني الشاكر أفضل بكثيرة من الفقير الصابر، نعم! لكن لا يخلو من أنواع الخطر، والفقير الصابر آمن منه. الحديث الثامن عن كعب: قوله: ((معقبات)) ((تو)): أي كلمات الله التي يأتي بعضها بعقب بعض، والمعقبات اللواتي يقمن عند أعجاز المعتركات علي الحوض، فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى، وهي الناظرات للعقب، فكذلك هذه التسبيحات كلما مرت كلمة نابت مكانها أخرى. قوله: ((لا يخيب قائلهن)) ((نه)): الخيبة الحرمان والخسران، ((قض)): قد يقال للقائل: فاعلا؛ لأن القول فعل من الأفعال. أقول لا يستعمل الفعل مكان القول إلا إذا صار القول مستمراً ثابتاً راسخاً رسوخ الفعل، كما قال الله سبحانه وتعالي {والذي جاء بالصدق وصدق به} أي تكلم بالصدق، وصدقه بتحري العمل به. وقوله: ((معقبات)) يحتمل أن يكون صفة مبتدأ أقيمت مقام الموصوف، أي كلمات معقبات، و ((لا يخيب)) خبره، و ((دبر)) ظرف، يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون متعلقاً بـ ((قائلهن لا يخيب))، ويحتمل أن يكون ((لا يخيب قائلهن)) صفة ((معقبات))، و ((دبر)) صفة أخرى، أو خبر آخر متعلقاً بـ ((قائلهن)) و ((ثلاث وثلاثون)) خبراً آخر. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هن ثلاث وثلاثون، والجملة بياناً. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فتلك تسعة وتسعون)) بعد الأعداد

وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه مسلم. الفصل الثاني 968 - عن أبي أمامة، قال: قيل: يا رسول الله! أي الدعاء أسمع، قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)). [968] 969 - وعن عقبة بن عامر، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي في: ((الدعوات الكبير)). [969] 970 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله ـــــــــــــــــــــــــــــ المذكورة نظير قوله تعالي: {تلك عشرة كاملة} بعد ذكر ((ثلاثة وسبعة)). ((الكشاف)): فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((جوف الليل)) إنما يستقيم جواباً إذا أضمر في السؤال اسم الزمان، كما فعله صاحب النهاية، حيث قال: أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، أي أوفق لاستماع الدعاء فيه، وأولي بالاستجابة، وهو من باب: نهاره صائم، ليله قائم. أو يضمر في الجواب الدعاء، كما صنع التوربشتي، قال: قوله: ((أي الدعاء أسمع؟)) معناه أي الدعاء أقرب إلي الإجابة، أو أسرع إجابة. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((جوف الليل)) تقديره: دعاء جوف الليل الآخر، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه مرفوعا. وروى: ((جوف الليل)) بالنصب علي الظرف، أي الدعاء في جوف الليل، ويجوز فيه الجر علي مذهب من يرى حذف المضاف وترك المضاف إليه علي إعرابه. وأما ((الآخر)) ففي الأحوال الثلاث يتبع ((جوف)) في إعرابه. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((بالمعوذات)) في سنن أبي داود والنسائي والبيهقي، وفي رواية المصابيح: ((بالمعوذتين))، فعلي الأول إما أن نذهب إلي أن أقل الجمع اثنان، وإما أن تدخل سورة الإخلاص أو الكافرون في المعوذتين، إما تغليباً، أو لأن في كلتيهما براءة من الشرك، والتجاء إلي الله سبحانه وتعالي من التبري عنه، والتعوذ به منه. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((أن أعتق رقبة)) ((تو)): معرفة وجه تخصيص الأربعة يقيناً لا

من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلي أن تغرب الشمس؛ أحب إلي من أن أعتق أربعة)). رواه أبو داود. [970] 971 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلي ركعتين؛ كانت له كأجر حجة وعمرة)). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تامة، تامة، تامة)). رواه الترمذي. [971] الفصل الثالث 972 - عن الأزرق بن قيس، قال: صلي بنا إمام لنا يكني أبارمثة، قال: صليت ـــــــــــــــــــــــــــــ يؤخذ تلقيه إلا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلينا التسليم عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون وجه التخصيص إنما وقع علي الأربعة لانقسام العمل الموعود عليه علي أربعة: ذكر الله تعالي، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس حين يصلي إلي أن تطلع الشمس، أو تغرب. وأما تخصيص ولد إسماعيل بالذكر فلكونهم أفضل أصناف الأمم، فإن العرب أفضل الأمم قدراً ووجاهة، ووفاءاً وسماحة، وحسباً وشجاعة، وفهما وفصاحة، وعفة ونزاهة. ثم أولاد إسماعيل أفضل العرب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما نكر ((أربعة)) وأعادها؛ ليدل علي أن الثاني غير الأول، فلو عرف لاتحدا، نحو قوله تعالي: {غدوها شهر ورواحها شهر}. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثم صلي ركعتين)) ((مظ)): ي صلي بعد أن تطلع الشمس قدر رمح حتى يخرج وقت الكراهية، وهذه الصلاة تسمى صلاة الإشراق، وهي أول صلاة الضحى. قوله: ((كأجر حجة)) قد ذكرنا تحقيق أمثال هذا التشبيه في الحديث الثاني عشر من الفصل الثاني من باب المساجد أنه من باب إلحاق الناقص بالكامل مبالغة ترغيباً للعامل، أو شبه استيفاء أجر المصلي تاماً بالنسبة إليه باستيفاء أجر الحاج تاماً بالنسبة إليه، وأما وصف الحجة والعمرة بالتام فإشارة إلي المبالغة. الفصل الثالث الحديث الأول عن الأزرق: قوله: ((كانفتال أبي رمثة)) أي انفتالي، جرد عن نفسه أبا رمثة، ووضعه موضع ضميرة مزيداً للبيان، واستحضاراً لتلك الحالة في مشاهدة السامع.

هذه الصلاة، أو مثل هذه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان أبو بكر وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه، وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولي من الصلاة، فصلي نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأينا بياض خديه، ثم انفتل كانفتال أبي رمثة- يعني نفسه- فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولي من الصلاة يشفع، فوثب إليه عمر، فأخذ بمنكبيه، فهزه، ثم قال: اجلس، فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال: ((أصاب الله بك يا بن الخطاب!)). رواه أبو داود [972] 973 - وعن زيد ابن ثابت، قال: أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين، فأتي رجل في المنام من ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((شفع)) الشفع ضم الشيء إلي مثله، يعني قام الرجل يشفع الصلاة بصلاة أخرى، وأما فائدة ذكر ((قد شهد التكبيرة الأولي)) فللتنبيه علي أنه لم يكن مسبوقاً يقوم للإتمام. ويحتمل أن يراد بعدم الفصل ترك الذكر بعد السلام، والضمير في ((فإنه)) و ((أنه)) للشأن، واللام في الثاني مقدر، والمستثنى منه أعم عام التعليل. وقوله: ((أصاب الله بك)) من باب القلب، أي أصبت الرشد فيما فعلت بتوفيق الله سبحانه وتعالي وتسديده. وجاز أن يروى أصاب الله رأيك. والأول هو الرواية في سنن أبي داود، وجامع الأصول، ونظيره قولهم: عرضت الناقة علي الحوض، أي عرضت الحوض علي الناقة، وهو باب واسع في البلاغة. قوله: ((لن يهلك أهل الكتاب)) بالنصب مفعول، وفاعله بعد إلا، أي لن يهلكهم شيء إلا عدم الفصل بين الصلاتين، ((ولن)) استعمل في الماضي معنى ليدل علي استمرار هلاكهم في جميع الأزمنة، واستعمل ((هلك)) بمعنى أهلك. ((الجوهري)): يقول: هلكه يهلكه هلكا بمعنى أهلكه. الحديث الثاني عن زيد: قوله: ((فأتى رجل)) لعل هذا الآتي في المنام من قبيل الإلهام نحو من كان يأتي لتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، ولذلك قرره رسول الله بقوله: ((فافعلوا)) وهذه الصلاة أجمع من تلك لاشتمالها علي التسبيح، والتمجيد، والتكبير، والتهليل، والعدد. والفاء في قوله: ((فاجعلوها)) للتسبيب، مقررة من وجه ومفسرة من وجه، أي إذا كانت التسبيحات هذه والعدد مائة فقرروا العدد وأدخلوا التهليل فيها كما قبل العمل بها.

الأنصار، فقيل له: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا في دبر كل صلاة كذا وكذا؟ قال الأنصاري في منامه: نعم. قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح غدا علي النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فافعلوا)). رواه أحمد، والنسائي، والدارمي [973]. 974 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أعواد هذا المنبر يقول: ((من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه، آمنه الله علي داره ودار جاره، وأهل دويرات حوله)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: إسناده ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إلا الموت)) يعني الموت حاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا تحقق وانقضى حصلت الجنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ((الموت قبل لقاء الله سبحانه وتعالي)). قوله: ((أمنه الله تعالي علي داره)) عبر عن عدم الخوف بالأمن، وعداه بعلي، أي لم يخوفه علي أهل داره وأهل دويرات جاره أن يصيبهم مكروه وسوء، كقوله تعالي: {مالك لا تأمنها علي يوسف} الكشاف: المعنى أتخافنا علهي ونحن نريد الخير؟. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((ويثني رجليه)) أي يعطفهما، ويغيرهما عن هيئة التشهد. قوله: ((ولم يحل لذنب)) فيه استعارة، وما أحسن موقعها! فإن الداعي إذا دعا بكلمة التوحيد قد أدخل نفسه حرما آمنا، فلا يستقيم للذنب أن يحل ويهتك حرمة الله، فإذا خرج عن حرم التوحيد أدركه الشرك لا محالة. ((نه)): في حديث دريد بن الصمة قال لمالك بن عوف: أنت محل لقومك، أي أنت أبحت حريمهم وعرضتهم للهلاك، فشبههم بالمحرم إذا أحل كأنهم كانوا ممنوعين بالمقام في بيوتهم، فحلوا بالخروج منها. والمعنى لا ينبغي لذنب أي ذنب كان أن يدرك الداعي، ويحيط به من جوانبه فيستأصله سوى الشرك، كما قال الله سبحانه وتعالي: {بلي من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة} يعني استولت الخطيئة عليه، وشملت جملة أحواله، حتى صار كالمحاط بها، لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن الشرك؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم يحط به.

975 - وعن عبد الرحمن بن غنم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو علي كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملا، إلا رجلا يفضله، يقول أفضل مما قال)). رواه أحمد. [975] 976 - وروى الترمذي نحوه عن أبي ذر إلي قوله: ((إلا الشرك)). ولم يذكر: ((صلاة المغرب)) ولا ((بيده الخير))، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. [976] 977 - وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا قبل نجد، فغنموا غنائم كثيرة، وأسرعوا الرجعة. فقال رجل منا لم يخرج: ما رأينا بعثاً أسرع رجعة، ولا أفضل غنيمة من هذا البعث. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلكم علي قوم أفضل غنيمة، وأفضل رجعة؟ قوماً شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت الشمس؛ فأولئك أسرع رجعة، وأفضل غنيمة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وحماد بن أبي حميد الراوي هو ضعيف في الحديث. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الحديث يعضد ما ذهب إليه أصحابنا في قوله تعالي: {لا تدركه الأبصار}. قال الإمام المزني: إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده سمي إدراكاً. وقال الرجاج: معنى هذه الآية إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته. قوله: ((يقول أفضل)) بيان لقوله: ((يفضله))، و ((أفضل)) يحتمل أن يراد به أن يدعو به أكثر منه، وأن يراد أنه أتى بدعاء أو قراءة أكثر منه. الحديث الخامس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((بعث بعثا)) أي سرية، هو من باب تسمية المفعول بالمصدر. ((نه)) حديث القيامة: ((يا آدم ابعث بعث النار)) أي مبعوث إليها من أهلها.

(19) باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

(19) باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه الفصل الأول 978 - عن معاوية بن الحكم، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرمإني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه!! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم علي أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فهو الله! ما كهرني، ولا ضربني، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قوما شهدوا)) أي أعني قوما، أو أذكر علي المدح. قوله: ((فأولئك أسرع رجعة)) سمي الفراغ من الصلاة رجعة علي طريق المشاكلة، ويكون استعارة، شبه المصلي الذاكر وفراغه بالمسافر الذي رجع إلي أهله، كما قيل: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر)). باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح له الفصل الأول الحديث الأول عن معاوية قوله: ((فرمإني القوم)) أي أسرعوا في الالتفات إلي، ونفوذ البصر في، استعير من رمي السهم. قوله: ((واثكل أمياه!)) ((مح)): الثكل فقدان المرأة ولدها، و ((أمياه)) بكسر الميم. قوله: ((فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت)). هكذا في الأصول علي ما ذكر في المتن، ولابد من تقدير جواب لما ومستدرك لكن؛ ليستقيم المعنى، فالتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت، لكني سكت، ولم أعمل بمقتضي الغضب. وقوله: ((فلما صلي)) جواب قوله: ((قال إن هذه الصلاة)). وقوله: ((فبأبي وأمي- إلي قوله- قال)) معترضة بين لما وجوابه، والفاء فيه كما في ((فاعلم)) في قول الحماسي: ليس الجمال يمئزر فاعلم وإن رديت برداً وقوله تعالي: ((فلا تكن)) في قوله تعالي: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدي لبني إسرائيل} فإنه عطف ((وجعلناه)) علي ((آتينا))، وأوقعها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد حققنا القول فيه من شرح التبيان. قوله: ((كهرني)) ((فا)) الكهر والقهر والنهي أخوات. ((نه)) يقال: كهره يكهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس.

شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاءنا الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال: ((فلا تأتهم)). قلت: ومنا رجال يتطيرون. قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم)). قال: قلت: ومنا رجال يخطون. قال ((كان نبي من الأنبياء يخط، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من كلام الناس)) ((قض)): أضاف الكلام إلي الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح فإنه لا يراد بها خطاب الناس وإفهامهم. ((حس)): لا يجوز تشميت العاطس في الصلاة، فمن فعل بطلت طلاته. وفيه أن كلام الجاهل بالحكم لا يبطلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علمه كيفية الصلاة، ولم يأمره بإعادتها، وعليه أكثر العلماء التابعين، وبه قال الشافعي وذهب إليه ابن عباس، وابن الزبير، وزاد الأوزاعي وقال: إذا تكلم في الصلاة عامداً لشيء من مصلحة الصلاة- مثل أن قام الإمام في محل القعود، فقال: اقعد أو جهر في موضوع السر فأخبره- لا يبطل صلاته. ((مح)): من قال للعاطس: يرحمك الله، تبطل صلاته، لأنه خاطبه، ولو قال: يرحمه الله، فلا وهو كقولهم: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات. وفي قوله: ((فجعلوا يضربون أيديهم علي أفخاذهم)) دليل علي أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة. وفيه أن من حلف أن لا يتكلم فسبح، أو كبر، أو قرأ القرآن لا يحنث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نفي عن الصلاة كلام الناس علي التأكيد، ثم جعلها نفس التسبيح والتكبير والقراءة، علي سبيل الحصر. قوله: ((أو كما قال)) أي مثل ما قاله من التسبيح والتهليل والدعاء. قوله: ((حديث عهد بجاهلية)) ((مح)): الجاهلية ما قبل ورود الشرع، سموا جاهلية لكثرة جهالاتهم، والباء فيها متعلقة بـ ((عهد)). والفرق بن الكاهن والعراف أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار الكوائن في المستقبل، ويدعى معرفة الأسرار. والعراف يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة ونحوها، ومن الكهنة من يزعم أن جنباً يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدارك الغيب بفهم أعطيه، وأمارات يستدل بها عليه. قوله: ((يتطيرون)) ((نه)): الطيرة- بكسر الطاء وفتح الياء، وقد يسكن- هي التشأم بالشيء، وهو مصدر تطير، يقال: تطير طيرة، مثل تحيز حيزة، ولم تجيء من المصادر هكذا غيرهما. وأصله- فيما يقال- التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، ونهي عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، أو دفع ضر. وقوله: ((فلا يصدنهم)) أي لا يمنعهم مما يتوجهون إليه من المقاصد، أو من سواء السبيل،

فمن وافق خطه فذاك)). رواه مسلم، قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في ((صحيح مسلم))، وكتاب ((الحميدي))، وصحح في ((جامع الأصول)) بلفظه: كذا. فوق: لكني. 979 - وعن عبد الله بن مسعود، قال كنا نسلم علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ـــــــــــــــــــــــــــــ والصراط المستقيم ما يجدونه في صدورهم من الوهم والنهي وارد علي ما يتوهمونه ظاهراً في الحقيقة، وهم منهيون عن مزاولة ما يوقعهم في الوهم في الصدر، كقوله تعالي: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها}. قوله: ((فذاك)) ((خط)): إنما قال صلى الله عليه وسلم: ((من وافق خطه فذاك)) علي سبيل الزجر، ومعناه لا يوافق خط أحد خط ذلك النبي؛ لأن خط ذلك النبي كان معجزة له. ((قض)): ((كان النبي من الأنبياء يخط))، فيعرف بالقرينة ويعرف بالفراسة بتوسط تلك الخطوط. قيل هو إدريس عليه السلام ((فمن وافق خطه)) في الصورة والحالة وهي قوة الخطاط في الفراسة وكماله في العلم والعمل الموجبين لها- ((فذاك))، أي فذاك مصيب. والمشهور ((خطه)) بالنصب، فيكون الفاعل مضمراً، وروى بالرفع فيكون المفعول محذوفاً. وأقول: إنما أبهم الأمر في هذه الصورة ولم يصرح بالنهي كما في الصورتين الأوليين لأنها نسبت إلي نبي من الأنبياء، وهما منسوبان إلي الجاهلية. ((نه)): قال ابن عباس: ((الخط هو ما يخطه الحازي، وهو علم قد تركه الناس، يأتي صاحب الحاجة إلي الحازي، فيعطيه حلواناً، فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي أرض رخوة، فيخط فيها خطوطاً بالعجلة؛ لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها علي مهل خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: ابني عيان أسرع البيان، فإن بقي خطان فهما غلمة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة)). قال صاحب النهاية: المشار إليه علم معروف، وللناس فيه تصإنيف كثيرة، وهو معمول به إلي الآن، ولهم فيها أوضاع، واصطلاح، وأسام، وأعمال كثيرة، ويستخرجون به الضمير وغيره، وكثيراً ما يصيبون فيه. الحازي- بالحاء المهملة والزاي المعجمة- الذي يحرز الأشياء ويقدرها بظنه، ويقال للمنجم الحازي؛ لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره، والحازي أيضاً الكاهن. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((من عند النجاشي)) هو- بفتح النون وتخفيف الجيم وبالشين المعجمة- لقب ملك الحبشة، والذي أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أصحمة، وأسلم

الصلاة، فيرد علينا. فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا. فقلنا: يا رسول الله! كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا. فقال: ((إن في الصلاة لشغلاً)). متفق عليه. 980 - وعن معيقيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الرجل يسوي التراب حيث يسجد؟ قال: ((إن كنت فاعلاً فواحدة)). متفق عليه. 981 - وعن أبي هريرة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخصر في الصلاة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومات قبل الفتح، هجار جماعة من الصحابة إلي الحبشة من مكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المدينة رجعوا إليه، ومنهم عبد الله بن مسعود. ((مظ)): كان الكلام في بدء الإسلام جائزاً في الصلاة، ثم حرم. ((حس)): أكثر الفقهاء علي أنه لا يرد بلسانه، ولو رد بطلت صلاته، ويشير إليه بيده أو إصبعه، ((خط)): رد السلام بعد الخروج سنة، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن مسعود بعد الفراغ من الصلاة، وبه قال جماعة من التابعين. قوله: ((إن في الصلاة لشغلا)) التنكير فيه يحتمل النوع، يعني إن شغل الصلاة قراءة القرآن، والتسبيح، والدعاء، لا الكلام. ويحتمل التعظيم، أي شغلا أي شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تبارك وتعالي، واستغراق في خدمته، فلا يصح الاشتغلا بالغير. الحديث الثالث عن معيقيب: قوله: ((في الرجل أي في حق الرجل، أو في جواب الرجل، سأله أنه كان يسوي التراب حيث يسجد، أي إن كنت فاعلاً فافعله فعلة واحدة. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن الخصر)) قال ابن الأثير في جامع الأصول: هو أن يأخذ بيده عصا يتكئ عليها. وقيل: هو أن لا يقرأ سورة تامة. قال في الوجه الثاني: وفيه بعد؛ لأن الحديث مسوق في ذكر هيئة القيام في الصلاة، فما للقراءة مدخل. ((تو)): فسر ((الخصر)) في هذا الحديث بوضع اليد علي الخاصرة، وهو صنيع اليهود. و ((الخصر)) لم يفسر علي هذا الوجه في شيء من كتب اللغة، ولم أطلع عليه إلي الآن، والحديث علي هذا الوجه أخرجه البخاري، ولعل بعض الرواة ظن أن ((الخنصر)) يرد بمعنى الاختصار، وهو وضع اليد علي الخاصرة. وفي رواية أخرى له: ((نهي أن يصلي الرجل مختصراً)) وكذا رواه مسلم، والدارمي، والترمذي، والنسائي. وفي رواية لأبي داود: ((أنه نهي

982 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة. فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الاختصار في الصلاة)) فتبين من ذلك أن المعتبر هو الاختصار لا الخصر، ومن فسره باتخاذ المخصرة في الصلاة متوكئاً عليه، فقد خالف المشهور، وقد ذكر الكسائي في كتابه عن زياد أنه قال: صليت إلي جنب ابن عمر، فوضعت يدي علي خصري، فقال هكذا- ضربه بيده، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! ما رابك مني؟ قال: هذا الصلب، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عنه)). قلت: قوله: ((هذا الصلب)) معناه كالصليب ومشابه له. وأقول: رد هذه الرواية علي مثل هذه الأئمة المحدثين بقوله: لم يفسر علي هذا الوجه في شيء من كتاب اللغة، لا وجه له؛ لأن ارتكاب المجاز والكناية لم يتوقف علي النقل والسماع، بل علي العلاقة المعتبرة، فكيف لا يكون هذا ونظائره موجوداً في كلامهم؟ وبيانه أن ((الخصر)) هو وسط الإنسان، والنهي لما ورد عليه علم أن دأب ((الخصر)) مما لا ينهي عنه، فتوجه النهي إلي ما يعترضه من الأوصاف والأفعال، كما يطلق العين واليد ويراد ما يصدر عنها، ولما اتفقت الروايات علي أن المراد وضع اليد علي الخاصرة وجب حمله عليه، وهو من الكناية التي يبلغ بها الكلام إلي الدرجة العليا؛ فإنهم إذا أرادوا أن يبالغوا في النفي والنهي ينفون الذات؛ لتنتفي الصفة أو الحال بالطريق البرهإني. ((الكشاف)): حال الشيء تابعة لذاته، وإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال، وذلك أقوى لنفي الحال وأبلغ. وذكره في تفسير قوله تعالي: {كيف تكفرون بالله}. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((اختلاس)) الاختلاس افتعال من الخلس، وهو السلب. ((قض)): الخلس ما يؤخذ مكابرة. ((مظ)): يعني من التفت في الصلاة يميناً أو يساراً، ولم يحول صدره عن القبلة- لم تبطل صلوته، ولكن يسلب كمال صلاته، وإن حوله بطلت. وأقول المعنى من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالي: {والذين هم في صلاتهم خاشعون} فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان، تصويراً لقبح تلك الفعلة، أو أن المصلي حينئذ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالي مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الفرصة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو لتخطفن)) ((أو)) هاهنا للتخيير

983 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلي السماء، أو لتخطفن أبصارهم)). رواه مسلم. 984 - وعن أبي قتادة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص علي عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تهديداً، مثلها في قوله تعالي: {تقاتلونهم أو يسلمون} أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما، وهو خبر في معنى الأمر، كما في قوله تعالي: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} أي ليكون أحد الأمرين: إما إخراجكم، وإما عودكم في الكفر، والمعنى ليكون منكم الانتهاء عن الرفع أو خطف الأبصار عند الرفع من الله سبحانه وتعالي. ((مح)) قال القاضي عياض: اختلفوا في كراهة رفع البصر إلي السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه القاضي شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون؛ لأن السماء قبلة الدعاء في غير الصلاة، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فلا ينكر رفع الأبصار إليها كما لا يكره رفع اليد في الدعاء. الحديث السابع عن أبي قتادة قوله: ((يؤم الناس)) حال من المفعول؛ لأن رأيت بمعنى النظر لا العلم. قوله: ((أمامه)) هي ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خط)): إسناد الإعادة والرفع إليه علي سبيل المجاز، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتعمد عملها؛ لأنه يشغله عن صلاته، لكنها علي عادتها تتعلق به، وتجلس علي عاتقه، وهو لا يدفعها عن نفسه، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجإنية، فكيف لا يشغله هذا؟ ((حس)): في الحديث دلالة علي أن لمس ذوات المحارم لا ينقض الطهارة، وعلي أن ثياب الأطفال وأبدانهم علي الطهارة ما لم يعلم فيه نجاسة، وعلي أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة، وعلي أن الأفعال المتعددة إذا تفاصلت لا تفسد الصلاة.

985 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع؛ فإن الشيطان يدخل)). رواه مسلم. 986 - وفي رواية البخاري عن أبي هريرة، قال: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع، ولا يقل: ها؛ فإنما ذلكم من الشيطان، يضحك منه)). 987 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه علي سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)، فرددته خاسئاً. متفق عليه. 988 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نابه شيء في صلاته، فليسبح، فإنما التصفيق للنساء)). وفي رواية: قال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((إذا تثاءب)) ((قض)) التثاؤب تفاعل من الثوباء- بالمد- وهو فتح الحيوان فمه لما عراه من تمط وتمدد لكسل وامتلاء، وهي جالبة النوم الذي هو من حبائل الشيطان، فإنه به يدخل علي المصلي ويخرجه عن صلاته. فلذلك جعله سبباً لدخول الشيطان. والكظم المنع والإمساك. قوله: ((ولا يقل: ها)) بل يدفعه باليد للأمر بالكظم، وضحك الشيطان عبارة عن رضاه بتلك الفعلة، والضمير في ((منه)) راجع إلي المشار إليه بـ ((ذا))، و ((كم)) بيان لخطاب الجماعة، وليس بضمير. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله قوله: ((إن عفريتا)) ((مح)): العفريت العاتي المارد من الجن. ((قض)): هو فعليت من العفر- بكسر العين وسكن الفاء- وهو الخبيث، ومعناه المبالغ في المرودة مع دهاء وخبث، والتفلت والإفلات واحد. وهو التخلص إلي الشيء فجاءة، والتمكين إقدار الغير علي الشيء، والسارية الأسطوانة. قوله: ((دعوة أخي سليمان)) ((مظ)): يريد إني لو ربطته لم تستجب دعوة نبي من الأنبياء، فلذلك تركته. ((مح)): قال القاضي عياض: وفيه دليل علي أن الجن موجودون، وأنه قد يراهم بعض الناس، وأما قوله تعالي: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} فمحمول علي

الفصل الثاني 989 - عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نسلم علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، قبل أن نأتي أرض الحبشة، فيرد علينا، فلما رجعنا من أرض الحشبة، أتيته فوجدته يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد علي، حتى إذا قضى صلاته قال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة)) فرد علي السلام. [989] 990 - وقال: ((إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك)). رواه أبو داود. [990] 991 - وعن ابن عمر، قال: قلت لبلال: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده. رواه الترمذي. وفي رواية النسائي نحوه، وعوض: بلال؛ صهيب. [991] ـــــــــــــــــــــــــــــ الغالب، وكذا في شرح السنة. قال الإمام أبو عبد الله المازري: الجن أجسام لطيفة روحإنية، فيحتمل أن يصور بصورة يمكن ربطه معها، لم يمنع من أن يعود إلي ما كان عليه. ((شف)): في قوله: ((فأردت أن أربطه)) إلي آخره دلالة علي أن المصلي إذا خطر بباله ما ليس من أفعال الصلاة لا تبطل صلاته. قوله: ((فرددته خاسئاً)) ((نه)): الخاسئ المبعد، يقال: خسأته فخسئ ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر. الحديث العاشر عن سهل بن سعد: قوله: ((من نابه شيء)) ((غب)): النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى، ونابته نائبة أي حادثة من شأنها أن تنوب دائباً، ثم كثرت حتى استعملت في كل إصابة تصيب الإنسان. والتصفيق ضرب إحدى اليدين علي الأخرى، فالمرأة تضر في الصلاة إن أصابها شيء بطن كفها اليمنى علي ظهر كفها اليسرى. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((شأنك)) ((غب)): الشأن الحال، والأمر، والخطب، والجمع شيءون، ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور. الحديث الثاني والثالث عن رفاعة: قوله: ((مباركاً فيه مباركاً عليه)) الضمير في ((فيه)) راجع إلي الحمد، وكذا في ((عليه)) فعلي الأول البركة بمعنى الزائد من نفس الحمد، وعلي الثاني من الخارج، لتعديتها بعلي التي تتضمن معنى الإضافة، وتلك لا تكون إلا من الخارج. و ((أيهم يصعد)) الجملة سدت مسد مفعولي ((ينظرون)) المحذوف علي التعليم وقوله: ((فلم يتكلم أحد))

992 - وعن رفاعة بن رافع، قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطست فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مباركاً عليه، كما يحب ربنا ويرضي. فلما صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف فقال: ((من المتكلم في الصلاة؟)). فلم يتكلم أحد ثم قالها الثانية، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة: أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً، أيهم يصعد بها)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [992] 993 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)) رواه الترمذي. وفي أخرى له ولابن ماجه: ((فليضع يده علي فيه)). [993] 994 - وعن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلي المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في الصلاة)) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي. [994] 995 - وعن أبي ذر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الله عز وجل مقبلاً علي العبد وهو في صلاته مالم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [995] 996 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أنس! اجعل بصرك حيث تسجد)) رواه البيهقي في ((سننه الكبير))، من طريق الحسن عن أنس يرفعه. [996] ـــــــــــــــــــــــــــــ مسبب عن قوله: ((من المتكلم في الصلاة؟)) فإن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم سؤال مستفهم فتوهموا أنه سؤال منكر؛ ظنا منهم أن هذا القول غير جائز في الصلاة، وكان ذلك سببا لعدم الإجابة هيبة وإجلالا، فلما زال التوهم في المرة الثالثة أجاب بقوله: ((أنا))، فالفاء في ((فقال)) أيضاً مسبب. الحديث الرابع والخامس عن كعب: قوله: ((فلا يشبكن بين أصابعه)) لعل النهي عن إدخال الأصابع بعضها في بعض لما في ذلك من الإيماء إلي ملابسته الخصومات والخوض فيها، وحين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن شبك بين أصابعه، وقال: ((اختلفوا وكانوا هكذا)). الحديث السادس إلي الثامن عن أنس: قوله: ((اجعل بصرك حيث تسجد)) ((مظ)): يستحب

997 - وعنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني! إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة. فإن كان لابد؛ ففي التطوع لا في الفريضة)). رواه الترمذي [997] 998 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. رواه الترمذي، والنسائي [998]. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمصلي أن ينظر في القيام إلي موضع سجوده، وفي الركوع إلي ظهر قدميه، وفي السجود إلي أنفه، وفي التشهد إلي حجره. قوله: ((هلكة)) ((غب)): الهلاك علي ثلاثة أوجه: افتقاد الشيء عنك وهو عند غيرك موجود، كقوله تعالي: {هلك عني سلطإنية} وهلاك الشيء باستحالته وفساده، كقوله تعالي، {ويهلك الحرث والنسل}، والثالث الموت، كقوله تعالي: {إن امرؤ هلك ليس له ولد}. والهلكة في الحديث من القسم الثاني، لاستحالة كمال الصلاة بالالتفات، وهي الاختلاس المذكور في الحديث الخامس من الفصل الأول من الباب، وقد شرحناه في غاية اللطف فليتأمل. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله تعالي عنه: قوله: ((ولا يلوى)) ((غب)): اللي فتل الحبل، يقال: لويته ألويه ليا، ولوى رأسه وبرأسه، أماله، لعل هذا الالتفات صدر عنه صلى الله عليه وسلم في التطوع؛ لما مر في الحديث السابق، فإن زوال الكمال من التطوع الذي هو تمهيد للفريضة أسهل وأهون. الحديث العاشر عن عدي: قوله: ((رفعه)) أي رفع جده الحديث إلي النبي صلى الله عليه وسلم ولولا هذا القيد لأوهم قوله: ((قال: العطاس)) أن يكون من قول الصحابي، فيكون الحديث مرسلا موقوفاً. قوله: ((العطاس)) ((قض)): أضاف هذه الأشياء إلي الشيطان لأنه يحبها ويرضاها، ويتوسل بها إلي ما يبتغيه من قطع الصلاة، والمنع من العبادة، ولأنها تغلب في غالب الأمر من شره الطعام الذي هو من أعمال الشيطان. وزاد ((تو)): ومن ابتغاء الشيطان الحيلولة بين العبد وبين ما ندب إليه من الحضور بين يدي الله سبحانه وتعالي، والاستغراق في لذة المناجاة- انتهي كلامه. وإنما فصل بقوله: ((في الصلاة)) بين الخصال الثلاثة لأن الأول مما لا يبطل الصلاة بخلاف الأخيرة.

999 - وعن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، رفعه، قال: ((العطاس، والنعاس، والتثاؤب في الصلاة، والحيض، والقيء، والرعاف من الشيطان)) رواه الترمذي [999]. 1000 - وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني: يبكي [1000]. 1001 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلي الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والناسئي، وابن ماجه [1001]. 1002 - وعن أم سلمة، قالت: رأي النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً لنا يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ. فقال: ((يا أفلح ترب وجهك)). رواه الترمذي [1002]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر قوله: ((أزيز)) أزيز المرجل صوت غليانه، ومنه الأز، وهو الإزعاج والتهييج والإغراء، قال الله سبحانه وتعالي: {تؤزهم أزا} وقيل: المرجل القدر من حديد أو حجر أو خزف؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم علي رجل. وفيه دليل علي أن البكاء لا يبطل الصلاة. الحديث الثاني عشر عن أبي ذر رضي الله تعالي عنه: قوله: ((فإن الرحمة تواجهه)) علة للنهي، يعني لا يليق بالعاقل تلقى شكر تلك النعمة الخطيرة [بهذه الفعلة الحقيرة]. الحديث الثالث عشر عن أم سلمة: قوله: ((نفخ)) ((مظ)): أي نفخ في الأرض ليزول عنها التراب فيسجد، فقال له: ((ترب)) أي الق وجهك بالتراب، فإنه أقرب إلي التذلل والخضوع.

1003 - وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)) رواه في ((شرح السنة)) [1003]. 1004 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب)) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وللنسائي معناه [1004]. 1005 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعاً والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت، فمشى ففتح لي، ثم رجع إلي مصلاه. وذكرت أن الباب كان في القبلة. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وروى النسائي نحوه [1005]. 1006 - وعن طلق بن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرف فليتوضأ، وليعد الصلاة)) رواه أبو داود، وروى الترمذي مع زيادة ونقصان [1006]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن ابن عمر: قوله: ((الاختصار)) ((خط)): هو وضع اليد علي الخاصرة في الصلاة، وقد روى أن إبليس أهبط إلي الأرض كذلك. قوله: ((راحة أهل النار)) ((قض)): أي يتعب أهل النار من طول قيامهم في الموقف فيستريحون بالاختصار. وقيل: إنه من فعل اليهود في صلاتهم، وهم أهل النار. الحديث الخامس عشر، والسادس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يصلي تطوعاً)) وفي هذا القيد إشارة إلي أن أمر التطوع أسهل كما سبق في الالتفات. ((شف)): في قولها: ((والباب كان في القبلة)) قطع وهم من يتوهم أن فعل الفعل يستلزم ترك استقبال القبلة، ولعل

1007 - وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحدث أحدكم في صلاته، فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف)). رواه أبو داود [1007]. 1008 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحدث أحدكم وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم، فقد جارت صلاته)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث إسناده ليس بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده. الفصل الثالث 1009 - عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلي الصلاة، فلما كبر انصرف، وأومأ إليهم أن كما كنتم. ثم خرج فاغتسل ثم جاء ورأسه يقطر، فصلي بهم. فلما صلي قال: إني كنت جنباً، فنسيت أن أغتسل)) رواه أحمد [1009]. ـــــــــــــــــــــــــــــ تلك الخطوات لم تكن متوالية؛ لأن الأفعال الكثيرة إذا تفاصلت ولم تكن علي ولاء لا تبطل الصلاة. ((مظ)): وتشبه أن تكون تلك المشية لم تزد علي الخطوتين. الحديث السابع عشر، والثامن عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فليأخذ بأنفه)) ((تو)): أره به ليخيل أنه مرعوف. هذا ليس من قبيل الكذب، بل من المعاريض في الفعل، ورخص له فيها، وهدى إليها لئلا يسول له الشيطان المضي استحياء من الناس. ((شف)): وفيه نوع من الأدب، وإخفاء القبيح من الأمر، والتورية بما هو أحسن منه، وليس هذا من باب الرياء، وإنما هو من التجمل. الحديث التاسع عن عبد الله بن عمرو،: قوله: ((جازت صلاته)) أي تمت وأجيزت. ((نه)): أجاز يجيز إذا أمضاه وجعله جائزاً. ((مظ)): هذا مذهب أبي حنيفة، وعند الشافعي بطلت صلاته؛ لأن التسليم عنده فرض. قوله: ((قد اضطربوا)) قال ابن الصلاح: المضطرب هو الذي يروي علي أوجه مختلفة متفاوتة، والاضطراب قد يكون في السند، أو المتن، أو من راو، أو من رواة، والمضطرب ضعيف لإشعاره بأنه لم يضبط. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن كما كنتم)) أي كونوا كما كنتم،

1010 - وروى مالك، عن عطاء بن يسار مرسلاً [1010]. 1011 - وعن جابر، قال: كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليها لشدة الحر. رواه أبو داود، وروى النسائي نحوه [1011]. 1012 - وعن أبي الدرداء، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعناه يقول: ((أعوذ بالله منك))، ثم قال: ((ألعنك بلعنة الله)) ثلاثاً، وبسط يده كنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله! قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر، ثلاث مرات، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) رواه مسلم. 1013 - وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر مر علي رجل وهو يصلي، فسلم عليه، فرد الرجل كلاماً، فرجع إليه عبد الله بن عمر، فقال له: إذا سلم علي أحدكم وهو يصلي، فلا يتكلم، وليشر بيده. رواه مالك [1013]. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((أن)) مفسرة؛ لأن في ((أومأ)) معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية، والجارة محذوفة، أي أشار إليهم بالكون علي حالهم. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((فآخذ)) أي فأخذت، فجاء بالمضارع لحكاية الحال الماضية، كقوله تعالي: {وكلبهم باسط ذراعيه}. الحديث الثالث عن أبي الدرداء: قوله: ((بشهاب)) أي شعلة من النار، ومضى شرح هذا الحديث في الباب. الحديث الرابع ظاهر.

(20) باب السهو

(20) باب السهو الفصل الأول 1014 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلي؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) متفق عليه. 1015 - وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلي؟ ثلاثاً أو أربعاً، فليطرح الشك، وليبن علي ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإن كان صلي خمساً شفعن له صلاته. وإن كان صلي إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)) رواه مسلم. ورواه مالك عن عطاء مرسلاً. وفي روايته: ((شفعها بهاتين السجدتين)). ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السهو الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلبس عليه)) ((نه)): لبست الأمر- بالفتح- ألبسه؛ أي خلطت بعضه ببعضه، ومنه قوله تعالي: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} كله بالتخفيف، وربما يشدد للتكثير. الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((فليطرح الشك)) أي فليطرح ما شك فيه، يدل عليه قوله: ((ما استيقن)). قوله: ((شفعن له صلاته)) الضمير في ((شفعن)) للركعات الخمس، وفي ((له)) للمصلي، يعني شفعت الركعات الخمس صلاة أحدكم بالسجدتين، يدل عليه قوله: ((شفعها بهاتين السجدتين)) أي شفع المصلي الركعات الخمس إلي السجدتين. قوله: ((إتماماً)) إما مفعول له، أو حال من الفاعل، أي صلي ما شك فيه حال كونه متما لأربع، فيكون قد أدى ما عليه من غير زيادة ونقصان، وكانت السجدتان ترغيماً له. ((قض)): القياس يقتضي أن لا يسجد؛ إذ الأصل أنه لم يزد شيئاً، لكن صلاته لا تخلو عن أحد خللين،: إما الزيادة، وإما أداء الرابعة علي تردد، فيسجد جبراً للخلل والتردد، لما كان من

1016 - وعن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: ((وماذاك؟)) قالوا: صليت خمساً. فسجد سجدتين بعد ما سلم. وفي رواية: قال: ((إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين)) متفق عليه. 1017 - وعن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا- ـــــــــــــــــــــــــــــ تلبيس الشيطان وتسويله سمى خبرة ترغيماً للشيطان. وفيه دليل علي أن وقت السجود قبل السلام، وهو مذهب الشافعي، ويؤيده حديث عبد الله بن بحينة. وقال أبو حنيفة، والثوري: إنما يسجد الساهي بعد السلام، وتمسكاً بحديث ابن مسعود، وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وهو مشهور بقصة ذي اليدين. وقال مالك- وهو قول قديم للشافعي- رضي الله عنهما: إن كان السجود لنقصان قدم، وإن كان لزيادة أخر، وحملوا الأحاديث علي الصورتين توفيقاً بينهما. واقتفي أحمد وارد الحديث وفصل بحسبها، فقال: إن شك في عدد الركعات قدم، وإن ترك شيئاً ثم تداركه أخر، وكذا إن فعل ما لا نقل فيه. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((فليتحر الصواب)) ((نه)): التحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم علي تخصيص الشيء بالفعل والقول، والضمير في ((عليه)) راجع إلي ما دل عليه ((فليتحر)). الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صلي بنا)) ((تو)): أي أمنا، يدخل فيه حرف التعدية، فيفيد قولنا: أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته. وقوله: ((صلي لنا)) أقام اللام مقام الباء، ومن اللام الجارة ضرب تورد أيضاً لتعدية الفعل، ويصح أن يراد به صلي من أجلنا؛ لما يعود إليهم من فائدة الجماعة، ويصيبهم من البركة بسبب الاقتداء به. قوله: ((إحدى صلاتي العشى)) إما الظهر وإما العصر، علي ما رواه مسلم في صحيحه، وفي رواية أخرى للبخاري: ((صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر)) وتسمية العصر بالعشى من قوله سبحانه وتعالي: {وسبح بالعشي والإبكا}. ((الكشاف)): العشى من حين تزول الشمس إلي أن تغيب، ومن قوله عز وجل: {إلا عشية أو ضحاها}. ((الراغب)): العشى من زوال الشمس إلي الصباح.

قال: فصلي بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلي خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى علي اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن علي ظهر كفه اليسرى، وخرجت سرعان القوم من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: ((لم أنس، ولا أقصر)). فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) فقالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): دل حديث عطاء علي تقديم السجود علي السلام، وحديث أبي هريرة علي تأخيره، وقال الزهري: كل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم السجود علي السلام كان آخر الأمرين، وقال: قصة ذي اليدين كانت قبل بدر، وحينئذ لم يحكم أمر الصلاة، ولم ينزل نسخ الكلام، فإن نسخة كان بالمدينة؛ لأن زيد بن الأرقم الأنصاري رضي الله عنه قال: ((كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت البقرة: {وقوموا لله قانتين})) وزيد كان في أوائل الهجرة صبياً، وعلي هذا لا إشكال فيه، غير أن الحديث رواه أبو هريرة وعمران، وهما أسلما عام خيبر، وهو السنة السابعة من الهجرة، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((صلي لنا)) وفي رواية: ((صلي بنا)) وفي رواية: ((صلي بنا)) وفي رواية: ((بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وكل ذلك يدل علي أنه من الحاضرين. والجواب عنه: أنهما لعلهما سمعاه من غيرهما، فأرسلاه، وأما ((لنا)) و ((بنا)) فيحتمل أن يكون قول من روى عنه، فإنه لما سمع الحديث عنه ولم يذكر من يرويه عنه ظن أنه كان من الحاضرين، فنقله بالمعنى، وأن يكون من قوله، وذكره حكاية عمن سمعه، فغفل عنه الراوي، وأراد بالضمير الصحابة والمسلمين الحاضرين ثمة، وإن لم يكن هو حاضراً، لكن لما كان من أهل جلدتهم حسن أن يقال: ((لنا وبنا))، وأراد به إياهم دونه، كما قال النزال بن سبرة رضي الله عنه: ((قال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: إنا وإياكم كنا ندعي ببني عبد مناف)) أراد به قومه؛ لأنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم. وأمثاله كثيرة في الكلام، شائعة في العرف. وأما الرواية الثالثة فتحتمل علي التأويلين الأولين، والأول فيه أظهر؛ لأن مسلم بن حجاج ذكرها بإسناده عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى أيضاً من طريق أخرى عن أبي سلمة، قال: ((حدثنا أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي ركعتين وساق الحديث إلي آخره، ولم يذكر: ((بينا أنا أصلي)) والله أعلم. وإن لم نقل بما قال الزهري، وجعلنا الحديث من مسإنيدهما فتأويله أن ما صدر من الرسول

نعم. فتقدم فصلي ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه، ثم سلم، فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. متفق عليه، ولفظه ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم من الأفعال والأقوال إنما صدرت عن ظنه أنه أكمل صلاته، وخرج عنها، وما صدر من الجمع فتوهمهم أن الصلاة قد قصرت، وأنهم قد خرجوا منها، وأكملوها بالركعتين، فيكون كفعل الساهي والناسي وقولهما، وذلك لا يقطع الصلاة، والحديث دليل عليه. أقول: إن جواب القاضي- لعلهما سمعاه من غيرهما فأرسلاه- مشكل؛ لأن الحديث متفق عليه، بلغ غاية الصحة، فكيف يظن به الإرسال؟ وغايته أنا ننكر أن قصة ذي اليدين كانت قبل بدل، ويعضده ما ذكره ابن الأثير في جامع الأصول أن ذا اليدين رجل من بني سليم، يقال له: الخرباق، صحابي حجازي، شهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد سها في صلاته، وقيل له أيضاً: ذو الشمالين فيما رواه مالك بن أنس عن الزهري، قال ابن عبد البر: إن ذا اليدين غير ذي الشمالين، وأن ذا اليدين هو الذي جاء ذكره في سجود السهو، وأنه الخرباق، وأما ذو الشمالين فإن عمير بن عبد عمرو. وقال ابن إسحاق: هو خزاعي، قدم أبوه مكة، شهد بدراً وقتل بها، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وحديث سجود السهو قد شهده أبو هريرة (ورواه، وأبو هريرة- أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام. فهذا يبين لك أن ذا اليدين غير ذي الشمالين وكان الزهري مع علمه بالمغازي وجلالة قدره يقول: إن ذا اليدين هو ذو الشمالين المقتول ببدر، وأن قصة السهو كانت قبل بدر، ثم أحكمت الأمور، قال: وذلك وهم منه. وقال ابن مندة: ذو اليدين رجل من أهل وادي القرى، يقال له: الخرباق، أسلم في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والسهو كان بعد أحد، وقد شهده أبو هريرة وذو اليدين من بني سليم، وذو الشمالين من أهل مكة، قتل يوم بدر قبل سهو النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، وهو رجل من بني خزاعة حليف بني أمية، قال: ووهم فيه الزهري؛ فجعل مكان ذي اليدين ذا الشمالين. وقال الشيخ محيي الدين: أما قول الزهري في حديث السهو: إن المتكلم هو ذو الشمالين، فلم يتابع عليه، وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطراباً يوجب عند أهل العلم بالنقل ترك هذا الحديث من روايته خاصة. قال أبو عمر: لا أعلم أحداً من أهل العلم عول علي حديث الزهري في قصة ذي اليدين، وكلهم تركوه لاضطرابه، وأنه لم يتم له إسناداً ولا متناً، وإن كان إماماً عظيماً في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه بشر، والكمال لله تعالي. وكل واحد

للبخاري، وفي أخرى لهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل ((لم أنس، ولم تقصر)): ((كل ذلك لم يكن))، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم- انتهي كلامه. وبهذا سلم الحديث من الإرسال، وتخلص من تعسف تأويل ((صلي بنا)) و ((صلي لنا)) بما أولوه. وإنما أوقع القاضي في تلك الورطة اضطراب الشيخ التوربشتي، حيث لم يثبت علي أمر، وأحسن ما ذهب إليه وأقربه إلي التحقيق قوله: الحديث الذي رواه أبو جعفر عن ابن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد ما قتل ذو اليدين حديث ليس عند أهل النقل؛ لأن مداره علي عبد الله العمري وهو ضعيف عندهم، وقال الشيخ: أكثر أهل النقل علي أن ذا اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وأما الذي قتل ببدر فهو ذو الشمالين رجل من خزاعة. ((حس)) احتج الأوزاعي بهذا الحديث علي أن كلام العمد إذا كان من مصلحة الصلاة لا تبطل الصلاة؛ لأن ذا اليدين كلم الناس عامدا، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم عامداً، والقوم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعم عامدين، مع علمهم بأنهم لم يتموا الصلاة. قال: ومن ذهب إلي أن كلام الناسي يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام من حيث أن تحريم الكلام في الصلاة كان علة في الصلاة ثم نسخ، ولولا ذلك لم يكن أبو بكر وعمر وسائر الصحابة ليتكلموا مع علمهم بأن الصلاة لم تقصر، وقد بقي عليهم من الصلاة شيء، ولا وجه لهذا الكلام من حيث أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة، وحدوث هذا الأمر إنما كان بالمدينة، لأن رواية أبي هريرة، وهو متأخرة الإسلام، وقد رواه عمران بن الحصين وهجرته متأخرة. أما كلام القوم فقد روى عن ابن سيرين أنهم أومأوا ي نعم، ولو صح أنهم قالوه بألسنتهم لكان ذلك جواباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة لا تبطل الصلاة، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر علي أبي بن كعب وهو في الصلاة، فدعاه، فلم يجبه، ثم اعتذر إليه أنه كان في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: ألم تسمع الله يقول: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم}. ويدل عليه أنك تخاطبه في الصلاة بالسلام، فتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هذا الخطاب مع غيره يبطل الصلاة. وأما ذو اليدين وكلامه فكان علي تقدير النسخ وقصر الصلاة، وكان الزمان زمان نسخ، وكان كلامه علي هذا التوهم في حكم كلام الناسي. وأما كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما جرى علي أنه قد أكمل الصلاة، فكان في حكم الناسي. وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين به دليل علي جواز التلقيب للتعريف، لا للشين والتهجين، وجاء في الحديث: ((إنما أنسى لأسن)). ((خط)) فيه دليل علي أن من قال: لم أفعل كذا، وكان قد فعله ناسياً، فإنه غير كاذب وفيه من الفقه أن من تكلم ناسيا في صلاته لم تفسد صلاته، وكذلك من تكلم غير عالم بأنه في الصلاة، وفيه دليل علي أنه إذا سهي في صلاة واحدة مرات أجزأته لجميعها سجدتان وهو قول عامة الفقهاء. وحكى عن الأوزاعي أنه قال يلزمه لكل سهو سجدتان. وفيه دليل علي أنه لا

1018 - وعن عبد الله بن بحينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم. متفق عليه. الفصل الثاني 1019 - عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ يتشهد بسجدتي السهو وإن سجدهما بعد السلام. وفيه دليل علي أن من تحول عن القبلة ساهياً لا إعادة عليه. قوله: ((خشبة معروضة)) أي موضوعة بالعرض، كقولهم: عرضت العود علي الإناء. قوله: ((خرجت سرعان)) مرفوع فاعل ((خرجت))، يدل عليه الرواية الأخرى للبخاري: ((خرج سرعان الناس)) ((نه)): السرعان- بفتح السين- والراء- أوائل الناس الذين يسارعون إلي الشيء، ويقدمون عليه بسرعة، ويجوز تسكين. قوله: ((كل ذلك لم يكن)) هذا أشمل من لو قيل: لم يكن كل ذلك، لأنه من باب تقوى الحكم، فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه، بخلاف الثاني؛ إذ ليس فيه تأكيد أصلا، فيصح أن يقال: لم يكن كل ذلك بل كان بعضه، ولا يصح أن يقال: كل ذلك لم يكن بل بعضه، كما نقول في التبيان. وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد علي ذي اليدين في موضع استعمال الهمزة وأم، وليس بجواب؛ لأن السؤال بالهمزة وأم هو عن تعيين أحد المستويين، وجوابه تعيين أحدهما، يعني كل ذلك لم يكن فكيف يسأل بالهمزة وأم؟ ولذلك بين السائل بقوله: ((قد كان بعض ذلك))، أنه طبق الفصل وأوقعهما في موقعهما، ونظيره ما يحكى أن أعرابياً بشر بمولودة، وقيل: نعمت المولودة هي. قال: والله ما هي بنعمت المولودة! وذلك أنه لما سمع نعمت المولودة هي، ولم يقع المدح موقعه ساءه، كقوله سبحانه وتعالي: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} فرده بقوله. والله ما هي بنعمت المولودة. قوله: ((فربما سألوه ثم سلم؟)) ضمير المفعول في ((سألوه)) لابن سيرين، والمسئول عنه قوله: ((ثم سلم)) وقوله: ((فيقول: نبئت)) إلي آخره جواب ابن سيرين عن سؤالهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((ثم تشهد ثم سلم)) هذا مذهب أبي حنيفة، قال في الهداية: يسجد للسهو في الزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام، ثم يتشهد، ثم يسلم.

1020 - وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإن استوى قائماً فلا يجلس، وليسجد سجدتي السهو)) رواه أبو داود، وابن ماجه [1020]. الفصل الثالث 1021 - عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي العصر وسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله. فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله! فذكر له صنيعه، فخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهي إلي الناس، فقال: ((أصدق هذا:)) قالوا: نعم. فصلي ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم. رواه مسلم. 1022 - وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلي صلاة يشك في النقصان، فليصل حتى يشك في الزيادة)). رواه أحمد [1022]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عمران: قوله: ((يقال له الخرباق)) الخرباق- بكسر الخاء وسكون الراء- لقب له، واسمه عمير بن عبد عمرو، ويكني أبا محمد، ويقال له ذو اليدين. الحديث الثاني عن عبد الرحمن: قوله: ((حتى يشك في الزيادة)) كمن صلي الرباعية مثلا، وشك هل هي ثالثة أو رابعة؟ فيصلي الرابعة فهو في هذه شاك أهي رابعة أم خامسة.

(21) باب سجود القرآن

(21) باب سجود القرآن الفصل الأول 1023 - عن ابن عباس، قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم (بالنجم)، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس. رواه البخاري. [1023] 1024 - وعن أبي هريرة، قال: سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في: (إذا السماء انشقت)، و (اقرأ باسم ربك). رواه مسلم. 1025 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (السجدة) ونحن عنده فيسجد، ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه. متفق عليه. 1026 - وعن زيد بن ثابت، قال: قرأت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم (والنجم)، فلم يسجد فيها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب سجود القرآن الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((سجد النبي صلى الله عليه وسلم)) لعل هذه السجدة إنما سجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصفه الله تعالي في متفتتح السورة من أنه لا ينطق عن الهوى، وذكر بيان قربه من الله سبحانه وتعالي وأراه من آياته الكبرى، وأنه ما زاغ البصر وما طغى- شكراً لله تعالي علي تلك النعمة العظمى، والمشركون لما سمعوا أسماء طواغيتهم: اللات، والغزى، ومناة الثالثة الأخرى، سجدوا معه. وأما ما يروى من أنهم سجدوا لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أباطيلهم بقوله: ((تلك الغرإنيق العلي وإن شفاعتهن لترتجى)) فقول باطل، وأنى يتصور ذلك؟ كيف يدخل هذا بين قوله: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وبين قوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} فكيف وقد أدخل همزة الإنكار علي الاستخبار بعد الفاء في قوله: {أفرأيتم} المستدعية

1027 - وعن ابن عباس، قال: سجدة (ص) ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. ـــــــــــــــــــــــــــــ لإنكار فعل الشرك؛ والمعنى أتجعلون هؤلاء شركات الله؟ فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كانت آلهة، وما هي إلا أسماء سميتموها بمجرد متابعة الهوى، لا عن حجة أنزلها الله تعالي بها. روى الإمام في تفسيره عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة، قال: إنها من وضع الزنادقة، وصنف فيها كتاباً. وقال الإمام أبو بكر البيهقي: هيه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب خصيص الأتقياء: الصواب أن قوله: ((تلك الغرإنيق العلي)) من جملة إيحاء الشيطان إلي أوليائه من الزنادقة، حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين؛ ليرتابوا في صحة الدين القويم، وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. وقال بعض أهل التاريخ: إن هذه الرواية من مفتريات ابن الزعبري، ومن أراد المزيد فعليه بالتفسير الكبير، والله أعلم. وسنذكر في الفصل الثالث من الباب كلاماً من نحو هذا للشيخ محيي الدين النواوي في شرح صحيح مسلم. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((ليس من عزائم السجود)) ((قض)): يعني ليس من السجدات المأمورة، والعزيمة في الأصل عقد القلب علي الشيء، ثم استعمل لكل أمر محتوم، وفي اصطلاح الفقهاء الحكم الثابت بالأصالة، كوجوب الصلوات الخمس، وإباحة الطيبات. وإنما أتى بها صلى الله عليه وسلم موافقة لأخيه داود عليه السلام وشكراً لقبول توبته، فإنه روى عنه أنه قال: ((سجدها أخي داود توبة، ونحن نسجدها شكراً)). والحديث دليل الشافعي علي أبي حنيفة رضي الله عنهما- وقد استقر رأيهما علي أن عزائم السجود أربع عشرة، واتفقنا في تفاصيله، غير أن الشافعي قال: اثنتان منها في الحج بحديث عقبة، ولا شيء في (ص)، وعد أبو حنيفة واحدة في الحج، وواحدة في ((ص)) وللشافعي قول قديم: إنها إحدى عشرة، ولا شيء في المفصل؛ لقول ابن عباس رضي الله عنه إنه صلى الله عليه وسلم: ((لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلي المدينة)) وهو قول مالك رضي الله عنه. ((الكشاف)): عبر في قوله تعالي: {خر راكعاً وأناب} بالراكع عن الساجد لأنه ينحني ويخضع كالساجد، وبه استشهد أبو حنيفة في سجود التلاوة علي أن الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن أنه لا يكون ساجداً حتى يركع. قيل: فيه نظر؛ لأنه بعد تعبيره به عن الساجد لا يبقى الاستشهاد،

1028 - وفي رواية: قال: مجاهد: قلت لابن عباس: أأسجد في (ص)؟ فقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان) حتى أتى فبهداهم اقتده)، فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم. رواه البخاري. الفصل الثاني 1029 - عن عمرو بن العاص، قال: أقرإني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة (الحج) سجدتين. رواه أبو داود، وابن ماجه. [1029] ـــــــــــــــــــــــــــــ لعله استشهد بإطلاق الآية. وأقول: لا إطلاق؛ لأن الركوع مقيد بالخرور الذي هو السقوط، فلا يحمل علي مجرد الركوع. ((مح)): قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في (ص) خارج الصلاة، ولو سجد في الصلاة جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته، فإن كان عامداً بطلت علي الأصح. قوله: ((نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم)) الجواب من الأسلوب الحكيم، أي إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بهم فأنت أولي: وقال الإمام فخر الدين الرازي: الآية دالة علي فضل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالي أمره بالاقتداء بهداهم، ولابد من امتثاله بذلك، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وأخلاقهم المتفرقة. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو بن العاص: قوله: ((أقرإني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة)) أي حمله أن يجمع في قراءته خمس عشرة سجدة. ((نه)): إذا قرأ الرجل القرآن والحديث علي الشيخ يقول: أقرإني فلان، أي حملني أن أقرأ عليه. ((مظ)): أول السجدات في آخر الأعراف، ثم في الرعد: {ظلالهم بالغدو والآصال}، وفي النحل: {ويفعلون ما يؤمرون}، وفي بني إسرائيل: {يزيدهم خشوعاً} وفي مريم: {خروا سجداً وبكيا}، وفي الحج موضعان: {إن الله يفعل ما يشاء} {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}، وفي الفرقان: {وزادهم نفورا}، وفي النمل: {رب العرش العظيم}، وفي ألم تنزيل: {وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون}، وفي ص:

1030 - وعن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله! فضلت سورة (الحج) بأن فيها سجدتين؟ قال: ((نعم، ومن لم يسجدها فلا يقرأهما)). رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. وفي ((المصابيح)): ((فلا يقرأها))، كما في ((شرح السنة)). [1030] 1031 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع فرأوا أنه قرأ (تنزيل، السجدة). رواه أبو داود. [1031] 1032 - وعنه: أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد وسجدنا معه. رواه أبو داود. [1032] ـــــــــــــــــــــــــــــ {وخر راكعاً وأناب} وفي حم: {وهم لا يسأمون}؛ وفي {النجم} آخرها، وفي إذا السماء انشقت {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}، وفي {اقرأ} آخرها, وبهذا الحديث قال أحمد، وابن المبارك، أخرج الشافعي من جملتها سجدة ((ص))، وأخرج أبو حنيفة منها السجدة الثانية من الحج. قوله: ((وفي سورة الحج سجدتين)) أي وذكر في سورة الحج سجدتين. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((فلا يقرأها)) ((تو)): يقرأها بإعادة الضمير إلي السورة، كذا وجدناها في نسخ المصابيح، وهو غلط، والصواب ((فلا يقرأهما)) بإعادة الضمير إلي السجدتين، كذا وجد في كتاب أبي داود، وأبي عيسى، وغيرهما من كتب الحديث. ووجه النهي عن قراءتها أن السجدة شرعت في حق التالي بتلاءته، والإتيان بها من حق التلاوة وتمامها، فإن كانت بصدد التضييع فالأولي به تركها؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون واجبة فيأثم بتركها، أو سنة فيستضر بالتهاون بها، وهمزة الاستفهام بها مضمرة في قوله: ((فضلت)) بدلالة قوله: ((نعم)) في الجواب. الحديث الثالث إلي السادس عن ابن عباس: قوله: ((لم يسجد في شيء من المفصل)) ((قض)):

1033 - وعنه، أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، ومنهم الراكب والساجد علي الأرض؛ حتى إن الراكب ليسجد علي يده. رواه أبو داود. [1033] 1034 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلي المدينة. رواه أبو داود. [1034] 1035 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: ((سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته)). رواه أبو داود والترمذي. والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [1035] 1036 - وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! رأيتني الليلة وأنا نائم كإني أصلي خلف شجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عنب بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثل ـــــــــــــــــــــــــــــ هو قول قديم للشافعي، وقول مالك رضي الله عنهما. ((تو)) هذا الحديث إن صح لم يلزم منه حجة؛ لما صح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ((سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك)) وأبو هريرة متأخر كما مر. وأما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((قرأت علي النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها)) فإن أبا داود روى هذا الحديث في كتابه وقال: كان زيد الإمام فلم يسجد، والمعنى أن التالي كان زيداً، فحيث لم يسجد هو لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن عارضا منعه من السجود من نحو الحدث، أو زمان كراهية، أو أن التالي كان حينئذ مختاراً في السجود وتركه. الحديث السابع والثامن عن ابن عباس: قوله: ((جاء رجل)) ((تو)): هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد روى هذا الحديث عنه، ومن خواص أفعال القلوب جواز اتحاد الفاعل والمفعول فيها.

ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. رواه الترمذي، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر: وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. وقال: الترمذي: هذا حديث غريب. الفصل الثالث 1037 - عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (والنجم)، فسجد فيها، وسجد من كان معه؛ غير أن شيخاً من قريش أخذ كفا من حصى- أو تراب- فرفعه إلي جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً. متفق عليه. وزاد البخاري في رواية: وهو أمية بن خلف. 1038 - وعن ابن عباس، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص)، وقال: ((سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً)). رواه النسائي. [1038] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن بن مسعود: قوله: ((ولقد رأيته بعد قتل كافراً)) فيه أن من سجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين قد أسلموا. ((مح)): معنى قوله: ((وسجد من كان معه حاضراً)) أي من كان حاضراً قراءته من المسلمين، والمشركين، والجن، والإنس، قال ابن عباس، حتى شاع أن أهل مكة قد أسلموا. قال القاضي عياض: كان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود أنها أول سجدة نزلت. قال القاضي: أما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى علي لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثناء علي آلهة المشركين في سورة النجم- فباطل، لا يصح فيها شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل؛ لأن مدح إله غير الله تعالي كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلي لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان علي لسانه؛ ولا يصح تسليط الشيطان علي ذلك، وقد استقصينا الكلام فيه من الفصل الأول. قوله: ((أمية بن خلف)) قيل: قتل يوم بدر، وفي جامع الأصول ((أمية بن خلف)) قتل يوم أحد مشركاً، قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده. الحديث الثاني عن ابن عباس قوله: ((نسجدها شكراً)) وقد مر في الحديث الخامس من الفصل الأول من الباب أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاقتداء بهدي الأنبياء السالفة- عليهم السلام- ليستكمل بجميع فضائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة، وهي نعمة ليس وراءها نعمة، يجب لذلك الشكر عليه.

(22) باب أوقات النهي

(22) باب أوقات النهي الفصل الأول 1039 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها)). وفي رواية، قال: ((إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز. فإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب الشمس، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب أوقات النهي الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا يتحرى أحدكم فيصلي)) ((تو)): يقال: فلان يتحرى الأمر، أي يتوخاه ويقصده، ومن الحري اشتق التحري في الأماكن ونحوها، وهو طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن، كما اشتق التقمن من القمن. ولفظ الحديث يحتمل وجهين: التحري بمعنى التوخي والقصد، أي لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشمس أو تغرب، ويتوخاه فيصلي فيه، والآخر التحري بمعنى طلب ما هو أحرى بالاستعمال، أي لا يصلي في ذلك الوقت ظناً منه أنه قد عمل بما هو الأحرى، والأول أوجه وأبلغ في معنى المراد. ((مظ)): ((لا يتحرى)) نفي بمعنى النهي. وأقول: ((فيصلي)) نصب علي إضمار ((أن))، وهو جواب النهي، ويجوز أن يتعلق بالفعل المنهي عنه أيضاً، فالفعل المنهي معلل في الأول، والفعل المعلل منهي في الثاني. أما تقدير الثاني فلا يتحرى أحدكم فعلا يكون سبباً لوقوع الصلاة في زمان الكراهية، وعلي الأول كأنه لما قيل: ((لا يتحرى أحدكم))، قيل: لماذا ينهانا عن ذلك؟ فقيل: خيفة أن يصلوا أوان الكراهية. قوله: ((حاجب الشمس)) ((الجوهري)): ((حاجب الشمس)) نواحيها. ((قض)): هو طرف قرص الشمس الذي يبدو عند الطلوع، ولا يغيب عند الغروب. وقيل: النيازك التي تبدو إذا حان طلوعها، والمراد بالروز ظهورها. قوله: ((ولا تحينوا)) أصله لا تتحينوا، أي لا تقربوا بصلاتكم طلوع الشمس، من: حان إذا قرب، ويجوز أن يكون من الحين، يقال: تحين الوارش إذا ترقب وقت الأكل ليدخل علي

1040 - وعن عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)). رواه مسلم. 1041 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)). متفق عليه. 1042 - وعن عمرو بن عبسة، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: أخبرني عن الصلاة. فقال: ((صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، ـــــــــــــــــــــــــــــ القوم، أي لا تنتظروا بصلاتكم طلوع الشمس، وأن يكون تحين بمعنى ((حين الشيء)) إذا جعل له حيناً، يعني لا تجعلوا وقت الصلاة طلوع الشمس ولا غروبها بصلاتكم فيها. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((نقبر)) ((حس)): أي ندفن، يقال: قبره إذا دفنه، وأقبره إذا جعل له قبراً يواري فيه.،واختلفوا في صلاة الجنازة في هذه الأوقات، فأجازه الشافعي رضي الله عنه، قال ابن المبارك: معنى قوله: ((أن نقبر فيه موتانا)) الصلاة علي الجنازة. قوله: ((بازغة)) ((نه)): يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر وغيرهما- طلع. قوله: ((قاتم الظهيرة)) ((حس)): أي قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم قامت به دابته، والشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلي أن يزول، فتخيل الناظر المتأمل أنها قد وقفت وهي سائرة. ((مح)) معناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظله في المشرق، ولا في المغرب، و ((الظهر)) نصف النهار، وقال: قول ابن المبارك ضعيف؛ لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذه الأوقات، كما يكره تأخير العصر إلي اصفرار الشمس تعمداً بلا عذر، وهي صلاة المنافقين. قوله: ((حين تضيف الشمس)) ((تو)): أصل الضيف الميل، يقال: ضفت إلي كذا،. وأضفت إلي كذا، وضافت الشمس للغروب وتضيفت، وضاف لسهم عن الهدف يضيف، وسمي الضيف ضيفاً لميله إلي الذي ينزل عليه. الحديث الثالث والرابع عن عمرو بن عبسة: قوله: ((فقدمت المدينة)) وكان من قصته أنه أقبل مكة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستخف إيمانه، ثم عاد إلي قومه مترصداً حتى سمع أنه صلى الله عليه وسلم

وحينئذ يسجد لها الكفار،. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى ((يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإن حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب ـــــــــــــــــــــــــــــ قدم المدينة، فارتحل إليه. قوله: ((عن الصلاة)) أي عن وقت الصلاة، بدلالة الجواب عليه. قوله: ((قرني الشيطان)) ((مح)): هكذا هو في الأصول بلا ألف ولام، وفي بعض أصول مسلم، في حديث ابن عمر بالألف. قيل: المراد بـ ((قرني الشيطان)) حزبه وأتباعه، وقيل: قوته وغلبته، وانتشار الفساد، وقيل: القرنان ناحيتا الرأس، وهذا هو الأقوى، يعني أنه يدني رأسه إلي الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة. قوله: ((حتى يستقل الظل بالرمح)) ((مح)): أي يقوم مقابله في جهة الشمال، ليس مائلاً إلي الغرب ولا إلي الشرق، وهو حالة الاستواء: كذا وجدنا في سائر نسخ المصابيح، حتى في بعض نسخ كتاب مسلم علي هذا الوجه، فعرفت أن الاختلاف فيه من بعض الرواة، ثم أطنب الشيخ فيه. وأما صاحب النهاية فقد وافق الشيخ التوربشتي، حيث قال: يستقل الرمح بالظل أي حتى يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض أدنى غاية القلة والنقص؛ لأن ظل كل شخص في أول النهار يكون طويلاً؛ ثم لا يزال ينقص حتى يبلغ أقصره، وذلك عند انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس عاد الظل يزيد، وحينئذ يدخل وقت الظهر، وتجوز الصلاة، ويذهب وقت الكراهية، وهذا الظل المتناهي في القصر هو الذي سمي ظل الزوال؛ أي الظل الذي تزول الشمس عن وسط السماء، وهو موجود قبل الزيادة، فقوله: ((يستقل الرمح بالظل)) هو من القلة لا من الإقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد، يقال: تقلل الشيء واستقله وتقاله إذا رأه قليلاً. وأقول: لما وجد الشيخ في بعض نسخ مسلم علي ما هو عليه رواية المصابيح، وكذا وجدناه في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وشرحه للشيخ محيي الدين النواوي- كيف يرده؟ علي أن له محامل: أحدهما علي ما ذكره من أن معنى يستقل الظل بالرمح أنه يرتفع معه، ولا يقع منه شيء علي الأرض، من قولهم: استقلت السماء ارتفعت. وثإنيها أن يكون المضاف محذوفاً، أي يعلم قلة الظل بواسطة ظل الرمح. وثالثها أن يكون من باب: عرضت الناقة علي الحوض، وطينت بالفدن السياعا، والسياع الطين، والفدن القصر، وقوله: فيكب فيعثر. قال صاحب المفتاح: ولا يشجع علي القلب إلا كمال البلاغة، مع ما فيه من المبالغة بأن الرمح صار بمنزلة الظل في القلة والظل بمنزلة الرمح. قوله: ((فإن حينئذ تسجر جهنم)) ((غب)): السجر تهييج النار، يقال: سجرت التنور، ومنه

الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفارة)) قال: قلت: يا نبي الله! فالوضوء حدثني عنه. قال: ((ما منكم رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر؛ إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله؛ إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلي المرفقين؛ إلا خرت ـــــــــــــــــــــــــــــ {والبحر المسجور}، وفي اسم ((إن)) وجهان: أحدهما تسجر علي إضماء ((أن))، كقوله تعالي: {ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً}. والثاني ضمير الشأن المحذوف من إن المكسورة المثقلة، كقول الشاعر" فلا تخذل المولي وإن كان ظالماً فإن به تنال الأمور وترأب فالتقدير فإنه يقول: لا تخذل مولاك وإن ظلمك، فربما تحتاج إليه، وترجع إلي معاونته في بعض الأمور، فيجبر كسرك. قيل: لا حذف؛ لأن المقصود من الكلام المصدر به التعظيم والفخامة، فلا يلائمه الاختصار. وأجيب بأن ضمير الشأن إنما ينبئ عن التعظيم لإبهامه، وحذف أدل علي الإبهام. ألا ترى إلي قوله تعالي: {بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} حذف اسم كاد وضمير الشأن ليزيد التفخيم والتهويل، وله في الأحاديث نظائر، سنذكرها إن شاء الله تعالي. قوله: ((فإذا أقبل الفيء)) ((مح)): يعني رجع الظل إلي جهة الشرق، وهو مختص بما بعد الزوال، والظل يقع علي ما قبل الزوال وما بعده. قوله: ((فإن الصلاة مشهودة)) أي يشهدها ويحضرها أهل الطاعة من سكان السماوات والأرض، وفي غير هذه الرواية عن عمرو بن عبسة: ((مشهودة مكتوبة)) أي تشهدها الملائكة، فتكتب أجرها للمصلين، وهذه الرواية أحسن. قوله: ((إلا خرت خطايا وجه)) ((مح)): ((خرت)) ضبطناه بالخاء المعجمة، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة، إلا ابن أبي جعفر فإنه رواه بالجيم، والمراد بـ ((الخطايا)) الصغائر، قوله: ((إلا خرت خطاياه)) خبر ((ما)) والمستثنى منه مقدر، أي ما منكم رجل يتصف بهذه الأوصاف وكائن علي حال من الأحوال إلا علي هذه الحالة. وعلي هذا المعنى ينزل سائر الاستثناء، وإن لم يصرح النفي فيها لكونها في سياق النفي بواسطة ((ثم)) العاطفة. و ((إن)) في ((فإن هو قام)) شرطية، والضمير المرفوع بعدها رافعة فعل مضمر يفسره ما بعده، فلما حذف أبرز

خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه؛ إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلي الكعبين؛ إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء. فإن هو قام فصلي الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله؛ إلا انصرف من خطيئته كهيئة يوم ولدته أمه)) رواه مسلم. 1043 - وعن كريب: أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأزهر، أرسلوه إلي عائشة، فقالوا: اقرأ عليها السلام، وسلها عن الركعتين بعد العصر. قال: فدخلت علي عائشة، فبلغتها ما أرسلوني. فقالت: سل أم سلمة. فخرجت إليهم، فردوني إلي أم سلمة. فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عنهما، ثم يصليهما، ثم دخل، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهي عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما؟ قال: ((يا بنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتإني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضمير المستكن فيه، وجواب الشرط محذوف، وهو المستثنى منه، أي فلا ينصرف من شيء من الأشياء إلا من خطيئته كهيئة يوم ولدته أمه. وجاز تقدير النفي لما مر أن الكلام في سياق النفي، هذا مذهب صاحب الكشاف. وأما ابن الحاجب فيجوز في الإثبات، كما يقول: قرأت إلا يوم الجمعة، ونظير هذا الشرط قول الحماسي: وإن هو لم يحمل علي النفس ضيمها فليس إلي حسن الثناء سبيل الحديث الخامس عن كريب قوله:: ((فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) ((شف)): في الحديث دلالة علي أن النوافل المؤقتة تقضي كما تقضي الفرائض، وعلي أن الصلاة التي لها سبب لا تكره في هذه الأوقات المكروهة. ((قض)): اختلفوا في جواز الصلاة في الأوقات الثلاثة، وبعد صلاة الصبح إلي الطلوع، وبعد صلاة العصر إلي الغروب. فذهب داود إلي جواز الصلاة فيها مطلقاً، وقد روى ذلك عن جمع من الصحابة، فلعلهم لم يسمعوا نهيه صلى الله عليه وسلم، أو حملوه علي التنزيه دون التحريم، وخالفهم الأكثرون، فقال الشافعي رضي الله عنه: لا تجوز فهيا فعل صلاة لا سبب لها، أما الذي له سبب كالمنذورة، وقضاء الفائتة فجائز؛ لحديث كريب عن أم سلمة.، واستثنى أيضاً مكة، واستواء الجمعة؛ لحديثي جبير بن مطعم وأبي هريرة. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يحرم فعل

الفصل الثاني 1044 - عن محمد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو، قال: رأي النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الصبح ركعتين ركعتين)). فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود. وروى الترمذي نحوه، وقال: إسناد هذا الحديث ليس بمتصل؛ لأن محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس بن عمرو. وفي شرح السنة)) ونسخ ((المصابيح)) عن قيس بن فهد نحوه. [1044] ـــــــــــــــــــــــــــــ كل صلاة في الأوقات الثلاثة، سوى عصر يومه عند الاصفرار، ويحرم المنذورة والنافلة بعد الصلاتين، دون المكتوبة الفائتة وسجود التلاوة. وقال مالك: تحرم فيها النوافل دون الفرائض. ووافقه أحمد، غير أنه جوز فيها ركعتي الطواف أيضاً. الفصل الثاني الحديث الأول عن قيس بن عمرو: قوله: ((وصلاة الصبح ركعتين)) ((ركعتين)). منصوب بفعل مضمر ينكر عليه فعله، يعني أتصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، وليس بعدها صلاة؟ فاعتذر الرجل بأنه صلي الفرض وترك النافلة، وهو حينئذ آت بها. هذا مذهب الشافعي ومحمد رضي الله عنهما. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما لا قضاء بعد الفوات. روى المالكي في كتاب الشواهد: ((الصبح أربعاً)) وقال: هما منصوبان بـ ((تصلي)) مضمراً، إلا أن ((الصبح)) مفعول، و ((أربعاً)) حال، وإضمار الفعل في هذا مطرد، وفي هذا الاستفهام معنى الإنكار. ونظيره قولك لمن رأيته يضحك وهو يقرأ: القرآن ضاحكاً؟ وقرينة الحذف في الأول مشاهدة فعل الصلاة، وفي الثاني سماع قراءته، ونظيره في الإضمار قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم! سبعاً كسبع يوسف)) التقدير: ابعث عليهم وسلط عليهم سبعاً والرفع جائز علي إضمار مبتدأ أو فعل. وقول الصحابي: ((الصلاة يا رسول الله)) أي اذكر، أو أقم، ويجوز الرفع، أي حضرت، أو حانت. قوله: ((وفي نسخ المصابيح عن قيس بن فهد)) أشار المؤلف إلي الاختلاف، وأن الصحيح هو الأول، وهو قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري، وهو صحابي.

1045 - وعن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلي أية ساعة شاء من الليل أو نهار)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1045] 1046 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة. رواه الشافعي. [1046] 1047 - وعن أبي الخليل، عن أبي قتادة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كرة الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة، وقال: ((إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة)). رواه أبو داود، وقال: أبو الخليل لم يلق أبا قتادة. [1047] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جبير: قوله: ((يا بني عبد مناف)) ((تو)): إنما خص بني عبد مناف بهذا الخطاب دون بطون قريش، لعلمه أن ولاية الأمر والخلافة تؤل إليهم مع أنهم كانوا رؤساء مكة وسادتها، وفيهم كانت السدانة، والحجابة، واللواء، والسقاية، والرفادة. قوله: ((ولا تمنعوا أحداً طاف)) اعلم أن وصف الطواف ليس بقيد مانع، بل ((أحداً طاف)) بمنزلة: أحداً دخل المسجد الحرام؛ لأن كل من دخله فهو يطوف بالبيت غالباً، فهو كناية. قوله: ((أية ساعة شاء)) ((مظ)): فيه دليل علي أن صلاة التطوع في أوقات الكراهية غير مكروهة بمكة لشرفها؛ لينال الناس فضلها في جميع الأوقات؛ وبه قال الشافعي. وعند أبي حنيفة حكمها كحكم سائر البلاد في الكراهية. قال المؤلف: ما ذكر في المصابيح من قوله: ((من ولي منكم من أمر الناس شيئاً)) لم أجد في الترمذي، ولا في أبي داود والنسائي. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((نهي عن الصلاة نصف النهار)) و ((نصف النهار)) ظرف للصلاة علي تأويل أن يصلي. الحديث الرابع عن أبي قتادة: قوله: ((إن جهنم تسجر)) ((نه)): أي توقد، كأنه أراد الإبراد

الفصل الثالث 1048 - عن عبد الله الصنابحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقه، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها)). ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات. رواه مالك، وأحمد، والنسائي. [1048] 1049 - وعن أبي بصرة الغفاري، قال: صلي بنا رسول الله بالمخمص صلاة العصر، فقال: ((إن هذه صلاة عرضت علي من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد)). والشاهد: النجم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالظهر، لقوله: ((أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم)). ولعل تسجير جهنم حينئذ لمقارنة الشيطان الشمس، وتهيئته لأن يسجد له عبدة الشمس. قال الخطابي: قوله: ((تسجر جهنم)) قوله: ((بين قرني الشيطان)) وأمثالهما من الألفاظ الشرعية التي أكثرها ينفرد الشارع بمعإنيها، يجب علينا التصديق بها. والوقوف عند الإقرار بصحتها. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن أبي بصرة: قوله: ((أجره مرتين)) أقول: إحداهما للمحافظة عليها خلافاً لمن قبلهم، وثإنيتهما أجر عمله كسائر الصلاة. ((مح)): فيه فضيلة صلاة العصر، وشدة الحث عليها،. وأبو بصرة بفتح الباء وسكون الصاد المهملة. قوله: الشاهد النجم ((نه)): يسمى شاهداً لأنه يشهد الليل، أي يحضر ويظهر، ومنه قيل لصلاة المغرب: صلاة الشاهد. أقول: ويجوز أن يحمل علي الاستعارة، شبه النجم عند طلوعه دليلاً علي وجود الليل بالشاهد الذي تثبت به الدعاوى.

(23) باب الجماعة وفضلها

1050 - وعن معاوية، قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليهما، ولقد نهي عنهما. يعني الركعتين بعد العصر. رواه البخاري. 1051 - وعن أبي ذر، قال- وقد صعد علي درجة الكعبة-: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة، إلا بمكة إلا بمكة)). رواه أحمد، ورزين. [1051] (23) باب الجماعة وفضلها الفصل الأول 1052 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي ذر: قوله: ((من عرفني فقد عرفني)) الشرط والجزاء متحدان للإشعار بهرة صدق لهجته، كما ورد: ((وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر)) وفي معناه قول المرعث: أنا المرعث لا أخفي علي أحد ذرت بي الشمس للقاصي وللدإني والشرطية الثانية تستدعي مقدراً، أي ومن لم يعرفني فليعلم إني جندب. قوله: ((لا صلاة بعد الصبح)) هذا التأكيد ثم التكرير في قوله: ((إلا بمكة)) مع إفادة الحصر دليل الشافعي رضي الله عنه علي ما ذهب إليه في حديث جبير بن مطعم في قوله: ((لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلي أية ساعة شاء))، وأن الصلاة محمولة علي الحقيقة لا علي الدعاء مجازاً.، كما ذهب إليه الشيخ التوربشتي. باب الجماعة وفضلها الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((صلاة الفذ)) ((نه)): الفذ الواحد، وقد فذ الرجل من أصحابه إذا شذ عنهم، وبقى فرداً. ((قض)): فيه دلالة علي أن الجماعة ليست شرطاً للصلاة،

1053 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلي رجال- وفي رواية: لا يشهدون الصلاة- فأحرق عليهم بيوتهم؛ والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)). رواه البخاري، ولمسلم نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإلا لم يكن لم صلي فذا درجة. أقول: ما يقنع بالدرجة الواحدة عن الدرجات الكثيرة إلا أحد رجلين: إما غير مصدق لتلك النعمة الخطيرة، أو سفيه لا يهتدي لطريق الرشد والتجارة المربحة. ((تو)): ذكر في هذا الحديث سبعاً وعشرين، وأتى في حديث أبي هريرة بخمس وعشرين، ووجه التوفيق أن يقال: عرفنا من تفاوت الفضل أن الزائد متأخر عن الناقص؛ لأن الله تعالي يزيد عباده من فضله، ولا ينقصهم من الموعود شيئاً، فإنه صلى الله عليه وسلم بشر المؤمنين أولاً بمقدار فضله، ثم رأي أن الله تبارك وتعالي يمن عليه وعلي أمته، فبشرهم به، وحثهم علي الجماعة، وهذا الذي ذكرناه هو الضابط في التوفيق بين الأحاديث المختلفة من هذا النوع. وأما وجه قصر أبواب الفضيلة علي خمس وعشرين تارة، وعلي سبع وعشرين أخرى، فإن المرجع في حقيقة ذلك إلي علوم النبوة التي قصرت عقول الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها، ولعل الفائدة فيما كشف به حضرة النبوة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة المقربين، والاقتداء بالإمام، وإظهار شعار الإسلام وغيرها. ((مح)): ذكر فيه ثلاثة أوجه أحدها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم اللقب باطل، وثإنيها ما ذكرناه، وثالثها أنه مختلف باختلاف حال المصلي والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة، والمحافظة علي هيئاتها، وخشوعها، وكصرة جماعتها، وشرف البقعة والإمام. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيحطب)) ((تو)) صوابه فيحتطب، وهذا الحديث علي هذا السياق في المصابيح أخرجه البخاري في باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت، ففي بعض نسخ يتحطب علي وزن يتفعل، وفي بعضها يحتطب من الاحتطاب، فعلمنا أن الغلط وقع من بعض الرواة، إذ التحطب علي وزن التفعل لم يوجد في كلامهم، وإنما يقال: حطب الحطب، واحتطبته، أي جمعته. قال المؤلف: ((فيحطب)) كذا وجدناه في صحيح البخاري، والجمع للحميدي، وجامع الأصول، وشعب الإيمان، وليس في الصحيح في هذه الرواية ((لا يشهدون الصلاة)) بل في رواية أخرى له.

ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثم أخالف إلي رجال)) ((الكشاف)): يقال: خالفني إلي كذا إذا قصده وأنت مول عنه، ومنه قوله تعالي: {وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه} المعنى أخالف إلي ما أظهرت من إقامة الصلاة واشتغال بعض الناس بها وأقصد إلي بيوت من أمرتهم بالخروج عنها للصلاة، فلم يخرجوا، فأحرقها عليهم. قوله: ((عرقاً سميناً)) ((نه)): العرق- بالسكون- العظم الذي أخذ منه اللحم، جمعة عراق- بالضم- وهو نادر. قوله: ((أو مرماتين حسنتين))، ((نه)) المرماة ظلف الشاة، وقيل: ما بين ظلفها تكسر ميمه وتفتح وقيل: المرماة- بالكسر- السهم الصغير الذي يتعلم به الرمي، وهو أحقر السهام وأرذلها. ((حس)): الحسن والحسنى العظم الذي في المرفق مما يلي البطن، والقبح والقبيح العظم الذي ف المرفق مما يلي الكتف. وأقول: ((الحسنتين)) بدل من ((المرماتين)) إذا أريد بهما العظم الذي لا لحم عليه، وإن أريد بهما السهمان الصغيران فالحسنتين بمعنى الجيدتين صفة للمرماتين. قوله: ((شهد العشاء)) المضاف محذوف، ويجوز أن يقدر وقت العشاء، فالمعنى لو علم أحدهم أنه لو حضر وقت العشاء لحصل له حظ دنيوي لحضره، وإن كان خسيساً حقيراً، ولا يحضر للصلاة، وما رتب عليها من الثواب. وأن يقدر صلاة العشاء، فالمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة وأتى بها لحصل له نفه ما دنيوي كعرق أو غيره كمرماتين لحضرها، لقصور همته علي الدنيا وزخارفها، ولا يحضرها لما يتبعها من مثوبات العقبى ونعيمها. وأقول: انظر أيها المتأمل في هذه التشديدات، ثم تأمل في تكرير ((ثم)) مراراً ترقياً من الأهون إلي الأغلظ، لتراخي المراتب بين مدخولاتها، فتفكر في التفاوت بين المرتبة الأولي هي ((فيحطب)) والثانية ((فأحرق بيوتهم)) ثم في تكرير القسم وخصوصيتها بقوله: ((والذي نفسي بيده)) لتقف علي فخامة أمر الجماعة، وشدة الخطب علي تاركها. وما أدى بما يتعلل، وكيف يتكاسل؟ فإن قلت: قيل: إن الحديث وارد في شأن المنافقين، والمؤمنون خارجون عن هذا الوعيد. قلت: خروجهم عن الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء يسوغ لهم التخلف عن الجماعة. بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم وعادتهم، وأنه مناف لحالهم؛ لأنه من صفة المنافقين، ولو دخلوا في هذا الوعيد ابتداءً لم يكن بهذه المثابة. ويعضده ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق قد علم نفاقه)) رواه مسلم. ((مح)): وذلك لأنه لا يظن بالمؤمنين من الصحابة أن يؤثروا العظم الثمين علي حضور الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده.

1054 - وعنه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلي المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولي دعاه، فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم. قال: ((فأجب)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): الحديث يدل علي وجوب الجماعة، وقد اختلف العلماء فيه، وظاهر نصوص الشافعي رضي الله عنه تدل علي أنها من فروض الكفايات، وعليه أكثر الصحابة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية)) أي الشاة البعيدة من المشرب والراعي. واستحواذ الشيطان وهو غلبته إنما يكون مما تكون معصية، كترك الواجب، دون السنة. وذهب الباقون منهم إلي أنها سنة وليست بفرض، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك- رضي الله عنهما- وتمسكوا بالحديث السابق، وأجابوا عن هذا بأن التحريق لاستهانتهم وعدم مبالاتهم بها، لا لمجرد الترك، ويشهد له ما له بعده من الحديث. وقال أحمد وداود- رضي الله عنهما-: إنها فرض علي الأعيان لظاهر الحديث وليست شرطاً في صحة الصلاة، وإلا لما صحت صلاة الفذ، وقد دل الحديث السابق علي صحتها. وقال بعض الظاهرية بوجوبها واشتراطها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من إتباعه عذر لم تقبل منه الصلاة التي صلاتها)) أجيب عنه بأن النداء نداء الجمعة، والمراد به أنه لم تقبل صلاته قبولا تاماً كاملاً، توفيقاً بينه وبين الحديث المتفق علي صحته. وذكر نحوه الشيخ محيي الدين، وزاد عليه حيث ذكر: قيل: فيه دليل أن العقوبة كانت في بادئ الأمر بإحراق المال. وقيل: أجمع العلماء علي منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة، والغال من الغنيمة، والجمهور علي منع تحريق متاعهما. وفي قوله: ((ثم آمر رجلاً فيؤم الناس)) دليل علي أن الإمام إذا عرض له شغل يستخلف من يصلي بالناس، وعلي جواز انصراف الإمام لعذر. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رجلا أعمى)) ((مح)): هو ابن أم مكتوم جاء مستفسراً في رواية أبي داود وغيره من أصحاب السنن. وفيه دلالة لمن قال: الجماعة واجبة. وأجاب الجمهور عنه بأنه قد أجمع المسلمون علي حضور الجماعة يسقط بالعذر، ودليله من السنة حديث عتبان بن مالك أنه قال: ((يا رسول الله! إني قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، وإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم)) الحديث. وأما ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له ثم رده ثم قوله: ((فأجب)) فيحتمل أنه كان بوحي نزل في الحال، وأنه تغير اجتهاده، وذلك أنه رخص له أولا إما للعذر، وإما لأن فرض

1055 - وعن ابن عمر: أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات بدر وريح، ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كنت ليلة ذات برد ومطر يقول: ((ألا صلوا في الرحال)). متفق عليه. 1056 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدأوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه)). وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ منه، وإنه ليسمع قراءة الإمام. متفق عليه. 1057 - وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكفاية يحصر بحضور غيره، ثم ندبه إلي الأفضل، أي فضل لك أن تجيب وتحضر؛ لأنك من عظماء الصحابة، وهو أليق بحالك، وكان هو من فضلاء المهاجرين والسابقين الأولين. الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((في الرحال)) ((نه)): أي الدور والمساكن والمنازل وهي جمع رحل، يقال لمنزل الإنسان ومسكنه: رحله، وكذا في شرح السنة. الحديث الخامس عن ابن عمر: قوله: ((فابدأوا بالعشاء ولا يعجل)) فإن قلت: الأحد إذا كان في سياق النفي يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وفي الحديث في سياق الإثبات فكيف وجه الأمر إليه تارة بالجمع، وأخرى بالإفراد؟ قلت: الأمر بالجمع موجه إلي المخاطبين في قوله: ((أحدكم))، وبالإفراد إلي الأحد، المعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدأوا أنتم بالعشاء، ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولا هو يدافعه الأخبثان)) أي البول والغائط. ((شف)): هذا التركيب لا أحققه، وأقول: يمكن أن يقال: إن ((لا)) الأولي لنفي الجنس، ((وبحضرة طعام)) خبرها، و ((لا)) الثانية زائدة للتأكيد، عطفت الجملة علي الجملة. وقوله: ((هو)) مبتدأ، و ((يدافعه)) خبر، وفيه حذف، تقديره: ولا صلاة حين هو يدافعه الأخبثان فيها، يعني الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدي الصلاة. والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، ويجوز أن يحمل المدافعة علي الدفع مبالغة، ويجوز أن يحذف اسم ((لا)) الثانية وخبرها. وقوله: ((هو يدافعه)) حال، أي ولا صلاة للمصلي وهو يدافعه الأخبثان، ويؤيده رواية النهاية: ((لا يصلي الرجل وهو يدافع الأخبثين)). ويجوز مثل هذا الحذف، وأنشد المطرزي في شرح مقاماته:

1058 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله علي وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) رواه مسلم. 1059 - وعن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذنت امرأ أحدكم إلي المسجد فلا يمنعها)). متفق عليه. 1060 - وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود. قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شهدت إحداكن المسجد؛ فلا تمس طيباً)). رواه مسلم. 1061 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة أصابت بخوراً؛ فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ [يكون نزول الركب فيها كلا ولا غشاشاً ولا يدنون رحلا علي رحل أي ما كان بطؤهم إلا مدة يسيرة كالبقرة بلا ولا غشاشاً- بالكسر- أي علي عجلة من اشتغال القلب. وفي الشكاف: يلمح مرتبها كلا ولا لمح أي كلا لمح ولا لمح]. ((مح)): فيه كراهية الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيها من اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع، وكراهتها مع مدافعة الأخبثين، ويلحق بهذا ما كان في معناه. وهذه الكراهة عند الجمهور إذا صلي كذلك وفي الوقت سعة، فإن ضاق الوقت بحيث لو اشتغل بذلك خرج وقت الصلاة صلي علي حاله حرمة للوقت. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا أقيمت الصلاة)) ((مظ)): إذا أقام المؤذن لا يجوز أن يصلي سنة الفجر، بل يوافق الإمام في الفريضة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: أنه لو علم المصلي أنه لو اشتغل بسنة الفجر أدرك الإمام في الركعة الأولي والثانية صلي سنة الفجر أولاً، ثم يدخل مع الإمام في الفريضة. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فلا يمنعها)) ((مظ)): فيه دليل علي جواز خروجهن إلي لمسجد للصلاة، ولكن في زماننا مكروه. الحديث التاسع، والعاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) وخصها بالذكر لأنها وقت الظلم وخلو الطرق، والعطر مهيج للشهوة، فلا يأمن من المرأة حينئذ من الفتنة، بخلاف الصبح عند إدبار الليل وإقبال النهار فحينئذ تنعكس القضية.

الفصل الثاني 1062 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)). رواه أبو داود. [1062] 1063 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)) رواه أبو داود. [1063] 1064 - وعن أبي هريرة، قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة امرأة تطيبت للمسجد حتى تغتسل غسلها من الجنابة)). رواه أبو داود، وروى أحمد والنسائي نحوه. [1064] 1065 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عين زإنية؛ وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا)) يعني زإنية رواه الترمذي، ولأبي ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول، والثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((في مخدعها ((نه)): الخداع إخفاء الشيء، وبه سمي المخدع، وهو البيت الصغير، الذي يكون داخل البيت الكبير، يضم ميمه وتفتح. ((تو)): هو البيت الذي يخبأ فيه خير المتاع، وهو الخزانة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى تغتسل غسلها من الجنابة ((مظ)) هذا إذا أصاب الطيب جميع بدنها، وأما إذا أصاب موضعاً مخصوصاً فيسغل الموضع المخصوص فحسب. وأقول: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال وفتح باب عيونهم التي هي بمنزلة رائد الزنا. وحكم عليها بما يحل علي الزإني من الاغتسال من الجنابة- مبالغة وتشديداً عليها، ويعضد هذا التأويل الحديث الآتي. وتقييده تطيبها بالمسجد مبالغة أيضاً، أي إذا كان حكم المسجد هذا فما بال تطيبها لغيره؟ الحديث الرابع عن أبي موسى: قوله: ((فهي كذا وكذا)) كناية عن العدد، يعني عد عليها

داود، والنسائي ونحوه. [1065] 1066 - وعن أبي بن كعب، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح، فلما سلم قال: ((أشاهد فلان. قالوا: لا. قال: ((أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات علي المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا علي الركب، وإن الصف الأول علي مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلي الله. رواه أبو داود، والنسائي. [1066] ـــــــــــــــــــــــــــــ خصالاً ذميمة يستلزمها الزنا. ((مظ)): إذا تعطرت ومرت بمجلس فقد هيجت شهوة الرجال، وحملتهم علي النظر إليها؛ فإذن يكون سبباً لذلك؛ فتكون زإنية. الحديث الخامس عن أبي بن كعب: قوله: ((صلي بنا)) أي أمنا، والباء في ((بنا)) للتعدية، أي جعلنا مصلين، أو للحال، أي صلي متلبساً بنا. قوله: ((إن هاتين الصلاتين)) أي الصبح العشاء؛ لأن مبدأ النوم العشاء، ومنتهاه الصبح، فإن لذيذ الكرى عند الصباح يكون، والمنافقون إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي. قوله: ((ولو حبوا)) حبواً خبر كان المحذوف، أي ولو كان الإتيان حبواً، ويجوز أن يكون التقدير: ولو أتيتموها حبواً، أي حابين تسمية بالمصدر ومبالغة. ((نه)) الحيوان يمشي علي يديه وركبتيه، أو استه، وحبا الصبي إذا زحف علي استه. قوله: ((علي مثل صف الملائكة)) خبر إن، والمتعلق كائن، أو مقاس، شبه الصف الأول في قربه من الإمام بصف الملائكة المقربين في قربهم إلي الله عز وجل. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((لو تعلمون ما فيهما)) وقوله بعد: ((لو علمتم ما فضيلته؟)) قلت: الدلالة علي أن حضور الجماعة أفضل وأكمل من اختيار الصف الأول؛ لأن ((لو)) يستدعي الماضي، وإيثار المضارع عليه يشعر بالاستمرار، لاسيما لم يصرح بالفضيلة بل إبهمهما ليدل علي أن إبهامهما لا يدخل تحت الوصف، بين أولاً فضيلة الجماعة، ثم نزل منه إلي بيان فضيلة الصف الأول، ثم إلي بيان كثرة الجماعة.

1067 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان. فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [1067] 1068 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من إتباعه عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: ((خوف أو مرض؛ لم تقبل منه الصلاة التي صلي)). رواه أبو داود، والدارقطني. [1068] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أزكى)) إن ذهب إلي أنه من النمو فيكون المعنى أن الصلاة مع الجماعة أكثر ثواباً، وإن ذهب إلي أنه من الطهارة فيكون المعنى أن المصلي مع الجماعة أمن من رجس الشيطان وتسويله. الحديث السادس عن أبي الدرداء: قوله ((استحوذ)) ((نه)): أي استولي عليهم، حواهم إليه، وهذه اللفظة أحد ما جاء علي الأصل من غير إعلال خارجة عن أخواتها. وقوله: ((فعليك بالجماعة)) من الخطاب العام الذي لا يختص بسامع دون آخر تفخيماً للأمر، والفاء الأولي مسببه عن قوله: ((قد استحوذ عليهم الشيطان))، والثانية سببية عن المجموع، يعني إذا عرفت هذه الحالة فاعرف مثاله في الشاهد، ويحتمل أن يراد بالصورة الأولي صورة الإمامة الصغرى، وحال انفراد الرجل عنها، واستيلاء الشيطان عليه فاعرف حال الإمامة الكبرى، وقس عليها حال المنفرد، وغلبة الشيطان عليه، كما سبق في باب الاعتصام في قوله: ((يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار)) الحديث. والكلام في تشبيه؛ لأن المشبه والمشبه به مذكوران، شبه من فارق الجماعة التي يد الله عليهم أي حفظه وكلاته، ثم هلاكه في أودية الضلال المؤدية إلي النار بسبب تسويل الشيطان بالشاة المنفردة عن القطيع البعيدة عن نظر الراعي، ثم يسلط الذئب عليها، وجعلها فريسة له. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لم تقبل منه الصلاة ((حس)): اتفقوا علي أنه لا رخصة في ترك الجماعة لأحد، إلا من عذر، لهذا الحديث والحديث الذي سبق، وفيه حذف، أي من سمع نداء المنادي. ولقوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله! إني رجل أعمى- الحديث: ((فأجب)). قال عطاء بن رباح ليس لأحد من خلق الله في الحضر والغربة رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة. وقال الحسن إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها. وقال الأوزاعي: لإطاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات، سمع النداء أو لم يسمع.

1069 - وعن عبد الله بن أرقم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أقيمت الصلاة، ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء)). رواه الترمذي، وروى مالك، وأبو داود، والنسائي نحوه. [1069] 1070 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤمن رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل ذلك فقد خانهم. ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل ذلك فقد خانهم. ولا يصل وهو حقن حتى يتخفف)). رواه أبو داود، وللترمذي نحوه. [1070] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): في حديث الكهان والعراف معنى عدم قبول الصلاة لأنه لا ثواب لها فيها، وإن كانت مجزية في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلي الإعادة، ونظيره الصلاة في الأرض المغصوبة فإنها مجزية مسقطة للقضاء، ولكن لا ثواب فيها، قاله جمهور أصحابنا. وقالوا: صلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها علي وجهها الكامل ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول، دون الثاني. ولابد من هذا التأول في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون علي أنه لا يلزم من أتى العرف إعادة الصلاة- انتهي. فإن قلت: ثبت في حديث ابن عمر أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لمن صلي منفرداً، فكيف الجمع؟ قلت: يحمل علي أنه صلاها لعذر من الأعذار. قوله: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من إتباعه عذر، قالوا: وما العذر؟)) ((شف)): ((فلم تقبل)) خبر للمبتدأ، وهو قوله: ((من سمع المنادي))، وما توسط بينهما من السؤال والجواب اعتراض من الراوي. وقوله: ((صلي)) كذا في سنن أبي داود، وكتاب الدارقطني وجامع الأصول، وفي نسخ المصابيح ((صلاها)). الحدث الثامن عن عبد الله بن أرقم: قوله: ((ووجد أحدكم الخلاء)) أي وجد حاجة نفسه إلي البراز ليقضيها، فليبدأ بما احتاج إليه من قضاء الحاجة: يعإني من احتاج إلي قضاء الحاجة جاز له ترك الجماعة لهذا العذر. الحديث التاسع عن ثوبان: قوله: ((وهو حقن)) ((نه)): الحاقن هو الذي حبس بوله، كالحاقب

1071 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا لغيره)). رواه في ((شرح السنة)). [1071] الفصل الثالث 1072 - عن عبد الله بن مسعود، قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة ـــــــــــــــــــــــــــــ للغائط. قيل في قوله: ((فقد خانهم)): نسب الخيانة إلي الإمام باختصاصه الدعاء لنفسه، لأن شرعية الجماعة أن يفيض كل من الإمام والمأموم الخير علي صاحبه ببركة قربه من الله تعالي، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه، وشرعية الاستئذان والحجاب إنما كانت لئلا يهجم قاصد علي عورات البيت، فالنظر في قعر البيت خيانة، والصلاة إنما هي مناجاة وقرب إلي الله تعالي واشتغال عن الغير، والحاقن كأنه يخون نفسه حقها. ولعل توسيط الاستئذان بين حالتي الصلاة، للجمع بين مراعاة حق الله تعالي وحق العباد، وتخصيص الاستئذان بالذكر لأنه من مراعاة حق العباد، ومن راعى هذه الدقيقة فهو لمراعاة ما فوقها أحرى وأجدر. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((لا تؤخروا الصلاة لطعام)) ((تو)): المعنى لا تؤخروها عن وقتها، وإنما ذهبنا إلي ذلك دون التأخير علي الإطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء)) فجعل له تأخير الصلاة مع بقاء الوقت في هذا الحديث، وعلي هذا فلا اختلاف بين الحديثين، وأقول: يمكن أن يكون المعنى لا تؤخروا الصلاة لغرض الطعام لكن إذا حضر الطعام أخروها للطعام، قدمت للاشتغال بها عن الغير تبجيلاً لها، وأخرت تفريغاً للقلب عن الغير تعظيماً، لها فلها الفضل تقديماً وتأخيراً. والأوجه أن يقال: إن النهي في الحقيقة وارد علي إحضار الطعام، والملابسة بغيره قبل أداء الصلاة، أي لا تتعرضوا لما إن حضرت الصلاة تؤخروها لأجله، من إحضار الطعام، والاشتغال بغيره. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لقد رأينا وما يتخلف)) قد تقرر أن اتحاد الفاعل والمفعول إنما يسوغ في أفعال القلوب، وأنها من الدواخل علي المبتدأ والخبر، والمفعول الثاني الذي هو بمنزلة الخبر هنا محذوف، وسد قوله: ((وما يتخلف عن الصلاة)) وهو حال سد مسده، وقوله: ((إن كان)) استئناف، والتنكير في ((مريض)) للتفخيم، أي ما يتخلف إلا منافق، أو مريض بين المرض عاجز، فتوجه لسائل أن يقول: فما بال المريض الذي ليس كذلك؟ فأجيب إن كان إلي آخره.

وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال: من سره أن يلقى الله تعالي غداً مسلماً؛ فليحافظ علي هذه الصلوات الخمس، حيث ينادي بهن، فإن اله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلي مسجد من هذه المساجد؛ إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها سيئة، ولقد رأينا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف. رواه مسلم. 1073 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لولا ما في البيوت من النساء ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه من التشديد والتأكيد علي ما لا يخفي من إتيان ((إن)) المخففة، واللام المؤكدة الفارقة، والإبهام بإضمار ضمير الشأن، وخصوصية التهادي المنبئ عن كمال اعتنائه بشأن الجماعة، كل ذلك تشديد وتأكيد لترك التخلف عن الجماعة. ((مح)): هذا دليل ظاهر علي صحة ما سبق تأويله في الذين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم، أنهم كانوا منافقين. قوله: ((سنن الهدي)) ((مح)): روى بضم السين وفتحها، والمعنى متقارب، أي طريق الهدى والصواب. قوله: ((هذا المتخلف)) في اسم الإشارة إشارة إلي تحقيره وتبعيده عن مظان الزلفي، كما أن اسم الإشارة في قوله: ((هذه المساجد)) ملوح إلي تعظيمها، وبعد مرتبتها في الرفعة. ((لضللتم)) يدل علي أن المراد بالسنة العزيمة. قوله: ((يهادي بين الرجلين)) ((نه)): أي يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله، من تهادت المرأة في مشيها، إذا تمايلت. ((مح)): في هذا كله تأكيد أمر الجماعة، وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن للمريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من النساء)) بيان لما عدل من ((من)) إلي ((ما)) إما لإرادة الوصيفة، وبيان أن النساء والذرية بمنزلة ما لا يعقل، وأنه مما لا يلزمه حضور الجماعة، وإما أن البيوت محتوية عليهما وعلي الأمتعة والأثاث، فخصا بالذكر للاعتناء

والذرية، أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتيإني يحرقون ما في البيوت بالنار)). رواه أحمد. [1073] 1074 - وعنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي)). رواه أحمد. [1074] 1075 - وعن أبي الشعثاء، قال: خرج رجل من المسجد بعدما أذن فيه. فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 1076 - وعن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة؛ فهو منافق)) رواه ابن ماجه. [1076] 1077 - وعن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من سمع النداء فلم يجبه؛ فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه الدارقطني. [1077] 1078 - وعن عبد الله بن أم مكتوم، قال: يا رسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام ـــــــــــــــــــــــــــــ بشأنهما. و ((ما)) قد تستعمل عاماً فيما يعقل حقيقة، كما إذا رأيت شبحاً من بعيد قلت: ما ذلك؟ في الكشفا. قوله: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) المأمور به محذوف، وقوله: ((إذا كنتم)) إلي آخره، مقول للمفعول، وهو حال بيان للمحذوف، المعنى أمرنا أن لا نخرج من المسجد إذا كنا فيه وسمعنا الأذان حتى نصلي، قائلاً: ((إذا كنتم)) إلي آخره. الحديث الرابع عن أبي الشعثاء: قوله: ((أما هذا)) أما للتفصيل يقتضي شيئين فصاعداً، والمعنى أما من ثبت في المسجد وأقام الصلاة فيه فقد أطاع أبا القاسم، وأما هذا فقد عصى. الحديث الخامس، والسادس [عن ابن عباس قوله: ((إلا من عذر)) اعلم أن ((إلا)) هذه مركبة من ((أن)) الشرطية و ((لا)) أي إن لم تكن عدم الإجابة من عذر فلا صلاة].

والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: ((هل تسمع: حي علي الصلاة، حي علي الفلاح؟)) قال: نعم. قال: ((فحيهلا)). ولم يرخص [له]. رواه أبو داود، والنسائي. [1078] 1079 - وعن أم الدرداء، قالت: دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك،؟ قال: والله ما أعرف من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً. رواه البخاري. 1080 - وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلي السوق، ومسكن سليمان بن المسجد والسوق، فمر علي الشفاء أم سليمان. فقال لها: لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة. رواه مالك. [1080] 1081 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنان فما فوقها جماعة)) رواه ابن ماجه. [1081] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عبد الله بن أم مكتوم: قوله: ((فحيهلا)) هي كلمة حث واستعجال وضعت موضع ((أجب))، ((الكشاف)): أحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه، وقيل لأبي تمام: لم تقول ما لا يفهم؟ فأجاب: لم لا يفهم ما يقال؟. الحديث الثامن عن أم الدرداء- هي زوجة أبي الدرداء، واسمها خيرة- قوله: ((والله ما أعرف)) إلي آخره، وقع جواباً لقولها: ((ما أغضبك)) علي معنى رأيت ما أغضبني من الأمر المنكر غير المعروف من دين محمد صلى الله عليه وسلم وهو ترك الجماعة. الحديث التاسع عن أبي بكر بن سليمان: قوله: ((الشفاء)) اسم أو لقب، ((وأم سليمان)) إما بدل، أو عطف بيان. قوله: ((فغلبته عيناه)) والأصل غلب عليه النوم، فأسند إلي مكان النوم علي المجازي. قوله: ((ليلته)) أضاف الليل إلي الصبح لأن الموازنة وقعت بين ذلك الصبح وليله. الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((اثنان فما فوقهما)) اثنان مبتدأ صفة لموصوف

1082 - وعن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم)). فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:؛ وتقول أنت: لنمنعهن!. 1083 - وفي رواية سالم عن أبيه، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً ما سمعت سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتقول: والله لنمنعهن! رواه مسلم. 1084 - وعن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد)). فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن، فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتقول؟! قال: فما كلمة عبد الله حتى مات رواه أحمد. [1084] ـــــــــــــــــــــــــــــ محذوف، ويجوز أن يخصص بالعطف علي قول، فإن الفاء للتعقيب، والمعنى اثنان وما يزيد عليهما علي التعاقب واحدة بعد واحدة بعد جماعة، نحو قولك: الأمثل فالأمثل، والأفضل فالأفضل، وقولك: بعته بدرهمين فصاعداً. وفيه أن أقل الجمع اثنان؛ لما فيه من معنى انضمام الشيء إلي الشيء. الحديث الحادي عشر عن بلال: قوله: ((وتقول أنت: لنمنعهن)) يعني أنا آتيك بالنص القاطع، وأنت تتلقاه بالرأي، كأن بلال ما اجتهد ورأي من النساء وما في خروجهن إلي المساجد من المنكر وأقسم علي منعهن، ورده أبوه بأن النص لا يعارض بالرأي. والرواية الأخيرة أبلغ لسبه إياه سباً بليغاً. وهذا دليل قوي لا مزيد عليه في الباب. الحديث الثاني عشر عن مجاهد: قوله: ((أن يأتوا المساجد)) ذكر ضمير النساء تعظيماً لهن، ولما قصدن من أن يسلكن في سلك الرجال الركع السجد، علي نحو قوله تعالي: ((وكانت من القانتين)) وقال الشاعر: وإن شئت حرمت النساء سواكم قوله: ((فما كلمة عبد الله حتى مات))، أقول: عجبت ممن يتسمى بالسني وإذا سمع سنة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله رأي رجح رأيه عليها، وأي فرق بينه وبين المبتدع؟ أما سمع: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))؟ وها هو ابن عمر، وهو من أكابر فقهاء الصحابة، والمرجوع إليه بالفتيا والاجتهاد، كيف غضب لله ولرسوله، وهجر فلذة كبده وشقيق روحه لتلك الهنة، عبر لأولي الألباب.

(24) باب تسوية الصف

(24) باب تسوية الصف الفصل الأول 1085 - عن النعمان بن بشير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأي أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأي رجلاً بادياً صدره من الصف، فقال: ((عباد الله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تسوية الصف الفصل الأول الحديث الأول عن النعمان: قوله: ((كأنما يسوي بها القداح)) ((تو)): ((القداح)) – بالكسر- السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وجمعه قداح، وضرب المثل به هاهنا من أبلغ الأشياء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع لمكان الصفوف، أي ليسوى كل صف علي حدته. أقول: روعي في قوله: ((يسوى بها القداح)) نكتة؛ لأن الظاهر أن يقال: كما يسويها بالقداح، والباء للآلة، كما في قولك: كتبت بالقلم، فعكس وجعل الصفوف هي التي يسوى به القداح مبالغة في استوائها. قوله: ((حتى عقلنا عنه)) يعني لم يبرح صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا، وتعقلنا عنه فعله. قوله: ((لتسون صفوفكم)) ((قض)): اللام فيه هي التي يتلقى بها القسم، ولكونه في معرض القسم مقدم أكده بالنون المشددة، و ((أو)) للعطف، ردد بين تسويتهم الصفوف وما هو كاللازم لنقيضها. وأقول: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخاً وتهديداً، أي ليكون أحد الأمرين: إما تسوية صفوفكم، أو أن يخالف الله بين وجوهكم. ((نه)): أراد وجوه القلوب؛ لما ورد: ((ألا! لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) أي هواها وإرادتها. ((قض)): يريد أن تقديم الخارج صدره عن الصف يفرق علي الداخل، وذلك قد يؤدي إلي وقوع الضغينة، وإيقاع المخالفة كناية عن المهاجرة والمعاداة. ((مظ)): يعني أدب الظاهر علامة أدب الباطن، فإن لم تطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الظاهر يؤدي ذلك إلي اختلاف القلوب، فيورث كدورة فيسري ذلك إلي ظاهركم فتقع بينكم عداوة بحيث يعرض بعضكم عن بعض وقيل معنى مخالفة الوجوه تحولها إلي الإدبار فقيل: تغير صورتها إلي صورة أخرى كما قال: ((أن يحول الله رأسه رأس حمار)).

1086 - وعن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: ((أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري)). رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف؛ فإني أراكم من وراء ظهري)). 1087 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)) متفق عليه؛ إلا أن عند مسلم: ((من تمام الصلاة)). 1088 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً. رواه مسلم. 1089 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلني منك ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ويؤيد أن المراد باختلاف الوجوه اختلاف الكلمة وهيج الفتن قول أبي مسعود: ((أنتم اليوم أشد اختلافاً)) لعله أراد الفتن التي وقعت بين الصحابة، و ((أشد)) يحتمل أن يجرى علي المبالغة من وضع أفعل مقام اسم الفاعل، أي أنتم اليوم في اختلاف لا مزيد عليه. الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((وتراصوا)) ((نه)): أي تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فرج، من: رص البناء يرصه رصاً. ((حس)): فيه بيان أن الإمام يقبل علي الناس فيأمرهم بتسوية الصفوف، قوله: ((فإني أراكم من وراء ظهري)) هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((من إقامة الصلاة)) أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالي: {والذين يقيمون الصلاة} هي تعديل أركانها، وحفظها من أي يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من: أقام العود إذا قومه. الحديث الرابع عن أبي مسعود: قوله: ((فتختلف)) بالنصب، أي إن اختلفت فتختلف من قبيل: لا تدن من الأسد يأكلك. فيه أن القلب تابع للأعضاء، فإن اختلفت اختلف، فإذا اخلف فسد، ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها. وأما قول أبي مسعود: ((فأنتم اليوم أشد اختلافاً)) يخاطب القوم الذين هيجوا الفتن، فإنه أراد أن سبب هذا الاختلاف والفتن عدم تسوية صفوفكم، وقد سبق في الحديث الأول بيانه.

أولو الأحلام والنهي، ثم الذين يلهونهم)) ثلاثاً ((وإياكم وهيشات الأسواق)). رواه مسلم. 1090 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً، فقال لهم: ((تقدموا وأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحدي الخامس عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((ليلني)) الولي القرب والدنو. ((مح)): هو بكسر اللام وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون علي التوكيد. ((تو)): ومن حق هذا اللفظ أن تحذف عنه الياء؛ لأنه علي صيغة الأمر، وقد وجدناه بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلط. ((نه)): ((الأحلام)) جمع حلم- بالكسر- كأنه من الحلم، وهو الإناءة والتثبت في الأمور، وذلك من شعار العقلاء. و ((النهية)) العقل الناهي عن القبائح، وجمعها نهي. ((قض)): قوله: (ثم الذين يلونهم)) ((تو)): كالمراهقين، ثم كالصبيان المميزين، ثم كالنساء، فإن نوع الذكر أشرف علي الإطلاق. ((مظ)): المعنى ليدن مني العلماء النجباء أولو الأخطار، وذووا السكينة والوقار، أمرهم به ليحفظوا صلاته، ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوها من بعدهم، وفي ذلك بعد الإفصاح بجلالة شيءونهم ونباهة أقدارهم، حث لهم علي المسابقة إلي تلك، وفيه إرشاد لمن قصر عن المساهمة معهم في المنزلة إلي تحرى ما يزاحمهم فيها. ((مظ)): قدموا ليحفظوا صلاته إن سها فيجبرها، أو يجعل أحدهم خليفة له إن احتاج إليها. قوله: ((وهيشات الأسواق)) ((حس)): هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل السوق، فلا يتميز الذكور من الإناث، ولا الصبيان من البالغين. ويجوز أن يكون المعنى اتقوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق؛ فإنه يمنعكم عن أن تلوني. الحديث السادس عن أبي سعدي: قوله: ((وليأتم بكم من بعدكم)) يحتمل أن يراد به الاقتداء في الصلاة. وقوله: ((رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً)) يحتمل أن يراد به التأخر في صفوف الصلاة، والتأخر عن أخذ العلم، فعلي الأول المعنى هو ليقف العلماء والألباء من دونهم في الصف الثاني يقتدون بالصف الأول ظاهراً لا حكماً، وعلي الثاني المعنى ليتعلم كلكم مني العلم وأحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرناً بعد قرن إلي انقضاء الدنيا. هذا تلخيص كلام المظهر.

1091 - وعن جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقا، فقال: ((مالي أراكم عزين؟!)). ثم خرج علينا فقال: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟)) فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يتمون الصفوف الأولي، ويتراصون في الصف)). رواه مسلم. 1092 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حتى يؤخرهم الله)) ((مح)): أي عن رحمته، وعظيم فضله، ورفيع منزلته، وعن العلم ونحو ذلك. أقول: جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الفصل الثالث: ((حتى يؤخرهم الله في النار)) ومعناه لا يزال يؤخرهم عن رحمته وفضله حتى تكون عاقبة أمرهم إلي النار. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((خرج علينا)) أي طلع. ((حلقاً)) ((تو)): أي رآنا جلوساً حلقة حلقة، كل صف منها قد تحلق. قوله: ((عزين)) أي جماعات متفرقين حلقة حلقة. ((نه)): هي جمع عزة، وهي الحلقة المجتمعة من الناس، وأصلها عزوة فحذفت الواو، وجمعت جمع السلامة علي غير قياس، كثبين وبرين جمع ثبة وبرة. والمعنى ما لي أركم أشتاتاً متفرقين، وفي معناه قوله سبحانه: {عين اليمين وعين الشمال عزين}. أقول: قوله: ((ما لي أراكم عزين)) إنكار علي رؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم متفرقين أشتاتاً، والمقصود الإنكار عليهم كائنين علي تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تتفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك، وكيف وقد قال الله تعالي: {واعتصموا بحمل الله جميعاً ولا تفرقوا}. ولعل العذر من طرفي، وذلك أنكم مجتمعون، وإني أراكم متفرقين، ولو قال: ((وما لكم متفرقين)) لم يفد من المبالغة فائدة. ونظيره قوله تعالي: {مالي لا أرى الهدهد} حكاية عن سليمان عليه السلام، أنكر علي نفسه عدم رؤية الهدهد إنكاراً بليغاً علي معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره، أو غير ذلك من الأعداء الخارجين.

الفصل الثاني 1093 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق؛ فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)). رواه أبو داود. [1093] 1094 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)). رواه أبو داود. [1094] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خير صفوف الرجال)) الخير والشر في صفي الرجال والنساء للتفضيل، أحدهما شركة الآخر فيه، فيناقض، ونسبة الشر إلي الصف الأخير- وصفوف الصلاة كلها خير- إشارة إلي أن تأخير الرجل عن مقام القرب مع تمكنه منه هضم لحقه، وتسفيه لرأيه، فلا يبعد أن يسمى شراً. قال أبو الطيب: ولم أر من عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين علي التمام ((مظ)): يعني الرجال مأمورون بالتقدم، فمن هو أكثر تقدماً فهو أشد تعظيماً لأمر الشرع، فيحصل له من الفضيلة ما لا يحصل لغيره. وأما النساء فمأمورات بالحجاب، فمن هي أقرب إلي صف الرجال تكون أكثر تركاً للحجاب، فهي لذلك شر من اللائي تكن في الصف الأخير. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قاربوا بينها)) ((قض)): أي قاربوا بين الصفوف بحيث لا تسع بينها صفاً آخر، حتى لا يقدر الشيطان أن يمر بين أيديكم، فيصير تقارب أشباحكم سببا لتعاضد أرواحكم. ((وحاذوا بالأعناق)) بأن لا يقف أحدكم مكاناً أرفع من مكان الآخر، ولا عبرة بالأعناق أنفسها؛ إذ ليس للطويل أن ينحس عنقه ليحاذي عنق القصير. قوله: ((الحذف)) بالحاء المهملة والذال المعجمة. ((نه)): هي الغنم الصغار الحجازية، واحدتها حذفه- بالتحريم-. وقيل: هي صغار جرد ليس لها آذان ولا أذقان، يجاء بها من جرش اليمن. ((فا)): كأنها سميت حذفاً لأنها محذوفة عن المقدار الطويل. ((مظ)): الضمير في ((كأنها)) راجع إلي مقدر، أي جعل نفسه شاة أو ماعزة كأنها الحذف. وأقول: الضمير إذا وقع بين شيئين أحدهما عبارة عن الآخر فيعتبر التذكير والتإنيث باعتبار أحد المذكورين، وإن اختلف لفظاهما

1095 - وعن البراء بن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله وملائكته يصلون علي الذين يلون الصفوف الأولي، وما من خطوة أحب إلي الله من خطوة يمشيها يصل [العبد] بها صفاً)). رواه أبو داود. [1095] 1096 - وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون علي ميامن الصفوف)). رواه أبو داود. [1096] 1097 - وعن النعمان بن بشير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا إلي الصلاة، فإذا استوينا كبر. رواه أبو داود. [1097] 1098 - وعن أنس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن يمينه: ((اعتدلوا، سووا صفوفكم)). وعن يساره: ((اعتدلوا، سووا صفوفكم)). رواه أبو داود. [1098] 1099 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة)). رواه أبو داود. [1099] ـــــــــــــــــــــــــــــ تذكيراً وتإنيثاً، كما في قولك: من كانت أمك. فههنا الحذف مؤنث، والشيطان شبه بها، فيجوز تإنيث الضمير باعتبار الحذف، وتذكيره باعتبار الشيطان. الحديث الثاني إلي السابع عن ابن عباس، قوله: ((ألينكم مناكب)) ((مظ)): معناه أنه إذا كان في الصف وأمره أحد بالاستواء ويضع يده علي منكبه- ينقاد ولا يتكبر. ((مظ)): معناه لزوم السكينة والوقار في الصلاة، فلا يلتفت ولا يحاك منكبه منكب صاحبه، أو لا يمنع لضيق المكان علي من يريد الدخول بين الصف لسد الخلل. والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامه في الفصل الثالث قوله: ((ولينوا في أيدي إخوانكم)).

الفصل الثالث 1100 - عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((استووا، استووا، استووا؛ فو الذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)). رواه أبو داود. [1100] 1101 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون علي الصف الأول)). قالوا: يا رسول الله! وعلي الثاني؟ قال: ((إن الله وملائكته يصلون علي الصف الأول)). قالوا يا رسول! وعلي الثاني؟ قال: ((إن الله وملائكته يصلون علي الصف الأول)). قالوا: يا رسول الله! وعلي الثاني؟ قال: ((وعلي الثاني)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف)) يعني أولاد الضأن الصغار. رواه أحمد. [1101] 1102 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)). رواه أبو داود وروى النسائي منه قوله: ((ومن وصل صفا)) إلي آخره. [1102] 1103 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توسطوا الإمام وسدوا الخلل)). رواه أبو داود. [1103] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول إلي السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((توسطوا الإمام)) أي اجعلوا إمامكم متوسطاً، بأن تقفوا في الصفوف عن يمينه وشماله.

(25) باب الموقف

1104 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)). رواه أبو داود. [1104] 1105 - وعن وابصة بن معبد، قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (25) باب الموقف الفصل الأول 1106 - عن عبد الله بن عباس، قال: بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلي الشق الأيمن, متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فأمره أن يعيد الصلاة)) إنما أمره بإعادة الصلاة تغليظاً وتشديداً، ويؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل من باب الموقف. قوله: ((حتى يؤخرهم)) أي عن الخيرات، ويدخلهم في النار. باب الموقف الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((فعدلني كذلك)) بالتخفيف، والكاف صفة مصدر محذوف، أي عدلني عدولا مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحديث. ((حس)): في الحديث فوائد: منها جواز الصلاة النافلة بالجماعة، ومنها أن المأموم الواحد يقف علي يمين الإمام، ومنها جواز العمل اليسير في الصلاة، ومنها عدم جواز تقدم المأموم علي الإمام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أداره من خلفه، وكانت إدارته من بين يديه أيسر، ومنها جواز الصلاة خلف من لم ينو الإمامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته منفرداً، ثم أئتم به ابن عباس.

1107 - وعن جابر، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدينا جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه. رواه مسلم. 1108 - وعن أنس، قال: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا. رواه مسلم. 1109 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا. رواه مسلم. 1110 - وعن أبي بكرة: أنه انتهي إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلي الصف، ثم مشى إلي الصف. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((فأخذ بيدينا)) لعله صلى الله عليه وسلم أخذ بيمينه شمال أحدهما وبشماله يمين الآخر فدفعهما. ((قض)): فيه دليل علي أن الأولي أن يقف واحد عن يمين الإمام، ويصطف اثنان فصاعداً خلفه، وأن الحركة الواحدة والحركتين المتصلين باليد لا تبطل، وكذا ما زاد علي ذلك إذا تفاصلت، إذ لو كانت متصلة لما صح. الحديث الثالث، والرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أن ويتيم)) ((حس)): فيه دليل علي تقديم الرجال علي النساء في الموقف، وأن الصبي يقف مع الرجال. الحديث الخامس عن أبي بكرة: قوله: ((فركع قبل أن يصل)) ((فحس)): فيه دلالة علي أن من صلي خلف الصف منفرداً بصلاة الإمام تصح صلاته؛ لأن أبا بكرة فعل ذلك فلم يأمره صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وأرشده في المستقبل إلي ما هو أفضل بقوله: ((لا تعد)) وهذا نهي تنزيه وإرشاد، لا نهي تحريم، ولو كان للتحريم لأمره بالإعادة، وفيه دليل علي أن من أدرك الإمام علي حال يجب عليه أن يصنع كما يصنع الإمام، ثم إن أدركه في الركوع كان مدركاً للركعة. ((قض)): ذهب الجمهور إلي أن الانفراد خلف الصف مكروه غير مبطل، وقال النخعي وحماد وابن أبي ليلي ووكيع وأحمد رضي الله عنهم: يبطل، والحديث حجة عليهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما أمره بإعادة الصلاة، ولو كان الانفراد مفسداً لم تكن صلاته منعقدة لاقتران المفسد بتحريمها. قوله: ((لا تعد)) ((قض)): أي لا تفعل ثإنياً مثل ما فعلت، إن جعل نهياً عن اقتدائه منفرداً، أو ركوعه قبل أن يصل إلي الصف لا يدل علي فساد الصلاة؛ إذ ليس كل محرم يفسد الصلاة،

الفصل الثاني 1111 - عن سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا. رواه الترمذي. [1111] 1112 - وعن عمار [بن ياسر]: أنه أم الناس بالمدائم، وقام علي دكان يصلي والنار أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ علي يديه، فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أم الرجل فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم، أو نحو ذلك))؟ فقال عمار: لذلك ابتعتك حين أخذت علي يدي. رواه أبو داود. [1112] 1113 - وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله فلان مولي فلانة لرسول الله، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون عائداً علي المشي إلي الصف في الصلاة، فإن الخطوة والخطوتين وإن لم تفسد الصلاة لكن الأولي التحرز عنها. وأقول: فعلي هذا النهي عن العود أمر بأن يقف حيث أحرم بالصلاة، ويتمها منفرداً. الفصل الثاني الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((أن يتقدمنا)) معمول أمرنا علي حذف الباء، و ((إذا كنا)) ظرف ((يتقدمنا))، إنما جاز تقديمه علي ((أن)) المصدرية لاتساع الظرفية. الحديث الثاني، والثالث عن سهل بن سعد: قوله: ((أثل الغابة)) ((نه)): الأثل شجر شبيه بالطرفاء، إلا أنه أعظم منه، والغابة غيضة ذات شجر كثير، وهي تسع أميال من المدينة. قوله: ((عمله فلان)) ((تو)): هو باقوم الرومي، ذكر أنه صنعه ثلاث درجات. وقيل: إن فلانة اسمها عائشة الأنصارية، وقيل: لم يتحقق. قوله: ((ثم رجع القهقري)) وهو الرجوع إلي الخلف، مصدر أي رجع الرجوع الذي يعرف

حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد علي الأرض، ثم عاد إلي المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض. هذا لفظ البخاري، وفي التفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل علي الناس، فقال: ((أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)). 1114 - وعن عائشة، قالت: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته والناس يأتمون به من وراء الحجرة. رواه أبو داود. [1114] ـــــــــــــــــــــــــــــ بهذا الوجه. ((مظ)): هذا المنبر كان ثلاث درجات متقاربة، فالنزول عنه يتيسر بخطوة أو خطوتين، ولا يبطل الصلاة. وفيه دلالة علي أن الأمام إذا أراد تعليم القوم الصلاة جاز أن يكون موضعه أعلي من موضع المأمومين. أقول: قوله: ((عمل فلان)) إلي آخره، زيادة في الجواب، كأنه قال: سؤالك هذا لا يهمك، بل المهم أن تعرف هذه المسألة الغريبة، وهي نافعة لك، وإنما أدخل حكاية الصانع في البين لينبه علي أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد، وهو من الأسلوب الحكيم. وهذا الحديث إنما ذكره المؤلف في الفصل الثاني- وهو من الفصل الأول؛ لأنه متفق عليه- تأسياً بالمصابيح، لأنه مذكور في الحسان، لكنه نبه بقوله: هذا لفظ البخاري- وفي المتفق عليه نحوه إلي آخره- علي أنه من الفصل الأول. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في حجرته)) قالوا: هي المكان الذي اتخذه صلى الله عليه وسلم من حصير حين أراد الاعتكاف، ويؤيده الحديث الصحيح: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير صلى الله عليه وسلم فيها ليالي)) وقيل: هي حجرة عائشة رضي الله عنها، وليس بذلك؛ إذ لو كانت لقالت: في حجرتي. ولأن صلاته صلى الله عليه وسلم في حجرتها مع اقتداء الناس به في المسجد لا تصح إلا بشرائط، وهي مفقودة؛ ولأنه ثبت أن بابها كان حذاء القبلة، فإذا لا يتصور اقتداء من كان في المسجد به صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه لو كان كذلك لم يتكلف صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه أن يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض.

الفصل الثالث 1115 - عن أبي مالك الأشعري، قال: ألا أحدثكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلي بهم، فذكر صلاته، ثم قال: ((هكذا صلاة)) - قال عبد الأعلي: لا أحسبه إلا قال-: ((أمتي)). رواه أبو داود. [1115] 1116 - وعن قيس بن عباد، قال: بينا أنا في المسجد، في الصف المقدم، فجذبني رجل من خلفي حبذة، فنحإني، وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي. فلما انصرف، إذا هو أبي بن كعب. فقال: يا فتى! لا يسؤك الله، إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه، ثم استقبل القبلة، فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثلاثاً، ثم قال: والله ما عليهم آسى ولكن آسى علي من أضلوا. قلت: يا أبا يعقوب! ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء. رواه النسائي. [1116] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي مالك: قوله: ((صف الرجال)) الضمير الفاعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ((الجوهري)): يقال: صففت القوم فاصطفوا، إذا أقمتهم في الحرب صفاً. وقوله: ((فذكر صلاته))، ي وصف الراوي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فحذف المعطوف عليه ثقة بفهم السامع، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا صلاة أمتي)). الحديث الثاني عن قيس: قوله: ((عباد)) بضم العين وتخفيف الباء ((فجبذني)) مقلوب جذبني. وقوله: ((فوالله ما عقلت)) مسبب عما قبله، والقسم معترض، أي كان فعله سبباً لعدم درايتي المعنى، ما دريت كيف أصلي وكم صليت؟ لما فعل بي ما فعل. قوله: ((عهد من النبي صلى الله عليه وسلم)) أي وصية منه، أو أمر منه صلى الله عليه وسلم إلينا، يريد قوله: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهي)). وفيه أنه قيساً لم يكن منهم، ولذلك نحاه، وسلاه بقول: يا فتى لا يسؤك الله. وكان من الظاهر أن يقول: لا يسؤك ما فعلت بك، ولما كان ذلك من أمر الله وأمر رسوله أسنده إلي الله مزيداً للتسلية.

(26) باب الإمامة

(26) باب الإمامة الفصل الأول 1117 - وعن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجراء سواء، فأقدمهم سناً. ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه. ولا يقعد في بيته علي تكرمته إلا بإذنه)). رواه مسلم. وفي رواية له: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((هلك أهل العقد)) ((نه)): يعني أصحاب الولايات علي الأمصار، من عقد الألوية للأمراء ومنه: ((هلك أهل العقد)) يريد البيعة المعقودة للولاة. قوله: ((آسى)) ((نه)): الأسى مقصوراً مفتوحاً الحزن، أسى يأسى فهو آس، المعنى إني لا أحزن علي هؤلاء الجورة والضلال، بل أحزن علي أتباعهم الذين أضلوهم، لعله قال ذلك تعريضاً بأمراء عهده، وذكره بعد الصلاة مستقبل القبلة تحسراً عظيماً عليهم. باب الإمامة الفصل الأول الحديث الأول عن ابن مسعود: قوله: ((يؤم القوم أقرؤهم)) إخبار في معنى الأمر، كما أن قوله تعالي: {الزإنية لا ينكحها لا زان} إخبار في معنى النهي. ((حس)): لم يختلفوا في أن القراءة والفقه يقدمان علي غيرهما، واختلفوا في الفقه مع القراءة، فذهب جماعة إلي تقدمها علي الفقه، وبه قال أصحاب أبي حنيفة- رحمهم الله تعالي- عملا بظاهر هذا الحديث، وذهب قوم إلي أن الفقه أولي إذا كان يحسن من القراءة ما تصح بها الصلاة، وبه قال مالك والشافعي- رحمهما الله سبحانه وتعالي- وذلك أن الفقيه يعلم ما يجب من القراءة في الصلاة؛ لأنه محصور، وما يقع فيها من الجواز غير محصور، وقد يعرض للمصلي ما يفسد صلاته وهو لم يعلم إذا لم يكن فقيهاً. قوله: ((فأقدمهم هجرة)) ((حس)): الهجرة اليوم منقطعة، وفضلها موروثة، فأولاد المهاجرين مقدمون علي غيرهم. قوله: ((فأقدمهم سناً)) ((حس)): لأن من يقدم سناً يقدم إسلاماً. قوله: ((في سلطانه)) ((تو)): السلاطة التمكن من القهر، وهو من التسلط، ومنه السلطان،

1118 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم)). رواه مسلم. وذكر حديث مالك بن الحويرث في باب بعد باب ((فصل الأذان)). الفصل الثاني 1119 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم)). رواه أبو داود. [1119] ـــــــــــــــــــــــــــــ والسلطان يقال في السلاطة، ولذي السلاطة، والمراد الأول، والمعنى لا يؤم الرجل الرجل في محل ولايته، ومظهر سلطانه، أو فيما يملكه، أو في محل يكون في حكمه، ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى: ((في أهله)). وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين علي الطاعة، وتألفهم وتوادهم، فإذا أم الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلي توهين أمر السلطنة، وخلع ربقة الطاعة، وكذا إذا أمه في أهله وقومه أدى ذلك إلي التباغض والتقاطع، وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع، فلا يتقدم الرجل علي ذي السلطنة، لاسيما في الأعياد والجمعات، ولا علي إمام الحي ورب البيت إلا بإذن. قوله: ((علي تكرمته)) ((تو)): وهي ما يعد للرجل إكراماً له في منزله من فراش وسجادة ونحوهما. وقيل: ((تكرمته)) مائدته، ولا إسناد لهذا ولا مأخذ يعتد به. ((قض)): علي هذا هو في الأصل مصدر كرم تكريماً، أطلق علي ما يكرم به مجازاً. الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((أحقهم بالإمامة أقرؤهم)) ((حس)): وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون كباراً، فيتفقهون قبل أن يقرأوا، ومن بعدهم يتعلمون القراءة صغاراً قبل أن يتفقهوا، فلم يكن فيهم قارئ إلا وهو فقيه. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((ليؤذن لكم خياركم)) ((الجوهري)): الخيار خلاف الأشرار، والخيار الاسم من الاختيار، إنما كانوا خياراً لما ورد أنهم أمناء؛ لأن أمر الصائم من الإفطار والأكل والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة متعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار مختارون.

1120 - وعن أبي عطية العقيلي، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا إلي مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوماً، قال أبو عطية: فقلنا له: تقدم فصله. قال لنا: قدموا رجلاً منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي إلا أنه اقتصر علي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. [1120] 1121 - وعن أنس، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى. رواه أبو داود. [1121] 1122 - وعن أبي أمامة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [1122] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني، والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يؤم الناس وهو أعمى)) ((شف)): فيه دليل علي جواز إمامة الأعمى. روى أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه مرتين ((تو)): واستخلفه علي الإمامة حين خرج إلي تبوك، مع أن علياً رضي الله عنه فيها، كيلا يشغله شاغل عن القيام بحفظ من استحفظه من الأهل والمال، حذراً أن ينالهم عدو بمكروه. الحديث الرابع عن أبي أمامة: قوله: ((لا تجاوز صلاتهم آذانهم)) ((تو)): أي لا ترفع إلي الله سبحانه وتعالي رفع العمل الصالح، بل أدنى شيء من الرفع، وخص الأذن بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء، ولا يصل إلي الله قبولاً وإجابة. وهذا مثل قوله في المارقة: ((يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم)) عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزته الآذان، بدليل التصريح بعدم القبول في الحديث الآتي. ويحتمل أن يراد لا يرفع عن آذانهم فيظلهم، كما يظل العمل الصالح صاحبه يوم القيامة. أقول: يومكن أن يقال: إن هؤلاء استوصوا بالمحافظة علي ما يجب عليهم، من مراعاة حق السيد والزوج والصلاة، فلما لم يقوموا بما استوصوا به لم تتجاوز طاعتهم عن مسامعهم كما أن القارئ الكامل هو أن يتدبر القرآن بقلبه، ويتلقاه بالعمل، فلما لم يقم بذلك لم يتجاوز من صدره إلي ترقوته. قوله: ((وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط)) ((مظ)): هذا إذا كان السخط لسوء خلقها، وإلا فالأمر بالعكس.

1123 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تقبل منهم صلاتهم: من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً- والدبار: أن يأتيها بعد أن تفوته- ورجل اعتبد محررة)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [1123] 1124 - وعن سلامة بنت الحر، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماماً يصلي بهم)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [1124] 1125 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إمام قوم)) القوم في الأصل مصدر قام، فوصف به، ثم غلب علي الرجال دون النساء، قال الله تعالي: {الرجال قوامون علي النساء}. ((حس)): قيل: المراد بالإمام إمام ظلم، وأما من أقام بالعدالة فاللوم علي من كرهه. وقيل: هو إمام الصلاة، وليس من أهلها فيتغلب، فإن كان مستحقاً لها فاللوم علي من كرهه. قال أحمد وإسحاق: إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة فله أن يصلي بهم حتى يكرهه أكثر القوم. الحديث الخامس عن ابن عمر: قوله: ((دباراً)) في الغريبين عن ابن الأعرابي: دبار جمع دبر ودبر، وهو آخر أوقات الشيء، أي يأتي الصلاة بعد ما يفوت الوقت، فإقبال الأمر وإدباره أوله وآخره، و ((دباراً)) انتصابه علي المصدر. قوله: ((اعتبد محررة) أي نسمة أو رقبة محررة، ((نه)) يقال: أعبدته واعتبدته إذا اتخذته عبداً وهو حر، وذلك بأن يعتقه ثم يكتمه إياه، أو يتملكه فيستخدمه كرهاً، أو يأخذ حراً فيدعيه عبداً ويتملكه. الحديث السادس عن سلامة: قوله: ((أشرطة الساعة)) هي علامتها، واحدتها شرط بالتحريك. ((خط)): أنكر بعضهم هذا التفسير، وقال: هي ما ينكره الناس من صغار أمور الساعة قبل أن تقوم. قوله: ((يتدافع)) ((مظ)): أن يتدافع أي يدرأ كل من أهل المسجد الإمامة عن نفسه، ويقول: لست أهلاً لها؛ لما ترك تعلم ما تصح الإمامة به. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الجهاد واجب عليكم)) ((مظ)): أي

مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر. والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر. والصلاة واجبة علي كل مسلم، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر)). رواه أبو داود. [1125] الفصل الثالث 1126 - عن عمرو بن سلمة، قال: كنا بماء ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه، أوحى إليه كذا. فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغرى في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح. فيقولون: ارتكوه وقومه؛ فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم، ـــــــــــــــــــــــــــــ طاعة السلطان واجبة علي الرعية إذا لم يأمرهم بالمعصية ظالماً كان أو عادلاً. وفيه أن السلطان لا ينعزل بالفسق، والمسألة الثانية تدل علي جواز الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، والمسألة الثالثة علي جواز صلاة الفاسق، وعلي أن الكبيرة لا تحبط العمل الصالح. قوله: ((الصلاة واجبة عليكم)) ((شف)): أي جائزة عليكم، لأن الجواب والجواز مشتركان في جانب الإتيان بهما. وقال أيضاً: قد تمسك بظاهرة القائل بوجوب الجماعة في الصلوات. وفي قوله: ((وإن عمل الكبائر)) دلالة علي أن من أتى الكبائر لا يخرج عن الإسلام. ولفظ الكبائر علي صيغة الجمع يدل علي تعدد صدور الكبيرة عنه. أقول: في ظاهر كل قرينة دلالة علي وجوب أمر وجواز آخر، فالأولي تدل علي وجوب الجهاد علي المسلمين، وعلي جواز كون الفاسق أميراً، والثانية تدل علي وجوب الصلاة بالجماعة عليهم، وجواز أن يكون الفاجر إماماً، والثالثة علي وجوب الصلاة عليهم وعلي جواز صدورها عن الفاجر، هذا ظاهر الحديث. ومن قال: إن الجماعة ليست بواجبة علي الأعيان، تأوله بأنه فرض علي الكفاية كالجهاد، وعليه دليل إثبات ما ادعاه. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمرو: قوله: ((بماء)) خبر ((كان))، و ((ممر الناس صفة لـ ((ماء))، أو بدل منه، أي نازلين بمكان فهي ما يمر الناس عليه، وقوله ((يمر بنا الناس)) استئناف، أو حال من ضمير

قال: جئتكم والله من عند النبي حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً)). فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأن ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني. فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم؟! فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً. فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. رواه البخاري. 1127 - وعن ابن عمر، قال: لما قدم المهاجرون الأولون المدينة، كان يؤمهم سالم مولي أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبو سلمة بن عبد الأسد. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ما للناس)) سؤالهم هذا يدل علي حدوث أمر غريب، ولذلك كرروه، ((وما هذا الرجل)) يدل علي سماعهم منه نبأ عجيباً. فيكون السؤال عن وصفه، ولذلك وصفوه بالنبوة والرسالة في الجواب. وقوله: ((كذا)) كناية عما أوحي إليه من القرآن، هذا هو المعنى بقوله: ((لما كنت أتلقى من الركبان)). قوله: ((يغري في صدري)) ((نه)): أي يلتصق به، يقال: غري هذا الحديث في صدري- بالكسر- ((يغري)) - بالفتح- كأنه ألصق بالغراء، والغراء- بالمد والقصر- ما تلصق به الأشياء، ويتخذ من أطراف الجلود والسمك. قوله: ((تلوم بإسلامهم)) ((نه)): أي ينتظر، أراد تتلوم، فحذف إحدى التائين تخفيفاً، وهو كثير في كلامهم. وفي ((المغرب)): التلوم من الانتظار، ومنه أصبحوا مفطرين متلومين. أي منتظرين. قوله: ((الفتح)) ((غب)): الفتح إزالة الإغلاق والإشكال، و ((الفتح)): النصرة والظفرة والحكم، و ((الفاء)) في قوله: ((فيقولون)) للتعقيب عقب التفسير المفسر، فإن ((يقولون)) بيان لـ ((تلوم)). قوله: ((وبدر أبي)) هو من باب المغالبة بدليل قوله: ((بادر كل قوم بإسلامهم)) أي بادر القوم أبي فبدرهم، أي غلبهم في البدار. و ((حقاً)) حال من ضمير العائد إلي الموصول، أعني الألف واللام في ((النبي)) علي تأويل الذي نبأ حقاً. قوله: ((تقلصت عني)) ((نه)): يقال: قلصت الدرع وتقلصت، واجتمعت وانضمت. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((يؤمهم سالم)) فيه إشارة إلي أن سالماً مع كونه مفضولاً كان أقرأهما، وهو مولي أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، كان من أهل فارس، وكان من فضلاء

(27) باب ما علي الإمام

1128 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أم قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان)). رواه ابن ماجه. [1128] (27) باب ما علي الإمام الفصل الأول 1129 - عن أنس، قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الموالي ومن خيار الصحابة، وهو معدود في القراء؛ لأنه كان يحفظ كثيراً منه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعة ...)) وهو أحدكم، وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد المخزومي القرشي زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((أخوان متصارمان)) الصرم القطع، وأخوان أعم من أن يكونا من جهة النسب أو الدين؛ لما ورد: ((لا يحل لمسلم أن يصارم مسلماً فوق ثلاث)) أي يهجره ويقطع مكالمته، وقد مضى شرح الحديث في الفصل الثاني. باب ما علي الإمام الفصل الأول الحديث الأول عن أنس: قوله: ((أخف صلاة)) ((قض)): خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها، والاقتصار علي قصار المفصل وعن ترك الدعوات الطويلة في الانتقالات. وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والسنن، واللبث راكعاً وساجداً بقدر ما يسبح ثلاثاً. و ((إن)) في ((وإن كان ليسمع)) هي المخففة من المثقلة، واسمه ضمير الشأن المحذوف، ولذلك أدخلت علي فعلي من أفعال المبتدأ، ولزمتها اللام. ((مظ)): فيه دليل علي أن الإمام إذا أحس برجل يريد معه الصلاة وهو راكع، جاز له أن ينتظر راكعاً ليدرك الركعة، لأنه إذا كان له أن يقتصر لحاجة إنسان في أمر دنيوي، كان له أن يزيد له في أمر أخروي. وكرهه بعضهم، وقال: أخاف أن يكون شركاً، وهو مذهب مالك. قوله: ((أن تفتن أمه)) أي تتشوش وتحزن، بدليل الحديث الآتي من شدة وجد أمه من بكائه، أي حزنها. ((فيخفف)) أنه صلى الله عليه وسلم قطع قراءة السورة، ((واقتصر علي بعضها، وما أتمها وأسرع في

1130 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) رواه البخاري. 1131 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير. وإذا صلي أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)) متفق عليه. 1132 - وعن قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبو مسعود أن رجلاً قال: والله يا رسول الله! إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: ((إن منكم منفرين؛ فأيكم ما صلي بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة)) متفق عليه. 1133 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصلون لكم. فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)) رواه البخاري. وهذا الباب خال عن: الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــ أفعاله علي ما سبق. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد. ((فأتجوز)) أي فأخفف كأنه يجاوز عما كان يقصده ويفعله لولا بكاء الصبي. الحديث الثاني، والثالث، والرابع عن قيس: قوله: ((من أجل)) من ابتدائية متعلقة بـ ((تأخر))، والثانية مع ((ما)) في حيزها بدل منها. ومعنى تأخره عن الصلاة أنه لا يصليها مع الإمام. قوله: ((أشد غضباً منه يومئذ)) أي كان صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم أشد غضباً منه في الأيام الأخر. وفي وعيد علي من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة. قوله: ((فأيكم ما صلي)) ((ما)) صلة مؤكدة لمعنى الإبهام في ((أي)) ((وصلي)) فعل شرط، و ((فليتجوز)) جوابه، كقوله تعالي: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} أرشد الأئمة أياماً كانوا إلي تجوز الصلاة، لئلا تنفر الناس عن الجماعة. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((يصلون لكم)) ((قض)): الضمير الغائب للأئمة، وهم وإن كانوا يصلون لله تعالي لكنهم من حيث أنهم ضمناء لصلاة المأمومين، فكأنهم يصلون لهم، ((فإن أصابوا)) أي أتوا بجميع ما كان عليهم من الأركان والشرائط، فقد حصلت الصلاة

الفصل الثالث 1134 - وعن عثمان بن أبي العاص، قال: آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أممت قوماً فاخف بهم الصلاة)) رواه مسلم. وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: ((أم قومك)). قال: قلت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي شيئاً. قال: ((ادنه))، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري بين ثديي، ثم قال: ((تحول))، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: ((أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، فإذا صلي أحدكم وحده فليصل كيف شاء)). 1135 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بـ (الصافات). رواه النسائي. [1135] ـــــــــــــــــــــــــــــ لكم ولهم تامة كاملة، وإن أخطئوا بأن أخلوا ببعض ذلك عمداً أو سهواً فتصح الصلاة لكم، والتبعة من الوبال، والنقصان عليهم. هذا إذا لم يعلم المأموم بحاله فيما أخطأه، وإن علم فعليه الوبال والإعادة. ((حسن)): فيه دليل علي أنه إذا صلي الإمام بقوم وكان جنباً أو محدثاً فعليه الإعادة، وصلاة القوم الصحيحة، سواء كان الإمام عالماً بحدثه متعمداً للإمامة، أو كان جاهلاً. ((مظ)): قيل: ((فإن أصابوا فلكم)) ولم يقل: ((فلهم ولكم)) دلالة علي أن ثواب إصابتهم إذا تجاوز إلي غيرهم منهم، فبالطريق الأولي أن يثبت لهم. الفصل الثالث الحديث الأول عن عثمان: قوله: ((أجد في نفسي شيئاً)) أي أرى في نفسي ما لا أستطيع علي شرائط الإمامة وإيفاء حقها، لما في صدري من الوسواس، وقلة تحملي القرآن والفقه، فيكون وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده علي صدره وظهره، لإزالة ما يمنعه منها وإثبات ما يفوته علي احتمال ما يصلحه لها من القرآن والفقه، والله أعلم. ((مح)): ويحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له مقدماً علي الناس، فأهبه الله ببركة كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه. و ((ثديي)) و ((كتفي)) بتشديد الياء علي التثنية، وفيه إطلاق الثدي علي حلمة الرجل. وهذا هو الصحيح. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات)) فإن قلت: بين

(28) باب ما علي المأموم من المتابعة

(28) باب ما علي المأموم من المتابعة وحكم المسبوق الفصل الأول 1136 - عن البراء بن عازب، قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: ((سمع الله لمن حمده))، لم يحن. أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته علي الأرض. متفق عليه. 1137 - وعن أنس، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: ((أيها الناس! إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعطوف والمعطوف عليه تناف؛ لأن الأمر بالتخفيف والإمامة بالصفات مما يتنافيان. قلت: إنما كان كذلك إذا لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة يختص بها، وهي أن يقرأ الآيات الكثيرة في يسير من الزمان والله أعلم بالصواب. باب ما علي المأموم من المتابعة، وحكم المسبوق الفصل الأول الحديث الأول عن البراء بن عازب: قوله: ((فإذا قال: سمع الله لمن حمده- إلي قوله- حتى يضع جبهته علي الأرض)) أي إذا رفع رأسه من الركوع، قاموا قياماً حتى يرونه قد سجد. قال الماكي: في إثبات النون بعد ((حتى)) إشكال؛ لأن ((حتى)) فيه معنى ((إلي أن))، والفعل مستقبل بالنسبة إلي القيام، فحقه أن يكون بلا نون لكنه جاء علي لغة من يرفع الفعل بعد أن حملا علي ما أختها كقراءة مجاهد: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} - بضم الميم -؛ لأن ((أن)) و ((ما)) مصدريتان. وقوله: ((لم يحن)) ((نه)): أي لم يثن ولم ينعطف. ((مظ)): فيه دلالة علي أن السنة أن المأموم يتخلف الإمام في أفعال الصلاة مقدار هذا التخلف، وإن لم يتخلف جاز إلا في تكبيرة الإحرام؛ إذ لابد أن يصبر المأموم حتى يفرغ الإمام منها. الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((ولا بالانصراف)) ((مظ)): يحتمل أن يراد به الفراغ من الصلاة وأن يراد به الخروج من المسجد، وسنذكر هذا البحث في الحديث الآخر من باب (الدعاء في التشهد).

1138 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا قال: ((ولا الضالين) فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد))، متفق عليه؛ إلا أن البخاري لم يذكر: ((وإذا قال: (ولا الضالين))). 1139 - وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً، فصرع عنه، فجحش شقه الأيمن، فصلي صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءة قعوداً، فلما انصرف قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلي قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركعوا فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا صلي جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)). قال الحميدي: قوله: ((إذا صلي جالساً فصلوا جلوساً)) هو في مرضه القديم، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث، والرابع عن أنس رضي الله عنه قوله: ((ليؤتم به)) ((قض)): الائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام ليقتدى به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه، ولا يساوقه، بل يراقب أحواله ويأتي علي أثره بنحو ما فعله. وقوله: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد)) يوهم أن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده. وهو مذهب مالك وأحمد رضي الله عنهما. وأجيب عنه بأنه لما كان الإمام يقوله، ينبغي أن يقوله المأموم تحقيقاً للائتمام المأمور به في صدر الحديث، والمقصود من قوله: ((فقولوا)) تعليم الدعاء، لا المنع من غيره. وفيه نظر؛ لأن الفاء تقتضي معاقبة قوله هذا قول الإمام، وذلك ينفي التلفظ بغيره فيما بينهما، وقد انتفي المساوقة في التسميع؛ لقوله: ((ليؤتم به)). وقوله: ((وإذا صلي جالساً فصلوا جلوساً)) أي إذا جلس للتشهد فاجلسوا، والمتشهد مصل وهو جالس. وقيل: معناه: أن الإمام لو جلس في حال القيام لعذره، وافقه المأموم وإن لم يكن به بأس. ثم اختلفوا فيه، فقيل: إنه محكم، باق علي حكمه، وهو قول أحمد وإسحاق. وقيل: إنه منسوخ بحديث عائشة رضي الله عنها، وهو ((أنه صلى الله عليه وسلم صلي في مرضه الذي توفي فيه قاعداً والناس خلفه قياماً)) وهو مذهب سفيان الثوري وابن المبارك وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم. وقال مالك: لا يجوز لأحد أن يؤم الناس قاعداً، وكلا الحديثين حجة عليه. ودليله ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤم أحد بعدي جالساً))، وهو مرسل ومحمول علي التنزيه، توفيقاً بينه وبينهما.

صلي بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. هذا لفظ البخاري. واتفق مسلم إلي ((أجمعون)). وزاد في رواية: ((فلا تختلفوا عليه، وإذا سجد فاسجدوا)). 1140 - وعن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بلال ليؤذنه بالصلاة، فقال: ((مروا أبا بكر أن يصلي بالناس))، فصلي أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة، فقام يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه، ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، فجأء حتى جلس عن يسار أبي بكر، [وكان أبو بكر] يصلي قائماً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلي الله علي وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. متفق عليه. وفي رواية لهما: يسمع أبو بكر الناس التكبير. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): اختلفوا في قوله: ((إذا صلي جالساً فصلوا جلوساً)) فقالت طائفة بظاهره، وهو مذهب أحمد والأوزاعي- رضي الله عنهما-. وقال مالك في رواية: لا يجوز للقادر علي القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائماً. واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلي في مرض وفاته بعد هذا وصلي قاعداً وأبو بكر والناس من خلفه قياماً، وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به، لكن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام. قوله: ((جحش)) ((نه)): أي انجدش وانسحج. قوله: ((قال الحميدي)) وهو من شيوخ البخاري، وليس بصاحب الجمع بين الصحيحين. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم)) الثقل هنا عبارة عن اشتداد المرض، وتناهي الضعف، وركود الأعضاء عن خفة الحركات و ((التهادي)) قد سبق معناه. قوله: ((يؤذنه)) ((مظ)): -بسكون الهمزة وتخفيف الذال- أي يعلمه ويخبره، ويؤذنه- بفتح الهمزة وتشديد الذال- يدعوه، والتأذين رفع الصوت في دعاء أحد غيره، ومنه الأذان. وقوله: ((حسه)) أي حركته، لعله من باب تسمية المفعول بالمصدر. وقوله: ((ذهب يتأخر)) أي طفق. قوله: ((يسمع أبو بكر الناس التكبير)) يعني كان أبو بكر يسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فيكون مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بأبي بكر رضي الله عنه. وهذا توضيح الرواية السابقة ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر)). ويدفع زعم من قال: إن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم مقتدياً به. وقول الحميدي صريح في أن حديث عائشة رضي الله عنه ناسخ لقوله: ((إذا صلي جالساً فصلوا جلوساً))، فوجب المصير إلي مذهب الإمامين رضي الله عنهما.

1141 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) متفق عليه. الفصل الثاني 1142 - عن علي، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام علي حال، فليصنع كما يصنع الإمام)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [1142] 1143 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جئتم إلي الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوه شيئاً، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)) رواه أبو داود. [1143] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): في الحديث من الفقه: أنه تجوز الصلاة بإمامين من غير حذف الأول، مثل أن يقتدي بإمام فيفارقه ويقتدي بإمام آخر، وأنه يجوز أن يقتدي بإمام والمأموم سابق ببعض صلاته، ويجوز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وفيه دلالة علي أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس بعده، وأولاهم بخلافته، كما قالت الصحابة رضي الله عنهم: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((أن يحول الله)) ((شف)): أي يجعله بليداً، وإلا فالمسخ غير جائز في هذه الأمة. وأقول: لعل المأموم لما لم يعمل بما أمر به من الاقتداء بالإمام، ولم يفهم أن معنى المأموم والإمام ما هو، شبه بالحمار في البلادة، كقوله تعالي: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} وقد سبق عن الخطابي جواز المسخ في هذه الأمة، فيجوز أن يحمل علي الحقيقة. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة: قوله: ((ونحن سجود)) أي ساجدون، فوضع السجود موضع الساجدين مبالغة. قوله: ((ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)) ((مظ)): قيل: أراد بالركعة الركوع، وبالصلاة

1144 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولي، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)) رواه الترمذي. [1144] 1145 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح، فوجد الناس قد صلوا؛ أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)) رواه أبو داود، والنسائي. [1145] 1146 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل وقد صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أل رجل يتصدق علي هذا فيصلي معه؟)) فقام رجل فصلي معه. رواه الترمذي، وأبو داود. [1146] ـــــــــــــــــــــــــــــ الركعة، أي من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك تلك الركعة، وقيل: من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، يعني يحصل له ثواب صلاة الجماعة، هذا الحكم في الجمعة، وإلا يحصل له ثواب الجماعة إن أدرك بعضها من الصلاة قبل السلام. ومذهب مالك: أنه لا يحصل له فضيلة جماعة إلا بإدراك ركعة تامة، سواء في الجمعة وغيرها. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((براءة من النفاق)) أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق، ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه بما يعذب به المنافق من النار، أو ليشهد له أنه غير منافق؛ فإن المنافقين إذا قاموا إلي الصلاة قاموا كسالي، وحال هذا بخلافهم. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((أعطاه مثل أجر من صلاها)) ((مظ)): هذا إذا لم يكن التأخير بتقصيره. أقول: لعله يعطي الثواب لوجهين: أحدهما أن نية المؤمن خير من عمله، والآخر جبراناً لما حصل له من التحسر لفواتها. الحديث الخامس عن أبي سعيد: قوله: ((يتصدق علي هذا)) ((مظ)): سماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه ثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلي منفرداً لم يكن له إلا ثواب صلاة واحدة، وفيه دلالة علي أن من صلي بالجماعة يجوز أن يصلي مرة أخرى بالجماعة، إماماً كان أو مأموماً. و ((فيصلي)) منصوب لوقوعه جواب قوله: ((ألا رجل)) كما تقول: ألا تنزل عندنا فتصيب خيراً. وقيل: الهمزة في ((ألا)) للاستفهام و ((لا)) بمعنى ليس. وعلي هذا ((فيصلي)) مرفوع عطف علي الخبر، كان هذا الوجه أولي، ونظيره قول الشاعر: ألا موت لذيذ الطعم يأتي فينقذني من الموت الكريه

الفصل الثالث 1147 - وعن عبيد الله بن عبد الله، قال: دخلت علي عائشة، فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلي، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أصلي الناس؟)) فقلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك فقال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)). قالت: ففعلنا فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ((أصلي الناس؟)) فقلنا: لا؛ هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلي الناس. قلنا: لا؛ هم ينظرونك يا رسول الله؟. والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلي أبي بكر: بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر- وكان رجلاً رقيقاً -: يا عمر! صل بالناس. فقال له عمر: أنت أحق بذلك. فصلي أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر. قال: ((أجلسإني إلي جنبه))، فأجلساه إلي جنب أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر. قال: ((أجلسإني إلي جنبه))، فأجلساه إلي جنب أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم، قاعد. وقال عبيد الله: فدخلت علي عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هات. فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئاَ؛ غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي [رضي الله عنه]. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عبيد الله بن عمرو: قوله: ((وهم ينتظرونك)) حال من المقدر، أي لم يصلوا، والحال أنهم ينتظرونك. قوله: ((في المخضب)) ((نه)): المخضب- بالكسر- شبه المركن، هي إجانة يغسل فيها الثياب. و ((النوء)): النهوض، والطلوع. و ((العكوف)): الإقامة علي الشيء، أو بالمكن ولزومها. و ((رفيق)) أي ضعيف هين لين. قوله: ((غير أنه قال)) أي إلا أنه قال. فإن قلت: كيف يستقيم استثناء هذا القول من ((شيئاً))،

(29) باب من صلي صلاة مرتين

1148 - وعن أبي هريرة، أنه كان يقول: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير. رواه مالك. [1148] 1149 - وعنه، أنه قال: الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد الشيطان. رواه مالك. [1149] (29) باب من صلي صلاة مرتين الفصل الأول 1150 - عن جابر، قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم، متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو منكر؟ قلت: ((شيئاً)) ليس مفعولا به، بل هو مفعول مطلق كما في قوله تعالي: {يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً}. وفي وجه يعني ما أنكر شيئاً من الإنكار إلا هذا، كأنه أنكر علي أن عائشة لم تسم عليا مع العباس، لما كان عندها شيء من علي (رضوان الله عليهم أجمعين). قيل: في الحديث دليل علي استحباب الغسل من الإغماء، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل، ولو اغتسل مرة لتعدد الإغماء لجاز. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة: قوله: ((إنه كان يقول)) يحتمل أن يكون الضمير في ((إنه)) راجع إلي أبي هريرة، فحينئذ يكون موقوفاً. قوله: ((من أدرك الركعة)) أي الركوع فقد أدرك السجدة أي الركعة، ((ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير))، يعني من أدرك الركوع وإن كان قد أدرك الركعة فقد فاته ثواب كثير؛ حيث فاتته قراءة أم القرآن. والله أعلم. باب من صلي صلاة مرتين الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن جابر: قوله: ((وعنه)) أي جابر. ((قال: كان معاذ- إلي آخره)) ذكره المؤلف ولم يبين راويه من أصحاب السنن في هذا الفصل، يشير إلي أنه ما وجد في الصحيحين، وقد تكلم عليه الشيخ التوربشتي حيث قال: هذا الحديث أثبت في كتاب المصابيح

1151 - وعنه، قال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلي قومه فيصلي بهم العشاء وهي له نافلة. رواه. [1151] الفصل الثاني 1152 - وعن يزيد بن الأسود، قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت ـــــــــــــــــــــــــــــ من طريقين: أما الأول فقد أورده الشيخان في كتابيهما، وأما الثاني بالزيادة التي فيه وهي قوله: ((وهي له نافلة)) فلم نجده في أحد الكتابين، وقد أورده المؤلف في قسم الصحاح، فلا أدري أتزيد من خائض اقتحم به الفضول إلي متاهة لم يعرف طرقها، أم حديث أورده المؤلف علي وجه البيان للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز بينهما، أم سهو وقع منه. وقد ذكر أهل العلم بالحديث أن قوله: ((وهي له نافلة)) في حديث جابر غير محفوظ. ونقل عن أبي عبد الله أحمد أنه قال: حديث معاذ أخشى أن لا يكون محفوظاً، لأن ابن عيينة يزيد فيه كلاما لا يقوله أحد. قال الشيخ: قلت: وقد روي في بعض الروايات ما ينافي تلك الزيادة، وذلك قوله: ((إما أن تخفف بهم الصلاة، وإما أن تجعل الصلاة معنا)) ولو كانت صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم نافلة علي ما رواه، لم يكن ليقول: ((وما أن تجعل صلاتك معنا)). ((قض)): في الحديث دليل علي جواز إعادة الصلاة بالجماعة. وقد اختلف فيه، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلي جوازه مطلقاً. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يعاد إلا الظهر والعشاء. وأما الفجر والعصر؛ فللنهي عن الصلاة بعدهما. وأما المغرب؛ فلأنه وتر النهار، فلو أعادها صارت شفعاً. وقال مالك رضي الله عنه: إن كان قد صلاها في جماعة لم يعدها، وإن كان قد صلاها منفرداً أعادها في الجماعة إلا المغرب. وقال النخعي والأوزاعي: يعيد إلا المغرب والصبح. وعلي أن اقتداء المفترض بالمتنفل جائز؛ لأن الصلاة الثانية كانت نافلة لمعاذ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث يزيد بن الأسود: ((إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة، وصلاة القوم كانت فريضة)) انتهي كلامه. ويؤيد مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه حديث عبد الله بن عمر في آخر الفصل الثالث من هذا الباب. الفصل الثاني الحديث الأول عن يزيد بن الأسود: قوله: ((في مسجد الخيف)) ((فا)): الخيف ما انحدر من غليظ الجبل، وارتفع عن المسيل. قوله: ((علي بهما)) ((علي)) متعلقة بمحذوف، و ((بهما)) حال، أي

معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، قال: ((علي بهما))، فجيء بهما ترعد فرائصها. فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا؟)) فقالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: ((فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1152]. الفصل الثالث 1153 - عن بسر بن محجن، عن أبيه، أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلي ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟)) فقال: بلي، يا رسول الله! ولكني كنت قد صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جئت المسجد، وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة؛ فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)). رواه مالك، والنسائي. [1153] 1154 - وعن رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري، قال: يصلي أحدنا في منزلة الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلي معهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ أقبل علي آتيا بهما، أو اسم فعل، ((وبهما)) متعلق به، أي أحضرهما عندي. قوله: ((ترعد فرائصهما)) ((نه)) الفريصة: اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها، وهي ترجف عند الخوف. الفصل الثالث الحديث الأول عن بسر: قوله: ((إن كنت قد صليت)) تكرير وتقرير لقوله: ((وكنت قد صليت)) وتحسين للكلام، كما في قوله تعالي: {إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيمْ فإن قوله: ((لغفور رحيم)) خبر لقوله: ((إن ربك للذين عملوا السوء)) وقوله: ((إن ربك من بعدها)) تكرير للتقرير والتحسين. وفي قول الحماسي: وإن امرأ دامت مواثيق عهده علي مثل هذا إنه لكريم الحديث الثاني عن رجل من أسد: قوله ((فأصلي معهم)) فيه التفات من الغيبة علي سبيل

فأجد في نفسي شيئاً من ذلك. فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فذلك له سهم جمع)). رواه مالك، وأبو داود. [1154] 1155 - وعن يزيد بن عامر، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم رإني جالساً فقال: ((ألم تسلم يا يزيد؟)) قلت: بلي، يا رسول الله! قد أسلمت. قال: ((وما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟)) قال: إني كنت قد صليت في منزلي، أحسب أن قد صليتم. فقال: ((إذا جئت الصلاة فوجدت الناس، فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة، وهذه مكتوبة))). رواه أبو داود. [1155] ـــــــــــــــــــــــــــــ التجريد؛ لأن الأصل أن يقال: أصلي في منزلي، بدل قوله: ((يصلي أحدنا)). وقوله: ((ذلك له سهم جمع)) أي نصيب من ثواب الجماعة. و ((ذلك)) مبتدأ و ((له)) خبره و ((سهم جمع)) فاعله، لاعتماد الظرف علي المبتدأ. ويجوز أن يكون الظرف خبر ((سهم جمع)) والجملة خبر ((ذلك))، والضمير المجرور ((للرجل))، والمشار إليه ((بذلك)) ما أشير به ذلك الأول والثاني، وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة مع الجماعة بعد ما صلاها منفرداً، كأنه قال: إن أجد في نفسي من فعلي ذلك حزازة، هل ذلك لي أم علي؟ فقيل: ((ذلك له سهم جمع)) أي ذلك له لا عليه. ويجوز أن يكون المعنى: إني أجد في نفسي من فعلي ذلك روحاً وراحة، فقيل له: ذلك الروح نصيبه من صلاة الجماعة كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((أرحنا بها يا بلال)) أي أذن بالصلاة نسترح من شغل القلب بها عن الأمور الدنيوية. والأول أوجه، ويشهد له الحديث السابق واللاحق. وفي قوله: ((فإني أجد في نفسي)) ضرب من الالتفات، حيث قال أولا: ((إن أحدنا يصلي)) علي سبيل الغيبة، ثم التفت إلي حكاية النفس بقوله: ((فأجد)). الحديث الثالث عن يزيد بن عامر: قوله: ((أحسب أن قد صليتم)) جملة حالية، أي ظاناً صلاتكم. قوله: ((وهذه مكتوبة)) جعلت الصلاة الواقعة في وقتها المسقطة للقضاء نافلة، والصلاة مع الجماعة التي هي غير مسقطة للقضاء فريضة، دلالة علي أن الأصل في الصلاة أن تصلي مع الجماع وما ليس كذلك فهو غير معتد به اعتدادها.

1156 - وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رجلاً سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلي معه؟ قال له: نعم: قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: وذلك إليك؟ إنهما ذلك إلي الله عز وجل، يجعل أيتهما شاء. رواه مالك. [1156] 1157 - وعن سليمان مولي ميمونة، قال: أتينا ابن عمر علي البلاط، وهم يصلون. فقلت: ألا تصلي معهم؟ فقال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [1157] 1158 - وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر كان يقول: من صلي المغرب أو الصبح، ثم أدركهما مع الإمام؛ فلا يعد لهما. روه مالك. [1158] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر: قوله: ((ذلك إليك)) إخبار في معنى الاستفهام الإنكاري بدليل قوله: ((إنما ذلك إلي الله عز وجل)) وهو أحد أقوالك مالك. قوله: ((فأصلي)) أي أريد الصلاة، فأصلي. الحديث الخامس عن سليمان: قوله: ((علي البلاط)) ضرب من الحجرة تفرش به الأرض، ثم سمي المكان بلاطاً اتساعاً، وهو موضع بالمدينة. وقوله: ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) محمول علي ما سبق في الفصل الأول في الحديث الأول علي مذهب مالك. الحديث السادس ظاهر.

(30) باب السنن وفضائلها

(30) باب السنن وفضائلها الفصل الأول 1159 - عن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة؛ بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر)). رواه الترمذي. وفي رواية لمسلم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة؛ إلا بنى الله له بيتاً في الجنة- أو إلا بني له بيت في الجنة-)). 1160 - وعن ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، قال: وحدثتني حفصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر. متفق عليه. 1161 - وعنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته. متفق عليه. 1162 - وعن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه: فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السنن وفضائلها الفصل الأول الحديث الأول عن أم حبيبة: قوله: ((غير فريضة)) صفة مؤكدة للتطوع؛ لأن التطوع التبرع من نفسه بفعل الطاعات، وهو قسان: راتبة، وغير راتبة، وهذا من القسم الأول. والراتبة: هي التي داوم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذة من الرتوب، وهو الدوام والثبوت. الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر: قوله: ((فيصلي)) عطف من حيث الجملة لا التشريك

ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وكان إذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلي ركعتين. رواه مسلم. وزاد أبو داود: ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر. 1163 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم علي شيء من النوافل أشد تعاهداً منه علي ركعتي الفجر. متفق عليه. 1164 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي ((ينصرف)) أي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فإذا انصرف يصلي ركعتين. ولا يستقيم أن يكون منصوباً عطفاً عليه؛ لما يلزم منه أن يصلي بعد الركعتين الصلاة. ونظيره في العطف قوله تعالي: {تقاتلونهم أو يسلمون} علي تقدير: أوهم يسلمون. قال ابن الحاجب: الرفع علي الاشتراك بين ((يسلمون وتقاتلونهم)) علي معنى التشريك بينهما في عامل واحد، أو علي الابتداء بجملة معربة إعراب نفسها غير مشترك بينها وبين ما قبلها في عامل واحد. الحديث الرابع عن عبد الله بن شقيق: قوله: ((عن تطوعه)) بدل من ((عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كذا في صحيح مسلم. وهذه العبارة أولي مما في المصابيح وهو قوله: ((من التطوع)). قوله: ((ركع وسجد وهو قائم)) أي ينتقل إليهما من القيام، وكذا التقدير في الذي بعده، أي ينتقل إليهما من القعود. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((تعاهداً)) أي محافظة. و ((علي)) متعلقة بها. ويجوز تقدم معمول التمييز عليه. والتعهد: المحافظة علي الشيء، ورعاية حرمته. والظاهر أن خبر ((لم يكن علي شيء))، أي لم يكن يتعاهد علي شيء من النوافل ((وأشد تعاهداً)) حال أو مفعول مطلق علي تأويل أن يكون التعاهد متعاهداً، كقوله تعالي: {يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} علي الوجهين. الحديث السادس عن عائشة: قوله: ((خير من الدنيا)) إن حمل الدنيا علي أعراضها وزهرتها، فالخير إما مجرى علي زعم من يرى فيه خيراً، أو يكون من باب {أي الفريقين خير مقاماً}. وإن حمل علي الإنفاق في سبيل الله، فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها.

1165 - وعن عبد الله بن مغفل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين))، قال في الثالثة: ((لمن شاء)) كراهية أن يتخذها الناس سنة. متفق عليه. 1166 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة؛ فليصل أربعاً)). رواه مسلم. وفي أخرى له، قال: ((إذا صلي أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً)). الفصل الثاني 1167 - عن أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حافظ علي أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها؛ حرمه الله علي النار)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1167] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عبد الله بن مغفل: قوله: ((صلوا قبل صلاة المغرب)) ((مح)): فيه استحباب ركعتين بين الغروب وصلاة المغرب، أو بين الأذان والإقامة؛ لما ورد: ((بين كل أذإنين صلاة)). وفيها وجهان: أشهرهما: لا يستحب، والأصح يستحب؛ للأحاديث الواردة فيه. وعلي السلف من الصحابة والتابعين، والخلف كأحمد وإسحاق. ولم يستحبهما الخلفاء الراشدون، ومالك وأكثر الفقهاء. وحجتهم: أنه يلزم من استجابة تأخير المغرب عن أول وقته. قال الشيخ محيي الدين: المختار استحبابهما للأحاديث الصحيحة الصريحة. وأما قولهم: ((يؤدي إلي التأخير)) فلا يلتفت إليه؛ لأنه منابذ للسنة، ومع هذا فهو تأخير يسير. قوله: ((كراهية أن يتخذها الناس سنة)) ((نه)): فيه دليل علي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي الوجوب، حتى يقوم دليل الإباحة، وكذلك نهيه. ((قض)): لما كان ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، وكان مراده الندب، خير المكلف وعلق الأمر علي المشيئة مخافة أن يحمل الأمر علي الظاهر، لاسيما وقد أكد الأمر بتكريره ثلاثاً. قوله: ((لمن شاء)) أي ذلك الأمر لمن شاء. الحديث الثامن ظاهر. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي أيوب: قوله: ((ليس فيهن تسليم)) ((حس)): اختلفوا في صلاة

1168 - وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [1168] 1169 - وعن عبد الله بن السائب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء. فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)). رواه الترمذي. [1169] 1170 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرءاً صلي قبل العصر أربعاً)) رواه أحمد، والترمذي. [1170] 1171 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم علي الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين. رواه الترمذي. [1171] 1172 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين. رواه أبو داود. [1172] 1173 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي بعد المغرب ـــــــــــــــــــــــــــــ النهار، فذهب بعضهم إلي أنها مثنى مثنى كصلاة الليل، وبعضهم إلي أن تطوع الليل مثنى مثنى والنهار أربعا أربعا أفضل. الحديث الثالث إلي الخامس عن علي: قوله: ((يفصل بينهن بالتسليم علي الملائكة)) ((حس)): يعني به التشهد. أقول: سمى التشهد بالتسليم لاشتماله عليه، ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود في المتفق عليه، قال: ((كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام علي الله قبل عباده، السلام علي جبريل، السلام علي ميكائيل، السلام علي فلان، وكان ذلك في التشهد)).

ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء؛ عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هو منكر الحديث، وضعفه جداً. [1173] 1174 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من صلي بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)). رواه الترمذي. [1174] 1175 - وعنها، قالت: ما صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل علي، إلا صلي أربع ركعات أو ست ركعات. رواه أبو داود. 1176 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (((إدبار النجوم) الركعتان قبل الفجر، و (أدبار السجود) الركعتان بعد المغرب)). رواه الترمذي. [1176] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة: قوله: ((عدلن له بعبادة ثنتي عشرة)) ((قض)): فإن قلت: كيف تعادل العبادة القليلة العبادات الكثيرة؛ فإنه تضييع لما زاد عليها من الأفعال الصالحة؟ قلت: الفعلان إن اختلفا نوعاً فلا إشكال عليه، وإن اتفقا فلعل القليل يكتسي بمقارنة ما يخصها من الأوقات والأحوال ما يرجحه علي أمثاله، فلعل القليل في هذا الوقت والحال يضاعف الكثير في غيرهما. ((تو)): يحتمل أن يراد أن ثواب القليل مضاعفاً يعادل ثواب الكثير غير مضعف. أقول: وقد سبق أن أمثال هذا من باب الحث والترغيب، فيجوز أن يفضل ما لا يعرف فضله علي ما يعرف وإن كان أفضل حثاً وتحريضاً. ونظيره قوله تعالي: {مما خطيئاتهم أغرقوا} خصت الخطيئات استعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، وجعلت علة الإغراق دون الكفر، وإنه أغلظ وأصعب. ((مظ)): المفهوم من الحديث: أن الست المذكورة فيه والعشرين في الحديث الآتي هي مع الركعتين الراتبتين، وكذا أربع ركعات أو ست ركعات بعد العشاء وليس في الحديث الآخر، ليست من الوتر. الحديث الثامن إلي العاشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((و (أدبار السجود)

الفصل الثالث 1177 - وعن عمر [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أربع [ركعات] قبل الظهر، بعد الزوال، تحسب بمثلهن في صلاة السحر. وما من شيء إلا وهو يسبح الله تلك الساعة))، ثم قرأ: ((يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). 1178 - وعن عائشة، قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط. متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قالت: والذي ذهب به ما تركهما حتى لقي الله. ـــــــــــــــــــــــــــــ الركعتان)) أي وصلاة أدبار السجود الركعتان، أطلق السجود، وأراد به الصلاة إطلاقاً للجزء الأعظم علي الكل. وأدبار نصب بـ ((سبح)) في التنزيل أوقعه مضافاً إليه في الحديث علي الحكاية، ونحوه أنشد في الكشاف: تنادوا بالرحيل غداً وفي ترحالهم نفسي قال: ((بالرحيل)) روى مرفوعاً ومجروراً. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمر: قوله: ((قبل الظهر)) صفة لـ ((أربع)) و ((تحسب)) الخبر، أي توازي وتعدل أربع ركعات قبل الظهر بأربع في الفجر من السنة والفريضة، لموافقة المصلي سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها؛ فإن الشمس أعظم وأعلي منظوراً في الكائنات، وعند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها، وسائر ما يتفيأ بها ظلاله عن اليمين والشمائل. ومعنى الآية: أو لم يروا إلي ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، كيف تنقاد لله تعالي غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في نفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة، ومن ثم لما بزغت الشمس قال الخليل عليه السلام: {هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون}. فإن قلت: فلم استدل الخيل عليه السلام بغروبها علي عدم صلاحيتها للربوبية دون زوالها؟ قلت: لأنه عليه السلام قاله تعريضاً بقومه، وأنهم لم يكونوا ليفهموا ذلك لغباوتهم، بخلاف هؤلاء الألباء ذوي البصائر. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((مح)): يعني بعد وفود قوم

1179 - وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر. فقال: كان عمر يضرب الأيدي علي صلاة بعد العصر. وكنا نصلي علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب. فقلت له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا. رواه مسلم. 1180 - وعن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب. ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. رواه مسلم. 1181 - وعن مرثد بن عبد الله، قال: أتيت عقبة الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل الصلاة المغرب؟! فقال عقبة: إنا كنا نفعله علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل. رواه البخاري. 1182 - وعن كعب بن عجرة، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل، فصلي فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال ـــــــــــــــــــــــــــــ عبد القيس ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر في بيتي قط. قوله: ((والذي ذهب به)) أي أقسم بالله الذي توفاه. ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)). الحديث الثالث عن المختار بن فلفل: قوله: ((كان عمر يضرب الأيدي)) أي أيدي من عقد الصلاة، وأحرم بالتكبيرة يمنعم منها، ولعله رضي الله عنه ما وقف علي قول عائشة رضي الله عنها: ((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي)) أي في بيتي. وكذا قول أنس: ((وكنا نصلي)) إلي آخره مخالفاً له رضي الله عنه. وقد سبق في شرح حديث عبد الله بن مغفل: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يروا هاتين الركعتين. قوله: ((لم يأمرنا ولم ينهنا)) أي لم يأمر بهما من لم يصل، ولم ينه عنهما من صلي. الحديث الرابع عن أنس: قوله: ((ابتدروا السواري)) السواري- بالتشديد- جمع سارية، وهي الأسطوانة. يعني يقف كل واحد خلف أسطوانة يصلي هاتين الركعتين قبل الشروع في الفرض. و ((حتى)) حرف عطف دخلت علي الجملة الاسمية، وعطفتها علي قوله: ((ابتدروا السواري)) وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة علي إثبات هاتين الركعتين لقوة إسناد وكثرة فعل. وإلي هذا أشار الشيخ محيي الدين بقوله: المختار استحبابهما للأحاديث الصحيحة الصريحة.

((هذه صلاة البيوت)). رواه أبو داود. وفي رواية الترمذي، والنسائي: قام ناس يتنفلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بهذه الصلاة في البيوت)). [1182] 1183 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب، حتى يتفرق أهل المسجد، رواه أبو داود. [1183] 1184 - وعن مكحول يبلغ به، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من صلي بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين- وفي رواية -: أربع ركعات؛ رفعت صلاته في عليين)). مرسلا. 1185 - وعن حذيفة نحوه، وزاد: فكان يقول: ((عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنهما ترفعان مع المكتوبة)). رواهما رزين، وروى البيهقي الزيادة عنه نحوها في: ((شعب الإيمان)). [1185] 1186 - وعن عمرو بن عطاء، قال: إن نافع بن جبير أرسله إلي السائب يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقا: لا تعد لما ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلي الثامن عن مكحول: قوله: ((يبلغ به)) أي بالحديث إلي النبي صلى الله عليه وسلم راوياً أنه قال كذا، ومكحول تابعي، فالحديث مرسل. الحديث التاسع عن عمرو بن عطاء: قوله: ((نعم)) إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: ((هل رأي منك معاوية شيئاً في الصلاة، فأنكر عليك؟)) والمذكور معناه. الحديث العاشر عن عطاء: قوله: ((تقدم)) أي من كان صلي في الجمعة إلي آخره، فيكون بمنزلة التكلم في قول معاوية: ((فلا تصلها بصلاة حتى تكلم)). وقوله: ((وإذا كان بالمدينة صلي الجمعة ثم رجع إلي بيته فصلي)) بمنزلة قول معاوية: ((أو تخرج)) ولعله فعل ذلك تعظيماً لصلاة الجمعة، وتمييزاً لها عن غيرها. وأما اختصاص مكة بما فعل دون المدينة فتعظيم لها، كجواز الصلاة في الأوقات المكروهة فيها، وليس بنسخ، وإلا ما فعل ابن عمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(31) باب صلاة الليل

فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل بصلاة حتى نتكلم أو نخرج. رواه مسلم. 1187 - وعن عطاء، قال: كان ابن عمر إذا صلي الجمعة بمكة تقدم فصلي ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعاً. وإذا كان بالمدينة صلي الجمعة، ثم رجع إلي بيته فصلي ركعتين، ولم يصل في المسجد. فقيل له: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه أبو داود. وفي رواية الترمذي، قال: رأيت ابن عمر صلي بعد الجمعة ركعتين، ثم صلي بعد ذلك أربعاً. [1187] (31) باب صلاة الليل الفصل الأول 1188 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلي الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه. فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع علي شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب صلاة الليل الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((إحدى عشرة ركعة)) ((قض)): بنى الشافعي رضي الله عنه عليه مذهبه في الوتر. وقال: إن أكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، والفصل فيه أولي من الوصل، وإن وقته ما بين فرض العشاء وطلوع الفجر. وفي جواز تقديمه علي السنة خلاف. أقول: والظاهر أن صلاة التهجد المفروضة عليه صلى الله عليه وسلم لم يكن غيرها، ويشهد لذلك ما ذكر الترمذي في جامعه أن إسحاق بن إبراهيم قال: معنى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة ركعة أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسب صلاة الليل إلي الوتر. وروى في ذلك حديثاً عن عائشة. واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوتروا يا أهل القرآن)) قال: إنما عن به قيام الليل، بقوله: إنما قيام الليل علي أصحاب القرآن.

1189 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني؛ وإلا اضطجع. رواه مسلم. 1190 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلي ركعتي الفجر اضطجع علي شقه الأيمن. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فيسجد السجدة من ذلك)). ((قض)): فيه دليل، علي أنه يجوز أن يتقرب إلي الله تعالي بسجدة فردة لغير التلاوة والشكر. وقد اختلفت الآراء في جوازها. أقول: ((الفاء)) في ((فيسجد)) للتعقيب داعية إلي هذا فيقف عليه. بأن ((من ذلك)) لا يساعد عليه. اللهم إلا أن يقال: إن ((من)) ابتدائية متصلة بالفعل، أي فيسجد السجدة من جهة ما صدر منه ذلك المذكور فيكون حينئذ سجدة شكر. ((مظ)): ((من)) للتبعيض والمشار إليه بـ ((ذلك)) السجدات التي تضمنتها الركعات فيقف عليه بأن ((من)) التبعيضية حينئذ بدل. فالتقدير: فيسجد بعض ذلك، وليس بقوى وفاء التعقيب تنبو عنه. والظاهر أن الفاء في ((فيسجد)) لتفصيل المجمل والتاء في السجدة ليست للوحدة، وهي كما في قوله: سورة السجدة، والتعريف للجنس، يعني فيسجد سجدات تلك الركعات طويلة قدر ما يقرأ فيها خمسين آية، ويعضده حديث ابن عباس: ((أطال فيها القيام والقعود والسجود)) لأن قوله تعالي: {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه} يستدعي طول الزمان، وطول الزمان يستدعي طول الصلاة. ولأن اضطجاعه بعد كان استراحة من مكابدة الليل، ومجاهدة التهجد. قوله: ((فإذا سكت)) ((قض)): أي من أذانها وتبين له الفجر. هذا يدل علي أن التبين لم يكن بالأذان، وإلا لما كان لقولها: ((وتبين له الفجر)) فائدة بعد قولها: ((وسكت المؤذن)). ((نه)): ((سكب)) بالباء المنقوطة من تحت من السكب. أورده في السين مع الكاف والباء. قال: أستعير السكب للإفاضة في الكلام، كما يقال أفرغ في أذني حديثاً، أي ألقى وصب كذا في الفائق. وأقول فعلي هذا لا يتقدم الأذان علي الفجر ((ومن)) كما في قوله تعالي: {فإذا أفضتم من عرفات} ابتدائية، وليست بصلة كما في قولك: سكب من الكلام. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((فإن كنت مستيقظة)) الشرط مع الجزاء جواب للشرط الأول. ويجوز أن يكون جزاء (الشرط الأول محذوفاً)، ((والفاء)) تفصيلية، المعنى: إذا صلاهما أتإني، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإن لم أكن مستيقظة اضطجع. والركعتان هما قبل الفرض، ويدل عليه الحديث السابق واللاحق.

1191 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، وركعتا الفجر. رواه مسلم. 1192 - وعن مسروق، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة، سوى ركعتي الفجر. رواه البخاري. 1193 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. رواه مسلم. 1194 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتح الصلاة بركعتين خفيفتين)). رواه مسلم. 1195 - وعن ابن عباس، قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلي السماء فقرأ: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} حتى ختم السورة، ثم قام إلي القربة فأطلق شناقها، ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوءاً حسناً بين الوضوءين، لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلي، فقمت وتوضأت، فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه. فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث إلي الثامن عن ابن عباس: قوله: ((فأطلق شناقها)) ((نه)): هو الخيط أو السير الذي تعلق به القربة والخيط الذي يشد به فمها يقال: شنق القربة وأشنقها إذا أوكأها، وعلقها. قوله: ((لم يكثر وقد أبلغ)) بيان لقوله ((بين الوضوءين)) وهو صفة أخرى لوضوء؛ كقوله تعالي: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} يعني لم يكثر صب الماء وقد أبلغ الوضوء أماكنه، أي أسبغ الوضوء. وهو الوضوء الحسن. قوله: ((فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة)) أي صارت تامة، تفاعل من تم، وهو لا يجيء إلا لازماً. قوله: ((فنام حتى نفخ)) ((قض)): هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن عينه كانت تنام ولا ينام قلبه. فيقظة قلبه تمنعه من الحدث. وإنما منع النوم قلبه ليعي الوحي إذا أوحى إليه في منامه. قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إني أرى في المنام إني أذبحك}.

نفخ، فآذنه بلال بالصلاة، فصلي، ولم يتوضأ. وكان في دعائه: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً)) - وزاد بعضهم -: ((وفي لسإني نوراً)) - وذكر-: ((وعصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري)). متفق عليه. وفي رواية لهما-: ((واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً)). وفي أخرى لمسلم: ((اللهم أعطني نوراً)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وكان دعائه)) أي في جملة دعائه تلك الليلة هذا الدعاء. كان باعثه عليه وعلي الصلاة قوله تعالي: {إن في خلق السموات والأرض- إلي قوله- فقنا عذاب النار} فإن الفاء الفصيحة تقتضي مقدراً يرتبط معها. تقديره: ربنا ما خلقت هذا باطلاً، بل خلقته للدلالة علي معرفتك، ومن عرفك يجب عليه أداء طاعتك واجتناب معصيتك ليفوز بدخول جنتك ويتوقى به من عذاب نارك، لأن النار جزاء من يخل بذلك، ونحن قد عرفناك وأدينا طاعتك، واجتنبنا معصيتك، فقنا عذاب النار. وتحريره: أنه صلى الله عليه وسلم لما تفكر في عجائب الملك والملكوت، وعرج إلي عالم الجبروت، حتى انتهي إلي سرادقات الجلال، فتح لسانه بالذكر، ثم أتبع بدنه روحه بالتأهب، والوقوف في مقام التناجي والدعاء. ومعنى طلب النور للأعضاء عضوراً عضواً أن يتجلي بأنوار المعرفة والطاعة، ويتعرى عن ظلمة الجهالة والمعاصي؛ لأن الإنسان ذو سهو وطغيان أي رأي أنه قد أحاطت ظلمات الجبلة معتورة عليه من فرقه إلي قدمه، والأدخنة الثائرة من نيران الشهوات من جوانبه، ورأي الشيطان يأتيه من الجهات الست بوساوسه وشبهاته ظلمات بعضها فوق بعض، فلم ير للتخلص منها مساغاً إلا بأنوار سادة لتلك الجهات، فسأل الله سبحانه أن يمده بها ليستأصل شاقة تلك الظلمات إرشاداً للأمة وتعليماً لهم. وكل هذه الأنوار راجعة إلي هداية وبيان وضياء للحق، وإلي مطالع هذه الأنوار يرشد قوله تعالي: {الله نور السموات والأرض- إلي قوله- نور علي نور يهدي الله لنوره} وإلي أودية تلك الظلمات يلمح قوله: {أو كظلمات في بحر لجى- إلي قوله- ظلمات بعضها فوق بعض} وقوله: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}. اللهم إنا نعوذ بك من تلك الظلمات ونسألك هذه الأنوار. فإن قلت: كيف قيل: في قلبي، وفي بصري، وفي سمعي، وعن يميني، وعن شمالي، ولم يقل عن فوقي، وتحتي، وأمامي، وخلفي؟ قلت: سأل نحوه صاحب الكشاف في قوله تعالي:

1196 - وعنه، أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ وهو يقول: (إن في خلق السموات والأرض ..) حتى ختم السورة، ثم قام فصلي ركعتين أطال فيهما القيام والركوع، والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} وأجاب: المفعول فيه عدى إليه الفعل نحو تعديته إلي المفعول به، وكما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا. وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها، يقولون: جلس عن يمينه وعلي يمينه وعن شماله وعلي شماله. قلنا: معنى علي يمينه أنه تمكن من اليمين تمكن المستعلي من المستعلي عليه، ومعنى عن يمينه: جلس متجاوزاً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق به. وكذا ما نحن بصدده، خص القلب، والبصر، والسمع بـ ((في)) الظرفية، لأن القلب مقر الفكر في آلاء الله ونعائمه، ومكانها ومعدنها. والبصر: مسارح آيات الله المنصوبة المبثوثة في الآفاق، والأنفس، ومحلها. والأسماع: مراسي أنوار وحي الله، ومحط آياته المنزلة علي أنبياء الله. واليمين والشمال: خصا بـ ((عن)) للإيذان بأنه تجاوز الأنوار عن قلبه وبصره وسمعه إلي من عن يمينه وشماله من الخلق، وعزلت فوق وتحت وأمام وخلف من الجارة؛ ليستمد استنارته وتوكيداً له. قيل: في الحديث دليل علي أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن صلاة الصبي صحيحة، وأن له موقفاً من الإمام كالبالغ، وأن الجماعة في غير المكتوبات سنة. الحديث التاسع عن ابن عباس: قوله: ((فاستيقظ)) الفاء عطفت ما بعدها علي محذوف. وقوله: ((إنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)) معنى ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لا حكاية لفظه، فالتقدير أنه قال: رقدت في بيت خالتي ميمونة، ورقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستيقظ، يدل علي هذا التقدير الحديث السابق. قوله: ((ست ركعات)) مع ما بعده بدل من ((ثلاث مرات))؛ لأنه إذا حصل في كل ركعة ركعتان، صح أن يبدل ست ركعات من ثلاث مرات أي يفعل ذلك في ست مرات. قوله: ((كل ذلك)) متعلق بـ ((يستاك)) أي في كل ذلك يستاك، ويتوضأ، ويقرأ، ويصلي. و ((ثم) في قوله: ((ثم فعل ذلك)) لتراخي الإخبار تقريراً وتوكيداً، لا لمجرد العطف، لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات، ونظير إبدال ست ركعات من ثلاث مرات، إبدال ((ثلاث عورات))

1197 - وعن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، فصلي ركعتين خفيفتين، ثم صلي ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلي ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلي ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلي ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، [ثم صلي ركعتين وهما دون اللتين قبلهما]، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا قرئ بالنصب من قوله ((ثلاث مرات)) في قوله تعالي: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} الآية، سميت تلك الأوقات- وهي قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد صلاة العشاء- عورات؛ لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها، والعورة: الخلل. ((قض)): قوله: ((ثم أوتر بثلاث)) يدل علي أن الركعات الست كانت من تهجده، وأن الوتر ثلاث. وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه، وقال: الوتر ثلاث ركعات موصولة، لا أزيد ولا أنقص. وذكر الشيخ محيي الدين في الروضة: الصحيح المنصوص في الأم، والمختصر: أن الوتر يسمى تهجداً. وقيل: الوتر غير التهجد. وفيه أن السواك كلما قام من النوم مستحب. ((مظ)): فإن قيل: لم توضأ في هذه الرواية بعد ما استيقظ، ولم يتوضأ في الرواية المتقدمة، مع أنه نام فهيما حتى نفخ؟ قلنا: إنما توضأ حيث توضأ لتجديد الوضوء، لا أن وضوءه بطل. أقول: ويجوز أن يقال: إن قلبه صلى الله عليه وسلم كما أحس ببقاء الطهارة في الرواية الأولي، كذلك أحس في الثانية بحدوث الحدث. الحديث العاشر عن زيد بن خالد: قوله: ((لأرمقن)) ((نه)): الرمق: النظر إلي الشيء شزراً نظر العداوة. أقول: فاستعير ههنا لمطلق النظر، كما استعير ((المرسن)) وهو أنف فيه رسن لمطلق الأنف، عدل من الماضي إلي المضارع استحضاراً لتلك الحالة الماضية، لتقررها في ذهن السامع أبلغ تقرير. ويشهد بذلك عنايته بالمؤكدات المتعددة، ذكر طويلتين ثلاث مرات إرادة لغاية الطول وانتهائه، ولا طول بعد ذلك عرفاً. ثم ينزل شيئاً فشيئاً. قال المؤلف: قول الراوي: ((ثم صلي ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما أربع مرات)) هكذا في صحيح مسلم، وكذا في إفراد الحميدي لمسلم، وفي موطأ مالك، وسنن أبي داود، وجامع الأصول. فعلي هذا لا تدخل الركعتان الخفيفتان تحت ما أجمله بقوله: ((فذلك ثلاث عشرة ركعة)) ويكون الوتر ركعة واحدة. ولعل ناسخ المصابيح لما رأي المجمل، جعل الخفيفتين من جملة المفصل، فكتب قوله: ((ثم صلي ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ثلاث مرات)) ومن ذهب

قوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما أربع مرات، هكذا في ((صحيح مسلم))، وأفراده من كتاب ((الحميدي))، و ((موطأ مالك)) و ((سنن أبي داود)) و ((جامع الأصول)). 1198 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالساً. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي: أن الوتر ثلاث ركعات، حمل قوله: ((ثم أوتر)) علي ثلاث ركعات، فعليه أن يخرج الركعتين الخفيفتين من البين. ((مظ)) الوتر هاهنا ثلاث ركعات؛ لأنه عد ما قبل الوتر عشر ركعات لقوله: ((ركعتين خفيفتين)) ثم قال: ((ركعتين طويلتين)) فهذه أربع ركعات. ثم قال ثلاث مرات: ((صلي ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما)) فهذه ست ركعات أخر. وهو من كلام الشيخ التوربشتي. الحديث الحادي عشر عن عائشة: قوله: ((لما بدن)) ((فا)): أي صار بدنا، والبدن: المسن، ونظيره عجزت المرأة وعود الجمل. وروى ((بدنت)) أي ثقلت عن الحركة ثقلها علي الرجل البادن وهو الضخم البدن. ((نه)): في الحديث ((لا تبادروني بالركوع والسجود، إني قد بدنت)) قال أبو عبيد: هكذا يروى في الحديث يعني بالتخفيف، وإنما هو بدنت بالتشديد، أي كبرت وأسننت. والتخفيف من البدانة، وهي كثرة اللحم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم سميناً. قال صاحب النهاية: قد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي هالة ((بادن متماسك)) والبادن الضخم، فلما قال: ((بادن)) أردفه ((بمتماسك))، وهو الذي يمسك بعض أعضائه بعضاً، فهو معتدل الخلق. ((تو)): فإن قيل: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم)) وروى عنها أنها قالت: ((كان يصلي بعض صلاته جالساً، وذلك بعد ما حمل اللحم)) فالجواب: أن الأكثرين من أهل الحديث يروونه علي غير هذا السياق: وقد روي عن عبد الله بن شقيق- وهو أصوب الروايتين- عن عائشة قال: قلت لعائشة: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً؟ قالت: ((نعم، بعد ما حطمته السن)). والظاهر أن من يروي ((أخذ اللحم)) صحف ((بدن)) ثم روى الحديث بالمعنى إلي آخر ما قال. أقول: هذا الاختلاف بنبهك علي: أن الواجب علي المحدث المتقن أن يحفظ الألفاظ، ويبالغ في أدائها كما سمع، ألا ترى هذه الكلمة، ومؤدى معناها إلي التضاد الذي يتحير عنده السامع، ولا يدري علي أيهما التعويل.

1199 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من أول المفصل، علي تأليف ابن مسعود سورتين في ركعة آخرهن (حم الدخان) و (عم يتساءلون). متفق عليه. الفصل الأول 1200 - عن حذيفة: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، وكان يقول: ((الله أكبر)) ثلاثاً ((ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة))، ثم استفتح فقرأ البقرة. ثم ركع، فكان ركوعه نحواً من قيامه، فكان يقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم))، ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحواً من الركوع، يقول: ((لربي الحمد)). ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، فكان يقول في سجوده: ((سبحان ربي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((النظائر)) ((فا)): سميت نظائر لفضيلتها، جمع نظورة، وهي الخيار. نظائر الجيش لأفاضلهم وأماثلهم. ((نه)): النظائر جمع نظيرة، وهو المثل، والشبه في الأشكال، والأخلاق، والأفعال، والأقوال. أراد اشتباه بعضها ببعض في الطول. والنظير: المثل في كل شيء. ((تو)) الحديث أورده أبو داود في كتابه مستوفي عن علقمة والأسود قالا: ((أتى ابن مسعود رجل، فقال: إني أقرأ المفصل في كل ركعة، فقال: أهذا كهذا الشعر ونثراً كنثر الدقل! لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة: الرحمن والنجم في ركعة، واقترب والحآقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت والنون في ركعة، وسأل سائل والنزعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة)). قال أبو دواد: هذا تأليف ابن مسعود. الفصل الثاني الحديث الأول عن حذيفة: قوله: ((فكان يقول)) الفاء مثلها في قوله: {فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم} إذا كان القتل عين التوبة. قوله: ((الجبروت)) ((نه)): هو فعلوت من الجبر القهر، يقال: جبار بين الجبروت، والجبار: الذي يقهر العباد علي ما أراد من أمر ونهي. وقيل:

الأعلى)). ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول: ((رب اغفر لي، رب اغفر لي)). فصلي أربع ركعات قرأ فيهن (البقرة) و (آل عمران) و (النساء) و (المائدة) أو (الأنعام)، شك شعبة. رواه أبو داود. [1200] 1201 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)). رواه أبو داود. [1201] ـــــــــــــــــــــــــــــ هو العالي فوق خلقه. وقوله: ((من قيامه)) بيان لـ ((نحواً)) أي مثلاً. اعلم أن بعض أفعال هذا الحديث وارد علي الماضي، وهي ظاهرة، وبعضها علي المضارع حكاية للحال الماضية استحضاراً لها في ذهن السامع. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قوله: ((من قام بعشر آيات)) أي أخذها بقوة وعزم من غير فتور، ولا توان، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب علي ساقها. فيكون كناية عن حفظها، والدوام علي قراءتها، والتفكر في معإنيها، والعمل بمقتضاها. وإليه الإشارة بقوله: ((لم يكتب من الغافلين)) أي لم يثبت اسمه في الصحيفة في زمرة الغافلين. فإن قلت: بين لي التفاوت بين المراتب الثلاث. قلت: الأولي مشعرة: بأن صاحب عشر آيات إذا قام بها خرج من زمرة الغفلة من العامة، ودخل في زمرة {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}. وصاحب مائة داخل في جملة من قيل في حقهم: {وكانت من القانتين}، {أمة قانتاً لله حنيفاً} أي من الذين قاموا بأمر، ولزموا طاعته، وخضعوا له. وأعلاها صاحب ألف؛ لأنه داخل في غمار عمال الله في أرضه، الذين بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ المقنطرين في حيازة الأموال، ولا ارتياب أن القيام بقراءة القرآن في كل آوان لها مزايا وفضائل. وأعلاها: أن يكون في الصلاة، لاسيما إذا أنشأت بالليل {إن ناشيءة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا}. ومن ثم أورد محيي السنة الحديث في باب صلاة الليل. وقوله: ((من المقنطرين)) قال أبو عبيدة: لا نجد العرب تعرف وزن القنطار، وما نقل عن العرب المقدار

1202 - وعن أبي هريرة، قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، يرفع طوراً ويخفض طوراً. رواه أبو داود. [1202] 1203 - وعن ابن عباس، قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم علي قدر ما يسمعه من في الحرجة وهو في البيت. رواه أبو داود. [1203] 1204 - وعن أبي قتادة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند ـــــــــــــــــــــــــــــ المعول عليه. قيل: أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة، فهي اثنا عشر ألف دينار. وقيل: القنطار ملاء جلد الثور ذهباً. وقيل: هي حملة كثيرة مجهولة من المال. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((يرفع طوراً)) خبر ((كان)) والعائد محذوف، أي يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها طوراً صوته، نحو قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن} أي يتربصن بعدهم، وإن روى مجهولاً كان ظاهراً. قوله: ((طوراً)) ((نه)): الطور: الحالة، وأنشد: فإن ذا الدهر أطوار دهارير الأطوار: الحالات المختلفة، والنازلات، وأحدها طور، أي مرة هلك ومرة ملك، ومرة بؤس ومرة نعم. الحديث الرابع والخامس عن أبي قتادة: قوله: ((يخفض)) حال من الضمير في ((يصلي)) و ((يصلي)) حال من الضمير المستقر في الخبر، أي فإذا هو مار بأبي بكر، يدل عليه عطف قوله ((ومر بعمر)): ونظيره قوله تعالي: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} أي وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلاً وسطاً، فإن خير الأمور أوساطها، كأنه قيل للصديق رضي الله عنه: انزل من مناجاة ربك شيئاً قليلاً، واجعل للخلق من قراءتك نصيباً، وللفاروق رضي الله عنه: ارتفع من الخلق هوناً، واجعل لنفسك من مناجاة ربك نصيباً. قوله: ((الوسنان)) ((نه)): هو النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. والوسن: أول النوم، وكذا السنة و ((الهاء)) فيه عوض من الواو المحذوف.

النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك)). قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله! وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك)). فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً))، وقال لعمر: ((اخفض من صوتك شيئاً)). رواه أبو داود، وروى الترمذي نحوه. [1204] 1205 - وعن أبي ذر، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بآية، والآية: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}. رواه النسائي، وابن ماجه. 1206 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلي أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجع علي يمينه)). رواه الترمذي، وأبو داود. [1406] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي ذر. قوله: ((أصبح بآية)) متعلق بـ ((قام)) كما مر. المعنى: أخذ يقرأ هذه الآية من لدن قيامه ويواظب عليها ويتفكر في معإنيها مرة بعد أخرى، حتى أصبح. وما ذلك إلا لما اشتملت علي قدرة كاملة، وعزة قاهرة، وحكمة بالغة. وذلك أن المسيح عليه السلام لما رأي من قومه اتخاذهم إياه وأمه إلهين من دون الله، ونسبة الولد والزوجة إليه- تعالي عن ذلك علواً كبيراً التي {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} تفكر أن هؤلاء لا يستحقون إلا العذاب، وما ينقذهم من النار أحد، ولا يتصور فيهم الغفران. ثم تأمل في جلال الله وعزته، وكبريائه وعظمته، وعلمه وحكمته، فقال ما قال، أي لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا العزيز القاهر الذي ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، وإلا الحكيم الخبير الذي يعلم ما يخفي علي غيره ولا يحوم حوله فهم العقلاء، ولا يدرك كنهه درك الألباء. وفيه سر آخر: وهو أنه تعالي لما ذكر العذاب، علله بوصف العباد، وأنهم مملوكون، وهو مالكهم يتصرف في ملكه كيف شاء، لا ظلم ثمة، ولا جور. ولما ذكر الغفران: علله بوصف نفسه من العزة والغلبة، والعلم، والحكمة. فهما كالعلة لنفي الجور والظلم، يعني أنه وإن تصرف في ملكه كيف يشاء، لكن ذلك عن حكمة بالغة وإن خفي عن الخلق، كما عليه مذهب أهل السنة والجماعة والله أعلم.

الفصل الثالث 1207 - عن مسروق، قال: سألت عائشة: أي العمل كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائم. قلت: فأي حين كان يقوم من الليل؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ. متفق عليه. 1208 - وعن أنس، قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه. رواه النسائي. [1208] 1209 - وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: إن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأرقبن رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة حتى أرى فعله، فلما صلي صلاة العشاء، وهي العتمة، اضطجع هوياً من الليل، ثم استيقظ فنظر في الأفق، فقال: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً) حتى بلغ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع: عن أبي هريرة: قوله: ((ركعتي الفجر)) هما الركعتان قبل الفرض، يشهد له حديث عائشة رضي الله عنها: ((فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع علي شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج)). الفصل الثالث الحديث الأول عن مسروق: قوله: ((الدائم)) أي العمل الذي يستمر عليه عامله، ومن ثم أدخل حرف التراخي في قوله تعالي: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}. قوله: ((إذا سمع الصارخ)) ((إذا)) ههنا لمجرد الظرفية. ((نه)): الصارخ الديك؛ لأنه كثير الصياح في الليل. الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((ما كنا نشاء)) ((ما)) نافية بدليل عطف قوله: ((ولا نشاء))، لا عليه والمعنى ما أردنا منه صلى الله عليه وسلم أمراً إلا وجدناه عليه، إن أردنا أن يكون مصلياً وجدناه مصلياً، وإن أردنا أن نراه نائماً وجدناه نائماً، يعني كان أمره قصداً، لا إفراط ولا تفريط. الحديث الثالث عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: قوله: ((للصلاة)) اللام فيها كما في قوله تعالي: {قدمت لحياتي} أي لأرقبن وقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل، فأنظر ماذا

إلى: (إنك لا تخلف الميعاد)، ثم أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي فراشه، فاستل منه سواكاً، ثم أفرغ في قدح من إداوة عنده ماء، فاستن، ثم قام، فصلي، حتى قلت: قد صلي قدر ما نام، ثم اضطجع، حتى قلت قد نام قدر ما صلي، ثم استيقظ، ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر. رواه النسائي. [1209] 1210 - وعن يعلي بن مملك، أنه سأل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلي، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلي، حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [1210] ـــــــــــــــــــــــــــــ يفعل فيه. قوله: ((هويا)) بالتشديد. ((نه)): الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان. وقيل: هو مختص بالليل. قوله: ((استل)) أي انتزع السواك من الفراش بتأن وتدريج. قوله: ((فاستن)) ((نه)): الاستنان استعمال السواك وهو افتعال من الأسنان، أي يمره عليها. الحديث الرابع عن يعلي بن مملك: ((وما لكم وصلاته)) عطف علي مقدر وهو ((مالك وقراءته)) والواو بمعنى ((مع)) أي ما تصنعون مع قراءته وصلاته؟ ذكرتها تحسراً وتلهفاً علي ما تذكرت من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنها أنكرت علي السائل سؤاله.

(32) باب ما يقول إذا قام من الليل

(32) باب ما يقول إذا قام من الليل الفصل الأول 1211 - عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: ((اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض، ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ما يقول إذا قام من الليل الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((قال: اللهم لك الحمد)): ((قض)) ((وشف)): ((يتهجد)) حال من الضمير في ((قام)). و ((قام)) في موضع النصب علي أنه خبر ((كان)) أي كان صلى الله عليه وسلم عند قيامه من الليل متهجداً يقول: ((اللهم لك الحمد)) وإنما قال: ((من)) ولم يقل: ((ما)) تغليباً للعقلاء علي غيرهم. وأقول: الظاهر أن ((قال)) جواب ((إذا)) والجملة الشرطية خبر ((كان)). قوله: ((قيم السماوات)) ((نه)): في رواية ((قيام)) وفي أخرى ((قيوم)) وهي من أبنية المبالغة. و ((القيم)) معناه القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله. ومنه: قيم ((القيم)) معناه القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله. ومنه: قيم الطفل. والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره، ويقوم بكل موجود حتى لا يتصور وجود شيء، ولا دوام وجوده، إلا به. ((تو)): المعنى أنت الذي تقوم بحفظها، وحفظ كل من أحاطت به واشتملت عليه تؤتي كلا ما به قوامه، وتقوم علي كل شيء من خلقك بما تراه من تدبيره. قوله: ((أنت نور السماوات والأرض)) ((نه)): النور هو الذي يبصر بنوره ذو العماية، ويرشد بهداه ذو الغواية. ((تو)): أضاف النور إلي السماوات والأرض؛ للدلالة علي سعة إشراقه وفشو إضاءته. وعلي هذا فسر {الله نور السماوات والأرض} أي منورهما، يعين كل شيء استنار منهما واستضاء بقدرتك وجودك، والأجرام النيرة بدائع فطرتك، والعقل والحواس خلقك وعطيتك. وقيل: المراد أهل السماوات، أي يستضيئون بنوره. وقد استغنينا عنه بقوله: ((ومن فيهن)). وقيل: معنى النور: الهادي. وفيه نظر لأن إضافة الهداية إلي السماوات والأرض لا يكاد يستقيم إلا بالتقدير، ولا وجه له؛ لأن ((من فيهن)) يدفعه، لما يلزم منه جعل المعطوف والمعطوف عليه شيئاً واحداً. وإذ قد علمنا أن الله تعالي سمى نفسه النور في الكتاب والسنة، وفي حديث أبي ذرك أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال ((نور، أنى أراه!)) ومن جملة أسماء الله الحسنى نور. وسمى بالنور؛ لما اختص به من إشراق الجلال، وسبحات العظمة التي

فيهن، ولله الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ـــــــــــــــــــــــــــــ تضمحل الأنوار دونها، ولما هيأ للعالمين من النور ليهتدوا به في عالم الخلق. فهذا الاسم علي هذا المعنى لا استحقاق لغيره فيه، بل هو المستحق له المدعو به. {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. ونعوذ بوجهه لكريم ممن يلحد في أسمائه. أقول: هذا كلام متين لا مزيد عليه، سوى أن قوله: ((لا يكاد يستقيم إلا بالتقدير)). منظور فيه، لم لا يجوز أن يستعار للسماوات والأرض الهداية، لكونها دلائل منصوبة للمكلفين هادية إلي منشيءها كأنه قيل: الله هادي السماوات والأرض بما جعلها مكاناً للأدلة ومحلا لها. وعلي هذا قوله تعالي: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} شهادته لنفسه إحداثه الكائنات الدالة علي وحدإنيته، ناطقة بالشهادة له، {وإن من شيء إلا يسبح بحمد} وعليه معنى الجمع في قوله: ((رب العالمين)) إذا أريد بالعالم: كل ما علم به الخالق؛ فإن كل عالم معلم من حيث إنه دل علي الخالق تعالي وتقدس. كذا قوله: ((ولما يلزم منه جعل المعطوف والمعطوف عليه شيئاً واحداً)) وذلك أن باب العطف التفسيري غير مسدود. ومن ذلك قوله تعالي: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} إلي آخره فإنه عطف علي قوله: {أو أشد قسوة} لمزيد اعتناء واهتمام ما استغنى في خاتمة هذا الدعاء عن قوله: ((ولا إله غيرك)) بعد قوله: ((لا إله لا أنت)). وأما قوله: ((علي هذا فسر {الله نور السماوات والأرض} أي منورهما)) ففيه إشعار فسر قوله تعالي: {الله نور السماوات والأرض} بقوله: ((الله هادي أهل السماوات والأرض))؛ فهم بنوره إلي الحق يهتدون، وبهذا من حيرة الضلال ينجون. وقد تكلمنا في فتوح الغيب ما منحنا الله تعالي فيه من النكات، وهدانا إلي لطائف ولمعات. هذا فسر الهداية بما يقابل الضلال. وأما إذا فسر الهداية بالدلالة الإرشاد، فكل من المخلوقات يهتدون بما فطروا إلي ما يتوصلون به إلي منافعهم، وما يحتاجون إليه .. قال الله تعالي: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه} ((الكشاف)): أي أعطى كل شيء صورته التي تطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع. وكذا سائر الأعضاء مطابق لما علق به من المنفعة، أو أعطي كل حيوان نظيره في الخلق

وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر ـــــــــــــــــــــــــــــ والصورة، حيث جعل الحصان والحمار زوجين، والبعير والناقة، والرجل والمرأة، فلم يزاوج منها شي غير جنسه. ((ثم هدى)) أي ثم عرف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. فرجع المعنى إلي أن الله تعالي هادي خلق السماوات والأرض من ذوي العلم، وغيرهم، فكل يهتدي إلي ما يليق بحاله ويناسبه، فالعقلاء بنور الله يهتدون إلي ما فطروا له م العبادة والمعرفة، وغيرهم إلي ما جلبوا له. {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}. قوله: ((ولقاؤك حق)) ((نه)): المراد بلقاء الله تعالي المصير إلي دار الآخرة، وطلب ما هو عند الله. وليس الغرض منه الموت. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله)) بين أن الموت غير اللقاء، لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقة حتى يصل إلي الفوز باللقاء. قوله: ((الساعة حق)) ((نه)): الساعة لغة تطلق علي جزء قليل من اليوم والليلة، ثم استعيرت للوقت الذي تقوم فيه القيامة، يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم. قوله: ((وإليك أنبت)) ((نه)) الإنابة الرجوع إلي الله تعالي بالتوبة. قوله: ((وبك خاصمت)) ((حس)): أي بحجتك أخاصم من خاصمني ومن الكفارة، وأجاهدهم. وقيل: بتأييدك ونصرتك قاتلت، أو بوحيك ناظرت خصمي. قوله: ((وإليك حاكمت)) ((مظ)): المحاكمة رفع القضية إلي الحاكم، يعني رفعت أمري إليك، وجعلتك قاضياً بيني وبين من يخالفين فيما أرسلتني به، نحوه قوله تعالي: {أنت تحكم بين عبادك فميا كانوا فيه يختلفون}. وأما بيان النظم والتلفيق، فنقول- وبالله التوفيق -: إن قوله: ((اللهم لك الحمد)) مفيد للتخصيص؛ لتقديم الخبر. والحمد: هو الثناء علي الجميل الاختياري من نعمة وغيرها من الفضائل. فلما خص الحمد بالله تعالي قيل له: لم خصصتني بالحمد؟ فقال: لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات تراعيها، وتؤتي كل شيء ما به قوامه وما ينتفع به، ثم تهديه إليه بنور هدايتك؛ ليتوصل به إلي منافعه، وأنت القاهر علي المخلوقات لا مالك لهم سواك، ولا ملجأ ولا منجا إلا إليك ثم المرجع والمآب في العاقبة إليك، تجازيهم بما عملوا من المعاصي والطاعات بالثواب والعقاب، هذه كلها وسائل قدمت لتحقيق المطلوب المختص به صلى الله عليه وسلم من قوله: ((اللهم لك أسلمت)) إلي آخره- وتكرير الحمد المخصص للاهتمام بشأن وليناط به كل مرة معنى آخر.

لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك)). متفق عليه. 1212 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: لم عرف ((الحق)) في قوله ((أنت الحق، ووعدك حق)) ونكر في البواقي؟ قلت: لا منكر سلفاً وخلفاً أن الله هو الحق الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال. قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، إما قصداً، وإما عجزاً- تعالي وتعاظم عن ذلك- والتنكير في البواقي للتعظيم والتفخيم. وهاهنا سر دقيق، ونكتة سرية: وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما نظر إلي المقام الإلهي، ومقربي حضرة الألوهية والربوبية، عظم شأنه، وفخم منزلته، حيث ذكر النبيين، وعرفها باللام الاستغراقي ثم خص محمداً صلى الله عليه وسلم من بينهم، وعطف عليهم إيذاناً بالتغاير، وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغير الوصف تنزل منزلة التغاير في الذات ثم حكم عليه استقلالاً بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره، ووجب عليه تصديقه، ولما رجع إلي مقام العبودية، ونظر إلي افتقار نفسه: نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار: اللهم لك أسلمت وإليك أنبت، فإن الإسلام هو الاستسلام وغاية الانقياد، ونفي الحول والقوة إلا بالله، ومن ثم أتبعه بقوله: ((بك خاصمت، وإليك حاكمت) ثم رتب عليهما طلب غفران ما تقدم وما تأخر من الذنب، كترتب الغفران علي الفتح في قوله تعالي: {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} والتسبيح والاستغفار علي النصر والفتح في سورة الفتح الصغرى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومحمد حق)) إيماء إلي مقام الجمع والشهود، وقوله: ((بك خاصمت، وإليك حاكمت)) إلي مقام التفرقة وإرشاد الخلق. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((رب جبريل وميكائيل)) قيل لا يجوز نصب ((رب)) علي الصفة؛ لأن الميم المشددة بمنزلة الأصوات فلا يوصف ما اتصل به، فالتقدير: يارب جبريل. قال الزجاج: هذا قول سيبويه. وعندي أنا صفة، فكما لا تمتنع الصفة مع ((يا)) فلا تمتنع مع ((الميم)). قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح؛ لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء علي حد

والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلي صراط مستقيم. رواه مسلم. 1213 - وعن عبادة بن الصامت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي))، أو قال: ((ثم دعا؛ استجيب له، فإن توضأ وصلي قبلت صلاته)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((اللهم)) ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيز ما لا يوصف، نحو ((حيهل)) فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلي اسم، فلم يوصف. ((وفاطر السماوات والأرض)) أي مبدعهما ومخترعهما، و ((الغيب)) ما غاب عنك، و ((الشاهد)) ما حضر لديك. وقوله: ((لما اختلف فيه)) ((اللام)) بمعنى ((إلي)) يقال: هداه إلي كذا، ولكذا و ((ما)) موصولة، والذي اختلف فيه عند مجيء الأنبياء، وهو الطريق المستقيم الذي دعوا إليه، فاختلفوا فيه. قال الله تعالي: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} الآية، كأنه قيل: اهدني إلي الصراط المستقيم. وطلب الهداية- وهو فيها طلب للثبات عليها، أو الزيادة علي ما منح من الألطاف، أو حصول المطالب المترتبة عليها. فإذا قال العارف الواصل به عنى أرشدنا طريق السير فيك، لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، فنستضيء بنور قدسك. ونراك بنورك. ومعنى ((الإذن)) التيسير والتسهيل علي سبيل التمثيل؛ فإن الملك المحتجب إذا رفع الحجاب كان إذناً منه بالدخول. الحديث الثالث عن عبادة بن الصامت: قوله: ((من تعار)) ((نه)): أي استيقظ، ولا يكون إلا يقظة مع كلام. الجوهري: تعار من الليل: إذا هب من نومه. ولعله مأخوذ من عرار الظليم، وهو صوته. قوله: ((فإن توضأ)) يجوز أن يعطف علي قوله: ((دعا)) أو علي قوله: ((قال: لا إله إلا الله)) والأول أظهر. والمعنى من استيقظ من النوم، فقال كيت وكيت، ثم إن دعا استجيب له، فإن صلي قبلت صلاته. ترك ذكر الثواب؛ ليدل علي ما لا يدخل تحت الوصف، كما في قوله تعالي: {تتجافي جنوبهم عن المضاجع- إلي قوله- فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.

الفصل الثاني 1214 - عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قال: ((لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)) رواه أبو داود. [1214] 1215 - وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يبيت علي ذكر طاهراً فيتعار من الليل، فيسأل الله خيراً إلا أعطاه الله إياه)) رواه أحمد، وأبو داود. [1215] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((اللهم زدني علما)) أي يا ربي إني لا أعلم شيئاً إلا بتعليمك، وإن افتقاري إلي جنابك الأقدس لا يزول، فكما علمتني ما لم أكن أعلم، فلا تقع هذه النعمة عني في كل ما أنا فهي من الأقوال والأفعال، أو أدبتني في باب العلم أدباً جميلاً لتنزيل القرآن حصة بعد حصة، تهذيباً لي، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) فزدني تأديباً إلي تأديب. قوله: ((ولا تزغ قلبي)) أي لا تبلني ببلاء يزيغ فهي قلبي بعد إذ هديتني، وأرشدني لدينك، ولا تمنعني بعد أن لطفت بي، وهب لي من عندك نعمة بالتوفيق؛ فإن مثل تلك المواهب لا تصدر إلا عن الواهب المطلق المبالغ فيه. الحديث الثاني عن معاذ بن جبل: قوله: ((فيتعار)) صح ههنا بصيغة المضارع. ((تو)): تعار يتعار يستعمل في انتباه مع صوت، واستعماله في هذا الموضع دون الهبوب والاستيقاظ وما في معناه، زيادة معنى، أراد أن يخبر بأن من هب من نومه ذاكراً الله تعالي مع الهبوب، فيسأل الله خيراً فأعطاه، وأوجز وقال: ((فيتعار)) ليجمع بين المعنيين وإنما يوجه ذلك عند من تعوذ الذكر، فاستأنس به وغلب عليه، حتى صار الذكر حديث نفسه في نومه ويقظته، فصرح صلى الله عليه وسلم باللفظ وعرض بالمعنى، فأتى من جوامع الكلم التي أوتيها ولله در قائله:

1216 - وعن شريق الهوزني، قال: دخلت علي عائشة فسألتها: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح إذا هب من الليل؟ فقالت: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشراً، وحمد الله عشراً، وقال: ((سبحان الله وبحمده عشراً)) وقال: ((سبحان الملك القدوس)) عشراً، واستغفر الله عشراً، وهلل الله عشراً، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا، وضيق يوم القيامة)) عشراً، ثم يفتتح الصلاة. رواه أبو داود. [1216] الفصل الثالث 1217 - عن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك))، ثم يقول: ((الله أكبر كبيرا))، ثم يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. رواه الترمذي وأبو داود، والنسائي، وزاد أبو داود بعد قوله: ((غيرك)): ثم يقول: ((لا إله إلا الله)) ثلاثاً. وفي آخر الحديث ثم يقرأ. [1217] ـــــــــــــــــــــــــــــ يهيم فؤادي ما حييت بذكرها ولو أنني أرممت إن به الصدى أقول: ما أرشق هذا اللفظ وما ألطف هذا المعنى. ولله در الشيخ- رضي الله عنه- ودر كلماته ودر إشاراته! الحديث الثالث عن شريق: قوله: ((هب من الليل)) أي من نومه، والإضافة بمعنى ((في)) قوله: ((من ضيق الدنيا)) ((مظ)): أي مكارها وشدائدها؛ لأن من به مشقة من مرض، أو دين، أو ظلم صارت الأرض بعينه ضيقة، كقوله تعالي: {وضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي صارت الأرض الواسعة في أعينكم ضيقة من الغم. وكذلك المراد من ضيق يوم القيامة. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((يقول)) في المواضع الثلاثة بالمضارع عطفاً علي الماضي؛ للدلالة علي استحضار تلك المقالات في ذهن السامع. و ((ثم)) فيها لتراخي الإخبار.

(33) باب التحريض علي قيام الليل

1218 - وعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنت أبيت عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: ((سبحان رب العالمين)) الهوى، ثم يقول: ((سبحان الله وبحمده)) الهوى. رواه النسائي. وللترمذي نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [1218] (33) باب التحريض علي قيام الليل 1219 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعقد الشيطان علي قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب علي كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون لتراخي الأقوال في ساعات الليل. مضى معنى ((الهمز، والنفخ، والنفث)) في باب الوسوسة. الحديث الثاني عن ربيعة قوله ((الهوى)) ((نه)): الهوى بالفتح: الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص الليل. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((هوياً)) منكراً في حديث حميد في الفصل الثالث من باب صلاة الليل وبين ((الهوى)) ههنا معرفاً؟ قلت: التعريف لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه في بعضه، والتنكير لا يفيده أيضاً كما تقول: قام زيد اليوم، أي كله، أو يوماً أي بعضه، ومنه قوله تعالي: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} أي بعضاً من الليل. باب التحريض علي قيام الليل الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((علي قافية)) ((نه)) القافية: القفا. وقيل: قافية الرأس: مؤخرة. وقيل: وسطه، أراد تثقيله في النوم وإطالته، فكأنه قد شد عليه شداداً، وعقده ثلاث عقد. قوله: ((يضرب علي كل عقدة، عليك ليل طويل)) ((علي)) الأول متصل بـ ((يضرب)) والثاني مع ما بعده مفعول للقول المحذوف، أي يلقى الشيطان علي كل عقدة يعقدها هذا القول، وهو قوله: ((عليك ليل طويل)). قال صاحب المغرب: يقال: ضرب الشبكة علي الطائر، ألقاها

فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلي انحلت عقدة، فأصبح نشيط طيب النفس؛ وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان)) متفق عليه. 1220 - وعن المغيرة، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه. فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكورا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه. و ((عليك)) إما خبر لقوله: ((ليل)) أي ليل طويل باق عليك، أو إغراء أي عليك بالنوم، أمامك ليل طويل، فالكلام جملتان، والثانية مستأنفة، كالتعليل للأولي. ونظيره ما روى أبو علي: أن أعرابياً نظر إلي جمل نضو، قال: كذب عليك القت والنوى أي أن القت والنوى ذكرا أنك لا تسمن بهما. وفي الفائق: ((كذب عليك الحج)) أي اترك ما سولت إليك نفسك من التوإني في الحج، ثم استأنف وقال: ((عليك الحج)) أي اقصده. قوله: ((فأصبح نشيطاً، طيب النفس)) مثلت حالة من لم يتكاسل- ولم ينم عن وظائفه التي تسرع به إلي مقام الزلفي، وتنشطه لاكتساب السعادة العظمى، فكلما همت النفس اللوامة بالسلوك، تداركها التوفيق بالخلاص من نفث الشيطان في عقد النفس الأمارة بالسوء، فتصبح مطمئنة، نشيطة القلب، طيبة النفس، ظاهراً في سيمائها أثر السجود- بحالة من أسره العدو، وشد علي قفاه بربقة الأسر عقدة بعد عقدة استيثاقاً، وهو يتحرى الخلاص منه بلطائف حيله مرة بعد أخرى، حتى يتخلص منه بالكلية، ويذهب لسبيله بلا مانع ولا منازع، بخلاف من أطاع الشيطان حتى يتمكن من النفس الأمارة يضرب العقد علي قافية رأسه، فهل يستويان؟ {أفمن يمشي مكباً علي وجهه أهدى أم من يمشي سوياً علي صراط مستقيم}. ((قض)): التقييد بالثلاث إما للتأكيد، أو لأن الذي ينحل به عقدته ثلاثة أشياء: الذكر، والوضوء، والصلاة. فكأن الشيطان منعه عن كل واحد منهما بعد عقدها علي قافيته. ولعل تخصيص القفا لأنه محل الواهمة ومجال تصرفها. وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة إلي دعوته. الحديث الثاني عن المغيرة: قوله: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) الفاء في قوله: ((أفلا أكون)) مسبب عن محذوف، أي أترك قيامي وتهجدي لما غفر لي، فلا أكون عبداً شكوراً، يعني غفران الله إياي سبب لأن أقوم وأتهجد شكراً له، فكيف أتركه؟ كأن المعنى: كيف لا أشكره وقد أنعم علي، وخصني بخيري الدارين فإن الشكور من أبنية المبالغة، يستدعي نعمة خطيرة. وتخصيص

1221 - وعن ابن مسعود، قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقيل له: مازال نائماً حتى أصبح، ما قام إلي الصلاة. قال: ((ذلك رجل بال الشيطان في أذنه)) أو قال: ((في أذنيه)). متفق عليه. 1222 - وعن أم سلمة، قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً، يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ العبد بالذكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالي؛ ومن ثم وصفه به في مقام الإسراء، ولأن العبودية تقتضي صحة النسبة، وليست إلا بالعبادة، والعبادة عين الشكر. الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((فقيل)) الفاء مفسرة، مثلها في قوله تعالي: {فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم} إذا فسرت التوبة بالقتل. و ((أصبح)) يحتمل أن تكون تامة و ((ما قام)) في محل النصب حالا من الفاعل، أي أصبح وحاله أنه غير قائم إلي الصلاة، وأن تكون ناقصة و ((ما قام)) خبرها، أي غير قائم، ويحتمل أن يكون ((ما قام)) جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولي، أو مؤكدة مقررة لها. قوله: ((بال الشيطان في أذنه)) ((قض)): هو تمثيل، شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة وعدم انتباهه بصوت المؤذن مع إحساس سمعه إياه- بحال من بيل في أذنه، فيثقل سمعه ويفسد حسه. وقيل: هو كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف به، فإن من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه، والأول من كلام الشيخ الخطابي، والثاني من كلام الشيخ التوربشتي رضي الله عنهما. وقال الخطابي: البول ضار مفسد، فلهذا ضرب به المثل، قال الراجز: بال سهيل في الفضيح ففسد جعل طلوع سهيل وإفساده الخمر بمثابة ما يقع البول في الشيء فينجسه، ((تو)): يحتمل أن يقال: إن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل، فأحدث في أذنه وقراً عن استماع دعوة الحق. ((نه)): قيل: معنى ((بال)) سخر منه وظهر عليه حتى نام عن طاعة الله. وأقول: خص الأذن بالذكر، والعين بالنوم، إشارة إلي ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه بالأصوات ونداء ((حي علي الفلاح))، قال الله تعالي: {فضربنا علي آذانهم في الكهف} أي أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات. وخص البول من بين الأخبثين؛ لأنه من خباثته أشد مدخلاً في تجاويف الخروق والعروق، ونفوذه فيها، فيورث الكسل في جميع الأعضاء.

((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات)) - يريد أزواجه- ((لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أم سلمة: قوله: ((سبحان)) قد مر أنها كلمة تعجب، وتعظيم للشيء. وقوله: ((وماذا)) إلي آخره، كالتقرير والبيان؛ لأن ((ما)) استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم، وعبر عن الرحمة بالخزائن لكثرتها وعزتها. قال تعالي: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} وعن العذاب بالفتن؛ لأنها أسباب مؤدية إلي العذاب وجمعها؛ لسعتها وكثرتها. قوله: ((رب كاسية)) قال المالكي: أكثر النحويين علي أن معنى ((رب)) للتقليل، [وأن معنى ما يصدر بها الماضي]. والصحيح: أن معناها في الغالب التكثير. نص عليه سيبويه حيث قال في باب ((كم)) واعلم أن ((كم)) في الخبر لا تعمل إلا فيما يعمل فيه رب؛ لأن المعنى واحد، إلا أن ((كم)): اسم ورب غير اسم. ويشهد له الحديث إذ ليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((رب كاسية)) الحديث، التقليل بل المراد أن الصنف المتصف بهذا من النساء كثير. وقال أيضاً: الصحيح أن ما يصدر ((برب)) لا يلزم كونه ماضي المعنى، بل يجوز مضيه وحضوره واستقباله، وقد اجتمع الحضور والاستقبال في ((يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)) وقد اجتمع المضي والمستقبل فيما حكى الكسائي من قول بعض العرب بعد الفطر لاستكمال رمضان ((رب كاسية صائمة لن تصومه، ورب قائمة لن تقومه)) والجواب أن قول سبيويه مؤول، فإنه يجوز أن يراد منه أن المعنى واحد بحسب حمل النقيض علي النقيض، وذلك شائع في كلامهم، فلا يكونان مترادفين، وما أدراه أن سيبويه وغيره ما سلكوا هذا المسلك؛ فإن البلغاء إذا وجدوا إلي المجاز سبيلاً لتضمنه النكتة لا يعدلوا عنه إلي الحقيقة؛ لخلوها عنها، ومما اختص به هذا الحديث من الفائدة. هي تخطئه رأيهن، وقلة مبالاتهن بالأمر الخطير، وعدم اكتراثهن بما هو أولي بهن، كقوله تعالي: {تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}. ((شف)): أي كاسية من ألوان الثياب، عارية من أنواع الثواب وقيل: عارية من شكر المنعم. وقيل: هذا نهي عن لبس ما يشف من الثياب. وقيل: هو نهي عن التبرج. أقول: قوله: ((رب كاسية في الدنيا)) كالبيان لموجب استيقاظ الأزواج للصلاة، أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن علي كونهن أهالي رسول الله صلى الله عليه وسلم كاسيات خلعة نسبة أزواجه مشرفات في الدنيا بها، فهن عاريات منها في الآخرة، فلا ينفعهن ولا ينجيهن من عذاب الله، إذا لم تضمها

1223 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالي كل ليلة إلي السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟ حتى ينفجر الفجر)). ـــــــــــــــــــــــــــــ مع العمل، كما قال تعالي: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم} وقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، والحديث الوارد فيه مشهور. وهذا الحديث وإن خص بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالتقدير رب نفس أو نسمة كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، والله أعلم. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((ينزل ربنا)) ((قض)): لما ثبت بالقواطع العقلية والنقلية أنه تبارك وتعالي منزه عن الجسمية والتحيز، والحلول، امتنع عليه النزول علي معنى الانتقال من موضع أعلي إلي ما هو أخفض منه، بل المعنى به علي ما ذكره أهل الحق دنو رحمته، ومزيد لطفه علي العباد، وإجابة دعوتهم، وقبول معذرتهم، كما هو ديدن الملوك الكرماء، والسادة الرحماء، إذا نزلوا بقرب قوم محتاجين، ملهوفين فقراء مستضعفين. وقد روى: ((يهبط من السماء العليا إلي الدنيا)) أي ينتقل من مقتضى صفات الجلال التي تقتضي الأنفة من الأرذال، وعدم المبالاة، وقهر العداة، والانتقام من العصاة، إلي مقتضى صفات الإكرام المقتضية للرأفة والرحمة، وقبول المعذرة، والتلطف بالمحتاج، واستعراض الحوائج، والمساهلة والتخفيف في الأوامر والنواهي، والإغضاء عما يبدو من المعاصي. انتهي كلامه. وقوله: ((تبارك وتعالي)) جملتان معترضتان بين الفعل والظرف، لما أسند ما لا يليق إسناده بالحقيقة إليه، أتى بما يدل علي التنزيه معترضاً، كقوله تعالي: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} ((نه)): تخصيصاً بالليل وبالثلث الأخير منه، لأنه وقت التهجد، وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله. وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلي الله تعالي وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة. و ((من يقض غير عدوم ولا مظلوم)) أي من يقرض غنياً لا يعجز عن أداء حقه والوفاء بعهده، عادلاً لا يظلم المقرض بنقض دينه، وتأخير الأداء عن وقته. والله تعالي غير عدوم لاستغنائه عن غيره، وافتقار غيره إليه: وغير ظلوم؛ لأنه يضعف أضعافاً، قال الله تعالي: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}. وإنما وصف الله تعالي نفسه بالوصفين المذكورين ههنا؛ لأنهما المانعان غالباً عن الإعراض. أقول: إخراج العمل مخرج القرض تمثيل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، وإيذان بكونه واجب الأداء بسبب الوعد، كالدين.

1224 - وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة)) رواه مسلم. 1225 - عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصلاة إلي الله صلاة داود، وأحب الصيام إلي الله صيام داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً)) متفق عليه. 1226 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: كان- تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلي أهله قضى حاجته ثم ينام، فإن كان عند النداء الأول جنباً، وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنباً توضأ للصلاة، ثم صلي ركعتين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن جابر: قوله: ((لا يوافقها)) إلي آخره، صفة لـ ((ساعة))، أي لساعة من شأنها أن يترقب لها، ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رءوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف ((فمن وافقها)) أي تعرض لها، واستغرق أوقاته مترقباً للمعانها، فوافقها قضى وطره منها. قال: فأنالني كل المنى بزيارة كانت مخالسة كخطفة طائر فلو استطعت إذن خلعت علي الدجى لتطول ليلتنا سواد الناظر قوله: ((ذلك كل ليلة)) أي ذلك المذكور يحصل كل ليلة. الحديث السابع والثامن عن عائشة: قوله: ((ثم إن كانت له حاجة)) في كلمة ((ثم)) فائدة، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجته من نسائه بعد إحياء الليل بالتهجد، فإن الجدير بالنبي صلى الله عليه وسلم أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. أقول يمكن أن يقال: إن ((ثم)) ههنا لتراخي الإخبار، أخبرت أولاً أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت مستمرة بنوم أول الليل وقيام آخره، ثم إن اتفق أحياناً أن يقضي حاجته من نسائه فيقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين، فإذا انتبه عند النداء الأول: إن كان جنباً اغتسل، وإلا فتوضأ.

الفصل الثاني 1227 - عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلي ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) رواه الترمذي. [1227] 1228 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل إذا قام بالليل يصلي، والقوم إذا صفوا في الصلاة، والقوم إذا صفوا في قتال العدو)) رواه في ((شرح السنة)). [1228] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((دأب الصالحين)) ((نه)): الدأب العادة والشأن. وقد يحرك، وأصله من دأب في العمل إذا جد وتعب، ثم حولت إلي العادة والشأن. قوله: ((قبلكم)) أي هي عادة قديمة، واظب عليها الأنبياء والأولياء السابقون. قوله: ((وهو قربة لكم)) لم يقل قربتكم؛ ليدل التنكير علي قربة لها شأن، وأتى بالجملة ولم يعطف ((قربة)) علي ((دأب الصالحين))؛ ليدل باستقلالها علي مزيد تقرب. قوله: ((ومكفرة، ومنهاة)) بفتح الميم وسكون ما بعده فيهما. ((قض)): أي حالة من شأنها أن تنهي عن الإثم، أو هي مكان مختص بذلك، وهي مفعلة من النهي، والميم الزائدة، ونحوهما مطهرة ومرضاة ومبخلة ومجبنة. ((قض)): المعنى: أن قيام الليل قربة تقربكم إلي ربكم، وخصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، كما قال تعالي: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر}. الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((يضحك الله إليهم)) الضحك من الله سبحانه وتعالي محمول علي غاية الرضا والرأفة. وفي ((إلي)) معنى الدنو والقرب، كأنه قيل: إن الله تعالي يرضي عنهم، ويدنو إليهم برأفته ورحمته، وإليه ينظر قوله في الحدث السابق: ((وهو قربة لكم إلي ربكم)) ويجوز أن يضمن الضحك معنى النظر، ويعدى تعديته بإلي، فالمعنى أنه تعالي ينظر إليهم ضاحكاً، أي راضياً عنهم متعطفاً عليهم؛ لأن الملك إذا نظر إلي بعض رعيته بعين الرضا، لا يدع من إنعام وإكرام إلا فعل في حقه. وفي عكسه قوله تعالي: {ولا يكلمهم الله

1229 - وعن عمرو بن عبسة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة؛ فكن)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. [1229] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}. وعلي الوجه الأول: ((يضحك)) مستعار للرضا علي سبيل التبعية، والقرينة الصارفة نسبة الضحك إلي من هو متعال عن صفات المخلوقين. قوله: ((إذا قام بالليل)) ((إذا)) متمحض للظرفية، وهو بدل من ((الرجل)) كما في قوله تعالي: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت} و ((الرجل)) موصوف ((ثلاثة))، أي رجال ثلاثة يضحك الله منهم وقت قيام الرجل بالليل، فوضع الظرف مقام الرجل مبالغة علي منوال قولهم: أخطب ما يكون الأمير قائماً، أي أخطب أوقاته وإلا خطبته ليست للأوقات وإنما هي للأمير. وإنما قدم قيام الليل علي صف الصلاة وأخر صف القتال إما تنزلاً، فإن محاربة النفس التي هي أعدى عدو لله أشق من محاربة عدوك الذي هو الشيطان، ومحاربة الشيطان أصعب من محاربة أعداء الدين، أو ترقياً؛ فإن محاربة من يليك أقدم، والأخذ بالأصعب فالأصعب أحرى وأولي من أخذ الأصعب ثم الأسهل. الحديث الثالث عن عمرو بن عبسة: قوله: ((في جوف الليل الآخر)) يحتمل: أن يكون حالاً من ((الرب)) - أي قائلاً في جوف الليل: ((من يدعوني فأستجيب له ...)) الحديث- سدت مسد الخبر، أو من ((العبد) 9 أي قائماً في جوف الليل، داعياً مستغفراً علي نحو قولك سرني قائماً. ويحتمل أن يكون خبر ((الأقرب)) ومعناه قد سبق في باب السجدة مستقصى. فإن قلت: ما الفرق بين قوله في هذا الحديث: ((أقرب ما يكون الرب من العبد)) وهناك ((أقرب ما يكون العبد من ربه؟)) قلت: سبق في حديث أبي هريرة في قوله: ((ينزل ربنا تبارك وتعالي إلي السماء الدنيا)) الحديث، أن رحمته سابقة، فقرب رحمة الله من المحسنين سابق علي إحسانهم فإذا سجدوا قربوا من ربهم لإحسانهم، كما قال تعالي: {واسجد واقترب}. وفيه أن توفيق الله ولطفه وإحسانه سابق علي عمل العبد، وسبب له، ولولاه لم يصدر من العبد خير قط.

1230 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلي، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلي، فإن أبي نضحت في وجهه الماء)) رواه أبو داود، والنسائي. [1230] 1231 - وعن أبي أمامة، قال: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) رواه الترمذي. [1231] 1232 - وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الآخر)) صفه لـ ((جوف الليل)) علي أن ينصف الليل، ويجعل لكل نصف جوف، والقرب يحصل في جوف النصف الثاني وابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد. وفي قوله: ((فإن استطعت)) إشارة إلي تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز من يستسعد به. ومن ثم قال: ((أن تكون ممن يذكر الله)) أي تنخرط في زمرة الذاكرين لله، ويكون ذلك مساهمة فيهم. وهو أبلغ من أنه لو قيل: إن استطعت أن تكون ذاكراً. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: [((نضح عليه الماء))] أي رش. وفيه أن من أصاب خيراً ينبغي له أن يتحرى إصابته الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب: فقوله: صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً فعل كذا)) تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء علي الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم: لما نال ما نال بالتهجد من الكرامة والمقام المحمود، أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر من ذلك، فحثهم عليه علي سبيل التلطف حيث عدل من صيغة الأمر إلي صيغة الدعاء لهم. والله أعلم. الحديث الخامس عن أبي أمامة: قوله:: ((أسمع)) ((تو)): أي أرجى للإجابة، فالسمع هو الذي يرد بمعنى الإجابة مجازاً، لأن القول المسموع علي الحقيقة هو ما يقترن بالقبول من السامع. وقد فسر الحديث في باب الذكر بعد الصلاة وذكر أن لابد من مقدر إما في السؤال أي أي أوقات الدعاء أقرب إلي الإجابة؟ وإما في الجواب أي الدعاء في جوف الليل. الحديث السادس عن أبي مالك: قوله: ((غرفا)) أي علالي. وأصل ((ألان)) ألين، نقلت حركة الياء إلي اللام، وقلبت ألفاً، جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة، كما في قوله تعالي:

الطعام، وتابع الصيام، وصلي بالليل والناس نيام)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1232] 1233 - وروى الترمذي عن علي نحوه، وفي روايته: ((لمن أطاب الكلام)). الفصل الثالث 1234 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه. 1235 - وعن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كان لداود عليه السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله يقول: يا آل داود! قوموا فصلوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((أولئك يجزون الغرفة)) بعد قوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}. وفيه تلويح إلي أن لين الكلام من صفات عباد الله الصالحين الين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في الفعل والقول. ولذلك جعلت جزاء من أطعم الطعام، كما في قوله تعالي: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا}. فدل علي أن الجواد من شأنه أن يتوخى القصد في الإطعام والبذل، ليكون من عباد الرحمن، وإلا كان من إخوان الشيطان، وكذا جعلت جزاء من صلي بالليل، كما في قوله تعالي: {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً}، فأومأ به إلي أن المتهجد ينبغي أن يتحرى في القيام الإخلاص ويجتنب الرياء؛ لأن البيتوتة للرب لم تشرع إلا لإخلاص العمل لله. ولم يذكر الصيام في التنزيل استغناء بقوله: {بما صبروا}؛ لأن الصيام صبر كله، وفي تأخيره بالذكر بعد ذكر الجزاء إرادة إلي قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصوم لي وأنا أجزى به)) تبليغاً لقول الله تعالي. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((أو عشار)) يقال: عشرت ماله، أعشره عشراً، فأنا عاشر، وعشرته، فأنا معشر، وعشار، إذا أخذت عشره. استثنى من جميع خلق الله تعالي الساحر والعشار تشديداً عليهم وتغليظاً، وإنهم كالآيسين من رحمة الله تعالي التي عمت الخلائق كلها، وتنبيهاً علي استجابة دعاء الخلق كائناً من كان سواهما.

فإن هذه ساعة يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار)) رواه أحمد. [1235] 1236 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل)) رواه أحمد. [1236] 1237 - وعنه، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق. فقال: ((إنه سينهاه ما تقول)) رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [1237] 1238 - وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصلياً أو صلي ركعتين جميعاً، كتباً في الذاكرين والذاكرات)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [1238] 1239 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشرف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1239] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة: قوله: ((ما تقول)) فاعل ((سينهاه)) يعني أن قولك ((يصلي بالليل)) يدل علي أنه محافظ علي الصلوات مداوم عليها؛ لأن من لا يدع الصلاة بالليل، فهو بأن لا يدعها بالنهار أحرى. فمثل تلك الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة. وهذا معنى السين في ((ستنهاه)) لأن السين في تأكيد الإثبات، مقابلة لن في تأكيد النفي. الحديث الخامس عن أبي سعيد وأبي هريرة قوله: ((في الذاكرين والذاكرات)) أي في زمرة من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو بلسانه أو بهما. وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. والمعنى: والذاكرين الله والذاكرات. فحذف؛ لأن الظاهر يدل عليه. قوله: ((جميعاً)) حال مؤكدة من فاعل ((فصليا)) علي التثنية لا الإفراد؛ لأنه ترديد من الراوي، فالتقدير: فصليا ركعتين جميعاً. ثم أدخل ((أو صلي)) في البين، فإذا أريد تقييده بفاعله، يقدر: فصلي وصلت جميعاً، فهو قريب من التنازع. الحديث السادس عن ابن عباس: قوله: ((أصحاب الليل)) إضافة الأصحاب إلي الليل لكثرة مباشرة القيام والصلاة فيه، كما يقال ابن السبيل لمن يواظب علي السلوك فيه.

(34) باب القصد في العمل

1240 - وعن ابن عمر، أن أباه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهلهل للصلاة، يقول لهم: الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} رواه مالك. [1240] (34) باب القصد في العمل الفصل الأول 1241 - عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد بـ ((حملة القرآن)) من حفظه وعمل بمقتضاه، وإلا كان في زمرة من قال تعالي في حقهم: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً}. الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((الصلاة)) مقول القول منصوبة بفعل مضمر، أي أقيموا أو صلوا. ويجوز الرفع، أي حضرت الصلاة. قوله: {واصطبر عليها} أي أقبل أنت مع أهلك علي عبادة الله، والصلاة، واستعينوا بها علي فقركم، ولا تهتم بأمر الرزق؛ فإن رزقك مكفي من عندنا، ففرغ بالك لأمر الآخرة. وعن بكر بن عبد الله المزني: كان إذا أصابته خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية. باب القصد في العمل الفصل الأول الحديث الأول عن أنس: قوله: ((لا تشاء أن تراه)) ((مظ)): ((لا)) بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو تقديره: لا زمان تشاء، أي لا من زمان تشاء. أقول: لعل هذا التركيب من باب الاستثناء علي البدل، وتقديره علي الإثبات أن يقال: إن تشأ رؤيته متهجداً رأيته متهجداً، وإن تشأ رؤيته نائماً رأيته نائماً. يعني كان أمره قصداً لا إسراف ولا تقصير، نام أوان ينبغي أن ينام فيه كأول الليل، ويصلي أوان ينبغي أن يصلي فيه. وعلي هذا

1242 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل)) متفق عليه. 1243 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حكاية الصوم، ويشهد له حديث ((ثلاثة رهط)) علي ما روى أنس قال أحدهم: ((أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أصلي، وأنام، وأصوم وأفطر أو كما قال، ثم قال: فمن رغب عن سنتي فليس مني)). الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أدومها وإن قل)) ((مظ)): بهذا الحديث ينكر أهل التصوف ترك الأوراد كما ينكرون ترك الفرائض. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا يمل)) ((قض)): الملاك فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه. وأمثال ذلك علي الحقيقة إنما يصدق في حق من يعتريه التغير والانكسار، فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصور هذا المعنى في حقه، فإذا أسند إليه، أول بما هو منتهاه وغاية معناه، كإسناد الرحمة، والغضب، والحاء، والضحك إلي الله تعالي، فالمعنى- والله أعلم- اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم؛ فإن الله تعالي لا يعرض عنكم إعراض الملول، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقى لكم نشاط وأريحية. فإذا فترتم فاقعدوا؛ فإنكم إذا مللتم عن العبادة وأتيتم بها علي كلال وفتور، كانت معاملة الله معكم حينئذ معاملة الملول عنكم. ((تو)): إسناد الملا إلي الله تعالي علي طريقة الازدواج والمشاكلة، والعرب تذكر أحد اللفظين موافقة للأخرى, وإن خالفها معنى، قال الله تعالي: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. قال الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن المستعد أن يفتخر ذو عقل بجهل. وإنما أراد فنجازيه بجهله. ونعاقبه علي سوء صنيعه. ووجه آخر: وهو أن الله لا يمل أبداً وإن مللتم، وذلك نظير قولهم: فلان لا ينقطع حتى ينقطع خصمه، أي لا ينقطع بعد انقطاع خصمه، بل يكون علي ما كان عليه قبل ذلك. قال بعضهم في تفسير قوله تعالي: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً}: هذا غير مفتقر إلي

1244 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليصل أحدكم نشاطه، وإذا فتر فليقعد)) متفق عليه. 1245 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلي وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه)) متفق عليه. 1246 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر ولن يشاد ـــــــــــــــــــــــــــــ التأويل؛ لأن الحياء مسلوب عنه تعالي، فهو كقولك: إنه تعالي ليس بجسم ولا عرض. أقول: وفيه نظر، حققناه في فتوح الغيب. الحديث الرابع عن أنس: قوله: ((نشاطه)) ((شف)): جاز أن يكون ((نشاطه)) بمعنى الوقت، وأن يراد به الصلاة التي نشط لها. ((مظ)): يعني ليصل الرجل عن كمال الإرادة والذوق، فإنه في مناجاة ربه، فلا تجوز المناجاة عند الملال. وأقول: يجوز أن يكون نصبه علي المصدر من حيث المعنى؛ لأن المأمورين هم ((المؤمنون)) ((الذين هم في صلاتهم خاشعون)). فلا تصدر منهم الصلاة إلا عن وفور نشاط وأريحية، يعني انشطوا في صلاتكم النشاط الذي يعرف منكم ويليق بحالكم وبمناجاة ربكم، فإذا عرض لكم الفتور أحياناً فاقعدوا. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا يدري)) مفعوله محذوف، أي لا يدري ما يفعل، وما بعده مستأنف بيان. والفاء في ((فيسب)) للسببية، كاللام في قوله تعالي: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا}. قال المالكي: يجوز في ((فيسب)) الرفع باعتبار عطف الفعل علي الفعل، والنصب باعتبار عل ((فيسب)) جواباً لـ ((لعل)) فإنها مثل ليت في اقتضائها جواباً منصوباً. ونظيره قوله تعالي: {لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} نصبه عاصم، ورفعه الباقون. انتهي كلامه. أقول: النصب أولي؛ لما مر، ولأن المعنى: لعله يطلب من الله تعالي الغفران لذنبه ليصير مزكى مطهراً، فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان علي العصيان، وكأنه قد سب نفسه. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((إن الدين يسر)) الشارحون: المعنى أن دين الله

الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي، وشريعته التي أمر بها عباده واختار لهم مبنية علي اليسر والسهولة، كما قال تعالي: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} فمن شدد علي نفسه، وتعمق في أمر الدين مما لم يوجب عليه، كما هو دأب الرهبإنية يغلب ويضعف عن القيام. وسدد الرجل: إذا لزم الطريقة المستقيمة. و ((الفاء)) جواب شرط محذوف يعني إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن في العزيمة والفترة عن العمل ((فسددوا)) أي اطلبوا بنياتكم السداد وهو القصد المستقيم الذي لا ميل فيه. ((وقاربوا)) تأكيد للتسديد من حيث المعنى، يقال: قارب فلان في أموره، إذا اقتصد. و ((الغدوة)) المرة من الغدو، وهو سير أول النهار نقيض الرواح. و ((الغدوة)) بالضم ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. و ((الدجلة)) بالضم والفتح: اسم من أدلج بالتشديد، إذا سار من آخر الليل، استعيرت هذه الأوقات الثلاثة للصلاة فيها في قوله تعالي: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل}؛ لأنها سلوك وانتقال من العادة إلي العبادة، ومن الطبيعة إلي الشريعة، ومن الغيبة إلي الحضور. وأقول: قوله: ((يسر)) خبر ((إن)) مصدر وضع موضع اسم المفعول مبالغة. والتنكير فيه للتقليل، كما في ((شيء)) في قوله: ((وشيء من الدلجة)) أي لا ينبغي أن يحمل النفس السهر في سائر الليل بل يكتفي بشيء منه. وأما بناء المفاعلة في ((يشاد)) فليس للمغالبة، بل للمبالغة، نحو طارقت النعل، وهو من جانب المكلف، ويحتمل أن يكون للمغالبة علي سبيل الاستعارة، وفي وضع المظهر موضع المضمر وهو ((الدين)) تتميم لمعنى الإنكار، أي لن يبالغ في تشديد الدين الميسور أحد إلا صار مغلوباً حيث كابر الميسر، ويقال: أمره وقصده أن يغلب عليه بالزيادة فيعود مغلوباً بما أفرط. وعطف ((ولن يشاد)) علي الجملة الأولي لإرادة حصول الجملتين في الوجود، وتفويض ترتب الثانية علي الأولي إلي ذهن السامع، يعني إذا شرع الدين علي السهولة واليسر، فلا ينبغي أن يشاد فيه، فمن شاد صار مغلوباً. والمستثنى منه أعم عام الأوصاف، أي لم يحصل، ولم يستقر ذلك المشاد علي وصف من الأوصاف إلا علي وصف المغلوبية. وأما معنى البشارة فكأنه قيل: أبشروا معاشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً، بأن الله تعالي رضي لكم الكثير من الأجر بالعمل القليل دون سائر الأمم، كما عليه الحديث المشهور. ((حس)): في الحديث الأمر بالاقتصاد في العبادة وترك التشديد علي النفس مما يثقلها؛ لأن الله تعالي لم يعبد خلقه بأن ينتصبوا آناء الليل وأطراف النهار فلا يستريحوا، بل أوب عليهم وظائف في وقت دون وقت. وعن محمد بن المنكدر مرسلاً يرفعه: إن هذا الدين متين، فأوغل

1247 - عن عمر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كتب له كأنما قرأه من الليل)) رواه مسلم. 1248 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلي جنب)) رواه البخاري. 1249 - وعنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً. قال: ((إن صلي قائماً فهو أفضل، ومن صلي قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلي نائماً فله نصف أجر القاعد)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ برفق، ولا تبغضن إلي نفسك عبادة الله، وإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وقال ابن مسعود: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. الحديث السابع عن عمر: قوله: ((عن حزبه)) ((نه)): وهو ما يجعله الرجل علي نفسه من قراءة أو صلاة كالورد، والحزب النوبة في ورود الماء. ((مظ)): إنما خص قبل الظهر بهذا الحكم؛ لأنه متصل بآخر الليل بغير فصل، سوى صلاة الصبح. ولهذا لو نوى الصائم قبل الزوال صوم نافلة جاز، وبعده لم يجز. وأقول: قوله: ((كتب له)) جواب للشرط، و ((كأنها)) صفة مصدر محذوف، أي من فاته ورده في الليل، وتداركه في هذا الوقت، أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتاً مثل إثباته حين قرأه من الليل. الحديث الثامن والتاسع عن عمران: قوله: ((صلاة الرجل قاعداً)) ((حس)): الحديث الثاني وارد في صلاة التطوع، لأن أداء الفرائض قاعداً مع القدرة علي القيام لا يجوز، فإن صلي القادر صلاة التطوع قاعداً، فله نصف أجر القائم. قال سفيان الثوري: أما من له عذر من مرض أو غيره، فصلي جالساً، فله مثل أجر القائم. وهل يجوز أن يصلي التطوع نائماً مع القدرة علي القيام أو القعود؟ فذهب بعض إلي أنه لا يجوز، وذهب قوم إلي جوازه، وأجره نصف أجر القاعد وهو قول الحسن. وهو الأصح والأولي، لثبوت السنة فيه. ((مح)): وصلاة الفرض قاعداً مع قدرته علي القيام لم يصح، بل يأثم فيه، قال: وإن استحل كفر، وجرت عليه أحكام المرتدين. قوله: ((نائماً)) أي مضطجعاُ.

الفصل الثاني 1250 - عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أوى إلي فراشه طاهراً، وذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله فيها خيراً من خير الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه أياه)) ذكره النووي في ((كتاب الأذكار)) برواية ابن السني. [1250] 1251 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلي صلاته، فيقول الله لملائكته انظروا إلي عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلي صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الانهزام وماله في الرجوع، فرجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلي عبدي رجع رغبة فيما عندي، شفقاً مما عندي حتى هريق دمه)) رواه في ((شرح السنة)). [1251] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((أوى)) ((نه)): أوى وآوى بمعنى واحد، يقال: أويت إلي المنزل، وآويت غيري، وأويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: وهي لغة فصيحة، ومن المقصور اللازم في الحديث: ((أما أحدكم فأوى إلي الله)) أي رجع، ومن الممدود قوله: ((الحمد لله الذي كفانا وآوانا، أي ردنا إلي مأوانا يعني منزلنا. قوله: ((يسأل الله)) حال من فاعل ((يتقلب))، وقوله ((إلا أعطاه إياه)) أيضاً حال من فاعل ((يسأل)) وجاز؛ لأن الكلام في سياق النفي، يعني لا يكون للسائل حال من الأحوال إلا كونه معطي إياه ما طلب فلا يخيب. هذا علي أن يكون المفعول الأول ضمير السائل، وأما إذا قدم المفعول الثاني علي الأول اهتماماً بشأن الخير، يجوز أن يكون صفة لـ ((خير))، أو حالاً عنه؛ لاتصافه بقوله: ((من خير الدنيا والآخرة)) فالمعنى لم يكن يتجاوز الدعاء لخير الدارين من الاستجابة إلي الخيبة.

الفصل الثالث 1252 - عن عبد الله بن عمرو، قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة)). قال: فأتيته فوجدته يصلي جالساً، فوضعت يدي علي رأسه. فقال: ((مالك يا عبد الله بن عمرو)). قلت: حدثت يا رسول الله! أنك قلت: ((صلاة الرجل قاعداً علي نصف الصلاة)) وأنت تصلي قاعداً. قال: ((أجل، ولكني لست كأحد منكم)) رواه مسلم. 1253 - وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابو ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها)) رواه أبو داود. [1253] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((عجب ربنا)) ((نه)): أي عظم ذلك عنده، وكبر لديه. إطلاق التعجب علي الله مجاز؛ لأنه لا يخفي عليه أسباب الأشياء. والتعجب تغيير يعتري إنسان من رؤية ما خفي عليه سببه. وقيل: ((عجب ربنا)) أي رضي وأثاب. والأول أوجه؛ لقوله تعالي للملائكة: ((انظروا إلي عبدي)) علي سبيل المباهاة. قوله: ((شفقاً)) ((نه)): أي خوفاً، يقال: أشفقت أشفق إشفاقاً، وهي اللغة الغالبة وحكى ابن دريد: أشفق إشفاقاً. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((علي نصف الصلاة)) أي تقاس صلاة الرجل حال قعوده علي نصف صلاته حال قيامه. قوله: فوضعت يدي علي رأسه)) فإن قلت: أليس هذا علي خلاف ما يجب عليه من توقيره صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لعل لك صدر لا عن قصد منه، وإنه لما وجده صلى الله عليه وسلم علي خلاف ما حدث عنه من قوله: ((صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة)) استغرب ذلك واستبعده، فأراد تحقيق ذلك فوضع يده علي رأسه، ولذلك أنكر صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مالك يا عبد الله بن عمرو)) فسماه ونسبه إلي أبيه. وكذا قول عبد الله في الجواب: ((وأنت تصلي قاعداً)) فإنه حال مقررة لجهة الإشكال، ونحوه قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك}. وقوله: ((أجل)) قول بالموجب وتقرير لما قال. قوله: ((ولكني لست)) إشارة إلي بيان الفرق بينه وبين غيره، ورفع لجهة الإشكال والاستغراب. الحديث الثاني عن سالم: قوله: ((عابوا ذلك)) أي تمنيه الاستراحة في الصلاة وهي شاقة علي

(35) باب الوتر

(35) باب الوتر الفصل الأول 1254 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشى أحدكم الصبح؛ صلي ركعة واحدة، توتر له ما قد صلي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ النفس وثقيلة عليها، لعلهم نسوا قوله تعالي: {وإنها لكبيرة إلي علي الخاشعين}. قوله: ((أرحنا بها)) ((نه)): ي أذن بالصلاة، نسترح بأذانها من شغل القلب بها. وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالي؛ ولهذا قال: ((وقرة عني في الصلاة)) وما أقرب الراحة من قرة العين. يقال: أراح الرجل واستراح إذا رجعت نفسه إليه بعد الإعياء. باب الوتر الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مثنى مثنى)) أتى بالثاني تأكيداً، لأن الأول مكرر معنى، ولذلك امتنع من الصرف. ((الكشاف)): وإنما لم ينصر؛ لتكرار العدل فيها قال الزجاج: أحدهما أنه معدول عن اثنين اثنين، والثاني أن عدله وقع في حال التكرر. وزعم سيبويه: أن عدم الصرف للعدل والصفة. ((الكشاف)): وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها، فلا يعرج عليها، يعني لو كانت الوصفية مؤثرة في المنع من الصرف، لقلت: مررت بنسوة أربع مفتوحاً، فلما صرفته علم أنها ليست بمؤثرة، فالوصفية ليست بأصل، لأن الواضع لم يضعها لتقع وصفاً بل عرض لها ذلك، نحو مررت بحية ذراع، ورجل أسد، والذراع والأسد ليسا بوصفين للحية والرجل حقيقة، وقيل: يفترق الحال فيها فإن مثنى وغيرها تقع صفة البتة، والثلاثة وغيرها وقوعها صفة بالتأويل، تقول: رجال ثلاثة، أي مقدر بثلاثة. وأجيب عنه: بأن مثنى وثلاث لا تخلو من أن تكون موضوعاً للصفة من غير اعتبار الاثنين والثلاثة، أو لا تكون. فإن كان الأول لم يكن فيه العدد، والمقدر خلافه، وإن كان الثاني كان الوصف عارضاً لمثنى وثلاث، كما كان عارضاً لاثنين وثلاثة. قوله: ((يوتر له)) ((نه)): الوتر الفرد، تكسر واوه، وتفتح. وفي الحديث: ((أوتر)) أمر بالصلاة

1255 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوتر ركعة من آخر الليل)) رواه مسلم. 1256 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها. متفق عليه. 1257 - وعن سعد بن هشام، قال: انطلقت إلي عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلي. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة، ويضيفها إلي ما قبلها من الركعات، فعلي هذا في تركيب هذا الحديث إسناد مجازي حيث أسند الفعل إلي الركعة، وجعل الضمير في ((له)) للمصلي، وكان الظاهر أن يقال: يوتر المصلي بها ما قد صلي. وفي قوله: ((يوتر له)) إشارة إلي أن جميع ما صلي وتر. ((مظ)) قل الشافعي رضي الله عنه: يسلم في صلاة الليل والنهار من كل ركعتين غير الفريضة؛ روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صلاة الليل مثنى والنهار مثنى مثنى)). وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم: إن صلاة الليل مثنى، وصلاة النهار يسلم عن أربع. والله أعلم. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((ركعة من آخر الليل)) خبر موصوف أي ركعة منشأة من آخر الليل، أي آخر وقتها آخر الليل. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((يصلي من الليل)) أي بعضه. ومذهب مالك أن من أوتر من أول الليل ثم تهجد في آخره، يعيد الوتر. الحديث الرابع عن سعد: قوله: ((يا أم المؤمنين)) هو من قوله تعالي: {وأزواجه أمهاتهم} شبههن بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن، وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات. قوله: ((فإن خلق النبي الله القرآن)) في الإحياء: أرادت عائشة رضي الله عنها بقولها: ((كان خلقه القرآن)) مثل قوله تعالي {خذ العفو} الآية، وقوله تعالي: {إن الله يأمر بالعدل

فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ـــــــــــــــــــــــــــــ والإحسان وإيتاء ذي القربى} وقوله تعالي: {واصبر علي ما أصابك} وقوله تعالي: {فاعف عنهم واصفح} وقوله تعالي: {ادفع بالتي هي أحسن} وقوله تعالي: {والكاظمين الغيظ} وقوله تعالي: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن} من الآيات الدالة علي تهذيب الأخلاق الذميمة، وتحصيل الأخلاق الحميدة. وقال شيخنا شيخ الإسلام في ((العوارف)): قوله رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) فيه سر كبير غامض، وذلك أن النفوس مجبولة علي طبائع وغرائز من البهيمية، والسبعية، والشيطنة، والله تعالي بعظيم عنايته نزع نصيب الشيطان منه صلوات الله عليه؛ لقوله تعالي: {ألم نشرح لك صدرك}، ولحديث انشراح الصدر، وبعد هذا النزع بقيت للنفس الزكية النبوية بقايا صفات البشرية رحمة للخلق، فاستمدت البقايا من الصفات، لظهورها فيه صلوات الله عليه تنزيل الآيات المحكمات بإزائها لقمعها تأديباً من الله ورحمة له خاصة، وللأمة عامة، موزعاً نزول الآيات علي الأيام والأوقات عند ظهور الصفات. قال الله تعالي: {لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك} فلما تحركت النفس الشريفة عند كسر رباعيته وقال: ((وكيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم)) فأنزل الله تعالي: {ليس لك من الأمر شيء} فاكتسى القلب لباس الاصطبار، فلما توزعت الآيات علي ظهور الصفات وصفت الأخلاق النبوية بالقرآن ليكون خلقه القرآن. وكذا ورد: ((أنا أنسى لأسن)) تأديباً لنفوس الأمة وتهذيباً ورحمة. ووجه آخر: أن قولها رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) إيماء إلي التخلق بأخلاق الله تعالي، فعبرت عن المعنى بقولها ذلك استحياء من سبحات الجلال، وستراً للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها، وكمال أدبها. قوله: ((فبعثه الله)) ((نه)): أي يوقظه من نومه، يقال: انبعث فلان بشأنه، إذا سار ومضى ذاهباً لقضاء حاجته. فإن قلت: قد تقرر عند علماء المعإني: أن مفعول شاء وأراد لا يذكر في الكلام الفصيح إلا أن يكون فيه غرابة، نحو قول القائل: لو شئت أن أبكي دماً لبكيته، ولو شاء الله أن يتخذ ولداً، فأين الغرابة في قوله: ((شاء أن يبعثه))؟ قلت: كفي بلفظ البعث شاهداً علي

ويدعوه، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولي، فتلك تسع يا بني!. وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلي صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلي من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلي ليلة إلي الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان. رواه مسلم. 1258 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) رواه مسلم. 1259 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الغرابة، كأنه تعالي نبه حبيبه لقضاء نهمته من حبيبه مناغاة ومناجاة بينهما من مكاشفات وأحوال. قال تعالي: {فأوحى إلي عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأي} فأي غرابة أغرب من هذا. و ((ما)) موصولة والعائد محذوف، أي ما شاء فيه بمعنى المقدار، و ((من الليل)) بيانه. قوله: ((فيذكر الله ويحمده)) ((مظ)): أي يتشهد، فالحمد إذاً لمطلق الثاء؛ إذ ليس في التحيات لفظ الحمد. قوله: ((ثم يصلي ركعتين)) ((مح)): قال أحمد رضي الله عنه: لا أفعلهما ولا أمنع فعلهما، وأنكر مالك رضي الله عنه. قال الشيخ محيي الدين: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الوتر جالساً، لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز النفل جالساً، ولم يواظب علي ذلك، وأما رد القاضي عياض رواية هاتين الركعتين، فليس بصواب؛ لأن الأحاديث إذا صحت وأمكن الجمع بينهما، تعين. وقد جمعنا بينها. قوله: ((لا أعلم نبي الله)) هذا من باب نفي الشيء بنفي لازمه، ولا يسلك هذا الأسلوب إلا في حق من أحاط علمه بالمعلوم، ويتمكن منه تمكناً تاماً، وهذا في علم الله تعالي مطرد. قال تعالي: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} أي بما لم يوجد ولم يثبت؛ لأنه لو وجد لتعلق علم الله به. وكذلك الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنهما كانت مترقبة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلها ونهارها، وحضورها وغيبتها، مشاهدة ومسائلة، أي لم يكن يفعل المذكور إذا لو فعل لعلمته والله أعلم. الحديث الخامس والسادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بادروا الصبح بالوتر))

1260 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل)) رواه مسلم. 1261 - وعن عائشة، قالت: من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل، وأوسطه، وآخره، وانتهي وتره إلي السجر. متفق عليه. 1262 - وعن أبي هريرة، قال: أوصإني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي سارعوا. ((غب)): يقال: بادرت إليه، وبادرته. والبدر قيل: سمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع. وأقول: كأن الصبح تقدم إليك مسافراً طالباً منك الوتر، وأنت تستقبله مسرعاً بمطلوبه، وإيصاله إلي بغيته. ((حس)): ذهب بعض أهل العلم إلي أنه لا وتر بعد الصبح، وهو قول عطاء، وبه قال أحمد ومالك وذهب آخرون إلي أنه يقضيه متى كان، وهو قول سفيان الثوري، وأظهر قول الشافعي، لما وري أنه: ((من نام عن وتره فليصل إذا أصبح)). الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مشهودة)) يعني تشهدها ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، أو يشهدها كثير من المصلين في العادة. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من كل الليل)) ((من)) يجوز أن تكون تبعيضية منصوبة بـ ((أوتر)) و ((من)) الثانية بدل منها، لأن الليل إذا قسم ثلاثة أقسام يكون لكل قسم منها أجزاء، ويجوز أن تكون الثانية بياناً لمعنى البعضية، ويجوز أن تكون الأولي ابتدائية، والثانية بياناً لـ ((كل)). وهذا أوجه. ويعتبر لكل الأفراد بمنزلة اللام الاستغراقية، والثانية بدل، أو بيان. الحديث التاسع عن أبي هريرة: قوله: ((أن أوتر قبل أن أنام)) وكان مقتضى الظاهر أن يقول: والوتر قبل النوم؛ ليناسب المعطوف عيله، وأتى بـ ((أن)) المصدرية وأبرز الفعل، وجعله فاعلاً له اهتماماً بشأنه، وأنه أليق بحاله، لما خاف الفوت إن نام عنه، وإلا فإن الوتر في آخر الليل أفضل. ((مح)): الإيتار قبل النوم إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ في آخر الليل، فإن وثق فآخر الليل أفضل.

الفصل الثاني 1263 - عن غضيف بن الحارث، قال: قلت لعائشة: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة أم يخفت؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلت الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. رواه أبو داود، وروى ابن ماجه الفصل الأخير. [1263] 1264 - وعن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة. رواه أبو داود. [1264] 1265 - وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوتر حق علي كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1265] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن غضيف: قوله: ((الله أكبر الحمد لله)) دل الحمد لله علي أن السعة من الله تعالي في التكاليف نعمة، يجب تلقيها بالشكر. ((والله أكبر)) دل علي أن تلك النعمة عظيمة خطيرة؛ لما فيه من معنى التعجب. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((يوتر بأربع وثلاث)) إلي آخره ((مح)): هذا الاختلاف بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت، أو طول القراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود ((أو من مرض أو من كبر سن)) كما قالت: ((فلما أسن صلي سبع ركعات أو غيرها)). الحديث الثالث عن أبي أيوب: قوله: ((الوتر حق)) الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب،

1266 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن!)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1266] 1267 - وعن خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلي أن يطلع الفجر)) رواه الترمذي، وأبو داود. [1267] ـــــــــــــــــــــــــــــ ذهب أبو حنيفة إلي الثاني، والشافعي إلي الأول، أي ثابت في السنة والشرع، وفيه نوع تأكيد. ((حس)): أجمع أهل العلم علي أن الوتر ليس بفريضة، وهو سنة عند عامتهم. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال له: ((هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات كتبهن الله علي العباد، من جاء بهن لم ينقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة)). وقال أبو حنيفة: هو واجب، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا)). قوله: ((من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)) ((مح)): فيه دليل علي أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة. وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة ترد عليه. الحديث الرابع عن علي: قوله: ((إن الله وتر)) ((نه)): إن الله تعالي واحد في ذاته، لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته، فلا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله، فلا شريك له ولا معين. و ((يحب الوتر)) أي يثيب عليه ويقبله من عامله. ((قض)): وكل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم تكن له تلك المناسبة. قوله: ((فأوتروا)) ((تو)): أي صلوا الوتر. و ((الفاء)) جزاء شرط محذوف، كأنه قال: إذا هديتم إلي أن الله تعالي يحب الوتر، فأوتروا؛ فإن من شأن أهل القرآن أن يكدحوا في ابتغاء مرضاة الله وإيثار محابه ومراعاة حدوده والمراد بأهل القرآن المؤمنون الذين صدقوا القرآن، وخاصة من يتولي القيام بحفظه، وتلاوته، ومراعاة حدوده وأحكامه. أقول- والله أعلم -: لعل المناسبة لتخصيص النداء بأهل القرآن في مقام الفردإنية إنما كانت لأجل أن القرآن ما أنزل إلا لتقرير التوحيد، قال تعالي علي سبيل الحصر وتكريره: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} أي مقصور علي استئثار الله بالتوحيد كأنه قيل: إن الله واحد يحب الوحدة، فوحدوه يا أهل التوحيد. الحديث الخامس عن خارجة: قوله: ((أمدكم)) ((الكشاف)): هو مد الجيش وأمده إذا زاده،

1268 - وعن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن وتره فليصل إلي أصبح)) رواه الترمذي مرسلا. [1268] 1269 - وعن عبد العزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يقرآ في الأولي بـ {سبح اسم ربك الأعلي}، وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثالثة بـ {قل هو الله أحد} والمعوذتين. رواه الترمذي، وأبو داود. [1269] 1270 - ورواه النسائي عن عبد الرحمن بن أبزى. 1271 - ورواه أحمد عن أبي بن كعب. 1272 - والدارمي عن ابن عباس، ولم يذكروا ((والمعوذتين)). 1273 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواب وأمدها زادها ما يصلحها، مددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد. ((قض)): وروى ((زادكم)) وليس في الروايتين ما يدل علي وجوب الوتر؛ إذ الإمداد والزيادة تحتمل أن تكون علي سبيل الوجوب، وأن تكون علي طريقة الندب. وأقول: ((إن الله أمدك)) وارد علي سبيل الامتنان علي أمته مراداً به مزيد فضل علي فضل، كأنه قيل: إن الله تعالي فرض عليكم الصلوات الخمس ليؤجركم بها ويثيبكم عليها، ولم يكتف بذلك، فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحساناً علي إحسان وثواباً علي ثواب، وإليه لمح بقوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} ولفظة ((لك)) تدل علي اختصاص الوجوب به، فدل مفهومه علي أنه غير واجب علي الغير. قوله: ((حمر النعم)) ((مظ)): هي عند العرب أعز الأموال وأشرفها، فجعلت كناية عن خير الدنيا كله، كأنه قيل: هذه الصلاة خير لكم مما تحبون من عرض الدنيا وزينتها لأنها ذخيرة الآخرة، {والآخرة خير وأبقى}: ((والوتر)) يحتمل أن يكون مجروراً بدلاً من ((صلاة))، وأن يكون مرفوعاً خبر مبتدأ محذوف

كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [1273] 1274 - وعن أبي بن كعب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في الوتر قال: ((سبحان الملك القدوس)). رواه أبو داود، والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل [في آخرهن]. [1274] 1275 - وفي رواية للنسائي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: كان يقول إذا سلم: ((سبحان الملك القدوس)) ثلاثاً، ويرفع صوته بالثالثة. [1275] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس إلي الثامن عن الحسن: قوله: ((فيما أعطيت)) ((في)) فيه ليست كما هي في السوابق؛ لأن معناها: أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين، ومعناها في قوله: ((فيمن هديت اجعل لي نصيباً وافراً من الاهتداء معدوداً في زمرة المهتدين من الأنبياء والأولياء. و ((فيمن هديت)) متصل بالفعل علي سبيل المبالغة، أي أوقع هدايتي في زمرة من هديتهم، كقوله تعالي {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)). قوله: ((وقني شر ما قضيت)) فإن قلت: قد سبق أن القضاء م الله أخص من القدر؛ لأن القدر هو التقدير، والقضاء هو التفصيل والقطع، فما قطع وفصل كيف يتوقى منه؟ قلت: معناه: قني شر ما حكمت في تقديرك بقضائه، كما قيل: أفر من قضاء الله إلي قدره. الحديث التاسع عن أبي بن كعب: قوله: ((القدوس)) ((نه)): القدوس هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. وفعول- بالضم- من أبنية المبالغة ولم يجيء منه إلا قدوس، وسبوح، وذروح. قوله: ((يرفع صوته)) ((مظ)): هذا يدل علي جواز الذكر مع الصوت، بل علي الاستحباب إذا اجتنب الرياء إظهاراً للدين، وتعليماً للسامعين، وإيقاظاً لهم من رقدة الغفلة،

1276 - وعن علي رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك)) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [1276] الفصل الثالث 1277 - عن ابن عباس، قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه. وفي رواية: قال ابن أبي مليكة: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولي لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره. فقال: دعه فإنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 1278 - وعن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوتر حق، فمن لم ـــــــــــــــــــــــــــــ وإيصالاً لبركة الذكر علي مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان والحجر والمدر، وطلباً لاقتداء الغير به، وليشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته. وبعض المشايخ يختار إخفاء الذكر؛ لأنه أبعد من الرياء، وهذا يتعلق بالنية. الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: مضى شرحه في باب السجود مستقصى. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((هل لك في أمير المؤمنين)) نحو قوله تعالي: {هل لك إلي أن تزكى} أي هل لك رغبة إلي التزكية، وأن تتطهر من الشرك؟ ويقال: هل لك في كذا، وهل إلي كذا، كما تقول: هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه؟ فالاستفهام في الحديث بمعنى الإنكار، أي هل لك رغبة في معاوية وهو يرتكب هذا المنكر. ومن ثم أجاب ((دعه فإنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم)) فلا يفعل إلا ما رآه منه. أو هو فقيه أصاب في اجتهاده، وفيه شهادة من حبر الأمة لمعاوية وفضله، وصحبته، واجتهاده. الحديث الثاني عن بريدة: قوله: ((فليس منا)) ((من)) فيه اتصالية، كما في قوله تعالي: {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} وقوله: ((فإني لست منك ولست مني)) المعنى:

يوتر فليس منا. الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا. الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا)) رواه أبو داود. [1278] 1279 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر أو إذا استيقظ)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [1279] 1280 - وعن مالك، بلغه أن رجلاً سأل ابن عمر عن الوتر: أواجب هو؟ فقال عبد الله: قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوتر المسلمون فجعل الرجل يردد عليه، وعبد الله يقول: أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوتر المسلمون. رواه في ((الموطإ)). [1280] 1281 - وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من الفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قل هو الله أحد} رواه الترمذي. [1281] 1282 - وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمة، فخشي ـــــــــــــــــــــــــــــ فمن لم يوتر فليس بمتصل بنا، وبهدينا، وطريقنا، أي إنه ثابت في الشرع وسنة مؤكدة، كما قال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) والتكرار لمزيد تقرير حقيقته، وإثباته علي مذهب الشافعي، ولوجوبه علي مذهب أبي حنيفة رضي الله عنهما. {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات}. الحديث الثالث والرابع عن مالك: قوله: ((قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) تلخيص الجواب وتقريره: إني لا أقطع القول بوجوبه ولا بعدم وجوبه، لإني إذا أنظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، واظبوا عليه، ذهبت إلي الوجوب، وإذا فتشت نصاً دالا عليه نكصت عنه.

الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأي أن عليه ليلا، فشفع بواحدة، ثم صلي ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة. رواه مالك. [1282] 1283 - وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالساًن فيقرأ وهو جالس، فإذا بقى من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو قائم، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. رواه مسلم. 1284 - وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين. رواه الترمذي، وزاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس. 1285 - وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بواحدة. ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. رواه ابن ماجه. [1285] 1286 - وعن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا السهر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإذا قام من الليل، وإلا كانتا له)) رواه الدارمي. [1286] 1287 - وعن أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما {إذا زلزلت} و {قل يا أيها الكافرون} رواه أحمد. [1287] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن نافع: قوله: ((مغيمة)) أي مغطاة بالغيم ((نه)): يقال: أغمي علينا الهلال، وغمي، فهو مغمي ومغمي إذا حال دون رؤيته غيم. قوله: ((إن عليه ليلاً)) أي باق عليه، والتنكير في ((ليلا)) للنوع، وفيه سمة من التقليل. الحديث السابع إلي الحادي عشر عن ثوبان: قوله: ((إن هذا السهر جهد)) ورد اسم الإشارة لبيان مزيد تقرير معنى الجهد، كقوله: هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه

(36) باب القنوت

(36) باب القنوت الفصل الأول 1288 - عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو علي أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: ((سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد: اللهم أنج الوليد ابن الوليد، وسلمه بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها سنين كسني يوسف))، يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلاناً وفلاناً لأحياء من العرب، حتى أنزل الله: ((ليس لك من الأمر شيء) الآية. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا كانتا له)) ((إلا)) شرطية، يعني إن قام في الليل بعد ذلك فصلي فيه، وإن لم يقم كانتا كافيتين له. والله أعلم بالصواب. باب القنوت الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنج الوليد)) دعا بالنجاة لهؤلاء الثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أسراء في أيدي الكفار،. قوله: ((وأشدد وطأتك)) ((تو)): الوط في الأصل الدوس بالقدم، فسمي به الغزو والقتل، لأن من يطأ علي الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وإهانته، والمعنى أخذاً شديداً. قوله: ((واجعلها)) ((قض)): المضير للوطأة، أو للأيام وإن لم يجر لها ذكر. لما دل عليه المفعول الثاني الذي هو ((سنى)): جمع السنة التي بمعنى القحط، وهي من الأسماء الغالبة كالبيت والكتاب، و ((سنى يوسف)) السبع الشداد التي أصابهم فيها قحط. قوله: ((اللهم العن)) اللعن هو الطرد والبعد عن رحمة الله تعالي، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ((كيف يفلح قوم شجوا نبيهم))، وعدم الفلاح هو سوء الخاتمة، والموت علي الكفر. فقيل له: {ليس لك من الأمر شيء}. المعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إذا أسلموا، ويعذبهم إن أصروا علي الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. ((خط)): فيه دليل علي جواز القنوت في غير الوتر، وعلي أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء علي الكفار والظلمة لا يفسدها. ((مح)) اعلم أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائماً، وأما في غيرها ففيه ثلاثة أقوال، والصحيح المشهور أنه إذا نزلت نازلة، كعدو وقحط أو وبلاء وعطش وضرر ظاهر في المسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة وإلا فلا.

1289 - وعن عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، كان قبل الركوع أو بعده؟ قال قبله، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً، إنه كان بعث أناساً يقال لهم: القراء، سبعون رجلاً، فأصيبوا فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً يدعو عليهم. متفق عليه. الفصل الثاني 1290 - عن ابن عباس، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) من الركعة الآخرة، يدعو علي أحياء من بني سليم: علي رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه. رواه أبو داود. [1290] 1291 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه. رواه أبو داود، والنسائي. [1291] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عاصم: قوله: ((يقال لهم القراء)) ((تو)) كانوا من أوزاع الناس ونزاع القبائل ينزلون الصفة يطلبون العلم ويتعلمون القرآن، وكانوا ردأة للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة، وكانوا حقاً عمار المسجد، وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أهل نجد ليقرءوا عليهم القرآن ويدعوهم إلي الإسلام، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من سليم- وهم رعل، وذكوان وعصية- وقاتلوهم، فقتلوهم ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري من بني النجار، فإنه تخلص وبه رمق، فعاش حتى استشهد يوم الخندق، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أنس: قوله: ((ثم تركه)) ((حس)): أكثر أهل العلم علي أنه لا يقنت في الصلوات لهذا الحديث والذي بعده، وذهب قوم إلي أنه يقنت في الصبح وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما، حتى قال الشافعي: إن نزلت بالمسلمين نازلة قنت في جميع الصلوات. ويأول قوله: ((ثم تركه)) أي ترك اللعن والدعاء علي أولئك القبائل المذكورة في

1292 - وعن أبي مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: يأبت! إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر. وعثمان، وعلي، ههنا بالكوفة نحواً من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني! محدث. رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه. [1292] الفصل الثالث 1293 - عن الحسن: أن عمر بن الخطاب جمع الناس علي أبي بكر بن كعب، فكان ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث، أو تركه في الصلوات ولم يتركه في الصبح، بدليل ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: ((وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى فارق الدنيا)). الحديث الثالث عن أبي مالك: قوله: ((يأبت)) التاء فيها تاء التإنيث، وقعت عوضاً عن ياء الإضافة، والدليل عليه قلبها هاء في الوقف، وهذه الهاء في الذكر، كالتاء في قولك: حمامة ذكر وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. وجوز تعويضها من ياء الإضافة؛ لأنهما متناسبتان في أن كل واحدة منهما زيادة مضمومة إلي الاسم في آخره. وأما الكسرة فهي التي كانت قبل الياء في قولك: ((يا أبي)) - من الكشاف. قوله: ((ههنا بالكوفة)) ظرفان متعلقان بقوله: ((وعلي)) علي أن العطف محمول علي التقدير، لا الانسحاب، كما في الثلاثة الأول؛ لأن علياً رضي الله عنه وحده كان بالكوفة، أي صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنهم في المدينة مثلاً، وصليت، خلف علي رضي الله عنه ههنا بالكوفة خمس سنين. قوله: ((أكانوا)) بإثبات الهمزة في الترمذي وجامع الأصول، وبإسقاطها في نسخ المصابيح. وفي رواية ابن ماجه: ((فكانوا يقنتون في الفجر)). قوله: ((محدث)) ((مظ)): أي أحدثه التابعون،، ولم يقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قيل: لا يلزم من نفي هذا الصحابي نفي القنوت؛ لأنه شهادة بالنفي، وقد شهد جماعة بالإثبات، مثل الحسن، وأبي هريرة، وأنس، وابن عباس رضي الله عنهما، وصحبتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من صحبة هذا الصحابي، وهو طارق بن أشيم، فتكون شهادتهم أثبت. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن الحسن: قوله: ((في النصف الباقي)) في وصف شهر رمضان))،

(37) باب قيام شهر رمضان

يصلي بهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر تخلف فصلي في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي. رواه أبو داود. [1293] 1294 - وسئل أنس بن مالك عن القنوت. فقال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع. [وفي رواية: قبل الركوع] وبعده. رواه ابن ماجه. [1294] (37) باب قيام شهر رمضان الفصل الأول 1295 - عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلي فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس. ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم. فقال: ((مازال بكم الذي رأيت من صنيعكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولعلها هي صلاة التراويح. وفي قولهم: ((أبق)) إظهار كراهة منهم لتخلفه، فشبهوه بالعبد الآبق، كما في قوله تعالي: {إذا أبق إلي الفلك المشحون} سمي هرب يونس عليه السلام من قومه بغير إذن ربه إباقاً علي طريقة المجاز. ولعل تخلف أبي رضي الله عنه كان تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث صلاها بالقوم، ثم تخلف عنهم كما سيأتي بعد. باب قيام شهر رمضان الفصل الأول الحديث الأول عن زيد: قوله: ((مازال بكم)) ((مظ)): يعني أبداً رأيت شدة حرصكم في إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى خشيت إني لو واظبت عل إقامتها لفرضت عليكم فلم تطيقوها. فيه دليل علي أن التراويح سنة جماعة، وانفراداً. والأفضل في عهدنا الجماعة؛ لكسل الناس.

حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) متفق عليه. 1296 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه)). فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر علي ذلك، ثم كان الأمر علي ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر علي ذلك. رواه مسلم. 1297 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)). رواه مسلم. الفصل الأول 1298 - عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقم بنا شيئاً من ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: فيه أيضاً دلالة علي أن الجماعة في الصلاة المكتوبة فريضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واظب عليها، وحرض الناس عليها، والصحابة وافقوه ولم يتخلف عنها إلا المنافق، كما سبق. قوله: ((في بيته)) أي صلاته في بيته. وقوله: ((إلا الصلاة المكتوبة)) مستثنى منه. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((بعزيمة)) ((غب)): العزم، والعزيمة عقد القلب علي إمضاء الأمر. ((نه)): خير الأمور عزائمها: أي فرائضها التي عزم الله عليك بفعلها. قوله: ((من الصلاة ليالي رمضان إيماناً بالله وتصديقاً بأنه يقرب إليه، وطلب لوجه الله تعالي، غفر له سوابق الذنوب. ((مظ)): الاحتساب كالاعتداد من العد. وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله تعالي: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به. قوله: ((والأمر علي ذلك)) ((مظ)): أي علي ما كانوا عليه من أنهم ما قاموا رمضان بالجماعة غير الفريضة إلي أول خلافة عمر رضي الله عنه، ثم خرج الله عنه ليلة، فرأي الناس يصلون في المسجد التراويح منفردين. فأمر أبي بن كعب أن يصليها بالناس جماعة. الحديث الثالث: ظاهر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي ذر: قوله: ((لو نفلتنا)). ((نه)): أي زدتنا من الصلاة النافلة. سميت النوافل بها؛ لأنها زائدة علي الفرائض. ((شف)): والمعنى نتمنى أن تجعل قيام بقية الليل زيادة

الشهر حتى بقى سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل. فقلت: يا رسول الله! لو نفلتنا قيام الليل؟ فقال: ((إن الرجل إذا صلي مع الإمام حتى ينصرف؛ حسب له قيام ليلة)). فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقى ثلث الليل، فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قالت: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وروى ابن ماجه نحوه؛ إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر. [1298] 1299 - وعن عائشة، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فإذا هو بالبقيع، فقال: ((أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)). فقلت: يا رسول الله! إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. فقال: ((إن الله تعالي ينزل ليلة النصف من شعبان إلي السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ((ممن استحق النار)). قال الترمذي: سمعت محمداً- يعني البخاري- يضعف هذا الحديث. [1299] ـــــــــــــــــــــــــــــ لنا علي قيام الشطر. ((مظ)): أي لو زدت في قيام الليل علي نصفه لكان خيراً لنا. قوله: ((الفلاح)) ((مظ)): أصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحاً؛ إذا كان سبباً لبقاء الصوم ومعيناً عليه. ((قض)): الفلاح الفوز بالبغية. سمي بالسحور؛ لأنه يعين علي إتمام الصوم،. وهو الفوز بما قصده ونواه، أو الموجب للفلاح في الآخرة. وقوله: ((يعني السحور)) الظاهر: أنه من متن الحديث، لا من كلام المؤلف، يدل عليه ما أورده أبو داود في سننه عن جبير بن نفير عن أبي ذر رضي الله عنه، وذكر فيه: ((أنه قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور)). الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((أن يحيف الله)) الحيف: الجور والظلم، يعني ظننت إني ظلمتك، بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدى لمنصب الرسالة، وهو عند الله بمكانة عظيمة. وهذا معنى العدول عن الظاهر، وأن يقال: أظننت إني أحيف عليك، فذكر الله تمهيداً لذكر الرسول تنويهاً بشأنه، ووضع رسوله موضع الضمير للإشعار بأن الحيف ليس

1300 - وعن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة. رواه أبو داود. والترمذي. [1300] الفصل الثالث 1301 - عن عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلي المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر إني لو جمعت هؤلاء علي قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم علي أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون- يريد آخر الليل-، وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ من شيم الرسل. وقولها: ((إني ظننت)) إلي آخره أيضاً إطناب في الجواب، وعدول عن أن يجاب بنعم مزيداً للتصديق .. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أن ينزل)) إلي آخره استئناف بياناً لموجب خروجه من عندها، يعني خرجت لنزول رحمته علي العالمين، وخصوصاً علي أهل القبور من البقيع. الحديث الثالث عن زيد: قوله: ((في مسجدي هذا)) تتميم ومبالغة لإرادة الإخفاء فإن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعادل ألف صلاة في غيره من المساجد سوى المسجد الحرام وفيه إشعار بأن النوافل شرعت للقربة إلي الله تعالي، وإخلاصاً لوجهه، فينبغي أن تكون بعيدة عن الرياء، ونظر الخلق، والفرائض أسست لإشادة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، فهي جديرة بأن تقام علي رءوس الأشهاد. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((أوزاع)) ((نه)): أي متفرقون. أراد أنهم كانوا يتنفلون فيه بعد صلاة العشاء متفرقين، فقوله: ((متفرقون)) كعطف البيان لـ ((أوزاع)) وقوله: ((يصلي الرجل بصلاته الرهط)) أي يؤم الرجل جماعة دون العشرة. وقوله: ((نعمت البدعة هذه)) يريد بها صلاة التراويح؛ فإنه في حيز المدح، لأنه فعل من أفعال الخير وتحريض علي الجماعة المندوب إليها؛ وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قطعها إشفاقاً من أن تفرض علي أمته. وكان عمر رضي الله عنه ممن نبه عليها، وسنها علي

1302 - وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبي بن كعب، وتميماً الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد علي العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. رواه مالك. [1302] 1303 - وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان قال: وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأي الناس أنه قد خفف. رواه مالك. [1303] 1304 - وعن عبد الله بن أبي بكر. قال: سمعت أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور. وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه مالك. [1304] 1305 - وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((هل تدرين ما هذه الليلة؟ -يعني ـــــــــــــــــــــــــــــ الدوام، فله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم القيامة. قوله: ((إني لو جمعت)) وفي أصل المالكي: ((إني أرى)) قال: وفي ((أرى لو جمعت)) شاهد علي أن ((لو)) قد تعلقت بها أفعال القلوب. ومنه قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمي افتتلت نفسها وأظن لو تكلمت تصدقت)). قوله: ((والتي ينامون عنها أفضل)) تنبيه منه علي أن صلاة التراويح آخر الليل أفضل. وقد أخذ بذلك أهل مكة فإنه يصلونها بعد أن يناموا. الحديث الثاني عن السائب بن يزيد: قوله: ((إلا في فروع الفجر)) أي أوائله، وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه. الحديث الثالث عن الأعرج: قوله: ((يلعنون الكفرة)) لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالي من الشهر، ولم يهتدوا لما نزل الله فيه من الهدى والفرقان، استوجبوا بأن يدعي عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة. قوله: ((رأي الناس)) فاعل، و ((أنه قد خفف)) مفعوله الأول، والثاني محذوف، أي رأي الناس تخفيفه حاصلاً؛ ويجوز أن يستغني بـ ((أن)) وما بعدها عن المفعولين.

ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله؟ فقال ((فيها أن يكتب كل مولود [من] بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة، وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم)) فقالت: يا رسول الله! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالي؟ فقال: ((ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالي)) ثلاثاً. قلت: ولا أنت يا رسول الله!؟ فوضع يده علي هامته فقال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته)) يقولها ثلاث مرات. رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). 1306 - وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله تعالي ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) رواه ابن ماجه. [1306] 1307 - ورواه أحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي روايته: ((إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن عائشة: قوله: ((فيها أن يكتب كل مولود)) إلي آخره- وهو من قوله تعالي: {فيها يفرق كل أمر حكيم} من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمرهم منها إلي الأخرى القابلة. قوله: ((يرفع أعمالهم)) أي يكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في تلك السنة يوماً فيوماً. ولهذا سألت رضي الله عنها: ((ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالي؟)). والاستفهام علي سبيل التقدير، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها، يلزم من ذلك أحداً لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالي، فقرره صلى الله عليه وسلم بما أجاب وفي وضع اليد علي الرأس- والله أعلم- إشارة إلي افتقاره كل الافتقار إلي استنزال رحمة الله تعالي، وشمول الستر من رأسه إلي قدمه. ومعنى قوله: ((يتغمدني منه برحمته)) يلبسنيها ويسترني بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه، والهامة: الرأس. الحديث السادس والسابع عن أبي موسى: قوله: ((ليطلغ)) ههنا كينزل ومعناه علي ما سبق في التحريض علي قيام الليل في الفصل الأول في الحديث الرابع. قوله: ((مشاحن)) المشاحن المعادي. والشحناء العداوة. لعل المراد البغضاء التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة

(38) باب صلاة الضحى

1308 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالي ينزل فيها لغروب الشمس إلي السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلي فأعافيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)) رواه ابن ماجه. [1308] (38) باب صلاة الضحى الفصل الأول 1309 - عن أم هانئ، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، وصلي ثمإني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقالت في رواية أخرى: وذلك ضحى. متفق عليه. 1310 - وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلي القتل وربما ينتهي إلي الكفر. ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس، وكلاهما تهديد علي سيبل التغليظ. وقوله: ((مشاحن)) بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هما مشاحن وقاتل. قوله: ((فقوموا ليلها)) الظاهر يقتضي أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلي وضع المظهر موضع المضمر وجب أن يقال ليلة النصف، فأنث الضمير اعتباراً للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة. قوله: ((فأغفر له)) بالنصب علي جواب العرض، و ((من)) في ((من مستغفر)) زائدة بشهادة قرينته، والتقدير: ألا مستغفر يستغفر فاغفر له. باب صلاة الضحى المراد بالضحى وقت الضحى: وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، وتلقي شعاعها. الفصل الأول الحديث الأول عن أم هانئ- هو بهمزة بعد النون- واسمها فاختة بنت أبي طالب. قوله: ((غير أنه)) ((غير)) نصب علي الاستثناء. وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمإنينة في الركوع والسجود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد، ولم يخفف من الطمإنينة في الركوع والسجود. الحديث الثاني عن معاذة: قوله: ((كم كان)) أي كم ركعة، وهو مفعول مطلق لقوله:

صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله. رواه مسلم. 1311 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصبح علي كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعرف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) رواه مسلم. 1312 - وعن زيد بن أرقم، أنه رأي قوماً يصلون من الضحى، فقال: لقد ـــــــــــــــــــــــــــــ ((يصلي)). قوله: ((ويزيد)) عطف علي مقدر مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد. ((مظ)) أي يزيد ما شاء الله من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة. الحديث الثالث عن أبي ذر: قوله: ((يصبح)) في اسمه وجوه: أحدها: قوله: ((صدقة)) أي تصبح الصدقة واجبة علي كل سلامي. وثإنيها: ((من أحدكم)) علي مذهب من يرى زيادة ((من)) في الإثبات. والظرف خبرة و ((صدقة)) فاعل الظرف، أي يصبح أحدكم واجباً علي كل مفصل منه صدقة. وثالثها: مضمر اسمها ضمير الشأن والجملة الاسمية بعده مفسرة و ((من أحدكم)) صفة ((كل سلامي)) ويدل علي تقدير الوجوب قوله في حديث بريدة: ((فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة)). والفاء في قوله: ((فكل تسبيحة صدقة)) تفصيلية ترك ذكر تعدد كل واحد واحد من المفاصل، للاستغناء عنها بذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره. وفيه دليل علي أن العبد لم يوجب علي الله تعالي شيئاً من الثواب بعمله؛ لأن أعماله كلها لو قوبلت بإزاء ما وجب عليه من الشكر علي عضو واحد لم تف به. ((نه)): السلامي جمع سلامية هي الأنملة من أنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء. ويجمع علي سلاميات وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. وقيل: السلامي كل عظم مجوف من صغار العظام. قال أبو عبيدة: هو في الأصل عظم يكون في فرسن البعير، وكأن المعنى: علي كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. ((تو)): وفي معناه الحديث الآتي: ((خلق الإنسان علي ثلثمائة وستين مفصلاً، عليه أن يتصدق علي كل مفصل بصدقة)). ((قض)): المعنى أن كل عظم من عظام ابن آدم يصبح سليماً عن الآفات باقياً علي الهيئة التي يتم بها منافعه وأفعاله، فعليه صدقة شكراً لمن صوره، ووقاه عما يعيره ويؤذيه. قوله: ((ويجزئ)) ضبطناه بضم أوله وفتحه، والضم من الإجزاء، والفتح من جزأ يجزئ أي كفي. الحديث الرابع عن زيد بن أرقم: قوله: ((يصلون من الضحى)) ((من)) زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: ((لقد علموا)) فإنه جواب قسم محذوف، أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى، أي أوله ولم يصبروا حتى يدخل وقتها المختار، أي كيف يصلون في هذا الوقت مع علمهم أن الصلاة في غير هذا الساعة أفضل؟ وعلي هذا المعنى يجوز أن يجعل ((من)) ابتدائية ويكون الإنكار واقعاً علي إنشاء صلاة الضحى أول

علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)) رواه مسلم. الفصل الثاني 1313 - عن أبي الدرداء، وأبي ذر [رضي الله عنهما] قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عن الله تبارك وتعالي أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره)) رواه الترمذي. [1313] 1314 - ورواه أبو داود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفإني وأحمد عنهم. [1314] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقته. ويجوز أن تكون بيإنية، والمبين مقدر يدل عليه حديث أبي ذر: ((ركعتان يركعهما من الضحى)) أي من صلاة الضحى. قوله: ((صلاة الأوابين)) ((نه)): هو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلي الله تعالي بالتوبة. وقيل: المسبح. وقيل: المطيع. قوله: ((ترمض)) ((فا)): الرمضاء نحو البغضاء، وهي شدة حر الأرض من وقع الشمس علي الرمل وغيره. وقوله: ((ترمض الفصال)) أي إذا وجد الفصيل حر الشمس. مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن النفوس إلي الاستراحة، وتتهيأ فيه أسباب الخلوة، فيرد علي قلوب الأوابين من الأنس بذكر الله، وصفاء الوقت، ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه، وهذا الوقت مشابه للساعات المختارة في جوف الليل فتغتنم العبادة حينئذ. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي الدرداء وأبي ذر: قوله: ((أكفك آخره)) ((مظ)): أي شغلك وحوائجك، وأدفع عنك ما تركه بعد صلاتك إلي آخر النهار. وأقول: لعل الأنسب أن يقال: المعنى يا ابن آدم! فرغ بالك أول النهار، واشتغل بعبادتي حتى أفرغ بالك في آخر النهار بقضاء حوائجك، ودفع المضار عنك. الحديث الثاني عن بريدة: قوله: ((النخاعة في المسجد تدفنها)) وكان الظاهر أن يقال في

1315 - وعن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة))، قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)) رواه أبو داود. [1315] 1316 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي الضحى ثنتى عشرة ركعة؛ بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. 1317 - وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيراً؛ غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر)) رواه أبو داود. [1317] الفصل الثالث 1318 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حافظ علي شفعة الضحى؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [1318] ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواب: من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلي الخطاب العام اهتماماً بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب ينبغي أن يهتم بها. قوله: ((تجزئك)) أفرد، وكان الواجب التثنية، لكنه اعتبر الصلاة. الحديث الثالث والرابع عن أنس: قوله: ((لا نعرفه إلا من هذا الوجه)) أي لا نعرف إسناده إلا من هذا الوجه المذكور في الكتاب. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((شفعة الضحى)) ((نه)): يعني ركعتي الضحى من الشفع

1319 - وعن عائشة، أنها كانت تصلي الضحى ثمإني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتها. رواه مالك. [1319] 1320 - وعن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى تقول: لا يصليها. رواه الترمذي. [1320] 1321 - وعن مروق العجلي، قال: قلت لابن عمر: تصلي الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخاله. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الزوج، ويروى بالفتح والضم، كالغرفة والغرفة، وإنما سمى شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال العتبى: الزوج، ولم أسمع به مؤنثاً إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتإنيثه إلي الفصلة الواحدة، أو إلي الصلاة. وأقول: يمكن أن يقال: إنه تعالي أقسم بقوله: ((الشفع والوتر)) بصلاة الضحى حين ترمض الفصال، والوتر حين هدوء الناس، لتلك العلة المذكورة في حديث زيد بن أرقم. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((لو نشر لي)) ((نه)) قال: نشر الميت ينشر نشوراً إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أي أحياه. وأقول: هو من باب التعليق بالمحال. ولذلك خصته بقولها: ((لي)) أي لو فرض إحياؤهما لي لم أتركها، فكيف وأن ذلك محال عادة؟ أي لا أدع هذه اللذة لتلك اللذة. الحديث الثالث والرابع عن مروق: قوله: ((لا إخاله)) أي لا أظنه. ((نه)) يقال: خلت أخال بالفتح والكسر، والكسر أفصح وأكثر استعمالاً، والفتح القياس. ((حس)): كره بعضهم صلاة الضحى، روى عن عائشة أنها سئلت أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ فقالت: لا إله أن يجيء من مغيبه. وروي أنها أيضاً أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط. وروي عن أبي بكرة: أنه رأي أناساً يصلون صلاة الضحى، فقال: أما إنهم يصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عامة أصحابه. وكان ابن عمر إذا سئل عن سبحة الضحى، قال: لا آمر بها ولا أنهي عنها. ((مح)): أما الجمع بين حديثي عائشة رضي الله عنها في نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى، وإثباتها في حديث غيرها، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بعض

(39) باب التطوع

(39) باب التطوع الفصل الأول 1322 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة)). قال: ما عملت عملاً أرجى عندي إني لم أتطهر طهوراً من ساعة من ليل ولا نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأوقات لفضلها، ويتركها في بعضها خشية أن تفرض. ويشبه أنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر عندها في وقت الضحى إلا نادراً ويصليها في المسجد أو غيره. وإذا كان عند نسائه، وكان لها يوم من تسعة أيام، ولم يصل فيه، يصح قولها: ((ما رأيته يصليها)) أو يقال: قوله: ((ما كان يصليها)) أي يداوم عليها. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى: هي بدعة، فمحمول علي أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونه بدعة، لأن أصلها أن تصلي في البيوت، أو يقال: إن المواظبة عليها بدعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليها خشية أن تفرض. وهذا في حقه صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت استحباب المواظبة في حقنا لحديث أبي الدرداء وغيره. أو يقال: إن ابن عمر لم يبلغه فعل النبي صلى الله عليه وسلم للضحى وأمره بها. وكيف كان فجمهور العلماء علي استحباب الضحى انتهي كلام الشيخ محيي الدين. باب التطوع الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((بأرجى عمل)) ((قض)): أرجى من أسماء التفضيل التي بنيت للمفعول، نحو قولك: فلان أشهر من فلان؛ فإن قياس ((أفعل)) أن لا يبنى للمفعول، وقد بنيت هذه اله؛ فإن العمل مرجو به الثواب، وعلو الدرجة، ويجوز أن تكون إضافته إلي العمل؛ لأنه سبب الرجاء، فيكون المعنى: حدثني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قوله: ((دف نعليك)) ((تو)): أي حسيسهما عند المشي فيهما، وأراه أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربة بجناحيه ودفتيه، أي بجنبتيه، فيسمع لهما حسيس. قوله: ((ما كتب لي)) أي ما قدر علي، وهذه اللفظة وإخراج التركيب علي سبيل الحصر يدل علي استحبابه في جميع الأوقات وتوكيده. وقيل: ((كتب)) يحمل علي الوجوب. ((شف)): هذا

1323 - وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: في ـــــــــــــــــــــــــــــ يدل علي جواز إيقاعهما في الأوقات المكروهة. ((مظ)): هذا لا يدل علي تفضيل بلال علي العشرة المبشرة فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما سبقه للخدمة، كما يسبق العبد سيده، وسؤاله تطييب لقلبه بإخباره باستحقاقه الجنة؛ ليداوم عليها، ولإظهار رغبة السامعين. ((تو)): هذا شيء كوشف به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب في نومه، أو يقظته، ونرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلي العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وبلوغ الندب إليه. وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلي العمل، أي تعمل قبل ورود أمري عليك. أقول: هذا التأويل لا ينافي قوله تعالي: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} كما أن التقدم بين يدي الرجل خارج عن صفة المتابع المنقاد، جعله تصويراً للهجنة فيما نهوا عنه من الإقدام علي ما يحكمان به؛ لأن الآية واردة في النهي عما لا يرضي الله تعالي ورسوله به، كما يشهد له سبب النزول. والحديث ليس كذلك؛ ومن ثم قرره علي ذلك، واستحمده عليه. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((أستخيرك)) ((نه)): الاستخارة طلب الخير في الشيء، وهي استفعال من الخير، ضد الشر. وقوله: ((أستقدرك)) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة. وقوله: ((فاقدره)) أي اقض به وهيئة. وأقول: قوله: ((من غير الفريضة)) بعد قوله: ((كما يعلمنا السورة من القرآن)) يدل علي الاعتناء التام البالغ حده بالصلاة والدعاء، وأنهما تلوان للفريضة والقرآن. و ((الباء)) في قوله: ((بعلمك، وبقدرتك)) يحتمل أن تكون للاستعانة، كما هي في قوله تعالي: {بسم الله مجريها ومرساها} أي إني أطلب خيرك مستعيناً بعلمك، فإني لا أعلم فيم خيرتي، وأطلب منك القدرة، فإني لا حول لي ولا قوة إلا بك، وأن تكون للاستعطاف كما في قوله: {رب بما

عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم ارضني به))، قال: ((ويسمي حاجته)). رواه البخاري. الفصل الثاني 1324 - عن علي [رضي الله عنه] قال: حدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله؛ إلا غفر الله له، ثم قرأ: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم))). رواه الترمذي، وابن ماجه؛ إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية. [1324] ـــــــــــــــــــــــــــــ أنعمت علي} كأنه قيل: اللهم إني أطلب منك الخير بحق علمك الشامل لكل الخيرات، وأطلب منك القدرة بحق تقديرك المقدورات أن تيسرهما علي، ثم باركهما لي. ثم عم الطلب بقوله: ((واقدر لي الخير حيث كان)) ثم ختم الدعاء بقوله: ((ثم ارضني به)) ورضي العبد ورضي الرب متلازمان، بل رضي العبد مسبوق برضي الله، ورضوان الله جماع كل الخير، وإن اليسير منه خير من الجنان. قوله: ((ويسمي)) يجوز أن يكون حالا من فاعل ((يقل)) أي فليقل هذا الكلام مسمياً حاجته، أو عطف علي ((ليقل)) علي التأويل؛ لأنه في معنى الأمر. وعلي التقديرين يوجب الجمع بين المقول والتسمية اهتماماً بالمطلوب علي سبيل الإجمال والتفصيل، نحو قوله تعالي: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} المشار إليه بـ ((ذلك)) ما في الذهن، و ((الأمر)) بيانه، وهو أيضاً مبهم، ففسره بقوله: {أن دابر هؤلاء مقطوع}. الفصل الثاني الحديث الأول عن علي: قوله تعالي: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} عطف

1325 - وعن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي. رواه أبو داود. [1325] 1326 - وعن بريدة، قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالا، فقال: ((بم سبقتني إلي الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي)). قال: يا رسول الله! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بهما)) رواه الترمذي. [1326] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي ((للمتقين)) أي أعدت للمتقين، والتائبين. وقوله: ((أولئك)) إشارة إلي الفريقين. وقوله: ((فاحشة)) أي فعلة متزايدة القبح ((أو ظلموا أنفسهم)) أي أذنبوا أي ذنب كان يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة الزنى، وظل النفس ما دونه من القبلة واللمس ونحوهما. وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة. ((ذكروا الله)) تذكروا عقابه، أو وعيده، فخافوا واستغفروا، فتابوا توبة نصوحاً. أقول: ((وذكروا الله)) يجب أن يحمل علي الصلاة، كما في قوله تعالي: {فاسعوا إلي ذكر الله} ليطابق لفظ الحديث: وهو قوله: ((ثم يصلي ثم يستغفر الله)). فإن قلت: ما الفرق بين ((الفاء)) التنزيلية، و ((ثم)) في الكلام النبوي، في قوله تعالي: ((فاستغفروا)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم يستغفر الله)) فإنهما متضادان؟ قلت: في التنزيل مجرى بمعنى التعاقب علي مقتضى الظاهر، وفي الحديث لتراخي الرتبة وإن كانت الصلاة أعلي رتبة من الاستغفار؛ لأن المطلوب بالذات في هذا المقام هو الاستغفار وذكر الصلاة كالوسيلة إلي قبول التوبة، ومآل المعنيين إلي أمر واحد. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((إذا حزبه أمر صلي)) ((نه)): أي إذا نزل به هم، أو أصابه غم صلي، نحوه قوله تعالي: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) أي استعينوا علي البلايا والنوائب بالصبر عليها، والالتجاء إلي الصلاة عند وقوعها. عن ابن عباس: أنه نعي إليه أخوه قثم- وهو في سفر- فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلي ركعتين، ثم قرأ ((واستعينوا بالصبر والصلاة)). الحديث الثالث عن بريدة: قوله: ((خشخشتك أمامي)) ((نه)): الخشخشة حركة لها صوت

(40) باب صلاة التسبيح

1327 - وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له حاجة إلي الله أو إلي أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن علي الله تعالي، وليصل علي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضي إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)) رواه الترمذي، وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [1327] (40) باب صلاة التسبيح 1328 - عن ابن عباس [رضي الله عنهما] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: ((عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أخبرك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك؛ غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره. سره وعلإنيته: أن تصلي أربع ركعات. تقرأ في كل ركعة ـــــــــــــــــــــــــــــ كصوت السلاح. قوله: ((رأيت أن لله علي)) أي ظننت أن الله أوجب علي ركعتين، هذه كناية عن استدامته، ومواظبته عليهما. وقوله: ((بهما)) أي نلت ما نلت بسبب الركعتين بعد الوضوء وبعد الأذان، عليك بهما، أو استمسك بهما، ومضى شرحه في الفصل الأول من هذا الباب. الحديث الرابع عن عبد الله بن أبي أوفي: قوله: ((موجبات رحمتك)) أهي جمع ((نه)): هي جمع موجبة، وهي الكلمة التي أوجبت لقائلها الجنة وحقيقتها. قوله: ((عزائم مغفرتك)) ((نه)): أي أسألك أعمالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. صلاة التسابيح الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((يا عباس)) ((تو)): الحديث علي ما هو في المصابيح غير مستقيم، قد سقط عنه كلمات لا يعرف يدونها معناه، إحداها قوله: ((أفعل بك)) والرواية الصحيح ((أفعل لك))، وثإنيها سقطت بعد قوله: ((أوله)) ((وآخره قديمة وحديثة))، وثالثها سقط ((عشر خصال)) بعد قوله: ((سره وعلإنيته)). إذا تقرر هذا فنقول: قوله: ((ألا أمنحك)) المراد من

فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة، ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشراً، ثم تهوى ساجداً، فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد ـــــــــــــــــــــــــــــ المنحة الدلالة علي فعل ما تفيده الخصال العشر. وعلي هذا معنى جميع ما قرن معه من الألفاظ. وإنما أعاد القول بألفاظ مختلفة تقريراً للتأكيد، وتوطئة للاستماع إليه. وإنما أضاف فعل الخصال إلي نفسه في قوله: ((ألا أفعل لك)) لأنه الباعث عليها. والخصال العشر منحصرة في قوله: ((أوله وآخره)) إلي آخر ما ذكر في المصابيح من انضمام ((قديمه وحديثه)) إليها. فهذه الخصال العشر قد زادها إيضاحاً بقوله: ((عشر خصال)) بعد حصر هذه الأقسام. فمن نصب ((عشراً)) فالمعنى: خذها، أو دونك عشر خصال. فإن قيل: أليس الأول والآخر يأتيان علي القديم والحديث؟ وعلي هذا فما فائدة هذه الألفاظ وتقسيمها علي عشر خصال؟ قلنا: معنى قوله: ((أوله وآخره)) مبتدأ الذنب ومنتهاه. ومعنى ((قديمه وحديثه)) ما قدم به عهده وحدث. وقوله: ((خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلإنيته)) فهذه الأقسام الثلاثة وإن كانت متداخلة؛ لأن الخطأ والعمد يأتيان علي سائر أقسام الذنب، وكذلك الصغير والكبير، والسر والعلإنية؛ لأن جنس الذنب لا يخلو عن أحد القسمين من جملة الأقسام المذكورة، ولكن كل قسمين متقابلين منها متفارقين عن الآخر في الحد والحقيقة. فالحكم الذي يختص بالخطأ غير الحكم الذي يختص بالعمد. والمؤاخذة التي تتعلق بالصغيرة غير التي تتعلق بالكبيرة. وكذلك السر والعلإنية. فإن قيل: الخصلة هي السجية الخلقية، أو المكتسبة، فتختص بمعنى محمود أو مذموم في نفس الإنسان، وهذه ليست كذلك. قلنا: قد يقال أيضاً لما تقع حاجة الإنسان إليه، لما روي ((ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء)) فسماها خصالاً وهي خارجة عن نفس الإنسان. ((حس)): ((عشر خصال)) مفعول تنازعت عليه الأفعال قبله، ومعنى قوله: ((أفعل بك عشر خصال)) أصيرك ذا عشر خصال. والمراد بها التسبيحات والتهليلات؛ لأنهما فيما سوى القيام عشر عشر. أقول- وبالله التوفيق -: معنى قوله: ((ألا أفعل بك)) ألا آمرك بما إن فعلته تصير ذا عشر خصال. فالمعطي والمخبر هو الآمر؛ لأنه سبب لأن يصير ذا عشر خصال. والعشر سبب لمغفرة الذنوب كلها بأسرها. والتكريم لتفخيم المعطي، والترغيب فيه؛ ليتلقاه المأمور بشراشره. والمشار إليه بـ ((ذلك)) في قوله: ((إذا أنت فعلت ذلك)) هو المأمور به العشر من قوله: ((أن تصلي))

فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات؛ إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل؛ ففي كل جمعة مرة، [فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة]، فإن لم تفعل ففي كل ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((تقرأ فاتحة الكتاب)) وقوله: ((وسورة)) وقوله: ((قلت سبحان الله في القيام)) وقوله: ((ثم تقولها وأنت راكع)) إلي قوله: ((فذلك خمس وسبعون)). وقوله: ((أوله وآخره)) قديمه وحديثه)) إلي آخره بدل من قوله: ((ذنبك)) علي معنى: لا أدع من ذنبك شيئاً يقع عليه اسم الذنب، فهو كناية عن التزكية التامة. فالمعنى: إذا أنت فعلت ما أمرتك به من الحسنة، فإن الله تعالي يمنحك عشر خصال، أولاها: محو سيئاتك كلها، ثم عد بعد ذلك إلي أن تنتهي الأشياء إلي عشر مما لا يعلمها إلا الله. ونظيره قوله تعالي: {ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيما} إلي آخر السورة. وذلك أنه تعالي عد بعد محو ما تقدم من ذنبه وما تأخر نعما لا تحصى دينية ودنيوية، ولأن التزكية مقدمة علي التحلية. وقوله: ((أن تصلي)) خبر مبتدأ محذوف، أي المأمور به: هو أن تصلي، فعلي هذا التقدير يتبين أن الرواية بالباء في قوله: ((ألا أفعل بك)) أظهر في المعنى من الرواية باللام؛ لأنه فعل عام خص بحسب المقام، وقرائن الأحوال بما ذكرناه، كما في قوله تعالي: {وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم}. قال الكلبي: قال للنبي صلى الله عليه وسلم أصحابه- وقد ضجروا من أذى المشركين -: حتى متى نكون علي هذا؟ فقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، أأترك بمكة أو أأمر بالخروج إلي المدينة، علي أن الرواية بالباء هي المثبتة هي الكتب المضبوطة في سنن أبي داود وابن ماجه. وظهر أن إدخال ((قديمة وحديثة)) وإخراجهما لا يضر بالمعنى. اللهم إلا أن يراد به مزيد الاستيعاب وأن ((عشر خصال)) جيء به لإتمام المعنى، لا لما قال، لاستغنائه عنه بقوله: ((عشر خصال)) أولاً. والله أعلم. ((مح)): في الأذكار: قال الإمام بن العربي في كتابه ((الأحوذي)) في شرح الترمذي: حديث أبي رافع هذا ضعيف، ليس له أصل في الصحة ولا في الحسن. وإنما ذكره الترمذي لينبه عليه لئلا يغتر به. قال: وقول ابن المبارك ليس بحجة. وقال العقيلي: ليس في صلاة التسبيح حديث ثبت. وذكر أبو الفرج الجوزي في كتاب الموضوعات أحاديث صلاة التسبيح وطرقها، ثم ضعفها كلها وبين ضعفها، وبلغنا عن الإمام أبي الحسن الدارقطني أنه قال: أصح شيء سمعناه في فضائل السور فضل ((قل هو الله أحد)) وفي فضائل الصلوات فضل صلاة التسبيح.

سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) [1328] 1329 - وورى الترمذي عن أبي رافع نحوه. [1329] 1330 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيام من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت قد خاب وخسر؛ فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب تبارك وتعالي: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ محيي الدين: لا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديث صلاة التسابيح صحيحاً، فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في الباب- وإن كان ضعيفاً- ومرادهم: أرجحه أقله ضعفاً. وقد نص جماعة من أئمة أصحابنا علي استحباب صلاة التسبيح منهم أبو محمد البغوي وأبو المحاسن الرويإني. قال: قال الرويإني في ((كتاب البحر)): إن صلاة التسبيح مرغب فيها، يستحب أن تعتاد في كل حين ولا يتغافل عنها. قال: هكذا قال عبد الله بن المبارك. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((فإن صلحت)) الصلاح: كون الشيء علي حالة استقامته، وكماله والفساد ضده. والفلاح: الفوز بالبغية، والمفلح كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، ولم تستغلق عليه، والنجح: إصابة ما احتيج إليه. فالثاني تكميل للأول، لأن ذا الحاجة عاجز، والمفلح مقتدر. وأنشد: ونحن التاركون لما سخطنا ونحن الآخذون لما رضينا وكذلك الخسار مقابل للفوز، كما أن الخيبة مقابلة للنجاح.

على ذلك)). في رواية: ((ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال علي حسب ذلك)) رواه أبو داود. [1330] 1331 - رواه أحمد عن رجل. [1331] 1332 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر علي رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلي الله بمثل ما خرج منه))، يعني القرآن. رواه أحمد، والترمذي. [1332] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإن انتقص)) قوبل الصلاح بالفساد تارة، وهو مقابل حقيقي، وبالنقصان أخرى وهو مقابل معنوي. ثم فرع علي النقصان قوله: ((ثم يكون سائر عمله علي ذلك)) أي علي أن الزكاة إن نقصت كملت بالصدقة، وكذلك الصوم والحج، هذا بالنظر إلي الكمال، وأما إذا نظر إلي الصلاح نفسه فلا؛ لأنه رتب عليه قوله: ((فقد أفلح وأنجح)) وذلك أن الصلاة أم العبادات ومستتبعها وهي بمنزلة القلب من الإنسان، فإذا صلحت صلحت الأعمال، وإذا فسدت فسدت الأعمال. قوله: ((فيكمل بها)) أنت ضمير التطور نظراً إلي معنى الصلاة، والظاهر نصبه علي جواب الاستفهام علي أنه من كلام الله تعالي، ويؤيده رواية أحمد ((فكملوا بها فريضته)) وهو عطف علي ((انظروا)). الحديث الثالث عن أبي أمامة: قوله: ((ما أذن الله لعبد)) هو من أذنت الشيء إذنا إذا أصغيت إليه، وأنشد: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما أذنوا من صالح دفنوا وهاهنا ((أذن)) عبارة عن الإقبال من الله بالرأفة والرحمة إلي العبد. وذلك: أن العبد إذا كان في الصلاة وقد فرغ من الشواغل متوجهاً إلي مولاه، مناجياً له بقلبه ولسانه، فالله سبحانه وتعالي أيضاً يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالاً لا يقبله في غيره من العبادات، فكنى عنه بالأذن له علي التلويحية، ثم إذا رضي الله تعالي عن عبده، وأقبل عليه، هل يبقى من البر والإحسان شيء إلا وينثره علي رأسه؟ كلا. و ((الذر)) بالذال المعجمية هو الرواية، وهو أنسب من ((الدر))؛

ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه أشمل منه لاختصاص الدر أي الصب بالمائع، وعموم الذر؛ لأن المقام أدعى له. ألا ترى إلي من أراد الإحسان إلي عبد الله الخدمة، ورضي عنه ينثر علي رأسه نثاراً من الجواهر الشريفة. وكأن اختصاص الرأس بالذكر إشارة إلي هذا السر. ((تو)): ((ليذر)) أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب، والملح، والدواء أذرة ذرا، أي فرقته. وصحف، وقيل: ((ليدر)) بالدال المهملة، وهو مشاكل للصواب من طريق المعنى إلا أن الرواية لم تساعده. والحديث يؤخذ من أفواه الرجال، وليس لأحد أن يخالفهم. قوله: ((بمثل ما خرج منه)) قال ابن فورك: الخروج علي وجهين: أحدهما خروج الجسم، وذلك بمفارقة مكانه واستبداله مكاناً آخر، وذلك محال علي الله تعالي. والثاني ظهور الشيء من الشيء كقوله: خرج لنا من كلامك نفع وخير، أراد ظهر لنا من كلامك خير. وهذا هو المراد. فالمعنى: ما أنزل الله تعالي علي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأفهم عباده. ثم قال ابن فورك: وقد قال قائلون: إن الهاء في قوله ((خرج منه)) عائد إلي العبد وخروجه منه وجوده علي لسانه، محفوظاً في صدره، مكتوباً بيده. ((شف)): أي ظهر الحق من شرائعه بكلامه، أو خرج من كتابه المبين- وهو اللوح المحفوظ- وذكر عكرمة أنه شهد جنازة رجل مع ابن عباس رضي الله عنهما، فقال رجل: اللهم يا رب القرآن اغفر له، فقال له ابن عباس: مه، أما علمت أن القرآن منه؟ قال: فغطى الرجل رأسه، كأنه أتى كبيرة. ومعنى ((منه)) أن القرآن صفة الله تعالي القائمة بذاته، فلا يجوز أن يوصف بما يصير مربوباً محدثاً. فإن قيل: فما معنى قول السلف ((إن كلام الله منه خرج، وإليه يعود))؟ قلت: معناه: أنه تعالي به أمر، ونهي، وإليه يعود، يعني هو الذي يسألك عما أمرك، ونهاك. أقول: معنى قولهم: ((منه أبداً)) أنه أنزل علي الخلق ليكون حجة لهم وعليهم قال تعالي: {تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيراً} وقولهم ((وإليه يعود)) أن مآل أمره وعاقبته من تبين حقيقته، وظهور صدق ما نطق به، من الوعد والوعيد إلي الله تعالي. قال سبحانه: {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق}. وإذا تقرر هذا، فليس شيء من العبادات يتقرب العبد إلي الله، ويجعله وسيلة له أفضل من القرآن. قوله: ((يعني القرآن)) ((تو)): أطلق المؤلف هذا التفسير، ولم يقيده بما يفهم أن المفسر من هو. والحديث نقله المؤلف من كتاب الترمذي. وفي روايته: قال أبو النصر: ((يعني القرآن)) ومثل هذا لا يتسامح فيه أهل الحديث، والحق معهم؛ فإن مثل ذلك يوهم أن التفسير من فعل الصحابي، فيجعل من متن الحديث، وفي ذلك خلل بين.

(41) باب صلاة السفر

(41) باب صلاة السفر الفصل الأول 1333 - عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي الظهر بالمدينة أربعاً، وصلي العصر بذي الحليفة ركعتين. متفق عليه. 1334 - وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى، ركعتين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب صلاة السفر الباب الأول الحديث الأول والثاني عن حارثة: قوله: ((أكثر ما كنا قط)) الجوهري: ((قط)) للماضي من الزمان يقول: ((قط ما فارقتك)). ((مظ)) ((ما)) مصدرية، ومعناه الجمع، لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعاً. و ((آمنه)) عطف علي ((أكثر)) والضمير فيه راجع إلي ((ما)) والواو في قوله ((نحن)) للحال، والمعنى: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات عدداً، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا، وإسناد الأمن إلي الأوقات مجاز. ((شف)): وعلي هذا ((قط)): متعلق بمحذوف، لأن ((قط)) يختص بالماضي المنفي، ولا منفي هاهنا. تقديره: ما كنا أكثر من ذلك، ولا آمنه قط. ويجوز أن يكون ((ما)) نافية خبر المبتدأ، و ((أكثر)) منصوباً علي خبر ((كان)). والتقدير: ونحن ما كنا قط في أكثر منا في ذلك الوقت، ولا آمن منا فيه. ويجوز إعمال ما بعد ((ما)) فيما قبلها ذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ((ليس)) عليه يجوز تقديم خبر ((ما)) في معناه عليه. ويحتمل أن يكون ((وآمنه)) فعلاً ماضياً، وضمير الفاعل مضافاً إلي الله تعالي، وضمير المفعول إلي النبي صلى الله عليه وسلم، أي وأمن الله تعالي نبيه صلى الله عليه وسلم حينئذ. أقول: هذا علي أن يكون ((أكثر)) خبر ((كان))؛ إذ لا يستقيم أن يعطف ((وآمنه)) علي ((أكثر)) وهو متعسف جداً، والوجه هو الأول. وفي الحديث دليل علي جواز القصر في السفر من غير خوف، وإن دل ظاهر قوله تعالي: ((إن خفتم)) علي الاختصاص؛ لأن ما في الحديث رخصة، وما في الآية عزيمة، يدل عليه ما في الحديث الذي يليه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((صدقة تصدق الله بها عليكم)) وفيه تعظيم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أطلق ما قيده الله تعالي، ووسع علي عباد الله، ونسب فعله إلي الله تعالي؛ لأنه خيرة الله تعالي في خلقه.

1335 - وعن يعلي بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالي: (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، فقد أمن الناس. قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)). رواه مسلم. 1336 - وعن أنس، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلي مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلي المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: ((أقمنا بها عشراً)). متفق عليه. 1337 - وعن ابن عباس، قال: سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفراً، فأقام تسعة عشر يوماً ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بمنا)) ((مح)): يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، فيكتب بالألف، وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف، ويكتب بالياء. والمختار تذكيره. وسمي ((منيي)) لما يمنى فيه من الدماء، أي يراق. الحديث الثالث عن يعلي: قوله ((عجبت مما عجبت منه)) ((حس)): فيه حجة لمن ذهب إلي أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم الخوف، فلو كان أصل فرض المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك. ((خط)): في قوله: صلى الله عليه وسلم: ((صدقة تصدق الله بها عليكم)) دليل علي أن القصر رخصة وإباحة، لا عزيمة؛ فإن الواجب لا يسمى صدقة. فإن قيل: فما الجوب عن تقييد الآية؟ قلنا: هي وإن دلت بمفهوم المخالفة علي أن لا يجوز القصر في غير حالة الخوف، لكن من شرط مفهوم المخالفة، إن لم تخرج مخرج الأغلب فلا اعتبار بذلك الشرط، كما في الآية؛ فإن الغالب من أحوال المسافرين الخوف. الحديث الرابع عن أنس: قوله: ((أقمنا بها عشراً)) ((مظ)): أي عشر ليال. ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن المسافر إذا لبث ببلد، وعزم علي الخروج متى انقضى شغله، جاز له القصر إلي ثمإنية عشر يوماً. هذا إذا لم ينو الإقامة، وإن نوى الإقامة أربعة أيام فصاعداً أتم. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: جاز له القصر ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً. ((حس)): وأما ما روي: ((أن ابن عمر رضي الله عنهما أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، يقول: أخرج اليوم أخرج غداً))، فظاهر عند من جوز الزيادة علي ثمإنية عشر يوماً، ومن لم يجوزها قال: كانت إقامته في بقاع متفرقة، ولم يقم في مكان واحد أكثر من ثلاثة أيام. الحديث الخامس عن ابن عباس: قوله: ((فإذا أقمنا أكثر)) يدل علي أن المراد من العدد السابق

يصلي ركعتين ركعتين. قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلين أربعاً. رواه البخاري. 1338 - وعن حفص بن عاصم، قال: صبحت ابن عمر في طريق مكة، فصلي لنا الظهر ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأي ناسا قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر علي ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك. متفق عليه. 1339 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر إذا كان علي ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء. رواه البخاري. 1340 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر علي ـــــــــــــــــــــــــــــ الإقامة فيه لا السير، يعني نحن إذا أقمنا في منزل تسعة عشر يوماً نصلي ركعتين، وإذا أقمنا أكثر من ذلك نصلي أربعاً. ولعل يوم النزول أو الرحيل داخل فيها. الحديث السادس عن حفص: قوله: ((مسجاً)) أي مصلياً النوافل. ((مح)): اتفق الفقهاء علي استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحسنها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليله الأحاديث العامة المطلقة في ندب الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى يوم فتح مكة، وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن، والقياس علي النوافل المطلقة. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر؛ فإن النافلة في البيت أفضل، أو لعله تركها في البيت بعض الأوقات تنبيهاً علي جواز تركها. الحديث السابع عن ابن عباس. ((قوله: ((علي ظهر سير)) الظهر مقحم للتأكيد، كما في الحديث ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غني)) والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن سيره صلى الله عليه وسلم كان مستنداً إلي ظهر قوي من المطي والركاب. ((مظ)): إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، تارة ينوي تأخير الظهر ليصليها في وقت العصر، وتارة يقدم العصر إلي وقت الظهر، ويؤديها بعد الظهر، وكذلك المغرب والعشاء. الحديث الثامن عن ابن عمر: قوله: ((يصلي في السر علي راحلته)) ((شف)): في هذا الحديث والحديث الذي قبله في آخر هذا الباب- أي في آخر الفصل الثاني وهو قوله: ((كان إذا سافر،

راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر علي راحلته. متفق عليه. الفصل الثاني 1341 - عن عائشة، قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: قصر الصلاة وأتم. رواه في ((شرح السنة)). [1341] 1342 - وعن عمران بن حصين، قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثمإني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد! صلوا أربعاً، فإنا سفر)). رواه أبو داود. [1342] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأراد أن يتطوع)) الحديث- دليل علي أن صوب الطريق بدل من القبلة في دوام الصلاة في حق المسافر المتنفل، فلا يجوز له الانحراف عنه، كما لا يجوز في الفرض عن القبلة. وفي قوله: ((يوتر علي راحلته)) دلالة علي أن الوتر غير واجب، لأنه قال: ((يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر علي راحلته)). أقول: هذا إنما يتمشى إذا اتحد معنى الفرض والواجب. قوله: ((صلاة الليل)) مفعول ((يصلي)). وقوله: ((يومئ إيماء)) حال من فاعل ((يصلي)) وكذا ((علي راحلته))، و ((إلا الفرائض)) مستثنى من صلاة الليل. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((كل ذلك قد فعل)) ذلك إشارة إلي أمر مبهم، له شأن مبهم لا يدري ما هو إلا بتفسيره، وتفسيره قولها رضي الله تعالي عنها: ((قصر الصلاة وأتم)) ونظيره قوله تعالي: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}. ((مظ)): يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة الرباعية في السفر، ويتمها. وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه. الحديث الثاني عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((فإنا سفر)) هو جمع سافر، كصحب وركب جمع صاحب وراكب. و ((الفاء)) هي الفضيحة؛ لأنها تدل علي محذوف، وهو سبب لما بعد الفاء. أي صلوا أربعاً، ولا تقتدوا بنا، فإنا سفر، ونظيره قوله تعالي: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} أي فضرب فانفجرت.

1343 - وعن ابن عمر، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعاً، وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئاً، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، ولا ينقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين. رواه الترمذي. [1343] 1344 - وعن معاذ بن جبل، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل؛ جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن عمر: قوله: ((سواء)) حال أي مستوية، و ((ثلاث ركعات)) بيان لها، قوله: ((وهي وتر النهار)) جملة حالية كالتعليل، لعدم جواز النقصان، أي وهي مشابهة للوتر في الليل، فلا ينبغي أن تسقط منها ركعة فتكون شفعاً، ولا ركعتان فتبقى ركعة، وهي في الوتر مختلف فيها، ولم يرد في النوافل ركعة فذة، فكيف بالفرض؟ وفي الحديث دليل علي أن الرواتب يؤتي بها في السفر، كما في الحضر. الحديث الرابع عن معاذ: قوله: ((إذا زاغت الشمس)) أي مالت، يقال: زاغ عن الطريق يزيغ

أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك، إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما. رواه أبو داود، والترمذي. [1344] 1345 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر وأراد أن يتطوع؛ استقبل القبلة بناقته، فكبر، ثم صلي حيث وجهه ركابه. رواه أبو داود. [1345] 1346 - وعن جابر، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلي علي راحلته نحو المشرق، ويجعل السجود أخفض من الركوع. رواه أبو داود. [1346] الفصل الثالث 1347 - وعن ابن عمر، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته. ثم إن عثمان صلي بعد أربعاً. فكان ابن عمر إذا صلي مع الإمام صلي أربعاً، وإذا صلاها وحده صلي ركعتين. متفق عليه. 1348 - وعن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا عدل عنه. قيل: فيه إشارة إلي أن النازل في وقت الصلاة الأولي من الصلاتين يستحب له التقديم، والراكب فيه يستحب له التأخير. الحديث الخامس والسادس عن أنس: قوله: ((فكبر ثم صلي)) ((ثم)) هنا للتراخي في الرتبة، ولما كان الاهتمام بالتكبير أشد، خص بتوجه القبلة؛ لكونه مقارناً للنية. ومن هذا معنى قوله: ((نية المؤمن خير من عمله)). قوله: ((نحو المشرق)) يجوز أن يكون حالا، أي متوجهاً نحوه، وأن يكون ظرفاً علي التوسع. قوله: ((حيث وجهه)) أي استقبل الصوب الذي المركوب متوجه إليه. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عائشة: قوله: ((تأولت كما تأول)) ((مح)): اختلفوا في تأويلهما،

صلى الله عليه وسلم، ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر علي الفريضة الأولي. قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت كما تأول عثمان. متفق عليه. 1349 - وعن ابن عباس، قال: فرض الله الصلاة علي لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. رواه مسلم. 1340 - وعنه، وعن ابن عمر، قالا: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين، وهما تمام غير قصر، والوتر في السفر سنة. رواه ابن ماجه [1350] 1351 - وعن مالك، بلغه أن ابن عباس كان يقصر في الصلاة في مثل ما يكون بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة. قال مالك: وذلك أربعة برد. رواه في ((الموطأ)) [1351]. 1352 - وعن البراء، قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمإنية عشر سفراً، فما ـــــــــــــــــــــــــــــ فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزاً، والإتمام جائزاً، فأخذا بأحد الجائزين وهم الإتمام. وقيل: لأن عثمان رضي الله عنه نوى الإقامة بمكة بعد الحج، فأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام علي المهاجر فوق ثلاث. وقيل: كان لعثمان رضي الله عن أرض بمنى، فأبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة. الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((فرض الله علي لسان نبيكم)) مثل قوله تعالي {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}. ((مح)): أخذ بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصري، وإسحاق. قال الشافعي، ومالك، والجمهور: إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، وتأولوا هذا الحديث علي أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفرداً، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف. الحديث الرابع والخامس عن مالك: قوله: ((أربعة برد)) ((نه)): وهي ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. الحديث السادس عن البراء: قوله: ((قبل الظهر)) يتعلق بـ ((ترك)) ولعل هاتين الركعتين غير الرواتب؛ لقول ابن عمر: ((لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)).

(42) باب الجمعة

رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1353 - وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله يتنفل في السفر فلا ينكر عليه. رواه مالك. [1353] (42) باب الجمعة الفصل الأول 1354 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم. ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- يعني يوم الجمعة- فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الجمعة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((بيد أنهم)) ((نه)): أي غير أنهم. وقيل معناه: علي أنهم، وزاد علي القولين في الشرح السنة، وقال المزني: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: بيد من أجل. قال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى: ميد أنهم بالميم، وفي بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ((وأنا أفصح العرب ميد إني من قريش)). قال المالكي: المختار عندي في ((بيد)) أن يجعل حرف استثناء بمعنى ((لكن))؛ لأن معنى ((إلا)) مفهوم منها، ولا دليل علي أسميتها. والمشهور استعمالها متلوة بأن كما في الحديث. وقول الشاعر: بيد أن الله قد فضلكم فوق من أحكأ صلباً بإزار والأصل في رواية من روى ((بيد كل أمة)) فحذف ((أن)) وبطل عملها، وأضيف ((بيد)) إلي المبتدأ والخبر اللذين كانا معمولي ((أن))، واستعمال ما بعده علي الابتداء والخبر قول الزبير رضي الله عنه: فلولا بنوها حولها لخطبتها

وفي رواية لمسلم، قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة؛ بيد أنهم)) وذكر نحوه إلي آخره. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجاز حذف ((أن)) المشدد قياساً علي المخففة في نحو قوله تعالي: {يريكم البرق} أي أن يريكم؛ لأنهما أختان في المصدرية. أقول: هذا الاستثناء من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم. قال النابغة: فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد فما يبقى من المال باقيا والبيت يجري في الاستثناء علي المنقطع لا المتصل بالادعاء، كما في قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يعني إذا كان فلول السيف من القراع عيب، فلهم هذا العيب، ولكن هو من أخص صفة الشجاعة. وعلي هذا المعنى الحديث، وتقريره: نحن السابقون يوم القيامة بما منحنا من الفضائل، والكمالات، غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وهذا الإيتاء يؤكد مدح السابقين بما عقب من قوله: ((وأوتيناه من بعدهم)) لما أدمج فيه معنى النسخ لكتابهم، فالناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان مسبوقاً في الوجود، وعلي هذا الأسلوب أيضاً قوله: ((ثم هذا يومهم)) إلي آخره، يعني يوم الجمة وإن أخر في الوجود وأوتيناه من بعدهم فهو سابق في الفضل والكمال، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((والناس لنا فيه تبع)). ((قض)): معنى قوله: ((فهدانا الله له)) بعد قوله: ((فرضهم عليهم)) أن الله تعالي أمر عباده، وفرض عليهم أن يجتمعوا يوم الجمعة، فيحمدوا خالقهم، ويشكروه بالعبادة، وما عينه لهم بل أمرهم: أن يستخرجوه بأفكارهم ويعينهوه باجتهادهم. فقالت اليهود: هو يوم السبت؛ لأنه يوم فراغ؛ وقطع عمل، فإن الله تعالي فرغ فيه عن خلق العالم، فينبغي للخلق أن يعرضوا عن صنائعهم ويفرغوا للعبادة. وزعمت النصارى: أن المراد به يوم الأحد؛ فإنه يوم بدأ الخلق الموجب للشكر والعبادة. فهدى الله هذه الأمة، ووفقهم الإصابة حتى عينوا الجمعة، وقالوا: إن الله تعالي خلق الإنسان للعبادة، وكان خلقه يوم الجمعة، فكانت العبادة فيه أولي؛ ولأنه تعالي أوجد في سائر الأيام ما ينتفع به الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفسه، والشكر علي نعمة الوجود أهم وأحوى. ولما كان مبدأ دور الإنسان وأول أيامه يوم الجمعة، كان المتعبد فيه باعتبار العبادة متبوعاً، والمتعبد في اليومين اللذين بعده تابعاً. قوله: ((أوتوا الكتاب)) التعريف فيه للجنس، ولذلك أفرد الضمير في قوله: ((وأوتيناه))

1355 - وفي أخرى له عنه، وعن حذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق)). 1356 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((الآخرون)) اللام فيه موصولة، و ((من أهل الدنيا)) حال من الضمير الذي في الصلة، وقوله: ((المقضي لهم)) صفة ((الآخرون)) والضمير في ((لهم)) راجع إلي اللام؛ لأن المعنى: الآخرون الذين يقضي لهم قبل الناس، ليدخلوا الجنة قبلهم كأنه قيل: نحن الآخرون السابقون. ((مح)): الجمعة- بضم الميم وإسكانها وفتحها- حكاه الفراء. ووجه الفتح أنها مجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: همزة ولمزة، لكثرة الهمز واللمز، وكانت تسمى في الجاهلية بالعروبة. وقوله: ((اليهود غداً)) أي اليهود تبع لنا في غد، والنصارى تبع لنا بعد غد، والقرينة قوله: ((والناس لنا تبع))؛ لأنه تفصيل للمجمل. وقال المالكي: وقع ظرف الزمان فيه خبراً للجنة. والأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعإني كقولك: غداً التأهب، وبعد غد الرحيل. فيقدر قبل اليهود والنصارى مضافاً من أسماء المعإني: أي تعبد اليهود غداً، وتعبد النصارى بعد غد. والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((عليه)) الضمير عائد إلي ((يوم))، أي طلعت علي ما سكن فيه، قال تعالي: {وله ما سكن في الليل والنهار}. قوله: ((وفيه أخرج منها)) فإن قلت: دخول الجنة فيه فضل لليوم، فما الفضل في خروجه؟ قلت: لما كان الخروج لتكثير النسل، وبث عباد الله تعالي في الأرضين، وإظهار العبادة التي خلق الخلق لأجلها، وما أقيمت السماوات والأرض لها، وكان لا يستتب ذلك إلا بخروجه منها، فكان أحرى بالفضل من استمراره فيها. ((مح)): قال القاضي عياض: الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيلته؛ لأن إخراج آدم عليه السلام، وقيام الساعة، لا يعد فضيلة، وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع، ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة الله، ودفع نقمه. أقول: وسيجيء في الفصل الثالث من الباب في الحديث الأول خلاف هذا. فإن قيل: ما أفضل الأيام؟ قيل: فيه وجهان: أصحهما يوم عرفة، والثاني يوم الجمعة لهذا الحديث. وهذا إذا أطلق، وأما إذا أريد أيام السنة فتعين يوم عرفة، وإذا أريد أيام الأسبوع تعين الجمعة. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: (قائم يصلي يسأل الله)) كلها صفات لـ ((مسلم)).

الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)). رواه مسلم. 1357 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه)). متفق عليه وزاد مسلم. قال: ((وهي ساعة خفيفة)). وفي رواية لهما، قال: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)). 1358 - وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في شأن ساعة الجمعة: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلي أن تقضى الصلاة)). رواه مسلم. الفصل الثاني 1359 - وعن أبي هريرة، قال: خرجت إلي الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن يكون ((يصلي)) حالاً من ((مسلم)) لا تصافه بـ ((قام))، و ((يسأل)) إما حال مترادفة، أو متداخلة. الحديث الرابع عن أبي بردة: قوله: ((هي ما بين أن يجلس الإمام)) ((مظ)): أي ما بين الخطبتين إلي أن يفرغ الإمام من الصلاة. أقول: أصل الكلام يقتضي أن يقترن لفظة ((بين)) بطرفي الزمان، فيقال بين أن يجلس وبين أن تقضي، إلا أنه أتى بـ ((إلي)) فبين أن جميع الزمان المبتدأ من الجلوس إلي انقضاء الصلاة تلك الساعة الشريفة، و ((إلي)) هذه مقابلة ((من)) في قوله تعالي: {من بيننا وبينك حجاب} فإن ((من)) هناك لتحقيق الابتداء، فيلزم منه الانتهاء، كما أن ((إلي)) هاهنا لتحقيق الانتهاء فيلزم منه الابتداء. ((الكشاف)): لو قيل: بيننا وبينك حجاب، لكان المعنى: أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، فأما بازدياد ((من)) فالمعنى: أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة بجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة: قوله: ((كعب الأحبار)) الأحبار: العلماء، جمع ((حبر

آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه. قال كعب! ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة. فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ قال عبد الله بن سلام: كذب كعب. فقلت له: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة. فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب. ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ قال أبو هريرة: فقلت: أخبرني بها ولا تضن علي. فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة. قال أبو هريرة: فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها))؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس مجلساً ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي))؟ قال أبو هريرة: فقلت: بلي، ـــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الحاء وكسره، والإضافة كما هي في ((زيد الخيل))، وهو أبو إسحق كعب بن مانع من حمير، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقوله: ((أن قلت)) اسم ((كان)) و ((فيما حدثته)) خبره. قوله: ((مصيخة)) ((تو)) أي مصيغة مستمعة، ويروي مسيخة بإبدال الصاد سينا. ووجه إصاخة كل دابة- وهي مما لا يعقل- هو أن الله تعالي يجعلها ملهمة لذلك، مستشعرة عنه، فلا عجب من ذلك عند قدرة الله تعالي. ولعل الحكمة في الإخفاء من الجن والإنس؛ لأنهم إذا كوشفوا بشيء من ذلك، اختلت قاعدة الابتلاء والتكليف، وحق القول عليهم. ووجه آخر أن الله تعالي يظهر يوم الجمعة من عظائم الأمور، وجلائل الشؤون ما تكاد الأرض تميد بها، فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة، كأنها مسيخة للرعب الذي يداخلها إشفاقاً منها لقيام الساعة. وأقول: يؤيد هذا الوجه قوله: ((وفيه مات)) أي ادم. وما رويناه عن الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض في الحديث السابق ((الظاهر أن هذه القضايا المعدودة ليست لذكر فضيلة يوم الجمعة، بل إنها بيان لما وقع فيه من الأمور العظام)) إلي آخره، فيلزم من ذلك فضيلته. ((شف)): يدل علي أنه آخر ساعة ما روي ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد

قال: فهو ذلك. رواه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وروى أحمد إلي قوله: صدق كعب. [1359] 1360 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلي غيبوبة الشمس)). رواه الترمذي. [1360] 1361 - وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)). قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: يقولون بليت. قال: ((إن الله حرم علي ـــــــــــــــــــــــــــــ العصر إلي غيبوبة الشمس)). قوله: ((من حين تصبح)) بني ((حين)) علي الفتح، لإضافته إلي الجملة مثل قوله تعالي: {يوم لا يغني} ويجوز إعرابه مثل قوله تعالي: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} ولكن الرواية علي الفتح. قوله: ((ذلك اليوم)) إشارة إلي اليوم المذكور المشتمل علي تلك الساعة الشريفة، و ((يوم)) خبره. وقوله: ((بل في كل جمعة)). أي في كل أسبوع. الحديث الثالث عن أوس: قوله: ((وفيه النفخة)) وهي نفخ الصور، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدمة النشأة الثانية. والصعقة: الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله، وهو النفخة الأولي. قال تعالي: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات} الآية. قوله: ((وقد أرمت)) ((تو)) قال الراوي: أي بليت، يقال: أرم المال والناس، أي فنوا، أرض أرمة: لا تنبت شيئاً. ويروى أرممت، أي صرت رميماً. فعلي هذا جاز أن تكون ((أرمت)) من أرممت، فحذفت أحد الميمين، وهو لغة، كقولهم: ظلت أفعل كذا، أي ظللت. وهذا الوجه من كلام الخطابي. أقول: علي ما ورد في ((المصابيح)) وهو قوله: ((أرمت)) يقول: بليت مبهم؛ وأما في ((المشكاة)) فلفظ الحديث هكذا: قال: يقولون: بليت، فهو ظاهر؛ لأن القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال استبعادا له. فإن قلت: ما وجه الجواب بقوله: ((إن الله حرم علي الأرض أجساد الأنبياء)) فإن المانع من العرض والسماع هو الموت، وهو قائم بعد؟ قلت: لا شك أن حفظ أجسادهم من أن ترم خرق للعادة المستمرة، فكما أن الله تعالي يحفظها منه، كذلك تمكن من

الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [1361] 1362 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت علي يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث موسى بن عبيدة وهو يضعف. [1362] الفصل الثالث 1363 - عن أبي لبابة بن عبد المنذر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلي الأرض، وفيه توفي الله ـــــــــــــــــــــــــــــ العرض عليهم، ومن الاستماع منهم صلوات الأمة. ويؤيده ما سيرد في الحديث الثالث من الفصل الثالث قوله: ((فنبي الله حي يرزق)). والله أعلم. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((والشاهد يوم الجمعة)) يعني أنه تعالي أعظم شأنه في سورة البروج، حيث أقسم به، وأوقعه واسطة العقد لقلادة اليومين العظيمين ونكره لضرب من التفخيم. وأسند إليه الشهادة علي سبيل المجاز؛ لأنه مشهود فيه، نحو نهاره صائم، وليله قائم، يعني وشاهد في ذلك اليوم الشريف الخلائق لتحصيل السعادة الكبرى. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي لبابة: قوله: ((سيد الأيام)) أي أفضلها، لأن السيد أفضل القوم، كما ورد ((قوموا إلي سيدكم)) أي أفضلكم، أو أريد مقدمها؛ فإن الجمعة متبوعة كما أن السيد يتبعه القوم. هذا معنى قوله: ((الناس لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)). وقوله: ((إلا وهو مشفق)) إشفاق المذكورات في هذا الحديث كإشفاق الدواب في حديث أبي هريرة خوفاً من فجأة الساعة. قوله: ((قال: فيه خمس خلال)) جواباً عن سؤال السائل ماذا فيه من الخير؟ يدل علي أن الخلال الخمس خيرات وفواضل، تستلزم فضيلة اليوم الذي تقع فيه. ((قض)): لا شك أن خلق

آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئاً إلا أعطاه، ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة)). رواه ابن ماجة. [1363] 1364 - وروى أحمد بن سعد بن عبادة: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: ((فيه خمس خلال)) وساق إلي آخر الحديث. [1364] 1365 - وعن أبي هريرة، قال: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له)). رواه أحمد. [1365] 1366 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي علي إلا عرضت علي ـــــــــــــــــــــــــــــ آدم فيه يوجب له شرفا وعزيمة. وكذا وفاته، فإنه سبب لوصوله إلي الجناب الأقدس والخلاص عن النكبات، وكذا قيام الساعة، لأنه من أسباب توصل أرباب الكمال إلي ما أعد لهم من النعيم المقيم. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لأي شيء سمي يوم الجمعة)) فإن قلت: سئل عن علة تسمية الجمعة، وأجيب بما لا يطابقه. قلت: يطابقه من حيث إنه سمي بها لاجتماع الأمور العظام، وجلائل الشيءون فيها. قوله: ((طبعت طينة آدم)) أي جعلت صلصالاً كالفخار، أي الطين المطبوخ بالنار. الجوهري: طبعت السيف والدرهم، علمت، وطبعت من الطين خرزة، والطباع الذي يعملها. قوله: ((وفيها البطشة)) يريد يوم القيامة، قال تعالي: {يوم نبطش البطشة الكبرى} والبطش: الأخذ القوي الشديد. وقوله: ((وفي آخر ثلاث ساعات منها)) ((في)) ههنا تجريدية، إذ

صلاته حتى يفرغ منها)). قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: ((إن الله حرم علي الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق)). رواه ابن ماجه. [1366] 1367 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. [1367] 1368 - وعن ابن عباس: أنه قرأ: (اليوم أكملت لكم دينكم) الآية، وعنده يهودي. فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيداً. فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم الجمعة، ويوم عرفة. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب [1368]. 1369 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)). قال: وكان يقول: ((ليلة الجمعة ليلة أغر، ويوم الجمعة يوم أزهر)). رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [1369] ـــــــــــــــــــــــــــــ الساعة هي نفس آخر ثلاث الساعات، كما في قولك: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، والبيضة نفس الأرطال. الحديث الثالث إلي الخامس عن ابن عباس: قوله: ((أكملت لكم دينكم)) أي كفيتكم شر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، إذا كفوا من تنازعهم الملك، ووصلوا إلي أغراضهم ومباغيهم، أو كملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام، والتوقف علي الشرائع وقوإنين القياس، وأصول الاجتهاد. وفي جواب ابن عباس اليهودي إشارة إلي الزيادة في الجواب، يعني ما اتخذناه عيداً واحداً بل عيدين. وتكريره اليوم تقرير لاستقلال كل يوم بما سمي به، وإضافة يوم إلي عيدين كإضافة اليوم إلي الجمعة، أي يوم الفرح المجموع. والمعنى: يوم الفرح الذي يعودون مرة بعد أخرى فيه إلي السرورة. ((غب)): العيد ما يعاود مرة بعد أخرى، وخص في الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر. ولما كان ذلك اليوم مجعولاً للسرور في الشريعة كما نبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أيام أكل وشرب وبعال)) صار يستعمل العيد في كل يوم فيه مسرة. الحديث السادس عن أنس: قوله: ((ليلة أغر)) أي أنور، من الغرة. ((نه)): جاء في الحديث

(43) باب وجوبها

(43) باب وجوبها الفضل الأول 1370 - وعن ابن عمر، وأبي هريرة، أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله علي قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)). رواه مسلم. الفصل الثاني 1371 - وعن أبي الجعد الضمري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث ـــــــــــــــــــــــــــــ صوم الأيام الغر، أي البيض الليالي بالقمر، ((والأزهر)) الأبيض المستنير. والزهر: البياض، وهو أحسن الألوان. ومنه ((أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر)) أي ليلة الجمعة ويومها. باب وجوبها الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر وأبي هريرة: قوله: ((عن ودعهم الجمعات)) ((نه)): أي عن تركهم إياها والتخلف عنها، يقال: ودع الشيء يدعه ودعا، إذا تركه. والنحاة يقولون: إن العرب أماتوا ماضي ((يدع)) ومصدره، واستغنوا عنه بـ ((ترك)) والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح. وإنما يحمل قولهم علي قلة استعماله، فهو شاذ في استعمال صحيح في القياس. ((تو)): ولا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحجة القاضية علي كل ذي لهجة وفصاحة. ((قض)): المعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، إما الانتهاء عن ترك الجمعات، أو ختم الله تعالي علي قلوبهم، فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين علي القلوب، ويزهد النفوس في الطاعة. وذلك يؤدي بهم إلي أن يكونوا من الغافلين. أقول: اللام في ((لينتهين)) للابتلاء، وهو جواب القسم، وسيجيء البحث فيه في باب المفاخرة، والعصبية مستوفي إن شاء الله تعالي، أقول: وثم في قوله: ((ثم ليكونن من الغافلين)) للتراخي في المرتبة فإن كونهم من جملة الغافلين، والمشهود فيه بالغفلة أدعى لشقائهم وأنطق بخسرانهم من مطلق كونهم مختوماً عليهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي الجعد: قوله: ((تهاونا بها)) أي إهانة. وإنما عدل إلي التفاعل ليدل به علي أن هذا اليوم، وأي يوم شأنه أعلي رتبة، وأرفع مكانة من أن تتصور إهانة بوجه، فلا يقتدر

جمع تهاونا بها، طبع الله علي قلبه)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي [1371] 1372 - ورواه مالك. عن صفوان بن سليم. [1372] 1373 - وأحمد عن أبي قتادة. 1374 - وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الجمعة من غير عذر، فليتصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [1374] 1375 - وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة علي من سمع النداء)). رواه أبو داود. [1375] ـــــــــــــــــــــــــــــ أحد علي إهانته إلا تكلفاً ووزراً. قوله: ((طبع الله علي قلبه)) ((نه)): أي ختم عليه، وغشاه، ومنعه ألطافه. والطبع: بالسكون الختم، وبالتحريك الدنس. وأصله من الوسخ والدنس يغشيان السيف. يقال: طبع السيف يطبع طبعاً، ثم استعمل فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح. ((حس)): الجمعة من فروض الأعيان عند أكثر أهل العلم. وذهب بعضهم إلي أنها من فروض الكفايات، وهي واجبة علي من جمع العقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذر. الحديث الثاني والثالث والرابع عن أبي هريرة: قوله: ((آواه)) ((نه)): يقال: آويت إلي المنزل، وآويت غيري، وآويته. وفي الحديث من المتعدي. ((مظ)): أي الجمعة واجبة علي من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلي وطنه قبل الليل. وبهذا قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وشرط عنده أن يكون خراج وطنه ينقل إلي ديوان المصر الذي يأتيه للجمعة. فإن كان لوطنه ديوان غير ديوان المصر لم يجب عليه الإتيان.

1376 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الجمعة علي من آواه الليل إلي أهله)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. [1376] 1377 - وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق واجب علي كل مسلم في جماعة، إلا علي أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض)). رواه أبو داود، وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)) عن رجل من بني وائل. [1377] الفصل الثالث 1378 - عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق علي رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)). رواه مسلم. 1379 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك الجمعة من غير ضرورة، كتب منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل)) –وفي بعض الروايات- ((ثلاثاً)). رواه الشافعي. [1379] 1380 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن طارق: قوله: ((إلا علي أربعة)) ((مظ)): ((إلا)) بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لـ ((مسلم)) أي كل مسلم غير امرأة، أو صبي، أو مملوك، ومريض. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن مسعود: معنى هذا الحديث سبق في باب الجماعات مستقصى. الحديث الثاني عن ابن عباس: معنى الحديث واضح، لكن التهديد والوعيد صعب شديد. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((يوم الجمعة)) ظرف للجمعة علي أن يقدر مضاف، أي صلاة يوم الجمعة. وقوله: ((إلا مريض)) رفع علي الاستثناء من كلام الموجب إلي التأويل، أي من

(44) باب التنظيف والتبكير

الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض، أو مسافر، أو صبي، أو مملوك. فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد)). رواه الدارقطني. [1380] (44) باب التنظيف والتبكير الفصل الأول 1381 - عن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يؤمن بالله فلا يترك الجمعة إلا مريض، فهو بدل من الضمير المستكن في ((يترك)) الراجع إلي ((من))، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في باب ما ينهي عنه من التهاجر ((تعرض أعمال الناس في كل جمعة- إلي قوله- فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبد)) قال الشيخ التوربشتي: هكذا بالرفع في المصابيح. أقول: وتقديره: فلا يحرم أحد من الغفران إلا عبد. ومنه أيضاً قوله تعالي: {فشربوا منه إلا قليلا} بالرفع. في الكشاف: أي فلم يطيعوه إلا قليل. باب التنظيف والتبكير الفصل الأول الحديث الأول عن سلمان: قوله: ((ما استطاع من طهر)) ((التنكير في ((طهر)) للتكثير. ((خط)): أراد بالطهر قص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتنظيف الثياتب. قوله: ((من طيب بيته)) قيد إما توسعة كما ورد في حديث أبي سعيد ((ومس من طيب، إن كان عنده))، أو استحباباً ليؤذن بأن السنة أن يتخذ الطيب لنفسه، ويجعل استعماله عادة له، فيدخر في بيته، فلا تختص الجمعة بالاستعمال. وقوله: ((فلا يفرق بين اثنين)) كناية عن التبكير، أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس، ويفرق بين اثنين، أو يكون عبارة عن الإبطاء، أي لا يبطئ حتى لا يفرق؛ فحينئذ ينطبق الحديث علي الباب قوله: ((ثم ينصت)) بضم الياء ((نه)): يقال: أنصت ينصت إنصاتاً، إذا سكت سكوت مستمع، وقد ينصت أيضاً، وأنصته إذا أسكته، فهو لازم ومتعد.

1382 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل، ثم أتى الجمعة فصلي ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)). رواه مسلم. 1383 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا)). رواه مسلم. 1384 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة علي باب المسجد، يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((وفضل ثلاثة أيام)) ((خط)): يريد بذلك ما بين الساعة التي يصلي فيها الجمعة إلي مثلها من الجمعة. فيكون العدد سبعاً وزيادة ثلاثة أيام، فتصير الحسنة بعشرة أمثالها. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((من مس الحصا فقد لغا)) ((فا)): يقال: لغى يلغي، ولغا يلغو، إذا تكلم بما لا يعني، وهو اللغو، والمراد بـ ((مس)) الحصا)) هو تسوية الأرض للسجود، فإنهم كانوا يسجدون عليها. وقيل: هو تقليب السبحة وعدها. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((الأول فالأول)) أي الداخل الأول و ((الفاء)) فيه و ((ثم)) في قوله: ((ثم كالذي يهدي بقرة)) كلتاهما لترتب النزول من الأعلي إلي الأدنى، ولكن في الثانية تراخ ليس في الأولي. وفيه إشكال، لأن الثانية مسببة عن الأولي. والجواب. أن الفاء آذنت بالتعاقب الذي ينتهي إلي أعداد كثيرة، وليس كذلك ((ثم)) ومن ثم جيء بها متعددة. والواو في قوله ((ومثل المهجر)) عطفت الجملة علي الجملة الأولي، وفوض الترتيب إلي الذهن؛ لأنها وقعت موقع الفاء التفصيلية. والواو هنا أوقع من الفاء، لأنها توهم العطف علي الأول والثاني، والحال أنه عطف علي ((يكتبون)). قوله: ((ومثل المهجر أي المبكر إليها، والتهجير: التبكير إلي كل شيء والمبادرة إليه، وهي لغة حجازية. ((تو)): من ذهب إلي هذا المعنى فقد سلك طريق المجاز. وذلك: أنه جعل الوقت الذي

1385 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت)). متفق عليه. 1386 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلي مقعده، فقعد فيه؛ ولكن يقول: أفسحوا)). رواه مسلم. الفصل الثاني 1387 - عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلي الله علي وسلم: ((من اغتسل ـــــــــــــــــــــــــــــ يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة. وله نظائر، كقولهم في طرفي النهار: الغداوة والعشي، جعلوا النهار نصفين، سموا النصف الأول غداة، والثاني عشياً. قوله: ((كالذي يهدي بدنه)) سميت بدنة، لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة. ولأنه صلى الله عليه وسلم ألحق البقرة بها. ولو لم تختص الإبل لم يحسن الإلحاق. وفي اختصاص ذكر الهدى- وهو المختص بما يهدي إلي الكعبة- إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات وإنها بمثابة الحضور في عرفات. قوله: ((فإذا خرج الإمام)) يؤذن بأن الإمام ينبغي أن يتخذ مكاناً خالياً قبل صعوده المنبر تعظيماً لشأنه. كذا وجدناه في دمشق المحروسة. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله ((فقد لغوت)) ((حس)): أي تكلمت. وقيل: ملت عن الصواب، وعدلت وقيل: خبت. وأقول: وذلك: أن الخطبة أقيمت مقام الركعتين، فكما لا يجوز التكلم في المنوب لا يجوز في النائب. هذا في حق من أمر بالمعروف، فكيف في حق من ارتكب المنكر، وتكلم ابتداء؟ فحقيق لمثله أن يلحق بالحمار الذي يحمل أسفاراً كما ورد في الحديث الآتي في الفصل الثالث. ((مظ)): والكلام منهي استحباباً أو وجوباً. فالطريق أن يشار باليد للسكت. انتهي كلامه. وفي مذهب مالك الإنصات واجب سواء سمع الخطبة أم لا. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((يخالف إلي مقعده)) والمخالفة: أن يقيم صاحبه من مقامه، فينتهي إلي مقعده فيقعد فيه، كقوله تعالي: {ما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم}. فيه إدماج وزجر للمتكبرين، أي كيف تقيم أخاك المسلم وهو مثلك في الدين ولا مزيد لك عليه؟. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعيد وأبي هريرة: قوله: ((من أحسن ثيابه)) يريد الثياب البيض،

يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلي ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)). رواه أبو داود. [1387] 1388 - وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1388] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنها أحسنها وأزينها، لما علم أن السنة أن يلبس البيض يوم الجمعة، ومن ثم طلع جبريل عليه السلام علي الأصحاب وعليه ثياب بيض. قال تعالي: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}. الحديث الثاني عن أوس: قوله: ((من غسل يوم الجمعة)) ((تو)): روي بالتشديد والتخفيف، فإن شدد فمعناه حمل غيره علي الغسل، بأن يطأها. وبه قال عبد الرحمن بن الأسود، وهلال- وهما من التابعين- كأن من قال ذلك، ذهب إلي أن فيه غضاً للبصر، وصيانة للنفس عن الخواطر التي تمنعه من التوجه إلي الله بالكلية. وقيل: التشديد فيه للمبالغة دون التعدية كما في ((قطع وكسر)) لأن العرب لهم لمم وشعور وفي غسلها كلفة، فأفرد ذكر غسل الرأس لذلك، وإليه ذهب مكحول وبه قال أبو عبيدة. وإن خفف فمعناه إما التأكيد وإما غسل الرأس أولا بمثل الخطمى ثم الاغتسال للجمعة. وكان الإمام أحمد يذهب إلي الأول ثم رجع إلي التخفيف. قوله: ((بكر وابتكر)) ((قض)): أي أسرع، وذهب إلي المسجد بالبكرة، فإن التبكير هو الإسراع في أي وقت كان، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي علي سنتي ما بكروا بصلاة المغرب)) وقيل: ((بكر)) مبالغة بكر- بالتخفيف- من البكور، ((وابتكر)) أدرك باكورة الخطبة، وهي أولها. ((تو)): هذا قول أبي عبيدة. وقال ابن الأنباري: ((بكر)) تصدق قبل خروجه، يتأول علي

1389 - وعن عبد الله بن سلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما علي أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) , رواه ابن ماجه. [1389] 1390 - ورواه مالك عن يحيى بن سعيد. [1390] 1391 - وعن مسرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)). رواه أبو داود. [1391] ـــــــــــــــــــــــــــــ ما روى في الحديث ((باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها)) وتابعه الخطابي. وأرى نقل أبي عبيدة أولي بالتقديم، لمطابقة أصول اللغة، ويشهد بصحته تنسيق الكلام، فإنه حث علي التبكير، ثم علي الابتكار، فإن الإنسان يعدو إلي المسجد أولا ثم يستمع الخطبة ثإنياً. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((ما علي أحدكم)) ((ما)) بمعنى ليس، واسمها محذوف، ((وأن يتخذ)) متعلق به، ((وعلي أحدكم)) خبره، ((وإن وجد)) معترضة. ويجوز أن يتعلق ((علي)) بالمحذوف، والخبر ((أن يتخذ)) كقوله تعالي {ليس علي الأعمى حرج} إلي قوله {أن تأكلوا من بيوتكم} المعنى: ليس علي أحد حرج في أن يتخذ ثوبين. وفيه: أن ذلك ليس من شيمة المتفقين، لولا تعظيم الجمعة ومراعاة شعار الإسلام. قوله: ((ثوبي مهنته)) ((فا)): أي بذلته وخدمته، ويروي بكسر الميم وفتحها. والكسر عند الإثبات خطأ. قال الأصمعي: بالفتح الخدمة، ولا يقال بالكسر، وكان القياس لو جيء بالكسر أن يكون كالجلسة والخدمة، إلا أنه جاء علي فعله يقال: مهنت القوم أمهنهم أي ابتذلتهم في الخدمة. الحديث الرابع عن سمرة: قوله: ((لا يزال يتباعد)) أي لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة والصف الأول الذي هو مقام المقربين، حتى يؤخر إلي صف المتسفلين. وفيه توهين أمر

1392 - وعن [سهل بن] معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة، اتخذ جسراً إلي جهنم)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [1392] 1393 - وعن معاذ بن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب. رواه الترمذي، وأبو داود. [1393] 1394 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة؛ فليتحول من مجلسه ذلك)). رواه الترمذي. [1394] ـــــــــــــــــــــــــــــ المتأخرين وتسفيه رأيهم، حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلي سفاسفها. وفي قوله: ((وإن دخلها)) تعريض بأن الداخل قنع من الجنة، ومن تلك الدرجات العالية، والمقامات الرفيعة، بمجرد الدخول. وأنشد: حاول جسيمات الأمور ولا تقل إن المحامد والعلي أرزاق فارغب بنفسك أن تكون مقصراً عن غاية فيها الطلاب سباق الحديث الخامس عن معاذ: قوله: ((تخطى رقاب الناس)) ((قض)): أي تجاوز رقابهم بالخطو عليها. وروى ((اتخذ)) مبنياً للفاعل. ومعناه: إن صنعه هذا يؤديه إلي جهنم، فكأنه جسر اتخذه إلي جهنم. والبناء للمفعول معناه أنه يجعل يوم القيامة جسراً يمر عليه من يساق إلي جهنم مجازاة له بمثل عمله. أقول: إن: ((اتخذ)) إذا عدى إلي مفعول واحد، كان التركيب من باب إطلاق المسبب علي السبب. كقوله تعالي: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} وهو الوجه الأول. إذا جعل متعدياً إلي مفعولين كقوله تعالي: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} كان من باب التشبيه. شبه الداخل لأجل تخطية رقاب الناس، وجعلها معبراً له بالجسر موضوعاً علي شفر النار. هذا هو الوجه الثاني. وقوله ((إلي جهنم)) علي الوجهين صفة، أي جسراً ممتداً إلي جهنم. والشيخ التوربشتي ضعف الوجه الثاني رواية ودراية. الحديث السادس والسابع عن معاذ: قوله: ((الحبوة)) ((نه)): الاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلي بطنه بثوب، ويجمعهما مع ظهره، ويشده عليهما. وقد يكون الاحتباء باليدين. وإنما نهي عنه، لأنه يجلب النوم، فلا يسمع الخطبة، ويعرض طهارته للانتقاض.

الفصل الثالث 1395 - عن نافع، قال: سمعت ابن عمر يقول: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل من مقعده ويجلس فيه. قيل لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وغيرها. متفق عليه. 1369 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه منها. ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلي الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: ((من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها))) رواه أبو داود. 1397 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت؛ ليس له جمعة)). رواه أحمد. [1397] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عبد الله: قوله: ((فذلك حظه)) الفاء جزائية لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ لكونه نكرة وصفت بجملة فعلية. ((والفاء في ((فرجل)) تفصيلية؛ لأن التقسيم حاصر؛ فإن حاضري الجمعة ثلاثة: فمن رجل لاغ، مؤذ، يتخطى رقاب الناس. فحظه من الحضور اللغو والأذى. ومن ثان طالب حظه، غير مؤذ، فليس عليه ولا له إلا أن يتفضل الله بكرمه، فيسعف مطلوبه. ومن ثالث طالب رضي الله متحر احترام الخلق، فهو هو. والضمير الراجع إل المبتدأ من الخبر محذوف، أي فهي كفارة. الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((فهو كمثل الحمار)) شبه المتكلم حينئذ- وهو عارف بأن التكلم عند ذلك حرام، لأن الخطبة قائمة مقام الركعتين- بالحمار الذي حمل أسفاراً من الحكم- وهو يمشي ولا يدري ما عليه. وقوله: ((أسفاراً)) أي كتباً كباراً من كتب العلم. ومن أسكته فقد لغا، ومن لغا، فليس له فضيلة الجمعة.

1398 - وعن عبيد بن السباق، مرسلاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعة من الجمع: ((يا معشر المسلمين! إن هذا يوم جعله الله عيداً، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)). رواه مالك، ورواه ابن ماجه عنه. 1399 - وهو عن ابن عباس متصلا. 1400 - وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حقاً علي المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عبيد: قوله: ((فلا يضره أن يمس)) فإن قلت: هذا إنما يقال فيما فيه مظنة ضرر وحرج، ومس الطيب- ولاسيما يوم الجمعة- سنة مؤكدة، فما معناه؟ قلت: لعل رجالاً من المسلمين توهموا أن مس الطيب من عادة النساء وسمة المخدرات، فنفي الحرج عنهم. وهو مثل قوله تعالي: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} السعي بين الصفا والمروة ركن واجب. الحديث الخامس عن البراء: قوله: ((حقاً)) مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقاً، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه اختصاراً: ((وأن يغتسلوا)) فاعل، وكان من حقه أن يؤخر بعد الكلام توكيداً له، فقدمه اهتماماً بشأنه. قوله: ((وليمس)) عطف علي معنى الجملة السابقة؛ إذ فيه شمة من الأمر، أي ليغتسلوا وليمسوا. قوله: ((فالماء له طيب)) أي عليه أن يجمع بين الماء والطيب، فإن تعذر الطيب فالماء كاف، لأن القصد دفع الرائحة الكريهة من صاحبه.

(45) باب الخطبة والصلاة

(45) باب الخطبة والصلاة الفصل الأول 1401 - عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخاري. 1402 - وعن سهل بن سعد، قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. متفق عليه. 1403 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة. رواه البخاري. 1404 - وعن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام علي المنبر، علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث علي الزوراء. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الخطبة والصلاة الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أنس وسهل: قوله: ((تمثل)) أي تزيد علي الزوال مزيداً لحسن ميلانها، أي كان يصلي وقت الاختيار. قوله: ((نقيل))، هو من القيلولة. قال الأزهري: القيلولة والمقيل عند العرب الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم، بدليل قوله تعالي: ((وأحسن مقيلا)) والجنة لا نوم فيها. وقوله: ((ونتغدى)) ((نه)): هو الطعام الذي يؤكل نصف أول النهار. وهما كنايتان عن التبكير، أي لا يتغدون، ولا يستريحون، ولا يشتغلون بهم ولا يهتمون بأمر سواه. الحديث الثالث عن- أنس رضي الله عنه-: قوله: ((بكر بالصلاة)) ((تو)) أي تعجل بها. وقد ذكرناه، فيما مضى. ويحمل حديثه الآخر ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس)) علي أنه في فصل دون فصل، ولم يرد بقوله: ((كان) عموم الأحوال ليتفق الحديثان. الحديث الرابع عن السائب: قوله: ((فلما كان عثمان)) ((كان)) تامة، أي حصل عهده وأمره. والمراد بالنداء الثالث هو النداء قبل خروج الإمام ليحضر القوم، ويسعوا إلي ذكر الله. وإنما زاد عثمان رضي الله عنه هذا النداء الثالث علي الزوراء؛ لكثرة الناس. فرأي هو أن يؤذن المؤذن قبل

1405 - وعن جابر بن سمرة، قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكر الناس، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً. رواه مسلم. 1406 - وعن عمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوقت لينتهي الصوت إلي نواحي المدينة، ويجتمع الناس قبل خروج الإمام، لئلا يفوت عليهم أوائل الخطبة. وسمي هذا النداء ثالثاً وإن كان باعتبار الوقوع أولاً؛ لأنه ثالث الندائين اللذين كانا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وزمان الشيخين رضي الله عنهما. وهما الأذان بعد صعود الخطيب، وقبل قراءة الخطبة. وهو المراد بالنداء الأول والإقامة بعد فراغه من القراءة بعد نزوله. وهو المراد بالنداء الثاني. ((تو)): ((الزوراء)) ذكر تفسيرها في ((سنن ابن ماجه)) هي دار في السوق. ولعل تسميتها زوراء، لميلها عن عمارات البلد يقال: قوس زوراء لميلها، أو لأنها بعيدة عنها يقال: أرض زوراء بعيدة. الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((يقرأ القرآن)) ((قض)): هو صفة ثإنية للخطبتين، والراجع محذوف، والتقدير: يقرأ فيهما، ((ويذكر الناس)) عطف عليه، داخل في حكمه. والقصد في الأصل الاستقامة في الطريق. استعير للتوسط في الأمور، والتباعد عن الأطراف، ثم للتوسط بين الطرفين كالوسط، أي كانت صلاته متوسطة، لم تكن في غاية الطول ولا في غاية القصر وكذا الخطبة. وذلك لا يقتضي مساواة الخطبة للصلاة، حتى يخالف قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمار رضي الله عنه ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً)) لأن أطول الصلاة أطول من طوال الخطب المعهودة، فإنه صلي للخسوف ركعتين قرأ فيهما البقرة وآل عمران، والنساء والمائدة، وسبح في ركعاته قدر أربعمائة آية منها، ولم يكن شيء من خطبته مدى ذلك، ولا نصيفه. ولذلك أفرد كلا منهما بقصد، ولم يثن، فتكون الصلاة المقتصدة أطول من الخطبة المتوسطة. والمقصود من الأمر بالإطالة أن يجعل صلاته أطول من خطبته لا الإطالة مطلقاً. الحديث السادس عن عمار- رضي الله عنه-: قوله: ((مئنة من فقهه)) قوله: ((من فقهه)) صفة ((مئنة)) أي مئنة ناشيءة من فقهه. ((نه)): أي ذلك مما يعرف به فقه الرجل، فكل شيء دل علي شيء فهو مئنة له، كالمخلقة والمحدرة. وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن التي للتحقيق والتأكيد، غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمنت حروفها دلالة علي أن معناها فيها.

1407 - وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم))، ويقول: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو قيل: إنها اشتقت من لفظها بعد ما جعلت اسماً، لكان قولا. ومن أغرب ما قيل فيها: إن الهمزة بدل من ظاء المظنة، والميم في ذلك كله زائدة. قال أبو عبيد: معناه أن هذا مما يستدل به علي فقه الرجل. قال الأزهري: قد جعل أبو عبيد الميم فيه أصلية، وهي ميم مفعلة. قيل: إنما جعل صلى الله عليه وسلم ذلك علامة من فقهه؛ لأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع عليها، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل علي الفرع بالزيادة والفضل. قوله: ((وإن من البيان سحراً)) الجملة حال من ((اقصروا)) أي اقصروا الخطبة، وأنتم تأتون بها معإني جمة في ألفاظ يسيرة، وهو من أعلي طبقات البيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((أوتيت جوامع الكلم)). ((مح)): قال القاضي عياض: فيه تأويلان: أحدهما أنه ذم لإمالة القلوب، وصرفها بمقاطع الكلام، حتى يكسب من الإثم به ما يكسب بالسحر. وأدخله مالك في الموطأ في باب ما يكره من الكلام، وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني: أنه مدح؛ لأن الله تعالي امتن علي عباده بتعليمهم البيان، وشبهه بالسحر لميل القلوب إليه، وأصل السحر الصرف، والبيان يصرف القلوب ويميلها إلي ما يدعو إليه. قال الشيخ محيي الدين: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح المختار. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((كأنه منذر جيش)) مثل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته وإنذاره القوم بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما [يرد بهم] –بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب بحيث لا يفوت منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه علي تغافلهم، كذلك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإنذار، وإلي قرب مجيئها أشار بإصبعيه. ونظيره ما روي أنه لما نزل {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي)) إلي آخر الحديث. قوله: ((صبحكم ومساكم)) أي صبحكم العدو، وكذلك مساكم، والمراد الإنذار بإغارة الجيش في الصباح والمساء، و ((يقول)) يجوز أن يكون صفة لـ ((منذر جيش))، وأن يكون حالا من اسم

1408 - وعن يعلي بن أمية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علي المنبر: (ونادوا يا مالك ليقض عيلنا ربك)). متفق عليه. 1409 - وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت (ق. والقرآن المجيد)) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل جمعة علي المنبر إذا خطب الناس. رواه مسلم. 1410 - وعن عمرو بن حريث: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه يوم الجمعة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((كان)) والعامل معنى التشبيه، فالقائل إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ((يقول)) الثاني عطف علي الأول. وعلي الوجه الأول عطف علي جملة ((كأنه)) وقوله: ((بعثت أنا)) أكد الضمير المتصل بالمنفصل؛ ليصح عطف ((الساعة)) عليه. الحديث الثامن عن يعلي- رضي الله عنه-: قوله: {ليقض علينا ربك} من قضى عليه، إذا أماته، {فوكزه موسى فقضى عليه} والمعنى سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم، فيجابون بقوله: {إنكم ماكثون} أي خالدون. وفيه نوع استهزاء بهم، دل هذا الحديث، وما قبله، وقوله تعالي: {إن أنت إلا نذير}، وقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} وقوله: {ليكون للعالمين نذيرا} علي أن الناس إلي الإنذار والتخويف أحوج منهم إلي التبشير؛ لتماديهم في الغفلة، وإنهماكهم في الشهوات. الحديث التاسع عن أم هشام: قوله: ((ما أخذت)) ((مظ)): أي ما حفظتها، وأرادت به أول السورة لا جميعها؛ لأن جميعها لم تقرأ في الخطبة. الحديث العاشر عن عمرو بن حريث: قوله: ((أرخى طرفيها)) ((مظ)): أي سدل، وأرسل طرف عمامته. وفيه أن لبس الزينة يوم الجمعة، والعمامة السوداء وإرسال طرفيها بين الكتف سنة.

1411 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)). رواه مسلم. 1412 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة كلها)). متفق عليه. الفصل الثاني 1413 - عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ، أراه المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب. رواه أبو داود. [1413] 1414 - وعن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى علي المنبر، استقبلناه بوجوهنا. رواه الترمذي وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل، وهو ضعيف ذاهب الحديث. [1414] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن جابر: قوله: ((فليتجوز فيهما)) أي فليخفف. يقال: تجوز في صلاته، إذا خفف. وفيه أن صلاة تحية المسجد مستحبة في أثناء الخطبة. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة: قوله: ((فقد أدرك الصلاة كلها)) هذا مختص بصلاة الجمعة، يبينه حديث أبي هريرة في آخر الفصل الثالث. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمر- رضي الله عنهما-: قوله: ((أراه المؤذن)) أي قال الراوي: أظن أن ابن عمر أراد بإطلاق قوله: ((حتى يفرغ)) تقييده بالمؤذن. المعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس علي المنبر مقدار ما يفرغ المؤذن من أذانه، ثم يقوم فيخطب. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله ((ذاهب الحديث)) أي ذاهب حديثه، غير حافظ للحديث. وهو عطف بيان لقوله: ((وهو ضعيف)).

الفصل الثالث 1415 - عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. رواه مسلم. 1416 - وعن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا إلي هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالي: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً). رواه مسلم. 1417 - وعن عمارة بن رويبة: أنه رأي بشر من مروان علي المنبر رافعاً يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد علي أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فقد والله صليت)) ((والله)) قسم اعترض بين ((قد)) وتعلقة. وهو دال علي جواب القسم. ((والفاء)) في ((فمن)) جواب شرط محذوف، وفي ((فقد كتب)) جواب ((من))، و ((الفاء)) في ((فقد والله)) سببيه. المعنى: أنه كاذب، ظاهر الكذب، بسبب إني صليت إلي آخره. الحديث الثاني عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((وعبد الرحمن)) هذا أظنه من بني أمية. وقوله: ((قد قال الله تعالي)) حال مقررة لجهة الإشكال، أي كيف تخطب قاعداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً بدليل قوله تعالي: {وتركوك قائماً} يخطب يوم الجمعة قائما، فتركوه وقاموا إلي التجارة، وما بقى معه إلا يسير. الحديث الثالث عن عمارة- بالتخفيف-: قوله: ((رافعاً يديه)) يعني عند التكلم كما هو دأب الوعاظ إذا حموا. ويشهد له قوله: وأشار بأصبعه المسبحة)). قوله: ((أن يقول)) أي يشير عند التكلم في الخطبة بأصبعه، يخاطب الناس وينبههم علي الاستماع.

(46) باب صلاة الخوف

1418 - وعن جابر، قال: لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة علي المنبر، قال: ((اجلسوا))، فسمع ذلك ابن مسعود، فجلس علي باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تعالي يا عبد الله بن مسعود)). رواه أبو داود. [1418] 1419 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان، فليصل أربعاً)) أو قال: ((الظهر)). رواه الدارقطني. [1419] (46) باب صلاة الخوف الفصل الأول 1420 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: عزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة علي العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((تعال)) أي هلم. ((غب)): أصله أن يدعى الإنسان إلي مكان مرتفع، ثم جعل للدعاء إلي كل مكان. وتعلي: ذهب صاعداً، يقال: عليته فتعلي. وفيه دليل علي جواز التكلم علي المنبر. والله أعلم. باب صلاة الخوف الفصل الأول الحديث الأول عن سالم: قوله: ((فوازينا)) ((نه)): الموازاة: المقابلة، والمواجهة، يقال: وازيته إذا حاذيته. يفهم من الحديث: أن كل طائفة إذا اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعة واحدة وصلوا لأنفسهم الركعة الأخيرة بالنوبة منفردين. هذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.

سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين. وروى نافع نحوه وزاد: فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً، قياماً علي أقدامهم، أو ركباناً مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 1421 - وعن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلي بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلي بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. متفق عليه. وأخرج البخاري بطريق عن القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. 1422 - وعن جابر، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا علي شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاخترطه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: ((لا)). قال: فمن يمنعك مني؟ قال: ((الله يمنعني منك))، قال: فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه، قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن يزيد: قوله: ((إن طائفة)) متعلق بما يتعلق به ((عمن)) أي روي عمن صلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((قوله)): ((وجاه العدو)) صفة لطائفة أي طائفة صفت مقابلة للعدو، ((نه)): وجاه: بكسر الواو ويضم. وفي وراية ((تجاه العدو)) والتاء بدل من الواو، مثلها في تقاة وتخمة. وبهذا الحديث عمل مالك، والشافعي، وبالأول أبو حنيفة رضي الله عنهم. وسميت هذه الغزوة بذات الرقاع لأنهم شدو الخرق علي أرجلهم فيها لحائفها وعوز النعال هذه رواية مسلم. وقيل: سميت؛ لأنها كانت بأرض ذات ألوان مختلفة كالرقاع. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((فاخترطه)) ((نه)): أي سله من غمده، وهو افتعل من الخرط يقال: خرطت العود، أخرطه، خرطاً قشرته، قوله: ((الله يمنعني منك)) وكان يكفي في

فنودي بالصلاة، فصلي بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان. متفق عليه. 1423 - وعنه، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، ثم قاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولي، وقم الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواب أن يقول: الله، فبسط اعتماده علي الله واعتصاماً بحفظه وكلاءته، قال الله تعالي ((والله يعصمك من الناس)). قوله: ((فصلي بطائفة ركعتين)): ((مظ)): هذه الرواية مخالفة لما قبلها، مع أن الموضع واحد. وذلك لاختلاف الزمان. ((تو)): اختلفت الروايات في صفة تلك الصلاة لاختلاف أيامها، فقد صلى الله عليه وسلم بعسفان، وببطن نخلة، وبذات الرقاع، وغيرها علي أشكال متباينة بناء علي ما رآه من الأحوط في الحراسة، والتوقي من العدو، وقد أخذ بكل رواية منها جمع من العلماء. قوله: ((وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات)) قيل: معناه صلي بالطائفة الأولي ركعتين، وسلم وسلموا، وبالثانية كذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم متنفلاً في الثانية، وهم مفترضون. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((والصف الذي يليه)) الصف: يجوز بالرفع عطفاً علي فاعل ((انحدر)) وجاز بغير التأكيد؛ لوجود الفصل، وبالنصب، علي أنه مفعول معه. قوله: ((في نحر العدو)) أي مقابلتهم. ((غب)): النحر موضع القلادة من الصدر، ونحرته أصبت نحره، ومنه نحر البعير، وانتحروا علي كذا تقاتلوا، تشبيهاً بنحر البعير.

الفصل الثاني 1424 - عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلي بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم جاء طائفة أخرى، فصلي بهم ركعتين، ثم سلم. رواه في ((شرح السنة)). [1424] الفصل الثالث 1425 - عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان. رواه الترمذي، والنسائي. [1425] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ضجنان)) بالضاد المعجمة والجيم والنون. ((نه)): هو موضع، أو جبل بين مكة والمدينة. قوله: {فأجمعوا أمركم} ((غب)): الجمع ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: أجمعت كذا في أمر يتوسل إليه بالفكرة، نحو ((فأجمعوا أمركم وشركاءكم))، ويقال: أجمع الناس علي كذا، إذا اجتمعت آراؤهم عليه. قوله: ((وإن جبريل)) حال من قوله: ((فقال المشركون لهؤلاء)) علي نحو جاءني زيد والشمس طالعة. قوله: ((فتميلوا عليهم)) أي شدوا عليهم شدة واحدة. وقوله: {وليأخذوا حذرهم} أي ما فيه الحذر. ((الكشاف)): جعل الحذر- وهو التحرز والتيقظ- آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ؛ دلالة علي التيقظ التام والحذر الكامل، ومن ثم قدمه علي أخذ الأسلحة.

(47) باب صلاة العيدين

(47) باب صلاة العيدين الفصل الأول 1426 - عن أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلي المصلي، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس علي صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشي أمر به، ثم ينصرف، متفق عليه. 1427 - وعن جابر بن سمرة، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب صلاة العيدين الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((يبدأ به)) صفة مؤكدة لـ ((شيء))، و ((أول شيء)) وإن كان مخصصاً فهو خبر؛ لأن الصلاة أعرف منه، فهو كقوله تعالي: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} فدل تقديم الخبر علي الاختصاص، والتعريض ببعض بني أمية منهم مروان بن الحكم، وتقديمه الخطبة علي الصلاة. قوله: ((فيعظهم)) أي ينذرهم ويخوفهم؛ ليتوقا من عقاب الله، ويوصيهم في حق الغير؛ لينصحوا لهم، ويأمرهم بالحلال والحرام، وبالطاعة لله تعالي ولرسوله. وأما قوله: ((أو يأمر بشيء)) فليس بتكراره؛ لأنه أمر بما يتعلق بالبعث، وقطعه في الحرب واستعداد أوزارها. قوله: ((أن يقطع بعثاً)) ((نه)): أي يفرد قوماً يبعثهم في الغزو، ويعينهم من غيرهم. ((قض)): البعث مصدر بمعنى مبعوث، أي لو أراد أن يرسل جيشاً لأرسله، أو يأمر بشيء لأمر به، ولم تمنعه الخطبة عن ذلك. وفيه دليل علي أن الكلام في الخطبة غير حرام علي الإمام، وتخصيص التعيين بالعيد لاجتماع الناس هناك، فلا يحتاج إلي أن يجمعهم مرة أخرى. ((حس)): السنة أن يخرج المصلي لصلاة العيد إلا من عذر، فيصلي في المسجد. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((غير مرة)) حال أي كثيراً. قوله: ((بغير أذان)) ((حس)): العمل علي هذا عند عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أذان ولا إقامة لصلاة العيد، ولا شيء من النوافل.

1428 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون لعيدين قبل الخطبة. متفق عليه. 1429 - وسئل ابن عباس: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد؟ قال: نعم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلي، ثم خطب، ولم يذكر أذاناً ولا إقامة، ثم أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلي آذانهن وحلوقهن يدفعن إلي بلال، ثم ارتفع هو وبلال إلي بيته. متفق عليه. 1430 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. متفق عليه. 1431 - وعن أم عطية، رضي الله عنها، قالت: أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، وذوات الخدود، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، وتعتزل الحيض عن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وأبو بكر وعمر يصلون)) ((تو)): ذكر الصحابي الشيخين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقرره من السنة، إنما يكون علي وجه البيان لتلك السنة أنها ثابتة معمول بها، قد عمل بها الشيخان بعده، ولم ينكر عليهما ولم يغير، وكان ذلك بمحضر من مشيخة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذكرهما علي سبيل الاشتراك- معاذ الله أن يظن بهم ذلك!. قوله: ((يهوين)) ((نه)): يقال: أهوى أي مدها وأمالها إليه ويقال أهوى يده بيده إلي الشيء ليأخذه. قوله: ((ارتفع)) أي أسرع تكلفاً. ((نه)): يقال: رفعت ناقتي أي كلفتها، المرفوع من السير. ((حس)): في الحديث دليل علي جواز عطية المرأة بغير إذن الزوج، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما حكى عن مالك. قالوا: ويحمل ذلك علي معنى حسن المعاشرة، واستطابة نفس الرجل، وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجوز لامرأة عطية بخير إلا بإذن زوجها)) فمحمول علي غير الرشيدة. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((لم يصل قبلهما ولا بعدهما)) أي سنة. الحديث الخامس عن أم عطية: قوله: ((الحيض)) جمع حائض، و ((الخدرو)) جمع خدر، وهو الستر، ((ذوات الخدور)) النساء اللاتي قل خروجهن من بيوتهن. قوله: ((يوم العيدين)) قال المالكي: فيه توحيد اليوم المضاف إلي العيدين، وهو في المعنى مثنى، ونحوه قوله: ((مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما)). وقول الشاعر:

مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول اللهَ إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها)) متفق عليه. 1432 - وعن عائشة، قالت: إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، فقال: ((دعهما يا أبا بكر! فإنها أيام عيد- وفي رواية: يا أبا بكر! إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حمامة بطن الوادي بين ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها فلو روي الحديث بلفظ التثنية علي الأصل لجاز ((مظ)): أمر جميع النساء بحضور المصلي يوم العيد، أن تصلي من ليس لها عذر وتصل بركة الدعاء إلي من لها عذر، وفيه ترغيب للناس في حضور الصلاة، ومجالس الذكر، ومقاربة الصلحاء، لينالهم بركتهم، وهذا غير مستحب في زماننا؛ لظهور الفساد. ((حس)): اختلفوا في خروج النساء ليوم العيدين، فرخص فيه بعضهم، وكرهه بعضهم. ويستحب إخراج الصبيان، كان ابن عمر يخرج من استطاع من أهل بيته في العيدين. وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله تعالي، ومواطن الخير. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تدففان)) في ((الغريبين)): الدف الجنب. ومنه دفتا المصحف، لمشابهتهما بجنبتين. ((والدف)) بضم الدال سمي به لأنه متخذ من جلد الجنب. قوله: ((وتضربان)) قيل: تكرار لزيادة الشرح، أي ويضربان الدف. وقيل: يرقصان، من ضرب الأرض إذا وطأها. قوله: ((تغنيان)) ((حس)): وكان الشعر الذي يغنيان في وصف الحرب والشجاعة. وفي ذكره معونة في أمر الله. فأما الغناء بذكر الفواحش، والمجاهرة بالمنكر من القول، فهو المحظور من الغناء. وحاشاه أن يجري شيء من ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم. قوله: صلى الله عليه وسلم: ((هذا عيدنا)) اعتذار منه بأن إظهار السرور في يوم العيدين شعار الدين، وليس كسائر الأيام. ((شف)): فيه دليل علي أن السماع وضرب الدف غير محظور، لكن في بعض الأحيان، أما الإدمان عليه فمكروه، مسقط للعدالة، ماح للمروءة. ((وتقاولت)) تفاعلت من القول، أي تفاخرت. قوله: ((يوم بعاث)) - بالعين المهملة، وهو بضم الباء- يوم مشهور، كان فيه حرب بين الأوس والخزرج. وهو اسم حضن للأوس. وبعضهم يقولها بالغين المعجمة، وهو تصحيف.

1433 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً، رواه البخاري. 1434 - وعن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق. رواه البخاري. 1435 - وعن البراء قال: خطينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي، فإنما هو شاة لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: وجرى الحرب في هذا اليوم عند هذا الحصن بين القبلتين، وبقيت إلي مائة وعشرين سنة، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فألف بينهم بيمن قدومه. وفيه نزل قوله تعالي: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}. قوله: ((متغش بثوبه)) ((نه)): أي متغط. والتغشي: التغطي. وقوله: ((فانتهرهما)) الانتهار: الزجر، يقال: نهره وانتهره، أي زجره. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى يأكل تمرات)) ((شف)): لعله صلى الله عليه وسلم أسرع بالإفطار يوم الفطر ليخالف ما قبله، فإن الإفطار في سلخ رمضان حرام، وفي العيد واجب. ولم يفطر في الأضحى قبل الصلاة؛ لعدم المعنى المذكور. الحديث الثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((خالف الطريق)) أي يخرج في طريق، ويرجع في آخر، قيل: والسبب فيه يحتمل وجوهاً، منها: أن يشمل الطريقين بركته، وبركة من معه من المؤمنين، ومنها: أن يستغنى منه أهل الطريقين، ومنها: إشاعة ذكر الله، ومنها: التحرز عن كيد الكفار، ومنها: اعتياده أخذه ذات اليمين حث عرض له سبيلان ومنها: أخذ طريق أطول في الذهاب إلي العبادة، ليكثر خطاه، فزيد ثوابه، وأخذ طريق أقصر ليسرع إلي مثواه. الحديث التاسع والعاشر عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((شاة لحم)) الإضافة للبيان، كخاتم فضة؛ لأن الشاة شاتان، شاة يأكل لحمها الأهل، وشاة نسك يتصدق بها لله تعالي ومعنى قوله: ((ليس من النسك في شيء)) أي ليس من شعائر الله تعالي.

1436 - وعن جندب بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا، فليذبح علي اسم الله)). متفق عليه. 1437 - وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة، فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة، فقد تم نسكه، وأصاف سنة المسلمين)). متفق عليه. 1438 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلي. رواه البخاري. الفصل الثاني 1439 - عن أنس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذا اليومان؟)) قالوا: كنا نعلب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): هذا الحديث يشتمل علي بيان وقت الأضحية، فأجمع العلماء علي أنه لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر من يوم النحر. ثم ذهب قوم إلي أن وقتها يدخل إذا ارتفعت الشمس يوم النحر قيد رمح، ومضى بعده قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين، اعتباراً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذبح جاز سواء صلي الإمام أو لم يصل فإن ذبح قبله لم يجز سواء في المصر أو لم يكن. وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. ويمتد وقت الأضحية إلي غروب الشمس من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي. وذهب جماعة إلي أن وقتها إلي يومين من أيام التشريق، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قدم المدينة)) أي أهل المدينة ولولا استدعاء الراجع من الحال أعني ((ولهم)) لكانت لنا مندوحة عن وجه التقدير. قوله: ((قد أبدلكم الله بهما خيراً)) نهي عن اللعب، والسرور فيه في نهاية من اللطف، وأمر بالعبادة، وأن السرور الحقيقي فيها، قال تعالي: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} ((مظ)). فيه دليل علي أن تعظيم النيروز والمهرجان وغيرهما مما ينهي عنه. وقال القاضي أبو المحاسن الحسن بن منصور الحنفي في فتاويه: ينبغي أن لا يفعل أحد في يوم النيروز ما لا يفعله في غيره من الأيام

((قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر)) رواه أبو داود. [1439]. 1440 - وعن بريدة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي. رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [1440] 1441 - وعن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولي سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة. رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [1441] 1442 - وعن جعفر بن محمد، مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كبروا في العيدين والاستسقاء سبعاً وخمساً، وصلوا قبل الخطبة، وجهروا بالقراءة. رواه الشافعي. [1442] 1443 - وعن سعيد بن العاص، قال: سألت أبا موسى وحذيفة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً تكبيره علي الجنائز. فقال حذيفة. صدق. رواه أبو داود. [1443] ـــــــــــــــــــــــــــــ فمن اشترى فيه شيئاً لم يكن يشتريه في غيره، أو أهدي فيه هدية إلي غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظم الكفرة فكفر، وإن أراد بالشراء التنعيم، وبالإهداء التحاب جرياً علي ((العادة))، فليس بكفر، لكن يحترز عنه كراهة التشبه بالكفرة. هذا تلخيص كلامه. وقال الشيخ الإمام أبو حفص الحنفي رحمه الله تعالي: من أهدى فيه بيضة إلي مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالي وأحبط عمله. الحديث الثاني، والثالث عن كثير رضي الله عنه: قوله: ((سبعاً قبل القراءة)) ((مظ)): السبع في الأولي غير تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع، والخمس في الثانية غير تكبيرة القيام وتكبيرة

1444 - وعن البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم نوول يوم العيد قوسا فخطب عليه. رواه أبو داود. [1444] 1445 - وعن عطاء، مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يعتمد علي عنزته اعتماداً. رواه الشافعي. [1445] 1446 - وعن جابر، قال: شهدت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متكئاً علي بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكرهم، وحثهم علي طاعته [ثم قال]: ومضى إلي النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن، وذكرهن. رواه النسائي. [1446] 1447 - وعن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره. رواه الترمذي، والدارمي. [1447] 1448 - وعنه، أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد. رواه أبو داود، وابن ماجه. [1448] ـــــــــــــــــــــــــــــ الركوع، وكل واحدة من السبع والخمس قبل القراءة. وبه قال الشافعي، وأحمد. وعند أبي حنيفة في الأولي أربع تكبيرات قبل القراءة مع تكبيرة الإحرام، وفي الثانية أربع تكبيرات بعد القراءة مع تكبيرة الركوع. الحديث الرابع، والخامس عن سعيد: قوله: ((تكبيره)) أي كبر تكبيرا مثل تكبيرة الجنازة، وهذا متمسك أبي حنيفة كما مضى بحثه. الحديث السادس إلي الثامن عن جابر: قوله: ((متكئاً علي بلال)). فيه أن الخطيب عليه أن

1449 - وعن أبي الحويرث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي عمرو بن حزم وهو بنجران عجل الأضحى، وأخر الفطر، وذكر الناس. رواه الشافعي. [1449] 1450 - وعن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ركباً جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلي مصلاهم. رواه أبو داود، والنسائي. [1450] الفصل الثالث 1451 - عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء بن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، قلا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، ثم سألته- يعني عطاء- بعد حين عن ذلك، فأخبرني، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن لا أذان للصلاة يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ يعتمد علي شيء كالقوس، والسيف، والعنزة، والعصا، أو يتكئ علي إنسان. قوله: ((وعظهن وذكرهن)) عطف ((ذكرهن)) علي ((وعظهن)) تفسيراً. ((غب)): الوعظ زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيا يرق له القلب. الحديث التاسع إلي الحادي عشر عن أبي عمير: قوله: ((عن عمومة له)): الجوهري: جمع العم أعمام وعمومة، مثل البعولة. يقال: ما كنت عماً، ولقد عممت عمومة، وبيني وبين فلان عمومة، كما يقال: أبوة وخؤولة. قوله: ((فأمرهم أن يفطروا)) ((مظ)): يعني لم ير الهلال في المدينة ليلة الثلاثين من رمضان فصاموا ذلك اليوم، فجاء قافلة في أثناء ذلك اليوم وشهدوا أنهم رأوا الهلال ليلة الثلاثين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإفطار، وبأداء صلاة العيد يوم الحادي والثلاثين. وفي الفقه: إن شهدوا بعد الزوال، أفطر الناس وصلوا صلاة العيد من الغد عند أبي حنيفة. وفي قول الشافعي، وظاهر قوليه: أنه لا تقضي الصلاة لا من اليوم ولا من الغد. وهو مذهب مالك. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس وجابر رضي الله عنه: قوله: ((ولا شيء)) تأكيد للنفي، أي ولا

الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج، ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة. رواه مسلم. 1452 - وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة، فإذا صلي صلاته، قام فأقبل علي الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: ((تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا))، وكان أكثر من يتصدق النساء. ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجت مخاصراً حتى أتينا المصلي، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟! فقال: لا يا أبا سعيد! قد ترك ما تعلم. قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرار، ثم انصرف. [رواه مسلم]. ـــــــــــــــــــــــــــــ شيء من ذلك قط. وقوله ((لا نداء يومئذ)) تأكيد علي تأكيد إن كان من كلام جابر، وإن كان من كلام عطاء ذكره تقريعاً لابن جريج، يعني حدثت لك أن لم تكن تؤذن ثم تسألني عن ذلك بعد حين! الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((حتى كان مروان)) ((كان)) تامة، والمضاف محذوف، يعني حدث في عهده أو إمارته. قوله: ((مخاصراً)) حال من الفاعل. ((نه)): المخاصرة: أن يأخذ رجل بيد رجل آخر يتماشيان، ويد كل واحد منهما عند خصر صاحبه. قوله: ((فقال: لا)) أي لا نبتدئ بالصلاة وقد ترك ما علمت من تقديم الصلاة علي الخطبة، وقد أتينا بما هو خير من ذلك، ولذلك أجاب بقوله: ((لا تأتون بخير مما أعلم)) لإني عالم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده رضوان الله عليهم. قوله: ((ثلاث مرار)) أي قال ذلك أبو سعيد ثلاث مرار، ثم انصرف ولم يحضر الجماعة.

(48) باب في الأضحية

(48) باب في الأضحية الفصل الأول 1453 - عن أنس، قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، قال: رأيته واضعًا قدمه علي صفاحهما ويقول: ((بسم الله والله أكبر)) متفق عليه. 1454 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى ليضحي به، قال: يا عائشة! هلمي المدية))، ثم قال: ((اشحذيها بحجر))، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد))، ثم ضحى به. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في الأضحية وهي ما يذبح يوم النحر علي وجه القربة. وفي المغرب: الأضحية جمعها أضاح. وقال: ضحية وضحايا كهدية وهدايا، وأضحاة وأضحى، كأرطاة وأرطى. وبه سمى يوم الأضحى. ويقال: ضحى بكبش، أو غيره، إذا ذبحه وقت الضحى من أيام الأضحى. ثم كثر حتى قيل ذلك ولو ذبح آخر النهار. ((غب)): تسمية الأضحية بها في الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل صلاتنا هذه فليعد)). الفصل الأول الحديث الأول عن أنس: ((أملحين)) ((نه)): الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده. قيل: هي النقي البياض. والأقرن: العظيم القرن، والأنثى قرناء. قوله: ((صفاحهما)) ((نه)): صفح كل شيء وجهه وناحيته. ((مظ)): وفيه أن السنة أن يذبح كل أحد الأضحية بيده لأن الذبح عبادة، والعبادة أفضلها أن يباشر كل بنفسه، ولو يوكل غيره جاز. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((أمر)) أي أمر بإتيان كبش، فأتي. قوله ((يطأ في سواد)) ((شف)): هو مجاز عن سواد القوائم، ويبرك في سواد من سواد البطن، وينظر في سواد عن سواد العينين. أقول: لو ذهب فيه إلي التجريد لجاز، كما في قوله تعالي: {لقد كان لكم في

1455 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة)) إلا أن يعسر عليكم؛ فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم. 1456 - وعن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها علي صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ضح به أنت)) – وفي رواية – قلت: ((يا رسول الله! أصابني حذع، قال: ((ضح به)). متفق عليه. 1457 - وعن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلي. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله أسوة حسنة} وقولهم: في البيضة عشرون رطلاً من حديد – وهي في نفسها هذا المقدار؛ لأنها ظرف لموزون مقداره عشرون رطلاً – كذلك قوله: ((يطأ في سواد)) معناه يطأ في الأرض بسواد قوائمه، جعل السواد ظرفًا محل لوطئه، وهو صفة القوائم، وكذلك جعل المنظور فيه سواد العين، وهي الناظر نفسه. قوله: ((هلمي)) ((نه)): تعالي، وفيه لغتان: فأهل الحجاز يطلقونه علي الواحد، والجمع، والاثنين، والمؤنث بلفظ واحد مبني علي الفتح. وبنو تميم تثني، وتجمع، وتؤنث. قوله: ((اشحذيها)) ((نه)): يقال: شحذت السيف والسكين إذا حددته بالمسن، وغيره. قوله: ((ثم قال: بسم الله)) فإن قلت: التسمية ينبغي أن تكون قبل الذبح، فما معنى ((ثم)) هنا؟ قلت: معناه التراخي في الرتبة، وأنها هي المقصودة الأولية. ومن ثم كنى بها عن الذبح في قوله تعالي {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها}. قوله: ((من أمة محمد)) ((مظ)): ليس معناه أن الغنم الواحد يضحى عن اثنين فصاعدًا، بل معناه: المشاركة في الثواب بالأمة. قوله: ((ثم ضحى به)) أي غدا به، في أساس البلاغة: ضحى قومه أي غداهم. الحديث الثالث عن عقبة: قوله ((جذعة)) ((نه)): أصل الجذع من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابًا فتيًا، فهو من الإبل: ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر: ما دخل في الثلاثة، ومن الضأن: ما تمت له سنة. وقيل: أقل منها. ((حس)): اتفقوا علي أنه لا يجوز من الإبل، والبقر، والمعز دون الثنى، والثني من الإبل: ما استكمل خمس سنين، ومن البقر والمعز: ما استكمل سنتين وطعن في الثالثة، أما الجذع من الضأن فاختلفوا فيه، فذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم إلي جوازه، غير أن بعضهم اشترط أن يكون عظيمًا. وقال الزهري: لا يجوز من الضأن إلا الثني فصاعدًا كالإبل والبقر؛ والأول أصح لما ورد ((نعمت الأضحية الجذع من الضأن)). الحديث الرابع عن عقبة: قوله: ((عتود)) ((نه)): هو الصغير من أولاد المعز إذا قوي وأتى عليه

1458 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة)). رواه مسلم، وأبو داود، واللفظ له. 1459 - وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل العشر وأراد بعضكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئًا))، - وفي رواية: ((فلا يأخذن شعرًا، ولا يقلمن ظفرًا، - وفي رواية: ((من رأي هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)). رواه مسلم. 1460 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلي الله من هذه الأيام العشرة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد ـــــــــــــــــــــــــــــ حول. قوله ((ضح به أنت)) يذاق منه معنى الاختصاص، كما في جذعة ابن نيار قال: ((يجزيء عنك، ولا يجزيء عن أحد بعدك)). الحديث الخامس عن ابن عمر: قوله: ((والجزور عن سبعة)) أي يجزيء عن سبعة أنفس. الحديث السادس عن أم سلمة: قوله: ((من شعره وبشره)) ((مظ)): المراد بالبشرة هنا الظفر، لعله ذهب إلي أن الروايتين دلتا عليه، وإلا فالبشر ظاهر جلد الإنسان، ويحتمل أن يراد أنه لا يغير من جلده شيئًا اذا احتيج إلي تغييره. ((تو)): ذهب بعضهم إلي أن النهي للتشبيه بحجاج بيت الله المحرمين. والأولي أن يقال: إن المضحي يجعل أضحيته فدية لنفسه من العذاب، ويرتاد بها القربة لوجه الله تعالي جبرانًا لتقصيره في حقوق الله، فرأي نفسه مستوجبة للعقاب، - وهو القتل – ولم يؤذن فيه، فقد أهانها وصار كل جزء منها فداء كل جزء منه، فلذلك نهي مس الشعر والبشر لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي، ليتم له الفضائل وينزه عن النقائص: ((حس)): في الحديث دليل علي أن الأضحية غير واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأراد أحدكم أن يضحي)) ولو كانت واجبة، لم يفوض إلي إرادته، ولأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يرى أنها واجبة، بل هي مستحبة. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وإليه ذهب الشافعي. وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي وجوبها علي من ملك نصابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((علي أهل كل بيت في كل عام أضحية، وعتيرة)) والحديث ضعيف مع اتفاق أن العتيرة غير واجبة. الحديث السابع: عن ابن عباس: قوله: ((العمل)) مبتدأ ((فيهن)) متعلق به، والخبر ((أحب))

في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)). رواه البخاري. الفصل الثاني 1461 - عن جابر، قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض علي ملة إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر))، ثم ذبح. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارمي. وفي رواية لأحمد، وأبي داود، والترمذي: ذبح بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)). [1461] ـــــــــــــــــــــــــــــ والجملة خبر ((ما)) و ((من)) الأولي زائدة، والثانية متعلقة بأفعل، وفيه حذف، كأنه لما قيل: ليس العمل في أيام سوى العشر أحب إلي الله تعالي من العمل في الأيام العشر، سئل: ولا الجهاد؟ أي ولا الجهاد في سبيل الله في أيام أخر أحب إلي الله من العمل في هذه الأيام؟ قيل: ويوضح هذا المعنى حديث أبي هريرة في آخر الفصل الثاني. الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر: قوله: ((موجوءين)) ((نه)): الوجاء: أن يرض أنثيا الفحل رضا شديدًا يذهب شهوة الجماع، وجيء وجأ فهو موجوء. وقيل: هو أن توجأ العروق والخصيتان بحالهما. قوله ((وجههما)) أي جعل وجههما تلقاء القبلة، ثم استقبل بوجه قبله تلقاء الحضرة الإلهية. قال: {إن صلاتي ونسكي} أي عبادتي، وتقربي، وذبحي، جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالي: {فصل لربك وانحر} وقوله {محياي ومماتي} أي وما آتيه في حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {لله رب العالمين} خالصة لوجهه، ((وبذلك أمرت وأنا من المسلمين)).

1462 - وعن حنش، قال: رأيت عليا [رضي الله عنه] يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصإني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. رواه أبو داود، وروى الترمذي نحوه. [1462] 1463 - وعن علي، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء، رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وانتهت روايته إلي قوله: والأذن. [1463] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اللهم منك)) أي هذه منحة منك صادرة عن محمد خالصة لك. قوله: ((عني)) أي اجعله أضحية عني، وعن أمتي. ((حس)): وقد كره بعض أهل العلم الموجوء لنقصان العضو، والأصح: أنه غير مكروه، ولأن الخصاء يزيد اللحم طيبًا، وينفي عنه الزهومة؛ ولأن ذلك العضو لا يؤكل. وفيه استحباب أن يذبح الأضحية بنفسه إن قدر عليه وكذلك المرأة. الحديث الثاني عن حنش: قوله: ((ما هذا)) أي ما الذي بعثك علي فعلك هذا؟ فأجاب: وصية أوصإنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((وعن)) في قوله: ((أضحي عنه)) كما في قوله تعالي: {وما فعلته عن أمري} أي ما صدر ما فعلته عن اجتهادي ورأيي. ((حس)): هذا دليل علي أنه لو ضحى عمن مات جاز. ولم ير بعض أهل العلم التضحية عن الميت. قال ابن المبارك: أحب أن يتصدق عنه ولا يضحي فإن ضحى، فلا يأكل منها شيئًا ويتصدق بها كلها. الحديث الثالث عن علي: قوله: ((أن نستشرف العين)) ((نه)): أي نتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما. وقيل: هو من الشرفة، وهي خيار المال، أي أمرنا أن نتحراهما. ((والمقابلة)) هي التي قطع من قبل أذنها شيء، ثم يترك معلقًا، كأنه زنمة، ((والمدابرة)) هي التي فعل بدبر أذنها ذلك، ((ولا شرقاء)) أي المشقوقة الأذن باثنين، ((والخرقاء)) المثقوبة الأذن ثقبًا مستديرًا. وقيل: الشرقاء: ما قطع أذنها طولاً، والخرقاء: ما قطع عرضًا. ((مظ)): لا يجوز التضحية بشاة قطع بعض أذنها عند الشافعي، وعند أبي حنيفة رضي الله عنهما يجوز إذا قطع أقل من النصف. ولا بأس بمكسورة القرن.

1464 - وعنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن. رواه ابن ماجه. [1464] 1465 - وعن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده فقال: ((أربعًا، العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [1465] 1466 - وعن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1466] 1467 - وعن مجاشع من بني سليم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني)) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1467] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن علي: قوله: ((بأعضب القرن)) ((فا)): العضب في القرن الداخل: الانكسار ويقال للكسر الخارج: القصم. قال ابن الأنباري: وقد يكون العضب في الأذن إلا أنه في القرن أكثر. الحديث الخامس عن البراء: قوله: ((أربعًا)) فإن قلت: السؤال بقوله: ((ماذا يتقى)) – علي ما لم يسم فاعله – يقتضي أن يجاب بأربع بالرفع. قلت: لعله صحف الناسخ ((نتقي)) بالنون فكتب ((يتقي)) بالياء، أو أن يخالف الجواب، فتقدر العامل: اتق أربعًا. قوله: ((التي لا تنقي)) ((تو)): هي المهزولة التي لا نقي لها، أي لا مخ. وأنقى البعير إذا وقع في عظامه المخ. الحديث السادس عن أبي سعيد: قوله: ((فحيل)) ((نه)): الفحيل: المنجب في ضرابه. وقيل: هو الذي يشبه الفحولة في عظم خلقه. الحديث السابع عن مجاشع: قوله: ((يوفي مما يوفي منه الثني)) أي الجذع يجزيء مما يتقرب به من الثني. الجذع من الإبل: ما دخل السنة الخامسة، ومن البقر والمعز، ما دخل في الثانية.

1468 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نعمت الضحية الجذع من الضأن)). رواه الترمذي. [1468] 1469 - وعن ابن عباس، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [1469] 1470 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلي الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسًا)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [1470] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن ابن عباس: قوله: ((سبعة)) منصوب بتقدير أعني بيانًا لضمير الجمع. ((مظ)): قوله: ((في البعير عشرة)) عمل به إسحاق بن راهويه. وقال غيره: إنه منسوخ. الحديث العاشر عن عائشة قوله: ((وإنه)) الضمير راجع إلي ما دل عليه إهراق الدم. والتإنيث في ((بقرونها)) باعتبار الجنس. ((مظ)): يعني أفضل عبادات يوم العيد إراقة دم القربان، وإنه يأتي يوم القيامة كما كان في الدنيا من غير أن ينقص منه شيء، ويعطى الرجل بكل عضو منه ثوابًا. وكل زمان يختص بعبادة، ويوم النحر مختص بعبادة فعلها إبراهيم عليه السلام من القربان والتكبير، ولو كان شيء أفضل من ذبح النعم في فداء الإنسان لم يجعل الله تعالي الذبح المذكور في قوله تعالي: {وفديناه بذبح عظيم} فداء لإسماعيل عليه السلام. وأقول: قد تقرر أن الأعمال الصالحة، كالفرائض والسنن والآداب مع بعد مرتبتها في الفضل، قد يقع التفاضل بينها، فكم من مفضول يفضل علي الأفضل بحسب الخاصية ووقوعه في زمان مخصوص ومكان مخصوص. والتضحية إذا نظر إليها في أنها نسك من المناسك، وأنها من شعائر الله، كما قال تعالي: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، لا سيما في أيام النحر لأنها كانت لهذا المعنى

1471 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أحب إلي الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: إسناده ضعيف. [1471] الفصل الثالث 1472 - عن جندب بن عبد الله، قال: شهدت الأضحى يوم النحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعد أن صلي وفرغ من صلاته وسلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي – أو نصلي – ـــــــــــــــــــــــــــــ - لا في نفسها – من أفضل ما يعمله الإنسان، وأحب ما يصدر من الآدمي عند الله من سائر العبادات حينئذ. ألا ترى كيف تمم المعنى، وبالغ فيه بما لا يؤبه له من القرن والظلف والشعر، بل يكره التلفظ بها من حقارتها وبشاعتها، فجعلها في ميزان الحسنات؟ وإلي معنى تقوى القلوب ينظر قوله صلى الله عليه وسلم: ((فطيبوا بها نفسًا)) أي قلبًا. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة: قوله: ((ما من أيام أحب)) قيل: لو قيل: ((أن يتعبد)) مبتدأ و ((أحب)) خبره، و ((من)) متعلق بـ ((أحب)) يلزم الفصل بين ((أحب)) ومعموله بأجنبي، فالوجه أن يقرأ ((أحب)) بالفتح ليكون صفة ((أيام)) و ((أن يتعبد)) فاعله، ((ومن)) متعلق بـ ((أحب))، والفصل لا يكون بأجنبي، وهو مثل قولك: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل من عين زيد، وخبر ((ما)) محذوف. أقول: لو ذهب إلي أن خبر ((ما) ((أحب))، وأن ((أن يتعبد)) متعلق بـ ((أحب)) بحذف الجار، فيكون المعنى ما من أيام أحب إلي الله لأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، لكان أولي من حيث اللفظ والمعنى؛ أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فإن سوق الكلام لتعظيم الأيام وتفخيمها، والعبادة تابعة لها، لا عكسه، وعلي ما ذهب إليه القائل يلزم العكس مع ارتكاب ذلك التعسف. الفصل الثالث الحديث الأول عن جندب: قوله: ((يوم النحر)) بدل من ((الأضحى)) أي حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر، فلم يعد بعد أن صلي إلي بيته، حتى رأي لحم أضاحي قد ذبحت قبل

فليذبح مكانها أخرى)) – وفي رواية: قال: صلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، وقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي، فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) متفق عليه. 1473 - وعن نافع، أن ابن عمر قال: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى. رواه مالك. [1473] 1474 - وقال: وبلغني عن علي بن أبي طالب مثله. [1474] 1475 - وعن ابن عمر، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه الترمذي. [1475] 1476 - وعن زيد بن أرقم، قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام)) قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)). قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة)) رواه أحمد، وابن ماجه. [1476] ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يفرغ من صلاته. ويحتمل أن يكون ((يعدو)) من عدا يعدو إذا تجاوز، أي لم يتجاوز عن الصلاة إلي الخطبة، ففاح لحم الأضاحي. الحديث الثاني عن نافع: قوله: ((الأضحى يومان)) ((الأضحى)) جمع أضحاة كأرطاة وأرطى، أي وقت الأضاحي بعد يوم الأضحى يومان، وهذا مذهب مالك. الحديث الثالث والرابع عن زيد: قوله: ((بكل شعرة)) الباء بمعنى ((في)) ليطابق السؤال، يعني أي شيء لنا من الثواب في الأضاحي؟ فأجاب: في كل شعرة حسنة، ولما كانت الشعرة كناية عن المعز كنوا عن الضأن بالصوف.

(49) باب العتيرة

(49) باب العتيرة الفصل الأول 1477 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا فرع ولا عتيرة)). قال: والفرع: أول نتاج كان ينتج لهم، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة: في رجب. متفق عليه. الفصل الثاني 1478 - عن مخنف بن سليم، قال: كنا وقوفًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فسمعته يقول: ((يأيها الناس! إن علي كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب ضعيف الإسناد، وقال: أبو داود: والعتيرة منسوخة. [1478] الفصل الثالث 1479 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت بيوم ـــــــــــــــــــــــــــــ باب العتيرة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((لا فرع)) أي لا فرع في الإسلام ((فا)): قوله: ((الفرع)) والفرعة أول ولد تنتجه الناقة. ((حس)): كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية، وقد كان المسلمون يفعلونه في بدء الإسلام، ثم نسخ ونهي عنه. قوله: ((ولا عتيرة)) ((خط)): العتيرة في الحديث شاة تذبح في رجب، وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث، ويليق بحكم الدين. وأما العتيرة التي بعترها أهل الجاهلية، فهي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام، فيصب دمها علي رأسها. ((نه)): كانت العتيرة بالمعنى الأول في صدر الإسلام ثم نسخ. ((حس)): كان ابن سيرين يذبح العتيرة في شهر رجب. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((عيدًا)) منصوب بمضمر بفسره ما بعده، أي

(50) باب صلاة الخسوف

الأضحى عيدًا جعله الله لهذه الأمة)). قال له رجل: يا رسول الله! أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قال: ((لا))، ولكن خذ من شعرك وأظفارك، وتقص من شاربك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله)) رواه أبو داود، والنسائي. [1479] (50) باب صلاة الخسوف الفصل الأول 1480 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن الشمس خسفت علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مناديًا: الصلاة جامعة، فتقدم فصلي أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. قالت عائشة: ما ركعت ركوعًا قط ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجعله عيدًا. وقوله: ((جعله الله لهذه الأمة)) حكم ذكر بعد ما يشعر بالوصف المناسب، وهي قوله: ((يوم الأضحى))؛ لأن فيه معنى التضحية، كأنه قيل حكم الله تعالي علي هذه الأمة بالتضحية يوم العيد، ومن ثم حسن قول الصحابي: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة؟ قوله: ((منيحة أنثى)) ((نه)): منحة النوق أن يعطى الرجل ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطى لينتفع بوبرها أو صوفها زمانًا، ثم يردها. وأقول: وصف ((منيحة)) بـ ((أنثى)) فيه دلالة أن المنيحة قد يكون ذكرًا وأنثى، وإن كان فيه علامة تإنيث، كما يقال: حمامة أنثى، وحمامة ذكر، ومنه قوله تعالي: {قالت نملة} فإن تإنيث الفعل دل علي أنها كانت أنثى علي ما سبق بيانه، ويعضده ما روى ابن الأثير في النهاية ((من منح منحة ورق، أو منح لبنًا، كان له عدل رقبة))، ولعل المراد من المنيحة ها هنا ما يمنح بها، وإنما منعه؛ لأنه لم يكن عنده شيء سواها ينتفع به. باب صلاة الخسوف الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((الصلاة جامعة)) ((مظ)): الصلاة مبتدأ و ((جامعة)) خبره،

1481 - وعنها، قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته. متفق عليه. 1482 - وعن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله)). قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: ((إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. ورأيت النار ـــــــــــــــــــــــــــــ يعنى الصلاة تجمع الناس في المسجد. ويجوز أن يكون التقدير: الصلاة ذات جماعة، أي تصلي جماعة لا منفردًا كالسنن الرواتب، فالإسناد مجازي، كطريق سائر، ونهر جار، وصلاة الكسوف والخسوف ركعتان بالصفة التي ذكرت عند الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. وأما عند أبي حنيفة فهي ركعتان، في كل ركعة ركوع واحد، وسجودان، كسائر الصلوات. وتصلي الخسوف والكسوف بالجماعة عند الشافعي وأحمد، وفرادى عند أبي حنيفة. وأما عند مالك فيصلي كسوف الشمس جماعة، وخسوف القمر فرادى، وركوعها كسائر الصلوات. الحديث الثاني والثالث عن عبد الله: قوله: ((انخسفت الشمس)) ((انخسفت)) كذا في البخاري، وفي مسلم ((انكسفت))، وفي ((شرح السنة)) (خسفت)). ((حس)): يقال: حسفت الشمس، وكسفت، ومن الناس من يغلب في القمر لفظ الخسوف، وفي الشمس لفظ الكسوف. قوله: ((آيتان من آيات الله)) ((حس)). زعم أهل الجاهلية أن كسوف الشمس والقمر يوجب حدوث تغير في العالم من موت، وضرر، ونقص، ونحوها. فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك باطل، وأنهما آيتان من آيات الله، وخلقان مسخران، ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة علي الدفع عن أنفسهما. وأمر بالفزع عند كسوفهما إلي ذكر الله تعالي وإلي الصلاة إبطالاً لقول الجهال. وقيل: إنما أمر بالفزع إلي الصلاة؛ لأنهما آيتان دالتان علي قرب الساعة. قال تعالي: {فإذا برق البصر وخسف القمر} وقيل: آيتان تخوفان عباد الله؛ ليفزعوا إلي الله تعالي {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}. قوله: ((تكعكعت)) ((حس)): أي تأخرت، يقال: تكعكع وكع عن الأمر إذا أحجم.

فلم أر كاليوم منظرًا قط أفظع. ورأيت أكثر أهلها النساء)). قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهن)): قيل: يكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلي إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)). متفق عليه. 1483 - وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لأكلتم منه)) الخطاب عام في كل جماعة يتأتى منهم السماع والأكل إلي يوم القيامة، بدليل قوله: ((ما بقيت الدنيا)). ((قض)): ووجه ذلك إما بأن يخلق الله تعالي مكان كل حبة تقتطف حبة أخرى، كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، أو بأن يتولد منه مثله في الزرع فيبقى نوعه ما بقيت الدنيا، فيؤكل منه. ((مظ)): وسبب تركه صلى الله عليه وسلم تناول العنقود أنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيرتفع التكليف. قال تعالي" {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها}. قوله: ((ولم أر كاليوم منظرًا)) أي لم أر منظرًا مثل المنظر الذي رأيته اليوم أي منظرًا هولاً وفظيعًا. والفظيع: الشديد الشنيع. قوله: ((وتكفرن الإحسان)) أي إحسان العشير. والجملة مع الواو مبينة للجملة الأولي علي طريقة أعجبني زيد وكرمه، والخطاب في ((لو أحسنت)) عام لكل من يتأتى منه الإحسان. الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((أغير من الله)) ((نه)) الغيرة هي الحمية والأنفة، يقال: غرت علي أهلي، أغار غيرة، فأنا غائر. وغيور للمبالغة. ((نه)): ((أن يزني)) متعلق بـ ((أغير)) – وحذف الجار من ((أن)) قياس مستمر – ونسبة الغيرة إلي الله تعالي مجاز محمول علي غاية إظهار غضبه علي الزإني، وإنزال نكاله عليه. ووجه اتصال هذا المعنى بما قبله هو أنه صلى الله عليه وسلم لما خوف أمته من الكسوفين، وحرضهم علي الفزع والالتجاء إلي الله تعالي بالتكبير والدعاء، والصلاة، والتصدق، أراد أن يردعهم عن المعاصي كلها، فخص منها الزنا، وفخم شأنها في الفظاعة، وندب أمته بقوله: ((يا أمة محمد)) ونسب الغيرة إلي الله تعالي. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب، لأن أصل الغيرة أن يستعمل في الأهل والزوج، فامتنع من نسبة ذلك إلي الله تعالي تنزيهًا لجنابه الأقدس عنه. ويجوز أن تكون نسبة هذه الغيرة إلي الله تعالي من باب الاستعارة المصرحة التبعية، شبه حالة ما يفعل الله تعالي مع عبده الزإني من الانتقام وحلول العقاب عليه بحالة ما يفعل السيد بعبده الزإني من الزجر والتعزير، ثم كرر الندبة ليتعلق به ما ينتسبه به علي سبب الندبة، والفزع إلي الله تعالي من علم بالله تعالي وبغضبه، فقال: ((يا أمة محمد – إلي قوله: لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)). والقلة ها هنا بمعنى العدم، كما في قوله: ((قليل التشكي)) أي عديمه، وقوله تعالي: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا} وأنشد صاحب الكشاف:

رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا))، ثم قال: ((يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)). متفق عليه. 1484 - وعن أبي موسى، قال: خسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد، فصلي بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال: ((هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته،؛ ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلي ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه. 1485 - وعن جابر، قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلي بالناس ست ركعات بأربع سجدات. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أو بها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة الساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب الحديث الخامس عن أبي موسى: قوله: ((يخشى أن تكون الساعة)) قالوا: هذا تخيل من الراوي وتمثيل منه، كأنه قال: فزعا فزع من يخشى أن تكون الساعة، وإلا فكان النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا بأن الساعة لا تقوم وهو بين أظهرهم، وقد وعد الله تعالي النصر وإظهار الأمر وإعلاء دينه علي الأديان كلها، ولم يبلغ الكتاب فيها أجله؛ وإنما كان فزعه عند ظهور الآيات كالخسوف، والزلازل، والريح، والصواعق، شفقًا علي أهل الأرض أن يأتيهم عذاب من عذاب الله، كما أتي من قبلهم من الأمم، لا عن قيام الساعة. وصرح المظهر: أن الراوي أخطأ فيه حيث قال: هذا ظن؛ لأن أبا موسى لم يعلم ما في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الظن غير صواب. فإن قيل: يحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل أن يخبر الله تعالي رسوله بالنصر والظفر، فحينئذ يتوقع الساعة كل لحظة. قلنا: ليس كذلك؛ لأن إسلام أبي موسى كان بعد فتح خيبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذه الأشياء بعد فتح خيبر. وأقول: لعل فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان لما كوشف به من الأهوال، ونزول العذاب، فذهل عما أخبر به، فخشي أن تكون الساعة. كما قال تعالي: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} وفسر أن الرسل من هول ذلك اليوم يفزعون، ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما ترجع إليهم عقولهم بالشهادة علي أمتهم. ولو نسب هذا الذهول إلي الرواي بسبب ما شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الحالة لجاز أيضًا. الحديث السادس والسابع عن جابر: قوله: ((يوم مات إبراهيم)) ((مظ)): ظن بعضهم أن

1486 - وعن ابن عباس، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. 1487 - وعن علي مثل ذلك. رواه مسلم. 1488 - وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت: والله لأنظرن إلي ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس. قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة رافع يده، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلي ركعتين. رواه مسلم في ((صحيحه)) عن عبد الرحمن بن سمرة، وكذا في ((شرح السنة)) عنه. وفي نسخ ((المصابيح)) عن جابر بن سمرة. 1489 - وعن أسماء بنت أبي بكر [رضي الله عنهما] قالت: لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ انكساف الشمس يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم لموته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالي، لا يخسفان لموت أحد)) كما تقدم. والمراد بقوله: ((فصلي بالناس ست ركعات)) أنه صلى الله عليه وسلم صلي ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات فعند الشافعي وأكثر أهل العلم أن الخسوف إذا تمادى جاز أن تركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وخمس ركوعات، وأربع ركوعات، كما في الحديث الآتي أنه صلى الله عليه وسلم ((صلي ثمان ركعات في أربع سجدان)) يعني صلي ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات. الحديث الثامن عن عبد الرحمن: قوله ((حسر عنها)) أي أزيل وأذهب عن الشمس خسوفها، يعني دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف، ووقف في القيام الأول، وطول التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن، وركع وسجد، ثم قام في الركعة الثانية، وقرأ فيها القرآن، وركع وسجد، وتشهد وسلم. قوله: ((في نسخ المصابيح: عن ((جابر بن سمرة)) يقول المؤلف: وجدت حديث عبد الرحمن ابن سمرة في صحيح مسلم وكتاب الحميدي وفي الجامع، وفي شرح السنة بروايته، ولم أجد لفظ المصابيح في الكتب المذكورة برواية جابر بن سمرة. الحديث التاسع عن أسماء: قوله: ((بالعتاقة)) أي فك الرقاب من العبودية. الإعتاق، وسائر الخيرات مأمور بها في خسوف الشمس والقمر؛ لأن الخيرات تدفع العذاب.

الفصل الثاني 1490 - عن سمرة بن جندب، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف لا نسمع له صوتًا، رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. 1491 - وعن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: ماتت فلانة، بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فخر ساجدًا، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا))، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟!. رواه أبو داود، والترمذي. [1491] الفصل الثالث 1492 - عن أبي بن كعب، قال: انكسفت الشمس علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلي بهم، فقرأ بسورة من الطول، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ بسورة من الطول، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن سمرة: قوله ((بعض أزواج النبي)) بيان أو بدل عن ((فلانة)). ((مظ)): هي صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) هذا مطلق، فإن أريد بالآية خسوف الشمس والقمر، فالمراد بالسجود الصلاة، وإن كان غيرها كمجيء الريح الشديدة والزلزلة وغيرهما، فالسجود هو المتعارف ويجوز الحمل علي الصلاة أيضًا؛ لما ورد ((كان إذا حزبه أمر فزع إلي الصلاة)). قوله: ((وأي آية أعظم)) قالوا: المراد بها العلامات المنذرة بنزول البلايا والمحن التي يخوف بها عباده، ووفاة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الآيات؛ لأنهن ضممن شرف الزوجية إلي شرف الصحبة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتي أصحابي ما يوعدون)) الحديث، فهن أحق بهذا المعنى من غيرهن، فكأن وفاتهن سالبة للأمنة، وزوال الأمنة يوجب الخوف. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن النعمان: قوله: ((ركعتين ركعتين)) ((خط)): شبه أن يكون صلاها مرات، وكان إذا طالت مدة الخسوف مد في صلاته، وزاد في عدد الركوع، وإذا قصرت نقص،

كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلي كسوفها)). رواه أبو داود. [1492] 1493 - وعن النعمان بن بشير، قال: كسفت الشمس علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها، حتى انجلت الشمس. رواه أبو داود. وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد. [1493] وله في أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا مستعجلاً إلي المسجد، وقد انكسفت ـــــــــــــــــــــــــــــ وكل ذلك جائز، يصلي علي حسب الحال، ومقدار الحاجة فيه. قال: ذهب أكثر أهل العلم إلي هذا، وإنه إذا امتد زمان الخسوف يزيد في عدد الركوع، أو في إطالة القيام والركوع، ويطول السجود كالركوع عند الشافعي. قوله: ((ويسأل عنها)) أي يسأل الله بالدعاء أن يكشف عن الشمس، أو يتجلي عنها الكسف، أو يسأل الناس عن انجلائها، أي كلما صلي ركعتين يسأل هل انجلت؟ فالمراد بتكرير الركعتين المرات. قوله: ((ولكنهما خليقتان من خلقه تعالي)): ((نه)) الخلق الناس، والخليقة البهائم. وقيل: هما بمعنى واحد, أقول: المعنى الأول أنسب في هذا المقام، لأنه صلى الله عليه وسلم رد زعم من يرى أثرهما في هذا العالم بالكون والفساد، أي ليس كما تزعمون، بل هما مسخران كالبهائم، دإنيان، مقهوران تحت قدرة الله تعالي، يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلي ذكره. ونظيره في إرادة التحقير ردًا لمن يقول بالتعظيم قوله تعالي: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} سماهم جنة، وهم ملائكة مكرمون؛ لأنهم نسبوا إلي الله تعالي. وقيل: فيهم الملائكة بنات الله، فعلي هذا هما مفتقران في انجلائهما عما يحدث الله فيهما من الكسف والخسف إلي دعوة بني آدم، كما مر في الحديث السابق ((يدعو حتى انجلي كسوفها)) وكما قال: ((ويسأل عنها، هل انجلت الشمس)). وقوله: ((ما شاء)) مفعول للمصدر المضاف إلي الفاعل، و ((من)) ابتدائية، أي خليقتان ناشئتان من خلق الله تعالي المتناول لكل مخلوق علي التساوي، بينه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام المفصح، علي أنه ليس لأحد القمرين تأثير في الوجود. وقوله: ((حتى تنجلي)) غاية لمقدر أي صلوا من ابتداء الخسوف منتهين إما إلي الانجلاء، أو إحداث الله تعالي أمرًا، وهذا المقدر يربط بين الشرط والجزاء، لما فيه من العائد إلي الشرط. والله أعلم.

(51) باب في سجود الشكر

الشمس، فصلي حتى انجلت، ثم قال: ((إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينحسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى ينجلي، أو يحدث الله أمرًَا)). (51) باب في سجود الشكر وهذا الباب خال عن: الفصل الأول والثالث الفصل الثاني 1494 - عن أبي بكرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر [سرورًا] – أو يسر به – خر ساجدًا شاكرًا لله تعالي. رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في سجود الشكر الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((إذا جاءه أمر سرورًا)) ((مظ)): سجود الشكر عند حدوث ما يسر به من نعمة، وعند اندفاع بلية سنة عند الشافعي، وليس بسنة عند أبي حنيفة رضي الله عنهما. ((تو)): ذهب جمع من العلماء إلي ظاهر هذا الحديث، فرأوا السجود مشروعًا في باب شكر النعمة، وخالفهم آخرون، فقالوا: المراد من السجود الصلاة، وحجتهم في هذا التأويل ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى برأس أبي جهل خر ساجدًا، وقد روى عن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه وفي روايته: ((صلي النبي صلى الله عليه وسلم بالضحى ركعتين حين بشر بالفتح، أو برأس أبي جهل))، ونضر الله وجه أبي حنيفة فقد بلغنا عنه أنه قال وقد ألقى هذه المسألة: لو ألزم العبد السجود عند كل نعمة متجددة عظيمة الموقع عند صاحبها لكان عليه أن لا يغفل عن السجود طرفة عين؛ لأنه لا يخلو عنها أدنى ساعة، فإن من أعظم نعمة العباد نعمة الحياة، وذلك يتجدد عليه تجدد الأنفاس، أو كلامًا هذا معناه. وأما الحديث الذي يتلو هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي نغاشيًا فخر ساجدًا شكرًا لله؛ فإنهم لا يرون الاحتجاج به؛ لأنه حديث مرسل. أقول: قوله: ((خر ساجدًا)) لا يقبل التأويل؛ لأنه وقع جوابًا للشرط، وعدل عن قوله: ((سجد)) إلي ((خر ساجدًا)) توكيد ومبالغة كما في سجود التلاوة، قال تعالي: {إذا يتلي عليهم

1495 - وعن أبي جعفر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً من النغاشيين، فخر ساجدًا. رواه الدارقطني مرسلاً، وفي ((شرح السنة)) لفظ ((المصابيح)). [1495] 1496 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبًا من عزوزاء، نزل ثم رفع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدًا، فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدًا فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدًا قال: ((إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطإني ثلث أمتي، فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطإني ثلث أمتي، فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي ـــــــــــــــــــــــــــــ يخرون للأذقان سجدًا} ولأن المراد بالسرور، هو سرور يحصل عند هجوم نعمة ينتظرها، أو يفاجأ بها من غير انتظار مما يندر وقوعها، لا ما استمر وقوعها، ومن ثم قدرها في الحديث بالمجيء علي سبيل الاستعارة. ونكر ((أمر)) للتفخيم وللتعظيم، ويؤيده حديث سعد بن أبي وقاص وكذا حديث النغاشي؛ لأن المرسل غايته أنه ضعيف، والضعيف إذا يتقوى بضعيف آخر يصير حسنًا، والحسن ينقلب صحيحًا. والحديث الذي نحن فيه حسن، رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكرة. الحديث الثاني عن أبي جعفر: قوله: ((نغاشيًا)) ((نه)): هو القصير أقصر ما يكون ضعيف الحركة، ناقص الخلق. ((مظ)): السنة علي من رأي مبتلي أن يسجد شكرًا لله تعالي علي أن عافاه الله تعالي من ذلك البلاء، وليكتم السجود عنه كي لا يتأذى وإن رأي فاسقًا فليظهر السجود ليتنبه، ويتوب. الحديث الثالث عن سعد: قوله: ((من عزوزاء)) ((نه)): هو بفتح العين المهملة وسكون الزاي، وفتح الواو. ثنية بالجحفة، عليها الطريق من المدينة إلي مكة: قوله: ((فأعطإني ثلث أمتي)) ((تو)) أي أعطإنيهم، فلا يجب عليهم الخلود، وينالهم شفاعتي، فلا يكونون كالأمم السالفة، وجب عليهم الخلود، وكثير منهم لعنوا؛ لعصيانهم الأنبياء، فلم تنلهم الشفاعة، والعصاة من هذه الأمة من عوقب منهم نقي وهذب، ومن مات منهم علي الشهادتين، يخرج من النار وإن عذب بها، وتناله الشفاعة وإن اجترح الكبائر، ويتجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعملوا، أو يتكلموا، وإلي غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالي بها هذه الأمة كرامة لنبيه المكرم وجهه بالمقام المحمود. ((مظ)) ليس معنى الحديث أن يكون جميع أمته مغفورين لهم بحيث لا تصليهم النار؛ لأن هذا نقيض لكثير من الآيات، والأحاديث الواردة في تهديد أكل مال اليتيم،

(52) باب الاستسقاء

لأمتي، فأعطإني الثلث الآخر، فخررت ساجدًا لربي شكرًا)). رواه أحمد، وأبو داود. [1496] (52) باب الاستسقاء الفصل الأول 1497 - عن عبد الله بن زيد، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس إلي المصلي يستسقي، فصلي بهم ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، وحول رداءه حين استقبل القبلة، متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والربا والزنا، وشارب الخمر، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك، بل معناه أنه سأل أن يخص أمته من بين الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب، وغير ذلك من الخواص التي خص الله تعالي أمته صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأمم. ((قض)): وكانت شفاعته في الأمة في أن لا يخلدهم في النار، ويخفف عنهم، ويتجاوز عن صغائر ذنوبهم توفيقًا بينه وبين ما ذكر في الكتاب والسنة علي أن الفاسق من أهل القبلة يدخل النار. وأقول: يفهم من كلام القاضي والمظهر أن الشفاعة مؤثرة في الصغائر، في عدم الخلود في حق أهل الكبائر بعد تمحيصهم بالنار، ولا تأثير للشفاعة في حق أهل الكبائر قبل الدخول في النار. روينا عن الترمذي وأبي داود عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وعن الترمذي عن جابر: ((من لم يكن من أهل الكبائر، فماله وللشفاعة)) والأحاديث فيها كثيرة، نعم! يتعلق ذلك بالمشيئة والإذن. فإذا تعلقت بالمشيئة بأن ينال الشفاعة بعض أصحاب الكبائر قبل دخول النار، وأذن فيها فذاك، وإلا كانت بعد الدخول والله أعلم بحقيقة الحال. باب الاستسقاء الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((وحول رداءه)) (مظ)) والغرض من التحويل التفاؤل بتحويل الحال، يعني حولنا أحوالنا رجاء أن يحول الله العسر باليسر، والجدب بالخصب. وكيفية تحويل الرداء: أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساره، وبيده اليسرى الطرف الأسفل أيضًا من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره، بحيث يكون الطرف المقبوض

1498 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. متفق عليه. 1499 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلي السماء. رواه مسلم. 1500 - وعن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأي المطر قال: ((اللهم صيبًا نافعًا)). رواه البخاري. 1501 - وعن أنس، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بيده اليمنى علي كتفه الأعلي من جانب اليمين، والطرف المقبوض بيده اليسرى علي كتفه الأعلي من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك، فقد انقلب اليمين يسارًا، واليسار يمينًا، والأعلي أسفل، والأسفل أعلي. وأبو حنيفة لا يرى صلاة الاستسقاء، بل يدعو له والشافعي يصلي كصلاة العيد، ومالك يصلي ركعتين كسائر الصلوات. الحديث الثاني عن أنس: قوله، ((لا يرفع يديه)) ((قض)): أي لا يرفعهما كل الرفع حتى يتجاوز رأسه، ويرى بياض إبطيه لو لم يكن عليه ثوب إلا في الاستسقاء؛ لأنه ثبت استحباب رفع اليد في الأدعية كلها. الحديث الثالث عن أنس قوله: ((فأشار بظهر كفيه إلي السماء)) قالوا: فعل صلى الله عليه وسلم ذلك تفاؤلاً بقلب الحال ظهرًا لبطن، وذلك نحو صنيعه في تحويل الرداء، أو إشارة إلي ما يسأله، وهو أن يجعل بطن السحائب إلي الأرض لينصب ما فيه الأمطار. الحديث الرابع عن عائشة: قوله: ((صيباً نافعًا)) نصبه بفعل مضمر، أي اسقنا صيبًا نافعًا، و ((نافعًا)) تتميم في غاية من الحسن؛ لأن لفظة صيبًا مظنة للضرر والفساد. ((الكشاف)): الصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع: وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء، والتنكير دل علي أنه نوع من المطر شديد هائل، فتممه بقوله ((نافعًا)) صيانة عن الإضرار والفساد. نحوه قول الشاعر: فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمى لكن ((نافعًا)) في الحديث أوقع وأحسن وأنفع من قوله: ((غير مفسدها)). الحديث الخامس عن أنس: قوله: ((فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه)) يقال: حسرت العمامة عن رأسي، والثوب عن بدني، أي كشفتهما. قوله: ((حديث عهد بربه)) ((تو)): أراد قرب عهده

الفصل الثاني 1502 - عن عبد الله بن زيد، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المصلي، فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة، فجعل عطافه الأيمن علي عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر علي عاتقه الأيمن، ثم دعا الله. رواه أبو داود. [1502] 1503 - وعنه أنه قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها، فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها علي عاتقيه. رواه أحمد، وأبو داود. [1503] 1504 - عن عمير مولي آبي اللحم، أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار ـــــــــــــــــــــــــــــ بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزل الله تعالي من المزن ساعتئذ، فلم تمسه الأيدى الخاطئة، ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله سبحانه وتعالي. وأنشد شيخنا شيخ الإسلام: يضوع أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار ((مظ)): وفي ذلك إشارة وتعليم لأمته؛ أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((عطافه)) ((نه)): هو الرداء. إنما أضاف العطاف إلي الرداء؛ لأنه أراد أحد شقي العطاف، فالهاء ضمير الرداء ويجوز أن يكون للرجل، ويريد بالعطاف جانبا الرداء. ((تو)): سمي الرداء عطافًا؛ لوقوعه علي العطفين وهما الجانبان. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((وعليه خميصة)) ((نه)): هي ثوب خز، أو صوف معلم. وقيل: لا يسمى بها إلا أن تكون سوداء معلمة. الحديث الثالث عن عمير: ((آبي اللحم)) – بالمد – رجل من قدماء الصحابة، أبي من أكل اللحم فسمي به. قيل: هو الذي يروي الحديث، ولا يعرف له حديث سواه. وعمير يرويه عنه وله أيضًا صحبة. ((وأحجار الزيت)) موضع بالمدينة من الحرة، سميت لسواد أحجارها بها. قوله: ((لا يجاوز بهما رأسه)) هذا خلاف حديث أنس، لعله كان في مرة أخرى.

الزيت، قريبًا من الزوراء قائمًا يدعو يستسقي، رافعًا يديه قبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه. رواه أبو داود، وروى الترمذي، والنسائي نحوه. [1504] 1505 - وعن ابن عباس، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في الاستسقاء – مبتذلاً، متواضعًا، متخشعًا، متضرعًا. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [1505] 1506 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: ((اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، أحيي بلدك الميت)). رواه مالك، وأبو داود. [1506] 1507 - وعن جابر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يواكئ فقال: ((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريئًا، مريعًا، نافعًا، غير ضار، عاجلاً غير آجل))، قال: فأطبقت عليهم السماء. رواه أبو داود. [1507] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((متبذلاً)) ((نه)): التبذل: ترك التزين، والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة علي وجه التواضع. الحديث الخامس عن عمرو: قوله: ((وأحيي بلدك الميت)) يريد بعض بلاد المتبعدين عن مظان الماء الذي لا ينبت فيه عشب للجدب. فسماه ميتًا علي الاستعارة ثم فرع عليه الإحياء. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((يواكئ)) ((نه)): أي يتحامل علي يديه، أي رفعهما ومدهما في الدعاء. ومنه التوكؤ علي العصا: وهو التحامل عليها. هكذا قال الخطابي في ((معالم السنن)) قوله: ((مريئًا)) ((نه)) يقال: مرإني الطعام، وأمرإني، إذا لم يثقل علي المعدة، وانحدر عليها طيبًا، ((تو)) ويحتمل مريئًا مدرارًا، من قولهم: ناقة مرئ، أي كثيرة اللبن. ولا أحققه رواية.

الفصل الثالث 1508 - عن عائشة، قالت: شكا الناس إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلي، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد علي المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم)) ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مريعًا)) ((حس)) ذا مرعة وخصب. ويروى ((مربعًا)) بالباء أي منبتًا للربيع، المغني عن الارتياد لعمومه، والناس يربعون حيث شاءوا، ولا يحتاجون إلي النجعة. ويروى ((مرتعًا)) أي ينبت الله به ما يرتع به الإبل. وكل مخصب مرتع. ومنه قوله: ((يرتع ويلعب)). قوله: ((فأطبقت)) ((حس)) أي ملأت. والغيث المطبق هو العام الواسع. أقول: عقب الغيث، وهو المطر الذي يغيث الخلق من القحط بالمغيث علي الإسناد المجازي، والمغيث في الحقيقة هو الله تعالي. وكذا أتبع مريئًا بمرتعًا – بالتاء – بمعنى ينبت الله تعالي به ما رتع به الإبل. وأكد ((النافع)) بـ ((غير ضار)). وكذا ((عاجلاً)) بـ ((غير آجل)) اعتناء بشأن الخلق، واعتمادًا علي سعة رحمة الله تعالي عليهم، فكما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، كانت الإجابة طبقًا له حيث أطبقت عليهم السماء، فإن في إسناد الإطباق إلي السماء والسحاب – هو المطبق أيضًا – مبالغة. وعرفها، لينتفي أن ينزل المطر من سماء، أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، والمعنى أنه غمام مطبق أخذ بآفاق السماء إجابة لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة: قوله: ((قحوط المطر)) مصدر بمعنى القحط، أو جمع القحط. وأضافه إلي المطر ليشير إلي عمومة في بلدان شتى. قوله: ((حاجب الشمس)) أي أول طلوع شعاعها من الأفق. قوله: ((استئخار المطر)) السين للمبالغة، يقال: استأخر الشيء إذا تأخر تأخرًا بعيدًا. قوله: ((عن إبان زمانه)) من إضافة الخاص إلي العام ((نه)): وفي حديث المبعث ((هذا إبان نجومه))، أي وقت ظهوره والنون أصلية، فيكون فعالاً وقيل: هي زائدة، وهي فعلان من أبَّ الشيء، إذا تهيأ للذهاب.

لنا قوة وبلاغًا إلي حين))، ثم رفع يده فلم يترك الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلي الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل علي الناس ونزل، فصلي ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأي سرعتهم إلي الكن ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن الله علي كل شيء قدير، وإني عبد الله ورسوله)). رواه أبو داود. [1508] 1509 - عن أنس، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كما نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فأسقنا. قال: فيسقون. رواه البخاري 1510 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقي، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلي السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة. رواه الدارقطني. [1510] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بلاغًا إلي حين)) البلاغ. ما يتبلغ به، ويتوصل به إلي الشيء المطلوب. المعنى: إجعل الخير المنزل سببًا لقوتنا، ومده لنا مددًا طوالاً. قوله: ((إلي الكن)) وهو ما يرد به الحر والبرد من الأبنية والمساكن. وقوله: ((ضحك)) جواب للشرط. وكأن ضحكه صلى الله عليه وسلم تعجبًا من طلبهم المطر اضطرارًا، ثم طلبهم الكن عنه فرارًا. ومن عظيم قدرة الله تعالي، وإظهار قربة رسوله، وصدقه بإجابة دعائه سريعًا، ولصدقه أتي بالشهادتين. الحديث الثاني عن أنس: قوله: ((قال فيسقون)) قال عقيل بن أبي طالب: فيه: بعمي سقى الله البلاد وأهلها عشية يستسقى بشيبته عمر توجه بالعباس بالجدب داعيًا فما جاز حتى جاد بالمدينة المطر

(53) باب في الرياح

(53) باب في الرياح الفصل الأول 1511 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)). متفق عليه. 1512 - وعن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكًا حتى أرى منه لهوته، إنما كان يبتسم، فكان إذا رأي غيمًا أو ريحًا عرف في وجهه متفق عليه. 1513 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في الرياح الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((نصرت بالصبا)) ((مظ)) الصبا: الريح التي تجئ من ظهرك إذا استقبلت القبلة. والدبور: هي التي تجئ من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة أيضًا. روي: أن الأحزاب لما حاصروا المدينة يوم الخندق، هبت ريح الصبا، وكانت شديدة، فقلعت خيامهم، وألقى الله تعالي في قلوبهم الخوف، فهربوا، وكان ذلك فضلاً من الله تعالي، ومعجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم. أما الدبور فأهلكت قوم عاد. وقضيتهم مشهورة. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((لهواته)) ((نه)) اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمات من سقف أقصى الفم. قوله: ((عرف في وجهه)) أي ظهر أثر الخوف في وجهه مخافة أن يحصل من ذلك السحاب، أو الريح، ما فيه ضرر بالناس. فدل نفي الضحك البليغ عنه صلى الله عليه وسلم علي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فرحًا لاهيًا بطرًا، ودل إثبات التبسم له صلى الله عليه وسلم علي طلاقة وجهه وبشاشته، ودل أثر الخوف من رؤية الغيم والريح علي رأفته ورحمته علي الخلق. هذا هو الخلق العظيم. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((إذا عصفت الريح)) ((نه)): أي اشتد هبوبها، وريح عاصف شديدة الهبوب. قوله: ((خير ما أرسلت به)) يحتمل الفتح علي الخطاب ((وشر ما

وشر ما أرسلت به))، وإذا تخيلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد)) – وفي رواية: (فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) ويقول إذا رأي المطر: ((رحمة)). متفق عليه. 1514 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ: {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث} الآية. رواه البخاري. 1515 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليست السنة بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئًا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أرسلت)) علي بناء المفعول ليكون من قبيل قوله تعالي: {أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخير كله في يديك والشر ليس إليك)). قوله: ((وإذا تخيلت السماء)) السماء ها هنا بمعنى السحاب. ((وتخيلت)) إذا ظهر في السحاب أثر المطر. ((نه)): ومنه ((إذا رأي مخيلة أقبل وأدبر)) المخيلة: موضع الخيل، وهو الظن كالمظنة وهي السحابة الخليقة بالمطر، ((وسري عنه)) أي كشف عنه الخوف، وأزيل: يقال: سروت الثوب، وسريته إذا خلعته، والتشديد فيه للمبالغة. قوله: {هذا عارض} أي سحاب عرض ليمطر، وقوله: ((رحمة)) أي اجعله رحمة ولا تجعله عذابًا. الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((مفاتيح الغيب)) قيل هو جمع مفتح – بفتح الميم – وهو المخزن، أي خزائن الغيب خمس، لا يطلع عليها غير الله، وروى مفاتح، وهي جمع مفتاح أي العلوم التي يتوصل بها إلي الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. ((نه)) المفاتيح، والمفاتح: جمع مفتاح، ومفتح. وهما في الأصل: كل ما يتوصل به إلي استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((ليست السنة بأن لا تمطروا)) ((فا)) السنة: الجدب، يقال: أجدبتهم السنة، إذا أجدبوا، وقحطوا وهي من الأسماء الغالبة. وقد خصوها بقلب لامها تاء في ((استنوا)) إذا أجدبوا. ((قض)) المعنى: أن القحط الشديد ليس بأن لا تمطروا بل بأن تمطروا، ولا تنبت. وذلك: لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء، وظهور مخائله، وأسبابه أقطع مما إذا كان اليأس حاصلاً من أول الأمر، والنفس مترقبة لحدوثها، انتهي كلامه، قال الشاعر:

الفصل الثاني 1516 - عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا به من شرها)). رواه الشافعي، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [1516] 1517 - وعن ابن عباس، أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [1517] ـــــــــــــــــــــــــــــ أظلت علينا من نداك غمامة أضاء لنا برق وأبطأ رشاشها فلا غيمها يجلو فييأس طامع ولا غيثها يهمى فيروى عطاشها الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((الريح من روح الله)) ((غب)) الروح النفس، وقد أراح الإنسان إذا تنفس. وقوله تعالي: {لا تيأسوا من روح الله}. أي من فرجه ورحمته. وذلك بعض الروح. ((مظ)) فإن قيل: كيف يكون الريح من روح الله، أي من رحمته مع أنه يجيء بالعذاب؟ فجوابه من وجهين: أحدهما أن الريح إذا جاءت لعذاب قوم ظالمين، كانت رحمة لقوم مؤمنين. وأقول: يؤيده قوله تعالي: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين} ((الكشاف)): فيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة. وهو من أجل النعم وأجزل القسم. وثإنيهما: أن الروح مصدر بمعنى الفاعل كالعدل بمعنى العادل، فالمعنى الريح من روائح الله، أي من الأشياء التي تجئ من حضرة الله بأمر الله، فتارة تجئ له للراحة، وأخرى للعذاب. فإذن لا يجوز سبها، بل تجب التوبة عند التضرر بها. وهو تأديب من الله تعالي، وتأديبه رحمة لعباده. الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((ليس له)) صفة ((شيئًا)) واسمه ضمير راجع إليه والضمير في ((له)) راجع إلي مصدر ((لعن)) وفي ((عليه)) إلي ((من)) علي تضمين ((رجعت)) معنى

1518 - وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)). رواه الترمذي. [1518] 1519 - وعن ابن عباس، قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم علي ركبتيه، وقال: ((اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا)). قال ابن عباس في كتاب الله تعالي: {إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا} و {أرسلنا عليهم الريح العقيم} {وأرسلنا الرياح لواقح} و {أن يرسل الرياح مبشرات}. رواه الشافعي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [1519] ـــــــــــــــــــــــــــــ استعلت، يعني: من لهن شيئًا ليس ذلك الشيء أهلاً له رجع اللعن إلي اللاعن، لأن اللعن طرد عن رحمة الله تعالي، فمن طرد ما هو أهل لرحمة الله عن رحمته جعل مطرودًا. الحديث الثالث ظاهر. الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((في كتاب الله تعالي)) إلي آخره. اتفق معظم الشارحين علي: أن تأويل ابن عباس غير موافق للحديث. نقل الشيخ التوربشتي عن أبي جعفر الطحاوي، أنه ضعف هذا الحديث جدًا، وأبي أن يكون له أصل في السنن! وأنكر علي أبي عبيدة تفسيره، كما فسره ابن عباس ثم استشهد بقوله تعالي: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريج طيبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف} الآية، وبالأحاديث الواردة في هذا الباب. فإن جل استعمال الريح المفردة في الباب في الخير والشر. ثم قال الشيخ التوربشتي: والذي قاله أبو جعفر وإن كان قولاً متينًا، فنا نرى أن لا يتسارع إلي رد هذا الحديث، وقد تيسر علينا تأويله وتخريج المعنى علي وجه لا يخالف النصوص التي أوردها. وهو أن نقول: التضاد الذي جد أبو جعفر في الهرب منه إنما نشأ من التأويل الذي نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما. فأما الحديث نفسه فإنه محتمل لتأويل يمكن معه التوفيق بينه وبين النصوص التي عارضه

1520 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصرنا شيئًا من السماء – تعني السحاب – ترك عمله واستقبله، وقال: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه))، فإن كشفه حمد الله، وإن مطرت، قال: اللهم سقيًا نافعًا)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والشافعي واللفظ له. [1520] ـــــــــــــــــــــــــــــ بها أبو جعفر، وذلك أن يذهب في الحديث إلي أنه سأل النجاة من التدمير بتلك الريح فإنها إن لم تكن مهلكة لم تعقبها أخرى، وإن كانت غير ذلك فإنها توجد كرة بعد كرة. وتستسق مرة بعد مرة، فكأنه قال: لا تدمرنا بها، فلا تمر علينا بعدها، ولا تهب دوننا جنوب ولا شمال، بل أفسح في المهلة وأنسأ لنا في الأجل، حتى يهب علينا أرواح كثيرة بعد هذه الريح. قال الخطابي: إن الرياح إذا كثرت جلبت السحاب وكثرت المطر، فبركت الزروع والثمار، وإذا لم تكثر، وكانت ريحًا واحدة فإنها تكون عقيمًا. والعرب تقول: لا يلقح السحاب إلا من رياح. وأقول: ((وبالله التوفيق)) قول ابن عباس ((في كتاب الله تعالي)) معناه: أن هذا الحديث مطابق لما في كتاب الله تعالي فإن استعمال التنزيل دون أصحاب اللغة إذا حكم علي الريح والرياح مطلقتين كان إطلاق الريح غالبًا في العذاب، والرياح في الرحمة، فعلي هذا لا ترد تلك الآية علي قول ابن عباس؛ لأنها مقيدة بالوصف، ولا تلك الأحاديث؛ لأنها ليست من كتاب الله، وإنما قيدت الآية بالوصف ووحدت؛ لأنها في حديث الفلك وجريانها في البحر، فلو جمعت لأوهمت اختلاف الرياح، وهو موجب للعطب أو للاحتباس، ولو أفردت ولم تقيد بالوصف، لآذنت بالعذاب والدمار؛ ولأنها أفردت وكررت؛ ليناط بها مرة ((طيبة)) وأخرى ((عاصف)) ولو جمعت لم يستقم التعليق. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((ناشيءا)) أي سحابًا ((تو)): سمى به؛ لأنه ينشأ من الأفق، يقال: نشأ وأنشأ أي خرج، وأنشأ يفعل كذا أي طفق وفي الحديث: ((إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت)) أراد السحابة. قوله: ((فإن مطرت)) الفاء تفصيلية، أي فإن لم يمطر، حمد الله تعالي علي النجاة، وإن أمطر شكر الله، وقال: ((اللهم)) إلي آخره. الحديث السادس عن ابن عمر: قوله: ((الصواعق)) جمع صاعقة وهي قصفة رعد تنقض معها قطعة من النار يقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق، أي مات، إما لشدة الصوت،

1521 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق، قال: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. [1521] الفصل الثالث 1522 - عن [عامر بن] عبد الله بن الزبير، أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. رواه مالك. [1522] ـــــــــــــــــــــــــــــ وإما بالاحتراق، فإن قلت: لم خص القتل بالغضب والإهلاك بالعذاب؟ قلت: نسبة الغضب إلي الله تعالي استعارة، والمشبه به الحالة التي تعرض للملك عند انفعاله، وغليان دمه، ثم الانتقام من المغضوب عليه، وأكثر ما ينتقم به القتل، فرشح الاستعارة به عرفا، والإهلاك والعذاب جاريان علي الحقيقة في حق الله تعالي ولما لم يكن تحصيل المطلوب إلا بمعافاة الله، كما جاء ((اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك)) قال: ((وعافنا قبل ذلك)). الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: {يسبح الرعد بحمده} هو من الإسناد المجازي لأن الرعد سبب لأن يسبح الله السامع حامدًا له، خص سامعوا الرعد بالحمد؛ لأن الناس عند صوت الرعد خائفون راجون، كما قال تعالي: {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا} رجع الحمد علي الخوف تفاؤلاً، أو إن جانب الرحمة أوسع.

كتاب الجنائز

5 - كتاب الجنائز (1) باب عيادة المريض وثواب المرض الفصل الأول 1523 - عن أبي موسى، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العإني)). رواه البخاري. 1524 - وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم علي المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الجنائز ((مح)): الجنازة بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح، ويقال: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش عليه ميت. ويقال: عكسه، حكاه صاحب المطالع. والجمع جنائز بالفتح لا غير والله أعلم بالصواب. باب عيادة المريض وثواب المرض الفصل الأول الحديث الأول عن أبي موسى: قوله: ((فكوا العإني)) ((نه)): العإني: الأسير، وكل من ذل، واستكان، وخضع - فقد عنا. يقال: عنا يعنو فهو عان، والمرأة عإنية، وجمعها عوان: المتضررون الذين وجب حقهم علي غيرهم من المسلمين، منحصرون في هذه الأقسام صريحًا وكناية عند إمعان النظر. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((حق المسلم علي المسلم خمس)) ((حس)): هذه كلها من حق الإسلام يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم، غير أنه يخص البر بالبشاشة والمسايلة والمصافحة، دون الفاجر المظهر للفجور. ((مظ)): إذا دعا المسلم المسلم إلي الضيافة، والمعارفة وجب عليه طاعته، إذا لم يكن ثمة ما يضر بدينه من الملاهي ومفارش الحرير. ورد السلام، واتباع الجنائز فرض علي الكفاية. وأما تشميت العاطس إذا حمد الله، وعيادة المريض فسنة إذا كان له متعهد وإلا فواجب. ويجوز أن تعطف السنة علي الواجب إن دلت عليه القرينة كما يقال: صم رمضان وستة من شوال.

1525 - وعنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم علي المسلم ست)). قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)). رواه مسلم. 1526 - وعن البراء بن عازب، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، ونهانا: عن خاتم الذهب، وعن الحرير، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): التشميت – بالسين والشين – الدعاء للعاطس بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات علي طاعة الله. وقيل: معناه أبعدك الله عن الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك. قوله: ((وإذا استنصحك)) ((غب)): النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه وهو من قولهم: نصحت له الود، أخصلته، وناصح العسل خالصه. الحديث الثالث عن أبي هريرة: قوله: ((إذا لقيته)) إلي آخره, فإن قلت: كيف طابق هذا جوابًا عن ((ما هن))، وكان حقه ظاهرًا أن يقال: أن يسلم عليه إذا لقيه، وأن يجيبه إذا دعاه، إلي آخره؟ قلت: لما كانت الخصال الست من معظمات مكارم الأخلاق، عدل عن الإخبار إلي صورة الأمر مريدًا به الخطاب العام لئلا يختص بواحد دون آخر كما سبق في قوله: ((بشر المشائين)). الحديث الرابع عن البراء: قوله: ((وإبرار المقسم)) قيل: هو تصديق من أقسم عليك، وهو أن يفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن يفعله، يقال: بر وأبر القسم إذا صدقه. وقيل: المراد من المقسم الحالف، ويكون المعنى أنه لو حلف أحد علي أمر مستقبل، وأنت تقدر علي تصديق يمينه، كما لو أقسم أن لا يفارقك حتى تفعل كذا، وأنت تستطيع فعله – فافعل كيلا يحنث يمينه. قوله: ((ونصر المظلوم)) ((حس)): هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي. وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل، وبكفه عن الظلم. قوله: ((ونهانا عن خاتم الذهب)) ((خط)): هذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص، والوجوب، فيحرم خاتم الذهب، وما ذكر معه من لبس الحرير والديباج، خاصة للرجال دون النساء. ويحرم إنية الفضة عامة في حق الكل؛ لأنه من باب السرف والمخيلة.

والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وإنية الفضة – وفي رواية: - وعن الشرب في الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة. متفق عليه. 1527 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والميثرة الحمراء)) ((نه)): الميثرة – بكسر الميم – مفعلة من الوثار، يقال: وثر وثارة فهو وثير، أي وطئ ولين. وأصلها: موثرة، فقلبت الواو ياء، لكسرة الميم: وهي من مراكب العجم يعمل من حرير أو ديباج، ويتخذ كالفراش الصغير، ويحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب تحته علي الرحال والسروج. ((حس)): فإن كانت الميثرة من ديباج فحرام، وإن لم تكن فالحمراء منها منهي عنها، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهي عن ميثرة الأرجوان. ((قض)): توصيفها بالحمرة؛ لأنها كانت الأغلب في مراكب الأعاجم يتخذونها رعونة. قوله: ((والقسي)) ((فا)): هو ضرب من ثياب كتان مخلوط بحرير يؤتى به من مصر، نسبت إلي قرية علي ساحل البحر، يقال لها القس. وقيل: القسي القزي، وهو ردئ الحرير، أبدلت الزاي سينًا. قوله: ((لم يشرب فيها في الآخرة)) ((مظ)): يعني من اعتقد حلها، ومات عليه، فإنه كافر، وحكم من لم يعتقد ذلك خلاف ذلك؛ لأنه ذنب صغير، غلظ وشدد للرد والارتداع. أقول: قوله: ((لم يشرب فيها في الآخرة)) كناية تلويحية عن كونه جهنميًا، فإن الشرب من أوإني الفضة من دأب أهل الجنة؛ لقوله تعالي: {قوارير من فضة}، فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة، فيكون جهنميًا، فهو كقوله: ((إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)). الحديث الخامس عن ثوبان: قوله: ((في خرفة الجنة)) ((نه)): الخرفة بالضم اسم ما يخترف من النخيل حين يدرك. وفي حديث آخر ((عائد المريض علي مخارف الجنة، حتى يرجع)) والمخارف جمع مخرف – بالفتح – وهو الحائط من النخيل. يعني أن العائد فيما يحوزه من الثواب كأنه علي نخيل الجنة يخرف ثمارها. ((قض)): الخرفة: ما يجتنى من الثمار، وقد يتجوز بها للبستان من حيث أنه محلها، وهو المعني بها، بدليل ما روي ((علي مخارف الجنة)) أو علي تقدير المضاف، أي في مواضع خرفها.

1528 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العلمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا بن آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟. قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟!)). رواه مسلم. 1529 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل علي أعرابي يعوده، وكان إذا دخل علي مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إن شاء الله))، فقال له: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)). قال: كلا، بل حمى تفور، علي شيخ كبير، تزيره القبور، فقال: ((فنعم إذن)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأنت رب العالمين)) حال مقررة لجهة الإشكال الذي يتضمنه معنى ((كيف)). ومعنى الرب المالك، والمربي، بمعنى الأول: أن العيادة إنما تكون للمريض العاجز، ويستحيل ذلك في حق المالك الحقيقي، أي كيف أعودك، وأنت القاهر القادر القوي المتين؟ وعلي الثاني، والثالث، أن الإطعام والإسقاء إنما يحتاج إليه الضعيف الذي يتقوت به، فيقوم صلبه به، وأنت مربي العالمين، والغني علي الإطلاق. وخص الأول بقوله: ((وجدتني عنده))، لأن العجز والانكسار ألصق وألزم هناك. والله تعالي أقرب إلي المنكسر المسكين. فإن قلت: الظاهر أن يقال: كيف تمرض مكان ((أعودك، وأنت رب العالمين؟)) قلت: عدل معتذرًا علي ما عوتب عليه، وهو مستلزم لنفي المرض. ((شف)): قال في العيادة: ((لوجدتني عنده)) وفي الإطعام والسقي: ((لوجدت ذلك عندي)) إرشاد إلي أن الزيارة والعيادة أكثر ثوابًا منهما. الحديث السابع عن ابن عباس: قوله: ((تفور)) ((نه)): أي تظهر حرها، ووهجها، وغليانها. قوله: ((فنعم إذن)) الفاء مرتبة علي محذوف، و ((نعم)) تقرير لما قال، يعني أرشدتك بقولي: لا بأس عليك، إلي أن الحمى تطهرك، وتنفي ذنوبك، فاصبر، واشكر الله عليهما، فأبيت إلا اليأس، والكفران، فكان كما زعمت، وما اكتفيت بذلك، بل رددت نعمة الله وأنت مسجع به. قاله غضبًا عليه.

1530 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)). متفق عليه. 1531 - وعنها، قالت: إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عائشة: قوله: ((لا شفاء إلا شفاؤك)) خرج مخرج الحصر تأكيدًا لقوله: ((أنت الشافي))؛ لأن خبر المبتدأ إذا كان معرفًا باللام أفاد الحصر؛ لأن تدبير الطبيب ونفع الدواء لا ينجح في المريض إذا لم يقدر الله تعالي الشفاء. وقوله: ((شفاء لا يغادر سقمًا)) تكميل لقوله: ((اشف)) والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق، والتنكير في ((سقما)) للتقليل. الحديث التاسع عن عائشة: قوله: ((تربة أرضنا)) ((تو)): الذي يسبق إلي الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله: ((تربة أرضنا)) إشارة إلي فطرة آدم، و ((ريقة بعضنا)) إلي النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال، ويعرض بفحوى المقال: إنك اخترعت الأصل الأول من طين، ثم أبدعت بنيه من ماء مهين، فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته. ((قض)) قد شهدت المباحث الطبية علي أن الريق له مدخل في النضج، وتبديل المزاج، ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي، ودفع نكاية المضرات؛ لهذا ذكر في تدبير المسافرين أن المسافر ينبغي أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد ماء غير الماء الذي يعتاد شربه ويوافق مزاجه جعل منه شيئًا في سقائه ويشرب الماء منها؛ ليأمن تغير مزاجه. ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلي كنهها. وقوله: ((بإصبعه)) في موضع الحال من فاعل ((قال)) و ((تربة أرضنا)) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه. و ((الباء)) متعلقة بمحذوف، هو خبر ثان، أو حال عنها العامل فيها معنى الإشارة، والتقدير: قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيرًا بإصبعه: باسم الله هذه تربة أرضنا معجونة بريقة بعضنا. قلنا هذا القول، أو صنعنا هذا الصنيع؛ ليشفي سقيمنا. أقول: علي هذا ((بسم الله)) إلي آخره مقول للقول صريحًا، ويمكن أن يقال: إن قوله: ((بسم الله)) حال أخرى متداخلة، أو مترادفة علي تقدير قال متبركًا باسم الله. ويلزم منه أن يكون مقولاً، والقول الصريح قوله: ((هذه تربة أرضنا))، إضافة ((تربة أرضنا، وريقة بعضنا)) يدل علي الاختصاص، وأن تلك التربة، والريقة كل واحدة منهما مختصة بمكان شريف متبرك، بل بذي

1532 - وعنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث علي نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، كنت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذت. ـــــــــــــــــــــــــــــ نفس شريفة قدسية طاهرة زكية من أوضار الذنوب، وأوساخ الآثام، ظاهرة جلية بما تواترت الأنوار عليها من مطلعي الجلال والإكرام. فلما تبرك باسم الله الشافي، ونطق بها، ضم إليه تلك التربة والريقة وسيلة إلي المطلوب من التشفي، فتكون اللام في ((ليشفي)) متعلقة بالتبرك المقدر. ويعضده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق في عين علي رضي الله عنه فبرأ من الرمد، وفي بئر الحديبية فامتلأت ماء إلي غير ذلك. ونظير قوله: ((بعضنا)) ((بعضهم)) في قوله: {ورفع بعضهم درجات} ((الكشاف)): الظاهر أنه أراد بالبعض محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل علي سائر الأنبياء. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي، لما فيه من الشهادة علي أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه. ((مح)) قالوا: المراد بـ ((أرضنا)) جملة الأرض. وقيل: أرض المدينة خاصة؛ لبركتها. وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ من ريق نفسه علي إصبعه السبابة، ثم يضعها علي التراب، فيعلق بها منه، فيمسح بها علي الموضع الجريح والعليل، ويتلفظ بهذه الكلمات في حال المسح. ((شف)). هذا يدل علي جواز الرقية ما لم تشتمل علي شيء من المحرمات، كالسحر وكلمة الكفر. والله أعلم. الحديث العاشر عن عائشة: قوله: ((نفث علي نفسه)) ((نه)): النفث بالفم، وهو شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل؛ لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق. قوله: ((بالمعودات)) ((مظ)): حقه أن يقال: بالمعوذتين؛ لأنهما سورتان، ولكن أتى بلفظ الجمع، إما لأنها أجرت التثنية مجرى الجمع، أو لأنها تعنى بالمعوذات هاتين السورتين، وكل ما يشبهها من الآيات. ومن ذهب إلي أن أقل الجمع اثنان، فلا يرد عليه هذا، وفيه أن الرقية والنفث بكلام الله تعالي سنة. قوله: ((مسح عنه بيده)) الضمير في ((عنه)) راجع إلي ذلك النفث، والجار والمجرور حال، أي نفث علي بعض جسمه صلى الله عليه وسلم، ثم مسح بيده متجاوزًا عن ذلك النفث إلي سائر أعضائه صلى الله عليه وسلم. ((شف)): لعله صلى الله عليه وسلم لما علم أنه آخر مرضه، وأن ارتحاله عن الدنيا عن قريب ترك قراءتهما.

1533 - وعن عثمان بن أبي العاص، أنه شكا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضع يدك علي الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوز بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)). قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي. رواه مسلم. 1534 - وعن أبي سعيد الخدري، أن حبريل أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: ((نعم)). قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك. رواه مسلم. 1535 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة))، ويقول: ((إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)). رواه البخاري. وفي أكثر نسخ ((المصابيح)): ((بهما)) علي لفظ التثنية. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن عثمان: قوله: ((ما أجد وأحاذر)) تعوذ من وجع ومكروه هو فيه، ومما يتوقع حصوله في المستقبل من الحزن والخوف؛ فإن الحذر هو الاحتراز عن مخوف. الحديث الثاني عشر عن ابن عباس: قوله: ((بكلمات الله التامة)) ((تو)): الكلمة في لغة العرب تقع علي كل جزء من الكلام، اسمًا كان أو فعلاً أو حرفًا، وتقع علي الألفاظ المنظومة، وعلي المعإني المجموعة. والكلمات ها هنا محمولة علي أسماء الله الحسنى، وكتبه المنزلة؛ لأن المستعاذ به من الكلمات إنما يصح ويستقيم أن يكون بمثلها. ووصفها بـ ((التامة)) لخلوها عن النواقص والعوارض، فإن الناس متفاوتون في كلامهم علي حسب تفاوتهم في العلم واللهجة، وأساليب القول، فما منهم من أحد إلا وقد يوجد فوقه آخر، إما في معناه، أو في معان كثيرة، ثم إن أحدهم قلما يسلم من معارضة أو خطأ أو نسيان أو العجز عن المعنى الذي يراد، أو عظم النقائص التي هي مقترنة بها، إنها كلمات مخلوقة يتكلم بها مخلوق مفتقر إلي الأدوات والمخارج، وهذه أدوات نقيصة لا ينفك عنها كلام مخلوق، وكلمات الله تعالي متعالية عن هذه القوادح، فهي التي لا يسعها نقص ولا يعتريها اختلال. واحتج الإمام أحمد بها علي القائلين بخلق القرآن. فقال: لو كانت كلمات الله تعالي مخلوقة لم يعذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، واحتج أيضًا بقوله: ((التامة)) فقال: ما من مخلوق إلا وفيه نقص.

1536 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)). رواه البخاري. 1537 - وعنه وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: معنى قوله تعالي: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} أنه تم كل ما أخبر به وأمر ونهي، ووعد وأوعد، صدقًا وعدلاً، خص الأنواع بالذكر لدلالة السابق، يعني فضله بمثل تلك الأنواع، ثم قسمه بالصدق والعدل فإن الصدق مناسب للخير والوعد، والوعيد. وإن العدل موافق للأمر والنهي، لأنه تعالي يأمر وينهي بمقتضى حكمته. ويضع كلاً قي موضعه، ويتصرف في ملكه بالأمر والنهي علي ما أراد. ومعنى تمام الإخبار والوعد والوعيد أن يكون صدقًا، وفي الأمر والنهي أن يكون عدلاً؛ لأن تمام الشيء انتهاؤه، وكماله لا يحتاج إلي خارج عنه، والناقص بخلافه. قوله: ((وهامة) ((نه)): الهامة كل ذات سم يقتل، والجمع الهوام. فأما ما له سم ولا يقتل، فهي السامة، كالعقرب والزنبور. وقد تقع الهوام علي كل ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل، كالحشرات. قوله: ((عين لامة)) ((نه)): أراد ذات لمم؛ ولذلك لم يقل: لممة. وأصلها من ألمت بالشيء وقيل: ((لامة)) لازدواج قوله: ((هامة)). وعن بعضهم: الأصل فيه ملمة؛ لأنها فاعل ألمت، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قصد المشاكلة في الفواصل. قوله: ((وفي أكثر نسخ المصابيح: بهما)) وهو مشكل، اللهم إلا أن يجعل ((كلمات الله)) مجازًا من معلومات الله، ومما تكلم به سبحانه وتعالي من الكتب المنزلة. والظاهر أنه سهو من الكاتب. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة: قوله: ((يُصب)) ((مح)): ضبطوا بفتح الصاد وكسرها. أقول: الفتح أحسن للأدب، كما قال: {وإذا مرضت فهو يشفين}. ((فا)): أي ينل منه بالمصائب. ((مظ، حس)): يعني يبتليه بالمصائب. المعنى: من يرد الله به خبرًا أوصل إليه مصيبة ليطهره من الذنوب وليرفع درجته. والمصيبة اسم لكل مكروه يصيب أحدًا. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة، وأبي سعيد: قوله: ((نصب ولا وصب)) ((نه)): النصب

1538 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكًا شديدًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) قال: فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ فقال: ((أجل)). ثم قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله تعالي به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)). متفق عليه. 1539 - وعن عائشة، قالت: ما رأيت أحدًا الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التعب، والوصب دوام الوجع ولزومه. قوله: ((ولا هم ولا حزن)) ((تو)): الهم الحزن الذي يذيب الإنسان، من قولهم: هممت الشحم، فالهم والحزن خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، أخذ من حزونة الأرض. فعلي هذا الهم أخص وأبلغ من من الحزن. وقيل: الهم يختص بما هو آت، والحزن بما مضى. روى الترمذي: أن وكيعًا قال: لم يسمع في الهم أنه يكون كفارة إلا في هذا الحديث. ((مظ)): الغم الحزن الذي يغم الرجل، أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، والحزن أسهل منه. قوله: ((حتى الشوكة)) ((الكشاف)): شكت الرجل، أشوكه، أي دخلت في جسده شوكة، وشيك – علي ما لم يسم فاعله – يشاك شوكًا. ((مظ)): يجوز رفع الشوكة علي الابتداء، والخبر ((يشاكها)) وجرها علي أن ((حتى)) عاطفة، أو بمعنى إلي، والضمير في ((يشاكها)) مفعوله الثاني، والمفعول الأول مضمر أقيم مقام الفاعل، المعنى حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكة. الحديث الخامس عشر عن عبد الله: قوله: ((وهو يوعك)) ((نه)): هو حرارة الحمى وألمها، وقد وعكه المرض وعكًا فهو موعوك. قوله: ((كما تحط الشجرة)) شبه حالة المريض وإصابة المرض جسده، ثم محو السيئات عنه سريعًا بحالة الشجرة، وهبوب الرياح الخريفية، وتناثر الأوراق منها سريعًا، وتجردها عنها، فهو تشبيه تمثيلي لانتزاع الأمور المتوهمة في المشبه من المشبه به، فوجه التشبيه: الإزالة الكلية علي سبيل السرعة، لا الكمال والنقصان، لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله، وإزالة الأوراق عن الشجرة سبب نقصانها. الحديث السادس عشر عن عائشة: قوله: ((الوجع عليه)) مبتدأ وخبره ((أشد)) إلي آخره، والجملة بمنزلة المفعول الثاني لـ ((رأيت))؛ لأنها من دواخل المبتدأ والخبر، والخبر قد يكون جملة و ((من)) زائدة، المعنى: ما رأيت أحدًا أشد وجعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1540 - وعنها، قالت: مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 1541 - وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة، وتعدلها أخرى، حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذبة التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)). متفق عليه. 1452 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن عائشة: قوله: ((بين حاقنتي وذاقنتي)) أي توفي مستندًا إلي. ((نه)): الحاقنة: الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق، والذاقنة: الذقن. وقيل: طرف الحلقوم. وقيل: ما يناله الذقن من الصدر ((قض)): عنت إني لما رأيت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة علي سوء عاقبة المتوفي، وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات، وإلا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولي الناس به، فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحدًا يموت من غير شدة. الحديث التاسع عشر عن كعب: قوله: ((كمثل الخامة)) ((نه)): الخامة: الطاقة الغضة اللينة من الزرع، وألفها منقلبة عن واو. قوله: ((تفيئها)) ((فا)) أي تميلها يمينًا وشمالاً. ((تو)): وذلك أن الريح إذا هبت شمالاً أمالت الخامة إلي الجنوب، فصار فيئها يمينًا وشمالاً في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوبًا فيأت في الجانب الشمالي. قوله: ((يصرعها)) ((نه)): اي يميلها ويرميها من جانب إلي جانب. قوله: ((كمثل الأرزة)) ((فا)): الأرزة – بفتح الراء – شجرة الأرزن، وروى بسكونها. وهي شجرة الصنوبر، والصنوبر ثمرها. ((مظ)): الأرزن شجرة صلب يجعل منه السوط، والعصا، والرواية الأخرى أصح. قوله: ((المجذبة)) (فا)): يقال: جذا يجذو، وأجذى يجذي، إذا ثبت قائمًا. قوله: (انجعافها)) ((فا)): أي انقلاعها، وهو مطاوع جعفته جعفًا، إذا قلعته. وقوله: ((من الزرع)) صفة للخامة، لأن التعريف في الخامة للجنس. و ((تفيئها)) يجوز أن يكون صفة أخرى للخامة، وأن يكون حالاً من الضمير المتحول إلي الجار والمجرور. وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقًا، فيقدر للمشبه معان مقابلة للمشبه به، وأن يكون تمثيليًا، فيتوهم للمشبه ما للمشبه به، وأن يكون قولاً بأن تؤخذ الزبدة من المجموع. وفيه إشارة إلي أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات، مخلوقة

1453 - وعن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أم السائب فقال: ((مالك تزفزفين؟)) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: ((لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد)). رواه مسلم. 1544 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له بمثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)). رواه البخاري. 1545 - وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة لكل مسلم)). متفق عليه. 1546 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للآخرة؛ لأنها جنته، ودار خلوده وثباته. وقوله: ((حتى يستحصد)) الحصاد إنما يستعمل في الزروع والكلأ واستعماله في الشحر إما استعارة لفظية، كالمشفر للشفة، أو معنوية، شبه قلع شجر الصنوبر أو الأرزن في سهولته بحصاد الزرع، فدل علي سوء خاتمة الكافر. الحديث العشرون عن جابر: قوله: ((تزفزفين)) ((نه)): زفزف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط علي شيء يحوم عليه ليقع فوقه. والمعنى: مالك ترتعدين؟ ويروى بالزاي من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد. قوله: ((الكير)) ((نه)): هو بالكسر كير الحداد، وهي المبنى من الطين. وقيل: الزق الذي ينفخ به النار، والمبنى الكور. الحديث الحادي والعشرون عن أبي موسى: قوله: ((بمثل)) الباء زائدة كما في قوله تعالي: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به}. الحديث الثاني والعشرون عن أنس – رضي الله عنه – قوله: ((الطاعون)) ((نه)) وهو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان. الحديث الثالث والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((الشهداء)) ((غب)): الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو بالبصيرة. وسمي الشهيد شهيدًا؛ لحضور الملائكة إياه، إشارة إلي قوله تعالي: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} أو لأنهم يشهدون في تلك الحالة ما أعد لهم من النعيم، أو لأنه يشهد أرواحهم

1547 - وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني: أنه عذاب يبعثه الله علي من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)). رواه البخاري. 1548 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز أرسل علي طائفة من بني إسرائيل، أو علي من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عند الله، كما قال تعالي: {بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين}. فإن قلت: ((خمسة)) خبر لـ ((الشهداء)) والمعدود بعده بيان له، فيكون حمله علي المبتدأ من باب التشبيه، كأنه قيل: المطعون كالشهيد إلي آخره، فكيف يصح هذا في الشهيد، فإنه حمل الشيء علي نفسه قلت: هو من باب قوله: أنا أبو النجم، وشعرى شعرى، كأنه قيل: الشهيد الكامل أو المعروف هو من قتل في سبيل الله: قوله: ((المبطون)) ((نه)): أي الذي يموت بمرض البطن كالاستسقاء ونحوه. الحديث الرابع والعشرون عن عائشة: قوله: ((ليس من أحد)) الجملة بيان لقوله: ((جعله رحمة للمؤمنين)) و ((من)) زائدة، و ((يقع الطاعون)) صفة لـ ((أحد)) والراجع محذوف، أي يقع في بلده. و (فيمكث)) عطف علي (يقع)) وكذا ((يعلم)) وإلا لكان خبر ((ليس)) و (صابرًا ومحتسبًا)) حالان من فاعل ((يمكث)) أي يصبر وهو قادر علي الخروج متوكلاً علي الله تعالي ابتغاءً لمرضات الله طالبًا لثوابه لا لغرض آخر. الحديث الخامس والعشرون عن أسامة: قوله: ((رجز)) ((تو)): الرجز العذاب. والأصل فيه الاضطراب، ومنه قيل: رجز البعير رجزًا، إذا تقارب خطوه واضطرب لضعف فيه. وقوله: ((علي طائفة من بني إسرائيل)) هم الذين أمرهم الله تعالي أن يدخلوا الباب سجدًا، فخالفوا، قال تعالي: {فأنزلنا علي الذين ظلموا رجزًا من السماء}. قيل: أرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفًا. ((قض)): في الحديث النهي عن استقبال البلاء، فإنه تهور، وإقدام علي خطر، وإيقاع للنفس في معرض التهلكة، وعن الفرار منه، فإنه فرار من

1549 - وعن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله سبحانه وتعالي: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، ثم صبر؛ عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ القدر، وهو لا ينفعه. ((خط)): أحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم. ((تو)): إن الله تعالي شرع التوفي عن المحذور، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحجر، منع أصحابه من الدخول فيه، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الخروج منه، فيحتمل أنه أراد إذا خرج الأصحاء ضاعت المرضي ممن يتعهدهم، والموتى من التجهيز والتكفين والصلاة عليهم. قوله: ((سمعتم به بأرض)) الباء الأولي متعلقة بـ ((سمعتم)) علي تضمين أخبرتم، و ((بأرض)) حال، أي واقعًا في أرض. ((حس): وفيه دليل علي أنه لو خرج منه لحاجة يريدها، أو سفر يقصده، فلا بأس به. الحديث السادس والعشرون عن أنس: قوله: ((بحبيبتيه)) تسمى العينان بالحبيبتين لأن العالم عالم الغيب والشهادة، وكل منهما محبوب، ومدرك الأولي البصيرة، ومدرك الثاني البصر، واشتق الحبيب من حبة القلب، وهي سويداؤه، نظير سويداء العين، وأنشد السيد الرضي: لو يفتدى ذاك السواد فديته بسواد عيني بل سواد ضمائري وفقال [أبو العلاء]: يود أن سواد الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر ولأن السرور يكنى عنه بقرة العين لما نشاهد المحبوب بها، ويكنى عن الحزن بسخونتها للمفارقة عنه. ولعل جعل الجنة عوضًا عنها، لأن فاقدهما حبيس، فالدنيا سجنه حتى يدخل الجنة، علي ما ورد ((الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)). و ((ثم)) في قوله: ((ثم صبر)) للتراخي في الرتبة؛ لأن ابتلاء الله تعالي العبد نعمة، وصبره عليه مقتضٍ لتضاعف تلك النعمة؛ لقوله تعالي: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب}. ولما أصيب ابن عباس رضي الله عنهما بكريمتيه)) أنشد: إن يذهب الله من عيني نورهما ففي لسإني وقلبي للهدى نور عقلي ذكي، وقولي غير ذي خطل وفي فمي صارم كالسيف مأثور

الفصل الثاني 1550 - عن علي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلي عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلي عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)). رواه الترمذى، وأبو داود. [1550] 1551 - وعن زيد بن أرقم، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان يصيبني. رواه أحمد، وابو داود. [1551] 1552 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه محتسبًا، بُوعد من جهنم مسيرة ستين خريفًا)). رواه أبو داود. [1552] 1553 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يعود مسلمًا فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفي، إلا أن يكون قد حضر أجله)). رواه أبو داود والترمذي. [1553] 1554 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن علي: قوله: ((وإن عاده عشية)) ((إن)) نافية بدلالة ((إلا))، ولمقابلتها ((ما)). و ((خريف)) أي مخروف من ثمر الجنة، فعيل بمعنى مفعول. الحديث الثاني إلي الرابع عن أنس: قوله: ((محتسبًا)) تنازع فيه ((توضأ)) و ((عاد)) قوله: ((ستين خريفًا) أي عامًا. قالوا: سمي به لاشتماله عليه، إطلاقًا للبعض وإرادة للكل مجازًا. وقد سئل أنس عن الخريف، قال: العام. وكانت العرب يؤرخون أعوامهم بالخريف؛ لأنه كان أوان جدادهم، وقطافهم، وإدراك غلاتهم، إلي أن أرخ عمر رضي الله عنه بسنة الهجرة. وفيه أن الوضوء سنة في عيادة المريض؛ لأن العائد إن دعا وسمى الله وهو علي الطهارة، كان أقرب إلي الإجابة. الحديث الخامس عن ابن عباس: قوله: ((كل عرق نعار)) (نه)): نعر العرق بالدم إذا ارتفع

يقولوا ((بسم الله الكبير)) أعوذ بالله العظيم، من شر كل عرق نعار، ومن شر حر النار)). رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل وهو يضعف في الحديث. [1554] 1555 - وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اشتكى منكم شيئًا أو اشتكاه أخ له، فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما أن رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، علي هذا الوجع؛ فيبرأ)). رواه أبو داود. [1555] ـــــــــــــــــــــــــــــ وعلا، وجرح نعار ونعور إذا صوت دمه عند خروجه. ((فا)): فلان نعار في الفتن إذا كان يسعى فيها، ويصوت بالناس. الحديث السادس عن أبي الدرداء: قوله: ((ربنا الله الذي في السماء)) ((ربنا)) مبتدأ، و ((الله)) خبره، و ((الذي)) صفة مادحة عبارة عن مجرد علو شأنه ورفعته، لا عن المكان لأنه منزه عن المكان. ومن ثم نزه اسمه عما لا ينبغي، فيلزم منه تقدس المسمى بالطريق الأولي. ولا يجوز أن يكون الصفة مميزة، كما في قوله تعالي: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} لأن الرب الذ قد يتصور فيه الاشتراك علي زعم المشركين بخلاف ((الله) فإنه أسم مختص بالمعبود بالحق وفاقًا. قوله: ((أمرك في السماء)) كقوله تعالي: {وأوحى في كل سماء أمرها} أي ما أمر به فيها، ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك، أو شأنها وما يصلحها. قوله: ((كما رحمتك في السماء)) ((ما)) كافة مهيئة لدخول الكاف علي الجملة، شبه ما فيه اختلاف بما لا اختلاف فيه، وذلك أن أمر الله – كما فسر – غير مختص بالسماء دون الأرض لكن الرحمة من شأنها أن تختص بالسماء دون الأرض؛ لأنها مكان الطيبين المعصومين عن أوضار الآثام، بخلاف الأرض، ولذلك أتى بالفاء الجزائية، أي إذا كان كذلك فافعل. وقيد الفعل بالحوب ((فا)): والحوبة الإثم. والتعريف في ((الوجع)) للعهد، وهو ما يعرفه كل أحد أن

1556 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء الرجل يعود مريضًا فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوًا أو يمشي لك إلي جنازة)). رواه أبو داود. [1556] 1557 - وعن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. وعن قوله: {من يعمل سوءًا يجز به}، فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه، فيفقدها، فيفزع لها، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير)). رواه الترمذي. [1557] ـــــــــــــــــــــــــــــ الوجع ما هو. ويجوز أن يشار به إلي ((شيئًا)) فالجيم مفتوحة، أو إلي ((من)) في ((من اشتكى)) فالجيم مكسورة. و ((أنت رب الطيبين)) إلي آخره تقرير للمعنى السابق، وتخصيص بعد التعميم. فالأول كالوسيلة إلي المطلوب. الحديث السابع عن عبد الله: قوله: ((ينكأ لك عدوًا)) ((نه)): نكيت في العدو أنكى نكاية فأنا ناك، إذا كثرت فيهم الجراح والقتل، فوهنوا لذلك. و ((ينكأ)) مجزوم علي أنه جواب الأمر، ويجوز الرفع علي تقدير اشف عبدك، فإنه ينكأ عدوك. وقيل: ويجوز أن يكون ((يمشي)) أيضًا مجزومًا لم تحذف لامه، نحو قراءة من قرأ {إنه من يتقي ويصبر)) بإثبات الياء. ولعله جمع بين النكاية، وتشييع الجنازة؛ لأن الأول كدح في إنزال العقاب علي عدو الله، والثاني سعى في إيصال الرحمة إلي ولي الله. قال: لنا ملك ما يطعم النوم همه ممات لحي، أو حياة لميت الحديث الثامن عن علي: قوله: ((معاتبة الله العبد)) ((تو)): هذا الحديث لم يؤت في المصابيح علي وجهه، حيث جاء فيه ((متابعة الله)) من ((تبع))، وفي كتاب الترمذي: ((معاتبة الله)) من ((عتب)). أقول: وكذا في شرح القاضي، والأشرف. ثم قال الشيخ: لا تعرف المتابعة في الحديث ولا معنى له، وإنما هو ((معاتبة الله العبد))، أي يؤاخذه بما أصابه من الذنب بما يصيبه في الدنيا من الحمى وغيرها. أقول: أما الرواية، فلا كلام عليها. وأما المعنى فصحيح؛ لما جاء: ((اتبعوا القرآن ولا يتبعكم)). قال ابن الأثير في النهاية: قيل: معناه لا يطلبنكم لتضييعكم إياه، كما يطلب الرجل صاحبه بالتبعة. والتبيع الذي يتبعك لحق يطالبك به، فالمعنى: هذه

1558 - وعن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. رواه الترمذي. [1558] ـــــــــــــــــــــــــــــ طلب من الله إياه ليجازيه علي ما صدر عنه من التبعة، فأطلق المتابعة، وأراد المجازاة. نعم الرواية الثانية ألطف وأنسب بالمقام، وتحقيقه: أن عائشة رضي الله عنها قد تحيرت في أمر نفسها، حيث فهمت من الآية أن هذه مؤاخذة عقاب أخروي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فأجابها صلى الله عليه وسلم: طيبي نفسًا إنها ليست بمؤاخذة عقاب يكون في العقبى، إنما هي مؤاخذة عتاب في الدنيا، صادرة عن مبدأ عناية ورحمة، علي ما هو معهود من ذي عاطفة وإشفاق علي معطوف عليه يراقب أوقاته وأحواله، وينبهه لطريق السعادة كلما ازور عن سواء الطريق يرده إليه لطفًا وقهرًا، فكأنه صلى الله عليه وسلم يسلي نفس أم المؤمنين ويطيبها، ويقول لها: لا تظني أن هذه المحاسبة مؤاخذة سخط وغضب، وأنها مخصوصة بالآخرة؛ إنما هي مؤاخذة عتاب يجري بين المتعاتبين، ولهذا جاء صلى الله عليه وسلم بصلة المعاتبة توضيحًا لها وتحقيقًا لمعناها في قوله: ((تصيبه من الحمى والنكبة)) ووضع المظهر موضع المضمر في قوله: ((حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه)) كأنه قيل: يخرج عبدي وهو تحت عنايتي ولطفي. و ((النكبة)) هي ما يصيب الإنسان من الحوادث. و ((البضاعة)) قسط من المال يقتنى للتجارة، والأصل فيها البضع، وهو جملة من اللحم، تبضع أي تقطع. قوله: ((فيفقدها)) يقال: فقدت الشيء أفقده فقدًا، أي طلبته بعد ما غاب. قال الله تعالي: {ماذا تفقدون}. والمراد بـ ((يد القميص)) كمه، تسمية للمحل باسم الحال، يريد أن الرجل إذا وضع بضاعته في كمه، ووهم أنها غابت، فطلبها وفزع لذلك، كفرت عنه ذنوبه. وفيه من المبالغة ما لا يخفي. وقوله: ((فيفزع لها)) يقال: فزع له، أي تغير وتحول من حال إلي حال. ((نه)): يقال: فزعت لمجيء فلان، إذا تأهبت له متحولاً من حال إلي حال. قوله: ((والتبر)) ((نه)): هو الذهب والفضة قبل أن يضربا دراهم ودنإنير، فإذا ضربا كانا عينًا. الحديث التاسع عن أبي موسى: قوله: ((نكبة فما فوقها)) التنكير فيها للتقليل لا للجنس، ليصح ترتيب ((فوقها، ودونها)) في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين: فوقها في العظم ودونها في الحقارة، وعكس ذلك، ونحوه قوله تعالي: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها}.

1559 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان علي طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك الموكل به، اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه، أو أكفته إلي)). [1559] 1560 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ابتلي المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك، اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره. وإن قبضه غفر له ورحمه)). رواهما في ((شرح السنة)). [1560] 1561 - وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد)). رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [1561] 1562 - وعن سعد، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل علي حسب دينه فإن كان صلبًا في دينه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((أو أكفته)) ((نه)): أي أضمه إلي القبر. ومنه قيل للأرض: كفات. ((مظ)): أكفته، أي أميته. وأقول: هذا المعنى أقرب؛ لأن المعنى اكتب له مثل عمله حين كان صحيحًا زمانًا بعد زمان، حتى يرجع إلي صحته، أو يموت فيرجع إلي، كما قال تعالي: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية} هذا معنى قوله: ((أو أكفته إلي)) أي أضمه. الحديث الحادي عشر، والثاني عشر عن جابر: قوله: ((المطعون شهيد)) بيان للسبع من حيث المعنى، لأن الظاهر أن يقال: الطاعون شهادة، والغرق شهادة، إلي آخره، أو يقال أولاً: الشهداء سبعة. قوله: ((والمرأة بجمع)) ((نه)): أي تموت وفي بطنها ولد. وقيل: التي تموت بكرًا. و ((الجمع)) بالضم بمعنى المجموع، كالدحر بمعنى المدحور, وكسر الكسائي الجيم، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل من حمل أو بكارة. الحديث الثالث عشر عن سعد: قوله: ((ثم الأمثل)) ((غب)): الأمثل يعبر به عن الأشبه بالفضل، والأقرب إلي الخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم. أقول: ((ثم)) فيه للتراخي في

اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه، فما زال كذلك حتى يمشي علي الأرض ما له ذنب)). رواه الترمذي، وابن ماجة، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [1562] 1563 - وعن عائشة، قالت: ما أغبط أحدًا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي والنسائي. [1563] 1564 - وعنها، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء. وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه، ثم يقول: ((اللهم أعني علي منكرات الموت، أو سكرات الموت)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [1564] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرتبة، و ((الفاء)) للتعاقب علي سبيل التوالي تنزلاً من الأعلي إلي الأسفل، و ((يبتلي الرجل)) بيان للجملة الأولي، والتعريف في ((الأنبياء والأمثل)) للجنس، وفي ((الرجل)) للاستغراق في الأجناس المتوالية. قوله: ((صلبًا)) خبر ((كان)) و ((في دينه)) متعلق به و ((كان)) الثاني يجوز أن يكون اسمه الضمير الراجع إلي الرجل، و ((رقة)) مبتدأ و ((في دينه)) خبره، والجملة خبر ((كان)). وأن يكون ((رقة)) اسم ((كان)) و ((في دينه)) خبر، وجاز التإنيث للفصل بالخبر. فإن قلت: ما الفائدة في اختلاف ((صلبًا ورقة))؟ قلت: الأول وصف للرجل، والتنكير فيه للتعظيم، والثاني وصف للدين، والتنكير فيه للتقليل؛ فيفيد أن من كان صلبًا في دينه فهو أشد بلاء، ومن كان أرق فيه كان أقل بلاء. وفيه تنبيه علي أن المطلوب من الرجل الكامل أن يكون صلبًا في دينه، وكونه رقيق الدين ليس من شيمته. وقوله: ((فما زال كذلك)) الضمير راجع إلي اسم ((كان)) الأول دون الثاني، و ((كذلك)) إشارة إلي اشتداد البلاء. وقوله: ((يمشي علي الأرض ما له ذنب)) كناية عن سلامته عن الذنب، وخلاصه عنه، كأنه كان محبوسًا، فأطلق وخلي سبيله، فهو يمشي ما عليه بأس. الحديث الرابع عشر عن عائشة: قوله: ((ما أغبط)) ((نه)): غبطت الرجل أغطبنه، إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله، وأن يدوم عليه ما هو فيه. و ((الهون)) الرفق واللين. والإضافة فيه إضافة الصفة إلي الموصوف. وقد سبق معنى الحديث في الحديث السابع عشر من الفصل الأول. الحديث الخامس عشر عن عائشة قوله: ((وهو بالموت)) أي مشغول أو متلبس به والأحوال بعدها متداخلات.

1565 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله تعالي بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة)). رواه الترمذي. 1566 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء، مع عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)). رواه الترمذي وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سكرات الموت)) ((غب)): السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق. الحديث السادس عشر عن أنس: قوله: ((أمسك عنه بذنبه)) أي أمسكه عنه لما يستحقه بسبب ذنبه من العقوبة، والضمير المرفوع في ((يوافيه)) راجع إلي الله تعالي، والمنصوب إلي العبد، ويجوز أن يكون بالعكس، والمعنى لا يجازيه بذنبه حتى يجيء في الآخرة متوفر الذنوب وافيها، فيستوفي حقه من العقاب. الحديث السابع عشر عن أنس: قوله: ((فمن رضي فله الرضي)). فإن قلت: إذا كانت الفاء تفصيلية، فالتفصيل غير مطابق للمفصل؛ لأن المفصل اشتمل علي فريق واحد، وهو أهل المحبة، والتفصيل علي فريقين: أهل الرضي وأهل السخط. قلت: هو من أسلوب قوله تعالي: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا * فأما الذين آمنوا} الآية. ((الكشاف)): هو كقولك: جمع الإمام الخوارج، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به. وصحة ذلك أن حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه. انتهي كلامه. فكذا ها هنا، أي إذا أحب الله تعالي قومًا وأبغض قومًا ابتلاهم جميعًا. وقوله: ((فمن رضي فله الرضي)) شرط وجزاء، فهم منه أن رضي الله تعالي مسبوق برضي العبد، ومحال أن يرضي العبد عن الله إلا بعد رضي الله عنه، كما قال: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} ومحال أن يحصل رضي الله ولا يحصل رضي العبد في الآخرة، كما قال تعالي: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية} فعن الله الرضي أزلاً وأبدًا، سابقًا ولاحقًا.

1567 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده، حتى يلقى الله تعالي وما عليه من خطيئة)). رواه الترمذي وروى مالك نحوع، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 1568 - وعن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره علي ذلك يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)). رواه أحمد، وأبو داود. [1568] 1569 - وعن عبد الله بن شخير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ابن آدم وإلي جنبه تسع وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [1569] 1570 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن محمد بن خالد: قوله: (حتى يبلغه المنزلة)) ((حتى)) هنا يجوز أن تكون للغاية، وأن تكون بمعنى ((كي)) وفيه إشعار بأن البلاء خاصية في نيل الثواب ليس للطاعة، وإن حلت مثلها، ولذلك كان من نصيب الأنبياء أشد البلاء. الحديث العشرون عن عبد الله: قوله: ((مثل ابن آدم)): أي صور وقوله: ((تسع وتسعون)) يحتمل أن يراد به التحديد، أو التكثير، والثاني أظهر، يريد أن أصل خلقة الإنسان من شأنه أن لا يفارقه البلاء، والمصائب والأمراض والأدواء، كما قيل: البرايا أهداف المنايا. فإن أخطأته تلك النوائب علي الندرة أدركه من الأدواء الداء الذي لا دواء له. قال: لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما هو لاق من أذاها يهدد قوله: ((المنايا)) جمع منية، وهي الموت؛ لأنها مقدرة بوقت مخصوص، من المني وهو: التقدير. سمي كل بلية من البلايا منية؛ لأنها طلائعها ومقدماتها. الحديث الحادي والعشرون عن جابر: قوله: ((يود أهل العافية)) ((غب)): الود محبة الشيء وتمني كونه له، ويستعمل في كل واحد من المعنيين من المحبة والتمني. وفي الحديث هو من

حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1571 - وعن عامر الرام، قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام، فقال: ((إن المؤمن إذا أصابه السثم، ثم عافاه الله عز وجل منه، كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل. وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي، كان كالبعير إذا عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه)). فقال رجل: يا رسول الله! وما الأسقام))؟ والله ما مرضت قط. فقال: ((قم عنا فلست منا)). رواه أبو داود. [1571] ـــــــــــــــــــــــــــــ المودة التي بمعنى التمني. ولا بد لقوله: ((يود)) من مفعول، ((ولو)) أيضًا للتمني، فلا يصلح أن تكون مفعولاً إلا علي التاويل، فنزل مع ما بعده منزلته، كأنه قيل: يود أهل العافية ما يلازم لو أن جلودهم كانت مقرضة في الدنيا، وهو الثواب المعطى علي الابتلاء. ولو قيل: لو أن جلودنا، لكان التقدير: يود أهل العافية الابتلاء في الدنيا قائلين: ليت جلودنا كانت قرضت بالمقاريض، فنلنا الثواب المعطى علي الابتلاء. فاختير في الحديث علي التكلم؛ لأنه أقل إحواجًا إلي التقدير، فعلي هذا مفعول ((يود)) محذوف، و ((لو)) مع ما بعده مقول للقول، وهو حال من فاعل (يود)). الحديث الثاني والعشرون عن عامر: قوله: ((وإن المنافق)) إلي آخره. مقابل لقوله: ((إن المؤمن)) وقد شبه بالبعير المرسل بعد القيد في أنه لا يدري فيم قيد، وبما أرسل، يعنى من حقه أنه إذا مرض عقل أن مرضه بسبب ما ارتكبه من الذنوب، فإذا أعفي لم يقدم علي ما تقدمه، فلما لم يتنبه عليه جعل كالبعير، كما قال تعالي: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} فينبغي تأويل ما يقابله بهذا المعنى، كأنه قيل: إن المؤمن إذا مرض ثم عوفي تنبه وعلم أن مرضه كان مسببًا عن الذنوب الماضية، فيندم ولا يقدم علي ما مضى، فيكون كفارة لها؛ فوضع المسبب الذي هو الكفارة موضع السبب الذي هو التوبة والندم، تنبيهًا علي تيقظه، وبعد غور إدراكه لتقابل نسبة البلادة إلي المنافق، وتشبيهه بالنعم. قوله: ((وما الأسقام)) عطف علي محذوف، أي عرفنا ما يترتب علي الأسقام من الثواب وما الأسقام. وقوله: ((قم عنا)) ضمن ((قم)) معنى ابعد، فعدى تعديته، أو ((عنا)) حال، أي قم متجاوزًا عنا معتزلاً. و ((من)) في ((لسن منا)) اتصالية، كما في قول الشاعر:

1572 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم علي المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويطيب نفسه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [1572] 1573 - وعن سليمان بن صرد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتله بطنه لم يعذب في قبره)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإني لست منك ولست مني وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما أنا من دد، ولا الدد مني)). الحديث الثالث والعشرون عن أبي سعيد: قوله: ((فنفسوا له)) ((تو)): الأصل في التنفيس التفريج، يقال: نفست عنه تنفيسًا أي دفعت، ونفس الله عنه كربته أي فرجها. قوله: ((فإن ذلك لا يرد شيئًا)) يعني لا بأس عليك بتنفيسك المريض؛ فإن تنفيسك المريض ليس له أثر في طول عمره، لكن له أثر في تطييب نفسه. قيل لهارون الرشيد – وهو عليل -: هون عليك، وطيب نفسك، فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والعلة لا تمنع من البقاء، فقال: والله لقد طيبت نفسي وروحت قلبي. قوله: ((في أجله)) ((في)) متعلق بـ ((نفسوا)) مضمنًا معنى التطميع، أي طمعوه في طول أجله. واللام للنأكيد، والباء في ((بنفسه)) زائدة في الفاعل، كما في قول الشاعر: ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن ملك يبقرا ويجوز أن تكون الباء للتعدية، وفاعله ضمير عائد إلي اسم ((إن)) ويساعد الأول رواية المصابيح ((ويطيب نفسه)). الحديث الرابع والعشرون عن سلمان: قوله: ((من قتله بطنه)) هو من الاستعارة التبعية، كما في قول الشاعر: قتل البخل، وأحيى السماحا شبه ما يلحق المبطون من إزهاق نفسه به بما يزهق النفس بالمحددات ونحوها، والقرينة نسبة القتل إلي البطن.

الفصل الثالث 1574 - عن أنس، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم)). فنظر إلي أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)). رواه البخاري. 1575 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا نادى مناد في السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)). رواه ابن ماجه. [1575] 1576 - وعن ابن عباس، قال: إن عليا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس: قوله: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) ولله در القائل: ومريضًا أنت عائده قد أتاه الله بالفرج وجهك المأمول حجتنا يوم يأتي الناس بالحجج ما علي من باع مهجته في هوى علياك من حرج أوله: إن بيتًا أنت ساكنه غير محتاج إلي السرج الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((طبت)) ((غب)): وأصل الطيب ما تستلذه الحواس، وما تستلذه النفس. والطيب من الإنسان من تزكى عن نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال، وتحلي بالعلم والإيمان ومحاسن الأفعال. أقول: قوله: ((طبت)) دعاء له بأن يطيب عيشه في الدنيا. ((وطاب ممشاك)) كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري من رذائل الأخلاق، والتحلي بمحاسن الأفعال ومكارمها. ((وتبوأت)) دعاء بطيب العيش في الآخرة. وإخراج الأدعية عن الإنشائية؛ لإظهار الحرص علي وقوعها، كأنها حاصلة وهو يخبر عنها، كما تقول: رحمك الله، وعصمك من الآفات.

الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا. رواه البخاري. 1577 - وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلي قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أصرع، وإني أتكشف. فادع الله [لي]، فقال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)). فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لأت لا أتكشف، فدعا لها. متفق عليه. 1578 - وعن يحيى بن سعيد، قال: إن رجلاً جاءه الموت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: هنيئًا له، مات ولن يبتل بمرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك)! وما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض فكفر عنه من سيئاته)). رواه مالك مرسلاً. [1578] 1579 - وعن شداد بن أوس، والصنابحي، أنهما دخلا علي رجل مريض يعودانه، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة. قال: شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل يقول: إذا أنا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمدني علي ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب تبارك وتعالي: أنا قيدت عبدي وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له وهو صحيح)). رواه أحمد. [1579] 1580 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه)). رواه أحمد. [1580] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث إلي الخامس عن يحيى: قوله: ((لو أن الله ابتلاه)) ((لو)) للتمني؛ لأن الامتناعية لا تجاب بالفاء، وهي مستدعية للفعل الماضي، كأنه لما قال القائل: ((هنيئًا له مات ولم يمرض)) رده به أي لا تقل هنيئًا له، ليت أن الله تعالي ابتلاه فيكفر به سيآته. ويجوز أن يقدر: لو ابتلاه الله لكان خيرًا له، فيكفر، وعلي الأول ((ما يدريك)) معترضة، وعلي الثاني متصلة بما بعده.

1581 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم: ((من عاد مريضاً، لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها)). رواه مالك، وأحمد. [1581] 1582 - وعن ثوبان، أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال: ((إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، فليستنقع في نهر جار – وليستقبل جريته، فيقول: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك - بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله عز وجل)). رواه الترمذي، وقال: حديث غريب. [1582] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس إلي الثامن عن جابر: قوله: ((يخوض الرحمة)) شبه الرحمة بالماء إما في الطهارة، أو في الشيوع والشمول، ثم نسب إليها ما هو منسوب إلي المشبه به من الخوض ثم عقب الاستعارة بالانغماس ترشيحًا. الحديث التاسع عن ثوبان: قوله: ((فإن الحمى قطعة)) جواب لقوله: ((إذا أصاب)) والفاء في ((فليطفئها)) مترتبة علي الجواب، والتقدير: فإذا أصاب أحدكم الحمى فليعلم أن الحمى قطعة من النار، فليطفئها، كقوله تعالي: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} أي فليعلم أن الله عدو له. ويجوز أن يكون الجزاء ((فليطفئها))، وقوله: ((فإن الحمى)) معترضة، كما في قول الشاعر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا وكرر الحمى تقريرًا للعلة. والفاء في ((فليستنقع)) للتعقيب؛ لأن النقع هو الإطفاء، كما في قوله تعالي: {فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم} لأن المعنى فاعزموا علي التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قبل أن الله تعالي جعل توبتهم قتل أنفسهم. ((نه)): كل ما ألقي في ماء فقد أنقع، يقال: أنقعت الدواء، وغيره في الماء، فهو منقع. وقوله: ((بعد صلاة الصبح)) ظرف لقوله: ((فليستنقع)). وقوله: ((ولينغمس)) موضع لقوله: ((فليستنقع)) جيء به لتعلق المرات به. قوله: ((وصدق رسولك)) أي اجعل قوله هذا صادقًا بأن تشفيني. وقوله: ((فخمس)) أي إن لم يبرأ في ثلاثة أيام، فالأيام التي ينبغي أن ينغمس فيها خمس.

1583 - وعن أبي هريرة، قال: ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبها رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد)). رواه ابن ماجه. [1583] 1584 - وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضًا فقال: ((أبشر فإن الله تعالي يقول: هي ناري أسلطها علي عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة)). رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). 1585 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرب سبحانه وتعالي يقول: وعزتي وجلالي لا أخرج أحدًا من الدنيا أريد أغفر له، حتى أستوفي كل خطيئة في عنقه بسقم في بدنه، وإقتار في رزقه)). رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع والعاشر عن أبي هريرة قوله: ((هي ناري)) في إضافة ((ناري)) إشارة إلي أنها لطف ورحمة من الله سبحانه يختص بها من يشاء من عباده، ولذلك صرح بقوله: ((عبدي)) ووصفه بالمؤمن. وقوله: ((أسلطها)) خبر بعد خبر، أو استئناف بيان لمعنى الإضافة، كأنه قيل: هذه العناية في حق من قيل: أسلطها علي عبدي المؤمن. قوله: ((لتكون حظه من النار)) أي نصيبه، وهو يحتمل وجهين: أحدهما أنها نصيبه من الحتم المقضي في قوله تعالي: {وإن منكم إلا واردها}، أو نصيبه مما اقترف من الذنوب، وهو الظاهر. الحديث الحادي عشر عن أنس: قوله: ((أريد أغفر)) أي أن أغفر، حذف ((أن)) كما في قوله: ((أحضر الوغى. وقوله: {ومن آياته يريكم البرق} والجملة إما حال من فاعل ((أخرج))، أو صفة للمفعول. وفي هذا القسم إشارة إلي معنى القسم في قوله تعالي: {كان علي ربك حتمًا مقضيا}. قوله: ((حتى أستوفي كل خطيئة)) المضاف محذوف، أي جزاء كل خطيئة، وفي ((استوفي)) معنى الإبدال بدلالة الباء في قوله: ((بسقم)). قوله: ((وإقتار في رزقه)) ((نه)): الإقتار: التضييق علي الإنسان في الرزق يقال: أقتر الله رزقه، أي ضيقه وقلله وقد أقتر الرجل، فهو مقتر، وقتر فهو مقتور. 1586 - وعن شقيق، قال: مرض عبد الله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكي، فعوتب. فقال: إني لا أبكي لأجل المرض، لإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المرض كفارة)). وإنما أبكي أنه أصابني علي حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض. رواه رزين. 1587 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث. رواه ابن ماجة، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [1587] 1588 - وعن عمر بن الخطاب، [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت علي مريض فمره يدعو لك؛ فإن دعاءه كدعاء الملائكة)). رواه ابن ماجة. [1588] 1589 - وعن ابن عباس، قال: من السنة تخفيف الجلوس وقلة الصخب في العيادة عند المريض، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم واختلافهم: ((قوموا عني)). رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ

الحديث الثاني عشر عن شقيق: قوله: ((علي فترة)) أي فتور وضعف للجسم لا أقدر علي العمل الكثير، ولم يصبني علي قوة واجتهاد في العمل الكثير، حتى يكتب العمل الكثير بسبب المرض. و ((عبد الله)) هذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، مات بالمدينة سنة اثنين وثلاثين ودفن بالبقيع، وله بضع وستون سنة. الحديث الثالث والرابع عشر عن عمر: قوله: ((فمره يدعو)) يدعو مفعول بإضمار ((أن)) أي مره بأن يدعو لك. ويجوز أن يكون مجزومًا جوابًا للأمر، وذلك علي تأويل أن هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي يبلغه إلي المريض، فيكون من باب قوله تعالي: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} وعلي هذا يكون لام الفعل وهو حرف العلة قد أثبت في الجزم. وصحة ذلك علي طرف من التمام فيصبره، وإنما يؤمر بالدعاء حينئذ؛ لأنه نقي من الذنوب كيوم ولدته أمه، وصار معصومًا كالملائكة، ودعاء المعصوم مقبول. الحديث الخامس عشر عن ابن عباس: قوله: ((وقلة الصخب)) القلة بمعنى العدم؛ لأن

1590 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العيادة فواق ناقة)). [1590] 1591 - وفي رواية سعيد بن المسيب، مرسلاً: ((أفضل العيادة سرعة القيام)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1591] 1592 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً، فقال له: ((ما تشتهي؟)) قال: أشتهي خبز بر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان عنده خبز بر فليبعث إلي أخيه)). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتهي مريض أحدكم شيئًا فليطعمه)). رواه ابن ماجه. [1592] 1593 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: توفي رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا ليته مات بغير مولده)). قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلي منقطع أثره في الجنة)). رواه النسائي، وابن ماجه. [1593] ـــــــــــــــــــــــــــــ الصخب، والضجة، واصطراب الأصوات للخصام منهي من أصله، لا سيما عند المريض. قوله: ((لغطهم)) ((نه)): اللغط: صوت وضجة لا يفهم معناه، وكان ذلك عند وفاته صلى الله عليه وسلم. روى ابن عباس أنه لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلموا أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده))، فقال عمر: وفي رواية: فقال بعضهم: رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر – وفي رواية: ومنهم من يقول غير ذلك – فلما أكثروا اللغط والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا عني)) متفق عليه. الحديث السادس عشر عن أنس: قوله: ((فواق ناقة)): ((نه)): هو قدر ما بين الحلبتين من الراحة، يضم فاؤه ويفتح، وهو خبر المبتدأ، أي زمان العيادة مقدار فواق ناقة. وقوله: ((أفضل العيادة سرعة القيام)) أي أفضل ما يفعله العائد في العيادة أن يقوم سريعًا. الحديث السابع عشر عن ابن عباس: قوله: ((إذا اشتهي مريض أحدكم شيئًا)) هذا إما بناء علي التوكل، وأنه هو الشافي، أو أن المريض قد شارف الوفاة. الحديث الثامن عشر عن عبد الله: قوله: ((إلي منقطع أثره)) أي إلي موضع قطع أجله. ((نه)): وسمى الأثر أجلاً: لأنه يتبع العمر، قال زهير:

1594 - وعن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت غربة شهادة)). رواه ابن ماجة. [1594] 1995 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات مريضًا مات شهيدًا، أو وقي فتنة القبر، وغدي وريح عليه برزقه من الجنة)). رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [1595] 1596 - وعن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يختضم الشهداء والمتوفون علي فرشهم إلي ربنا عز وجل في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا. ويقول المتوفون: إخواننا ماتوا علي فرشهم كما متنا. فيقول ربنا: انظروا إلي جراحتهم، فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم)). رواه أحمد، والنسائي. 1597 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه له أجر شهيد)). رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له أثر، فلا يرى لأقدامه أثر. وقوله: ((من الجنة)) متعلق بـ ((قيس)) يعني من مات في الغربة فيفسح له في قبره، ويفتح مقدار ما بين قبره وبين مولده، ويفتح له باب إلي الجنة. الحديث التاسع عشر والعشرون عن أبي هريرة: قوله: ((وغدى وريح)) من الغدو والرواح، و ((عليه)) حال، أي غدى الميت المريض دارًا عليه برزقه بالغداة والرواح. ونظيره قوله تعالي: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} لم يرد بهما الوقتين المعلومين، بل أراد الديمومة، ودرور الرزق عليه، كما تقول: أنا عند فلان بكرة وعشيا، أو هو كناية عن مجرد التنعم والترف؛ لأن المتنعم عند العرب من وجد غذاءه غدوًا وعشيًا. الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن جابر: قوله: ((كالفار من الزحف)) شبهه به

(2) باب تمني الموت وذكره

(2) باب تمني الموت وذكره الفصل الأول 1598 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ في ارتكاب الكبيرة، قال تعالي: {يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} والزحف: الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيبًا، من زحف الصبي إذا دب علي استه قليلاً قليلاً، سمي بالمصدر. باب تمني الموت وذكره الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((يتمنى أحدكم)) ((تو)): الياء في قوله: ((لا يتمنى)) مثبتة في رسم الخط ويحتمل أن بعض الرواة أثبتها في كتب الحديث، فلعله نهي ورد علي صيغة الخبر، والمراد منه لا يتمن، فأجرى مجرى الصحيح، ويحتمل أن بعض الرواة أثبتها في الخط، فروى علي ذلك. ((قض)): ((لا يتمنى)): نهي أخرج في صورة النفي للتأكيد. أقول: هذا أولي، ونظيره قوله تعالي: {الزإني لا ينكح إلا زإنية} الكشاف: عن عمرو بن عبيد: لا ينكح بالجزم علي النهي، والمرفوع أيضًا فيه معنى النهي، ولكن أبلغ وأوكد، كما أن رحمك الله ويرحمك أبلغ من ليرحمك الله. أقول: وإنما كان أبلغ؛ لأنه قدر أن المنهي حين ورد النهي عليه انتهي عن المنهي عنه، وهو يخبر عن انتهائه، ولو ترك علي النفي والإخبار المحض لكان أبلغ، كأنه يقول: لا ينبغي للمؤمن المتزود للآخرة، والساعي في ازدياد ما يثاب عليه من العمل الصالح أن يتمنى ما يمنعه عن البر والسلوك لطريق الله، وعليه ما ورد: ((خياركم من طال عمره، وحسن عمله))؛ لأن من شأنه الازدياء، والترقي من حال إلي حال، ومن مقام إلي مقام، حتى ينتهي إلي مقام القرب، كيف يطلب القطع عن مطلوبه؟ ((تو)): والنهي عن تمني الموت وإن أطلق، لكن المراد منه المقيد، لما في حديث أنس رضي الله عنه ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا

1599 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه؛ إنه إذا مات انقطع أمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) رواه مسلم. 1600 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) متفق عليه. 1601 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء ـــــــــــــــــــــــــــــ لي))، فعلي هذا يكره تمني الموت من ضر أصابه في نفسه أو ماله؛ لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر يضره في دنياه وينفعه في آخرته. ولا يكره التمني لخوف في دينه من فساد. قوله: ((إما محسنًا)) قال المالكي: تقديره: إما أن يكون محسنًا، وإما مسيئًا، فحذف (يكون) مع اسمها مرتين، وأبقى الخبر، وأكثر ما يكون ذلك بعد ((إن)) و ((لو)) كقول الشاعر: انطق بحق وإن مستخرجًا إحنا فإذا ذا الحق غلاب وإن غلبا وكقوله: علمتك منانًا فلست بآمل نداك ولو ظمآن غرثان عاريا و ((لعل)) في هذين الموضعين للرجاء المجرد عن التعليل، وأكثر مجيئها في الرجاء إذا كان معه تعليل، نحو قوله تعالي: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}. ((قض)): معنى قوله: ((ولعله أن يستعتب)) يطلب العتبي، وهو الإرضاء، وكذا الإعتاب، والمراد منه أن يطلب رضي الله تعالي بالتوبة، ورد المظالم، وتدارك الفائت. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((انقطع أمله)) بالهمز في الحميدي وجامع الأصول، وفي شرح السنة بالعين، ولعل من لم يمعن النظر يرجح العين علي الهمزة، ويزعم أن الأمل مذموم كله، لكن بعض الأمل مطلوب. قال: وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزرى بالأمل والمعنى: لا تحدث نفسك بأنك لا تظفر بمرامك، ولم تفز بمطلوبك، فإن ذلك يثبطك عن كثير من الكمالات ومعالي الأمور، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)).

الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)). فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت. قال: ((ليس ذلك؛ ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه. وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)). متفق عليه. 1602 - وفي رواية عائشة: ((والموت قبل لقاء الله)). 1603 - وعن أبي قتادة، أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: ((مستريح، أو مستراح منه)). فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح، والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلي رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن عبادة: قوله: ((من أحب لقاء الله)) ((نه)): المراد باللقاء المصير إلي الدار الآخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت؛ لأن كلا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها، أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها، كره لقاء الله؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقوله: ((والموت دون لقاء الله)) تبين أن الموت غير اللقاء، ولكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقه حتى يصل إلي الفوز باللقاء. يريد أن قول عائشة رضي الله عنها: ((إنا لنكره الموت)) يوهم أن المراد من لقاء الله في قوله: ((من كره لقاء الله)) الموت، وليس بذلك؛ لأن لقاء الله غير الموت، بدليل قوله: ((والموت قبل لقاء الله)) فلما كان الموت وسيلة إلي لقاء الله، عبر عنه بلقاء الله. وعن بعضهم: قوله: ((الموت قبل لقاء الله)) يدل علي أن الله تعالي لا يرى في الدنيا في اليقظة، لا عند الموت ولا قبل الموت. وروى الإمام في تفسيره: أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت – وقد جاء يقبض روحه -: ((هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت، أما الآن فاقبض)). قد ذهب الشيخ الأشرف إلي أن صاحب النهاية مال إلي مذهب الاعتزال في تفسيره السابق، وليس في كلامه السابق ما يوهم نفي الرؤية فضلاً عن الإنكار، بل قوله: ((طلب ما عند الله)) شامل لكل ما يحصل للمكلف من المراتب العلية، والمباغي السنية. ولا مبتغي ولا مطلوب أعلي وأسنى من رؤية الله تعالي. رزقنا الله بفضله وكرمه. الحديث الخامس عن أبي قتادة: قوله: ((مستريح)) ((نه)): يقال: أراح الرجل واستراح، إذا

1604 - وعن عبد الله بن عمر، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ رجعت نفسه إليه بعد الإعياء. أقول: ((أو)) في قوله: ((أو مستراح)) تنويعية، أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين، فلا يختص بصاحب الجنازة. و ((إلي)) في ((إلي رحمة)) حال، أي ذاهبًا إلي رحمة الله تعالي. ((حس)): قال مسروق: ما غبطت شيئًا بشيء كمؤمن في لحد، أمن من عذاب الله، واستراح من الدنيا. قال أبو الدرداء: أحب الموت اشتياقًا إلي ربي، وأحب المرض تكفيرًا لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعًا لربي. وأما استراحة البلاد، والأشجار؛ فإن الله تعالي بقدره يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويحيى به الأرض والشجر والدواب، بعد ما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار. وفي الحديث ((إن الحبارى لتموت هزلاً بذنب ابن آدم)) وخص الحبارى؛ لأنه أبعد الطير نجعة، فربما يذبح بالبصرة، ويوجد في حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((أو عابر سبيل)) ((أو)) فيه يجوز أن يكون للتخيير والإباحة، والأحسن أن يكون بمعنى ((بل)) كما في قول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح قال الجوهري: يريد بل أنت، شبه الناسك السالك أولاً بالغريب الذي ليس له مسكن يؤويه، ولا سكن يسليه، ثم ترقى وأضرب عنه بقوله: ((أو عابر سبيل))؛ لأن الغريب قد يسكن في بلاد الغربة، ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل القاصد للبلد الشاسع، وبينه وبينها أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وهو بمرصد من قطاع طريقه، فهل له أن يقيم لحظة، أو يسكن لمحة؟ لا؛ ومن ثم عقبه ابن عمر في باب الأمل بقوله: ((وعد نفسك في أهل القبور))، وقال هنا: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)) أي سر دائمًا، ولا تفتر عن السير ساعة، فإنك إن قصرت في السير انقطعت عن المقصود، وهلكت في تلك الأودية. هذا معنى المشبه به، والمشبه هو قوله: ((وخذ من صحتك لمرضك)) يعني عمرك لا يخلو من الصحة والمرض فإذا كنت صحيحًا سر سيرك القصد بل لا تقنع به وزد عليه ما عسى أن يحصل لك الفتور بسبب المرض. وفي قوله: ((ومن حياتك لموتك)) إشارة إلي أخذ نصيب الموت، وما يحصل فيه من الفتور من السقم، يعني لا تقعد في المرض من السير كل القعود، بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه، حتى تنتهي إلي لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح، وإلا خبت وخسرت. انظر أيها المتأمل في كل هذا الكلام الجامع، وانتهز الفرصة كيلا تندم. ونعم ما قال من قال:

1605 - وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) رواه مسلم. الفصل الثاني 1606 - عن معاذ بن جبل [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة؟ وما أول ما يقولون له؟)). قلنا: نعم يا رسول الله! قال: ((إن الله يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك. فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي)). رواه في ((شرح السنة))، وأبو نعيم في ((الحلية)). [1606] ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون إذا ظفرت يداك فلا تقصر فإن الدهر عادته يخون قال الله تعالي: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا}. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((لا يموتن أحدكم)) نهي عن أن يموتوا علي غير حالة حسن الظن، وذلك ليس بمقدورهم، بل المراد الأمر بتحسين الأعمال، أي أحسنوا أعمالكم الآن حتى يحسن بالله ظنكم عند الموت، فإن من ساء عمله قبل الموت، يسوء ظنه عند الموت. ((شف)): قيل: الخوف والرجاء كالجناحين للسائرين إلي الله تعالي ولا يمكن السير بأحد الجناحين بل بهما، لكن يغلب أحدهما الآخر، فينبغي أن يغلب الخوف علي الرجاء في الصحة؛ ليتدرج به فيها إلي تكثير الأعمال الصالحة. فإذا جاء الموت وانقطع العمل، فينبغي أن يغلب الرجاء، وحسن الظن بالله؛ لأن الوفاة حينئذ إلي ملك كريم، ورب رؤوف رحيم. هذا معنى جواب المؤمنين في الحديث الآتي ((رجونا عفوك ومغفرتك)) عن قوله تعالي: ((هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: ((لم)). الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة: قوله: ((هاذم اللذات الموت)) ((مظ)): ((الموت)) بالجر

1607 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت)) راه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [1607] 1608 - وعن ابن مسعود، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء)). قالوا: إنا نستحيي من الله يا نبي الله! والحمد لله قال: ((ليس ذلك؛ ولكن م استحيى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلي، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [1608] ـــــــــــــــــــــــــــــ عطف بيان، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب علي تقدير أعني. أقول: شبه اللذات الفإنية والشهوات العاجلة ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة، ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهاذم لئلا يستمر علي الركون إليها، ويشتغل عما يجب عليه من التزد إلي دار القرار. وأنشد زين العابدين رضي الله عنه: فيا عامر الدنيا، ويا ساعياً لها ويا آمناً من أن تدور الدوائر علي خطر تمشي، وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر تخرب ما يبقى وتعمر فإنياً فلا ذاك موفور، ولا ذاك عامر الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((ذات يوم)) ((تو)): هو من ظروف الزمان التي لا تتمكن، تقول: لقيته ذات يوم، وذات ليلة، وذات غداة، وذات عشاء، وذات مرة، وحمل التإنيث فيها علي الحالة، أو علي لقيته لقية ذات يوم. والحياء حالة تعترض الإنسان من خوف ما يعاب ويذم، فيحمله علي أن يتركه ويعرض عنه. قوله: ((ليس ذلك)) ((قض)): أي ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه، بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه، وقوله عما لا يرضاه، فليحفظ رأسه وما وعاه من الحواس الظاهرة والباطنة، من السمع والبصر واللسان، حتى لا يستعملها إلا فيما يحل، ((والبطن وما حوى)) أي لا يجمع فيه إلا الحلال، ولا يأكل إلا الطيب. وقيل: أراد بالجوف البطن والفرج. كما جاء في حديث آخر ((أكثر ما تدخل أمتي النار الأجوفان))، وقيل: أراد به القلب وما وعى من معرفة الله تعالي والعلم بالحلال والحرام.

ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذلك)) رد لحملهم الحياء علي ما تعورف مطلقاً لما ضم إليه من التقييد بقوله: ((حق الحياء)) ولذلك أعادها مقيدة في الجواب، يعني حق الحياء أن يترك شيئاً منها وما يتصل بها وما يتفرع عليها إلا أن يتحرى ويقام به، كما قال تعالي: {اتقوا الله حق تقاته} ((الكشاف)) أي واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالواجب، واجتناب المحارم، ونحو ((فاتقوا الله ما استطعتم)) يريد بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاَ، ولهذا السر فسره صلوات الله عليه بكلام جامع حاو لمعان لا تكاد تدخل تحت الإحصاء، فينبغي للشارح المتقن أن يراعي هذا فيما فسره صلوات الله عليه، فنقول- وبالله التوفيق-: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل الرأس وعاء وظرفاً لكل ما لا ينبغي من رذائل الأخلاق، كالفم والعين، والأذن وما يتصل بها، وأمر أن يصونها، كأنه قيل: كف عنك لسانك، فلا تنطق به إلا خيراً، ولعمري إنه شطر الإنسان، قال: لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم ولهذا ورد ((من صمت نجا)). وإنما لم يصرح بذكر اللسان، ليشمل ما يتعلق بالفم من أكل الحرام والشبهات، وكأنه قيل: وسد سمعك أيضاً عن الإصغاء إلي ما لا يعنيك من الأباطيل والشواغل، واغضض عينك عن المحرمات والمشتهيات، ولا تمدن عينيك إلي ما متعنا به الكفار من زهرة الحياة الدنيا، فكيف لا، وهو رائد القلب الذي هو سلطان الجسد، ومضغة ((إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله)). وهنا نكتة، وهي عطف ((ما وعى)) علي الرأس، فحفظ الرأس مجملاً عبارة عن التنزه عن الشرك، فلا يضع رأسه لغير الله ساجداً متواضعاً، وعن الاستكبار، فلا يرفعه متكبراً علي عباد الله وجعل البطن قطباً يدور علي سرته الأعضاء من القلب، والفرج، واليدين، والرجلين؛ ولهذا ورد (من وكل إلي ما بين فكيه ورجليه وكلت له الجنة)). وفي عطف ((وما حوى)) علي البطن إشارة إلي حفظه من الحرام والاحتراز من أن يملأ من المباح، وفذلكة ذلك كله، قوله: ((ويذكر الموت والبلي))، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات))؛ لأن من ذكر أن عظامه ستصير بالية، وأعضاؤه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمه ما يجب عليه من طلب الآجلة. وهذا معنى قوله: ((ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا))، فيكون كالتذييل للكلام السابق.

1609 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحفة المؤمن الموت)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1609] 1601 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)). رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه [1610] ـــــــــــــــــــــــــــــ وذلك أن من أحسن الأدب بين يدي مولاه وتحرى رضاه أحب قربه وكره بعده، ومن أساء يكره قربه ويحب بعده، والبعد من الله تعالي هو الركون إلي الدنيا وزخارفها، والقرب إلي الله تعالي هو طلب الآخرة بالاجتهاد في طاعته. قوله: ((فمن فعل ذلك)) المشار إليه جميع ما سبق، فمن أهمل من ذلك شيئاً لم يخرج من عهدة الاستحياء، وظهر من هذا أن جملة الإنسان وخلقته من رأسه إلي قدمه، ظاهره وباطنه معدن العيب، ومكان المخازي، وأن الله سبحانه وتعالي هو العالم بها والواقف علي ما ينشأ منها من المقابح؛ فحق الحياء أن يستحيي منه ويصونها عما يعاب فيها. وربما وقفت علي هذا المعنى في أول الكتاب عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء شعبة من الإيمان)) فلا تنكر التكرار، فإنه مقبول إذا ورد فيما يهتم بشأنه؛ إيقاظاً، وتنبيهاً علي تنبيه. والله أعلم. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((تحفة المؤمن الموت)) اعلم أن الموت ذريعة إلي وصول السعادة الكبرى، ووسيلة إلي نيل الدرجة العليا، وهو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلي النعيم الأبدي، وهو انتقال من دار إلي دار، فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلال، ولكن في الحقيقة ولادة ثإنية، وهو باب من أبواب الجنة، منه يتوصل إليها، ولو لم يكن الموت لم تكن الجنة. ((تو)): التحفة طرفة الفاكهة، وقد تفتح الحاء والجمع: التحف، ثم يستعمل في غير الفاكهة ن الألطاف, قال الأزهري: أصلها وحفة، فأبدلت الواو تاء، يريد به ما له عند الله تعالي من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت. الحديث الخامس عن بريدة: قوله: ((بعرق الجبين)) ((تو)): فيه وجهان: أحدهما هو ما يكابده من شدة السياق التي يعرق دونها الجبين. وفي الحديث ابن مسعود رضي الله عنه ((موت المؤمن بعرق الجبين، يبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت)) أي يشدد عليه ليمحص عنه ذنوبه. قال الهروي: يجازف: أي يقايس، فيكون كفارة لذنوبه، والمجازفة المقايسة بالمخراف، وهو الميل الذي تسير به الجراحات. وثإنيهما أنه كناية عن كد المؤمن في طلب الحلال، وتضييقه علي النفس بالصوم والصلاة، حتى يلقى الله. والأول أظهر.

1611 - وعن عبيد الله بن خالد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت الفجاءة أخذة الأسف)). رواه أبو داود، وزاد البيهقي في ((شعب الإيمان)). ورزين في كتابه: ((أخذة الأسف للكافر ورحمة للمؤمن)) [1611] 1612 - وعن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي شاب وهو في الموت، فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله يا رسول الله! وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن؛ إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب [1612] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عبيد الله: قوله: ((موت الفجاءة)) الفجاءة بالمد والقصر مصدر، فجئه الأمر إذا جاء بغتة، وقد جاء منه فعل بالفتح. قوله: ((أخذة الأسف)) ((فا)): أي أخذة سخط من قوله تعالي: ((فلما آسفونا انتقمنا))؛ لأن العصيان لا يخلو من حزن ولهف. فقيل له أسف حتى كثر، ثم استعمل في موضع لا مجال للحزن فيه، وهذه الإضافة بمعنى ((من)) كخاتم فضة. قالوا: روي ((الأسف)) في الحديث بكسر السين وفتحها، الكسر العصيان، والفتح الغضب، أي موت الفجأة من آثار غضب الله تعالي، فإنه أخذه بغتة، ولم يتركه لأن يستعد لمعادة بالتوبة. أخذه من مضى من العصاة المردة، كما قال تعالي: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} وهو مخصوص بالكفار بدليل قوله: ((أخذة أسف للكافر، ورحمة للمؤمنين)). الحديث السابع عن أنس: قوله: ((كيف تجدك)) تجد من أفعال القلوب، ولذلك اتحد فيه الفاعل والمفعول، و ((كيف)) سؤال عن الحال، أي علي أي حال تجد نفسك، ولذلك أجاب بقوله: أرجو الله، أي أجد نفسي راجياً رحمة الله خائفاً عقابه، فأبرز الجملة الأولي في معرف الفعلية، والثانية بالاسمية، وصدرها بـ ((إن)) التحقيقية تنبيهاً علي أن خوفه كان محققاً مستمراً، ورجاؤه حدث عند سياق الموت. وأيضاً راعى في نسبة الرجاء إلي الله، والخوف إلي الذنب أدباً حسناً؛ وكذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله، ويرجح جانب الرجاء علي الخوف، كما سبق. وقوله: ((يا رسول الله)) اعترض في غاية من الحسن كأنه يحقق رجاءه وزوال خوفه مستشفعاً بمكانة من اسمه رسول الله. وقوله: ((لا يجتمعان)) خبر مبتدأ محذوف، أي هاتان الخصلتان لا تجتمعان. ((فا)): مثل)) زائدة، والمراد بـ ((المواطن)) سياق الموت. والموطن: يحتمل أن يكون اسم مكان، أي في مثل هذا المكان، واسم زمان كمقتل حسين رضي الله عنه.

الفصل الثالث 1613 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة)) رواه أحمد. [1613] 1614 - وعن أبي أمامة، قال: جلسنا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني مت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((يا سعد! أعندي تتمنى الموت؟!)) فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: ((يا سعد! إن كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن من عملك؛ فهو خير لك)) رواه أحمد. [1614] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر: قوله: ((هول المطلع)) ((نه)): المطلع مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من موضع كذا، أي مأتاه ومصعده، يريد به ما يشرف عليه من سكرات الموت وشدائده، فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال. أقول: علل النهي عن تمني الموت أولاً بشدة المطلع؛ لأنه إنما يتمناه من قلة صبر وضجر، فإذا جاء متمناه يزداد ضجراً علي ضجر، فيستحق مزيد سخط علي سخط، وثإنياً بحصول السعادة في طول العمر؛ لأن الإنسان إنما خلق لاكتساب السعادة الأبدية، ورأس ماله العمر، هل رأيت تاجراً يضيع رأس ماله؟ فإذا بماذا يربح إذا ضيعه؟ {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: (ورققنا)) أي رقق أفئدتنا بالتذكير والموعظة وهذا حد الوعظ؛ لأنه هو الكلام الذي يلين القلوب القاسية، ويرغب الأفئدة النافرة، ترهيباً من عقاب الله، وترغيباً في رحمته. فإن قلت: كيف جيء بـ ((إن)) المشكوك وقوع شرطها، وسعد من العشرة المبشرة بالجنة قطعاً؟ قلت: ((إن)) فيه كما في قوله تعالي: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} فهي وإن كانت صورتها صورة الشرطية، لكن معناها التعليل، تعني كيف تتمنى الموت عندي وأنا بشرتك بالجنة، أي لا تتمن؛ لأنك من أهل الجنة، وكلما

1615 - وعن حارثة بن مضرب، قال: دخلت علي خباب وقد اكتوى سبعاً، فقال: لولا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يتمنين أحدكم الموت)) لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهماً، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ طال عمرك زادت درجتك وقربك إلي الله تعالي. ((فما)) في قوله: ((فما طال عمرك)) مصدرية، والوقت مقدر. ويجوز أن تكون موصولة، والمضاف محذوف، أي الزمان الذي طال عمرك فيه، والفاء في ((فهو خير لك)) داخلة علي الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والجملة جزاء كقوله: ((إن كنت خلقت))، و ((من)) في قوله: ((من عملك)) زائدة علي مذهب الأخفش، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي حسن بعض عملك؛ لأنه طلب الموت، فقيل له: الشهادة خير لك مما طلبت، وهي إنما تحصل بالجهاد. ويعضده ما ورد في المتفق عليه عن سعد أنه قال: ((أخف بعد أصحابي؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة. ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون)). الحديث الثالث عن حارثه: قوله: ((اكتوى)) ((نه)): الكي بالنار من العلاج المعروف في كثير من الأمراض، وقد جاء في أحاديث كثيرة النهي عن الكي. فقيل: النهي إنما كان لتعظيمهم أمره، ويرون أنه لا يحصل الشفاء إلا به. وأما إذا اعتقد أنه سبب للشفاء، وأن الله هو الشافي، فلا بأس به. ويجوز أن يكون النهي عنه من قبيل التوكل، كقوله: ((هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون، وعلي ربهم يتوكلون)). والتوكل درجة أخرى غير الجواز. كقوله: ((ولقد رأيتني)) الواو قسمية، واللام جواب القسم، كأنه بين ما به اضطر إلي تمني الموت من ضر أصابه، إما مرض اكتوى بسببه، أو غنى خاف منه، والظاهر الثاني حيث عقب التمني بالجملة القسمية، وبين فيه تغير حالته: حالة صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالته يومئذ، ثم قاس حاله في جودة الكفن علي حال عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه مع تكفينه. قوله: ((وإن في جانب بيتي)) ((إن)) مشددة، واللام دخلت في اسم ((إن)) كما في قوله تعالي: ((إن في خلق السموات والأرض – إلي قوله – لآيات لأولي الألباب}. فإن قلت: ((لكن)) تستدعي المخالفة بالنفي والإثبات بين الكلامين لفظاً أو معنى، فأين المخالفة هاهنا؟ قلت: المعنى إني تركت متابعة أولئك السادة الكرام، وما اقتفيت أثرهم حيث هيأت لكفني مثل هذا الثوب النفيس، لكن حمزة سار بسيرهم، فما وجد ما يواريه حيث جعل علي قدميه الإذخر.

(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

قال: ثم أتي بكفنه، فلما رآه بكى، وقال لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت علي رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت علي قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت علي رأسه، وجعل علي قدميه الإذخر. رواه أحمد؛ والترمذي؛ إلا أنه لم يذكر: ثم أتي بكفنه إلي آخره. (3) باب ما يقال عند من حضره الموت الفصل الأول 1616 - عن أبي سعيد وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) رواه مسلم. 1617 - وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون علي ما تقولون)) رواه مسلم. 1618 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: {إن لله وإنا إليه راجعون}، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا أخلف الله له خيراً منها)). فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ملحاء)) ((نه)) أي بردة فيها خطوط سود وبيض. و ((قلصت)) أي اجتمعت وانضمت، وأكثر ما يقال فيما يكون إلي فوق. و ((الإذخر)) - بكسر الهمزة- حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب، وهمزتها زائدة. باب ما يقال عند من حضره الموت الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((لقنوا موتاكم)) أي من قرب منكم من الموت سماه باعتبار ما يؤول إليه مجازاً، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا علي موتاكم يس)) وسيجيء ذكر فائدة التخصيص بكلمة التوحيد وسورة يس بعيد هذا. الحديث الثاني، والثالث عن أم سلمة: قوله: ((ما أمره الله به إنه لله)) الآية، فإن قلت: أين

1619 - وعنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) فضج ناس من أهله، فقال: ((لا تدعوا علي أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون علي ما تقولون))، ثم قال: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر في التنزيل؟ قلت: لما أمره بالبشارة، وأطلقها ليعم كل مبشر به، وأخرجه مخرج الخطاب العام، لئلا يختص بالبشارة أحد دون أحد، نبه علي تفخيم الأمر وتعظيم شأن هذا القول، فنبه بذلك علي كون القول مطلوباً ومهتماً بالشأن، وليس الأمر إلا طلب الفعل؛ وذلك أن قوله: ((إنا لله)) تسليم وإقرار أنه وما يملكه وما ينسب إليه عارية مستردة، ومنه بدأ وإليه الرجوع والمنتهي، فإذا وطن نفسه به، وتصبر علي ما أصابه، سهل عليه الأمر، وعرف فضيلة مطلوبه، ولم يرد بقوله: {قالوا إنا لله} اللفظ فقط؛ فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبيح وسخط للقضاء. قوله: ((آجرني في مصيبتي)) ((نه)): آجره يؤجره: إذا أثابه وأعطاه الأجرة والجزاء، وكذلك أجره يأجره، والأمر منها: أجرني وآجرني. وقوله: ((خيراً منها)) أي بما فات عني في هذه المصيبة، وهو الأمر المكروه ينزل بالإنسان. قوله: ((أي المسلمين)) تعجبت من تنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا أخلف الله له خيراً منها علي مصيبتها؛ استعظاماً لأبي سلمة. الحديث الرابع عن أم سلمة: قوله: ((وقد شق بصره)) ((نه)): شق بصر الميت- بفتح الشين ورفع الراء- إذا نظر إلي شيء لا يرتد إليه طرفه. وضم الشين منه غير مختار. وقوله: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) يحتمل أن يكون علة للإغماض، كأنه قال: أغمضته؛ لأن الروح إذا فارق في الذهاب، فلم يبق لانفتاح بصره فائدة، وأن يكون علة للشق، والمعنى: أن المحتضر يتمثل له الملك المتوفي لروحه فينظر إليه شزراً، ولا يرتد طرفه حتى يفارقه الروح، وتضمحل بقايا قوى البصر، ويبقى البصر علي تلك الهيئة. ويعضده ما روى أبو هريرة عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره؟)) قالوا: بلي، قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه)) أخرجه مسلم. وغير مستنكر من قدرة الله سبحانه وتعالي أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حين يبصر ما لم يكن يبصر.

1620 - وعن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة. متفق عليه. الفصل الثاني 1621 - عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة)) رواه أبو داود. [1621] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا تدعوا علي أنفسكم)) ((مظ)): أي لا تقولوا شراً، نحو ((يا ويلي)) أي الويل لي، وما أشبه ذلك. أقول: ويمكن أن يقال: إنهم إذا تكلموا في حق الميت بما لا يرضاه الله حتى يرجع تبعته إليهم، فكأنهم دعوا علي أنفسهم بشر، أو يكون المعنى كما في قوله تعالي: {ولا تقتلوا أنفسكم} يعني: بعضكم بعضاً. قوله: ((في المهديين)) ((مظ)): أي اجعله في زمرة الذين هديتهم إلي الإسلام، ورفعت درجتهم. وقوله: ((واخلفه)) من خلف يخلف: إذا قام أحد مقام آخر بعده في رعاية أمره، وحفظ مصالحه. ((وفي عقبه)) في أولاده، ((في الغابرين)) في الباقين من الأحياء يعني كن خليفة له في أولاده الباقين، فاحفظ أمورهم ومصالحهم، ولا تكلهم إلي غيرك. ((شف)): قوله: ((في الغابرين)) بدل من قوله: ((في عقبه)) أي كن خليفة له في الباقين من عقبه. أقول: ويمكن أن يكون ((في عقبه)) متعلقاً بالفعل، و ((في الغابرين)) حالا من ((عقبه)) المعنى أوقع خلافتك في عقبه كائنين في جملة الباقين من الناس، بأن يستميل قلوب الناس إليهم حتى يكونوا مقبولين بينهم يراعون أحوالهم، ينفعون ولا يضرون. الحديث الخامس عن عائشة: قوله: ((سجى)) أي غطى وستر. وقوله: ((برد حبرة)) الجوهري: الحبرة مثال العنبة، برد يمان، والجمع حبر وحبرات. وفي ((الغريبين)): الحبر من البرود ما كان موشياً مخططاً، فهو من إضافة العام إلي الخاص. الفصل الثاني الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((من كان آخر كلامه)). فإن قلت: كثير من المخالفين كاليهود يتكلمون بكلمة التوحيد، فلابد من ذكر قرينتها من قوله: محمد رسول الله. قلت: قرينتها صدورها عن صدر الرسالة، كقوله تعالي: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله} الكشاف: إن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم واشتهر أن الإيمان

1622 - وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا سورة يس علي موتاكم)) رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه [1622]. 1623 - وعن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي حتى سال دموع النبي صلى الله عليه وسلم علي وجه عثمان. رواه الترمذي وأبو داود، وابن ماجه [1623]. 1624 - وعنها قالت: إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت. رواه الترمذي، وابن ماجه [1624]. 1625 - وعن حصين بن وحوح، أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ بالله قرينته الإيمان بالرسول؛ لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني عن معقل: قوله: ((اقرأوا علي أمواتكم يس)) ((تو)): يحتمل أن يكون المراد بالميت الذي حضره الموت، فكأنه صار في حكم الأموات، وأن يراد من قضى نحبه وهو في بيته، أو دون مدفنه. قال الإمام في التفسير الكبير: الأمر بقراءة يس علي من شارف الموت مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس)) إيذان بأن اللسان حينئذ ضعيف القوة، والأعضاء ساقطة المنة، لكن القلب قد أقبل علي الله بكليته، فيقرأ عليه ما يزاد به قوة قلبه، ويستمد تصديقه بالأصول، فهو إذن عمله ومهمه. أقول- والعلم عند الله-: هذه السورة الكريمة إلي خاتمتها مشحونة بتقرير أمهات علم الأصول، وجميع المسائل المعتبرة التي أوردها العلماء في مصنفاتهم من النبوة، وكيفية الدعوة، وأحوال الأمم، وبيان خاتمتهم، وإثبات القدر، وأن أفعال العباد مستندة إلي الله تعالي، وإثبات التوحيد، ونفي الضد والند، وأمارات الساعة، وبيان الإعادة، والحشر، والحضور في العرصات، والحساب، والجزاء، والمرجع والمآل بعد الحساب، وبيان حصول ما يلذ به السمع، وتقر به الأعين، كما أوردناها مفصلة في فتوح الغيب، من أراد الوقوف عليها فليطلعها. فحق لذلك أن تقرأ عليه، ويذكر بها، وينبه علي أمهات أصول الدين.

يعوده، فقال: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرإني أهله)). رواه أبو داود [1625] الفصل الثالث 1626 - وعن عبد الله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين)) قالوا: يا رسول الله! كيف للأحياء؟ قال: ((أجود وأجود)) رواه ابن ماجه [1626] 1627 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن حصين: قوله: ((لجيفة مسلم)) وصف مناسب للحكم بعدم الحبس، وذلك أن المؤمن عزيز مكرم، فإذا استحال جيفة ونتناً، استقذره النفوس وتنبو عنه الطباع فيهان، فينبغي أن يسرع فيما يواريه، فيستمر علي عزته، فذكر الجيفة ها هنا كذكر السوأة في قوله تعالي: {ليريه كيف يواري سوأة أخيه} السوأة: الفضيحة لقبحها. قوله: ((بين ظهرإني أهله)) أي بين أهله. و ((الظهر)) مقحم، وقد مر تحقيقه. والعرب تضع الاثنين مقام الجمع. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((كيف للأحياء)) أي كيف ذلك التلقين للأحياء، أيحسن أم لا؟ فأجاب؟: أجود وأجود، والتكرير للاستمرار، أي جودة مضمومة إلي جودة، وهذا معنى الواو فيه. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((كانت في الجسد الطيب)) والظاهر ((كنت)) ليطابق النداء و ((اخرجي))، لكن اعتبر اللام الموصولة، أي النفس التي طابت كائنة في السجد الطيب. ويحتمل أن تكون صفة أخرى للنفس؛ لأن المراد منها ليس نفساً معينة، بل الجنس مطلقاً، كقوله: ولقد أمر علي اللئيم يسبني. قوله: ((بروح وريحان)) نظيره في اللفظ والسياق قوله تعالي: {فروح وريحان وجنة نعيم} بروح: أي باستراحة، والريحان: الرزق. ولو روي بالضم كان بمعنى الرحمة؛ لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء. أي هذان له معاً، وهو الخلود مع الرزق.

ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلي السماء فيفتح ليها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضاب، فلا تزال يقال لها ذلك، حتى تنتهي إلي السماء التي فيها الله، فإذا كان الرجل السواء، قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فما تزال يقال لها ذلك، حتى تخرج، ثم يعرج بها إلي السماء، فيفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء ثم تصير إلي القبر)). رواه ابن ماجه [1627] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ورب غير غضبان)) تقرير للأول علي الطرد والعكس، كقوله تعالي: {أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} ونحوه في المعنى قوله تعالي: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية}. قوله: ((إلي السماء التي فيها الله)) يعني الجنة، ونحوه قوله تعالي: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله} فيطابق الحديث الآيتين، وهما {وادخلي جنتي} {وجنة نعيم}. قوله: ((وأبشري)) بجهنم وضع موضع أنذري، إما علي سبيل الاستعارة التهكمية كقوله تعالي: {فبشرهم بعذاب أليم} أو علي المشاكلة والازدواج. ((وحميم وغساق)) مقابل لـ ((روح وريحان)) الغساق- بالتخفيف والتشديد- ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين، إذا سال دمعها. قيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب. وعن الحسن: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله. وقوله تعالي: {وآخر من شكله أزواج} أي وآخر مذوقاته من مثل الغساق في الشدة والفظاعة و {أزواج}، أي أجناس، {وآخر} في محل الجر عطف علي {حميم} و {أزواج} صفة لـ {آخر} وإن كان مفرداً؛ لأنه في تأويل الضروب والأصناف، كقول الشاعر: معاً جياعاً.

1628 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)). قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك، قال: ((ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من أرض طيبة، صلي الله عليك وعلي جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلي ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلي آخر الأجل)). قال: ((وإن الكافر إذا خرجت روحه)) قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعا ((ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلي آخر الأجل)) قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه علي أنفه هكذا. رواه مسلم. 1629 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضر المؤمن أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك إلي روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث: عن أبي هريرة: قوله: ((قال حماد)) هو حماد بن زيد، أحد رواة هذا الحديث. وقوله: ((فذكر من طيب ريحها)) ويحتمل أن يكون فاعل ((فذكر)) رسول الله أو الصحابي، يريد أنه صلى الله عليه وسلم وصف طيب ريحها، وذكر المسك، لكن لم يعلم أن ذلك كان علي طريقة التشبيه، أو الاستعارة، أو غير ذلك. قوله: ((صلي الله عليك)) التفت فيها من الغيبة في قوله: ((جاءت)) إلي الخطاب. وفائدته مزيد اختصاص بالصلاة عليها. وقوله: ((تعمرينه)) استعارة شبه تدبيرها الجسد بالعمل الصالح عمارة من يتولي المدينة ويعمرها بالعدل والصلاح. قوله: ((إلي آخر)) يعلم من هذا أن لكل أحد أجلين، أولاً وآخراً، ويشهد له قوله تعالي: {ثم قضي أجلاً وأجل مسمى عنده} أي أجل الموت، وأجل القيامة. قوله: ((فيقال: انطلقوا)) ذكر هنا ((فيقال)) وثمة ((ثم يقول)) مراعاة لحسن الأدب حيث نسب الرحمة إلي الله تعالي، والغضب لم ينسب إليه، كما في قوله تعالي: {أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم}. قوله: ((ريطة)) ((نه)): الريطة كل ملاءة ليست لفقين، وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط ورياط، رد صلوات الله عليه الريطة علي الأنف، لما كوشف له وشم من نتن ريح روح الكافر، كما أنه صلى الله عليه وسلم غطى رأسه حين مر بالحجر لما شاهد من عذاب أهلها. الحديث الرابع عن أبي هريرة: قوله: ((فتخرج كأطيب ريح المسك)) الكاف صفة مصدر محذوف، أي تخرج خروجاً مثل ريح مسك تفتق فارتها، وهو قد فاق علي سائر أرواح المسك.

يأتوا به أبواب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبة يقدم عليه فيسألونه: ماذا فعل فلان، ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا. فيقول: قد مات: أما أتاكم؟ فيقولون: قد ذهب به إلي أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلي عذاب الله عز وجل. فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار)) رواه أحمد والنسائي [1629]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فلهم أشد فرحاً)) ((لهم)) مبتدأ و ((أشد)) خبره واللام للابتداء مؤكدة نحوها في قوله تعالي: {لهو خير للصابرين}. ولا يبعد أن تكون جارة، أي لهم فرح أشد فرحاً، فيلزم أن يكون الفرح فرحاً، نحو قوله تعالي: ((أو أشد خشية)) في وجه. والفاء داخلة علي الجملة، كما في قوله: {فروح وريحان}، أي فله روح وريحان، لكنها جزائية، وهذه للتعقيب. وقوله: ((بغبائه)) متعلق بمحذوف، و ((يقدم)) حال من ((غائبه)) أي من فرح أحدكم بغائبه حال قدومه. قوله: ((ماذا فعل فلان)) أي كيف حاله وشأنه، ((والأم)) مصيره، ((فيقولون)) أي يقول بعض أولئك لبعض: دعوا القادم وسؤاله، فإنه حديث عهد بتعب الدنيا. قوله: ((ذهب به)) لابد من تقدير الفاء، كما في قول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها وقوله تعالي: {يدرككم الموت} في وجه، أي إذا كان الأمر كما قلت إنه مات ولم يلحق بنا، فقد ذهب به إلي أمه الهاوية لقوله تعالي: {فأمه هاوية} ((والهاوية)) من أسماء النار، وكأنها النار العميقة يهوي أهل النار فيها مهوى بعيداً. وقيل للمأوى: أم علي التشبيه؛ لأن الأم مأوى الولد ومفزعه، كقوله تعالي: {مأواكم النار} فالهاوية في الآية خبر لـ ((أمه))، وفي الحديث بدل أو عطف بيان له. قوله: ((بمسح)) الجوهري: المسح البلاس، والجمع أمساح ومسوح، وقوله: ((باب الأرض)) أي باب سماء الأرض، يدل عليه الحديث السابق ((ثم يعرج بها إلي السماء)). ويحتمل أن يراد بالباب باب الأرض، فيرده إلي أسفل السافلين حيث أرواح الكفار. والله أعلم.

1360 - وعن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلي القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن علي رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه الملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلي مغفرة من الله ورضوان)) قال: ((فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت علي وجه الأرض)) قال: ((فيصعدون بها، فلا يمرون- يعني بها- علي ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلي السماء الدنيا، فيستفتحون لها، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلي السماء التي تليها، حتى ينتى به إلي السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلي الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى)) قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيلجسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((ولما يلحد)) ((لما)) بمعنى ((لم)) إلا أن فيه ضرباً من التوقع، فدل علي نفي اللحد فيما مضي، وعلي توقعه فيما يستقبل. وقوله: ((كأن علي رءوسنا الطير)) كناية علي إطراقهم رءوسهم، وسكونهم، وعدم التفاتهم يميناً وشمالاً. ((وينكت به)) أي يؤثر بطرف العود الأرض فعل المفكر المهموم. و ((الحنوط)) ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة. وقوله: ((فإذا أخذها لم يدعوها)) إشارة إلي أن ملك الموت إذا قبض روح العبد، يسلمها إلي أعوانه الذين معهم كفن من أكفان الجنة، ولذلك أفرد الضمير ثم جمعه. و ((كأطيب)) صفة موصوف محذوف هو فاعل ((يخرج)) أي يخرج منه رائحة كأطيب نفسحة مسك.

الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فأمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلي الجنة)) قال: ((فيأتيه من روحها وطيبها، فيفسح له في قبره مد بصره)) قال: ((ويأتيه رل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! حتى أرجع إلي أهلي ومالي)). قال: ((وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسموح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلي سخط من الله)) قال: ((فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينزع السفود من الصفوف المبلل، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في ديه طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسموح، وتخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت علي وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها علي ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلي السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له))، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فوجهك)) الوجه)) مثل قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري. والجملة الفعلية بعده استئنافية، لما سره بتلك البشارة، قال له: إني لأعرفك من أنت، حتى أجازيك بالثناء والمدح، فوجهك هو الكامل في الحسن والجمال، ونهاية في الكمال، وحق لمثل هذا الوجه أن يجيء بالخير، ويبشر بمثل هذه البشارة. فعلي هذا ((من أنت)) مضمن معنى المدح مجملاً. والفاء لتعقيب البيان بالمجمل وعلي عكس هذا قول الشقي للملك: ((من أنت فوجهك الوجه)). وقوله: ((أقم الساعة)) لعله عبارة عن طلب إحيائه لكي يرجع إلي الدنيا ويزيد في العمل الصالح والإنفاق في سبيل الله، حتى يزيد ثواباً ويرفع درجاته. قوله: ((فتفرق)) أي فتفرق الروح في جسده كراهة الخروج إلي ما يسخن عينه من العذاب الأليم، كما أن روح المؤمن تخرج وتسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فرحاً إلي ما تقر به عينه من الكرامة والنعيم. شبه نزع روح الكافر من أقصى عرقه بحيث تصحبها العروق، كما قال في الرواية الأخرى: ((وينزع نفسه من العروق كنزع السفود)) وهو الحديدة التي يشوى بها اللحم، فيبقى معها بقية من المحروق فيستصحب عند الجذب شيئاً من ذلك الصوف مع قوة وشدة،

الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابة في سجين، في الأرض السفي، فتطرح روحه طرحاً)) ثم قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلي النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الكريم يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب! لا تقم الساعة)). وفي رواية نحوه وزاد فيه: ((إذا خرج روحه صلي عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم. وتنزع نفسه- يعني الكافر- مع العروق، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، ولك ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا يعرج روحه من قبلهم)). رواه أحمد [1630]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبعكسه شبه خروج روح المؤمن من جسده بترشح الماء وسيلانه من القربة المملوءة ماء مع سهولة ولطف. قوله تعالي: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} ((سم)) الإبرة، مثل في ضيق المسلك، و ((الجمل)) مثل في عظم الجرم. فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع في ثقب الإبرة. قوله: {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} أي عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وهذا استشهاد مجرد لقوله صلى الله عليه وسلم في سجين: ((في الأرض السفلي)) فيطرح

1631 - وعن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم مبشر بنت البراء بن مغرور، فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت فلاناً فاقرأ عليه مني السلام. فقال: غفر الله لك يا أم بشر! نحن أشغل من ذلك. فقالت: يا أبا عبد الرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق بشجر الجنة))؟ قال: بلي. قالت: فهو ذاك. رواه ابن ماجه، والبيهقي في كتاب تعلق بشجر الجنة))؟ قال: بلي. قالت: فهو ذاك. رواه ابن ماجه، والبيهقي في كتاب ((البعث والنشور)) [1631]. 1632 - وعنه، عن أبيه، أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله في جسده يوم يبعثه)). رواه مالك، والنسائي، والبيهقي في كتاب ((البعث والنشور)) [1632]. 1633 - وعن محمد بن المنكدر، قال: دخلت علي جابر بن عبد الله وهو يموت، فقلت: اقرأ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن ماجه [1633]. ـــــــــــــــــــــــــــــ روحه طرحاً، لا أنه بيان لحال الكافر حينئذ؛ لأنه شبه في الآية من أشرك بالله الساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المههاوي المتلفة. والله أعلم. الحديث السادس عن عبد الرحمن: قوله: ((قالت: يا أبا عبد الرحمن! أما سمعت)) إلي آخره، جواب عند اعتذاره بقوله: ((نحن أشغل من ذلك)) أي لست أنت ممن يشتغل عما كلفتك، بل أنت ممن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت. الحديث السابع والثامن عن عبد الرحن: قوله: ((تعلق بشجر الجنة)) الجوهري: علقت الإبل العضاه، تعلق- بالضم- إذا تسنمتها وتناولتها بأفواهها، ومنه الحديث ((أرواح الشهداء في

(4) باب غسل الميت وتكفينه

(4) باب غسل الميت وتكفينه الفصل الأول 1634 - وعن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، ـــــــــــــــــــــــــــــ حواصل الطير خضر تعلق النسمة من ورق الجنة)) انتهي كلامه. ولعل الظاهر أن يقال: تعلق من شجر الجنة، وتعديته بالباء يفيد الاتصال والإلحاق، لعله كنى به عن الأكل؛ لأنها إذا اتصلت بشجرة الجنة وتشبثت بها أكلت من ثمارها. ((مح)): فيه بيان أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة. قال القاضي عياض: وفيه أن الأرواح باقية لا تفنى، فيتنعم المنعم ويعذب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار. قوله: ((إنما نسمة المؤمن)) ((مح)): النسمة تطلق علي ذات الإنسان جسماً وروحاً، وعلي الروح مفردة، وهو المراد بها ها هنا، لقوله: ((حتى يرجعه الله في جسده)). قوله: ((طير)) وفي رواية ((في جوف طير خضر)) وفي أخرى ((كطير خضر)) وفي أخرى ((بحواصل طير)) وفي أخرى ((في صورة طير بيض)). قال القاضي عياض: والأشبه أو أصحه قول من قال: طير. أو صورة طير- وهو الأكثر- لاسيما مع قوله في حديث ابن مسعود: ((ويأوي إلي قناديل تحت العرش)) وليس هذا بمستبعد، إذ ليس للأقيسة والعقول فيه حكم ومجال، فإذا أراد الله أن يجعل من ذلك شيئاً، قال له: كن فيكون. وقيل: إن هذا المنعم والمعذب من الأرواح حزء من الجسد تبقى فيه الروح، فهو الذي يلام ويعذب، ويلتذ وينعم، ويقول: رب ارجعون، ويسرح من شجر الجنة في جوف طير، أو في صورته، وفي قناديل تحت العرش، كل ذلك غير مستحيل من قدرة الله تعالي: وقال: ذكر في قوله: ((نسمة المؤمن)) هي الشهداء؛ لأن هذا صفتهم، لقوله تعالي: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين} وأما غيرهم فإنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي. وقيل: بل المراد جميع المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب، بدليل عموم الحديث. والله أعلم. باب غسل الميت وتكفينه الفصل الأول الحديث الأول عن أم عطية: قوله: ((ابنته)) أي زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((ثلاثاً أو خمساً)) ((قض)): ((أو)) فيه للترتيب دون التخيير؛ إذ لو حصل النقاء بالغسلة الأولي استحب

فقال: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني)). فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال: ((أشعرنها إياه)) وفي رواية: ((اغسلنها وتراً: ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)) وقالت: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها. متفق عليه. 1635 - وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب يمإنية، بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التثليث، وكره التجاوز عنه، وإن حصل بالثانية أو بالثالثة استحب التخميس وإلا فالتسبيع. قوله: ((إن رأيتن ذلك)) - بكسر الكاف- خطاب لأم عطية، و ((رأيت)) بمعنى الرأي، يعني إن احتجن إلي أكثر من ثلاث أو خمس للإنقاء لا للتشهي فافعليه. قوله: ((بماء وسدر)) ((قض)): هذا لا يقتضي استعمال السدر في جميع الغسلات، والمستحب استعماله في الكرة الأولي؛ ليزيل الأقذار، ويمنع منه تسارع الفساد، والكافور لدفع الهوام. قوله: ((فألقى إلينا حقوه)) ((نه)): أي إزاره، والأصل في الحقو معقد الإزار، وجمعه أحق وأحقاء، ثم سمي به الإزار للمجاورة. قوله: ((أشعرنها إياه)) الضمير الأول للغاسلات، والثاني للميت، والثالث للحقو، أي اجعلن هذا الحقو تحت الأكفان بحيث يلاصق بشرتها، والمراد منه إيصال بركته صلى الله عليه وسلم إليها. قوله: ((فضفرناها)) من الضفيرة، وهي النسج، ومنه ضفر الشعر، وإدخال بعضه في بعض. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((سحولية)) ((فا)): يروى بفتح السين وضمها، فالفتح منسوب إلي السحول، وهو القصار؛ لأنه يسحلها، أي يغسلها، أو إلي السحول وهي قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن. وفيها شذوذ، لأنها نسبت إلي الجميع. وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضاً، وكره الشافعي رضي الله عنه القميص، والحديث ينصره. ((مح)): قال مالك، وأبو حنيفة: يتسحب قميص وعمامة، والمعنى: ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة، وإنما زائدتان ((فليس)) بمعنى سوى، وهو ضعيف، إذ لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة، [وفي الحديث دليل علي أن القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه؛ لأنه لو لم ينزع لأفسد الأكفان لرطوبته].

1636 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)). رواه مسلم. 1637 - وعن عبد الله بن عباس، قال: إن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا خمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)). متفق عليه. وسنذكر حديث خباب: قتل مصعب بن عمير في ((باب جامع المناقب)) إن شاء الله تعالي. الفصل الثاني 1638 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، ومن خير أكحالكم الإثمد، فإنه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((فليحسن كفنه)) ((حس)): أي فليختر من الثياب أنظفها وأتمها، علي ما ورد به السنة، ولم يرد ما يفعله المبذرون أشراً ورياء. وروى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً)). ((تو)): وما يؤثره المبذرون من الثياب الرقيقة منهي عنه بأصل الشرع لإضاعة المال. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((فوقصته)) ((نه)): الوقص كسر العنق يقال: وقصت عنقه، أقصها وقصا، ووقصت به راحلته، كقولك: خذ الخطام وخذ بالخطام. ولا يقال: وقصت العنق نفسها، ولكن يقال: وقص الرجل فهو موقوص. قوله: ((ولا تخمروا رأسه)) ((مظ)): مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما أن المحرم يكفن بلباس إحرامه، ولا يستر رأسه، ولا يمس طيباً؛ فإنه يبعث يوم القيامة قائلاً: لبيك اللهم لبيك. ومذهب أبي حنيفة، ومالك رضي الله عنهما أن حكمه كحكم سائر الموتى. قوله: ((حديث خباب)) قيل: مجهول حكاية ما في الحديث بدل من قوله: ((حديث خباب))، أي سنذكر هذا اللفظ وهو قتل مصعب بن عمير في باب جامع المناقب. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((ومن خير أكحالكم)) عطف علي قوله: ((البسوا))، وإنما أبرز الأول في صورة الأمر اهتماماً بشأنه، وأنه من السنة المدوب إليها، وأخبر عن الثاني

ينبت الشعر ويجلو البصر)) رواه أبو داود، والترمذي وروى ابن ماجه إلي ((موتاكم)) [1638]. 1639 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً)) رواه أبو داود [1639]. 1640 - وعن أبي سعيد الخدري، أنه لم حضره الموت دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) رواه أبو داود [1640]. ـــــــــــــــــــــــــــــ للإيذان بأنه من خير دأب الناس وعادتهم، وجمع بينهما لمناسبة الزينة يتزين بهما المتميزون من الصلحاء، ولذلك جاء في حديث جبريل عليه السلام ((شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر)) وعلل الاكتحال بالإثمد بقوله: ((ينبت الشعر)) أي شعر الأهداب؛ لأنه زينة. وأما توسيط ذكر الكفن فكان لاستطراد لذكر الأول دون الثاني. الحديث الثاني عن علي: قوله: ((لا تغالوا في الكفن)) ((نه)): أي لا تغالوا في كثرة ثمنه، وأصل الغلاء الارتفاع، ومجاوزة القدر في كل شيء، يقال: غاليت الشيء وبالشيء، وغلوت فيه، أغلو إذا جاوزت فيه الحد. قوله: ((فإنه يسلب سلباً سريعاً)) علة للنهي، كأنه قيل: لا تشتروا الكفن بثمن غال، فإنه يبلي سريعاً، وهو تبذير، قال تعالي: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} واستعير البلاء الثوب السلب؛ تتميماً لمعنى السرعة. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((بثياب جدد)) ((نه)): قال الخطابي: أما أبو سعيد، فقد استعمل الحديث علي ظاهره، وقد روي في حديث الكفن أحاديث. قال: وقد تأوله بعض العلماء علي المعنى، وأراد به الحالة التي يموت عليها من الخير والشر، وعمله الذي يختم له به، يقال: فلان طاهر الثياب، إذا وصفوه بطهارة النفس، والبراءة من العيب. وجاء في تفسير قوله تعالي: {وثيابك فطهر} أي عملك فأصلح. ويقال: فلان دنس الثياب إذا كان خبيث الفعل والمذهب، وهو كالحديث الآخر ((يبعث العبد علي ما مات عليه)) قال الهروي: وليس قول من ذهب به إلي الأكفان بشيء؛ لأن الإنسان إنما يكفن بعد الموت. ((تو)) وقد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من يقصر فهمه في بعض الأحايين عن المعنى المراد- والناس متفاوتون في ذلك، فلا يعد أمثال ذل عليهم- وقد سمع غدي بن حاتم رضي

1641 - وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الكفن الحلة، وخير الأضحية الكبش الأقران)) رواه أبو داود. [1641] ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عنه {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} فعمد إلي عقالين أسود وأبيض، فوضعهما تحت وساده الحديث. وقد رأي بعض أهل العلم الجمع بين الحديثين، فقال: البعث غير الحشر، فقد يجوز أن يكون البعث مع الثياب، والحشر علي العري والحفا. قال الشيخ: ولم يصنع هذا القائل شيئاً؛ فإنه ظن أنه نصر السنة، وقد ضيع أكثر مما حفظ، فإنه سعى في تحريف سنن كثيرة ليسوي كلام أبي سعيد. وقد روينا عن أفضل الصحابة أنه أوصى أن يكفن في ثوبيه، وقال: إنما هما للمهل والتراب. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: ((الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها))، وليس لهم أن يحملوها علي الأكفان؛ لأنها بعد الموت. ((قض)): العقل لا يأبي حمله علي ظاهره حسبما فهم منه الراوي؛ إذ لا يبعد إعادة ثيابه بشيء دون شيء، غير أن عموم قوله: ((يحشر الناس حفاة عراة)) حمل جمهور أهل المعإني وبعثهم علي أن أولوا الثياب بالأعمال التي يموت عليها من الصالحات والسيئات، والعرب تستعير الثياب للأعمال؛ فإن الرجل يلابسها كما يلابس. قال الراجز: لكل دهر قد لبست ثوبا حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا أقول: الجواب عن قول الشيخ التوربشتي في قوله: ((إنما هما للمهل والتراب)) ما قاله القاضي: ((العقل لا يأبي حمله علي ظاهره)) إلي آخره صحيح، لكن قول الهروي: ((ليس لهم أن يحملوها علي الأكفان؛ لأنها بعد الموت)) قوي متين، ويعضده إخراج ((يموت)) علي المضارع الدال علي االاستمرار، وأن فعل الطاعات والحسنات دأبه وعادته، كما يقال: فلان يحمي الحريم، ويقري الضعيف. وأما العذر عن الصحابي رضي الله عنه، فإنه يقال: أنه عرف مغزى الكلام، لكنه سلك سبيل الإبهام، وحمل الكلام علي غير ما يترقب، لما سمع من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)) ويحضر به تلك الثياب، وهو علي شرف الموت، ونحوه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالي: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} والظاهر التثكير حيث قال: ((سأزيد علي السبعين)). ((الكشاف)): خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته علي من بعث إليه. الحديث الرابع عن عبادة: قوله: ((الحلة)) ((نه)) الحلة واحدة الحل، وهي برود اليمين بدليل هذا الحديث، والأصح أن الثوب الأبيض أفضل، لحديث عائشة رضي الله عنها ولعل فضيلة الكبش الأقرن علي غيره في الأضحية؛ لكونه أعظم جثة وسمناً في الغالب.

1642 - ورواه الترمذي، وابن ماجه. عن أبي أمامة [1642]. 1643 - وعن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلي أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. رواه أبو داود، وابن ماجه [1643]. الفصل الثالث 1644 - وعن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائم، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، ولقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن ابن عباس: قوله: ((أن ينزع عنهم الحديد)) ((مظ)): أي السلاح والدرع، وأراد بالجلود ما معهم من الفروة والكساء غير الملطخ بالدم، ولا يغسل الشهيد، ولا يصلي عليه؛ لكرمه، فإنه مغفور له، هذا عند الشافعي. وأما عند أبي حنيفة رضي الله عنهما: فلا يغسل لكن يصلي عليه. الفصل الثالث الحديث الأول عن سعد: قوله: ((حسناتنا عجلت لنا)) يعني حقنا أن ندخل في زمرة من قيل في حقه: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما شاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا} يعني من كان العاجلة همه، ولم يرد غيرها؛ لفضلنا عليهم من منافعنا بما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً. وقوله تعالي: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} يعني: أذهبتم ما كتب لكم من الطيبات، أي أصبتموه في دنياكم، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. والمراد بالحظ الاستمتاع باللهو والتنعم الذي يشغل الرجل لالتذاذه به عن الدين وتكاليفه، حتى يعكف همته علي استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب، ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، ولا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقما. وأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، ويقوى بها علي دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضاً بالشكر، فهو عن ذلك بمعزل. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل هو وأصحابه تمراً، وشربوا عليه ماءاً، فقال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)).

(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

1645 - وعن جابر، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته، فأمر به، فأخرج، فوضعه علي ركبتيه، فنفث فيه من ريقه، وألبس قميصه، قال: وكان كسا عباساً قميصاً. متفق عليه. (5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها الفصل الأول 1646 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((عبد الله بن أبي)) ((خط)): منافق ظاهر النفاق، وأنزل في كفره ونفاقه آيات من القرآن تتلي، فاحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قبل أن ينزل قوله عز وجل: {ولا تصل علي أحد منهم مات أبداً ولا تقم علي قبره} وأن يكون تأليفاً لابنه، وإكراماً له، وكان مسلماً بريئاً من النفاق، وأن يكون مجازاة؛ لأنه كان قد كسى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يكافئه علي ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يجازه عليها. وقال: في الحديث دليل علي جواز التكفين بالقميص، وإخراج الميت من القبر بعد الدفن لعلة أو سبب. باب المشي بالجنازة والصلاة عليها الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((فإن تك صالحة)) ((مظ)): أي فإن تكن الجنازة صالحة. الجنازة: بكسر الجيم الميت، وبالفتح السرير لا غير، فعلي هذا أسند الفعل إلي الجنازة وأراد به الميت. قوله: ((فخير تقدمونها إليه)) يعني حاله في القبر يكون حسناً طيباً، فأسرعوا به حتى يصل إلي تلك الحالة الطيبة عن قريب. أقول: جعلت الجنازة عين الميت، ووصفت بأعماله الصالحة، ثم عبر عن الأعمال الصالحة بالخير، وجعلت الجنازة التي هي في مكان الميت مقدمة إلي ذلك الخير فبكني بالجنازة عن العمل مبالغة في كمال هذا المعنى، كما في قول ابن المناذر: ما درى نعشه ولا حاملوه ما علي النعش من عفاف وجود

1647 - وعن أبي سعيد [الخدري]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال علي أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)). رواه البخاري. 1648 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولما لاحظ في جانب العمل الصالح هذا، قابل قرينتها بوضع الشر عن الرقاب، وكان أثر عمل الرجل الصالح راحة له، فأمر بإسراعه إلي ما يستريح إليه، وأثر عمل الرجل الطالح مشقة عليهم، فأمر بوضع حيفته عن رقابهم. فالضمير في ((إليه)) راجع إلي الخير باعتبار الثواب أو الأكرام. وروى المالكي في التوضيح ((إليها)) بالتإنيث، وقال: أنث الضمير العائد علي الخير وهو مذكر، فكان ينبغي أن يقول: فخير قدمتموها إليه، لكن المذكور يجوز تإنيثه إذا أول بمؤنث، كتأويل الخير الذي تقدم إليه النفس الصالحة بالرحمة، أو بالحسنى أو بالبشرى. وأقول: معنى الحديث ينظر إلي ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: ((مستريح أو مستراح منه)) أي يستريح إلي رحمة الله تعالي، أو يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. الحديث الثاني عن أبي سعيد: قوله: ((لأهلها)) أي قالت لأجل أهلها إظهاراً لوقوعه في الحزن والهلاك، والمشقة والعذاب. وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه: يا حزني، يا هلاكي، يا عذابي! احضر، فهذا وقتك وأوانك. وأضاف الويل إلي ضمير الغائب حملاً علي المعنى، وعدل عن حكاية قول الجنازة ((يا ويلي)) كراهة أن يضيف الويل إلي نفسه. قوله: ((لصعق)) أي مات. ((نه)): الصعق أن يغشى علي الإنسان من صوت شديد يسمعه وربما مات منه، ثم استعمل في الموت منه كثيراً. الحديث الثالث، والرابع عن أبي سعيد: قوله: ((فقوموا)) ((قض)): الباعث علي الأمر بالقيام أحد أمرين: إما ترحيب بالميت وتعظيمه، وإما تهويل الموت وتفظيعه، والتنبيه علي أنه بحال ينبغي أن يقلق ويضطرب من رأي ميتاً استشعاراً منه ورعباً، ولا يثبت علي حاله لعدم المبالاة، وقلة الاحتفال به. ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)) فإن ترتب الحكم علي الوصف لاسيما إذا كان بالفاء يدل علي أن الوصف علة الحكم، والفزع- بفتح الزاي- مصدر، جرى الوصف به للمبالغة، أو بتقدير ((ذي)). وقوله: ((ولا يقعد حتى توضع)) قيل: أراد به وضعها عن الأعناق، ويعضده رواية الثوري ((حتى توضع بالأرض)). وقيل: حتى

1649 - وعن جابر، قال: مرت جنازة، فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية. فقال: ((إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)) متفق عليه. 1650 - وعن علي، [رضي الله عنه]، قال: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا. يعني في الجنازة. رواه مسلم. وفي رواية مالك وأبي داود: قام في الجنازة، ثم قعد بنا. 1651 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد. ومن صلي عليها ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ توضع في اللحد. أقول: يؤيد الأول ما روى الترمذي عن أحمد وإسحاق قالا: من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال. الحديث الخامس عن علي: قوله: ((قعد فقعدنا)) ((حس)): عن الشافعي: حديث علي ناسخ لحديث أبي سعيد ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا)). وقال أحمد وإسحاق: إن شاء قام، وإن شاء لم يقم. وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يتقدمون بالجنازة فيقعدون قبل أن تنتهي إليهم الجنازة. ((قض)): الحديث محتمل لمعنيين: أحدهما أنه كان يقوم للجنازة ثم يقعد بعد قيامه إذا تجاوزت وبعدت عنه، وثإنيهما أنه كان يقوم أياماً ثم لم يكن يقوم بعد ذلك. وعلي هذا يكون فعله الأخير قرينة وأمارة علي أن الأمر الوارد في ذينك الخبرين للندب. ويحتمل أن يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر، فإنه وإن كان مخصوصاً بنا دونه؛ لأن الآمر لا يكون مأموراً بأمره، والفعل صورة يختص بمن يتعاطاه إلا أن فعله المتأخر من حيث أنه يجب علينا الأخذ به عارضة فنسخه، والأول أرجح؛ لأن حتمال المجاز أقرب من النسخ. الحديث السادس عن أبي هريرة: قوله: ((بقيراطين)) ((نه)): القيراط جزء من أجزاء الدينا، وهو نصف عشرة في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين، والياء فيه بدل من الراء؛ فإن أصله قراط. قيل: لأنه يجمع علي قراريط، وهو شائع مستمر، وقد يطلق ويراد به بعض الشيء.

1652 - وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلي المصلي، فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات. متفق عليه. 1653 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كان زيد بن أرقم يكبر علي جنائزنا أربعاً، وإنه كبر علي جنازة خمساً، فسألناه. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكبرها. رواه مسلم. 1654 - وعن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: صلي خف ابن عباس علي جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: لتعلموا أنه سنة. رواه البخاري. 1655 - وعن عوف بن مالك، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم علي جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: ((اللهم اغفر له وراحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): وذلك لأنه فسر بقوله: ((كل قيراط مثل أحد)) وذلك تفسير للمقصود من الكلام، لا للفظ القيراط. والمراد منه علي الحقيقة أنه يرجع بحصتين من جنس الأجر، فبين المعنى بالقيراط الذي هو حصته من جملة الدينار. أقول: يريد أن قوله: ((بقيراطين)) مبهم من وجهين، فبين جنس الموزون أولا بقوله: ((من الأجر)) ثم بين ثإنياً المقدار المراد منه بقوله: ((مثل أحد)) ولك من البيإنين صفة لـ ((قيراطين))، لكن الأولي قدمت، فصارت حالا، وبقيت الثانية علي حالها. الحديث السابع عن أبي هريرة: قوله: ((نعى للناس)) ((نه)): نعي الميت ينعاه نعياً ونعياً إذا أذاع موته، وأخبر به وندبه، وفي قوله: ((اليوم الذي مات فيه)) دلالة علي معجزة رسولنا صلي الله عليه وسلم. الحديث الثامن عن عبد الرحمن: قوله: ((خمساً)) ((مح)): دل الإجماع علي نسخ هذا الحديث؛ لأن ابن عبد البر وغيره نقلوا الإجماع علي أنه لا يكبر اليوم إلا أربعاً، وهذا دليل علي أنهم أجمعوا بعد زيد بن الأرقم، والأصح: أن الإجماع يصح من الخلاف. الحديث التاسع عن طلحة: قوله: ((لتعلموا أنها سنة)) ((شف)): الضمير المؤنث لقراءة الفاتحة، وليس المراد بالنسبة أنها غير واجبة، بل المراد: أنها طريقة مروية مقابلة للبدعة. هذا التأويل علي مذهب الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: ليس بفرض. الحديث العاشر عن عوف: قوله: ((وعافه)) أي سلمه من العذاب والبلايا، ((نه)): العفو والعافية والمعافاة وألفاظ متقاربة، فالعفو محو الذنوب، والعافية أن يسلم من الأسقام والبلايا، وهي الصحة وضد المرض، والمعافاة هي أن يعافيك الله تعالي من الناس، ويعافيهم منك، ويصرف أذانهم عنك، وأذاك عنهم. قوله: ((وأكرم نزله)) النزل ما يقدم إلي الضيف من

((وقه فتنة القبر وعذاب النار)) قال حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. رواه مسلم. 1656 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلي رسول الله صلي الله عيله وسلم علي ابنى بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطعام، أي أحسن نصيبه من الجنة. قوله: ((واغسله بالماء)) إلي آخره. ((مظ)): أي طهره من الذنوب بأنواع المغفرة، والمراد بـ ((فتنة القبر)) التحير في الجواب عن الملكين. وفرائض صلاة الجنازة عند الشافعي سبع: النية، والتكبيرات الأربعة، وقراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولي، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة، والتسليمة. والأصح: أن القيام فرض, وأما عند أبي حنيفة فالواجب التكبيرات الأربعة، وما سواها سنة. ((مح)): اختلفت الروايات في دعاء الميت، والتقط الإمام الشافعي رضي الله عنه منها هذا: اللهم هذا عبدك، وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه، وأحبائه فيها، إلي ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به. اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقراً إلي رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك ورضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وأفسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلي جنتك، يا أرحم الراحمين. هذا نص الشافعي في مختصر المزني، قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه، فقال: اللهم اجعله لهما فرطاً، واجعله لهما سلفاً وذخراً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر علي قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره. وأما التكبيرة الرابعة فلا يجب بعدها ذكر بالاتفاق، ولكن يستحب أن يقول ما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتاب البويطي قال: يقول في الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. الحديث الحادي عشر عن أبي سلمة: قوله: ((علي ابني بيضاء)) بيضاء أمهما واسمها دعد بنت الجحدم، واسم أبيها عمرو بن وهب. واسم أخي سهيل سهل. وسعد توفي في قصره

1657 - وعن سمرة بن جندب، قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم علي امرأة ماتت في نفسها، فقام وسطها. متفق عليه. 1658 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً، فقال: ((متى دفن هذا؟)) قالوا: البارحة. قال: ((أفلا آذنتموني؟)) قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، فصلي عليه. متفق عليه. 1659 - وعن أبي هريرة، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاب، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات. قال: ((أفلا كنتم آذنتموني؟)) قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره. فقال: ((دلوني علي قبره)) فدلوه فصلي عليها ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة علي أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)). متفق عليه. ولفظه لمسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالعقيق علي عشرة أميال من المدينة، وحمل إليها علي أعناق الرجال ليدفن بالبقيع، وذلك في إمارة معاوية، فسألت عائشة رضي الله عنها أن يصلي عليه في المسجد لتصلي هي عليه، فأبوا عليها، وقالوا: لا نصلي علي الميت في المسجد، فذكرت الحديث. وإلي قول عائشة رضي الله عنها ذهب الشافعي. وأبو حنيفة رضي الله عنه يكره ذلك، وأصحابه قالوا: إن الصحابة كانوا متوافرين فلو لم يعلموا بالنسخ لما خالفوا حديث عائشة رضي الله عنها. الحديث الثاني عشر عن سمرة: قوله: ((وسطها)) ((نه)): الوسط- بالسكون- يقال فيما كان تفرق الأجزاء غير متصل كالناس، والدواب، وغير ذلك. وإذا كان متصل الأجزاء كالدار فهو بالفتح. وقيل: كل ما يصلح فيه بين، فهو بالفتح. وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، كأنه الأشبه. وقد ذكرنا عن صاحب المغرب: أن الوسط بالفتح كالمركز للدائرة، وبالسكون داخل الأشبه. وقد ذكرنا عن صاحب المغرب: أن الوسط بالفتح كالمركز للدائرة، وبالسكون داخل الدائرة. ((شف)): فيه دليل علي أن المستحب للإمام أن يقف عند عجيزة المرأة. الحديث الثالث عشر عن ابن عباس: قوله: ((دفن ليلا)) ((مظ)): فيه مسائل: جواز الدفن في الليل، والصلاة علي القبر بعد الدفن، واستحباب صلاة الميت بالجماعة. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة: قوله: ((تقم المسجد)) ((نه)): أي تكنسه، والقمامة: الكناسة، والمقمة: المكنسة. وقوله: ((قال: فكأنهم صغروا أمرها)) وهو معطوف علي ((قال)) الأولي، ومقول أبي هريرة، وفاعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة)) إلي آخره، فكالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة علي الميت إلي حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة له لينور قبره ويخفف من عذابه، وعليه الدعاء السابق، فليتأمل. 1660 - وعن كريب مولي ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، أنه مات له ابن بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس. قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول: هم أربعون؟ قال: نعم. قال: أخرجوه؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم علي جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) رواه مسلم.

1661 - وعن عائشة، [رضي الله عنها] عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له؛ إلا شفعوا فيه)). رواه مسلم. 1662 - وعن أنس، قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً. فقال: ((وجبت)) فقال عمر: ما وجبت؟ فقال: ((هل أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)) متفق عليه وفي رواية: ((المؤمنون شهداء الله في الأرض)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر، والسادس عشر عن عائشة: قوله: ((ما من ميت)) ((ما)) نافية و ((من)) زائدة لاستغراق الجنس. و ((ميت))، مطلق محمول علي المقيد في قوله: ((ما من رجل مسلم)). ((تو)): لا تضاد بين حديث كريب وحديث عائشة؛ لأن السبيل في أمثال هذا المقام أن يكون الأقل من العددين متأخراً؛ لأن الله تعالي إذا وعد المغفرة في المعنى الواحد مرتين، وإحداهما أيسر من الأخرى، لم يكن من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه فضلاً منه وتكرماً علي عباده. أقول: هذا كلام حسن؛ لأن الحديث الثاني فيه مبالغة وتشديد ليس في الأول، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل قوله: ((يصلي عليه أمة من المسلمين)) توطئة لقوله: ((يبلغون مائة)) ثم أكده بقوله: ((كلهم يشفعون له)). الحديث السابع عشر، والثامن عشر عن أنس: قوله: ((فأثنوا عليها شراً)) الثناء إنما يستعمل في الخير استعماله ها هنا في الشر إما مشاكلة لقوله: ((فأثنوا عليها خيراً)) أو تهكم، كاستعمال البشارة في النذارة. ((مح)): فإن قيل: كيف مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات؟ قلت: إن النهي عن سب الأموات إنما هو في حق غير المنافق والكافر، وفي حق غير المتظاهر فسقه وبدعته، وأما هؤلاء فلا يحرم سبهم للتحذير من طريقهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلق بأخلاقهم.

1663 - وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة)) قلنا: وثلاثة؟ قال: ((وثلاثة)) قلنا: واثنان؟ قال: ((واثنان))، ثم لم نسأله عن الواحد. رواه البخاري. 1664 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلي ما قدموا)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم شهداء الله)) أن ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص من استحقاقه الجنة أو النار يكون كذلك؛ لأن من يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقولهم، ولا من يستحق من أهل الجنة بقولهم، بل معناه: أن الذي أثنوا عليه خيراً، رأوا منه الصلاح والخيرات في حياته، والخيرات والصلاح علامة كون الرجل من أهل الجنة، والذي أثنوا عليه شراً، رأوا منه الشر والفساد، والشر والفساد علامة أهل النار؛ فشهد النبي صلى الله عليه وسلم للأول بالجنة، وللثإني بالنار. وتأويل قطعه صلى الله عليه وسلم للأول بالجنة، وللثإني بالنار أنه اطلعه الله تعالي علي ذلك، وليس هذا الحكم عاماً في كل من شهد له جماعة بالجنة أو بالنار. ألا ترى أنه لا يجوز أن يقطع بكون أحد أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار وإن شهد له جماعة كثيرة، بل ترجى الجنة لمن شهد له جماعة بالخير، وتخاف النار لمن شهد له جماعة بالشر. أقول: لا ارتياب أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)) بعد ثناء الصحابة رضي الله عنهم حكم، عقب وصفاً مناسباً، وهو يشعر بالعلية. وكذا الوصف بقوله: ((أنتم شهداء الله)) لأن الإضافة فيه للتشريف، وأنهم بمكان ومنزلة عالية عند الله. وهو أيضاً كالتزكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وإظهار عدالتهم بعد أداء شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه وأن الله تعالي يقبل شهادتهم ويصدق ظنونهم في حق المثني عليه كرامة لهم وتفضلاً عليهم كالدعاء والشفاعة، فيوجب لهم الجنة أو النار علي سبيل الوعد أو الوعيد؛ لأن وعده حق لابد من وقوعه، فهو كالواجب إذ لا أثر للعمل ولا للشهادة في الوجوب. وإلي معنى الحديث برمز قوله تعالي: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي جعلناكم عدولاً خياراً لتشهدوا علي غيركم، ويكون الرسول رقيباً مهيمناً عليكم، ومزكياً لكم، ويبين عدالتكم. والله أعلم.

1665 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلي أحد في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟)) فإذا أشير له إلي أحدهما قدمه في اللحد. وقال: ((أنا شهيد علي هؤلاء يوم القيامة)) وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. رواه البخاري. 1666 - وعن جابر بن سمرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرس معرور، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر عن عائشة: قوله: ((قد أفضوا إلي ما قدموا)) أي قد مضوا إلي جزاء ما قدموا من أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر)) والله تعالي هو المجازي، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم، فما لكم وإياهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؟ هذا يدل علي أنه لا يجوز الخوض بلا فائدة، وإن كان للتحذير فلا بأس، كما سبق. الحديث العشرون عن جابر: قوله: ((في ثوب واحد)) ((مظ)): أي في قبر واحد، لا في ثوب واحد؛ إذ لا يجوز تجريدهما بحيث تتلاقى بشرتاهما بل ينبغي أن يكون علي كل واحد منهما ثيابه الملطخة بالدم وغير الملطخة، ولكن يضجع أحدهما بجنب الآخر في قبر واحد. قوله: ((أن شهيد عليهم)) ((مظ)): أن شفيع لهؤلاء، وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم، وتركوا حياتهم لله تعالي. أقول: لا يساعد عليه تعدية الشهيد بعلي؛ لأنه لو أريد ما قال: لقيل: أنا شهيد لهم، فعدل لتضمين ((شهيد)) معنى رقيب وحفيظ، أي أن حفيظ عليهم أراق أحوالهم وأصونهم من المكاره والمناصب، شفيعاً لهم، ومنه قوله تعالي: {والله علي كل شيء شهيد}، {كنت أنت الرقيم عليهم، وأنت علي كل شيء شهيد}. الحديث الحادي والعشرون عن جابر: قوله: ((معرور)) ((نه)): أي لا سرج عليه ولا غيره. واعروري فرسه: إذا ركبه عرياناً، فهو لازم ومتعد، أو يكون أتي بفرس معرور علي المفعول. ويقال: فرس عر، وخيل أعراء. وعن بعضهم يقال: اعروري الفارس فرسه: ركبه عرياناً ليس عليه سرج. اعريراء من الافعيلاء فالفارس معررو، والفرس معروري، والقياس: فرس معروري، لكن صحت الرواية بالكسر.

الفصل الثاني 1667 - عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريباً منها، والسقط يصلي عليه، ويدعي لوالديه بالمغفرة والرحمة)). رواه أبو داود. [1667] وفي رواية أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، قال: ((الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلي عليه)). وفي المصابيح عن المغيرة ابن زياد. 1668 - وعن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: وأهل الحديث كأنهم يرونه مرسلاً. [1668] 1669 - وعن عبد اله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس معها من تقدمها)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وقال الترمذي: وأبو ماجد الراوي رجل مجهول. [1669] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني، عن المغيرة بن شعبة: قوله: ((السقط يصلي عليه)) ((مظ)): ذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما إلي أنه يصلي علي السقط إن استهل صارخاً ثم مات، وإلا فلا. وقال أحمد: يصلي عليه إذا كان له أربعة أشهر وعشر في البطن ونفخ فيه الروح وإن لم يستهل. قوله: ((وفي المصابيح: عن المغيرة بن زياد)) ((تو)) و ((قض)): عن المغيرة بن زياد سهو، ولعله سهو من الناسخ، إذ ليس في عداد الصحابة والتابعين أحد بهذا الاسم والنسب. الحديث الثالث والرابع، عن سالم- هو ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم-: قوله: ((يمشون أمام الجنازة)) بهذا الحديث قال الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، وقال بالحديث الآتي أبو حنيفة. وعلة المشي خلف الجنازة: انتباه الناس، واعتبارهم عند النظر إليها، وقدامه كأنهم شفعاء الميت إلي الله تعالي، والشفيع يمشي قدام المشفوع له. الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لا تتبع)) صفة مؤكدة أي

1670 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تبع جنازة وحملها ثلاث مرات؛ فقد قضى ما عليه من حقها)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [1670] 1671 - وقد روي في ((شرح السنة)): أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. 1672 - وعن ثوبان، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأي ناساً ركباناً، فقال: ((ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله علي أقدامهم، وأنتم علي ظهور الدواب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وروى أبو داود نحوه، وقال الترمذي: وقد روي عن ثوبان موقوفاً. [1672] 1673 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ علي الجنازة بفاتحة الكتاب. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [1673] 1674 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صليتم علي الميت، فأخلصوا له الدعاء)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [1674] 1675 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلي علي الجنازة، قال: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه علي الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه علي الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [1675] ـــــــــــــــــــــــــــــ متبوعة غير تابعة. وقوله: ((ليس معها)) تقرير بعد تقرير، ((يعني من تقدم الجنازة ليس ممن يشيعها فلا يثبت له الأجر. الحديث السادس إلي التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صغيرنا وكبيرنا)) ((تو)): سئل أبو جعفر الطحاوي عن معنى الاستغفار للصبيان مع أنه لا ذنب لهم؟ فقال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يغفر لهم ذنوب قضيت لهم أن يصيبوها بعد الانتهاء إلي حال الكبر. أقول: كل من القرائن الأربع في هذا الحديث تدل علي الشمول والاستيعاب، فلا تحمل علي التخصيص نظراً إلي مفردات التركيب، كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين كلهم أجمعين، فهي من الكناية، يدل عليه جمعه في قوله: ((اللهم من أحييته منا فأحيه علي الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه علي الإيمان)).

1676 - ورواه النسائيُّ عن إبراهيم الأشهَلي، عن أبيه، وانتهت روايته عند قوله: ((وأثنانا)). وفي رواية أبي داود: ((فأحيه علي الإيمان، وتوفه علي الإسلام))، وفي آخره: ((ولا تُضلّنا بعدَه)). 1677 - وعن واثلةَ بن الأسقع، قال: صلي بنا رسولُ صلى الله عليه وسلم علي رجل من المسلمين، فسمعته يقول: ((اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له، وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [1677] 1678 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)). رواه أبو داود، والترمذي. [1678] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((في رواية أبي دواد: فأحيه علي الإيمان)) فإن قلت: ما الحكمة في تقديم الإسلام وتأخير الإيمان في الرواية الأولي، وعكسه في الأخرى؟ قلت: الإيذان بأن الإسلام والإيمان يعبران عن الدين كما هو مذهب السلف الصالح، علي ما نقلناه عن الأئمة المتقنين في شرح حديث جبريل عليه السلام. ويحتمل أن يراد التنبيه علي الفرق بين المقامين. وذلك أن الإسلام ورد علي معنيين: أحدهما الانقياد وإظهار الأعمال الصالحة، وهو دون الإيمان. قال الله تعالي: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} والإشارة بهذا ترجيح الأعمال في الحياة، والايمان عند الممات، وهذه مرتبة العوام. وثإنيهما الاستسلام وإخلاص العمل لله، وهو فوق الإيمان، قال الله تعالي: {بلي من أسلم وجهه لله وهو محسن} {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} وهذه مرتبة الخواص. ومن هاهنا قال يوسف عليه السلام: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} والرواية الثانية مشيرة إلي هذا. الحديث العاشر عن واثلة: قوله: ((وحبل جوارك)) ((نه)): كان من عادة العرب أن يخاف بعضهم بعضاً، وكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد كل قبيلة، فيأمن به مادام مجاورًا أرضه، أو هو من الإجارة. والأمان، والنصرة. والحبل والعهد والأمان. أقول: الثاني أظهر و ((حبل جوارك)) بيان لقوله: ((ذمتك)) نحو أعجبتني زيد وكرمه. وقوله:

1679 - وعن نافع أبي غالب، قال: صليتُ مع أنس بن مالك علي جنازة رجلٍ، فقام حيال رأسه، ثم جاؤوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة! صلِّ عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام علي الجنازة مقامك منها؟ ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم. رواه الترمذي وابن ماجه. وفي رواية أبي داود نحوه مع زيادة، وفيه: فقام عند عجيزة المرأة. [1679] الفصل الثالث 1680 - (35) عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كان ابن حنيف، وقيس ابن سعد قاعدين بالقادسية، فمر عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل ـــــــــــــــــــــــــــــ ((في ذمتك)) أي أن فلاناً في عهد جوارك. والأصل في عهدك، فنسب إلي العهد ما كان منسوباً إلي الله تعالي، فجعل للجوار عهداً مبالغة في كمال حمايته ونصرته، فالحبل مستعار للعهد لما فيه من التوثقة، وعقد القول بالأيمان المؤكدة. ومن ثم قيل فيمن خان العهد: فلان نقض عهده ونكث؛ فإن النقض والنكث من صفات الحبل ولوازمه. وقوله: ((أنت أهل الوفاء)) تجريد لاستعارة الحبل للعهد؛ لأن الوفاء صفة ملائمة للعهد المستعار له، لا للحبل المستعار. ولو أريد الترشيح لقيل: أنت أهل الإبرام. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((اذكروا محاسن موتاكم)) المأمور والمنهي بهذا الأمر والنهي، إن كان من الصالحين من عباد الله، فكما أن ذكرهم محاسن الموتى مؤثر فيهم أمروا بذلك، وأن ذكرهم مساوئهم كذا مؤثر، فعليه أن لا يسعى في ضرر الغير، كما سبق في حديث أنس رضي الله عنه: ((أنتم شهداء الله)) وإن كان المأمور والمنهي غيرهم، فإن أثر النفع والضرر راجع إلي القائل، فعليه أن يجتنب ما يتضرر بذكره، ويتحرى ما له من نفع فيه. الحديث الثاني عشر عن نافع: قوله: ((نافع أبي غالب)) ((أبي غالب)) هو عطف بيان، كأن الكنية كانت أشهر وأعرف من العلم، فجئ بها بياناً بـ ((نافع)). وقوله: ((حيال رأسه)) أي إزاء رأسه ومقابله، وحيال كل شيء: قبالته، وتلقاء وجهه. قوله: ((عجيزة المرأة)) ((نه)): العجيزة والعجز، وهي للمرأة خاصة، والعجز مؤخر الشيء. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الرحمن رضي الله عنه: قوله: ((بالقادسية)) وهو موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلاً، والأرض هنا كناية عن السفالة والرذالة. قال تعالي: {ولو شيءنا

الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازةٌ فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: ((أليست نفساً؟)). متفق عليه. 1681 - وعن عبادة بن الصامت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع جنازةً لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر من اليهود، فقال له: إنا هكذا نصنع يا محمد! قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((خالفوهم)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، وبشر بن رافع الراوي ليس بالقوي. 1682 - وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس. رواه أحمد. [1682] 1683 - وعن محمد بن سيرين، قال: إن جنازة مرت بالحسن بن علي وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن: أليس قد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودى؟ قال: نعم، ثم جلس. رواه النسائى. [1683] 1684 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن الحسن بن علي كان جالساً فمر عليه بجنازة، فقام الناس حتى جاوزت الجنازة. فقال الحسن: إنما مر بجنازة يهودى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم علي طريقها جالساً، وكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فقام رواه النسائى. [1684] ـــــــــــــــــــــــــــــ لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه} أي مال إلي السفالة؛ ولذلك ((أهل الأرض)) بـ ((أهل الذمة)). ونحوه في المعنى قوله: ((أليست نفساً؟)) أي ذا فزع، يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر حين قام لجنازة مرت عليه، فقيل: ((إنها يهودية)) فقال: ((إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)) الحديث الثاني إلي الرابع عن محمد رضي الله عنه: قوله: ((ثم جلس)) الظاهر أن يكون قوله ((ثم جلس)) من تتمة قول ابن عباس رضي الله عنهما، أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من ذلك، ولكن جلوسه كان متأخراً ناسخاً، كما سبق في حديث علي رضي الله عنه.

1685 - وعن أبي موسى. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرت بك جنازة يهودي أو نصرإني أو مسلم، فقوموا لها، فلستم لها تقومون؛ إنما تقومون لمن معها من الملائكة)). رواه أحمد [1685] 1686 - وعن أنس، أن جنازة مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام، فقيل: إنها جنازة يهودى. فقال: ((إنما قمت للملائكة)). رواه النسائي. [1686] 1687 - وعن مالك بن هبيرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين، إلا أوجب)). فكان مالكٌ إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث. رواه أبو داود. وفي رواية الترمذي، قال: كان مالك بن هبيرة إذا صلي علي جنازة فتقال الناس عليها جزأهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلي عليه ثلاثة صفنوف أوجب)). ورورى ابن ماجه نحوه. 1688 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة علي الجنازة: ((اللهم أنت ربها وأنت خلقتها، وأنت هديتها إلي الإسلام، وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلإنيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)) روه أبو داود. [1688] 1689 - وعن سعيد بن المسيب، قال: صليتُ وراء أبي هريرة علي صبيٍّ لم يعمل خطيئة قط، فسمعتُهُ يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر. رواه مالك ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن أبي موسى: قوله: ((إنما تقومون لمن معها من الملائكة)) أي ملائكة الرحمة والعذاب. اختلفت علل القيام، فجعلت تارة الفزع، وأخرى كراهية رفعة جنازة اليهودية رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرى كرامة للملائكة المقربين، وأخرى لم يعتبر شيئاً منها، فلم يقم. ولعل ذلك لاختلاف المقامات والأحوال. الحديث السابع عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((أوجب)) أي أوجب ذلك الفعل علي الله

(6) باب دفن الميت

1690 - وعن البخاري تعليقاً، قال: يقرأ الحسن علي الطفل فاتحة الكتاب، ويقول: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وذخراً وأجر اً. 1691 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطفل لا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث، حتى يستهل)). رواه الترمذي وابن ماجه إلا أنه لم يذكر: ((ولا يورث)). [1691] 1692 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، يعنى أسفل منه. رواه الدراقطني في ((المجتبى)) في كتاب الجنائز. [1692] (6) باب دفن الميت الفصل الأول 1693 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أن سعد بن أبي وقاص، قال في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي مغفرته وعداً منه تعالي، وهو خبر ((ما)) والمستثنى منه أعم عام الأشياء، وهو دليل ظاهر بين الدلالة علي ما قررناه في حديث أنس من معنى تأثير الثناء في الوجوب. الحديث الثامن إلي الحادي عشر عن البخاري: قوله: ((تعليقاً)) قال في الإرشاد: التعليق مستعمل فيما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، مثاله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا: قال ابن عباس كذا، قال: سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كذا. قوله: ((حتى يستهل)) ((نه)): استهلال الصبي تصويته عند ولادته. باب دفن الميت الفصل الأول الحديث الأول عن عامر: قوله: ((ألحدوا)) ((نه)): اللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لوضع الميت؛ لأنه قد أميل عن وسط القبر إلي جانبه، يقال: لحدت وألحدت وأوصل الإلحاد

1694 - وعن ابن عباس، قال: جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء. رواه مسلم. 1695 - وعن سفيان التمار: أنه رأي قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً. رواه البخاري. 1696 - وعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك علي ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. رواه مسلم. 1697 - وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يُبنى عليه، وأن يقعد عليه. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الميل والعدول عن الشيء. ((مح)) ((الحدوا)): وهو بوصل الهمزة وفتح الحاء. ويجوز بقطع الهمزة وكسر الحاء يقال: لحد يلحد كذهب يذهب، وألحد يلحد إذا حفر اللحد. وفيه استحباب اللحد، ونصب اللبن، وأنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الصحابة رضي الله عنهم. وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع. الحديث الثانى عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قطيفة حمراء)) ((نه)): هي كساء له خمل، ومنه الحديث ((تعس عبد القطيفة)) أي الذي يعمل لها ويهتم بتحصيلها. ((مح)): هذه القطيفة ألقاها شقران مولي ارسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: كرهت أن يلبسه أحد بعده صلى الله عليه وسلم. وقد نص الشافعى وغيره من العلماء علي كراهة وضع قطيفة، أو مخدة، ونحوهما تحت الميت في القبر. وقيل: إن ذلك كان من خواصه صلوات الله عليه، فلا يحسن في حق غيره. ((تو)): وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كما فارق الأمة في بعض أحكام حياته فارقهم في بعض أحكام مماته؛ فإن الله تعالي حرم علي الأرض لحوم الأنبياء، وحق لجسد عصمه الله تعالي عن البلي، والتغير، والاستحالة أن يفرش له في قبره؛ لأن المعنى الذي يفرش للحى لم يزل عنه بحكم الموت، وليس الأمر في غيره علي هذا النمط. الحديث الثالث عن سفيان: قوله: ((مسنماً)) تسنيم القبر أن يجعل كهيئة السنام، وهو خلاف تسطيحه. الحديث الرابع عن أبي الهياج رضي الله عنه: قوله: ((ألا أبعثك)) ((تو)): أي ألا أرسلك للأمر الذي أرسلنى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما في قوله: ((ألا أبعثك علي ما بعثنى)) من معنى التأمير، عدى ((أبعثك)) بحرف الاستعلاء، أي أجعلك أميراً. أقول: وفيه أن ما أمر عليه من الشؤون العظيمة؛ فإن مثل علي رضي الله عنه إنما يؤمر في الأمور المهمة.

1698 - وعن أبي مرثد الغنويِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا علي القبور، ولا تصلوا إليها)). رواه مسلم. 1699 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يجلس أحدكم علي جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده؛ خيرٌ له من أن يجلس علي قبر)). رواه مسلم. الفصل الثانى 1700 - عن عروة بن الزبير، قال: كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أن لا تدع)) خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر الذي لا تدع. و ((التمثال)) الصورة، وطمسها محوها وإبطالها، والقبر المشرف: الذي بني عليه حتى ارتفع، دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصباء أو الحجارة، ليعرف فلا يوطأ. الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أن يبنى عليه)) ((تو)): يحتمل وجهين أحدهما: البناء علي القبر بالحجارة وما يجرى مجراها، والآخر: أن يضرب عليه خباء أو نحوه، وكلاهما منهي عنه؛ لانعدام الفائدة فيه، ولأنه من صنيع أهل الجاهلية، وعن ابن عمر أنه رأي فسطاطاً علي قبر أخيه عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فقال: إنما يظله عمله. وقوله: ((أن يقعد عليه)) حمله الأكثرون علي ما يقتضيه الظاهر من الجلوس، والقعود علي القبر، لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه المسلم. وحمله جماعة علي الجلوس علي القبر لقضاء الحاجة، ونسبوه إلي زيد بن ثابت. الحديث السادس عن أبي مرثد: قوله: ((ولا تصلوا إليها)) أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ؛ لأنه من مرتبة المعبود. فجمع بين النهي عن الاستخفاف العظيم والتعظيم البليغ. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فتحرق ثيابه)) أي فتخلص إلي جلده، جعل الجلوس علي القبر وسراية مضرته إلي قلبه- وهو لا يشعر- بمنزلة سراية النار من الثوب إلي الجلد ثم إلي داخله. الفصل الثانى الحديث الأول عن عبادة: قوله: ((أحدهما يلحد)) وهو أبو طلحة زيد بن سهل الأنصارى، والآخر هو أبو عبيدة بن الجراح، وكان يعمل الضريح، وهو الشق في وسط القبر.

والآخر لا يلحد. فقالوا: أيهما جاء أولا عمل عمله. فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه في ((شرح السنة)). [1700] 1701 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)). رواه الترمذى، وأبو داود، والنسائى، وابن ماجه. [1701] 1702 - ورواهُ أحمد عن جرير بن عبد الله. [1702] 1703 - وعن هشام بن عامر، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يوم أحُد: ((احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحدٍ، وقدِّموا أكثرهم قرآنًا)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وروى ابن ماجه إلي قوله: ((وأحسنوا)). [1703] 1704 - وعن جابر، قال: لما كانَ يومُ أحُدٍ جاءت عمَّتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ردُّوا القتلي إلي مضاجعهم)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدرامي، ولفظه للترمذي. [1704] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((اللحد لنا)) ((تو)): أي اللحد الذي نؤثره ونختاره، والشق اختيار من كان قبلنا. وفي ذلك بيان فضيلة اللحد، وليس فيه النهي عن الشق، والدليل عليه حديث عروة، إذ لو كان منهياً عنه لم يكن أبو عبيدة ليصنعه مع جلالة قدره في الدين والأمانة، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم ليقولوا دون دفن النبي صلى الله عليه وسلم: أيهما جاء أولا عمل عمله. أقول: ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم عني بضمير الجمع نفسه، أي أوثر لي اللحد، وهو إخبار عن الكائن، فيكون معجزة. الحديث الثالث عن هشام رضي الله عنه: قوله: ((وأعمقوا وأحسنوا)) ((مظ)): أي اجعلوا عمقه قدر قامة رجل إذا مد يده إلي رءوس أصابع يديه، وأجيدوا تسوية قعره، لا منخفضاً ولا مرتفعاً، ونظفوه من التراب والقذارة وغيرهما. قوله: ((أكثرهم قرآناً)) بولغ فيه حيث أبهم أولاً، وأسند ضميره إلي الكثرة، ثم بين ذلك الإبهام بقوله: ((قرآناً)) دلالة علي أن القرآن خالط لحمه ودمه، وأخذ بمجامعه، فحق لمثله أن يقدم علي كل سواه- في حياته في الإمامة، وفي مماته في القبر-. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قولوا: ((ردوا)) ((مظ)): فيه دلالة علي أن الميت لا ينقل

1705 - وعن ابن عباس، قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه. رواه الشافعى. [1705] 1706 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: ((رحمك الله، إن كنت لأواها تلاء للقرآن)). رواه الترمذي. وقال في ((شرح السنة)): إسناده ضعيف. 1707 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر قال: ((بسم ـــــــــــــــــــــــــــــ من الموضع الذي مات فيه إلي بلد آخر. ((شف)): هذا كان في الابتداء، فأما بعده فلا؛ لما روي أن جابراً جاء بابنه عبد الله الذي قتل في أحد بعد ستة أشهر إلي البقيع، ودفنه بها. أقول: ولعل الظاهر: إن دعت ضرورة إلي النقل جاز، وإلا فلا؛ لما روينا عن الإمام مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة: أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم المسلميين، كانا قد حفر السيل قبرهما وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده علي جرحه، فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد وبين يوم الحفر عنهما ست وأربعون سنة. وأيضاً دل قول عائشة رضي الله عنها في حديث ابن أبي مليكة: ((والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت)) - قالته حين نقل أخوها من الحبش إلي مكة- علي عدم الجواز. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((سل)) ((نه)): هو إخراج الشيء بتأن وتدريج. ((مظ)): سن أن توضع رأس الجنازة [في جانب القبلة من القبر بحيث أن تكون مؤخرة الجنازة] علي مؤخر القبر، ثم يدخل الميت القبر، وبهذا قال الشافعى رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر بحيث يكون مؤخر الجنازة إلي مؤخر القبر، ورأسه إلي رأسه، ويدخل الميت القبر. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فأسرج له بسراج)) أقيم مقام الفاعل، أي أشعل له سراج، فأخذ الميت من مكان هو من قبل القبلة ثم أدخله القبر، هذا مذهب أبي حنيفة. قوله: ((لأواها)) ((نه)) الأواه: المتأوه المتضرع. وقيل: هو الكثير البكاء. وقيل: الكثير الدعاء. ((وإن)) هي المخففة من المثقلة؛ ولذلك أدخلت علي فعل من أفعال المبتدأ، ولزمها اللام الفارقة بينها وبين النافية، وفيه دليل علي جواز دفن الميت بالليل. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كان إذا أدخل الميت القبر)) ((أدخل))

الله، وبالله، وعلي ملة رسول الله)). وفي رواية: ((وعلي سنة رسول الله)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وروى أبو داود الثانية. [1707] 1708 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حثا علي الميث ثلاث حثيات بيديه جميعاً، وأنه رش علي قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء. رواه في ((شرح السنة))، وروى الشافعي من قوله: ((رش)). [1708] 1709 - وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن توطأ. رواه الترمذي. [1709] 1710 - وعنه، قال: رُشَّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي رش الماء علي قبره بلال ابن رباح بقربة، بدأ من قبل رأسه حتى انتهي إلي رجليه. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)). [1710] ـــــــــــــــــــــــــــــ في بعض النسخ مجهولاً، وفي بعضها معلوماً، فعلي المجهول لفظ ((كان)) بمعنى الدوام، وعلي المعلوم بخلافه، لما روى أبو داود عن جابر قال: ((رأي ناس ناراً في المقبرة، فأتوها، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وهو يقول: ناولونى صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر)). الحديث الثامن، والتاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أن تجصص القبور)) قيل: لعل ورود النهي لأنه نوع من الزينة، ولذلك رخص بعضهم التطيين، منهم الحسن البصرى، وقال الشافعى: لا بأس أن يطين القبر. ((مظ)): يكره كتابة اسم الله ورسوله، والقرآن علي القبر؛ لئلا يهان بالجلوس عليه، ويداس عند الانهدام. الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم)) لعل ذلك إشارة إلي استنزال الرحمة الإلهية، والعواطف الربإنية علي صاحب القبر، كما ورد في الدعاء ((اللهم اغسل خطايأي بالماء، والثلج، والبرد)) وقالوا: سقى الله ثراه، وبرد الله مضجعه، وكان ذلك من دأبهم وعادتهم في أشعرهم، وأنشد الرضي يرثي أبا حسان: سقاكم ولولا عادة غريبة ... لقل لكم قطر الجي المنضد والجي من السحاب المتراكم. أو إلي الدعاء بالطراوة وعدم الدروس قال الحماسى:

1711 - وعن المطلب بن أبي وداعة، قال: لما مات عثمان بن مظعون، أخرج جنازته فدفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه. قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كإني أنظر إلي بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: ((أعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)). رواه أبو داود. [1711] 1712 - وعن القاسم بن محمد، قال: دخلت علي عائشة، فقلت: يا أماه! اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا نشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. رواه أبو داود. [1712] ـــــــــــــــــــــــــــــ سقى الله أجداثاً ورائى تركتها ... بحاضر قنسرين من سبيل القطر مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين علي قدر قال المرزوقى: المعنى: سقى الله هذه القبور من ماء السحاب ما سال علي عجلة، والقصد فيه: أن تبقى عهودها غضة محمية من الدروس، طرية لا يتسلط عليها ما يزيل جدتها ونضارتها، ألا ترى أنه لما أراد ضد ذلك، قال: فلا سقاهن إلا النار تضرم. الحديث الحادى عشر عن المطلب: قوله: ((وحسر عن ذراعيه)) ((نه)): أي أخرجهما عن كميه. وقوله: ((أعلم بها قبر أخي)) سماء أخًا لقرابة بينهما؛ لأنه كان قرشيًا، وهو عثمان بن مظعون ابن حبيب بن وهيب القرشي الجمحي، وكان ممن حرم الخمر [في الجاهلية وقال: لا أشرب ما يضحك بي من هو دوني وقال السلمي: وكان عثمان من] أهل الصفة، وهو أول من دفن بالبقيع، ومن هاجر بالمدينة. قوله: ((وأدفن إليه من مات)) أي أضم إليه في الدفن من مات من أهلي. قيل: أول من تبعه من أهل النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلوات الله عليه لزينب ابنته بعد أن ماتت: ((الحقى بسلفنا الخير عثمان بن مظعون)). ((مظ)): فيه أن جعل العلامة علي القبر ليعرفه الناس سنة، وكذلك دفن بعض الأقارب بقرب بعض. الحديث الثانى عشر عن القاسم: قوله: ((ولا لا طية)) ((نه)): يقال: لطا بالأرض ولطى بها

1713 - وعن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلي القبر ولما يلحد بعد، فجلس النبي صلي الله وعليه وسلم مستقبل القبلة، وجلسنا معه. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وزاد في آخره: كأن علي رؤوسنا الطير. [1713] 1714 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظام الميت ككسره حياً)). رواه مالك، وأبو داود، وابن ماجه. [1714] الفصل الثالث 1715 - عن أنس، قال: شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس علي القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: ((هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟)) فقال أبو طلحة: أنا. قال: ((فانزل في قبرها)). فنزل في قبرها. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا لزق. و ((العرصة)) جمعها عرصات، وهي كل موضع واسع لا بناء فيه. و ((البطحاء)) مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والمراد به ههنا الحصى؛ لإضافتها إلي العرصة، أي كشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مرتفعة ولا منخفضة، [لاصقة بالأرض] مبسوطة مسواة. والبطح أن يجعل ما ارتفع من الأرض مسطحاً حتى يستوى، ويذهب التفاوت. الحديث الثالث عشر، والرابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ككسره حياً)) فيه دلالة علي أن إكرام الميت مندوب إليه في جميع ما يجب كإكرامه حياً، وإهانته منهي عنها، كما في الحياة. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لم يقارف)) ((نه)): في الحديث ((رجل قرف علي نفسه))، أي كسبها، يقال: قارف الذنب وغيره إذا داناه، ولاصقة، وقرفه بكذا. أضافة إليه واتهمه به، وقارف امرأته إذا جامعها. وفي جامع الأصول: لم يقارف، أي لم يذنب ذنباً، ويجوز أن يريد به الجماع، فكنى عنه، وهو المعني في الحديث. أقول: مثله في الكناية قوله تعالي: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلي نسائكم} وكان من عادة أدب القرآن أن يكنى عن الجماع باللمس، والقربان؛ لبشاعة التصريح، فعكس فكنى عن

1716 - وعن عمرو بن العاص، قال لابنه وهو في سياق الموت: إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستانس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم. 1717 - وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا مات أحدكم فلا تحسبوه، وأسرعوا به إلي قبره، وليقرأ عند رأسه فاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة البقرة)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: والصحيح أنه موقوف عليه. [1717] 1718 - وعن ابن أبي مليكة، قال: لما توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي، وهو موضعٌ، فحمل إلي مكة فدفن بها، فلما قدمت عائشة، أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: ـــــــــــــــــــــــــــــ الجماع بالرفث وهو أبشع. تقبيحاً لفعلهم لينزجروا عنه، لذلك كنى في الحديث عن المباح بالمحظور؛ ليصون جانب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ينبئ عن الأمر المستهجن. وتخصيص الليلة [بالعهد] بالذكر لتجدد عهد المباشرة. فإن قلت: لم لا يحمل الاقتراف علي التصريح؟ قلت: لأن الكناية أبلغ، فإذا نفي المباح أو المندوب، كان أنفي للمحظور وأرعى لصيانة جلالة محل بنت نبى الله صلي الله وعليه وسلم. الحديث الثانى عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((في سياق الموت)) السوق النزع، والسياق أيضاً، وأصله: سواق، فقلبت الواو ياء لكسرة السين، وهما مصدران من ساق يسوق. قوله: ((فشنوا علي التراب)) ((نه)): الشن: الصب في سهولة، و ((شنوا علي التراب)) أي ضعوه وضعاً سهلاً. الحديث الثالث إلي السادس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((بفاتحة البقرة)) لعل تخصيص فاتحة البقرة لاشتمالها علي مدح كتاب الله، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بالخلال الحميدة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وخاتمتها لاحتوائها علي الإيمان بالله وكتبه ورسله، ولإظهار الاستكانة، وطلب الغفران والرحمة، والتولي إلي كنف الله تعالي وحمايته؛ ولذلك جعل مكثه غير مقبور منعاً له من كرامته، وحبساً من موطن عزه، وإليه الإشارة بقوله: ((لا تحبسوه وأسرعوا به)).

وكنا كندمإني جذيمة حقبة ... من الدهر، حتى قيل: لن يتصدعا فلما تفرقنا، كإني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلةً معا ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك. رواه الترمذي. [1718] 1719 - وعن أبي رافع، قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً ورش علي قبره ماء. رواه ابن ماجه. [1719] 1720 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي علي جنازة، ثم أتى القبر فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثاً. رواه ابن ماجه. [1720] 1721 - وعن عمرو بن حزم، قال: رإني النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً علي قبرٍ، فقال: ((لا تؤذ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه)). رواه أحمد. [1721] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)) قال محمد بن أحمد [المروزى]: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرأوا بفاتحة الكتاب، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر؛ فإنه يصل إليهم. والمقصود من زيارة القبور للزائر الاعتبار، وللمزور الانتفاع بدعائه، ذكره في الأذكار. الحديث السابع عن ابن أبي مليكة: قوله: ((بالحبشى)) وفي ((النهاية)) للجزرى: هو بضم الحاء وسكون الباء وكسر الشين والتشديد، موضع قريب من مكة. قال الجوهرى: هو جبل بأسفل مكة، وجذيمة هذا كان ملكه بالعراق والجزيرة، وضم إليه العرب، وهو صاحب الزباء. والحقبة- بالكسر- السنة، وجمعه حقب، والحقب- بالضم- ثمانون سنة. وقيل: أكثر. والتصدع: التقطع والتفرق، يقال: صدعت الرداء صدعاً إذا شققته. وقولها: ((لو حضرتك)) أي لو شهدت وفاتك ودفنك، منعت أن تنقل ودفنتك حيث مت، ولو دفنت حيث أنت فيه الآن وقد حضرت وفاتك ما زرتك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور.

(7) باب البكاء علي الميت

(7) باب البكاء علي الميت الفصل الأول 1722 - عن أنس، قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أبي سيف القين، وكان ظئراً لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا بن عوف! إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)). متفق عليه. 1723 - وعن أسامة بن زيد، قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه: أن ابناً لي ـــــــــــــــــــــــــــــ باب البكاء علي الميت الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ظئراً لإبراهيم)) ((نه)): الظئر المرضعة غير ولدها، ويقال للذكر أيضاً. ((فا)): المظأرة عطف الناقة علي غير ولدها، يقال: ظأرها وأظأرها، وهي ظئور وظئير. قوله: ((يجود بنفسه)) ((نه)): أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به. قوله: ((تذرفان)) ((نه)): ذرفت العين تذرف إذا جرى دمعها. وقوله: ((وأنت يا رسول الله)) فيه معنى التعجب، والواو تستدعى معطوفاً عليه، أي الناس لا يصبرون علي المصائب، ويتفجعون، وأنت تفعل كفعلهم، أي لا ينبغى لك أن تتفجع، كأنه استغرب ذلك منه؛ لأنه يدل علي ضعف النفس، والعجز عن مقاومة المصيبة بالصبر، يخالف ما عهده منه من الحث علي الصبر، والنهي عن الجزع. وأجاب عنه بقوله: ((إنها رحمة)) أي الحالة التي تشاهدها منى يا بن عوف رقة ورحمة علي المقبوض، تنبعث عن التأمل فيما هو عليه، لا فيما توهمت من الجزع وقلة الصبر. وقوله: ((ثم أتبعها بأخرى)) قيل: يحتمل أن يتبع الدمعة الأولي بالأخرى، وأن يتبع الكلمة المذكورة وهي ((إنها رحمة)) بكلمة أخرى وهي ((إن العين تدمع والقب يحزن))؛ فإن الفاء في قوله: ((فقال)) للتعقيب. ويحتمل أن يكون قوله: ((إنها رحمة)) كلمة مجملة فعقبها بالتفصيل، وهي قوله: ((إن العين تدمع، والقب يحزن)) وينصر هذا التأويل قوله في الحديث الآتي: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)) أي الدمعة التي تراها العين أثر رحمة جعلها الله في قلوب عباده. الحديث الثاني عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((قبض)) ((نه)): قبض المريض إذا توفي، وإذا

قبض فأتنا. فأرسل يقرئ السلام، ويقول: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)). فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد ابن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)). متفق عليه. 1724 - وعن عبد الله بن عمر، قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلي الله وعليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، ـــــــــــــــــــــــــــــ أشرف علي الموت، أرادات. أنه في حال القبض ومعالجة النزع. قوله: ((وكل عنده)) أي كل من الأخذ والإعطاء عند الله مقدر مؤجل؛ فـ ((ما)) في ((ما أخذ، وما أعطى)) يحتمل أن تكون مصدرية، وموصولة. والعائد محذوف. قوله: ((فلتصبر ولتحتسب)) يجوز أن يكون أمراً للغائب المؤنث أو الحاضر علي قراءة من قرأ ((فبذلك فلتفرحوا)) فعلي هذا المبلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلفظ به في الغيبة، والمراد بالاحتساب أن يجعل الولد في حسابه لله تعالي: فيقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، وهو معنى قوله سابقاً: ((إن لله ما أعطى، وله ما أخذ)). قوله: ((تقعقع)) ((نه)): أي تضطرب وتتحرك، والقعقعة حكاية حركة لشيء يسمع له صوت، كالسلاح والشن اليابس. وقوله: ((إنما يرحم الله)) يعني هذا تخلق الله تعالي، وإنما يرحم الله من عباده من اتصف بأخلاقه، ويرحم من عباده. ((من)) في ((من عباده)) بيإنية، حال من المفعول، وهو ((الرحماء)) قدمها إجمالاً وتفصيلاً ليكون أوقع. الحديث الثالث عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((في غاشية)) ((تو)): هي الداهية من شر، أو مرض، أو مكروه. والمراد بها هاهنا: ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي به لا حال الموت؛ لأنه برأ من ذلك المرض. ((خط)): أراد بالغاشية القوم الحضور عنده الذين هم غاشية، أي يغشونه للخدمة والزيارة. ((مح)): قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) وفي رواية ((ببعض بكاء أهله)) وفي رواية ((ببكاء الحي)) وفي رواية ((يعذب في قبره بما نيح عليه)) وفي رواية ((من يبك عليه يعذب)). وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وأنكرت عائشة رضي الله عنها، ونسبتهما إلي النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن

فلما دخل عليه وجده في غاشية، فقال: ((قد قضى؟)) قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأي القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا)) وأشار إلي لسانه ((أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله)). متفق عليه. 1725 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا دعوى الجاهلية)). متفق عليه. 1726 - وعن أبي بردة، قال: أغمي علي أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق، فقال: ألم تعلمي؟! وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق)). متفق عليه. ولفظه لمسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون ذلك من قول النبي صلي الله وعليه وسلم، واحتجت بقوله تعالي: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قالت: وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية: ((إنها تعذب وهم يبكون عليها)) يعنى تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها، لا بسبب البكاء. واختلف العلماء فيه، ذهب الجمهور إلي أن الوعيد في حق من أوصى بأن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحتهم؛ لأنه بسببه. وأما من بكوا عليه وناحوا من غير وصية، فلا؛ لقوله تعالي: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ((خط)): يشبه أن يكون هذا من حيث أن العرب كانوا يوصون أهاليهم بالبكاء والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إليهم في وقت حياته. وقيل: المراد بالميت من أشرف علي الموت، وبالتعذيب أنه إذا حضره الموت، والناس حوله يصرخون ويتفجعون، فيزيد كربه وتشتد عليه سكرات الموت، فيصير معذباً به، فيكون ذلك حالا لا سبباً، أي أنه ليعذب عن بكائهم عليه، لا ببكائهم عليه. وهذا الوجه ضعيف؛ وهذا لما في رواية ((ببكاء الحى))، وفي رواية ((يعذب في قبره بما نيح عليه)). الحديث الرابع، والخامس عن أبي بردة رضي الله عنه: قوله: ((تصيح برنة)) ((مح)): هي بفتح الراء وتشديد النون، وهي صوت مع البكاء فيه ترجيع. قوله: ((وكان يحدثها)) حال، والعامل ((قال)) ومفعول ((ألم تعلمى)) مقول القول، يعنى ألم تعلمى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا برئ))؟

1727 - وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) وقال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتنازعا فيه. قوله: ((حلق)) أي حلق شعره عند المصيبة. ((وصلق)) ((نه)): هو الصوت الشديد يريد رفعه في المصائب، وعند الفجيعة بالموت، ويدخل فيه الموت. ويقال بالسين. و ((خرق)) أي شق ثوبه علي المصيبة، وكان ذلك في أغلب الأحوال من صنيع النساء. الحديث السادس عن أبي مالك: قوله: ((في أمتي، ومن أمر الجاهلية، ولا يتركونهن)) يحتمل وجوهاً من الإعراب أحسنها: أن يكون ((في أمتي)) خبراً لـ ((أربع)) أي خصال أربع كائنة في أمتي. ((ومن أمر الجاهلية، ولا يتركونهن)) حالان من الضمير المتحول إلي الجار والمجرور، المعنى: أن هذه الخصال تدوم في الأمة لا يتركونهن بأسرهم تركهم لغيرها من سنن الجاهلية، فإنهم إن تركهن طائفة باشرهن آخرون. قوله: ((الفخر في الأحساب)) قال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن لآبائه شرف، والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء. ((فا)): الفخر بها هو تعداد الرجل من مآثره ومآثر الآباء، ومنه قولهم: من فات حسب نفسه لم ينتفع بحسب أبيه. ((مظ)): الطعن: العيب، وما هو أن يحقر آباء غيره، ويعظم آباءه، اللهم إلا بالإسلام والكفر. أقول: ويجوز أن يكني بالطعن في أنساب الغير عن الفخر بنسب نفسه، فيجتمع له الحسب والنسب، وأن يحمل علي الطعن في نسب نفسه، أن يقال: لي حسب؛ [والأدردفي] النسب، قال: إنا بنى نهشل ... لا ندعى لأب والاستقساء بالنجوم: طلب السقيا، وتوقع الأمطار عند وقوع النجوم والأنواء، كما كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا. قوله: ((قبل موتها)) أي قبل حضور موتها. ((تو)): إنما قيد ليعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب وهو يأمل البقاء، ويتمكن من تأتى العمل الذي يتوب منه، ومصداق ذلك قوله تعالي: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهو كفار}. وقوله: ((تقام)) يحتمل أنها تحشر، ويحتمل أنها تقام علي تلك الحالة بين أهل النار وأهل الموقف، جزاء علي قيامها في المناحة. وهو الأمثل.

1728 - وعن أنس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: ((اتقى الله واصبري)). قالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولي)). متفق عليه. 1729 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ودرع من جرب)) الدرع قميص النساء، والسرابيل أيضاً قميص لكن لا يختص بهن، يعني يسلط علي أعضائها الجرب والحكة، فتطلي مواقعه بالقطران ليداوى، فيكون الدواء أدوى من الداء؛ لاشتماله علي درع القطران، وحرقته، إسراع النار في الجلود، واللون الوحش، ونتن الريح. والقطران: ما يتجلب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف. ((تو)): خصت درع الجرب؛ لأنها كانت تخرج بكلماتها المرقة قلوب ذوات المصيبات وتحرك بها بواطنهن، فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، وخصت أيضاً بسرابيل من قطران؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود في المآتم، فألبسها الله السراويل لتذوق وبال أمرها. فإن قلت: ذكر الخلال الأربع، ولم يرتب عليها الوعيد سوى النياحة، فما الحكمة فيه؟ قلت: النياحة مختصة بالنساء، وهن لا ينزجرن من هجيراهن انزجار الرجال، فاحتجن إلي مزيد الوعيد. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اتقي الله)) توطئه لقوله: ((واصبري)) كأنه قيل: لا تجزعي وخافي غضب لله، واصبري حتى تثأبي، فكان من جوابها ((إليك عني)) أي تنح عني، وباعدني. وفائدة قوله: ((فلم تجد عنده بوابين)) أنها حين قيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها، فتصورت أن نبى الله صلى الله عليه وسلم كمثل الملوك والعظماء، له حاجب يمنع الناس من الوصول إليه، فقالت معتذرة: اعذرني من تلك الردة وخشونتها، فكان ظاهر الجواب غير ما ذكر من قوله: ((الصبر عند الصدمة الأولي)) ولكن أخرجه مخرج الأسلوب الحكيم، أي دعي الاعتذار مني، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا الله، وانظري إلي تفويتك من نفسك الثواب الجزيل، والكرامة، والفضل من الله تعالي بالجزع وعدم الصبر عند فجاءة الفجيعة. ((نه)): الصدم: ضرب الشيء الصلب بمثله، المعنى: الصبر عند قوة المصيبة وشدتها يحمد ويثاب عليه؛ لأنه إذا طالت الأيام فيصير الصبر طبعاً فلا يؤجر عليه. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيلج النار إلا تحلة)) ((شف)): إنما

1730 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه، إلا دخلت الجنة)). فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: ((أو اثنان)). رواه مسلم. وفي رواية لهما: ((ثلاثة لم يبلغوا الحنثَ)). ـــــــــــــــــــــــــــــ تنصب الفاء الفعل المضارع بتقدير ((أن)) إذا كان بين ما قبلها وما بعدها سببية، ولا سببية ههنا، إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سبباً لولوج أبيهم النار، فالفاء بمعنى الواو الذي للجمعية، وتقديره: لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من أولاده وولوجه النار. ونظيره ما ورد ما من عبد يقول في صبح كل يوم ومساء كل ليلة: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم)) فيضره شيء بالنصب، وتقديره: لا يجتمع قول عبد هذه الكلمات في هذه الأوقات ومضرة شيء إياه. أقول: إن كانت الرواية علي النصب، فلا محيد عن ذلك، والرفع يدل علي أنه لا يوجد ولوج النار عقيب موت الأولاد إلا مقداراً يسيراً. ومعنى وفاء التعقيب كمعنى الماضي في قوله تعالي: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} في أن ما سيكون بمنزلة الكائن، وأن ما أخبره الصادق عن المستقبل كالواقع. قوله: ((تحلة القسم)) التحلة: مصدر كالتعزة، بمعنى التحليل. ((نه)): أراد بالتحلة {وإن منكم إلا واردها كان علي ربك حتماً مقضياً} كما يقال: ضربته تحليلاً، إذا لم يبالغ في ضربه، وهو مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه. ((تو)): قيل: القسم يضمر بعد قوله: ((وإن منكم إلا واردها)) أي وإن منكم والله إلا واردها. وقيل: موضع القسم مردود إلي قوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين}. أقول: لعل المراد بالقسم ما دل علي القطع والبت من الكلام؛ فإن قوله تعالي: ((كان علي ربك حتماً مقضياً)) تذييل وتقرير لقوله: ((وإن منكم إلا واردها)) فهو بمنزلة القسم، بل هو أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات، ولفظة ((كان))، و ((علي)) وتأكيد الحتم بالمقضي. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فتحتسبه)) أي فتصبر راجية لرحمة الله وغفرانه، ليست هذه الفاء كما في ((فيلج)) بل هي للتسبيب للموت، وحرف النفي منصب علي السبب والمسبب معاً. قوله: ((أو اثنان)) عطف علي قوله: ((ثلاثة)) أي قل يا رسول الله: أو اثنان، ونظيره قوله

1731 - وعنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)). رواه البخاري. الفصل الثانى 1732 - عن أبي سعيد الخدري. قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة. رواه أبو داود. [1732] 1733 - وعن سعد بن أبي وقاص [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجب للمؤمن: إن إصابة خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى في اللقمة يرفعها إلي في امرأته)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1733] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي حاكياً عن إبراهيم: ((ومن ذريتي)) فإنه عطف علي الكاف في قوله تعالي: ((إني جاعلك للناس إماماً)). قوله ((لم يبلغوا الحنث)) ((نه)): أي لم يبلغوا مبلغ الرجال، ويجرى عليهم القلم، فيكتب عليهم الحنث وهو الإثم. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صفيه)) ((نه)): صفي الرجل الذي يصافيه الود ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل، أو مفعول. وإنما قيد بـ ((أهل الدنيا))؛ ليؤذن بأن الصفاء إذا كان من أهل الآخرة، كان جزاؤه وراء الجنة، وهو رضوان الله، ورضوان من الله أكبر. الفصل الثانى الحديث الأول والثانى عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((عجب للمؤمن)) أصله أعجب عجباً، فعدل عن النصب إلي الرفع للثبات، كقولك: سلام عليك. وقوله: ((إن أصابه)) إلي آخره بيان للتعجب. قوله: ((حمد الله وصبر)) ((مظ)): وتحقيق الحمد عند المصيبة؛ لأنه يحصل بسببه ثواب عظيم، وهو نعمة يستوجب الشكر عليها. أقول: وتوضيحه قول القائل: فإن مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضر أعقبه الأجرا ويحتمل أن يراد بالحمد الثناء علي الله تعالي بقوله: ((إنا لله وإنا إليه راجعون)). قوله: ((فالمؤمن يؤجر)) الفاء جزاء شرط مقدر، يعنى إذا أصابته نعمة فحمد أجر، وإذا

1734 - وعن أنس، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِنْ مُؤمنٍ إِلاَّ وله بابان: بابٌ يصعَدُ منه عملُه، وبابٌ ينزلُ منه رِزقُه. فإِذا ماتَ بكيَا عليهِ، فذلكَ تولُه تعالي: {فما بكتْ عليهمُ السماء والأرضُ})). رواه الترمذيُّ. [1734] 1735 - وعن ابن عباسٍ، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له فرطانِ منْ أمَّتي أدخلَه الله بهما الجنة)). فقالت عائشةُ: فمنْ كان له فرط من أُمَّتِكَ؟ قال: ((ومن كان له فرطٌ يامُوفَّقة!)) فقالت: فمن لم يكن له فرطٌ من أمتك؟ قال: ((فأنا فرط أمَّتي، لن يُصابوا بمثلي)). رواه الترمذيُّ، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ. [1735] ـــــــــــــــــــــــــــــ أصابته مصيبة فصبر أجر، فهو مأجور في كل أموره الدينية - حتى الشهوإنية - ببركة إيمانه، وإذا قصد بالنوم زوال التعب للقيام إلي العبادة عن نشاط وفرح كان النوم طاعة، وعلي هذا الأكل وجميع المباحات. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه قوله: ((فما بكت عليهم السماء والأرض)) ((الكشاف)): هذا تمثيل وتخييل، مبالغة في فقدان من درج وانقطع خبره، وكذلك ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلي المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل. ونفي ذلك في قوله تعالي: ((فما بكت عليهم السماء والأرض)) تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فرطان)) قيل: الفرط - بالتحريك من يتقدم القافلة، فيطلب الماء والمرعى، ويهيء لهم ما يحتاجون إليه في المنزل. فعل بمعنى فاعل، يستوى فيه الواحد والجمع، مثل تبع وتابع، المعنى: أن الطفل المتوفي يتقدم والديه، فيهيء لهما في الجنة منزلا ونزلا، كما يتقدم فُرّاط القافلة ويعدون لهم ما يفتقرون إليه من الأسباب، ويعينون لهم المنازل. قوله: ((يا موفقة)) يعني وفقك الله علي السؤال حين تفضل علي العباد، ويسهِّل عليهم بحصول ذلك المعنى من ولد واحد، وحتى تفضل علي من لا ولد له بفرط مثلي، ونعم الفارط أنا. قوله: ((لن يصابوا بمثلي)) وأنشدت فاطمة الزهراء رضي الله عنها. ماذا علي من شم تربة أحمد أن لايشم مدى الزمان غواليا صبَّت علي مصائب لو أنها صبَّت علي الأيام عدن لياليا

1736 - وعن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا مات ولدُ العبد، قال الله تعالي لملائكته: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولونَ: نعم. فيقولُ: قبضتم ثمرةَ فُؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقولُ: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنو لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد)). رواه أحمدُ، والترمذيُّ. [1736] 1737 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عزى مصابًا، فله مثل أجره)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث علي بن عاصم الراوي، وقال: ورواه بعضُهم عن محمد ابن سوقة بهذا الإسناد موقوفًا. [1737] 1838 - وعن أبي برزة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عزى ثكلي كُسيّ بُردًا في الجنَّة)). رواه الترمذيُّ، وقال: هذا حديثٌ غريب. [1738] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي موسى: قوله: ((قبضتم ولد عبدي)) مرجع السؤال إلي تنبيه الملائكة علي ما أراد الله سبحانه من التفضل علي عبده الحامد؛ لأجل تصبره علي المصائب، وعدم تشكيه، بل إعداده إياها من جملة النعماء التي يستوجب الشكر عليها ثم استرجاعه، وأن نفسه ملك الله وإليه المصير في العاقبة، قال أولا: ((ولد عبدي))، أي فرع شجرته، ثم ترقى إلي ((ثمرة فؤاده)) أي نقاوة خلاصته؛ فإن خلاصة الإنسان الفؤاد، والفؤاد إنما يعتد به لما هو مكان اللطيفة التي خلق لها، وبها شرفه وكرامته، فحقيق لمن فقد مثل تلك النعمة الخطيرة، ويلقاها بمثل ذلك الحمد، أن يكون محمودًا حتى المكان الذي يسكن فيه، فلذلك سمي بيت الحمد. الحديث السادس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((من عزَّى مصابًا)) ((نه)): التعزى: الانتماء والانتساب إلي القوم، والعز أو العزوة اسم لدعوى المستغيث، وقيل: التعزي التآسي والتصبر عند المصيبة، أن يقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون)). ويقول المعزِّي: أعظم الله جزاءك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك. الحديث السابع عن أبي برزة: قوله: ((ثكلي)) الثكل: فقد الولد، يقال: امرأة ثاكل، وثكلي، ورجل ثاكل، وثكلان.

1739 - وعن عبد الله بن جعفرٍ، قال: لما جاء نعيُ جعفرٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصنَعوا لآل جعفرٍ طعامًا، فقد أتاهُم ما يشغلُهم)). رواه الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه. الفصل الثالث 1740 - عن المغيرة بن شعبةَ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((منْ نيحَ عليه، فإنه يعذَّبُ بما نيحَ عليه يوم القيامة)). متفق عليه. 1741 - وعن عمرَةَ بنت عبد الرحمن، أنها قالتْ: سمعتُ عائشةَ، وذُكرَ لها أنَّ عبد الله بن عمر يقولُ: إنَّ الميتَ ليعذبُ ببكاء الحي عليه، تقولُ: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب؛ ولكنَّه نسيَ أو أخطأ، إنَّما مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علي يهودية يُبكى علَيها، فقال: ((إنَّهم ليبكون عليها وإنها لتُعذَّبُ في قبرها)). متفق عليه. [1741] 1742 - وعن عبد الله بن أبي مليكةَ، قال: توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة، فجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، فإني لجالسٌ بينهما، فقال عبد الله بنُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عبد الله: قوله: ((نعى جعفر)) ((نه)): يقال: نعى الميت ينعاه نعيًا ونعيًا، إذا أذع موته، وأخبر به وإذا ندبه. الفصل الثالث الحديث الأول من المغيرة: قوله: ((بما نيح عليه)) الباء يجوز أن تكون سببية، و ((ما)) مصدرية، وأن يكون الجار والمجرور حالا، و ((ما)) موصولة، أي يعذب ملتبسًا بما ندب عليه من الألفاظ: يا جبلاه، يا كهفاء، ونحوهما علي سبيل التهكم، ويعضده حديث النعمان، وسيأتي عن قريب. الحديث الثاني عن عمرة: قوله: ((تقول: يغفر الله)) حال من مفعول ((سمعت)). وقوله: ((وذكر لها) إلي آخره يحتمل أن يكون حالا من المفعول والفاعل. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((فإني لجالس)) والظاهر أن يقال: وإني لجالس، ليكون

عمرَ لعمرو بن عثمان وهو مواجهُه: ألا تَنهي عن البُكاءِ؟ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الميت ليُعذَّبُ ببكاء أهله عليه)). فقال ابن عباس: قد كان عمرُ يقولُ بعض ذلك. ثم حدثَ، فقال: صدرتُ مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء، فإذا هو بركب تحت ظل سمرةٍ، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرتُ، فإذا هو صهيبٌ. قال: فأخبرته، فقال: ادعُه، فرجعت إلي صهيبٍ، فقلتُ: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلمَّا أن أصيب عمرُ دخل صُهيبٌ يبكي، يقول: واأخاه، واصاحباهُ. فقال عمر: يا صهيبُ! أتبكي عليّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الميت ليُعذَّبُ ببكاء أهله عليه))؟. فقال ابن عباس: فلمَّا مات عمرُ ذكرتُ ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمرَ، لا والله ما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الميتَ ليُعذَّبُ ببكاءِ أهله عليه؛ ولكن: إنَّ الله يزيدُ الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه. وقالت عاثشةُ: حسبُكم القرآنُ: (ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى). قال ابن عباس عند ذلكَ: والله أضحك وأبكي. قال ابن أبي مليكةَ: فما قال ابنُ عمر شيئًا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حالأ، والعامل ((حضر)) والفاء تستدعي الاتصال؛ لقوله: ((فجئنا لنشهدها)). قوله: ((ويرحم الله عمر)) من الآداب الحسنة علي منوال قوله تعالي: ((عفا الله عنك لم أذنت لهم)) فاستغربت من عمر ذلك القول، فجعلت قولها: ((ويرحم الله عمر)) تمهيدًا، ودفعًا لما يوحش من نسبته إلي الخطأ. قوله: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) الوزر والوقر أخوان، وزر الشيء إذا حمله. والوزارة صفة للنفس. والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما يأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي، والجارَ بالجارِ. قوله: ((والله أضحك وأبكى)) تقرير لنفي ما ذهب إليه ابن عمر من أن الميت يعذب ببكاء الأهل. وذلك: أن بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله، يظهرها فيه، فلا أثر لها في ذلك، فعند ذلك سكت ابن عمر، وأذعن. فإن قلت: كيف لم يؤثر ذلك في حق المؤمن، وقد أثَّر في حق الكافر؟ قلت: المؤمن الكامل لا يرضى بالمعصية مطلقًا، سواء صدرت منه أو من غيره، بخلاف الكافر. ومن ثم قالت الصديقة رضي الله عنها: ((حسبكم القرآن)) أي كافيكم أيها المؤمنون من القرآن هذه الآية ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) أنها في شأنكم، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله)) في شأن الكفار. وفيه أن المؤمن

1743 - وعن عائشة، قالت: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلسَ يُعرَفُ فيه الحزنُ، وأنا أنظُرُ من صائر الباب - تَعني شقِّ الباب - فأتاهُ رجلٌ فقال: إنَّ نساء جعفرٍ، وذكر بكاءهنَّ، فأمرَهُ أن ينهاهُنَّ، فذهب، ثمَّ أتاهُ الثانيةَ لم يُطِعْنَهُ، فقال: ((انههُنَّ))، فأتاهُ الثالثةَ، قال: والله غلبننا يارسولَ الله! فزعمتُ أنه قال: ((فاحثُ في أفواههِنَّ التراب)) فقلت: أرغَمَ اللهُ أنفكَ، لم تفعل ما أمركَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من العناءِ. متفق عليه. 1744 - وعن أمِّ سلمةَ، قالت: لما ماتَ أبو سلمة قلت: غريبٌ، وفي أرض غربةٍ، لأبكينَّه بكاءً يُتحدَّثُ عنه فكنتُ قد تهيَّأتُ للبكاء عليه، إِذْ أقبلتِ امرأةٌ تريد أن ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا رضي به، فلا يؤمن عليه. ولما كان الغالب علي الفاروق الخوف، وكان حازمًا، والحزم كما ورد سوء الظن، خاف علي نفسه، فقال ما قال، وأصاب المحز، والصديقة رضي الله عنها لمحت إلي مقام الرجاء وحسن الظن بالمؤمنين، فطبقت المفصل. ((ولكل وجهة هو موليها)) والله أعلم. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يعرف فيه الحزن)) حال، أي جلس حزينًا، وعدل إلي قوله: ((يعرف)) ليدل علي أنه صلى الله عليه وسلم كظم الحزن كظما، وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جِبلَّة البشرية. قوله: ((من صائر الباب)) أي زى صير كلابن وتامر. وفي الحديث: ((من اطلع صير باب فقد دمر)) أي من شقه فدخل. قوله: ((وذكر بكاءهن)) حال عن المستتر في ((فقال)) وحذفت رضي الله عنها خبر ((إن)) من القول المحكي عن جعفر بدلالة الحال، يعني قال ذلك الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا، مما حظره الشرع من البكاء الشنيع، والنياحة الفظيعة، إلي غير ذلك. قوله: ((لم يطعنه)) حكاية لمعنى قول الرجل، أي فذهب ونهاهن، تم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((نهيتهن فلم يطعنني)) يدل عليه قوله في المرة الثالثة. ((والله غلبننا)). وقوله: ((زعمت)) أي ظننت. ((مج)): الزعم يطلق علي القول المحقق، وعلي الكذب، والمشكوك فيه، وينزل في كل موضع علي ما يليق به. قوله: ((فقلت)) أي قالت عائشة للرجل: آذاك الله، فإنك آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كففتهن عن البكاء. الحديث الخامس عن أم سلمة: قوله: ((غريب)) لأنه كان مكيًا ومات بالمدينة، وقوله:

تُسعدَني*، فاستقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتريدينَ أن تُدخلي الشيطان بيتًا أخرجَهُ الله منه؟!)) مرتين، وكففت عن البكاء فلم أبكِ. رواه مسلم. 1745 - وعن النُّعمان بن بشيرٍ، قال: أُغمِي علي عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرةُ تبكي: واجبلاه! واكذا! واكذا! تُعدِّد عليه، فقالَ حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيلَ لي: أنت كذلك؟ زاد في روايةٍ: فلمَّا ماتَ لم تبكِ عليه. رواه البخاري. 1746 - وعن أبي موسى، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما مِنْ ميتٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ ((لأبكينه)) جواب قسم محذوف، والفاء متصلة بقوله: ((قلت)) أي قلت عقيب ما تهيأت للبكاء. ولا يجوز أن يتصل بالمقول إلا مع الواو ليكون حالاً. قوله: ((أخرجه الله منه مرتين)) يحتمل أن يراد بالمرة الأولي يوم دخوله في الإسلام، وبالثانية يوم خروجه من الدنيا مسلمًا. وأن يراد به التكرير، أي أخرجه الله تعالي إخراجًا بعد إخراج؛ كقوله تعالي: ((ثم ارجع البصر كرتين)) وقوله تعالي في وجه ((الطلاق مرتان)) أي مرة بعد مرة. وقوله: ((وكففت)) معطوف علي محذوف، أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فانزجرت وكففت. الحديث السادس عن النعمان: قوله: ((واجبلاه)) حال، والقول محذوف، أي تبكى قائلة واجبلاه، توطئة لها كقوله تعالي: ((لسانًا عربيًا)). قوله: ((قيل لي كذلك)) أي لما قلت ((واجبلاه)) أي أنت كذا، أي جبل كهف يلجأون إليك، علي سبيل الوعيد والتهكم، كما في قوله تعالي: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)). هذا الحديث ينصر مذهب عمر رضي الله عنه في حديث عبد الله بن أبي مليكة. الحديث السابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((ما من ميت يموت)) هو كقول ابن

يموت فيقومُ باكيهِم فيقول: واجبلاه! واسيداه! إِلا وكَّل اللهُ به ملكين يلهزانِه، ويقولان: أهكذا كنت؟)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ حسن. 1747 - وعن أبي هريرةَ، قال: ماتَ ميِّتٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع النساءُ يبكينَ عليه، فقامَ عمرُ ينهاهُنَّ ويطردُهُنَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعهنَّ فإنَّ العين دامعةٌ، والقلب مصاب، والعهد قريب)). رواه أحمدُ، والنسائيُّ. [1747] 1748 - وعن ابن عباس، قال: ماتت زينبُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل عمرُ يضربهُنَّ بسوطِهِ، فأخرَّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يبدهِ، وقال: ((مهلا ياعمر!)) ثمَّ قال: ((إياكن ونعيق الشيطان)) ثمَّ قال: ((إنهُ مهما كان من العين ومن القلب؛ فمن الله عزَّ وجلَّ ومن الرحمة، وما كانَ من اليدِ ومن اللسانِ؛ فمن الشيطان)). رواه أحمد. [1748]. ـــــــــــــــــــــــــــــ عباس رضي الله عنهما: ((يمرض المريض، ويضل الضالة)) فسمى المشارف للموت والمرض والضلال، ميتًا ومريضًا وضالة، وهذه الحالة هي الحالة التي ظهرت علي عبد الله بن رواحة، قوله: ((يلهزانه)) ((نه)): أي يدفعانه ويضربانه، واللهز: الضرب بجمع الكف في الصدر، ولهزه بالرمح إذا طعنه به. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب)) وكان من الظاهر أن يعكس؛ لأن قرب العهد مؤثر في القلب بالحزن، والحزن مؤثر في البكاء، لكن قدم ما يشاهد، ويستدل به علي الحزن الصادر من قرب العهد. وفيه أنهن لم يكن يردن علي البكاء النياحة والجزع. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي انه عنهما: قوله: ((مهلا)) مصدر، عامله محذوف. الجوهرى: المهل – بالتحريك - التؤدة والتباطؤ، يقال: مهّلته وأمهلته، أي سكّتنه وأخرته. ومهلا يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث. قوله: ((نعيق الشيطان)) ((نه)): يقال: نعق الراعى بالغنم ينعق نعيقًا فهو ناعق إذا دعاها لتعود إليه. و ((مهما)) حرف الشرط، تقول: مهما يفعل أفعل. قيل: إن أصلها ((ما ما)) فقلبت الألفة الأولى هاء، ومحله رفع، بمعنى أيما شيء كان من العين، فمن الله.

1749 - وعن البخاري تعليقًا، قال: لما مات الحسنُ بن الحسنُ بن علي ضربت امرأتهُ القبَّةَ علي قبره سنةٌ ثم رفعَتْ، سمعت صائحًا يقول: الأهل وجدوا مافقدوا؟ فأجابهُ آخر: بل يئسِوا فانقلبوا. 1750 - وعن عمران بن حصينٍ، وأبي برزة، قالا: خرجنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ، فرأي قومًا قد طرحوا أرديتهم يمشون في قُمُص، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أبفعلِ الجاهليَّة تأخُذون؟ أو بصنيع الجاهلية تشبَّهون؟ لقد هممْتُ أن أدعو عليكم دعوة ترجعونَ في غير صوركم)). قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك. رواه ابن ماجه. [1750] 1751 - وعن ابن عمرَ، قال: نهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُتَّبعَ جنازةٌ معهد رانَّةٌ. رواه أحمد، وابن ماجه. [1751] ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: نسبة الدمع من العين، والقول من اللسان، والضرب باليد إن كان من طريق الكسب، فالكل يصح من العبيد، وإن كان من طريق التقدير، فمن الله، فما وجه اختصاص البكاء بالله؟ قلت: الغالب في البكاء أن يكون محمودًا، فالأدب أن يسند إلي الله تعالي، بخلاف قول الخنا والضرب باليد عند المصيبات، فإن ذلك مذموم. الحديث العاشر عن البخاري: قوله: ((هل وجدوا ما فقدوا؟)) أي هل نفعها ضرب القبة، وإقامتها فيها سنة، بأن عاش الميت؟ فأجاب الآخر: لا، بل يئست، فانقلبت إلي أهلها خائبة. الحديث الحادى عشر عن عمران: قوله: ((في قمص)) حال متداخلة؛ لأن ((يمشون)) حال من الواو في ((طرحوا)) وهو من الواو في ((يمشون)). قوله: ((ترجعون)) ((غب)): الرجوع العود إلي ما كان منه البدء، أو تقدير البدء مكانًا كان أو فعلا أو قولا، وبذاته كان رجوعه، أو بجزء من أجزائه، أو بفعل من أفعاله؛ فالرجوع العود، والرجع الإعادة، والرجوع هاهنا ليس علي مقتضى وضعه. فيحمل الكلام إما علي تضمين الرجوع معنى صار، كما هو في قوله تعالي: ((أو لتعودُنَّ في ملتنا)) وقد يستعمل ((عاد)) من أخوات ((كان)) بمعنى صار، فلا يستدعي الرجوع إلي حالة سابقة بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال إلي حال مستأنفة. وإما أن

1752 - وعن أبي هريرة، أنَّ رجلا قالَ له: ماتَ ابنٌ لي فوجدت عليه، هل سمعت من خليلكَ صلواتُ الله عليه شيئًا يطيبُ بأنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، سمعتُهُ صلى الله عليه وسلم قال: ((صغارُهم دعاميصُ الجنَّة، يلقى أحدُهم أباهُ فيأخذُ بناحيةِ ثوبه، فلا يفارقه حتى يُدخلَهُ الجنَّة)). رواه مسلم، وأحمد واللفظُ له. 1753 - وعن أبي سعيد، قال: جاءت امرأةُ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله! ذهب الرجالُ بحديثكَ، فاجعل لنا من نفسكَ يومًا نأتيك فيهِ تعلّمنا مما علمكَ الله. فقال: ((اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا)). فاجتمعْنَ، فأتاهُنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فعلَّمهُنَّ مما علَّمَهُ الله، ثم قال: ((ما منكن امرأةٌ تقدِّمُ بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كانَ لها حجابًا من النار)) فقالت امرأةٌ منهنَّ: يارسولَ الله! أو اثنين؟ فأعادتها مرتين. ثم قال: ((واثنينِ واثنينِ واثنين)). رواه البخاري. 1754 - وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مامن مسلمينِ يُتوفي ـــــــــــــــــــــــــــــ تحمل الصورة علي الحالة والصفة، أي ترجعون إلي غير الفطرة كما كنتم عليه، وفيه تشديد عظيم، فإذا ورد في مثل أدنى تغيير من وضع الرداء عن المنكب هذا الوعيد البليغ، فكيف بما يشاهد من الناس؟. الحديث الثانى عشر، والثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رانة)) أي نائحة. ((نه)): الرنين: الصوت، وقد رن يرن رنينًا. وقوله: ((فوجدت عليه)) أي حزنت عليه. قوله: ((دعاميص الجنة)) ((نه)): هو جمع دعموص، وهي دويبة تكون في مسنتقع الماء، والدعموص أيضًا الدّخال في الأمور، أي أنهم سيّاحون في الجنة، دخّالون في منازلها، لا يمنعون من موضع، كما أن الصِّبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول علي المحرم ولا يحتجب منهم. الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ذهب الرجال بحديثك)) أي أخذوا نصيبًا وافرًا من مواعظك، واستصحبوك معهم، ولما استلزمت المحادثة والمذاكرة استصحاب الذاكر والواعظ المستمع وملازمته إياه، قلن: ((فاجعل لنا يومًا)) أي نصيبًا، إطلاقا للمحل علي الحال. ((ومن نفسك)) حال من ((يومًا)) و ((من)) ابتدائية، أي اجعل لنا من نفسك نصيبًا ما، تعلمنا في بعض الأيام لعلمنا إلي آخره. الحديث الخامس عشر عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((إياهما)) تأكيد للضمير المنصوب في ((أدخلهما)). قوله: ((بسرره)) ((نه)): هي ما تبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة. أقول: هذا تتميم ومبالغة للكلام السابق، ومن ثم صدره صلوات الله عليه بالقسم، أي إذا كان السقط الذي لا يؤبه به يجر الأم بما قد قطع من العلاقة بينهما، فكيف بالولد المألوف الذي هو فلذة الكبد؟.

لهما ثلاثةٌ، إلا أدخلهما اللهُ الجنة بفضل رحمتهِ إياهُما)) فقالوا: يا رسول الله! أو اثنان؟ قال: ((أو اثنان)). قالوا أو واحد؟ قال: ((أو واحد))، ثمَّ قال: ((والذي نفسي بيده إنَّ السقط ليجرُّ أمه بسرره إلي الجنَّةِ إذا احتسبتَهُ)). رواه أحمد، وروى ابن ماجه من قوله: ((والذي نفسي بيده)). [1754] 1755 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قدَّمَ ثلاثة من الولَدِ لم يبلُغوا الِحنثَ؛ كانوا له حصنًا حصينًا من النَّار)). فقال أبو ذَر: قدمت اثنين. قال: ((واثنين)) قال أبي بن كعب أبو المنذِرِ سيدُ القراءِ: قدمتُ واحدًا. قال: ((وواحِدًا)). رواه الترمذيّ، وابنُ ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [1755] 1756 - وعن قُرَّةَ المزَني: أنَّ رجلا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنٌ له. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتُحبُّه؟)) فقال: يا رسول الله! أحبَّك اللهُ كما أُحبُّه. ففقدَه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ((ما فعلَ ابنُ فلان؟)) قالوا: يا رسول الله! ماتَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا تُحِبُّ ألا تأتيَ بابًا من أبواب الجنَّةِ إلا وجدتَه ينتظرُك؟)) فقال رجل: يا رسول الله! له خاصَّة، أم لكلنا؟ قال: ((بل لكلِّكم)). رواه أحمد. [1756] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر عن عبد الله: قوله: ((فقال أبو ذر)) أي قال أبو ذر: يارسول الله، زد في البشارة، فإني قدمت اثنين، فزاد، وقال: ((اثنين)) أي ومن قدم اثنين. و ((أبو المنذر)) بدل من قوله: ((أبي بن كعب)) أو مدح خبر مبتدأ محذوف. الحديث السابع عشر عن قرة: قوله: ((إلا وجدته ينتظرك)) أي مفتحًا لك مهيئًا لدخولك، كما قال تعالي {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} فاستعير للفتح الانتظار مبالغة. الحديث الثامن عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إن السقط ليراغم ربه)) أي يحاج ويغاضب. هذا تخييل علي نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم! أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلي)) الحديث متفق عليه.

1757 - وعن عليّ [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ السقط ليُراغمُ ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه! أدخل أبويك الجنة، فيجرهما بسرره حتى يدخلهما الجنة)). رواه ابن ماجه. [1757]. 1758 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله، تبارك وتعالي: ابن آدم إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولي، لم أرض لك ثوابًا دون الجنة)). رواه ابن ماجه. 1759 - وعن الحُسين بن عليَّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلمٍ ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله تبارك وتعالي له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [1759]. 1760 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انقطعَ شِسْعُ أحدِكم فليسترجع، فإنه من المصائب)). [1760] 1761 - وعن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعتُ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إن الله تبارك وتعالي قال: يا عيسي! إني باعثٌ من بعدك أمة إذا أصابهم ما يُحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا عقل. فقال ياربّ! كيف يكون هذا لهم ولاحلم ولا عقل؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي)). رواهُما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1761]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر إلي الحادي والعشرين عن أم الدرداء: قوله: ((ولا حلم ولا عقل)) تأكيد لمفهوم ((احتسبوا وصبروا)) لأن معني الاحتساب أن يبعثه علي العمل الإخلاص، وابتغاء مرضات الله، لا الحلم والعقل، فحينئذ يتوجه عليه أنه كيف يصبر ويحتسب من لا عقل له ولا حلم؟ فيقال: إذا فني حلمه وعقله، يتحلم ويتعقل بحلم الله وعلمه. وفي وضع ((علمي)) موضع العقل إشارة إلي عدم جواز نسبة العقل - وهو القوة المتهيئة لقبول العلم - إلي الله، تعالي عن صفات المخلوقين علواً كبيراً. وإلي هذا المعني يلمح قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطي لله، فقد استكمل الإيمان)) والله أعلم.

(8) باب زيارة القبور

(8) باب زيارة القبور الفصل الأول 1762 - عن بُريدةَ، قال: قال رسول الله عليه وسلم: ((نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتُكم عن النَّبيذِ إلاَّ في سقاءٍ فاشربوا في الأسقيةِ كلها ولا تشربوا مُسكراً)). رواه مسلم. 1763 - وعن أبي هريرة، قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكي وأبكي من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن استغفر لها، فلم يُؤْذَنْ لي، واستأذنتُه في أنْ أزورَ قبرَها فأذِنَ لي؛ فزوروا القُبورَ فإنَّها تُذكرُ الموتَ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب زيارة القبور الفصل الأول الحديث الأول عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((نهيتكم عن زيارة القبور)) ((حس)): زيارة القبور مأذون فيها للرجال، وعليه عامة أهل العلم، واما النساء فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله زوارات القبور)) فرأي بعض أهل العلم أن هذا كان قبل ان يرخص في زيارة القبور، فلما رخص عمت الرخصة لهن فيه. أقول ((الفاء)) متعلق بمحذوف أي نهيتكم عن زيارة القبور مباهاة بتكاثر الموات، فعل الجاهلية، واما الآن فقد دحا الإسلام، وهدمت قواعد الشرك، فزوروها، فإنها تورث رقة القلوب، وتذكر الموت والبلي، وغير ذلك من الفوائد. وعلي هذا النسق الفاءان في ((فأمسكوا)) و ((فاشربوا)). قوله: ((نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء)) أي قربة، وذلك ان السقاء يبرد الماء، فلا يشتد ما يقع فيه اشتداد مافي الظروف والأوإني، فيصير خمراً. والحاصل: أن المنهي عنه هو المسكر لا الظروف بعينها، كما قال: ((نهاهم عن أربع: الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت)) أو كما قال. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي)). ذكر ابن الجوزي في كتاب الوفاء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيه كان مع أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين خرجت به إلي أخوالها بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ثم رجعت به إلي مكة، فلما كانوا بالأبواء، توفيت، فقبرها هناك. وقيل: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، زار قبرها بالأبواء ثم قام مستعبراً فقال: ((إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، فاستأذنته في

1764 - وعن بُريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمُهم إذا خرجوا إلي المقابر: ((السلامُ عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستغفار لها، فلم يأذن لي))، ونزل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي} الآية. الحديث الثالث عن بريدة: قوله: ((السلام عليكم)) في موضع نصب ثإني مفعولي ((يعلّم)) أي يعلمهم كيفية التسليم علي أهل المقابر. وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون السلام. قال الحماسي: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحَّما فخالفهم وقدم صلى الله عليه وسلم. ((مظ)): فيه أن السلام علي الموتي كما هو علي الأحياء في تقديم الدعاء علي الاسم، ولا يقدم الاسم علي الدعاء، كما تفعله العامة، وكذلك في كل دعاء بخير، قال الله تعالي: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} وقال سبحانه: {سلام علي إل يس}. قوله: ((أهل الديار)) ((نه)): سمي النبي صلى الله عليه وسلم موضع القبور داراً، تشبيهًا له بدار الأحياء لاجتماع الموتي فيها. قوله: ((وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) ((نه)): قيل: معناه إذا شاء الله، وقيل: ((إن)) شرطية، والمعني: لاحقون بكم في الموافاة علي الايمان. وقيل: هو التبرك والتفويض، كقوله تعالي: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين}. وقيل: هو علي التأديب. عن أحمد ابن يحيي: استثني الله تعالي فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون، وأمر بذلك في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} أقول: لما قال: ((أهل الديار))، وبين أنهم مؤمنون مسلمون، وقد مر أن الإسلام قد يكون دون الإيمان وفوقه، وهذا من الثاني نحو قوله تعالي: {قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} ولذلك طلب اللحوق بهم، ووسط في البين كلمة التبرك، ومنه قول يوسف عليه السلام: {توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين}.

الفصل الثاني 1765 - عن ابن عبَّاسٍ، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقُبور بالمدينة، فأقبلَ عليهم بوجهه، فقال: ((السلامُ عليكم يا أهل القبورِ! يغفرُ اللهُ لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحنُ بالأثرِ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريب. [1765] الفصل الثالث 1766 - عن عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلما كانَ ليلتُها من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخرُجُ من آخرِ الليل إلي البَقيعِ، فيقولُ: ((السلام عليكم دار قومٍ مؤْمنين! وأتاكم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((نسأل الله)) استئناف؛ فإنهم لما سلموا عليهم، ودعوا الله أن يلحقهم بهم، قالوا بلسان الحال: فما جاء بكم، وماذا تسألون؟ فأجابوا: جئنا سائلين الله الخلاص لنا ولكم من المكاره في الدنيا، والبرزخ، والقيامة. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فأقبل عليهم بوجهه)) ((مظ)): اعلم أن زيارة الميت كزيارته في حال حياته، يستقبله بوجهه، ويحترمه كما كان يحترمه في الحياة، يجلس بعيدًا منه إن كان في الحياة يجلس بعيدًا منه، وقريبًا منه إن كان قريبًا منه. وقدم مغفرة الله له علي مغفرته للميت إعلامًا بتقديم دعاء الحي علي الميت. والحاضر علي الغائب. قوله: ((أنتم سلفنا)) ((نه)): قيل: هو من سلف المال، كأنه أسلفه وجعله ثمنًا للأجر والثواب الذي يجازى علي الصبر عليه. وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين بالسلف الصالح. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كلما)) ظرف فيه معنى الشرط لعمومه، وجوابه: ((يخرج)) وهو العامل فيه، والجملة خبر ((كان)) وهو حكاية معنى قولها لا لفظها الذي تلفظت به، والمعنى: كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بات عنج عائشة رضي الله عنها أن يخرج.

ما توعَدونَ، غدًا مُؤجَّلونَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم لا حِقونَ، اللهمَّ اغفرْ لأهل بقيع الغرْقَدِ)). رواه مسلم. 1767 - وعنها، قالتْ: كيف أقولُ يا رسولَ اللهِ؟ تعنى في زيارةِ القُبورِ، قال: ((قولي: السَّلامُ علي أهل الديار من المؤمنينَ والمسلمينَ، ويرحمُ اللهُ المستقدِمينَ مِنَّا والمستأخرين، وإنا إنْ شاء الله بكم للاحقون)). رواه مسلم. 1768 - وعن محمَّد بن النُّعمانِ، يرفعُ الحديثَ إلي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ زارَ قبرَ أبويهِ أو أحدهما في كل جمعةٍ، غُفرَ له، وكتبَ برًا)). رواه البيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) مُرسلا. [1768] 1769 - وعن ابن مسعودٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كنتُ نهَيتْكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنَّها تزهِّدُ في الدنيا، وتُذكرُ الآخرةَ)). رواه ابنُ ماجه. [1769] 1770 - وعن أبي هريرةَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنَ زَوَّارات القُبور. رواه أحمد، والترمذيُّن وابنُ ماجه، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال: قد رأي بعضُ أهل العلم أنَّ هذا كان قبلَ أنْ يُرخصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في زيارة القُبورِ، فلمَّا رخَّصَ دخلَ في رخصته الرجالُ والنساءُ. وقال بعضُهم: إنما كرِهَ زيارةَ القبور للنساء لقلَّةِ صبرهنَّ وكثرةِ جزعهنَّ. تمَّ كلامُه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله ((مؤجلون)) إعرابه مشكل وإن حمل علي الحال المؤكدة من واو ((توعدون)) علي حذف الواو والمبتدأ، كان فيه شذوذان. ويجوز حمله علي الإبدال من ((ما توعدون)) أي أتاكم ما مؤجلونه أنتم، والأجل: الوقت المضروب المحدود في المستقبل، لأن ما هو آت بمنزلة الحاضر. قوله: ((بقيع الغرقد)) ((نه)): البقيع من الأرض المكان المتسع، ولا يسمى بقيعا إلا وفيه شجرها وأصولها. وبقيع الغرقد موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقى اسمه. الحديث الثاني، والثالث عن محمد رضي الله عنه: قوله: ((وكتب برًّا)) أي كان برًّا بهما غير عاقٍّ بتضييع حقهما، فعدل منه إلي قوله: ((كتب)) لمزيد الإثبات، وإنه من الراسخين فيه مثبت في ديوان الأبرار، ومنه قوله تعالي: {فاكتبنا مع الشاهدين} أي اجعلنا في زمرتهم.

1771 - وعن عائشة، قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني واضعٌ ثوبي، وأقولُ: إنما هو زوجى وأبي، فلمَّا دُفنَ عمرُ [رضي الله عنه] معهم؛ فواللهِ ما دخلته إلا وأنا مشدودةٌ علي ثيابي حياءً من عمرَ. رواه أحمدُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع إلي السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وأقول: إنما هو زوجى)) القول بمعنى الاعتقاد، وهو كالتعليل لوضع الثوب في بيت دفن فيه الرسول صلي الله وعليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، يعنى جائز لي ذلك، لأنهما محرمان لي، أحدهما زوجي والآخر أبي. والعطف علي التقدير، أي إنما هو زوجي والآخر أبي. ويجوز أن يكون العطف علي الانسحاب، وهو ضمير الشأن، أي إنما الشأن زوجي وأبي مدفونان فيه، وفي الحديث دليل بين علي ما ذكر قبلُ من أنه يجب احترام أهل القبور، وتنزيل كل منهم منزلة ما هو عليه في حياته من مراعاة الأدب معهم علي قدر مراتبهم، والله أعلم والحمد لله أولاً وآخرًا والصلاة علي سيدنا محمد وآله.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الفصل الأول 1772 - عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ مُعاذاً إِلي اليَمنِ، فقال: ((إِنَّكَ تأتي قوماً أهلَ كتابٍ، فادْعُهم إِلي شهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ. فإِنْ هُم أطاعُوا لذلكَ فأعلمْهُم أنَّ الله قد فَرَضَ عليهِم خمسَ صلوات في اليَومِ والليلةِ. فإِنْ هُم أطاعُوا لذلك، فأعلمْهم أنَّ اللهَ قدْ فرض عليهِم صَدقةً تُؤْخذُ منْ ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الزكاة ((نه)): أصل الزكاة: الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن، والحديث. وزنها فعلة، كالصدقة، فلما تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، انقلبت ألفا، وهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، فيطلق علي العين، وهي الطائفة من المال المزكي بها وعلي المعنى: وهي التزكية. أقول: حملها علي النمو والبركة ظاهر، لأن الصدقة يد المال، وعلي الطهارة يحتمل معنيين: إما طهارة المال من الحرام، وحق الفقراء، وبهذا عني بقوله: {فلينظر أيها أزكى طعاما} أي أطيب وأحل، ولا يستوخم عقباه، وإما طهارة النفس عن رذائل الأخلاق والبخل، وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قوما أهل كتاب)) قيد قوله: بأهل وفيهم أهل الذمة وغيرهم من المشركين، تفضيلا لهم وتغليبا علي غيرهم، قوله: ((أطاعوا لذلك)) أي انقادوا له. ((شف)): في تقديم الشهادة علي الإعلام بالأعمال، وترتبه عليها بالفاء إشعار بأن الكفار غير مخاطبين بالفروع علي ماذهب إليه بعض علماء الأصول، بل بالأصول فقط. وفي ((تؤخذ من أغنيائهم)) دليل علي أن الطفل تلزمه الزكاة لعموم قوله: ((تؤخذ من أغنيائهم)). وفي قوله: ((ترد علي فقرائهم)) دليل علي أن المدفوع عين الزكاة. وفيه أيضًا أن نقل الزكاة عن بلد الوجوب لا يجوز مع وجود المستحقين فيه، بل صدقة كل ناحية لمستحقي تلك الناحية. واتفقوا علي أنه إذا نقلت وأديت يسقط الفرض إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلي الشام إلي مكانها من خراسان.

أغنيائِهم فتُردُّ علي فُقرائِهم. فإِنْ هُم أطاعوا لذلك، فإِياكَ وكرائِمَ أموالِهم، واتّقِ دَعْوةَ المظلومِ، فإنَّهُ ليس بينهاَ اللهِ حجابٌ)) متفق عليه. [1772] 1773 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِنْ صاحبِ ذهبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤَدِّي منها حقَّها، إِلا إِذا كانَ يوم القيامةِ صُفِّحتْ صفائحَ منْ نارٍ فأحْمِي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإياك وكرائم أموالهم)) ((حس)): فيه دليل علي أنه ليس للساعي أن يأخذ خيار ماله إلا أن يتبرع به رب المال، وليس لرب المال أن بعطي الأردأ، ولا للساعي أن يرضي به فيبخس بحق المساكين، بل حقه في الوسط. قوله: ((صدقة أموالهم)) فيه دليل علي أنه إن تلف المال تسقط الزكاة ما لم يقصر في الأداء وقت الإمكان. أقول: قوله: ((واتق دعوة المظلوم)) تذييل؛ لاشتماله علي هذا الظلم الخاص من أخذ كرائم الأموال، وعلي غيره مما يتعلق بالمزكي، وعلي هذا المظلوم وغيره. وقوله: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعوة لمن يقصد إلي السلطان متظلماً فلا يحجب عنه. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤدي حقها)) ((تو)): أنث الضمير؛ إما ذهاباً إلي المعنى، إذا لم يرد بهما الشيء القليل، بل جملة وافية من الدراهم والدنإنير، وإما علي تأويل الأموال، وإما عوداً به إلي الفضة، فإنها أقرب كما قال الله تعالي: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} واكتفي ببيان حال صاحبها عن بيان حال صاحب الذهب، أو لأن الفضة أكثر انتفاعاً في المعاملات من الذهب، واشتهر في أثمان الأجناس، ولذلك اكتفي بها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)). قوله: ((صفحت الصفائح)) جمع صفيحة، وهي ما يطبع مما يتطرق، كالحديد والنحاس. و ((الصفائح)) يروى مرفوعاً بـ ((صفحت))، ومنصوباً علي أنه مفعول ثان، وفي الفعل ضمير الذهب والفضة، وأنث: إما بالتأويل السابق، وإما علي التطبيق بينه وبين المفعول الثاني الذي هو هو. والمعنى: إذا لم يؤد صاحب الذهب والفضة حقها يجعل له صفائح من نار، أو جعل الذهب والفضة صفائح من نار. وكأنه تنقلب صفائح الذهب والفضة لفرط إحمائها وشدة

عليَها في نارِ جهنَّمَ فيُكْوى بها جَنْبهُ وجبينُه وظَهرهُ، كلَّلما رُدَّتْ أُعيدتْ له في يومٍ كانَ مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ، حتى يُقضى بين العبادِ، فيرى سبيلَه: إِمَّا إِلي الجنَّةِ وإِمَّا إِلي النَّار)). قيلَ: يا رسولَ الله! فالإِبلُ؟ قال: ((ولا صاحبُ إِبلٍ لا يُؤَدي منها حقَّها، ـــــــــــــــــــــــــــــ حرارتها صفائح النار، فيكوى بها، إلي آخره. وهذا التأويل يوافق ما في التنزيل حيث قال تعالي: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى} الآية فجعل عين الذهب والفضة هي المحمى عليها في نار جهنم. قوله: ((فأحمى عليها)) ((الكشاف)): فإن قلت: ما معنى قوله: ((يحمى عليها في نار جهنم)) وهلا قيل: يحمى، من قولك حمى الميسم وأحميته، ولا تقول: أحميت علي الحديد؟ قلت: معناه أن النار تحمى عليها، أي توقد ذات حمى وحر شديد، من قوله: ((نار حامية)). ولو قيل: يوم يحمى عليها لم يعط هذا المعنى. وذكر ((يحمى)) لأنه مسند إلي الجار والمجرور. وأصله: يوم تحمى النار عليها، فانتقل الإسناد عن النار إلي ((عليها)). ((تو)): المعنى: أن تلك الصفائح النارية تحمى مرة ثإنية إلي نار جهنم ليزيد حرها ولهبها ويشتد إحراقها. ((قض)): خص هذه الأعضاء - أعني الجنب، والجبين، والظهر - لأنه جمع المال، وأمسكه، ولم يصرفه في مصارفه، ليحصل به وجاهة عند الناس، وترفه وتنعم في المطاعم والملابس، فيحوى جنبه وظهره المأكولات الهنية اللذيذة، فينتفخ ويقوى منها، وتحويها الثياب الفاخرة والملابس الناعمة، فيلتذ جنباه بها، أو لأنه ازور عن الفقير في المجلس، وأعرض عنه، وولي ظهره، أو إلي أشرف الأعضاء الظاهرة لاشتمالها علي الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ، والقلب، والكبد، وقيل: المراد بها الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن، وما آخره، وجنبتاه. ((كلما ردت أعيدت له)) معناه دوام التعذيب، واستمرار شدة الحرارة في تلك الصفائح استمرارها في حديدة محماة ترد إلي الكير وتخرج منها ساعة فساعة. قوله: ((فيرى سبيله)) الضمير المرفوع فيه قائم مقام الفاعل، و ((سبيله)) ثإني مفعوليه. ((مح)): ضبطناه بضم الياء وفتحها، وبرفع لام ((سبيله)) ونصبها. فيه إشارة إلي أنه مسلوب الاختيار يومئذ مقهور، لا يقدر أن يروح إلي النار فضلا عن الجنة، حتى يعين له أحد السبيلين. قوله: ((فالإبل)) الفاء متصل بمحذوف، أي عرفنا حكم النقدين، فما حكم الإبل؟ وقوله: ((ولا صاحب إبل)) عطف علي قوله: ((ما من صاحب ذهب)). قوله: ((من حقها حلبها)) ((مح)): هو بفتح اللام علي اللغة المشهورة، وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف وإن كان هو القياس.

ومِنْ حقِها حَلبُها يومَ وِرْدِها، إِلا إذا كانَ يومُ القيامةِ بُطحَ لها بقاعٍ قَرْقرٍ. أوْفر ما كانت لا يفقِدُ منها فصيلاً واحداً، تطؤهُ بأخفافِها، وتعَضَّه بأفواهها، كلما مرَّ علَيه أولاها رُدَّ عليه أخْراها في يومٍ كانَ مقدارهُ خمسينَ ألف سنةٍ، حتى يُقضى بينَ العبادِ؛ فيَرى سبيلَه: إِمَّا إِلي الجنَّةِ وإِما إلي النار)). قيلَ: يا رسول اللهِ! فالبَقرُ والغَنمُ؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ((من)) للتبعيض، أي بعض حقها حلبها، وحقها الأول أعم من الثاني، وذكر الثاني للاستطراد، والوعيد مرتب علي الأول. ويحتمل عليهما معاً تغليظاً. قيل: معنى حلبها يوم ورودها: أن يسقى ألبانها المارة، ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. وهذا مثل نهيه عن الجداد بالليل، أراد أن يصرم بالنهار ليحضرها الفقراء، وذوو الحاجة. قوله: ((بطح لها)) ((تو)): وفي بعض النسخ ((له)) بالتذكير، وهو خطأ رواية ومعنى؛ لأن الضمير المرفوع في الفعل لصاحب الإبل، والمجرور للإبل ليستقيم؛ لأن المبطوح المالك، لا الإبل، أقول: أما التمسك بالرواية فمستقيم، وأما بالمعنى فلا، لم لا يجوز أن يذكر الضمير لإرادة الجنس وللتأويل المذكور وأنشد ابن الجنبي: مثل الفراخ تنفث حواصله. علي أنه لا يجوز أن يرجع الضمير إلي صاحب الإبل بكون الجار والمجرور قائماً مقام الفاعل، كما في قوله تعالي: {يسبح له فيها بالغدو والآصال}؟ بطح: ألقى علي وجهه. القاع، والقيع: الصحراء الواسعة السمتوية. والقرقر: المكان المستوى، وهو صفة مؤكدة. قوله: ((أوفر)) ((حس)): يريد كمال حال الإبل التي تطأ صاحبها في القوة والسمن لتكون أثقل لوطئها. أقول: ((أوفر)) مضاف إلي ((ما)) المصدرية، والوقت مقدر، وهو منصوب علي الحال من المجرور إن كان الضمير المجرور للإبل، وجوز وقوعه حالاً، ولا يمنعها إضافته إلي المعرفة؛ لأن الإضافة فيه غير محضة، بدليل قولهم: مررت برجل أفضل الناس، وإن كان لصاحب الإبل فهو خبر مبتدأ محذوف علي الاستئناف. وقوله: ((لا يقعد)) أيضًا حال، إما مترادفة إن كان صاحب الحال الضمير في ((بطح))، أو متداخلة إن كان صاحب محال الضمير المستتر في ((كانت)) التامة الراجع إلي الإبل؛ لوجود الضمير في ((منها)) .. وقوله: (تطؤه)) أيضًا حال مترادفة ومتداخلة علي التقديرين؛ لوجود ضمير المذكر والمؤنث. ويجوز أن يكون استئنافاً، كأنه لما قيل: بطح صاحب الإبل لإبله حال كونها قوية تامة، مع جميع فضلاتها، غير فاقدة منها شيئاً - اتجه لسائل أن يقول: لم بطح لها؟ أجيب: لتطأه إلي آخره. وعلي هذا حكم ((كلما)) في الحالية والاستئنافية، أي تطؤه دائماً. قالوا: المناسب أن يقدم ((أخراها)) علي ((أولاها)) كما عليه رواية مسلم ((كلما مضى عليه أخراها رد عليه أولاها)).

((ولا صاحبُ بقرٍ ولا غنمٍ لا يُؤّدِّي منها حقّها، إِلا إِذا كانَ يومُ القيامة بُطحَ لها بقاعٍ قرْقرٍ، لا يفقِدُ منها شيئاً، ليسَ فيها عَقصاءُ ولا جَلحاءُ ولا عَضباءُ تنطحهُ بقُرونِها، وتطؤهُ بأظلافِها، كلما مرَّ عليه أولاهَا رُدَّ عليهِ أخْراها في يومٍ كانَ مقدارهُ خمسين ألف سنةٍ، حتى يُقضى بينَ العبادِ؛ فيرى سبيلَه: إِما إِلي الجنةِ وإِما إِلي النار)). قيل: يا رسولَ اللهِ! فالخيلُ؟ قال: ((فالخَيلُ ثلاثةٌ: هي لرجلٍ وِزْرٌ، وهيَ لرجلٍ سترٌ، وهي لرجلٍ أجرٌ؛ فأما التي هي له وزرٌ: فرجلٌ ربطهَا رياءً وفخراً ونواءً علي أهلِ الإِسلامِ، فهي لهُ وِزرٌ؛ وأمّا التي هي له سترٌ: فرجلٌ ربطهَا في سبيل اللهِ، ثمَّ لم يَنسَ حقَّ اللهِ في ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: توجيه ما هو مثبت في الكتاب أن يقال: إن ((أولاها)) إذا مرت عليه علي التتابع، فإذا انتهي أخراها إلي الغاية، فردت من هذه الغاية، ويتبعها ما يليها إلي أولاها - حصل الغرض من التتابع والاستمرار. قوله: ((عقصاء)) ((نه)): العقصاء الملتوية القرنين. والجلحاء: التي لا قرن لها. العضباء: المنكسرة القرن، وهي عبارة عن سلامة قرونها، واستوائها ليكون أجرح للمنطوح. قوله: ((فالخيل ثلاثة)) فإن قلت: الجوابان السابقان مطابقان للسؤالين، لأن الأسئلة عن حقوق الله تعالي في الأجناس ووجوب الزكاة فيها، فأين المطابقة في السؤال الثالث؟ قلت: هو وارد علي الأسلوب الحكيم، وفي التوجيه وجهان: أحدهما علي مذهب الشافعي رضي الله عنه: أي دع السؤال عن الوجوب، إذ ليس فيه حق واجب، ولكن سل عن اقتنائها عما يرجع إلي صاحبها من المضرة والمنفعة. وثإنيهما علي مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه: أي لا تسأل عما وجب فيها من الحقوق وحده، بل سل عنه وعما يتصل بها من المنفعة والمضرة إلي صاحبها. فإن قلت: كيف استدل علي الوجوب بالحديث؟ قلت: بعطف الرقاب علي الظهور؛ لأن المراد بالرقاب ذواتها، إذ ليس في الرقاب منفعة عائدة إلي الغير، كالظهور، وبمفهوم الجواب الآتي من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل علي في الحمر شيء)). وأجاب القاضي عنه: بأن معنى قوله: ((لم ينس حق لله في رقابها)) أداء زكاة تجارتها. وأقول: وجه هذه الكناية أن الرقاب ربما يكنى بها عن الانقياد والمملوكية، وما يساق للتجارة يقاد بها بما يشد علي رقابها للجلب، وينصره قوله: ((لم ينس)) فإنه لا يستعمل في الوجوب كقوله تعالي: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}. وأما الجواب عن السؤال الأخير فإن الفاء في قوله: ((فالحمر)) جاءت عقيب المذكورات، كأنه قيل: عرفنا الوجوب في النقدين والأنعام، والندب في الخيل، فما حكم الحمير؟ وفي قوله: ((فالخيل ثلاثة)) جمع، وتفريق،

ظُهورِها ولا رقابِها، فهي له سترٌ؛ وأمّا التي هي له أجْرٌ: فرجلٌ ربطهَا في سبيلِ الله لأهلِ الإِسلامِ في مَرجٍ وروْضة، فما أكلتْ منْ ذلكَ المرْجِ أو الرَّوضةِ منْ شيءٍ إِلا كُتب له عدَدَ ما أكلتْ حسنَاتٌ، وكتبَ له عددَ أرْواثِها وأبْوالِها حسنَاتٌ، ولا تقطَعُ طِوَلَها فاسْتنّتْ شرفَا أو شرَفين إِلا كتبَ اللهُ له عددَ آثارها وأْرواثِها حسنَاتٍ، ولا مرَّ بها صاحبُها علي نهرٍ فشربتْ منه، ولايُريدُ أنْ يسقيَها، إِلا كتبَ اللهُ له عددَ ما شربتْ حسنَاتٍ)). قيلَ: يا رسولَ اللهِ! فالحُمُرُ؟ قال: ((ما أنزلَ عَلَيَّ في الحُمُر شيءٌ إِلا هذه الآية الفاذَّةُ الجامعًةُ: {فمَنْ يَعملْ مِثْقالَ ذَرَّةِ خيراً يَرَهُ. ومَنْ يَعَملْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شراً يَره}. رواه مسلم. [1773] ـــــــــــــــــــــــــــــ وتقسيم. وأما الجمع فقوله: ((ثلاثة))، وأما التفريق فمن قوله: ((هي لرجل وزر)) إلي آخره. قوله: ((في مرج)) ((نه)): هو الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرح فيها الدواب، أي تسرح، واستنان الفرس: عدوه لمرجه ونشاطه شوطاً أو شوطين ولا راكب عليه. الطول- بالكسر- هو الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس؛ ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه. قوله: ((ربطها في سبيل الله)) لم يرد به الجهاد لما يلزم التكرار، ويعضده رواية غيره ((ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي لذلك الرجل ستر)) ((تغنياً)): أي استغناء به، و ((تعففاً) عن السؤال، وهو أن يطلب بنتاجها الغنى والعفة، أو يتردد عليها إلي متاجرة ومزارعة، فيكون ستراً له يحجبه عن الفاقة. النواء: المعاداة، يقال: ناوأت الرجل مناوأة ونواء إذا عاديته، كأنه ناء إليك، نؤت إليه من النوء النهوض، كأن كل واحد من المتعاديين ينهض إلي صاحبه بالعداوة. أقول: وفي قوله: ((كتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات)) مبالغة في اعتداد الثواب؛ لأنه إذا اعتبر ما تستفذره النفوس، وتنفر عنه الطباع، فكيف يغيرها. وكذا إذا احتسب ما لا نية له فيه، وقد ورد ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) من شربها، فما بال ما إذا قصد الاحتساب فيه؟. قوله: ((الفاذة الجامعة)) ((نه)): الفاذة: المنفردة في معناها، والواحد فذ. وسميت جامعة لاشتمال اسم الخير علي جميع أنواع الطاعات: فرائضها، ونوافلها، واسم الشر علي ما يقابلها

1774 - وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ آتاهُ اللهُ مالاً فلمْ يُؤَد زّكاتَه، مُثلَ له مالُه يومَ القيامةِ شُجاعاً أقرَعَ له زَبيبتَان، يُطوٌقُ يومَ القيامةِ، ثمَّ يأخذُ بلهزِمتَيه، يعني شدْقَيه، ثمَّ يقولُ: أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ)) ثمَّ تَلا: {ولا يحْسَبَنَّ الذينَ يَبْخَلونَ} الآية. رواه البخاري. [1774] 1775 - وعن أبي ذَر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما مِنْ رجُلٍ يكونُ له إِبِلٌ أوْ بقرٌ أوْ غَنمٌ لا يُؤدِّي حقَّها؛ إلا أتي بها يومَ القيامةِ أعظم ما يكونُ وأسمنَه، تطَؤهُ بأخفافِها، وتنطَحُه بقُرونِها، كلما جازَتْ أخْراها رُدَّت عليهِ أولاها، حتى يُقضى بينَ النَّاسِ)). متفق عليه. [1775] 1776 - وعن جرير بن عبد الله، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا أتاكمُ المصدّقُ، فليصْدُرْ عنكم وهو عَنكم راضِ)) رواه مسلم. [1776] ـــــــــــــــــــــــــــــ من الكفر، والمعاصي. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شجاعاً)) ((نه)): الشجاع الحية الذكر. وقيل: الحية مطلقاً، وهو بضم الشين وكسرها، وهو نصب يجرى مجرى المفعول الثاني أي صور ماله شجاعاً، أو ضمن مثل معنى التصيير، أي صير ماله علي صورة الشجاع. والأقرع الذي لا شعر علي رأسه، يريد حية قد تمعط جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره. ((فا)) الزبيبتان: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات، وأخبثها. وقيل: هما الزبدتان تكونان في الشدقين إذا غضب. يطوقه، أي يجعل طوقاً في عنقه، فهو تشبيه لذكر المشبه والمشبه به، كأنه قيل: يجعل كالطوق في عنقه. واللهزمة: اللحي وما يتصل به من الحنك. وفسرها في الحديث بالشدق، وهو قريب منه. وقولها: ((أنا مالك، أنا كنزك)) إخبار لمزيد الغصة والهم؛ لأنه شر أتاه من حيث كان يرجو خيراً، وفيه نوع

1777 - وعن عبدِ الله بنِ أبي أوْفي رضي الله عنهُما قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا أتاهُ قومٌ بصدَقِتهم قال: ((اللهُمَّ صل علي آلِ فُلانٍ)). فأتاهُ أبي بصدَقِته، فقال: ((اللهُمَّ صلِّ علي آل أبي أوفي)) متفق عليه. 1778 - وعن أبي هريرةَ، قال: بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَ علي الصَّدَقةِ، فقيل: مَنَع ابنُ جميلٍ، وخالدُ بنُ الوليد، والعبَّاسُ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقمُ ابنُ جميلٍ إِلا أنَّه كانَ فقيراً فأغْناهُ اللهُ ورسولُه، وأما خالدٌ فإِنَّكم تظلمونَ خالداً، قدِ ـــــــــــــــــــــــــــــ تهكم. الحديث الرابع، والخامس عن جرير: قوله: ((فليصدر عنكم)) ذكر المسبب وأراد السبب؛ لأنه أمر للمزكى، أي تلقوا العامل بالترحيب، وأدوا زكاة أموالكم تامة. فهذا سبب لصدوره عنهم راضياً. وإنما عدل إلي هذه الصيغة مبالغة في استرضاء المصدق وإن ظلم، كما سيجئ في الفصل الثاني في حديث جرير أيضًا ((أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم)) *. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((صل علي آل فلان)) أي اعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم. قيل: لفظ الصلاة لا يجوز أن يدعى به لغير النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يجوز أن يدعى به للغير سوى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يجوز أن يدعى بمعناه فيقول العامل عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت؛ ليكون جبراناً لما عسى أن يضطرب ويقلق من إخراج شقيق روحه، فيطمئن به، قال الله تعالي: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} والحديث السابق كان توصية للمزكى في تحري رضي الساعي، وهذا الحديث علي العكس. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما ينقم)) ((تو)): نقمت علي الرجل، أنقم بالكسر، فأنا ناقم، إذا عبت عليه. قال بعض أصحاب الغريب: معنى الحديث: ما حمله علي منع الزكاة إلا أن أغناه الله ورسوله، وهو تعريض بكفران النعمة، وتقريع بسوء المقابلة، قال تعالي: {وما نقموا منهم إلا ان يؤمنوا} أي ما كرهوا. قيل: وإنما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغناء إلي نفسه أيضا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان هو السبب لدخوله في الإسلام والاستحقاق عن الغنائم بما أباح الله تعالي لأمته منها ببركته. قوله: ((قد احتبسها في سبيل الله)) معناه: أنه احتبسها في سبيل الله، وقصد بإعدادها الجهاد دون التجارة، فلا زكاة فيها، وأنتم تظلمونه بأن تعدونها من عداد عروض التجارة،

احتَبس أدراعَه وأعتُدَه في سبيلِ الله، وأمَّا العبَّاسُ فهي علي َّومثلُها معَها)). ثمَّ قال: ((يا عمرُ! أمَا شعْرتَ أنَّ عم الرَّجلِ صنْوُ أبيه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتطلبون الزكاة منها، أو هو يتطوع باحتباس الأدراع والأعتد في سبيل الله، فكيف يمنع الزكاة التي هي من فرائض الله المؤكدة؟ فلعلكم تظلمونه، فتطلبون منه أكثر مما هو عليه، فيمتنع عن الإجابة. والأعتد: جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح، والدواب، وآلة الحروب، والجمع علي أعتدة أيضًا. قوله: ((فهي علي ومثلها معها)) أولوه بأنه صلى الله عليه وسلم استسلف منه صدقة عامين: العام الذي شكا فيه العامل، والعام الذي بعده. فهي صدقة السنة الذاهبة، ومثلها صدقة السنة القابلة. وقيل: استمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخر زكاة ذلك العام والقابل، وتكفل بصدقة العامين جميعاً، ويعضده ما في جامع الأصول: أنه صلى الله عليه وسلم ((أوجبها عليه، وضمنه إياها، ولم يقبضها، وكانت ديناً علي العباس؛ لأنه رأي به حاجة)). قوله: ((صنو أبيه)) أي مثله، يقال لنخيل خرجت من أصل واحد: صنوان، واحدها صنو. أقول: هذا ما عليه كلام الشارحين، والذي يقتضيه علم المعإني والبيان هو أن الفقرات الثلاث مخرجة علي خلاف مقتضى الظاهر، أما الأولي: ففيها إظهار غضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم علي المزكى، والأخيران فيهما إظهار غضبه علي المصدق للمزكى. أما بيان الأول، فإن قوله: ((ما ينقم ابن جميل)) إلي آخره من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح، أي لا يكفر نعمة من نعم الإسلام بشيء من الأشياء إلا بأن أغناه الله ورسوله بعد فقرة، فهذا موجب للشكر، فعكس وجعلها موجبة للكفران فيستحق كل الذم، وفي ضده قول ابن الرقيات: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وأما بيان الثانية: فإن قوله: ((فإنكم تظلمون خالداً)) من باب وضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية؛ فإن ((خالداً)) هنا تضمن معنى الشجاعة تضمن حاتم الجود، كأنه قيل: تتهمون شجاعاً بإسلامه، والحال أنه حبس ومنع أن يستعمل أدراعه وأعتده إلا في سبيل الله، فمثله لا يتهم بمنع الزكاة؛ فإن الشجاعة والبخل لا يجتمعان في نفس حرة. وأما الثالثة: فإن قوله: ((علي ومثلها)) يدل علي الغضب، يعني أنا أتكفل عنه ما عليه مع الزيادة؛ ولذلك أتبعه بقوله: ((يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) يعني أما تنبهت أنه عمي وأبي، فكيف تتهمه بما ينافي حاله لعل له عذراً وأنت تلوم. وقوله: ((قد احتبسها في سبيل الله)) دل بكنايته وعبارة النص علي أنه دائم المجاهدة في سبيل الله، ولعمري! إن امره وشأنه كان مستمراً عليها؛ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يزل في حياته

1779 - وعن أبي حُميدٍ الساعدي، قال: استعملَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يُقالُ له: ابنُ اللُّتْبية، علي الصدِقة، فلمَّا قدم، قال: هذا لكم، وهذا أُهديَ لي. فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم فحمدَ اللهَ وأثنىَ عليه، ثمَّ قال: ((أما بعد، فإني أستعملُ رجالاً منكم علي أمورٍ ممَّا ولإني الله، فيأتي أحدُهم فيقولُ: هذا لكم، وهذهِ هديةٌ أهديتْ لي، فهلا جلسَ في بيتِ أبيهِ أمه، فينظُر أيُهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيدهِ لا يأخذُ أحدٌ منهُ شيئاً إلاَ جاءَ به يومَ القيامةِ يحملهُ علي رقبته، إن كانَ بعيراً له رغاَءٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ يبعثه إلي كشف كل غماء، وكذا حاله في زمن العمرين. ودل بصراحة لفظ الاحتباس علي سبيل إشارة النص المسمى بالإدماج علي أنه وقفها في سبيل الله. قيل: وفيه دليل علي وجوب الزكاة في أموال التجارة، وإلا لما اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم عند مطالبة زكاة مال التجارة عن خالد بهذا القول. وقيل: وفيه أيضًا دليل علي جواز احتباس آلات الحروب، ويدخل فيها الخيل والإبل؛ لأنها كلها عتاد للتجارة، وكذا الثياب والبسط، وعلي جواز وقف المنقولات. الحديث الثامن عن أبي حميد: قوله: ((ابن اللتبية)) ((مح)): اللتبية بضم اللام وإسكان التاء، ومنهم من فتحها. قالوا: وهو خطأ، والأصوب بإسكانها، نسبة إلي بني لتب - قبيلة معروفة - واسم اللتبية هذا عبد الله. وقال ابن الأثير في الجامع: بضم اللام وفتح التاء. قوله: ((هلا جلس في بيت أمه، أو أبيه)) فيه تعيير له وتحقير لشأنه. ((خط)): فيه دليل علي أن كل أمر يتذرع به إلي محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة. والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء. والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض، وكل دخيل في العقود ينظر، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟ هكذا في شرح السنة، وعليه مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وفرع علي هذا الأصل في الموطأ أمثلة، منها: أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد، ويجعل معه رديئاً، ويأخذ منه ذهباً متوسطاً، مثلاً بمثل، فقال: هذا لا يصلح؛ لأنه أخذ فضل جيده من الرديء، ولولاه لم يبايعه. وهذا تلخيص كلامه. أقول: فيحمل علي هذا ما استقر في عهدنا، وأفتى به من بيع شيء حقير بثمن ثمين مع استقراض برفع ربحه إلي ذلك الثمن، ومن رهن داراً بمبلغ كثير مع إجازة بشيء قليل. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور المعجزة أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور حيث قال: ((اللهم هل بلغت – مرتين -)) وسيجيء الكلام فيه في باب الربا. قوله: ((الرغاء)) ((نه)): الرغاء: صوت الإبل، وقد رغا يرغو رغاء، والخور: صوت البقر، ويقال: يَعرتْ المعزُ تيعَر بالكسر يُعار بالضم أي صاح. والعفرة: بياض ليس بالناصع، ولكن كلون عفر الأرض وهو وجهها.

أو بقراً له خوارٌ، أو شاةٌ تيعر)). ثمَّ رفعَ يديه حتى رأينَا عُفرَتي إِبطيه، ثمَّ قال: ((اللهمَّ هل بلغتُ؟ اللهمَّ هل بلغتُ)). متفق عليه. قال الخطَّابي: وفي قولِهِ: ((هلا جلسَ في بيت أمِّه أو أبيه، فينظُرَ أيُهدى إِليه أم لا)) دليلٌ علي أنَّ كلَّ أمرٍ يُتذرِّعُ به إلي محظورٍ فهو محظور، وكلَّ دخيلٍ في العقودٍ يُنظُر: هل يكون حكمُه عند الانفرادِ كحكمهِ عند الاقترانِ أم لا؟ هكذا في ((شرح السُّنَّة)). 1780 - وعن عَديّ بن عَميرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من استَعملناهُ منكُم علي عملٍ فكتَمنَا مخيطاً فما فوقه؛ كان غُلولاً يأتي به يوم القيامة)) رواه مسلم. الفصل الثاني 1781 - عن ابن عبَّاس، قال: لما نزلت هذه الآية: {والذين يكنزونَ الذَّهبَ والفضَّة} كبُرَ ذلكَ علي المسلمين. فقالَ عمر: أنا أفَرِّجُ عنكم،، فانطلق فقال: يا نبيَّ الله إِنَّهُ كبُرَ علي أصحابِكَ هذه الآية، فقال: ((إِنَّ اللهَ لم يفرضِ الزكاةَ إِلا ليُطيبَ ـــــــــــــــــــــــــــــ كلون عفر الأرض وهو وجهها. ((مظ)): المعنى: من سرق شيئاً في الدنيا من مال الزكاة أو غيرها يجيء يوم القيامة وهو حامل لما سرق، إن كان حيواناً له صوت رفيع؛ ليعلم أهل العرصات حاله، لتكون فضيحته أشهر. أقول: ذهب إلي أن قوله: ((له رغاء)) جزاء للشرط، وهي جملة اسمية تجب فيها الفاء. وقد تحذف. وأنشد الدار الحديني: بنىي ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم أي فهو ظالم، النكع: المنع، والشرب: الحظ من الماء. الحديث التاسع عن عدى بن عميرة - بفتح العين: قوله: ((مخيطاً)) المخيط بكسر الميم وسكون الخاء، الإبرة، والفاء في ((فما فوقه)) للتعقيب علي التوالي و ((ما فوقه)) يحتمل أن يكون المراد به الأعلي أو الأدون، كما في قوله تعالي {ما بعوضة فما فوقها}. وإيراد هذا الحديث في باب الزكاة علي سبيل الاستطراد، وذلك لأنه لما ذكر حديث ابن اللتبية، وذكر إنكار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فإني أستعمل رجالاً منكم علي أمور مما ولإني الله))

ما بقيَ من أموالكم، وإِنما فرضَ المواريث، وكرَ كلمةً لتكون لمن بعدكم)) فقال: فكبَّر عمر، ثمَّ قال له: ((ألا أخبركَ بخيرِ ما يكنزِ المرء؟ المرأةُ الصالحةُ: إِذا نظر إِليها سرَّته، وإِذا أمرَها أطاعتهُ، وإذا غابَ عنها حفظَتهُ)) رواه أبو داود [1781]. ـــــــــــــــــــــــــــــ عاماً في أمر الزكاة والغنائم وغيرهما، استتبعه حديث عدى تقريراً وتأكيداً. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((كبر)) ((قض)): أي شق وعظم؛ لأنهم حسبوا أنها تمنع جمع المال وضبطه رأساً، وأن كل من أثل مالا - جل أم قل - فإن الوعيد لاحق به، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن المراد بالكنز في الآية منع الزكاة وحبسها عن المستحق، لا الجمع وضبط المال مطلقاً. قوله: ((إلا ليطيب ما بقى)) هو من قوله تعالي: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} ومعنى التطييب أن أداء الزكاة إما أن يحل ما بقى من ماله المخلوط بحق الفقراء، وإما أن يزكيه من تبعة ما لحق به من إثم منع حق الله تعالي. وقوله: ((وإنما فرض المواريث، وذكر كلمة لتكون لمن بعدكم)) هذه الزيادة ليست في المصابيح، وهي مثبته في سنن أبي داود معطوفة علي قوله: ((إن الله لم يفرض)) كأنه قيل: إن الله لم يفرض الزكاة إلا لكذا، ولم يفرض المواريث إلا لتكون لمن بعدكم. المعنى: لو كان مطلق الجمع وضبطه محظوراً لما افترض الله تعالي الزكاة، ولا الميراث. وقوله: ((وذكر كلمة)) من كلام الراوي، أي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة في هذا المقام لم أضبطها. قوله: ((فكبر عمر)) ((قض)): أي استبشاراً لدفع الحرج، وكشف الحال، ورفع الإشكال. أقول: في تخصيص لفظ التكبير في هذا المقام دون سائر الأذكار دلالة علي فخامة الأمر، فكما كبر عمر وعظم نزول قوله: ((والذين يكنزون الذهب)) الآية، كذلك كبر عند ورود قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يفرض الزكاة)) إلي آخره. استبشاراً. قوله: ((بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة)) ((المرأة)) مبتدأ، والجملة الشرطية خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والجملة الشرطية بيان. ((قض)): إنه صلى الله عليه وسلم لما بين لهم أنهم لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة، ورأي استبشارهم به، رغبهم عنه إلي ما هو خير وأبقى، وهي المرأة الصالحة الجميلة؛ فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد الذهاب عنك، وهي ما دامت معك تكون رفيقك تنظر إليها فتسرك، وتقضى عند الحاجة إليها وطرك، وتشاورها فيما يعز لك فتحفظ سرك، وتستخدمها في حوائجك فتطيع أمرك، وإذا غبت عنها تحامى مالك وتراعي عيالك، ولو لم يكن لها إلا أنها تحفظ بذرك وتربي زرعك، فيحصل لك بسببها ولد يكون لك وزيراً في حياتك، وخليفة بعد وفاتك، لكان لها بذلك فضل كثير.

1782 - وعن جابر بن عَتيك، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكم رُكَيْب مبغَّضُون، فإِذا جاءوكم فرحبوا بهم، وخلُّوا بينهُم وبين ما يبتغون، فإِنْ عدَلوا فلأنفُسهِم، وإِنْ ظلمُوا فعليهم، وأرضُوهمْ فإنَّ تمام زكاتكم رضاهم، وليَدعوا لكم)) رواه أبو داود. [1782] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: هذا كلام حسن، لكن في قوله: ((رغبهم عنه إلي ما هو خير)) بحث؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رغبهم عن اقتناء المال رأساً، بل أرشدهم إلي ما هو خير منه في النفع وأصلح لحالهم. وهذه الزيادة من باب الأسلوب الحكيم، وتلقى المخاطب بغير ما يترقب؛ فإن عمر رضي الله عنه ترقب في أمر المال ما يزيل الحرج عن اقتنائه، فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حصل رضاه، وزاد علي ما توخاه، وقريب منه قوله تعالي: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين} الآية. وأما وجه المناسبة بين المال والمرأة فهو تصور الانتفاع من كل منهما، وأنهما نوعا هذا الجنس؛ ولذلك استثنى الله تعالي {من أتى الله بقلب سليم} من قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون}. قوله: ((إذا غاب عنها حفظته)) مقابل لقوله: ((إذا نظر إليها سرته))، وقوله: ((وإذا أمرها أطاعته)) فإنهما دلا علي حسن خلْقها وخلقها عند الحضور. الحديث الثاني عن جابر بن عتيك: قوله: ((ركيب مبغضون)) يريد عمال الزكاة. والركيب تصغير ركب، وهو اسم جمع؛ فلذا صغر علي لفظه، وإلا لينبغي أن يقال: رويكبون. ((شف)): جعلهم مبغضين لما في نفوس رباب الأموال من حبها وكراهة فراقها. ((مظ)): معناه: قد يكون بعض العاملين سيئ الخلق متكبراً، فاصبروا علي سوء خلقهم. أقول: والأول أوجه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي ركيب)) لأن فيه إشعاراً بأنهم عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصره شكوى القوم عنهم في الحديث الذي يليه، وهو قولهم: ((إن ناساً من المصدقين يأتونا فيظلمونا)) ولا ارتياب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل ظالماً، فالمعنى: أنه سيأتيكم عمالي يطلبون منكم زكاة أموالكم، والنفس مجبولة علي حب المال فتبغضونهم، وتزعمون أنهم

1783 - وعن جريرِ بن عبدِ الله، قال: جاءَ ناس - يعني من الأعراب - إلي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إِنَّ ناساً من المصدِّقين يأتونا فيظلمونا. فقال: ((أرضوا مصدِّقَيكم)) قالوا: يا رسولَ اللهِ وإِنْ ظلمونا؟! قال: ((أرضوا مصدِّقيكم وإِنْ ظُلمتُم)) رواه أبو داود. [1783] 1784 - وعن بشير بنِ الخصاصيَّة، قال: قلنا: إِنَّ أهلَ الصدقِة يعتدونَ علينا، أفنَكتُم من أموالِنا بقدرِ ما يعتدون؟ قال: ((لا)) رواه أبو داود. 1785 - وعن رافعِ بن خديج، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((العاملُ علي الصدقةِ بالحقِّ كالغازي في سبيل الله حتى يرجعَ إِلي بيتِه)) رواه أبو داود، والترمذي. [1785] 1786 - وعن عمروِ بنِ شعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا جَلَب ولا جَنَب، ولا تُؤخَذُ صدقاتهمِ إِلا في دورِهم)) رواه أبو داود. [1786] 1787 - وعن ابنِ عمر، قال: قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من استفادَ مالاً فلا زكاةَ فيه حتى يحولَ عليهِ الحول)) رواه الترمذي، وذكر جماعةً أنَّهُم وقَفوهُ علي ابنِ عُمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ ظالمون، وليسوا بذلك؛ فقوله: ((فإن عدلوا، وإن ظلموا)) مبنى علي هذا الزعم، ولو كانوا ظالمين في الحقيقة، كيف يأمرهم بالدعاء لهم بقوله: ((وليدعوا لكم))؟ وعلي هذا قوله في الحديث الآتي: ((أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم))؛ ولأن لفظة ((إن)) الشرطية هنا تدل علي الفرض والتقدير لا علي الحقيقة، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي)). وأما المظهر لما عمم الحكم في جميع الأزمنة، قال: كيفما يأخذون الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم؛ لأن مخالفتهم مخالفة السلطان؛ لأنهم مأمورون من جهته، ومخالفة السلطان تؤدي إلي الفتنة وثورانها. وفيه بحث؛ لأن العلة لو كانت هي المخالفة لجاز الكتمان، لكنه لم يجز لقوله في الحديث الآتي: ((أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا)). الحديث الثالث إلي الخامس عن رافع بن خديج: قوله: ((حتى يرجع)) إذا جعل غاية للمشبه لم يفد فائدة ما؛ لأن وجه التشبيه هو سعي الساعي والغازي في تحصيل بيت المال للمسلمين. وفيه: أن الساعي كالغازي الغانم، وليس كالغازي الشهيد. الحديث السادس عن عمرو بن شعيب: قوله: ((لا جلب ولا جنب)) ((نه)): الجلب يكون في شيئين، أحدهما في الزكاة، وهو أن يقدم المصدق علي أهل الزكاة، فينزل موضعاً، ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك وأمر أن تؤخذ صدقاتهم

1788 - وعنِ عليِ رضي الله عنه: أنَّ العباسَّ سألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقةٍ قبل أن تحُلَّ؛ فرخَّصَ لهُ في ذلك. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [1788] 1789 - وعن عمرو بنِ شعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطبَ النَّاس فقال: ((ألا من ولي يتيماً لهُ مالٌ فليَتَّجر فيه، ولا يتركْهُ حتى تأكلًه الصدقةُ)). رواه الترمذي، وقالَ في إِسنادهِ مقال؛ لأنَّ المثَّنى بنَ الصباح ضعيف. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي مياههم وأماكنهم. الثاني يكون في السياق، وهو أن يتبع الرجل فرسه، فيزجره ويجلب عليه، ويصبح حثاً علي الجري، فنهي عن ذلك. الجنب – بالتحريك - في السباق: أن يجنب فرساً إلي فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحول إلي المجنوب. وفي الزكاة: أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة يأمر بالأموال أن تجنب إليه أي تحضر، فنهوا عن ذلك. وقيل: هو أن يجنب رب المال بماله، أي يبعده عن موضعه حتى يحتاج العامل إلي الإبعاد في اتباعه وطلبه. أقول: كلا اللفظين مشتركان في معنى السباق والزكاة، والقرينة لإرادة الثاني قوله: ((ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)) علي سبيل الحصر؛ لأنه كنى به عنهما؛ فإن أخذ الصدقة في دورهم لازم لعدم بعد الساعي عنها، فيجلب إليه، ولعدم بعد المزكي؛ فإنه إذا بعد عنها لم [يؤخذ] فيها. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وذكر جماعة)) كلام الراوي الترمذي، أي سمي الترمذي جماعة بأسمائهم أنهم وقفوا هذا الحديث عن ابن عمر، أي لم يرفعه ابن عمر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المتن بل وقفه، وقال: ((من استفاد مالا)) الحديث. الحديث الثامن والتاسع عن عمرو بن شعيب: قوله: ((فليتجر فيه)) والأصل فليتجر به، كقولك: كتبت بالقلم؛ لأنه عدة للتجارة، فجعله ظرفاً للتجارة ومستقرها، كقوله تعالي: {وأصلح لي ذريتي} أي أوقع الصلاح فيهم. وفائدة جعل المال مقراً للتجارة أن لا ينفق من أصل المال، بل يخرج النفقة من الربح، وإليه ينظر قوله تعالي: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم- إلي قوله {وارزقوهم فيها}. قوله: ((حتى تأكله الصدقة)) أي تنقصه وتفنيه؛ لأن الأكل سبب للإفناء، أو استعارة حيث جعل الصدقة مشابهة للطاعم، ونسب إليها من لوازم المشبه به- وهو الأكل- مبالغة في كمال الإفناء. قوله: ((المثنى بن الصباح ضعيف)) ((تو)): لأن في روايته تدليساً، وتعمية، وإيهاماً. وذلك: أنه يحتمل أن يروى هو عن شعيب، وشعيب عن أبيه، وهو عن عبد الله جد شعيب، وهو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحتمل: أن عمراً يرويه عن أبي شعيب وهو عن جده، فلا يكون متصلا.

الفصل الثالث 1790 - عن أبي هريرة، قال: لمَّا توفيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم واستُخلِفَ أبو بكرٍ بعدَه، وكفرَ من كفرَ من العرب، قالَ عمرُ بن الخطابِ لأبي بكرٍ: كيف تقاتلُ الناسَ وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أمرتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله، فمنْ قالَ: لا إِله إلا الله عصَمَ مني مالهُ ونفسَه إِلا بحقهِ وحسابُه علي الله))؟ فقالَ أبو بكر: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ، فإنَّ الزكاةَ حقُّ المال، واللهِ لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهُم علي منعِها. قال عمر رضي الله عنه: فو اللهِ ما هو إلا رأيتُ أنَّ الله شرحَ صدرَ أبي بكرٍ للقتالِ، فعرفتُ أنهُ الحق. متفقٌ عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كفر من كفر)) يريد غطفان، وفزارة، وبني سليم، وبني يربوع، وبعض بني تميم، وغيرهم منعوا الزكاة، فأراد أبو بكر رضي الله عنه أن يقاتلهم، فاعترض عمر رضي الله عنه بقوله: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله))؟. جعلهم كفاراً إما لأنهم أنكروا وجوب الزكاة، أو أتوا بشبهة في المنع، فيكون تغليظاً. وعمر رضي الله عنه أجراه علي ظاهره، وأنكر علي أبي بكر، قوله: ((وحسابه علي الله)) يعني من قال: لا إله إلا الله، وأظهر الإسلام تترك مقاتلته ولا يفتش باطنه هل هو مخلص أم لا فإن ذلك إلي الله تعالي وحسابه عليه. قوله: ((فإن الزكاة حق المال)) هذا الرد يدل علي أن عمر رضي الله عنه حمل الحق في قوله: ((عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه)) علي غير الزكاة، وإلا لم يقم استشهاد عمر رضي الله عنه بالحديث علي منع المقاتلة، ولا رد أبي أبكر رضي الله عنه بقوله: ((فإن الزكاة حق المال))، أو يقال: إن عمر ظن أن المقاتلة مع القوم إنما كانت لكفرهم لا للمنع، فاستشهد بالحديث، وأجابه أبو بكر بإني لم أقاتلهم لكفرهم، بل لمنعهم الزكاة. ويعضد هذا الوجه قوله: ((كفر من كفر)). ((مح)): العناق: الأنثى من ولد المعز، ذكره مبالغة. قوله: ((وفي رواية: عقالا)) وذكروا فيه وجوهاً، أصحها وأقواها قول صاحب التحرير علي أنه ورد مبالغة؛ لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد، فيقتضي قلة وحقارة. قوله: ((ما هو إلا رأيت)) المستثنى منه غير مذكور، أي ليس الأمر شيئاً من الأشياء إلا علمي

1791 - وعنه، قال: قالَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يكونُ كنز أحدِكم يوم القيامةِ شُجاعاً أقرعَ يفرُّ منهُ صاحبهُ وهو يطلبه حتى يلقِمَهُ أصابعَه)) رواه أحمد. 1792 - وعن ابنِ مسعودٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من رجُلٍ لا يُؤدِّي زكاةَ ماله إلا جعل اللهُ يومَ القيامةِ في عنقهِ شجاعاً)) ثمَّ قرأ علينا مصداقَهُ من كتابِ اللهِ: {ولا يَحسبنَّ الذين يبخلونَ بما آتاهم اللهُ من فضله} الآية. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه [1792]. 1793 - وعن عائشةَ، قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما خالطتِ الزَّكاةُ مالاً قطُّ إِلا أهلكته)). رواه الشافعي، والبخاري في تاريخهِ، والحميدي وزاد قال: يكونُ قد وجبَ عليكَ صدقةٌ، فلا تخرجُها، فيهلك الحرامُ الحلاًل. وقد احتجَّ به من يرى تعلُّقَ الزكاةِ بالعين، هكذا في ((المنتقى)). [1793] وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) عن أحمد بنِ حنبل، بإسنادهِ إِلي عائشة. وقال أحمد في ((خالطت)): تفسيرهُ أنَّ الرَّجلَ يأخذُ الزكاةَ وهو موسرٌ أو غنيُّ، وإِنَّما هي للفقراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن أبا بكر محق، ونحوه قوله تعالي: ((ما هي إلا حياتنا الدنيا)) ((هي)) ضمير مبهم يفسره ما بعده. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى يلقمه أصابعه)) ذكر فيما تقدم في حديث أبي هريرة أن الشجاع يأخذ بلهزمتيه، أي شدقيه، وخص هنا بإلقام الأصابع، لعل السر فيه: أن المانع يكتسب المال بيديه ويفتخر بشدقيه، فخصا بالذكر، أو أن البخيل قد يوصف بقبض اليد، قالوا: يد فلان مقبوضة، وأصابعه مكفوفة، كما أن الجواد يوصف ببسطها. قال الشاعر: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله الحديث الثالث، والرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلا أهلكته)) يحتمل محقته، واستأصلته؛ لأن الزكاة كانت حصناً له، أو أخرجته من كونه منتفعاً به؛ لأن الحرام غير منتفع به شرعاً، وإليه أشار بقوله: ((فيهلك الحرام الحلال)). قوله: ((تفسيره: أن الرجل)) إلي آخره مقول قول أحمد رضي الله عنه. فإن قلت: هذا ظاهر

(1) باب ما تجب فيه الزكاة

(1) باب ما تجب فيه الزكاة الفصل الأول 1794 - عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ من التمرِ صدقةٌ، وليس فيما دونَ خمس أواقٍ من الوَرِقِ صدقةٌ، وليس فيما دونَ خمس ذَوْدٍ من الإِبل صدقةٌ)) متفق عليه. 1795 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس علي المسلم صدقةٌ في عبدهِ، ولا في فرسه)). وفي روايةٍ قال: ((ليس في عبدهِ صدقةٌ إلا صدقةَ الفطر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في معنى المخالطة؛ فإنها معنى وبناء يستدعى شيئين متمايزين يختلط أحدهما بالآخر، فأين هذا المعنى في قول من فسره بإهلاك الحرام الحلال؟ قلت: لما جعل الزكاة متعلقة بين المال لا بالذمة، جعل قدر الزكاة المخرج من النصاب معيناً ومشخصاً، فيستقيم الخلط بما بقى من النصاب. باب ما تجب فيه الزكاة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((خمسة أوسق)) ((نه)): الوسق - بالفتح أصله الحمل، وكل شيء وسقته فقد حملته. وقيل: الوسق ستون صاعاً، وكل صاع أربعة أمداد، وكل مد رطل وثلث بالبغدادي. ((نه)): الأواقي جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الباء - والجمع يشدد ويخفف، مثل أثفية وأثافي. وربما يجئ في الحديث وقية، وليست بالعالية، وهمزتها زائدة. وكانت الأوقية قديماً عبارة عن أربعين درهماً، وهي في غير الحديث نصف سدس الرطل، وهو جزء من اثنى عشر جزءاً، ويختلف باختلاف البلاد. ((فا)): الأوقية أربعون درهماً، وهي أفعولة من وقيت، لأن المال مخزون مصون، أو لأنه يقي البؤس والضر. ((نه)): الذود: من الإبل ما بين الثنتين إلي التسع. وقيل: ما بين الثلاث إلي العشر، واللفظ مؤنث، ولا واحد لها من لفظها. وقال أبو عبيد: الذود من الغناث دون الذكور، إناثاً. قيل: إنما أضاف الخمس إلي الذود- ومن حقها أن تضاف إلي الجمع- لأن فيه معنى الجمعية. وقيل: روى ((خمس)) منوناً، فيكون ((ذود)) بدلاً منه، و ((من الإبل)) صفة مؤكدة لـ ((ذود))، بخلاف ((من الورق)) و ((من التمر))، فإنهما مميزتان.

1796 - وعن أنس، أنَّ أبا بكرٍ كتبَ لهُ هذا الكتابَ لما وجَّههُ إِلي البحرين: بسم اللهِ الرَّحمن الرحيم، هذه فريضةُ الصدقةِ التي فرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علي المسلمين، والتي أمرَ اللهُ بها رسوله. فمَن سُئلها من المسلمين علي وجهِها فليُعطِها، ومنْ سُئِلَ فوقهَا فلا يُعطِ: في أربعٍ وعشرينَ من الإِبلِ فما دونها؛ من الغنم من كلِّ خمسٍ شاةٌ. فإذا بلغَتْ خمساً وعشرينَ إِلي خمسٍ وثلاثين؛ ففيها بنتُ مخاضٍ أنثى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): في الحديث دليل علي أن النصاب في النبات، والتمر، والزبيب خمسة أوسق، وما لم يبلغ منها هذا منها هذا المقدار لا يجب فيه الزكاة، هذا عند الشافعي. وأما عند أبي حنيفة فيجب الزكاة في القليل والكثير من الحبوب، والتمر، والزبيب، وغيرها من النبات. أقول: خصت هذه الأشياء الثلاثة بالذكر؛ لأن الأول والثالث باعتبار بلاد العرب، والثاني عام. ((مظ)): هذا علي مذهب الشافعي، ومالك. وأما عند أبي حنيفة فتجب الزكاة في الخيل إذا كان أنثى، من كل فرس دينار، وإن شاء قومها مالكها، وأخرج من كل مائتي درهم خمسة دراهم. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فرض)) أي بين وفصل. قوله: ((علي وجهها)) حال من المفعول الثاني في ((سئلها)) علي الوجه المشروع من غير تعدٍّ، بدليل قوله: ((من سئل فوقها فلا يعط)). فإن قلت: دل هذا علي أن المصدق إذا أراد أن يظلم المزكى، فله أن يأباه، ولا يتحرى رضاه، ودل حديث جابر وهو قوله: ((أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم)) علي خلاف ذلك. قلت: قد مر أن أولئك المصدقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا ظالمين، وكان نسبة الظلم إليهم علي زعم المزكى، أو جريان الحكم علي سبيل المبالغة، وهذا عام فلا منافاة بينهما. قوله: ((في أربع)) إلي آخر الحديث استئناف بيان لقوله: ((هذه فريضة الصدقة)) كأنه أشار بـ ((هذه)) إلي ما في الذهن، ثم أتى به بياناً له. قوله: ((من الغنم من كل خمس شاة)) ((من)) الأولي ظرف مستقر؛ لأنه بيان لـ ((شاة)) توكيداً، كما في قوله: ((في خمس ذود من الإبل)) والثانية لغو ابتدائية متصلة بالفعل المحذوف، أي ليعط في أربع وعشرين شاة كائنة من الغنم، لأجل كل خمس من الإبل. ((حس)): وفيه دليل علي إباحة الدفع عن ماله إذا طولب بغير حقه، وفيه دليل أيضًا علي جواز إخراج صدقة الأموال الظاهرة بنفسه، دون الإمام. وفيه دليل علي أن الإمام والحاكم إذا ظهر فسقهما بطل حكمهما. قوله: ((ففيها بنت مخاض أنثى)) قيل: هي التي تمت لها سنة، سميت بذلك؛ لأن أمها تكون حاملاً، والمخاض: الحوامل من النوق، لا واحد لها من لفظها، ويقال لواحدتها:

فإذا بلغَتْ ستاً وثلاثين إِلي خمسٍ وأربعين؛ ففيها بنت لبون أنثى. فإذا بلغَتْ ستاً وأربعين إِلي ستين؛ ففيها حقَّةٌ طروقةُ الجمل. فإذا بلغَت واحدةً وستينَ إِلي خمسٍ وسبعين؛ ففيها جذَعَةٌ. فإذا بلغَتْ ستاً وسبعينَ إِلي تسعين؛ ففيها بنتا لبونٍ. فإذا بلغَتْ إِحدى وتسعين إِلي عشرين ومائة؛ ففيها حقّتان طروقتا الجمل. فإذا زادَتْ علي عشرين ومائة؛ ففي كلِّ أربعين بنتُ لبون، وفي كلِّ خمسين حقَّةٌ. ومَنْ لم يكُنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ خلفه. وإنما أضيفت إلي المخاض، والواحدة لا تكون بنت نوق؛ لأن أمها تكون في نوق حوامل، وصف حملها معهن وهي تتبعهن، ووصفها بالأنثى تأكيداً، كما قال تعالي: {نفخة واحدة} أو لأن لا يتوهم أن البنت ها هنا والابن في ((ابن لبون)) كالبنت في ((بنت طبق)) والابن في ((ابن آوى)) يشترك فيهما الذكر والأنثى. قوله: ((ففيها حقة طروقة الجمل)) ((نه)): هي من الإبل ما دخل في السنة الرابعة سمى بذلك؛ لأنه استحق الركوب والتحميل، ويجمع علي حقائق وحقاق. قوله: ((طروقة الجمل)) أي تعلو الفحل مثلها في سنها، وهي فعولة بمعنى مفعولة أي مركوبة للفحل. قيل: فيه دليل علي أنه لا شيء في الأوقاص، وهي ما بين الفريضتين. قوله: ((ففيها جذعة)) ((تو)): يقال للإبل في السنة الخامسة: أجذع وجذع، وهو اسم له في زمن ليس بسن تنبت، ولا تسقط، والأنثى جذعة. قوله: ((فإذا زادت علي عشرين ومائة)) ((قض)): فيه دليل علي استقرار الحساب بعد ما جاوز العدد المذكور. وهو مذهب أكثر أهل العلم. وقال النخعى، والثورى، وأبو حنيفة رضي الله عنهم: يستأنف الحساب بإيجاب الشياه، ثم بنت مخاض، ثم بنت لبون، علي الترتيب السابق، واحتجوا بما روى عن عامر بن ضمرة عن علي رضي الله عنهما في حديث الصدقة ((فإذا زادت الإبل علي عشرين ومائة ترد الفرائض إلي أولها))، وبما روى أنه صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً لعمرو بن حزم في الصدقات والديات وغيرهما، وذكر فيه: ((أن الإبل إذا زادت علي عشرين ومائة استوفت الفريضة)). ولا يعادلان حديث أنس رضي الله عنه؛ فإنه متفق علي صحته - إلي آخر ما ذكره في شرحه. قوله: ((إلا أن يشاء ربها)) أي صاحبها أن يتبرع ويتطوع مبالغة في نفي الوجوب، كما سبق في باب الإيمان في حديث الأعرابي في قوله: ((إلا أن تطوع)) قوله: ((فإنها تقبل منها الحقة)) إلي آخره. ((فا)): فيه دليل علي جواز النزول والصعود من السن الواجب عند فقده إلي سن آخر يليه، وعلي أن جبر كل مرتبة بشاتين أو عشرين درهماً، وعلي أن المعطي مخير بين الدراهم والشاتين.

معَهُ إِلا أربعٌ من الإِبلِ فليسَ فيها صدقةٌ إِلا أنْ يشاءَ ربُّها. فإذا بلغَتْ خمساً ففيها شاةٌ ومن بلغَتْ عندهُ من الإِبلِ صدقةَ الجذعةِ، وليستْ عندَهُ جَذَعَة، وعندهُ حقَّةٌ؛ فإنَّها تُقبَل منهُ الحقَّة ويجعَلُ معها شاتينِ إِن استَيْسرتا له، أو عشرينَ درهما. ومن بلغَتْ عندهُ صدقةُ الحِقَّةِ، وليستْ عندَهُ الحقَّةُ. وعندهُ الجذعَةُ؛ فإنَّها تُقبَلَ منهُ الجذعَةُ، ويعطيةِ المصدِّق عشرينَ درهماً، أو شاتين. ومنْ بلغَتْ عندَهُ صدقةَ الحقَّة، وليسَتْ عندَه إِلا بنتُ لبون، فإنَّها تُقبل منهُ بنتُ لبون، ويعطي معها شاتين، أو عشرينَ درهماً. ومن بلغتْ صدقتهُ بنتَ لبون، وعندهُ حقَّةٌ، فإِنَّها تُقبَل منهُ الحِقَّةُ، ويُعطيه المصدقُ عشرينَ درهماً، أو شاتين، ومن بلغَتْ صدقتهُ بنتَ لبون، وليست عندَهُ، وعندهُ بنتُ مخاضٍ؛ فإنَّها تُقبَل منهُ بنتُ مخاض، ويعطي معها عشرينَ درهماً، أو شاتَين، ومنْ بلغَتْ صدقتُهُ بنتَ مخاض، ليسَت عندَه، وعندهُ بنتُ لبون، فإِنَّها تُقبَل ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليس عنده إلا بنت)) إلي آخره، فيه دليل علي أن الخيرة في الصعود والنزول من السن الواجب إلي المالك، وفي قوله: ((وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء)) دليل علي أن فضيلة الأنوثة تجبر بفضل السن، ولا احتياج إلي جبران. قوله: ((ويعطى معها عشرين درهماً)) أي عشرين درهماً كائناً مع بنت المخاض، فلما قدم صار حالا. قوله: ((وفي صدقة الغنم في سائمتها)) ((حس)): فيه دليل علي أن الزكاة إنما تجب في الغنم إذا كانت سائمة. فأما المعلوفة فلا زكاة فيها. وكذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر والإبل عند عامة أهل العلم وإن كانت سائمة. وأوجب مالك في عوامل البقر، ونواضح الإبل. أقول: طريق الاستدلال أن يقال: ((في سائمتها)) بدل من ((الغنم))، بإعادة الجار، وتقرر أن المبدل في حكم المنحى فلا يجب في مطلق الغنم شيء. فهو أقوى من أنه لو قيل ابتداء: في سائمة الغنم أو في الغنم السائمة؛ لأن دلالة البدل علي المقصود بالمنطوق، ودلالة غيره عليه بالمفهوم، ودليل الخطاب؛ ولذلك لا يساعد عليه الخصم. وفي تكرار الجار إشارة إلي أن للسوم في هذا الجنس مدخلاً قوياً، وأصلاً يقاس عليه، بخلاف جنسي الإبل والبقر. قوله: ((فإذا زادت علي ثلثمائة)) ((حس)): معناه أن تزيد مائة أخرى فتصير أربعمائة، فيجب أربع شياه، وهو قول عامة أهل العلم. وقال الحسن بن الصالح: إذا زادت علي ثلثمائة واحدة، ففيها أربع شياه. قوله: ((هرمة ولا ذات عوار)) ((نه)): العوار – بالفتح - العيب، وقد يضم. وفي شرح السنة: النقص والعيب.

منه، ويُعطيه المصدِّقُ عشرينَ درهماً، أو شاتَين، فإنْ لم تكُنْ عندهُ بنتُ مخاضٍ علي وجهها، وعندَهُ ابنُ لبون؛ فإِنَّهُ يُقبلُ منهُ، وليسَ معهُ شيءٌ. وفي صدقةِ الغنمِ في سائمتها: إذا كانت أربعين إلي عشرين ومائة؛ شاة. فإذا زادت علي عشرين ومائة إلي مائتين؛ ففيها شاتان. فإِذا زادَتْ علي مائتينِ إِلي ثلثمائة؛ ففيها ثلاثُ شياه، فإِذا زادَتْ علي ثلثمائة، ففي كلّ مائةٍ؛ شاةٌ. فإذا كانتْ سائمةُ الرجلِ ناقصَةً من أربعين شاةً واحدةً؛ فليسَ فيها صدقةٌ، إِلا أنْ يشاءَ ربُّها. ولا تُخْرَجُ في الصدقِة هَرمةٌ، ولا ذاتُ عَوَارٍ، ولا تَيْسٌ إِلا ما شاءَ المصدِّق. ولا يُجمَعُ بين متفرِّقٍ، ولا يُفرَّقُ بين مُجتمِعٍ خشيةَ الصدقةِ، وما كان من خليطَينِ فإنهما يتراجعانِ بينَهما بالسوية. وفي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولا تيس)) ((حس)): أراد به فحل الغنم، معناه: إذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثاً، لا يؤخذ منه الذكر، إنما يؤخذ منه الأنثى إلا في موضعين ورد بهما السنة: أحدهما أخذ التبيع من ثلاثين من البقر، والآخر أخذ ابن لبون من خمس وعشرين من الإبل بدل بنت المخاض عند عدمها. فأما إذا كانت ماشيته كلها ذكوراً فيؤخذ الذكر. ((قض)): لأن الواجب هي الأنثى، أو لأنه مرغوب عنه لنتنه وفساد لحمه، أو لأنه ربما يقصد المالك منه الفحولة فيتضرر بإخراجه. قوله: ((إلا ما شاء المصدق)) روى أبو عبيد: ((المصدق)) بفتح الدال، وجمهور المحدثين بكسرها، فعلي الأول يراد به المعطى، ويكون الاستثناء مختصاً بقوله: ((ولا تيس)) لأن رب المال ليس له أن يخرج في صدقته ذات عوار، والتيس وإن كان غير مرغوب فيه لنتنه، فإنه ربما زاد علي خيار الغنم في القيمة لطلب الفحولة. وعلي الثاني معناه: إلا ما شاء المصدق منها، ويراه أنفع للمستحقين، فإنه وكيلهم، فله أن يأخذ ما شاء. ويحتمل تخصيص ذلك بما إذا كانت المواشي كلها معيبة. أقول: هذا إذا كان الاستثناء متصلا. ويحتمل أن يكون منقطعاً، المعنى: لا يخرج المزكى الناقص والمعيب لكن يخرج ما شاء المصدق من السليم والكامل. قوله: ((ولا يجمع بين متفرق)) ((حس)): هذا نهي من جهة صاحب الشرع للساعي ورب المال جميعاً، نهي رب المال عن الجمع والتفريق قصداً إلي تقليل الصدقة، ونهي الساعي عنهما قصداً إلي تكثير الصدقة. أقول: وهذا يتأتى في أربع صور، أشار إليها القاضي بقوله: الظاهر أنه نهي للمالك عن الجمع والتفريق قصداً إلي سقوط الزكاة، أو تقليلها، كما إذا ملك أربعين شاة فخلط بأربعين لغيره ليعود واجبه من شاة إلي نصفها، أو كان له عشرون شاة مخلوطة بمثله فيفرق؛ حتى لا تكون نصاباً فيتعلق به، وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل: نهي الساعي أن يفرق المواشي علي المالك ليزيد الواجب، كما إذا كان له مائة وعشرون شاة وواجبها شاة، ففرقها المصدق،

الرقَّة رُبع العُشرِ فإِنْ لم تكُنْ إِلا تسعينَ ومائةً؛ فليس فيها شيءٌ إِلا أن يشاءَ ربُّها. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فجعلها أربعين أربعين ليكون فيها ثلاث شياه، وأن يجمع بين متفرق ليجب فيه الزكاة، أو يزيد، كما إذا كان لرجلين أربعون شاة متفرقة فجمعها لتجب فيها الزكاة، أو كان لكل واحد منهما مائة وعشرون فجمع بينهما ليصير الواجب ثلاث شياه. وهو قول من لم يعتبر الخلطة، ولم يجعل لها تأثيراً، كالثورى وأبي جنيفة رضي الله عنهما. وحينئذ هذا التأويل يفسر قوله: ((خشية الصدقة)). وظاهر قوله عقيب ذلك: ((وما كان من خليطين؛ فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية)) يعضد القول الأول. أقول: قوله: ((خشية الصدقة)) مفعول له قد تنازع فيه قوله: ((لا يجمع ولا يفرق)) فإذا نسب إلي الساعي وجب أن يقال: خشية أن يقل، وإذا نسب إلي المالك وجب أن يقال: خشية أن يكثر. قوله: ((فإن لم يكن إلا تسعين ومائة)) ((حس)): هذا يوهم أنها إذا زادت علي ذلك شيئاً قبل أن يتم مائتين، كانت فيها الصدقة، وليس الأمر كذلك؛ وإنما ذكر ((تسعين)) لأنه آخر فصل من فصول المائة، والحساب إذا جاوز المائة كان تركيبه بالفصول، كالعشرات، والمئات، والألوف، فذكر التسعين؛ ليدل علي أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)). أقول: أراد أن دلالة هذا الحديث علي أقل ما نقص من النصاب إنما يتم بحديث ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)) ويسمى هذا في الأصول: النص المفيد بمقارنة نص آخر، وينصره الحديث الآتي عن علي رضي الله عنه ((وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) ونحوه قوله تعالي: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} فإنه يدل علي أن أقل الحمل ستة أشهر، لكن إذا ضم إليه قوله تعالي: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، أو يقال: إن الحصر بالنفي والإثبات يستعمل في رد منكر مصر، فلابد أن يتصور منكر لهذا الحكم، فيرد به إلي الصواب. وهذا لا ينافي الزيادة علي العدد المنصوص، كقولك: ما زيد إلا كاتب، لمن ينكر كتابته؛ فإن الحصر لا ينافي ثبوت صفة أخرى سوى الكتابة له. قوله: ((وفي الرقة)) الرقة: الدراهم المضروبة، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة كما في عدة. وأصلها: الورق، وتجمع علي رقين مثل ((ثبين وعزين)). الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أو كان عثرياً)) ((نه)): هو النخل الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة. وقيل: هو العِذْىُ. أقول: ذهب

1797 - وعن عبد الله بنِ عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فيما سقَتِ السَّماء والعيونُ أو كان عثَرِياً؛ العُشرُ. وما سُقي بالنضَحِ؛ نصفُ العشر)) رواه البخاري. 1798 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العجماءُ جرحُهَا جُبارٌ؛ والبئرُ جُبَارٌ، والمعدِن جبارٌ، وفي الركاز الخمُس)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التوربشتي إلي الثاني، حيث قال: العثرى- بالتحريك- العِذىُ: وهو الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر. والزمخشري إلي الأول، وقال: سمى به؛ لأنه لا يحتاج في سقيه إلي عمل بدالية، أو غيرها. وهو من: عثر علي الشيء عثوراً أو عثراً؛ لأنه تهجم علي الماء بلا عمل من صاحبه، كأنه نسب إلي العثر وحركت عينه، كما قيل في الحمص والرمل: حمصى ورملي. وقال القاضي: المعنى الأول – يعني ما عليه قول الومخشري – أليق بالحديث؛ لئلا يلزم التكرار، وعطف الشيء علي نفسه ((نه)): ((النواضح)) الإبل التي يستقى عليها، والواحد ناضح. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العجماء جرحها جبار)). ((قض)): العجماء: البهيمة، وهي في الأصل تإنيث أعجم، وهو الذي لا يقدر علي الكلام. سميت بذلك؛ لأنها لا تتكلم. والجبار: الهدر. والمراد أن البهيمة إذا أتلفت شيئاً، ولم يكن معها قائد، ولا سائق، وكان نهاراً، فلا ضمان، فإن كان معها أحد فهو ضامن؛ لأن الإتلاف حصل بتقصيره، وكذا إن كان ليلاً؛ لأن المالك قصر في ربطه، إذ العادة أن تربط الدواب ليلاً، وتسرح نهاراً. وقوله: ((والبئر جبار، والمعدن جبار)) معناه: أن من استأجر حافراً ليحفر له بئراً، أو شيئاً من المعدن، فانهار عليه البئر أو المعدن، لا ضمان عليه. وكذا إن وقع فيها إنسان وهلك، إن لم يكن الحفر عدوانا، وإن كان ففيه خلاف. ((وفي الركاز الخمس)) يريد به المعدن عند أهل العراق من أصحاب أبي حنيفة؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: ((الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقه)). ودفين أهل الجاهلية عند أهل الحجاز، وهو الموافق لاستعمال العرب، والمناسب لوجوب الخمس فيه. واشتقاقه من الركز، مصدر ركزت الرمح. ويقال: أركز الرجل إذا وجد ركازاً. أقول: ولناصر القول الأول أن يقول: إن حديث الدفين في هذا المقام دخيل؛ لأنه لما ذكر حكم المعدن في الهدر، استتبعه حكماً آخر له، وهو وجوب الزكاة فيما حصل منه استطراداً، ولابد من تقدير مضاف ليصح حمل المبتدأ علي الخبر، أي فعل العجماء هدر باطل لا يعتبر في

الفصل الثاني 1799 - عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوتُ عن الخيلِ والرقيق، فهاتوا صدقةَ الرقَّةِ: من كلِّ أربعينَ درهماً درهمٌ، وليسَ في تسعين ومائة شيءٌ، فإِذا بلغَتْ مائتين؛ ففيها خمسةُ دراهم)) رواهُ الترمذي، وأبو داود [1799]. وفي رواية لأبي داود عن الحارثِ الأعور عن عليّ، قال زُهيرٌ: أحْسَبُهُ عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: ((هاتوا رُبعَ العشرِ، من كلِّ أربعينَ درهماً درهمٌ، وليسَ عليكم شيءٌ حتى تتمَّ مائتي درهم. فإذا كانت مائَتي درهم؛ ففيها خمسةُ دراهم. فما زادَ فعلي حسابِ ذلك. وفي الغنَم: في كلِّ أربعينَ شاةً شاةٌ إلي عشرين ومائة. فإِنْ زادَتْ واحدةٌ فشاتانِ إِلي مائتين. فإِن زادَتْ فثلاثُ شياهٍ إِلي ثلثمائة. فإِذا زادَتْ علي ـــــــــــــــــــــــــــــ في الضمان، وسقوط البئر والمعدن كذلك، أي سقوط البئر علي الشخص، أو سقوط الشخص في البئر هدر. الفصل الثاني الحديث الأول عن علي رضي الله عنه قوله: ((قد عفوت)) يشعر بسبق ذنب من إمساك المال عن الإنفاق. وقوله: ((فهاتوا)) مؤذن بالتخفيف، يعني أن الأصل فيما يملكه الغنسان من الأموال أن يزكى، وقد عفوت عن الأكثر، فهاتوا هذا النزر القليل. وذِكرُ الخيل والرقيق ليس للاختصاص بل للاستيعاب، كما في قوله تعالي: {لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً}. قوله: ((من كل أربعين درهماً درهم)) معناه: من كان له مال فليزكِّ علي هذا النسق. قوله: ((وليس في تسعين)) إلي آخره بيان للنصاب. ورواية الحارث الأعور ليست في المصابيح، ورواها أبو داود، وليس في رواية الترمذي وأبي داود ((فما زاد فعلي حساب ذلك)). قوله: ((حتى يتم مائتي درهم)) الفاعل ضمير الرقة، و ((مائتي)) حال: أي بالغة مائتين، كقوله تعالي: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة}. قوله: ((وفي الغنم في كل أربعين شاة شاة)) ((شاة)) مبتدأ و ((في الغنم)) خبره، و ((في كل أربعين)) بإعادة الجار بدل من ((الغنم)) وليس ((شاة)) هنا تمييزاً. مثله في قوله: ((في كل أربعين درهما درهم))، لأن درهما بيان مقدار الواحد من أربعين. ولا يعلم هذا من الرقة، فتكون ((شاة))

ثلثمائة، ففي كلِّ مائةٍ شاةٌ. فإنْ لم تكُن إِلا تسعٌ وثلاثون؛ فليس عليكَ فيها شيءٌ وفي البقر: في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مُسنَّةٌ، وليسَ علي العواملِ شيءٌ)). 1800 - وعن معاذٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما وجَّهَهُ إِلي اليمنِ أمرهُ أن يأخُذَ من البقرةِ: من كلِّ ثلاثين؛ تبيعاً أو تبيعةً، ومن كلِّ أربعينَ؛ مُسِنَّة. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والدارمي. [1800] 1801 - وعن أنس، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((المعتدي في الصدقةِ كمانعها)) رواه أبو داود، والترمذي [1801] 1802 - وعن أبي سعيد الخدري، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ في حَبٍّ ولا تمرٍ صدقةٌ حتى يبلُغَ خمسةَ أوسُق)) رواه النسائي. [1802] 1803 - وعن موسى بن طلحة، قال: عندنا كتاب معاذِ بنِ جبلٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قال: إِنَّما أمرَهُ أن يأخذَ الصدقةَ من الحنطةِ والشعير والزبيبِ والتَّمرِ. مرسل، رواه في ((شرح السُنَّة)). [1803] ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا لمزيد التوضيح. ((نه)): التبيع: ولد البقر أول سنة، والمسن: الذي سنها في السنة الثالثة. قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن. ((مظ)): العوامل: جمع عاملة، وهي ما يعمل من الإبل والبقر من الحرث والسقى، لا زكاة عند الأئمة الثلاثة، ومالك يوجب فيها الزكاة. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((المعتدى في الصدقة)) الاعتداء مجاوزة الحد. ((حس)): معنى الحديث: أن علي المعتدى في الصدقة من الإثم ما علي المانع، ولا يحل علي رب المال كتمان المال، وإن اعتدى عليه الساعي. أقول: يريد أن المشبه به في الحديث ليس بمطلق، بل مقيد بقيد الاستمرار في المنع، فإذا فقد القيد فقد التشبيه. الحديث الرابع والخامس عن موسى بن طلحة: قوله: ((عندنا كتاب معاذ بن جبل)) هذا من باب الوجادة، لأن من نقل من كتاب الغير من غير إجازة، ولا سماع، ولا قراءة سمى وجادة-

1804 - وعن عَتَّابِ بنِ أسيدٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في زكاةِ الكُروِم: ((إِنَّها تُخرَص كُما تُخرصُ النخلُ، ثمَّ تؤدَّى زكاتهُ زبيباً كما تؤدَّى زكاةُ النخلِ تمراً)). رواه الترمذي، وأبو داود. 1805 - وعن سهل بنِ أبي حثمة، حدَّثَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يقول: ((إذا خرَصتُمْ فجذوا. ودعوا الثُّلثَ فإِنْ لم تدَعوا الثُلثَ فدعوا الربعَ)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1805] ـــــــــــــــــــــــــــــ بالدال-. قوله: ((إنما أمره أن يأخذ)). فإن قلت: معنى الحديث أن الزكاة منحصرة في هذه الأربعة وليس كذلك، وأجاب المظهر بأنه أمره أن يأخذ الزكاة من هذه لأنه لم يكن ثمة غير هذه الأربعة. أقول: هذا إن صح بالنقل فلا كلام، وإن فرض أن ثمة شيئاً غير هذه الأربعة مما يجب فيه الزكاة، فمعناه: إنما أمره أن يأخذ الصدقة من المعشرات من هذه الأجناس. وغلب الحنطة والشعير علي غيرهما من الحبوب، لكثرتهما في الوجود وأصالتهما في القوت. واختلف فيما تنبت الأرض مما يزرعه الناس ويغرسه، فعند أبي حنيفة: تجب الزكاة في الكل، سواء كان قوتا او غير قوت، فذكر التمر والزبيب عنده للتغليب أيضًا. قوله: ((مرسل)) موسى بن طلحة تابعي، هو أبو عيسى موسى بن طلحة بن عبيد التيمي القرشي سمع أباه وجماعة من الصحابة. وعلي هذا التقدير ينبغي أن يقال: عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلي هذا قوله: ((قال: وعندنا كتاب معاذ بن جبل)) يكون معترضاً، ولا معنى له، وإن اتصل قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كتاب معاذ بن جبل)) فيكون حالا من ضمير كتاب في الخبر، أي صادرا عن النبي، فحينئذ لا يكون مرسلا، بل يكون وجادة كما سبق، اللهم إلا بالتأويل. الحديث السادس عن عتاب: قوله: ((إنما تخرص)) ((مظ)): يعني إذا ظهر في العنب والتمر حلاوة، يقدر الحازرُ أن هذا العنب إذا صار زبيبا، كم يكون، ثم ينظر إن بلغ نصابا يجب وإلا فلا. الحديث السابع عن سهل: قوله: ((فإذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث)) فخذوا جواب للشرط، و ((دعوا)) عطف عليه، أي عينوا مقدار الزكاة فخذوا الثلثين منه واتركوا الثلث لرب المال حتى يتصدق به. وفي المصابيح حذف ((فخذوا)) وجعل ((فدعوا)) جواباً لعدم اللبس. ((قض)): الخطاب مع المصدقين، أمرهم أن يتركوا للمالك ثلث ما خرصوا عليه أو ربعه، توسعة عليه حتى يتصدق به علي جيرانه ومن يمر عليه، ويطلب منه فلا يحتاج أن يغرم من

1806 - وعن عائشة، قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبعثُ عبدَ اللهِ بن رواحةَ إِلي يهود، فيخرُص النخلَ حين يطيبُ قبلَ أن يؤكلَ منه. رواه أبو داود. [1806] 1807 - وعن ابنِ عمر، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في العسَلِ: ((في كلِّ عشرةِ أزُق زِقُّ)). رواه الترمذي، وقال: في إسناده مقال، ولا يصحُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ كثيرُ شيءٍ. 1808 - وعن زينبَ امرأةِ عبدِ الله، قالت: خطبَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشرَ النساءِ! تصدَّقنَ ولو من حُلِيكُنَّ، فإنكُنَّ أكثرُ أهلِ جهنَّم يومَ القيامةِ)) رواه الترمذي. [1808] 1809 - وعن عمرو بنُ شعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه: أنَّ امرأتينِ أتتا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفي أيديهما سِوارانِ من ذهَبٍ، فقال لهما: ((تؤدِّيانِ زكاتَه؟)) قالتا: لا. فقالَ ـــــــــــــــــــــــــــــ ماله. وهو قول قديم للشافعي، وعامة علماء الحديث. وأما أصحاب الرأي فلا عبرة بالخرص عندهم لإفضائه إلي الربا، وزعموا: أن الأحاديث الواردة فيه إنما كانت قبل ورود النهي عن الربا، فلما حرمت نسخ ذلك. ويرده حديث عتاب؛ لأنه أسلم أيام الفتح، والربا كانت محرمة قبله. ثم إن قلنا بوجوب الزكاة في الذمة، فلا ربا في الخرص، وإن قلنا بوجوبها في عين المال، وأن المستحق شريك فيه، والخرص تضمين فكأن الساعي أقرض نصيبه من المالك ليؤدي التمر بدله، فهو مستثنى للحاجه كالعرايا. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلي يهود)) أي إلي يهود خبير وفي رواية أخرى لأبي داود: قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة فيخرص النخل حين تطيب الثمار قبل أن يؤكل منه، ثم يخير يهود أن يأخذوه بذلك الخرص، أو يدفعوه إليه به لكي يحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار، ويفرق. وهذا زكاة مال المسلمين الذين تركوها في أيدي اليهود يعلمون فيها. قوله: ((حين يطيب)) أي حين تظهر في الثمار الحلاوة. الحديث التاسع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((في العسل الأزق)) أفعل جمع قلة لزق. وقد تمسك بظاهره من أوجب الزكاة في العسل. قوله: ((في إسناده مقال)) أي موضع قول للمحدثين، يعني تكلموا فيه، وطعنوا، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب زكاة العسل ما يقول عليه، هذا معنى قوله: ((كثير شيء)). الحديث العاشر والحادي عشر عن زينب: قوله: ((ولو من حليكن)) ((حس)): ظاهر الحديث

لهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أتُحبَّانِ أن يسورَكما اللهُ بسوارينِ من نارٍ؟)) قالتا: لا. قال: ((فأديا زكاتَه)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ قد رواهُ المثنَّى بنُ الصباح، عن عمرو بن شُعيبٍ نحوَ هذا، والمثنَّى بن الصباح وابنُ لهيعة يضعفانِ في الحديث، ولا يصحُّ في هذا الباب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيء [1809]. 1810 - وعن أُم سلمة، قالت: كنتُ ألبَسُ أوضاحاً من ذهب، فقلت: يا رسولَ اللهِ! أكنزٌ هو؟ فقال: ((ما بلغَ أن تُؤدَّي زكاتهُ فزُكي، فليسَ بكنزٍ)) رواه مالك، وأبو داود. [1810] ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل علي وجوب الزكاة في الحلي وإن كان مباحاً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((فأديا زكاته)) وهو أحد قولي الشافعي، والجديد: أنه لا يجب في الحلي المباح زكاة. وتأويل الحديثين علي هذا: أن المراد من الزكاة الإعارة، أو لعله كان كثيراً بالإسراف، أو لعله كان متخذاً من ذهب أو فضة قد بقيت فيه زكاة. أقول: ويمكن أن يراد بالصدقة التطوع، يدل عليه حديث العيد، فإنهن حينئذ لم يخرجن ربع العشر من حليهن بل كن يومين ما كان عليهن من الحلي في حجر بلال، ولئن سلم فـ ((لو)) هنا للمبالغة، أي تصدقن من كل ما يجب فيه الصدقة، حتى مما لا تجب فيه من الحلي؛ ومن ثم علله بقوله: ((فإنكن أكثر أهل النار)). وأما حديث عمرو بن شعيب: ((أن امرأتين أتتا)) إلي آخره، فضعفه الترمذي، كما في متن المشكاة. وأيضًا فيه تدليس وتورية علي ما سبق. قوله: ((نحو هذا)) اسم الإشارة وضع موضع الضمير الراجع إلي الحديث، وأراد به معناه. قوله: ((وفي أيديهما سواران)) وكان من الظاهر أن يقال: أسورة، لجمع اليد، المعنى: أن في يد كل منهما سوارين. والضمير في قوله: ((فأديا زكاته)) بمعنى اسم الإشارة، كما في قوله تعالي: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} وأنشد الزمخشري لرؤبة: فيه سواد، وبياض، وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق الحديث الثاني عشر عن أم سلمة: قوله: ((أوضاحًا)) هو جمع وضح، وهي نوع من الحلي تعمل من الفضة سميت بها لبياضها. ((مظ)): قولها: ((أكنز هو؟)) يعني استعمال الحلي كنز من الكنوز التي بشر الله صاحبها بالنار في قوله تعالي {الذين يكنزون الذهب والفضة} الآية؟

1811 - وعن سمرة بن جندب: أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يأمُرُنا أن نُخرج الصدقَة من الذي نُعِدُّ للبيع رواه أبو داود [1811]. 1812 - (19) وعن ربيعةَ بن أبي عبد الرَّحمن، عن غيرِ واحدٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقطعَ لبلال بن الحارث المزني معادنَ القَبَليَّة، وهي من ناحيةِ الفُرع، فتلكَ المعادنُ لا تؤخذ منها إِلا الزكاةُ إِلي اليوم. رواه أبو داود. [1812] الفصل الثالث 1813 - عن عليّ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليسَ في الخضروات صدقةٌ، ولا في ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: وكان من الظاهر أن يجاب بنعم أو لا، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الكنز، أي الكنز المعروف هو ما جمع من النقدين حتى بلغ نصاباً، ولم تؤد زكاته، فانظري إن كان كذلك فهو كنز، وإن تزينت بها كما شرعه الله تعالي وأباح للنساء فليس به. الحديث الثالث عشر عن سمرة: قوله: ((نعد للبيع)) أي نهيئ للتجارة. وفيه أن ما نوى فيه القنية لا زكاة فيه. الحديث الرابع عن ربيعة: قوله: ((أقطع)) الإقطاع ما يجعله الإمام لبعض الأجناد، والمرتزقة: من قطعة أرض ليرتزق من ريعها. ((نه)): والإقطاع يكون تمليكاً، وغير تمليك. وفي حديث أبيض: ((أنه استقطعه الملح الذي بمأرب)) أي سأله أن يجعل له إقطاعاً يتملكه، ويستبد به، وينفرد. قوله: ((القبلية)) ((مح)): المحفوظ عند أصحاب الحديث بفتح القاف والباء، والفرع: موضع بأعالي المدينة واسع، وفيه المساجد للنبي صلى الله عليه وسلم، وبه قرى كثيرة، وهو بين الحرمين. وقيل: إن القبلية منسوبة إلي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام. قوله: ((لا يؤخذ منها إلا الزكاة)) ((مظ)): يعني بالزكاة ربع العشر كزكاة النقدين، وهو مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وأما أبو حنيفة، وقول للشافعي: فيوجبان الخمس في المعدن. والقول الثالث للشافعي: إن وجده بتعب ومئونة يجب فيه ربع العشر، وإلا فالخمس. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن طاوس: قوله: ((الوقص ما لم يبلغ الفريضة)) هذا مبهم؛ لأن ما لم يبلغ الفريضة أعم من أن يكون ابتداءً، أو ما بين الفريضتين. ((نه)): الوقص – بالتحريك -

(2) باب صدقة الفطر

العرايا صدقةٌ، ولا في أقلَّ من خمسةِ أوسقٍ صدقةٌ، ولا في العواملِ صدقةٌ، ولا في الجبهةِ صدقةٌ)). قال الصقر: الجبهة الخيل والبغال والعبيد. رواه الدارقطني. 1814 - وعن طاوسٍ، أنَّ معاذَ بنَ جبل أُتي بوقصِ البقر، فقال: لم يأمُرْني فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ. رواه الدارقطني، والشافعي، وقال: الوقص: مالم يبلُغِ الفريضة. (2) باب صدقة الفطر الفصل الأول 1815 - عن ابن عمر، قال: فرضَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطرِ صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ، علي العبدِ، والحرِّ، والذكرِ، والأنثى، والصغيرِ، والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تُؤدَّى قبلَ خروجِ الناسِ إِلي الصلاة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما بين الفريضتين، كالزيادة علي الخمس من الإبل إلي التسع، وعلي العشرة إلي أربع عشرة، والجمع أوقاص. وقيل: ما وجبت الغنم فيه من فرائض الإبل ما بين الخمس إلي العشرين. ومنهم من يجعل الأوقاص في البقر خاصة، والأشناق في الإبل. أقول: مراد الإمام من الوقص هنا الأول؛ لقوله: ((أتى بوقص في الصدقة))؛ لأن ما بين الفريضتين لم يؤت ولم يصدق أن يقال فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرني فيه بشيء. وذهب فيه إلي المعنى اللغوي لا الاصطلاحي، وهو الكسر. باب صدقة الفطر الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((علي العبد)) ((قض)): جعل وجوب زكاة الفطر علي السيد كالوجوب علي العبد مجازاً، إذ ليس هو أهلاً لأن يكلف بالواجبات المالية، ويؤيد ذلك عطف الصغير عليه. ((حس)): فيه دليل علي أن صدقة الفطر فريضة [وهو قول عامة أهل العلم، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي أنها واجبة وليست بفريضة]، والواجب عندهم أحط رتبة من الفريضة. وعلي أن ملك النصاب ليس بشرط لوجوبها، بل هي واجبة علي الفقير والغني. وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا فضل عن قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته قدر صدقة الفطر يلزمه صدقة الفطر، ويجب علي المولي أن يؤديها عن عبيده وإمائه المسلمين، شاهدهم وغائبهم، سواء كان للخدمة أو للتجارة، فعليه في رقيق التجارة صدقة الفطر

1816 - وعن أبي سعيد الخدريّ، قال: كنا نخرج زكاة الفطرِ صاعاً من طعامٍ، أو صاعاً من شعيرٍ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أَقِطٍ، أو صاعاً من زبيبٍ. متفق عليه. الفصل الثاني 1817 - عن ابنِ عبَّاسٍ، قال في آخرِ رمضانَ أخرِجوا صدقَة صومكم. فرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هذه الصدقةَ صاعاً من تمرٍ، أو شعيرٍ، أو نصف صاعٍ من قمح علي كلِّ حرّ أو مملوكٍ، ذكرٍ أو أنثى، صغير أو كبير. رواه أبو داود، والنسائي. [1817] ـــــــــــــــــــــــــــــ وزكاة التجارة. وعلي أنها لا تجب علي المسلم فطرة عبده الكافر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((من المسلمين))، ولأنها طهرة المسلم كزكاة المال. أقول: إن ((من المسلمين)) حال من ((العبد)) وما عطف عليه، وتنزيلها علي المعإني المذكورة علي ما يقتضيه علم البيان أن المذكورات جاءت مزدوجة علي التضاد للاستيعاب لا للتخصيص؛ لئلا يلزم التداخل، فيكون المعنى، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم علي جميع الناس من المسلمين. وكونها علي من وجبت وفيمن وجبت، يعلم من نصوص أخر. ويمكن أن يقال: إن ((علي)) بمعنى ((عن)) وضمن ((فرض)) معنى ((صدر)) أي أصدر صدقة الفطر فرضاً عن العبد والحر صاعاً، وينصر هذا حديث عبد الله بن ثعلبة في الفصل الثالث، فوضع ((علي)) موضع ((عن)) لمزيد الاستعلاء. والله أعلم. قوله: ((أن تؤدى قبل خروج الناس)) هذا أمر استحباب؛ لجواز التأخير عند الجمهور. واختلفوا في جواز التأخير عن اليوم. الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من طعام)) يريد به البر؛ لقوله: ((من شعير)). ((تو)): وزعم بعضهم أن الطعام عندهم اسم خاص بالبر، وهو أعلي ما كانوا يقتاتونه في الحضر والبدو، فلولا أنه أراد بالطعام الحنطة، لذكرها عند التفضيل كذكره سائر أقواتهم. ((مظ)): إن كان غالب قوتهم إقطاً، فهل يجوز أن يؤدى منه الفطرة؟ ففيه خلاف، ظاهر الحديث علي جوازه. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أو نصف صاع من قمح)) القمح الحنطة، هذا عند أبي حنيفة، وعند مالك والشافعي وأحمد لا يجزئ إلا صاع سواء كان من الحنطة أو غيرها. والصاع عندهم خمسة أرطال وثلث رطل، وعند أبي حنيفة أربعة أمناء.

1818 - وعنه، قال: فرضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر طُهرَ الصيامِ من اللِّغو والرَّفثِ، وطُعمةً للمساكين. رواه أبو داود [1818]. الفصل الثالث 1819 - عن عمرو بن شُعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ مُناديًا في فجاجِ مكَّة: ((ألا إِنَّ صدقةَ الفطرِ واجبةٌ علي كلِّ مُسلمٍ، ذكرٍ أو أنىثى، حرَ أو عبد، صغيرٍ أو كبير؛ مُدَّانِ من قمحٍ أو سِواه، أو صاعٌ من طعام)) رواه الترمذي [1819] 1820 - وعن عبد الله بن ثعلبة، أو ثعلبةَ بنِ عبد الله بنِ أبي صُعير، عن أبيهِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صاعٌ من بُر أو قمحٍ عن كل اثنين؛ صغيرِ أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكرٍ أو أنثى. أما غنيُّكم فيزكيهِ الله، وأمَّا فقيرُكم فيُردُّ عليهِ أكثرُ ممَّا أعطاه)) رواهُ أبو داود. [1820] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((طهر الصيام)) ((خط)): ذهب من رأي إسقاطها عن الأطفال إلي هذا؛ لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا يلزمهم طهرة الصيام. وأما أكثر أهل العلم فقد أوجبوا علي الأطفال إيجابها علي البالغين. أقول: لعلهم نظروا إلي أن علة الإيجاب مركبة من الطهرة والطعمة، فغلبوا الطعمة رعاية لجانب المساكين. الرفث: الكلام الذي يجرى بين الرجل والمرأة تحت اللحاف، ثم كثر حتى استعمل في كل كلام قبيح. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمرو بن شعيب: قوله: ((في فجاج مكة)) ظرف ((بعث)) كقوله تعالي: {بعث في الأميين رسولا} الفجاج: جمع فج، وهو الطريق الواسع وقوله: ((مدان)) خبر مبتدأ محذوف، والجملة بيان لـ ((صدقة))، أو خبر بعد خبر. وقوله: ((أو صاع)) ((أو)) هذه للشك والتردد من الراوى. و ((أو)) في قوله: ((أو سواه)) للتنويع. الحديث الثانى عن عبد الله بن ثعلبة: قوله: ((صاع)) مبتدأ، و ((من بر)) صفة ((صاع)) ((عن كل اثنين)) خبره، أي صاع من بر مجز عن كل اثنين. وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. قوله: ((أما غنيكم)) تفصيل لعلة وجوب صدقة الفطر، والتزكية إما التطهير أو التنمية: فالمناسب لحال

(3) باب من لا تحل له الصدقة

(3) باب من لا تحل له الصدقة الفصل الأول 1821 - عن أنسِ، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ في الطريق، فقال: ((لولا إني أخافُ أن تكونَ من الصدقةِ لأكلتُها)) متفق عليه. 1822 - وعن أبي هريرةَ، قال: أخذَ الحسنُ بنُ علي تمرةً من تمرِ الصدقةِ فجعلَها في فيهِ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((كِخْ كِخْ)) ليطرحهَا، ثمَّ قال: ((أما شعرتَ أنَّا لا نأكلُ الصدقةَ؟!)) متفق عليه. 1823 - وعن عبد المطلبِ بنِ ربيعة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هذهِ الصدقاتِ إِنَّما هي أوساخُ النَّاسِ، وإنَّها لا تحلُّ لمحمِّدٍ ولا لآلِ محمَّد)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الغنى التطهير من الإمساك، ولحال الفقير التنمية فيما أبقاه من القوت، هذا علي أن يكون الفقير من يملك قوته. باب من لاتحل له الصدقة الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لولا أنى أخاف)) ((خط)): الصدقة حرام علي النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كانت تطوعًا أو فرضًا، وأما بنو هاشم وبنو المطلب فيحرم عليهم الواجب دون التطوع. وفي الحديث دليل علي جواز أكل ما وجد في الطريق من الطعام القليل الذي لا يطلبه مالكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امتنع من أكلها خشية كونها من الصدقة. وأقول: فيه تنبيه للمؤمن أن يجتنب عما فيه تردد واشتباه؛ لئلا يقع في الحرام. الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كخ كخ)) ((مح)): هو بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات يقال: كخ، أي اترك، وارم. وهي معربة، وقد أشار البخاري إلي هذا في ترجمة باب من تكلم بالفارسية. وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار، ويمنعون من تعاطيه، فهذا واجب علي الولي. الحديث الثالث عن عبد المطلب بن ربيعة: قوله: ((إنما هي أوساخ الناس)) وقع في حيز خبر ((إن)) وهي مكسورة كما وقع ((إن)) المكسورة في قوله تعالي: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع}. ذهب أبو البقاء إلي أن ((إن)) جاءت مقحمة مؤكدة للأولي.

1824 - وعن أبي هريرةَ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتيَ بطعامٍ سألَ عنُه ((أهديَّةٌ أم صدقة؟)) فإِنْ قيلَ: صدقةٌ؛ قالَ لأصحابهِ: ((كُلوا)) ولم يأكُلْ، وإِنْ قيلَ: هديَّةٌ، ضربَ بيدهِ فأكلَ معهم. متفق عليه. 1825 - وعن عائشةَ، قالت: كانَ في بريرةَ ثلاثُ سنن: إِحدى السُّنَنِ أنها عتقَتْ فخُيّرتْ في زوجها، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الوَلاءُ لمنْ أعتقَ)). ودخلَ رسولُ ـــــــــــــــــــــــــــــ والتقدير: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لانضيع. وذهب صاحب الكشاف إلي أن الخبر ((أولئك))، و {إنا لانضيع أجر من أحسن عملا} معترض. وكذلك ما نحن فيه؛ فإن خبر ((إن)) ((لا تحل لمحمد))، و ((إنما هي أوساخ الناس)) معترضة، و ((إن)) مقحمة للتأكيد، وحمل ((أوساخ)) علي ضمير الصدقات وارد علي التشبيه، كقولك: زيد أسد. وفيه من المبالغة ما لا يخفي. وقد اجتمع في هذا التركيب مبالغات شتى لاسيما جعل المشبه به ((أوساخ الناس)) للتهجين والتقبيح، تنفيرًا واستقذارًا. وجل حضرة الرسالة ومنبع الطهارة أن ينسب إلي ذلك، ولذلك جرد عن نفسه الطاهرة من يسمى محمدًا، كأنه غيره، وهو هو، فإن الطيبات للطيبين. فإن قلت: فكيف أباحها لبعض أمته، فإن من كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ قلت: ما أباحها لهم عزيمة، بل اضطرارًا، وكم أحاديث تراها ناهية عن السؤال، فعلي الحازم أن يراها كالميتة، {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}. وفي إتيان ((لا)) المؤكدة للنفي، وتكرير اللام في ((لا)) إشعار باستقلال كل بهذا الحكم. الحديت الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ضرب بيده)) أي مد يده إليه من غير تحام عنه، تشبيهًا للمد بالذهاب سريعًا في الأرض، فعداه بالباء، كما يقال: ذهب به، بخلاف إذا كانت صدقة، فإنه صلى الله عليه وسلم يتحاماه ويمتنع منه. ((قض)): وذلك لأن الصدقة منحة لثواب الآخرة، والهدية تمليك الغير شيئًا تقربًا إليه وإكرامًا له؛ ففي الصدقة نوع ترحم وذلك للآخذ، فلذلك حرمت الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم دون الهدية. وقيل: لأن الهدية يثاب عليها في الدنيا، فتزول المنة، والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فتبقى المنة عليه، ولا ينبغى لنبى أن يمن عليه أحد غير الله. الحديت الخامس والسادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كان في بريرة تلاث سنن)) جعلها مكانًا ومقرًا لمسائل تلاث؛ لأنها وجدت بسببها. قوله: ((البرمة)) ((نه)): هي القدر مطلقًا، وجمعها برام، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن قوله: ((ألم أر)) الهمزة فيه للتقرير والتعجب، أي كيف تقدمون إلي هذا الأدم وهذه البرمة تفور باللحم؟ ويجوز أن يكون إنكارًا.

الله صلى الله عليه وسلم والبُرمةُ تفورُ بلحمٍ، فقُرِّب إليهِ خبزٌ وأُدْمٌ من أدمِ البيتِ، فقال: ((أَلَمْ أرَ برمةً فيها لحمٌ؟)) قالوا: بلي، ولكنِ ذلكَ لحمٌ تُصدِّقَ بهِ علي بريرَة، وأنتَ لا تأكل الصدقةَ. قال: ((هو عليها صدقةٌ، ولنا هديةٌ)) متفق عليه. 1826 - وعنها، قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقبلُ الهديةَ ويُثيبُ عليها رواه البخاري. 1827 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لو دُعيتُ إِلي كُراع لأجبتُ، ولو أهدِيَ إليَّ ذِراعٌ لقبلتُ)) رواه البخاري. 1828 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ المسكينُ الذي يطوفُ علي الناسِ تردُّه اللُّقمة واللقمتان والتمرةُ والتمرتان؛ ولكنَّ المسكينَ الذي لايجدُ غنى يُغنيهِ ولا يُفطنُ به فيتصدَّقَ عليه، ولا يقومُ فيسألُ النَّاس)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((هو لها صدقة ولسنا هدية)) قال المالكى: يجوز في ((صدقة)) الرفع علي أنه خبر ((هو)) و ((لها)) صفة قدمت، فصارت حالا كقوله: والصالحات عليها مغلقًا باب فلو قصد بقاء الوصفية، لقيل: والصالحات عليها باب مغلق، وكذا الحديث، ولو قصدت فيه الوصفية، بـ ((لها)) لقيل: هو صدقة لها. ويجوز النصب فيها علي الحال، ويجعل الخبر ((لها)). ((قض)): إذا تصدق علي المحتاج بشىء ملكه، وصار له كسائر ما يملكه ويستكسبه، فله أن يهدى به غيره، كما له أن يهدى بسائر أمواله بلا فرق. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلي كراع)) ((نه)): الكراع اسم موضع بين مكة والمدينة. وفي الحديث ((حتى بلغ كراع الغميم)) والغميم – بالفتح - واد في الحجاز، والكراع: جانب مستطيل من الحرة تشبيهًا بالكراع، وهو ما دون الركبة من الساق. ((مظ)): يعنى لو دعانى أحد إلي ضيافة كراع غنم لأجبته. هذا إظهار للتواضع، وتحريض عليه. وأقول: يحتمل أن يراد بالكراع الموضع، فيكون مبالغة لإجابة الدعوة. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس المسكين)) ((مظ)): يعنى ليس المسكين من يتردد علي الأبواب ويأخذ لقمة، فإن من فعل هذا ليس بمسكين؛ لأنه يقدر علي تحصيل قوته، وليس المراد من هذا أن من فعل هذا لايستحق الزكاة، ولكن المراد ذم من فعله إذا لم يكن مضطراً، واظهار فضل مسكين لم يسأل الناس علي من يسألهم. أقول: فعلي هذا لا

الفصل الثاني 1829 - وعن أبي رافعٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ رجُلاً من بنى مخزومٍ علي الصدقةِ، فقال لأبي رافعٍ: اصحبنى كيما تُصيبَ منها. فقال: لا، حتى آتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأَلَهُ. فانطلق إلي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: ((إنَّ الصدقةَ لاتحلُّ لنا، وإنَّ مواليَ القومِ من أنفُسهِمِ)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1829] 183، - * وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحِلُّ الصدقةُ لغنيّ ولا لذي مِرَّةٍ سويّ)) رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [183،] ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه لإيراد هذا الحديت في باب من لاتحل له الصدقة؛ لأنه حينئذ نفي حقيقة شىء لم يوجد فيه ما هو لأجله وإثبات ما يخالفها، نحو هذا ليس بإنسان بل هو حيوان لمن لم يوجد فيه الإنسإنية. فتقوى به مذهب أبي حنيفة؛ لأن المسكين عنده من لاشيء له. وجوابه عندنا: المسكين من لا كفاية له، وهو أعم من أن لا يكون عنده شىء أو يكون عنده شيء، ولكن لا يكفي. وما نحن فيه من القسم الأول، وإليه أشار الخطأبي بقوله: في الحديت دليل علي أن المسكين في الظاهر عندهم، والمتعارف لديهم هو السائل الطواف. وإنما نفي صلى الله عليه وسلم المسكنة عنه؛ لأنه تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته، ويسقط اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة فيمن لايسأل ويعطف عليه فيعطى. ويؤيد هذا التأويل إيقاع الخبر موصولا، وجعل ((ترده)) حالا من الضمير في ((يطوف)) فيفيد الانحصار، ورد علي من زعم خلاف ذلك، أي ليس المسكين المتعارف شرعًا من هو متعارف عندكم؛ لأنه ذو كفاية تأتيه الزيادة عليها. الفصل الثاني الحديت الأول عن أبي رافع: قوله: ((إن موالي القوم من أنفسهم)) ((مظ)): يعنى أنت عتيقنا، فكما لا تحل الزكاة لنا، فكذلك لا تحل لمن أعتقناه. هذا ظاهر الحديث، ولكن قال الخطأبي: فأما موالي بنى هاشم؛ فإنه لاحظ لهم في سهم ذوى القربى، فلا يجوز أن تحرم الصدقة. ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهًا له، وقال: ((موالي القوم من أنفسهم)) علي سبيل التشبيه في الاستنان بهم، والاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفي مثونته، فنهاه عن أخذ الزكاة. الحديث الثانى عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((ولا لذى مرة سوى)) ((نه)): المرة القوة والشدة، والسوى: صحيح الأعضاء. وفي الغريبين: أي ذى عقل وشدة. ((حس)): أصل المرة من قولهم: أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. واختلفوا في القوى القادر علي الكسب، هل تحل

1831 - ورواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة. [1831] 1832 - وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: أخبرَني رجُلان أنَّهُما أتيَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في حجَّة الوَداعِ، وهو يقسم الصدقة، فسألاهُ منها، فرفعَ فينا النظَر وخفضَه فرآنا جلْدَين، فقال: ((إن شئتُما أعطيتكُما، ولاحظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسبٍ)). رواه أبو داود. والنسائي [1832]. 1833 - وعن عطاء بن يسار، مُرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تحلُّ الصدقةُ لغنيّ إلا لخمسة: لغازٍ في سبيلِ الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغارمٍ، أو لرجل اشتراها بمالهِ، أو لرجلٍ كانَ لهُ جارٌ مسكينٌ فتُصدقَ علي المسكينِ فأهدَى المسكينُ للغني)) رواه مالك، وأبوداود. [1833] ـــــــــــــــــــــــــــــ له الصدقة أم لا؟ فذهب أكثرهم إلي أنه لا تحل، وهو قول الشافعى. وقال أصحاب أبي حنيفة: تحل له إذا لم يملك مائتى درهم. أقول: وفي ظاهر تفسير صاحب الغريبين: أي ذى عقل وشدة، إشارة إلي أن مجموع قوله: ((ذى مرة سوى)) كناية عن كونه كسوبًا؛ فإن من كان ظاهر القوة، غير أنه أخرق لا كسب له فتحل له الزكاة. وفيه أن من له رجاحة في العقل، ومتانة في الجسم لايرضي بهذه الذلة والضعة لنفسه، ولاينبغى له ذلك، فإنه مناف لحال المؤمن المكرم. الحديت الثالث عن عبيد الله: قوله: ((إن شئتما أعطيتكما)) فإن قلت: كيف يصح هذا جوابأ؛ فإن ظاهر الجواب أن يقول: لا أعطيكما لأنكما جلدان قويان ولاحظ لقوى مكتسب؟ قلت: فيه جوابان: أحدهما لا أعطيكما لأن الصدقة ذلة وهوان فإن رضيتما بذلك أعطيتكما. وثإنيهما: أنها حرام علي الجلد، فإن شئتما تناول الحرام أعطيتكما، قاله توبيخًا وتغليظًا. الحديت الرابع عن عطاء: قوله: ((أو لغارم)) ((مظ)): هو الذي استدان دينًا ليصلح به بين الطائفتين وقع بينهما التشاجر في دية أو دين، فيستدين رجل يؤدى الدين أو الدية ويصلح بينهما، فيجوز له أخذ الزكاة ليؤدى ذلك الدين أو الدية، وإن كان غنيًا. قال الإمام في التفسير الكبير: الغرم في اللغة لزوم ما يشق، وسمى الدين غرمأ؛ لكونه شاقًا ولازمًا، فالدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية؛ لأنه إعانة علي المعصية وإلا فهو قسمان: قسم حصل بسبب الضروريات كالنفقة، وقسم حصل بسبب حالات وإملاح ذات بين. والقسمان داخلان في الآية.

1834 - وفي روايةٍ لأبي داود عن أبي سعيد: ((أو ابن السبيل)). [1834] 1835 - وعن زياد بن الحارث الصُّدائيَّ، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فبايعتُهُ، فذكرَ حديثًا طويلاً، فأتاهُ رجلٌ فقال: أَعطِني من الصدقةِ. فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لم يرضَ بحكمِ نبي ولاغيرهِ في الصدَقاتِ، حتى حكم فيها هو فجزَّأها ثمإنيةَ أجزاء؛ فإنْ كُنتَ من تلك الأجزاءِ أعطيتُكَ)) رواه أبو داود. [1835] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اشتراها بماله)) فإن قلت: ما فاتدة قيد الاشتراء بالمال، وكذا قوله: ((جار مسكين)) إلي آخره زيادة في الكلام وكان يكفي أن يقال: اشتراه، أو أهدى إليه؟ قلت: أما الأول فتنبيه علي أن ما يعطى للأضياف يصير ملكًا لهم، ومالا من الأموال، فيجوز إبداله بمثله من المال. وأما الثانى: فإن الغالب في الهدايا التواد والتحاب، والمرء إنما يهدى ليستكثر وينعطف عليه، وهو أحق بالجار لاسيما إذا كان مسكينًا ومن تم أعاده مرارًا. الحديت الخامس عن زياد بن الحارث: قوله: ((حكم فيها هو)) فقوله: ((هو)) تأكيد، إذ ليس هنا صفة جرت علي غير من هي له. و ((حتى)) بمعنى إلي أن. قوله: ((فجزأها ثمإنية)) ((خط)): فيه دليل علي أنه لايجوز جمح الصدقة كلها في صنف واحد، وأن الواجب تفريقها علي أهل السهام بحصصهم. ولو كان معنى الآية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزتة معنى يدل علي صحة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيتك)). قال الإمام في التفسير الكبير في قوله تعالي: {إنما الصدقات للفقراء} الآية: لا دلالة فيها علي قول الشافعى رضي الله عنه في أنها لابد في صرفها إلي الأصناف؛ لأنه إعلام للأئمة بجعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف؛ فأما أن صدقة زيد بعينها توجب توزيعها علي الأصناف كلها فلا، كما أن قوله تعالي: {واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه} الآية توجب تقسيم الخمس علي الطوائف من غير التوزيع بالاتفاق، يعنى لم يقل أحد: إن كل شىء يغنم بعينه يجب تفريق ذلك الشيء، علي الطوائف كلها. وأيضًا إن الحكم الثابت في مجموعه لايوجب ثبوته في كل جزء من أجزائه. قال محيى السنة في معالم التنزيل: واختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، فذهب جماعة إلي أنه لايجوز صرف كلها إلي بعضهم مع وجود سائر الأصناف. وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعى رضي الله عنه، وقال: يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله علي الموجودين من الأصناف قسمة علي السواء، ثم حصة كل صنف لاتجوز أن تصرف إلي أقل من ثلاثة منهم،

الفصل الثالث 1836 - عن زيد بن أسلَم، قال: شربَ عمرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه لبنًا فأعجبَه، فسألَ الذي سقاهُ. من أينَ هذا اللَّبَنُ؟ فأخبره أنَّهُ ورَدَ علي ماءٍ قد سمَّاه، فإذا نَعَمٌ من نعَمِ الصدقة وهم يسقُون، فحلَبوا من ألبانها فجعلْتُه في سقائي فهوَ هذا فأدخلَ عُمرُ يدهَ، فاستَقاءَه. رواه مالك، والبيهقي في ((شعبِ الإيمان)) [1836]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إن وجد ثلاثة. وذهب جماعة إلي أنه لو صرف الكل إلي صنف زاحد من هذه الأصناف أو إلي شخص واحد منهم جاز. وإنما سمى الله تعالي الأصناف الثمإنية إعلامًا منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف لا إيجابًا لقسمها بينهم جميعًا. يدل عليه إيراد الآية بأداة الحصر، أي إنما الصدقات لهؤلاء الأصناف لا لغيرهم. وهو قول عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري، وأصحاب أبي حنيفة. وقال أحمد: يجوز أن يضعها في صنف واحد، وتفريقها أولي. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولي فالأولي، وإن رأي الحاجة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رأي في عام في صنف آخر حولها إليهم. وكل من دفع إليه صدقته لا يزيد علي قدر الاستحقاق. وقال القاضي: قول الأئمة الثلاثة جواز الصرف إلي صنف واحد، واختاره بعض أصحابنا. قوله: ((فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك)) ما أحسن هذا الجواب وما ألطفه وما أنصفه! إذ لو قال: ما أعطيتك فإنك لن تستحقها ولا أنت أهل لها، لاشمأز ونفر، ولكن بعثه علي التفكر، وأن يوازن حاله علي حكم الله، فيقف علي أنه لا يستحقها، ففيه إيجاز من وجه، وإطناب من وجه، فليتأمل. الفصل الثالث الحديث الأول عن زيد بن أسلم: قوله: ((علي ماء)) أي مكان فيه ماء القوم. قوله: ((فاستقاء)) هذا غاية الورع والتنزه عن الشبه.

(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له الفصل الأول 1837 - عن قبيصةَ بنِ مخارقٍ، قال: تحمَّلتُ حَمالة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألهُ فيها: فقال: ((أقِم حتى تأتينا الصدقةُ: فنأمُرَ لكَ بها))، ثمَّ قال: ((ياقبيصةُ! إنَّ المسألةَ لاتحِلُّ إِلاَّ لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمَّلَ حمَالة فحلَّتْ لهُ المسألةُ حتى يُصيبَها ثمَّ يُمسِك. ورجلٌ أصابتهُ جائحةٌ اجتاحَتْ مالَه فحلَّتْ لهُ المسألةُ حتى يُصيبَ قوامًا من عيشٍ، أو قال: سِدادًا من عيشٍ، ورجلٌ أصابتهُ فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي ـــــــــــــــــــــــــــــ باب من لاتحل له المسألة ومن تحل له الفصل الأول الحديت الأول عن قبيصة: قوله: ((تحملت حمالة)) أي تكفلت دينًا. ((مح)): الحمالة - بفتح الحاء - المال الذي يتحمله الإنسان، أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين، وإنما تحل له المسألة ويعطى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية. قوله: ((حتى يصيبها)) الضمير ليس براجع إلي ((المسألة))، ولا إلي ((الحمالة)) نفسها بل إلي معناهما، أي يصيب ما حصل له من المسألة، أو ما أدى من الحمالة، وهي الصدقة. قوله: ((جائحة)) ((نه)): الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال، وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة، وفتنة مثيرة. ((جائحة)) اسم فاعل من جاحته تجوحه إذا استأصلته. قوله: ((قوامًا)): أي ما يقوم بحاجته الضرورية ((مح)): القوام والسداد - بكسر القاف والسين - وهما بمعنى ها هنا، وهو ما يغنى من الشيء، وما تسد به الحاجة، وكل شىء يسد به شىء فهو سداد بكسر السين. أقول: بالغ في الكف عن المسألة، حتى شبه السائل بالمضطر الذي تحل له أكل الميتة إلي أن يسد رمقه، وأبلغ منه قوله: ((حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى)) حيث ((يقوم)) وضع موضع ((يقول))؛ لأن قوله: ((لقد أصابت فلانًا فاقة)) مقول للقول، فلا يناسب أن يقال: يقوم لقد أصابت فلانًا فاقة؛ لكن لاهتمام الشأن وضع ((يقوم)) بدل ((يقول))، جاعلا المقول حالا، أي يقوم تلاثة قائلين هذا القول. ولمزيد الاهتمام أبرزه في معرض القسم، وقيدهم بذوى العقول، حتى لايشهدوا عن تخمين، وجعلهم من قومه؛ لأنهم أعلم بحاله. وقال الشارحون: هذا ليس من باب الشهادة، ولا يريد به التنصيص علي أن الفاقة لا تثبت إلا بثلاثة شهود، إذ لم يسمع أن أحدًا من الأئمة قال به، ولم نجد لهذا العدد من الرجال مدخلا في شيء من الشهادات، بل

الحجى من قومه: لقد أصابَتْ فُلانًا فاقةٌ فحلَّتْ لهُ المسألةُ، حتى يُصيبَ قواما من عيشٍ، أو قالَ: سِدادًا من عَيشٍ. فما سِواهنَّ من المسألةِ يا قبيصةُ سحتٌ يأكلُها صاحبُها سُحتًا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لعله ذكره علي وجه الاستحباب وطريقة الاحتياط؛ ليكون أدل علي براءة السائل عن التهمة وأدعى للناس إلي سد حاجته. ((مح)): ((حتى يقوم)) هكذا في جميع نسخ مسلم، وهو صحيح. قال الصنعانى: كذا وقع في كتاب مسلم، والصواب ((يقول)) باللام، وكذا اخرجه أبو داود. أقول: قد سبق أن ((يقوم)) أبلغ، والمقام له أدعى، وحذف القول في الكلام الفصيح شائع، قال تعالي {وعرضوا علي ربك صفًا لقد جئتمونا} أي قلنا لقد جئتمونا. قوله: ((سحت)) ((نه)): السحت هو الحرام الذي لايحل كسبه؛ لأنه يسحت البركة، أي يذهبها. ويقال: مال فلان سحت، أي لا شىء علي من استهلكه، ودمه سحت، أي لا شىء علي من سفكه. واشتقاقه من السحت، وهو الإهلاك، والاستئصال. أقول: قوله: ((يأكلها صاحبها سحتًا)) صفة لـ ((سحت)) والضمير الراجع إلي الموصوف مؤنث علي تأويل الصدقة. وفائدة الصفة أن أكل السحت لايجد للسحت الذي يأكله شبهة تجعلها مباحًا علي نفسه، بل يأكلها من جهة السحت، كما في قوله تعالي: {ويقتلون النبيين بغير حق} أي يقتلونهم علي اعتقاد أن قتلهم مباح، وليس حق لهم عليهم. والتعريف في ((المسألة)) إما للعهد، فيكون الكلام في الزكاة، وإما للجنس، فيشمل التطوع والفرض. وقرينة الأولي التفصيل، لأن تحمل الحمالة لا يكون إلا للغارم، وإصابة الجائحة للثمار إنما يتصور في المساكين، وإصابة الفاقة للفقير. فإن قلت: ما وجه تخصيص ((من أصابته الجائحة)) بالمساكين، و ((من أصابته الفاقة)) بالفقير، وقد عقب كل بقوله ((حتى يقيم* قوامًا من عيش))؟ قلنا: الفرق ظاهر، فإن من أصابته الآفة السماوية، واستأصلت ثماره قد تبقى له الأرض والزرع، فيعطى ما يتقوم به من العيش، ولا يؤمر ببيع ما بقى وإنفاقه علي نفسه ولا يعنى بالمسكين إلا هذا. ومن ثم لم تطلب البينة في إصابة الجائحة لظهورها كما تطلب في إصابة الفاقة. وتبين من هذا الفرق بين الفقير والمسكين، فلما خصصت المسألة بالزكاة المفروضة، علم أن حكم التطوع غير هذا. فإن قلت: فلم خص هؤلاء بالذكر دون سائرهم؟ قلت: لاندراج البقية فيهم، فإذ الغارم، والغازى، والعامل، والمؤلفة قلوبهم يجمعهم معنى السعى في مصالح المسلمين، وأن الرقاب وابن السبيل من جنس الفقير والمسكين.

1838 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ النَّاسَ أموالهم تكثُّرًا، فإِنَّما يسألُ جَمْرًا، فليستَقِلَّ أو ليستكثِر)) رواه مسلم. 1839 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزالُ الرجلُ يسألُ النَّاسَ حتى يأتيَ يومَ القيامةِ ليس في وجهِهِ مُزعةُ لحمٍ)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): من لم يقدر علي كسب لزمانة ونحوها جاز له السؤال بقدر قوت يومه، ومن قدر علي الكسب، وتركه لاشتغاله بتعلم العلم، تجوز له الزكاة والصدقة، ومن تركه للتطوع من الصلاة والصيام ونحوهما فلا تجوز الزكاة، ويكره له صدقة التطوع. وأما من تخلي في نحو رباط، واشتغل بالطاعة والرياضة، وتصفية الباطن، فيستحب لواحد منهم أن يسأل صدقة التطوع، وكسرات الخبز، واللباس لهم. وينبغى للسائل أن ينوى الكفاف لهم لا لنفسه إن لم يكن منهم، لكن لايكره أن يأكل معهم، وأن يترك الإلحاح بل يقول: من يعطى شيئًا لرضي الله، ولا يواجه أحدًا بعينه، فإن أعطى دعا، وإن لم يعط لم يسخط، ومن لم يقم بهذه الشرائط كان إثمه أكثر من أجره، ولا يجوز للسائل أن يأخذ لهم الزكاة لاقتدارهم علي الكسر. الحديت الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أموالهم)) بدل اشتمال من ((الناس))، وقوله: ((تكثيرًا)) مفعول له، وقد تقرر عند العلماء: أن البدل هو المقصود بالذات، وأن الكلام سيق لأجله، فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال، والإكثار منه، لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنزًا يترتب عليه قوله: ((فإنما يسأل جمرًا)) ونحوه قوله تعالي: {والذين يكنزون الذهب والفضة - إلي قوله - يوم يحمى عليها} سمى التكثر جمرا؛ لأنه مسبب عنه، كقوله تعالي: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارًا}. قوله: ((فليستقل أو ليستكثر)) أي فليستقل الجمر أو ليستكثره، فيكون تهديدًا علي سبيل التهكم، أو فليستقل المسألة، فيكون تهديدًا محضًا كقوله: ((فهن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)). ((مظ)): معنى التكثر الإكثار من قدر قوته. وقوله: ((فإنما يسأل جمرًا)) يعنى لايجوز له أن يأخذ الزكاة والصدقة أكثر من قوته، فإن أخذها يكون ذلك سببًا لنار جهنم. وقلت: وما ذهبنا إليه أشمل؛ لأنه يتناول الأصناف الثمإنية. الحديت الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مزعة لحم)) أي قطعة يسيرة من اللحم. ((خط)): هذا يحتمل معنيين: أحدهما أنه يأتى يوم القيامة ساقطًا ذليلا، لا جاه له،

184، - * وعن معاويةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُلحِفوا في المسألة، فوالله لايسألُني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرجُ له مسألتهُ منى شيئًا وأنا له كارهٌ؛ فيُبارَكَ لهُ فيما أَعطيتُه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا قدر، من قولهم: لفلان وجه في الناس، أي قدر ومنزلة. والثانى: أن يكون وجهه الذي يتلقى به الناس عظما لا لحم عليه، إما أن يكون لعقوبة نالت موضع الجناية، واما أن يكون علامة وشعارًا يعرف، لا لعقوبة مسته. وحقق المعنى الأول الشيخ التوربشتى حيث قال: عرفنا الله سبحانه أن الصور في الدار الآخرة تختلف باختلاف المعإني، قال الله تعالي: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فالذي يبذل وجهه لغير الله في الدنيا من غير ما بأس وضرورة، بل للتوسع والتكثر نصيبه شين في الوجه بإذهاب اللحم عنه؛ ليظهر للناس صورة المعنى الذي خفي عليهم منه. وأقول: يمكن أن يحقق المعنى الثانى، فإن كثرة اللحم في الوجه ونتوه يدل علي صفاقة الوجه ووقاحته، وهو أمارة الإلحاح، فيعاقب بنزعه عنه. الحديث الرابع عن معاوية: قوله: ((لا تلحفوا)) ((نه)): أي لا تبالغوا فيها، يقال: ألحف في المسألة يلحف إلحافًا، إذا ألح فيها ولزمها. قوله: ((فيبارك له)) ((شف)): بالنصب بعد الفاء علي معنى الجمعية، أي لا يجمع إعطائى أحدًا شيئًا وأنا كاره في ذلك الإعطاء، ويبارك الله في ذلك الذي أعطيته إياه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار)) بالنصب. وأقول: الحديث نظير قوله تعالي: {ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم} في وجه الإعراب لا في المعنى؛ لأن معناه الطرد المسبب عن الحساب منفي عنك، فكيف تطردهم؟ فالمنفي الفعل المعلل. وفي الحديث المعلل هو المنفي أي عدم السؤال الملح المخرج سبب البركة، فيفهم منه أن السؤال الملح سبب لعدم البركة، ولو روى بالرفع لم يفتقر إلي هذا التكلف، وجعله سببًا ومسببًا، بل يكون رفعًا علي الإشراك، كقوله تعالي: {ولايؤذن لهم فيعتذرون}. ((مح)): اتفق العلماء علي اللهي عن السؤال من غير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر علي الكسب بوجهين، أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث، والثانى حلال مع الكرامة بثلاثة شروط: أن لايذل نفسه، ولايلح في السؤال، ولايؤذى المسئول، فإن فقد أحد هذه الشروط فحرام بالاتفاق.

1841 - وعن الزُّبيرِ بنِ العوَّام، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((لأنْ يأخُذَ أحدُكم حبلَهُ فيأتيَ بحُزمة حطب علي ظهرِه، فيبيعَها، فيكفَّ اللهُ بها وجهَه، خيرٌ له من أن يسألَ النَّاسَ أعطوهُ أو منعوه)). رواه البخاري. 1842 - وعن حكيمِ بن حزامٍ، قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأعطإني، ثم سألتُهُ فأعطإني، ثمَّ قالَ لي: ((ياحكيمُ! إِنَّ هذا المالَ خَضِرٌ حلوٌ، فَمنْ أخذَهُ بسخاوة نفس بورِكَ لهُ فيه، ومن أخذَهُ بإشرافِ نفسٍ لم يُبارَكْ لهُ فيه، وكانَ كالَّذي يأكلُ ولايشبَعُ، واليَد العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفلي)). قال حكيمٌ: فقلتُ: يارسولَ اللهِ! والذي بعثَكَ بالحقِّ لا أرْزَأُ أحدًا بعدكَ شيئًا حتى أُفارقَ الدنيا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن الزبير رضي الله عنه: قوله: {فيكف الله بها وجهه} ((مظ)): يعنى فيمنع الله وجهه علي أن يريق ماءه بالسؤال. الحديث السادس عن حكيم بن حزام: قوله: ((إن هذا المال خضر حلو)) ((مح)): شبه المال في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة، فإن الأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، والحلو من حيث الذوق، فإذا اجتمعا زاد في الرغبة. وفيه إشارة إلي عدم بقائه ووخامة عاقبته. قال القاضى عياض: في سخاوة النفس احتمالان: أظهرهما أنه عائد علي الأخذ، ومعناه من أخذه بغير سؤال، ولا إشراف وطمع، بورك له فيه. والثانى: أنه عائد إلي الدفع، ومعناه: من أخذه ممن يدفعه منشرحًا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا يطيب معه نفس الدافع. وأقول: لما وصف المال بما تميل إليه النفس الإنسإنية بجبلتها رتب عليها بالفاء أمرين أحدهما: تركها مع ماهي مجبولة عليها من الحرص، والشره، والميل إلي الشهوات. وإليه أشار بقوله: ((ومن أخذه بإشراف نفس)). وثإنيهما: كفها عن الرغبة فيها إلي ما عند الله من الثواب، وإليه أشار بقوله ((بسخاوة نفس)) فكنى في الحديث بالسخاوة عن كف النفس من الحرص والشره، كما كنى في الآية بتوقى النفس من الشح والحرص المجبولة عليه عن السخاء؛ لأن من توقى من الشح يكون سخيًا، مفلحًا في الدارين ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)). قوله: ((كان كالذي يأكل)) ((خط)): يريد أن سبيله سبيل من يأكل من ذى سقم وآفة،

1843 - وعن ابنِ عمرَ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو علي المنبرِ وهو يذكرُ الصدقة والتعفُّفَ عن المسألةِ: ((اليدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلي، واليدُ العُليا المُنفِقَة واليد السُّفلي هي السَّائلةُ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيزداد سقما، ولايجد شبعًا، فينجع فيه الطعام. قوله: ((واليد العليا)) سيجىء البحث مستوفي في الحديث الذي يليه. قوله: ((لا أرزأ أحدًا بعدك)) ((نه)): أي لا أنقص بعدك مال أحد بالسؤال عنه، والأخذ منه من الرزء، وهو النقصان، يقال: مارزأته ماله، أي ما نقصته. ويمكن أن يكون معناه: بعد سؤالك هذا. ويمكن أن يكون بمعنى غيرك. أقول: اعلم أن تنزيل الرزء بمعنى النقصان علي اليد العليا، كما فسره صلى الله عليه وسلم تارة باليد المنفقة، وأخرى بالمتعففة في الحديت الذي يليه هو أن يقال: لما سمع أن اليد العليا أي اليد المنفقة التي نقص ما فيها من المال خير، بسبب تجريدها من اليد الآخذة بسبب ما سلب عنها صفة التجريد - قال مقسما بالله: لا أنقص مال أحد حتى يسلب عني صفة التجريد، أو سمع أن اليد المتعففة عن السؤال بسبب استغنائها عزيزة عند الناس {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} وأن اليد السائلة بخلافها ذليلة - قال: لا أنقص من مال أحد حتى تحصل لي صفة المذلة والهوان. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((والتعفف)) تعفف بمعنى استعف، كتعجل بمعنى استعجل. ((نه)): الاستعفاف: طلب العفاف والتعفف: وهو الكف عن الحرام، والسؤال من الناس. وقيل: الاستعفاف: الصبر والنزاهة عن الشيء. قوله: ((اليد العليا هي المنفقة والسفلي هي السائلة)) ((مح)): هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم، وكذا ذكره أبو داود عن أكتر الرواة، وفي أخرى له عن ابن عمر: ((العليا المتعففة)) من العفة، رجح الخطأبي هذه الرواية قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها. قال النواوى: وقلت: الصحيح الرواية الأولي، ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلي من الأخذة، والمتعففة أعلي من السائلة. وفي هذا الحديث دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، والمراد بالعلو: علو الفضل والمجد. وقيل: الثواب. وأقول: تحرير ترجيح الخطأبي رواية ((اليد العليا هي المتعففة)) أن يقال: إن قوله: ((وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة)) كلام مجمل في معنى العفة عن السؤال. وقوله: ((اليد العليا خير من اليد السفلي)) بيان له، وهو أيضًا مبهم، فينبغى أن يفسر بالعفة ليناسب المجمل،

1844 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: إِنَّ أناسًا من الأنصارِ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهُمْ، ثم سألوه فأعطاهُمْ، حتى نَفد ماعندَه. فقال: ((ما يكونُ عندي من خيرٍ فلَنْ أدَّخِرهُ عنكم، ومنْ يستَعِفَّ يعِفَّهُ الله، ومن يستَغْنِ يُغنِهِ اللهُ، ومنْ يتصبَّرْ يُصبره الله, وما أعطيَ أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسعُ من الصبر)). متفق عليه. 1845 - وعن عمرَ بنِ الخطَّاب، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاءَ، فأقولُ: أَعطِهِ أفقرَ إِليه مني. فقال: ((خذهُ فتمولْهُ، وتصدَّق به، فما جاءكَ من هذا المالِ وأنتَ غيرُ مشرفٍ ولا سائِلٍ؛ فخذهُ. ومالا؛ فلا تُتبعْه نفسَك)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتفسيره باليد المنفقة غير مناسب للمجمل. وتحقيق الجواب: هذا إنما يتم إذا اقتصر علي قوله: ((اليد العليا هي المنفقة))، ولم يعقبه بقوله: ((واليد السفلي هي السائلة)) لدلالتهما علي علو المنفقة، وسفالة السائلة ورذالتها، وهي مما يستنكف منها، ويتعفف عن الاتصاف بها، فظهر من هذا أن رواية الشيخين أرجح من إحدى روايتى أبي داود نقلا ودراية؛ لأنها حينتذ من باب الكناية، وهي أبلغ من التصريح، فيكون أرجح. الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ما يكون عندى)) ((ما)) موصولة متضمنة معنى الشرط؛ فلذا صح دخول الفاء في خبره. فيه من المبالغة ما انتهي غايتها؛ لأنه رتب عدم الادخار علي جمع المال، إذ لا يصدر مثل هذا إلا عن مبذال أريحى لايخاف الفقر. قوله: ((يعفه الله)) يريد أن من طلب من نفسه العفة عن السؤال، ولم يظهر الاستغناء يعفه الله، أي يصيره عفيفًا. ومن ترقى من هذه المرتبة إلي ماهو أعلي من إظهار الاستغناء من الخلق، لكن إن أعطى شيئًا لم يرده، فيملأ الله قلبه غنى، ومن فاز بالقدح المعلي وتصبر، وإن أعطى لم يقبل فهو هو. ((مح)): ((خير)) مرفوع في جميع نسخ مسلم، وهو صحيح، وتقديره: هو خير كما وقع في رواية البخاري وفي رواية ((خيرًا)). أقول: وقوله: ((عطاءً)) بمعنى معطى أي شيئًا، وقوله: ((هو خير)) صفته. وكذلك ((خيرًا)) نصبًا صفة، فالمعنى: إن الله تعالي أعطى كل شىءٍ خلقه، وما أعطى أحدًا شيئًا خيرًا من الصبر، لأنه جامع لمكارم الأخلاق. الحديث التاسع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فتموله)) ((مظ)): أي اقبله وأدخله في ملكك ومالك، والإشارة بقوله: ((من هذا المال)) إلي جنس المال، أو إلي ذلك المال. والظاهر أنه أجرة عمل عمله في سعى الصدقة، كما ينبئُ عنه حديث ابن الساعدى في الفصل الثالث من

الفصل الثاني 1846 - عن سَمُرةَ بنِ جندب، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((المسائلُ كُدوحٌ يكدَحُ بها الرجلُ وجهَه، فمن شاء أبقى علي وجههِ، ومن شاء تركه، إِلا أنْ يسألَ الرَّجلُ ذا سُلطانٍ أو في أمرٍ لا يجِدُ منهُ بُدًا)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [1846] 1847 - وعن عبد الله بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من سألَ النَّاسَ ولهُ ما يغنيهِ، جاءَ يومَ القيامةِ ومسألتهُ في وجهِهِ خموشٌ أو خدوشٌ، أو كدوحٌ)). ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الباب، والإشراف علي الشيء: الاطلاع عليه، والتعرض له، والمراد وأنت فير طامع فيه، ولا طالب له. قوله: ((وما لا)) أي وما لا يكون علي هذه الصفة بل تكون نفسك تؤثره وتميل إليه فلا تتبعه نفسك، واتركه، فحذف هذه الجملة لدلالة الحال عليها. الفصل الثاني الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((المسائل كدوح)) - بالضم - جمع الكدح، كضرب وضروب. ((نه)): الكدوح: الخدوش وكل أثر من خدش أو عض فهو كدحٌ. ويجوز أن يكون مصدرًا سمى به الأثر. والكدح في غير هذا السعى والحرص والعمل. ((مظ)): الكدوح - بفتح الكاف - مبالغة مثل صبور، وهو من الكدح بمعنى الجرح، يكدح بها الرجل، أي يهريق بالسؤال ماء وجهه، فكأنه جرحه. أقول: ذهب إلي أن حمل الخبر علي المبتدأ من باب الإسناد المجازى؛ فإن الكدوح هو السائل، وعلي الضم الحمل، من باب التشبيه، شبه أثر ذلة السؤال في وجه السائل بأثر الجرح عليه. هذا مستقيم، وعليه مدار التركيب، لكن المطابقة بين المبتدأ والخبر مفقودة للجمع والإفراد. وإنما جمع ((المسائل)) ليفيد اختلاف أنواعها، ومن ثم استثنى بقوله: ((إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان)) أي ذا حكم وملك بيده بيت المال؛ فإنه يجوز له أن يسأل حقه من بيت المال. ((خط)): وليس هذا علي استباحة الأموال التي تحويها أيدى بعض السلاطين من غصب أموال المسلمين. ((مح)): اختلفوا في عطية السلطان، فحرمها قوم وأباحها قوم، وكرهها قوم. والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يده، حرمت، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع من استحقاق الأخذ. قوله: ((أو في أمر لا يجد منه بدًا)) قيل: أي من حمالة، أو جائحة، أو فاقة علي ماسبق في حديث قبيصة. الحديث الثانى عن عبدالله: قوله: ((خموش أو خدوش)) ((مظ)): هذه الألفاظ كلها متقاربة المعنى، وشك الراوى في تلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي لفظ من هذه الألفاظ. وذهب التوربشتى

قيل: يارسولَ اللهِ! وما يغنيه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو قيمتُها من الذهبِ)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه، والدارمي [1847]. 1848 - وعن سهلِ بنِ الحنظليَّة، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ وعندَه ما يُغنيه فإِنَّما يَستكثِرُ منَ النَّارِ)). قال النُّفَيْليُّ، وهوَ أحدُ رُواتِه، في موضعٍ آخرَ: وما الغنِى الذي لا ينبَغي معَه المسألَةُ؟ قال: ((قَدْرَ ما يُغدِّيهِ ويُعشيه)). وقال في موضعٍ آخرَ ((أنْ يكونَ له شبعُ يومٍ، أو لَيلةٍ ويوْمٍ)). رواه أبو داود [1848]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والقاضى: أن الألفاظ مباينة المغزى، و ((أو)) للتنويع لا للشك. فالخدش: قشر الجلد بعود ونحوه، والخمش: قشره بالأظفار، والكدح: العض. وهي في أصلها مصادر، لكنها لما جعلت أسماء للآثار جوز جمعها. ولما كان السائل علي ثلاثة أصناف: مقل، ومفرط، ومتوسط، ذكر هذه الآثار الثلاثة المتفاوتة بالشدة والضعف، أوردها للتقسيم لا للارتياب. قوله: ((خمسون درهمًا)) ((قض)) الحديث بظاهره يدل علي أن من ملك خمسين درهمًا أو عدلها أو مثلها من جنس آخر، فهو غنى لايحل له السؤال وأخذ الصدقة. وبه قال ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق رضي الله عنهم. والظاهر أن من وجد قدر ما يغديه ويعشيه علي دائم الأوقات وفي أغلب الأوقات، فهو غنى، كما ذكر في الحديث الذي بعده، سواء حصل له ذلك بكسب يد، أو تجارة، لكن لما كان الغالب عليهم التصرف والتجارة، وكان يكفي هذا القدر أن يكون رأس مال يحصل بالتصرف فيه ما يسد الحاجة في غالب الأمر قدره تخمينًا في هذا الحديث، وقدر في الحديث الثالث ما يقرب منه، وقال: ((من سأل منكم وله أوقية أو عدلها)) والأوقية يومئذ أربعون درهمًا. فعلي هذا لا تنافي بينهما، ولا نسخ. وقيل: حديث ((ما يعيشه)) منسوخ بحديث ((الأوقية)) وهو بهذا الحديث، ثم هو منسوخ بما روى مرسلا أنه قال: ((ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق، فقد سأل إلحافًا)) وعليه أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. ((مظ)): من كان له قوت غدائه وعشائه، لايجوز له أن يسأل في ذلك اليوم صدقة التطوع، وأما الزكاة المفروضة فيجوز للمستحق أن يسألها بقدر ما يتم له نفقة سنة لنفسه وعياله وكسوته؛ لأن تفريق الزكاة لا يكون في السنة إلا مرة. الحديث الثالث إلي الخامس عن حبشى: قوله: ((فقر مدقع)) ((نه)): أي شديد يفضى بصاحبه إلي الدقعاء، وهي التراب. ((تو)): أي لايكون عنده ما ينفي به التراب.

1849 - وعن عطاء بن يَسارٍ، عن رجلٍ من بنى أسَد، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ منكم وله أوقِيَّةٌ أوْ عِدْلُها؛ فقدْ سألَ إِلحْافًا. رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [1849] 185، - * وعن حُبشيِّ بنِ جنادةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المسألةَ لاتَحِلُّ لِغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ؛ إِلا لذِي فَقْرٍ مُدْقعٍ، أوْ غُرم مُفظِع. ومن سأل النَّاسَ ليُثرِي به مالَه؛ كانَ خموشًا في وجهه يومَ القيامةِ، ورَضْفًا يأكله من جهنَّمَ، فمن شاءَ فليُقِلَّ، ومَنْ شاءَ فلْيُكثِرْ)). رواه الترمذي. [185،] 1851 - وعن أنسٍ: أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسألُهُ؛ فقال: ((أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟)) فقال: بَلي حلْس نلبَسُ بعضَه ونبسطُ بعضَه، وقَعْبٌ نشرَبُ فيهِ منَ الماء. قال: ((ائتني بهما))، فأتاهُ بهما، فأخذَهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال ((مَنْ يشتري هذَينِ؟)) قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهمٍ. قال: ((من يزِيدُ علي درهمٍ؟)) مرَّتينِ أو ثلاثًا، قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهَمينِ؛ فأعطاهُما إيَّاه. فأخذَ الدَّرهمَينِ فأعطاهُما الأنصارِيَّ، وقال: ((اشترِ بأحدِهما طعامًا فانْبِذْه إِلي أهلكَ، واشتر بالآخَرِ قَدُومَا، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أو غرم مفظع)) ((نه)): أي شديد شنيع، والمراد بهذا الغرم ما استدان لنفسه ولعياله في مباح. ((الرضف)): الحجر المحمى, فجعل أكل الزكاة بغير استحقاق مبتلعًا، كما جعل مانعها محمى علي جبهته وجنبه وظهره لإعراضه عن حكم الله, وعدم تلقيه بالقبول, واتكاله علي ماله. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حلس)) الحلس: الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب. القعب: قدح من خشب مقعر. قوله: ((فانبذ إلي أهلك)) أي ارم إليهم ليشتغلوا به، لتفرغ إلي مهمك من الكسب بحيت لا أرينك خمسة عشر يومًا, إنه صلى الله عليه وسلم نهي نفسه عن أن يراه هذه المدة، والمراد نهي الرجل عن أن يحضر ويترك ما يهمه من الاكتساب والاحتطاب. قوله: ((أو لذى دم موجع)) ((نه، فا)): هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلي أولياء المقتول، وإن لم يؤدها قتلوا المتحمل عنه، وهو أخوه أو حميمه، فيوجعه قتله. فإن قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت: الدم كناية تلويحية عن القاتل؛ لأن من قوله: ((لاتصلح المسألة إلا لذى دم)) علم أن هناك غرامة شرعًا. ودل ذلك علي أنها واردة علي

فأتنِي به))، فأتاهُ به. فشدَّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيدِه، ثمَّ قال: ((اذهبْ فاحتطِبْ وبِعْ، ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا)) فذهبَ الرجلُ يحتَطِبُ ويَبيعُ، فجاءَه وقد أصابَ عشرةَ دراهَم، فاشترى ببَعضها ثوبًا وببعضها طعامًا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ لكَ منْ أنْ تجىءَ المسألَةُ نُكتْةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ. إِنَ المسألةَ لا تَصلُحُ إِلا لثلاثةٍ: لذِي فَقرٍ مُدقعٍ، أو لذِي غُرْم مُفظعٍ، أوْ لذي دمٍ مُوجعٍ)) رواه أبو داود، وروى ابن ماجه إلي قوله: ((يوم القيامةِ)) [1851]. 1852 - وعن ابنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أصابتْه فاقَةٌ فأنزلَها بالناس؛ لم تُسدَّ فاقتُه. ومَنْ أنزلهَا بالله، أوْشكَ الله له بالغنى، إِمَّا بموتٍ عاجلٍ، أوْ غنى آجلٍ)). رواه أبو داود، والترمذى [1852]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قاتل متحمل عليه الغرامة، ثم وصفه بالموجع كناية أخرى رمزية عن كون القاتل أخاه، إما من جهة القرابة أو الدين، كقوله تعالي: {فمن عفي له من أخيه شىءٌ} لأن وجع القلب مستلزم لقتل الشقيق. الحديت السابع عن ابن مسعود: قوله: ((من أنزلها بالله)) قال في أساس البلاغة: نزل بالمكان، ونزل من علو، ومن المجاز نزل به مكروه، وأنزلتُ حاجتى علي كريم. أقول: ففي الكلام استعارة تمثيلية؛ لأن الفاقة معنى، وقد نسبت إلي الإنزال، والإنزال يستدعي جسما ومكانًا، شبه حال الفاقة واستكفاء معرتها من الله تعالي بالتوكل عليه، والوثوق به بحال من اضطره المكروه إلي نزول مكان يلتجىء إليه، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملا في المشبه به من الإنزال بالمكان ليكون قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة. وفي معناه قوله تعالي: {ومن يتوكل علي الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره} وبلوغ أمره إما بموت عاجل أو غنى عاجل. ((تو)) المعنى: أوشك الله له بالغنى، أي أسرع غناه. الغناء - بفتح الغين – الكفايةُ، من قولهم: لايغنى غناء - بالمد والهمز - ومن رواه بكسر الغين مقصورًا علي معنى اليسار، فقد حرف المعنى؛ لأنه قال: تأتيه الكفاية عما هو فيه إما بموت عاجل أو غنى عاجل. أقول: كذا في أكثر نسخ المصابيح، وجامع الأصول، وفي سنن أبي داود، والترمذى ((أو غنى آجل)) وهو أصح دراية كقوله تعالي: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله}.

الفصل الثالث 1853 - عن ابن الفِراسيِّ، أنَّ الفِراسيَّ قال: قلتُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أسْألُ يا رسولَ الله؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا، وإنْ كنتَ لابدَّ فسَلِ الصَّالحينَ)). رواه أبو داود، والنسائي. 1854 - وعن ابنِ السَّاعديِّ قال: استعملَني عمرُ علي الصدَقةِ، فلمَّا فرَغتُ منها وأدَّيتُها إِليه، أمرَ لي بعُمالةٍ، فقلتُ: إِنّما عَملِتُ للهِ، وأجْري علي اللهِ، قال: خُذْ ما أُعطيِتَ، فإني قدْ عَمِلتُ علي عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعمَّلني، فقلتُ مثلَ قولِكَ، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا أُعطيِتَ شيئًا منْ غيرِ أن تسألَهُ فكُلْ وتَصَدَّقْ)) رواه أبو داود. [1854] 1855 - وعن علي رضي الله عنه، أنَّه سمعَ يومَ عرَفةَ رجلاً يسألُ النَّاسَ. فقال: أفي هذا اليومِ، وفي هذا المكانِ تسألُ منْ غَيرِ اللهِ؟! فخفقَه بالدِّرَّة .. رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن الفراسى: قوله: ((أسأل)) أي أأسأل؟. قوله ((وإن كنت)) عطف علي محذوف، أي لا تسأل الناس وتوكل علي الله تعالي علي كل حال، وإن كان لابد لك من سؤال فاسأل الصلحاء. وخبر ((كان)) محذوف، و ((لابد)) معترضة مؤكدة بين الشرط والجزاء. وفي وضع ((الصالحين)) موضع الكرماء إشارة إلي كل ما يمنحونه، وصون عرض السائل صونا ما؛ لأن الصالح لا يمنح إلا من الحلال، ولا يكون إلا كريمًا، لا يهتك العرض. الحديث الثانى عن ابن الساعدى: قوله: ((بعمالة)) ((مح)): هي بضم العين: مال يعطى العامل علي عمله، و ((عملنى)) بالتشديد أي أعطانى أجرة عملي. وفي هذا الحديث جواز أخذ العوض علي أعمال المسلمين، سواء كانت لدين أو لدنيا، كالقضاء، والحسبة وغيرهما، واختلف العلماء فيمن جاءه مال، هل يجب قبوله أو يندب علي ثلاثة مذاهب، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه مستحب إذا كان حلالا. الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أفي هذا اليوم)) أدخل همزة الإنكار علي ظرف الزمان، وأتبعه ظرف المكان، وقدمهما علي عاملهما لمزيد الإنكار، المعنى: إن السؤال من غير الله منكر، لاسيما في يوم الحج الأكبر، وفي مكان يجتمع فيه وفد الله وزوار بيته. ونحوه

1856 - وعن عمرَ رضي الله عنه، قال: تعلَمُنَّ أيُّها الناسُ! أنَّ الطمعَ فقْرٌ، وأنَّ الإياسَ غنى، وأنَّ المرءَ إذا يئِسَ عنْ شيءٍ استَغْنى عنه. رواه رَزين. 1857 - وعن ثَوبْانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يكفَلُ لي أنْ لا يَسألَ النَّاسَ شيئًا، فأتكفَّلُ له بالجنَّةِ؟)) فقال ثوبانُ: أنا؛ فكانَ لا يَسألُ أحدًا شيئا. رواه أبو داود، والنسائي [1857]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله تعالي: {أبِا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} [خطأَهم] موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف الإنكار. ويلحق به سؤال المساجد؛ لأن الساجد لم تبن إلا للعبادة. قوله: ((فخفقه بالدرة)) الخفق الضرب بالشىء العريض. الحديث الرابع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((تعلمن أيها الناس)) أي لتعلمن كقوله: محمد تفقد نفسك. وفيه شذوذان: إيراد اللام في أمر المخاطب المبنى للفاعل، وحذفها مع العمل. ويحتمل أن يقال: إنها جواب قسم، واللام المقدرة هي المفتوحة، أي والله لتعلمن، يعني إذا رجعتم إلي أنفسكم وتأملتم حق التأمل، وجدتم الأمر علي ما أقول. و ((أيها الناس)) نداء عام متناول لجميع الأفراد، وقريب هذا النداء من قولهم إنا نفعل كذا أيتها العصابة، من حيث الاختصاص. والأقرب إلي الذوق أن لا يعمم هذا النداء؛ وأن لا تجعل اللام للاستغراق، بل يصرف الخطاب إلي الإنسان الكامل الحقيقى؛ وعلي هذا يكون حمل قوله ((لتعلمن)) علي جواب القسم ظاهرًا. قوله ((وإن الإياس غنى)) قال ماحب المغرب: الإياس بمعنى اليأس، والواو في قوله: ((وإن المرأ إذا يئس)) إلي آخره داخلة بين المفسِّر والمفسَّر، كقولك: أعجبنى زيد وكرمه. قوله: ((الطمع فقر)) تشبيه بحذف الأداة، والمعنى الجامع: كما أن الفقير لم يزل عنه الاحتياج كذلك الطامع الحريص لا يشبع، وكذا الغنى من اكتفي بما عنده عن الناس، كذلك الآيس القانع. الحديث الخامس عن ثوبان: قوله: ((من يكفل لي)) أي من يضمن لي، من الكفالة، وهي الضمان. وقوله: ((أن لا يسأل)) أن مصدرية، والفعل معها مفعول ((يكفل)) أي من يلتزم لي علي نفسه عدم السؤال. وفيه دلالة علي شدة الاهتمام بشأن الكف عن السؤال. ((حس)): عن معمر عن عائشة أنها كانت تقول: تعاهدوا ثوبان فإنه لا يسأل أحدًا شيئًا، قال: وكانت تسقط منه العصا، أو السوط، فما يسأل أحدًا أن يناوله، حتى ينزل فيأخذه.

(5) باب الإنفاق وكراهية الإمساكه

1858 - وعن أبي ذر، قال: دَعإني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوَ يشترطُ عَليَّ: ((أنْ لا تسأل الناسَ شيئًا))، قلتُ: نعمْ. قال: ((ولا سَوْطَكَ إِنْ سقطَ منكَ حتى تنزِلَ إِليه فتأخذَهُ)). رواه أحمد. [1858] (5) باب الإنفاق وكراهية الإمساك الفصل الأول 1859 - عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثلُ أُحدٍ ذهبًا، لسَرَّني أنْ لا يُمرَّ علي ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيءٌ، إِلا شيءٌ أُرْصِدُه لِدَيْنٍ)). رواه البخاريُّ. 186، - * وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((ما مِنْ يوْمٍ يُصبحُ العبادُ فيهِ؟ إِلا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وهو يشترط علي)) ((علي)) - بالتشديد، و ((أن)) في قوله: ((أن لا يسأل)) مفسرة دالة علي النهي، لما في ((يشترط)) من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية. باب الإنفاق وكراهية الإمساك الفصل الأول الحديت الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لسرني)) جواب ((لو)) الامتناعية، فيفيد أنه لم يسره المذكور بعده، لما أنه لم يكن عنده مثل أحد ذهبًا، وفيه مبالغة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يسره كثرة مال ينفعه دينًا ودنيا، فكيف بما لا منفعة فيه؟ وفي التقييد بقوله: ((ثلاث ليا)) تتميم ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون ((لا)) في قوله: ((أن لا يمر)) زائدة كما في قوله تعالي: {ما منعك أن لا تسجد} علي ما ذهب إليه المالكى في الشواهد والتوضيح. وقوله: ((إلا شىءٌ أُرصِدُه)) أي أعده وأحفظه، استثناء من قوله: ((شىءٌ)) وجاز؛ لأن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص. ووجه رفعه أن المستثنى منه في سياق النفي؛ لما مر أن جواب ((لو)) هاهنا في تقدير النفي كما في قوله تعالي: {ويأبي الله إلا أن يتم نوره} علي أنه يجوز أن يحمل علي النفي الصريح في ((أن لا يمر)) وعلي حمل - ((إلا)) علي الصفة.

مَلَكانِ يَنزِلانِ، فيقولُ أحدُهما: الهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خلفًا، ويقول الآخرُ: اللهُمَّ أعطِ مُمْسِكًا تلَفًا)). متفق عليه. 1861 - وعن أسماءَ، قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنْفقِي ولاتُحْصِي فيُحصى اللهُ عليكِ، ولا تُوعي فيُوعي الله عليكِ، ارْضَخي ما استَطعتِ)). متفق عليه. 1862 - وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال اللهُ تعالي: أَنْفِقْ يا بنَ آدمَ أُنفِقْ علَيكَ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((ما من يوم)) ((ما)) بمعنى ليس، و ((يوم)) اسمه، و ((من)) زائدة، و ((يصبح العباد)) صفة ((يوم))، و ((ملكان)) مستثنى من متعلق محذوف هو خبر ((ما)) المعنى: ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان يقولان: كيت وكيت. فحذف المستثنى منه، ودل عليه بوصف الملكين بـ ((ينزلان)). ونظيره في مجئ الموصوف مع العفة بعد إلا في الاستثناء المفرغ قولك: ما اخترت إلا رفيقًا منكم، التقدير: ما اخترت منكم أحدًا إلا رفيقًا، وهو من أمثلة ((كتاب المفتاح)). قوله ((خلفا)) ((نه)): أي عوضًا، يقال: خلف الله لك خلفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا، أي أبدلك بما ذهب منك، وعوضك منه. ((وأعط)) الثاني مشاكلة للأول. الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((ولا تحصى)) ((تو)): الإحصاء الإحاطة بالشىء حصرًا وتعددًا، والمراد به ها هنا عد الشىء للتبقية، وادخاره للاعتداد به، وترك الإنفاق منه في سبيل الله. وقوله: ((فيحصى الله عليك)) محتمل لوجهين: أحدهما أنه يحبس عنده مادة الرزق، ويقلله بقطع البركة حتى يصير كالشىء المعدود، والآخر: أنه يحاسبك عليه في الآخرة. قوله: ((ولا توعى)) الإيعاء: حفظ الأمتعة بالوعاء، وجعلها فيه. والمراد به أن لا تمنعي فضل الزاد عمن افتقر إليه، فيوعي الله عنك، أي يمنع عنك فضله، ويسد عليك باب المزيد. أقول: ويمكن أن تنزل هاتان القرينتان أعنى ((لا تحصى فيحصى الله عليك ولا توعى فيوعي الله عليك)) علي نفي تينك القرينتين، أعنى: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وممسكًا تلفًا. ويقال: إنه لم يعلم من قوله: ((أعط منفقًا خلفًا)) كمية الإنفاق، فبين بقوله: ((لا تحصى)) أن المراد منه الكثرة دون القلة؛ لأن الإيعاء من العبد: الإمساك، ومن الله: التلف إما بالحادثة، أو الوارثة. ففيه المشاكلة بين قوله: ((فيحصى الله عليك))، وبين قوله: ((فيوعى الله عليك))، لأن الأصل أن يقال: فيوعى الله عنك - كما مر - فلما بين لها حالة الإعسار والإنفاق فيها، أتبعها بحالة الإعسار، أي لا تتركى الإنفاق حالئذ ما استطعت. والرضخ: العطية القليلة. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنفق)) ((غب)): نفق الشيء مضى ونفد، ونفقت الدابة نفوقًا إذا ماتت، ونفقت الدراهم: إذا فنيت. أقول: فقوله: ((أنفق عليك))

1863 - وعن أبي أُمامةَ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بنَ آدمَ! إنْ تبذُلِ الفَضْلَ خيرٌ لكَ، وإنْ تُمْسِكهُ شرٌّ لكَ، ولا تُلامُ علي كفَافٍ، وابدأْ بمنْ تَعُولُ)). رواه مسلم. 1864 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ البَخيلِ والمتصدِّقِ، كمثَلِ رجُلينِ عليهِما جُنَّتانِ من حديدٍ، قد اضطُرَّت أيديهما إلي ثُديِّهما وتراقيهما، فجعلَ المتصدِّقُ كلما تصدَّقَ بصدقةٍ انبسَطتْ عنه، والبخيلُ كلما همَّ بصدقةٍ قَلصَتْ، وأخذَتْ كلُّ حلْقة بمكانها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشاكلة؛ لأن إنفاق الله تعالي لا ينقص من خزانته شيئًا. قال: ((يد الله ملأي، لا تغيضها نفقة سحا الليل والنهار))، وإليه يلمح قوله تعالي: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}. الحديث الخامس عن أبي أمامة: قوله: ((إن تبذل الفضل)) مبتدأ و ((خير)) خبر، أي بذل الزيادة علي قدر الحاجة خير لك، وإمساكه شر لك، وإن حفظت من مالك قدر حاجتك لا لوم عليك، وإن حفظت ما فضل علي قدر حاجتك، فأنت بخيل، والبخيل ملوم. قوله: ((وابدأ بمن تعول)) ((نه)): يقال: عال الرجل عياله يعولهم: إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما. فإن قلت: قوله: ((ابدأ بمن تعول)) إن تعلق بقدر حاجة العيال وكفافهم، لا يستقيم؛ لأن البدءَ يقتضى الترتيب، والانتهاء إلي غير العيال، وكذا إن تعلق بالفضل عن كفافهم؛ لما يلزم منه أن ما يفضل عنهم ينفق عليهم. قلت: الوجه أن يفسر الفضل بما يزيد علي ما يحصل منه الكفاف، فحينئذ يبدأ بالأهم فالأهم. ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)) وعلي هذا يحسن قوله: ((ولا تلام علي كفاف)) أي لا تذم إن حفظت رأس مال تنفق من ربحه، فكأنه صلى الله عليه وسلم رخص هذا القدر من المال، لمن لاقوة له في التوكل التام. وإنما سمى كفافًا؛ لأنك تكف به وجهك عن الناس، قاله في الفائق. وقيل: الكفاف: ما لا يفضل عن الشىء، ويكون بقدر الحاجة إليه. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جنتان)) ((نه)): أي وقايتان. ويروى بالباء الموحدة، تثنية جبة اللباس، وكذا في شرح السنة روى بهما. ((مح)): ((جنتان)) بالنون في هذا الموضع بلا شك ولاخلاف. أقول: وهو أنسب؛ لأن الدرع لا يسمى جبة بالباء بل بالنون، وأنشد الأعشى:

1865 - وعن جابرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظُّلْمَ؛ فإِنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ. واتقوا الشُّحَّ؛ فإِنَّ الشُّحَّ أهلَك مَنْ كانَ قبلكم: حمَلهم علي أنْ سَفكوا دِماءَهم، واستَحلُّوا محارِمهُم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذت المقدم غير لابس جنة بالسيف تضرب معلما أبطالها ((خط)): وحقيقة المعنى: أن الجواد إذا هم بالنفقة، اتسع لذلك صدره وطاوعته يداه، فامتدتا بالعطاء والبذل، والبخيل يضيق صدره وتُقْبَض يده عن الإنفاق في المعروف. أقول: ومن هذا ظهر أن ((جعل)) بمعنى طفق. ودل علي خبره قوله: ((كلما)) أي جعل السخى يتسع صدره كلما أراد التصدق، وأوقع المتصدق مقابلا للبخيل، والمقابل الحقيقى السخى: إيذانًا بأن السخاوة هي ما أمر به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذرون، وخص المشبه بهما بلبس الجنتين من الحديد، إعلامًا بأن القبض والشح من جملة الإنسان وخلقته، ومن ثم أضاف الشح إليه في قوله تعالي: {ومن يوق شح نفسه}. وأن السخاوة من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من يشاء من عباده المخلصين، وخص اليد بالذكر؛ لأن السخى والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل، قيل: يده مغلولة إلي عنقه، وثديه وتراقيه. وإنما عدل من الغل إلي الدرع لتصوير معنى الانبساط والتقلص، والأسلوب من التشببه المفرق، شبه السخى الموفق إذا قصد التصدق يسهل عليه ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يسهل عليه، والبخيل علي عكسه، والله أعلم. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((اتقوا الظلم)) ((مح)): عن القاضى عياض: هو علي ظاهره، فيكون ظلمات علي صاحبه لا يهتدى يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا. قال الله تعالي: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم}. ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد، وبه فسر قوله تعالي {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} أي شدائدهما. وأقول: أفرد المبتدأ وجمع الخبر دلالة علي إرادة الجنس، واختلاف أنواع الظلم الذي هو سبب لأنوع الشدائد، في القيامة من الوقوف في العرصات، والحساب، والمرور علي الصراط، وأنواع العقاب في النار، ثم عطف الشح الذي هو نوع من أنواع الظلم علي الظلم ليشعر أن الشح أعظم أنواعه؛ لأنه من نتيجة حب الدنيا وشهواتها، ومن ثم علله بقوله: ((فإن الشح أهلك من كان قبلكم)) ثم علله بقوله: ((حملهم علي أن سفكوا الدماء)) علي سبيل الاستئناف؛ فإن

1866 - وعن حارثةَ بنِ وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدَّقوا فإِنَّه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرَّجلُ بصدَقتِه فلا يجدُ مَنْ يقبلُها، يقولُ الرَّجلُ: لو جئتَ بها بالأمس لقبِلتُها، فأمَّا اليوْمَ فلا حاجةَ لي بها)). متفق عليه. 1867 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رجلٌ: يارسولَ الله! أيُّ الصَّدَقةِ أعظمُ أجرًا؟ قال: ((أنْ تصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفَقْرَ، وتأمُلُ الغِنى، ولاتُمهِلْ؛ حتى إذا بلغتِ الحُلقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا وقدْ كانَ لفُلانٍ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ استحلال المحارم جامع لجميع أنواع الظلم من الكفر والمعاصى، وعطفه علي سفك الدماء من عطف العام علي الخاص عكس الأول. وإنما كان الشح سبب سفك الدماء واستحلال المحارم؛ لأن في بذل الأموال ومواساة الإخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع، وذلك يؤدى إلي التشاجر والتغاور من سفك الدماء، واستباحة المحارم، فظهر منها أن السياق وارد في الشح، وذكر الظلم توطئة وتمهيدًا لذكره، فكان إيراد هذا الحديث في هذا الباب أحرى وأولي من ذكره في باب الظلم. الحديت الثامن عن حارثة: قوله: ((يأتى عليكم زمان)) الخطاب لجنس الأمة، والمراد بعضهم، كما في قوله تعالي: {ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيَّا}، ((الكشاف)) لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلي جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل رجل منهم. ولعل ذلك الزمان زمن ظهور أشراط الساعة، كما ورد في الصحيح: ((لاتقوم الساعة حتى يكثر المال فيفيض حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه)). الحديت التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأنت صحيح شحيح)) أي تصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك، وتشح نفسك بأن تقول: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا؛ فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس. و ((فلان)) كناية عن الموصى له. وقوله: ((ولا تمهل)) عطف علي ((تصدق)) وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي أفضل الصدقة أن تتصدق حال حياتك، وصحتك مع احتياجك إليه، واختصاصك به، لا في حال سقمك، وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج منك، وتعلق بغيرك. ويشهد لهذا التأويل حديث أبي سعيد في الفصل الثانى من هذا الباب ((لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته)).

1868 - وعن أبي ذرٍّ، قال: انتهيت إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهوَ جالسٌ في ظلِّ الكعبةِ، فلمَّا رإني قال: ((هُمُ الأخسَرونَ وربِّ الكعبةِ)). فقلتُ: فِداكَ أبي وأُمي، مَنْ هُمْ؟ قال: ((هم الأكثرونَ أموالاً، إلا مَنْ قالَ: هكذا وهكذا وهكذا، من بينِ يديهِ ومِنْ خَلفِهِ وعنْ يَمينهِ وعنْ شِمالِهِ، وقليلٌ ما هُمْ)). متفق عليه. الفصل الثاني 1869 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السخِيُّ قريبٌ من اللهِ، قريبٌ من الجنَّةِ، قريبٌ من النَّاسِ، بعيدٌ من النَّار. والبخيلُ بعيدٌ من الله، بعيدٌ من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي ذر: قوله: ((هم الأخسرون)) ((هم)) ضمير مبهم يفسره ما بعده من الخبر، كقولك: هي العرب تقول ما شاءت. و ((الأخسرون)) فيه نوع إبهام، فبين بقوله: ((هم الأكثرون)) ونحُوه في الإبهام والتبيين - اللهم إلا أن يحمل علي التغليظ - قولهُ تعالي: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} فالمكثوون هم المنهمكون في الدنيا، المتهالكون فيها، الذين {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}، واسثنى منه من يستفرغ جهده في الإنفاق ويبذل طاقته فيه. قوله: ((قال هكذا)) ((نه)): العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه علي غير الكلام، فيقول: قال بيده، أي أخذ، وقال برجله، أي مشى، وقال بالماء علي يده، أي قلب، وقال بثوبه، أي رفعه، كل ذلك علي المجاز والاتساع. و ((قال)) في الحديث بمعنى أشار، و ((هكذا)) صفة مصدر محذوف، أي أشار بيده إشارة مثل هذه الإشارة. وقوله: ((من بين يديه)) بيان للإشارة، والأظهر أن يتعلق بالفعل لمجىء ((وعن يمينه)) وأنها للمجاورة والبعد. وخص ((عن)) باليمين والشمال؛ لأن الغالب في الإعطاء صدوره عن اليدين. وقوله: ((وقليل ما هم)) ((ما)) زائدة مؤكدة للقلة ((وهم)) مبتدأ و ((قليل)) خبره مقدم عليه، قدم اختصاصًا، وأن الأكثر من المكثرين ليسوا علي هذه الصفة، والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((السخى قريب من الله)) التعريف في السخى والبخيل للعهد الذهنى، وهو ما عرف شرعًا أن السخى من هو؟ والبخيل من هو؟ وذلك أن من أدى زكاة ماله، فقد امتثل أمر الله وعظمه، وأظهر الشفقة علي خلق الله وواساهم بماله،

الجنَّةِ, بعيدٌ من النَّاسِ, قريب من النَّار. ولجاهِلٌ سخيٌّ أحبُّ إِلي الله من عابدٍ بخيلٍ)). رواه الترمذي [1869]. 187، - * وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ يتصدَّقَ المرءُ في حياتهِ بدرهم خيرٌ لهُ من أن يتَصدَّقَ بمائةٍ عندَ موته)). رواه أبو داود. [187،] 1871 - وعن أبي الدرداء رضي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((مثلُ الذي يتَصدَّقُ عندَ موتهِ أو يُعتِقُ، كالذي يُهْديِ إِذا شَبِع)). رواه أحمد، والنسائي، والدارمي، والترمذي وصححه. [1871] 1872 - وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (خَصلتانِ لا تجتمعانِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو قريب من الله وقريب من الناس، فلا يكون منزله إلا الجنة، ومن لم يؤدها فأمره علي عكس ذلك، ولذلك كان العابد البخيل أحط مرتبة من الجاهل السخي، وكان يقتضي التطابق بين القرينتين أن يقال: ((ولجاهل سخي أحب إلي الله من عالم بخيل))، أو ((عابد سخي أحب إلي الله من عابد بخيل)) فخولف ليفيد أن الجاهل غير العابد السخيِّ أحبُّ إلي الله من العالم العابد البخيل، فيا لها من حسنة غطت علي عيبين عظيمين، ويا لها من سيئة عفت حسنتين خطرتين!. الحديث الثانى عن أبي سعيد: قوله: ((عند موته)) أي عند احتضاره الموت، أوقع هذه الحياة مقابلا لقوله: ((في حياته)) إشارة إلي أن الحياة الحقيقية التي يعتد فيها بالتصدق هي أن يكون المرءُ صحيحًا شحيحًا، يخشى الفقر، الحديث كما مر. وقوله: ((بمائة)) يريد بها الكثرة، كما يراد بدرهم القلة، ويشهد له ما جاء في بعض النسخ ((بماله)) بدل ((بمائة)) أي بجميع ماله. الحديث الثالث عن أبي الدرداء قوله ((كالذي يهدى إذا شبع)) شبه ترك تأخير الصدقة عن أوانه بمن تفرد بالأكل واستأثر لنفسه، ثم إذا شبع يؤثره علي غيره، وإنما يحمد إذا كان عن إيثار، كما قال تعالي {ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وما أحسن موقع ((يهدى)) في هذا المقام، ودلالتها علي الاستهزاء والسخرية بالمهدى. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله ((خصلتان لا تجتمعان)) مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أي فيما أحدثكم به خصلتان لا تجتمعان، كقوله تعالي: {سورة أنزلناها} أي فيما أوحينا

في مؤمنٍ: البخلُ، وسوء الخُلُقِ)). رواه الترمذي. [1872] 1873 - وعن أبي بكرِ الصدِّيقِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلُ الجنَّةَ خِبٌّ ولابخيلٌ ولا منَّانٌ)). رواه الترمذي. [1873] ـــــــــــــــــــــــــــــ إليك و ((البخل وسوء الخلق)) خبر مبتدأ محذوف، والجملة مبينة. ويجوز أن يكون خبرًا، والبخل وسوء الخلق مبتدأ ((تو)): المراد من ذلك اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية فيهما بحيث لا ينفك عنهما ولا ينفكان عنه. فأما من فيه بعض هذا، أو بعض ذلك، أو ينفك عنه في بعض الأوقات، فإنه بمعزل عن ذلك. وأقول: ويمكن أن يحمل ((سوء الخلق)) علي ما يخاف الإيمان؛ فإن الخلق الحسن هو ما يمتثل به العبد أوامر الشرع، ويجتنب عن نواهيه، لا ما يتعارف بين الناس؛ لما ورد عن عائشة رضي الله عنها ((وكان خلقه القرآن)). فإفراد ((البخل من سوء الخلق وهو بعضه، وجعله معطوفًا عليه، يدل علي أنه أسوؤها وأشنعها؛ لأن ((البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس)). الحديث، ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)) رواه النسائي. الحديث الخامس عن أبي بكر: قوله: ((خب)) ((نه)): الخب - بالفتح - الخداع، وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد، وقد تكسر خاؤه. وأما المصدر فبالكسر. قيل: (المنان)) يتأول علي وجهين: أحدهما من المنة التي هي الاعتداد بالصنيعة، وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة. وثإنيهما: من المن وهو القطع والنقص من الحق، والخيانة، والقطع من التواد والمحبة. ((خط)): أي لا يدخل الجنة مع هذه الخصلة حتى يجعل طاهرًا منها، إما بالتوبة في الدنيا أو بأن يعفو الله عنه. أو بأن يعذبه ثم يدخله الجنة. ((تو)): أي لا يدخل الجنة مع الداخلين في الرعيل الأول، من غير ما بأس، بل يصاب منه بالعذاب. هذا هو السبيل في تأويل أمثال هذه الأحاديث لتوافق أصول الدين. وقد هلك في التمسك بظواهر أمثال هذه النصوص الجم الغفير من المبتدعة، ومن عرف وجوه القول، وأساليب البيان من كلام العرب هان عليه التخلص بعون الله عن تلك الشبهة. أقول: ويؤيد التأويل بالعفو قوله تعالي: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخوانًا علي سرر

1874 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((شَرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هَالعٌ، وجُبنٌ خالعٌ)) رواه أبو داود. [1874] وسنذكر حديث أبي هريرة: ((لا يجتمعُ الشحُّ والإِيمان)). في ((كتابِ الجهادِ)) إِن شاء اللهُ تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ متقابلين} فإنه وارد علي سبيل الامتنان عليهم، ولذلك جمع ضمير الواحد المعظم؛ ليدل علي فخامة شأن النزع، يعنى مثل هذا النزع مختص بنا، ولا يصدر إلا عنا. الحديت السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شح هالع)) ((تو)): الشح: بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الضنة بالمال، والشح في ساتر ما تمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال، أو معروف، أو طاعة. الهلع: أفحش الجزع. وهلع – بالكسر - فهو هلع وهلوع، ومعناه: أنه يجزع في شحه أشد الجزع علي استخراج الحق منه. وقوله: ((شح هالع)) أي ذو هلع، كما يقال: يوم عاصف، وليل نائم، ويحتمل أيضًا أن يقول: هالع لمكان خالع للازدواج. وأقول: يحتمل أن يحمل علي الإسناد المجازى، فيسند إلي الشح ماهو مسند إلي صاحبه مبالغة، وعلي الاستعارة المكنية. بأن يشبه الشح بإنسان ثم يوصف بما يلازم الإنسان من الهلع. والهلع: ما فسره الله تعالي، سئل أحمد بن يحيى عن الهلوع، فما زاد علي ما فسره الله تعالي من قوله: {إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا}. قوله: ((وجبن خالع)) ((نه)): أي شديد، كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه، وهو مجاز عن الخلع والمراد به: ما يعرض من أنواع الأفكار، وضعف القلب عند الخوف. أقول: الفرق بين وصف الشح بالهلع، والجبن بالخلع، هو أن الهلع في الحقيقة لصاحب الشح، فأسند إليه مجازًا، فهما حقيقتان، لكن الإسناد مجازى، وليس كذلك الخلع؛ إذ ليس مختصًا لصاحب الجبن حتى يسند إليه مجازًا، بل هو وصف للجبن، لكن علي المجاز حيث أطلق وأريد به الشدة، وإلي هذا المعنى ينظر قول الشيخ التوربشتى ويحتمل أن يقال هالع لمكان خالع؛ للازدواج أي المشاكلة. ((تو)): وإنما قال: ((شر ما في الرجل)) ولم يقل في الإنسان لأحد الوجهين: إما لأن الشح والجبن مما تحمد عليه المرأة ويذم به الرجل، أو لأن الخصلتين تقعان موقع الذم من الرجال فوق ما تقعان من النساء.

الفصل الثالث 1875 - عن عائشة رضي اللهُ عنها أنَّ بعضَ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قلنَ للنبي صلى الله عليه وسلم أينا أسرعُ بكَ لُحوقًا؟ قال: أطولُكُنَّ يدًا، فأخذوا قصبةً يذرعونها، وكانت سودةُ أطوَلهُنَّ يدًا، فعلما بعدُ أنما كانَ طولُ يدِها الصدقةَ، وكانت أسرَعنَا لحوقًا بهِ زينبُ، وكانت تحبُّ الصدقة. رواه البخاري. وفي روايةِ مسلم، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أسرعُكُنَّ لحوقًا بي أطولُكنَّ يدًا)). قالت: وكانت يتطاولْنَ أيَّتهُنَّ أطولُ يدًا؟ قالت: فكانت أطولَنا يدًا زينب؛ لأنَّها كانت تعملُ بيدِها وتتصدَّق. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديت الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أينا أسرع بك لحوقًا؟)) أي تدركك بالموت من بعض الأزواج، ومنه حديث فاطمة رضي الله عنها ((إنك أول أهلي لحوقًا بى فضحكت)). قوله: ((فأخذوا قصبة)) والظاهر فأخذن، وإنما عدل إلي ضمير المذكر تعظيمًا لشأنهن، كقوله تعالي: ((وكانت من القانتين)) وقول الشاعر. وإن شئت حرمت النساء سواكم قوله: ((فعلمنا بعد)) تعنى فهمنا من قوله: ((أطولكن يدًا)) ابتداءً ظاهره، فأخذنا لذلك قصبة نذرع بها يدًا يدًا لننظر أينا أطول يدًا، فلما فطنا بمحبتها الصدقة، وعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد باليد العضو، وبالطول طولها، بل أراد العطاء وكثرته، أجريناه علي الصدقة، فاليد هنا استعارة للصدقة والطول ترشيح لها؛ لأنه ملاتم للمستعار منه. ولو قيل: أكبركن لكان تجريدًا لها. قوله: ((أيتهن)) في موضع نصب، إما حال أو مفعول له، أي كانت تتطاولن أيديهن ناظرات، أو لينظرن أيتهن أطول يدًا. قوله: ((فكانت أطولنا يدًا زينب)). فإن قلت: لم قدم ((أطولنا)) وجعله اسمًا، وآخر ((زينب)) وجعلها خبرًا، وعكس في رواية البخاري، وجعل ((سودة)) اسمًا و ((أطولهن)) خبرًا؟ قلت لاختلاف الحالتين، ولذلك ذكر في إحدى الروايتين ((سودة))، وفي أخراهما ((زينب))، فقدم الطول هنا، لما كان الاهتمام بشأنه في المباراة التي تلوح من قوله ((يتطاولن)). ومثل هذا التقديم قوله تعالي: {إن خير من استأجرت القوى الأمين}. ((الكشاف)): فإن قلت: كيف جعل ((خير من استاجرت)) اسمًا، ((والقوى الأمين)) خبرًا؟ قلت هو مثل قوله:

1876 - وعن أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال رجل: لأتَصدَّقنَّ بصدقَةٍ، فخرجَ بصدقتهِ فوضعَها في يدِ سارقٍ، فأصبحوا يَتحدَّثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ، علي سارقٍ؟! لأتصَدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرجَ بصدقتهِ فوضعَها في يدِ زإنيةٍ، فأصبحوا يَتحدَّثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي زإنيةٍ. فقال: اللهمَّ لكَ الحمدُ، علي زإنيةٍ؟! لأتَصدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرجَ بصدقةٍ فوضعهًا في يدِ غَنيٍّ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي غنيٍّ. قال: اللهمَّ لكَ الحمدُ، علي سارقٍ وزإنيةٍ وغنيٍّ؟ فأتيَ، فقيلَ له: أمَّا صَدَقتُكَ علي سارقٍ فلعلَّه أن يستعِفَّ عن سرقتهِ، وأمَّا الزإنيةُ فلعلَّها أن تَستَعِفَّ عن زِناها، وأما الغَنيُّ فلعلَّهُ يعتبرُ فينفق مِمَّا أعطاهُ اللهُ)) متفق عليه، ولفظه للبخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل في أن العناية هي سبب التقديم. وقد صدقت، حتى جعل لها ماهو أحق بأن يكون خبرًا اسمًا. وعلم من هذا أن في رواية البخاري الحاضرات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعضهن؛ لأن سودة توفيت قبل عائشة، وبعد غيرها رضي الله عنهن في سنة أربع وخمسين من الهجرة، وعائشة في سنة سبع أو ثمان وخمسين من الهجرة. وإن ما رواه مسلم كانت الحاضرات كلهن؛ لأن زينب بنت جحش توفيت قبل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين. قوله: ((لأنها كانت تعمل)) تعليل كالبيان لقوله: ((يتطاولون))؛ لأنه يحتمل أن يكون التطاول هنا حسيًا بأن تقول كل واحدة منهن: أنا أطول منك يدًا، أو معنويًا بأن تقول كل واحدة أنا أكثر منك عطاء. فبين بالتعليل أنه كان معنويًا. الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تصدق الليلة علي سارق)) إخبار في معنى التعجب، أو الإنكار. وقوله: ((اللهم لك الحمد علي سارق)) أي علي تصدقى علي سارق، إما وارد شكرًا أو تعجبًا، أما الأول: فأن يجري الحمد علي الشكر. وذلك أنه لما جزم علي أن يتصدق علي مستحق ليس بعده بدلالة التنكير في ((صدقة))، وأبرز كلامه في معرض القسمية تأكيدًا وقطعًا للقول به، فلما جوزى بوضعه علي يد سارق حمد الله، بأنه لم يقدر أن يتصدق علي من هو أسوأ حالا من السارق. وأما الثانى فأن يجرى الحمد علي غير الشكر، وأن يعظم الله تعالي عند رؤية العجب، كما يقال: سبحان الله عند مشاهدة ما يتعجب منه، وللتعظيم قرن به لفظة ((للهم))، فكما تعجبوا من فعله، قالوا: ((تصدق الليلة علي سارق)).

1877 - وعنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرضِ فسمعَ صوتًا في سحابةٍ: اسقِ حديقة فلان: فتنحَّى ذلك السَّحابُ فأفرغَ ماءهُ في حَرَّة، فإذا شَرْجةٌ من تلك الشراجِ قد استوعبَت ذلك الماءَ كلَّه، فتتبع الماء فإذا رَجلٌ قائمٌ في حديقتهِ، يُحوِّلُ الماء بمسِحاتهِ، فقالَ له: يا عبد الله ما اسمُك؟ قال: فُلان؟ الاسمُ الذي سمعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ اللهِ! لمَ تسألُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعتُ صوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ، يقول: اسقِ حديقةَ فُلانِ لاسمكَ، فما تصنعُ فيها؟ قال: أمَّا إذا قُلتَ هذا؛ فإني أنظُرُ إلي ما يخرُجُ منها فأتصدَّقُ بثلُثِه وآكلُ أنا وعيالي ثُلُثًا، وأَرُدَّ فيها ثُلُثَه)). رواه مسلم. 1878 - وعنه، أنَّهُ سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرَصَ، وأقرَعَ، وأعمى. فأراد الله أن يبتَلِيَهُمْ؛ فبعثَ إليهم مَلَكًا، فأتى الأبرصَ فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ تعجب من فعل نفسه، وقال: ((الحمد لله علي سارق)) أي أتصدقت علي سارق، ولذلك سلي بقوله: ((أما صدقتك علي سارق فلعله يستعف عن سرقته)). قوله: ((فأتى)) أي فأرى في المام. قوله: ((يعتبر)) ((غب)): أصل العبر: تجاوز من حال إلي حال، والاعتبار والعبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلي ما ليس بمشاهد، يريد أن الغنى إذا نظر إلي تصدقه، اقتدى به وتجاوز عما كان فيه من صفة البخل إلي صفة السماحة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((حديقة)) وهي البستان الذي يدور عليه الحائط. و ((الحرة)) الأرض ذات الحجارة السود، و ((الشرجة)) - بإسكان الراء - مسيل الماء إلي السهل من الأرض: ((المسحاة)) المجرفة من الحديد. قوله: ((فلان)) الاسم الذي سمع فلان ليس مقولا لصاحب الحديقة؛ لأنه صرح باسمه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنى عن اسمه بفلان، ثم فسره بقوله: ((الاسم الذي سمع))، والقائل في قوله: ((اسق حديقة فلان لاسمك)) هو ذلك السامع، ولابد من إضمار القول، التقدير: قال الهاتف: اسق حديق زيد مثلا، وقلت: أنا فلان لأجل اسمك أي بدله. قوله: ((أرد فيها ثلثه)) أي أرد في الحديقة الأصل الذي زرعته فيها؛ ليكون قنية للبذر بعد تصدقى الثلث، وأكلي الثلث الآخر. الحديت الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأراد الله أن يبتليهم)) من جوز دخول الفاء في خبر ((إن)) فلا إشكال في أنه خبر ((إن))، ومن لم يجوزه يقدر الخبر، أي إن فيما أقص عليكم قصة ثلاثة نفر، فالفاء لتعقيب المفسر المجمل، كما في قوله تعالي: {فإن فاءوا فإن الله

أيُّ شىءٍ أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، ويَذهبُ عني الذي قد قَذَرَني الناسُ)) قال: ((فمسحَه فذهبَ عنهُ قذَرُهُ، وأُعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الإِبلُ - أو قال: البقرُ -)) شك إسحق ((إلا أنَّ الأبرصَ والأقرعَ، قال أحدُهما: الإبلُ، وقال الآخرُ: البقرُ. قال: فأعطِيَ ناقةً عشراءَ، فقالَ: باركَ اللهُ لك فيها)). قال: ((فأتى الأقرعَ، فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليكَ؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويَذهبُ غني هذا الذي قدْ قذَرني الناسُ)). قال: ((فمسحَه؛ فذهبَ عنه))، قال: ((وأُعطِيَ شَعْرًا حسنًا. قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليكَ؟ قال: البقرُ. فأُعطِيَ بقرةً حاملاً، قال: باركَ اللهُ لك َفيها)). قال: ((فأتى الأعمى، فقال: أيُّ شىءٍ أحبُّ إِليكَ؟ قال: أنْ يَرُدَّ اللهُ إِليَّ بصري، فأبصرُ به الناسَ))، قال: ((فمسَحه؛ فرَدَّ اللهُ إِليه بَصره. ـــــــــــــــــــــــــــــ غفور رحيم} ولو رفع ((أبرص)) وما عطف عليه بالخبرية تعين للتفسير وقوله: ((يذهب عنى)) عطف علي قوله: ((لون حسن)) علي تقدير ((أن)) كقوله: أحضر الوغى. قوله ((قذرنى)) أي كرهنى, يقال: قذرت الشىء أقذره إذا كرهته واجتنبته. قوله: ((فذهب عنه قذره وأعطى لونًا حسنًا)) قدم هنا ذهاب القذر علي إعطاء الحسن علي الترتيب في الوجود؛ لأن إعطاء الحسن مسبوق بذهاب القذر، وقدم الحسن علي ذهاب القذر؛ لأن الحسن هو المقصود بالذات والأهم بالطلب؟ ولأنه إذا جاء الحسن ذهب القذر لا محالة، بخلافه إذا ذهب القذر فقد يتخلف عنه الحسن، فلذا عقب الذهاب بالحسن في الثاني. قوله: ((شك إسحاق)) وهو إسحاق بن عبد الله، أحد رواة هذا الحديث. وقوله: ((إلا أن الأبرص)) استثناء من قوله: ((شك)) أي شك إسحاق في ذلك، لكن لم يكن يشك في أن الأبرص أو الأقرع انفرد كل واحد منهما في طلب الإبل، أو البقر. ثم بنى علي هذا الاحتمال قوله: ((فأعطى ناقة)) أي الأبرص. قوله: ((العشراء)) - بالضم وفتح الشين والمد - التي أتى علي حملها عشرة أشهر، ثم اتسع فيه، فقيل لكل حامل: عشراء. قوله: ((شاة والدًا)) وهي التي قد عرف منها كثرة الولد. وقوله: ((فأُنتج هذان)) هكذا هو الرواية، وهي قليلة الاستعمال، والمشهور نتج، ومعناه: تولي الولادة، وهي النتج والانتاج. ومعنى ((ولدَّها)) بتشديد اللام انتج، والناتج للإبل كالقابلة للنساء. قوله: ((هذان)) أي الأبرص والأقرع. و ((هذا)) أي الأعمى. قوله: ((في صورته)) أي الملك جاء في صورته التي جاء الأبرص أول مرة.

قال: فأيُّ المال أحبُّ إِليكَ؟ قال: الغنمُ. فأعطيَ شاةً والدًا. فأنتجَ هذانِ، وولَّد هذا؛ فكانَ لهذا وادٍ من الإِبلِ، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا واد من الغنم)). قال: ((ثمَّ إنَّه أتى الأبرص في صورته وهَيئتهِ، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعتْ بيَ الحبالُ في سفَري، فلا بلاغَ لي اليومَ إلا بالله ثمَّ بكَ. أسألُكَ بالذي أعطاكَ اللونَ الحسنَ والجلدَ الحسنَ والمالَ، بعيرًا أتبلغُ بهِ ني سفَري. فقال: الحقوقُ كثيرةٌ. فقال: إنَّه كإني أعرِفُكَ، ألم تكنْ أبرصَ يقذَرُكَ الناسُ، فقيرًا فأعطاكَ الله مالاً؟ فقال: إنَّما ورِثتُ هذا المالَ كابرًا عن كابرٍ، فقال: إِنْ كنتَ كاذِبًا، فصيَّركَ اللهُ إلي ما كنتَ)). قال: ((وأتى الأقرعَ في صورته، فقال له مثلَ ما قال لهذا، وردَّ عليه مثلَ ماردَّ علي هذا، فقال: إنْ كنتَ كاذِبًا فصيَّركَ الله إلي ماكنتَ)). قال: ((وأتى الأعمى في صورته وهيئِتِه، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابنُ سبيلٍ، انقطعت بي الحِبالُ في سفَري، فلا بلاغَ ليَ اليومَ إلا بالله ثمَّ بكَ. أسألُكَ بالذي ردَّ عليكَ بصركَ، شاةٌ أتبلغُ بها ني سفري. فقال: قد ْكنتُ أعمى فردَّ اللهُ إِليَّ بصري، فخُذْ ما شئتَ ودعْ ماشئتَ؛ فو الله لا أجهدُكَ اليوم بشيءٍ أخذتَه لله. فقال: أمسِكْ مالَكَ، فإِنَّما ابتُليتُم؛ فقدْ رُضِيَ عنكَ. وسخِطَ علي صاحِبيكَ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((انقطعت بى الحبال)) الباء للتعدية. ((الحبال)) جمع حبل، وهو العهد، والأمان، والوسيلة، وكل ما يرجو منه خيرًا وفرجًا، أو يستدفع به ضررًا. والحبل هنا السبب، فكأنه قال: انقطعت بى الأسباب. والبلاغ: الكفاية، قال الله تعالي: {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين}. والباء في ((بالله)) متصل بـ ((بلاغ)) أي ليس ما ما أبلغ به غرضي إلا بالله، و ((ثم)) في قوله: ((ثم بك)) للمرتبة في التنزل لا للترقى. وهذا وأمثاله من الملائكة معاريض في الكلام لا إخبار كما في قول إبراهيم: ((هذا ربى، وإنى سقيم، وهي أختى)) وقول الملائكة لداود {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة} والباء في قوله: ((بالذي)) للقسم، والاستعطاف، أي أسالك بحق الذي، أو متوسلا بالذي، و ((بعيرًا)) مفعول ((أسالك)). قوله: ((كابرًا عن كابر)) حال، يقال: هو كبر قومه، أكبرهم في السن والرياسة، أو في النسب، وورثوا المجد كابرًا عن كابر. قوله: ((إن كنت كاذبًا)) هذا الشرط ليس علي حقيقته؛ لأن الملك لم يشك في كذبه بل هو مثل قول العامل إذا تسوف في عمالته: إن كنت عملت فأعطنى حقى. فعلي هذا تصييره علي ما

1879 - وعن أمِّ بُجيد، قالتْ: قلتُ: يا رسولُ الله! إذنَّ المسكينَ ليَقفُ علي بابي حتى استحييَ، فلا أجدُ في بيتي ما أدفعُ في يدِهِ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ادفعى في يدِه ولو ظْلفًا مُحرَّقًا)). رواه أحمدُ، وأبو داود، والترمذيُّ، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. [1879] 1880 - وعن مولي لعثمانَ [رضي الله عنه]، قال: أُهدِيَ لأمِّ سلمةَ بَضعةٌ منْ لحمٍ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعجبُه اللحمُ، فقالتْ للخادم: ضَعيهِ في البيتِ لعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأكلهُ، فوَضعَتْهُ في كُوَّةِ البيتِ. وجاءَ سائلٌ فقام علي الباب، فقال: تصدَّقوا، باركَ اللهُ فيكم. فقالوا: باركَ اللهُ فيكَ. فذهبَ السَّائلُ، فدخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أمَّ سلَمةَ! هلْ عندكم شيءٌ أطْعَمُه؟)) فقالتْ نعم، قالتْ للخادم: اذهبي فأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلكَ اللحمِ. فذهبتْ، فلم تجدْ في الكُوَّةِ إِلاَّ قطعةَ مَرْوةٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ ذلكَ اللحمَ عادَ مَروةً لمَّا لمْ تُعطوهُ السائلَ)). رواه البيهقىُّ في ((دلائل النبوَّة)). [1880] 1881 - وعن ابن عبَّاسٍ [رضي الله عنهُما]، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَلا أُخبرُكم بشرِّ النَّاسِ مَنزِلاً؟)) قيلَ: نعمْ، قال: ((الذي يُسأَلُ باللهِ ولا يُعطي به)). رواه أحمد. [1881] ـــــــــــــــــــــــــــــ كان عليه مقطوع حصوله، ويؤيده قوله: ((وسخط علي صاحبيك)). قوله: ((وأتى الأقرع في صورته)) لم يذكر هنا الهيئة اختصارًا، أو سقط من الراوى، قوله: ((لا أجهدك اليوم)) أي لا أستفرغ طاقتى بمنع شىء أخذته لله, هذا علي عكس ما قال الأبرص والأقرع: الحقوق كتيرة، أي الموانع في الإعطاء كثيرة، فلا يتأتى لي أن أعطيك شيئًا. الحديث الخامس عن أم بجيد اسمها حواء بنت يزيد بن السكن: قوله: ((محرقًا)) تتميم لإرادة المبالغة في ظلف، كقولها: كأنه علم في رأسه نار. الحديث السادس عن مولي لعثمان: قوله: ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم)) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي من عادته أن يعجبه اللحم، والخادم هو أحد الخدام، ويقع علي الذكر والأنثى؛ لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال كحائض وطالق، ويدل علي أنها أنثى قوله: ((ضعيه)). ((المروة)): حجر أبيض براق. وقيل: هي التي يقدح منها النار. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بالله)) الباء تحتمل أن تكون كالباء في كتبت بالقلم، أي يسأل بواسطة ذكر اسم الله، أو القسم والاستعطاف، يعنى قول السائل: أعطونى شيئًا بحق الله. وهذا مشكل، اللهم إلا أن يُتَّهم السائل بعدم الاستحقاق.

1882 - وعن أبي ذَرٍّ، أنَّه استأذنَ علي عُثمانَ، فأذنَ له وبيده عصاهُ، فقال عُثمانُ: يا كعبُ! إنَّ عبدَ الرَّحمنِ توُفي وتركَ مالاً، فما ترى فيه؟ فقال: إنْ كانَ يصلُ فيه حقَّ الله، فلا بأسَ عليه. فرفع أبو ذرٍّ عصاهُ فضربَ كعبًا، وقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((ما أُحبُّ لو أَنَّ لي هذا الجبلَ ذهبًا أُنفِقُه ويُتقبَّلُ مني أَذَرُ خلفي منه ست أَواقِيَّ))، أنشدُكَ باللهِ يا عثمانُ! أسمعته؟! ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: نعم. رواه أحمد [1882]. 1883 - وعن عُقبةَ بن الحارِثِ، قال: صلّيتُ وراء النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلَّم، ثمَّ قامَ مُسرعًا، فتخطَّى رقِابَ النَّاسِ إلي بعض حُجَرِ نسائه، فَفزعَ الناس منْ سُرعتِه، فخرجَ عليهِمْ، فرأي أنَّهم قدْ عجِبوا من سُرعتِه؛ قال: ((ذَكَرتُ شيئًا من تبر عندنا فكرهتُ أنْ يحبِسنَي، فأمرتُ بقسمته)). رواه البخاريُّ. وفي روايةٍ له، قال: ((كنتُ خَلّقتُ في البيتِ تبرًا من الصَّدَقةِ، فكرِهتُ أنْ أُبيته)). 1884 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، أنَّها قالت: كانَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندي في مرضه ستَّةُ دنإنير أو سبعةٌ، فأمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أفرقَها، فشغلَني وجَعُ نبيُ الله صلى الله عليه وسلم ثم سألني عنها ((ما فَعَلتِ الستةُ أو السَّبعةُ؟)) قلتُ: لا واللهِ، لقدْ كانَ شغلَني ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي ذر: قوله: ((فضرب كعبًا)) فإن قلت: لم ضربه، وقد قيد ما ترك من المال بقوله: ((إن كان يصل فيه حق الله)) وقد ورد ((ما أدى زكاته فليس بكنز))؟ قلت: إنما ضربه؛ لأنه نفي البأس علي سبيل الاستغراق حيث جعله مدخولا لـ ((لا)) التي لنفي الجنس، وكم من بأس، وأقله أنه يدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بزمان طويل، ويوقف للحساب، وما أشبهه. وقوله: ((ويتقبل منى)) تتميم لإرادة المبالغة في عدم المحبة. قوله: (أذر)) مفعول ((أحب)) علي حذف ((أن)) ورفع الفعل، كقوله: أحضر الوغى. الحديث التاسع عن عقبة: قوله: ((كرهت أن يحبسنى)) أي يلهينى عن الله، ويحبسنى عن مقام الزلفي، كما قال في حديث انبجإنية أبي جهم. الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما فعلت الستة)) يجوز أن يروى بالنصب والرفع، والرفع أفصح كما جاء: ما فعل أبوأي، وما فعل النغير. ولا بد من محذوف أي ما فعلت بها؟ أأنفقت أم لا؟ فأجابت بلا، ثم اعتذرت مقسمة بالله. وفي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجعُكَ. فدَعا بها، ثمَّ وضعَها في كفِه، فقال: ((مَاظنُّ نبيٍّ لوْ لقيَ اللهَ عزَّ وجلَّ وهذِه عندَهُ؟!)). رواه أحمد. [1884] 1885 - وعن أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ علي بِلالٍ، وعندَه صُبْرةٌ منْ تمرٍ، فقال: ((ما هذا يا بلالُ؟)) قال: شىءٌ ادَّخرْتُه لغَدٍ. فقال: ((أما تخشى أنْ ترى له غدًا بُخارًا في نارِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ؛ أنفِقْ بلالُ! ولا تخشَ من ذي العَرْشِ إقْلالأ)) [1885]. 1886 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((السَّخاءُ شَجرةٌ في الجنَّةِ، فمنْ كانَ سَخيًا أخذَ بغُصْنِ منها فلمْ يتركهُ الغُصْنُ حتى يُدخلَهُ الجنَّةَ. والشُّحُّ شجرةٌ في النَّارِ، فَمنْ كان شحيحًا أخذَ بغُصنٍ منها، فلم يتركهُ الغُصْنُ حتى يُدخِلَهُ النارَ)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)) [1886]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدنإنير في كفه، ووضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر نبى الله، ثم الإشارة بقوله: ((هذه)) تصوير لتلك الحالة الشنيعة، واستهجان بها، وإيذان بأن حال النبوة منافية لأن يلقى الله ومعه هذا الدنيا الحقيرة، فالظن مضاف إلي الفاعل. وقوله: ((لو لقى الله عز وجل)) حال من الفاعل. الحديث الحادى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بخارًا في نار جهنم)) أي أثره يصل إليك. فهو كناية عن قربه منها، كما أن قوله تعالي: {لا يسمعون حسيسها} كناية عن بعدها. وقوله: ((وأنفق بلال)) جملة مستأنفة مرتبة علي الأولي، فوض الترتيب إلي الذهن، أي فإن كان علي ما ذكر، فانفق يا بلال. والذي يقتضيه مراعاة السجع أن يوقف علي ((إقلالا)) وإن كتب بالألف، أو تغير إلي ((بلالاً)) ليزدوجا، كما في قولك: آتيك بالغدايا والعشايا. وقوله: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) وما أحسن موقع ذى العرش في هذا المقام أي أتخشى أن يضيع مثلك من هو يدبر الأمر من السماء إلي الأرض؟ كلا. الحديث الثانى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله: ((شجرة في الجنة)) أي كالشجرة في الجنة. والتنكير للتعظيم. شبه السخاء بالشجرة في عظمها، وإنها ذات أغصان وشعب كثيرة، ثم حذفت أداة التشبيه، وجعلت نفس الشجرة، ثم زيد في المبالغة، ففرع علي السخاء المشبه ما يفرع علي المشبه به من التمسك، والأخذ بالغصن منها يؤديه إلي منبتها وأصلها. ويحتمل أن

(6) باب فضل الصدقة

1887 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالصدقةِ، فإنَّ البلاءَ لا يتخطَّاها)). رواه رزين [1887]. (6) باب فضل الصدقة الفصل الأول 1888 - عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصدَّقَ بعدل تَمرةٍ من كَسبٍ طَيِّبٍ، ولا يقبلُ اللهُ إِلا الطَّيبَ، فإِنَّ اللهَ يُتقبَّلُها بيمينهِ، ثمَّ يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّهُ، حتى تكونَ مثلَ الجبلِ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون من باب الادعاء كقوله تعالي: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} في وجه جعل بالادعاء جنس الشجرة الدنيوية نوعين متعارفًا وغير متعارف. وهي شجرة السخاء الثابت أصلها في الجنة وفرعها في الدنيا، فمن أخذ بغصن منها، فلا محالة أن يوصله إلي ما هو منه. وحكم شجرة الشح علي عكس ذلك، وإلي هذا المعنى يلمح قوله: ((السخى قريب من الجنة بعيد عن النار والبخيل قريب من النار بعيد عن الجنة)). الحديت الثالث عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فإن البلاء لا يتخطاها)) تعليل للأمر بالمبادرة، وهو تمثيل، جعلت الصدقة والبلاء كفرسى رهان، فأيهما سبق لم يلحقه الآخر ولم يتخطه، والتخطى تفعل من الخطر. باب فضل الصدقة ((غب)): الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله علي وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب. وقيل: يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله. الحديت الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بعدل تمرة)) ((خط)): يريد قيمة تمرة، يقال: هذا عدل هذا - بفتح العين - أي مثله في القيمة، وعدله - بكسرها - أي مثله في المنظر. وقال الفراء: العدل - بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه، و- بالكسر- المثل من عين جنسه. ((تو)): المراد من التقبل باليمين حسن القبول من الله، ووقوع الصدقة منه موقع الرضي ((الفلوّ)) - بتشديد الواو - المهر، إنما ضرب المثل به، لأن الصدقة نتاج عمله، ولأن صاحبه

1889 - وعنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصَتْ صدقةٌ من مالٍ [شيئًا]، وما زادَ الله عبدًا بعفوٍ إِلا عِزًا، وما تواضعَ أحدٌ للهِ إِلا رفعَهُ اللهُ)). رواه مسلم [1889]. ـــــــــــــــــــــــــــــ لايزال يتعاهده ويتولي تربيته. ثم إن النتاج أحوج ما يكون إلي الترَّبية فطيما، وإذا أحسن القيام به وأصلحه، انتهي إلي حد الكمال. وكذلك عمل ابن آدم لاسيما الصدقة التي يجاذبها الشح، ويتشبث بها الهوى، ويقتفيها الرياء، فلا تكاد تخلص إلي الله إلا موسومة بنقائص لايجبرها إلا نظر الرحمن، فإذا تصدق العبد من كسب طيب، مستعد للقبول، فتح دونها باب الرحمة، فلا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، ويوفيها حصة الصواب، حتى تنتهي بالتضعيف إلي نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم من العمل، وقوع المناسبة بين التمرق والجبل. أقول: قوله: ((من كسب طيب)) صفة مميزة لعدل تمرة ليمتاز الكسب الخبيث الحرام. وقوله: ((ولا يقبل الله إلا الطيب)) جملة معترضة واردة علي سبيل الحصر بين الشرط والجزاء، تأكيدا، ومقرًا للمطلوب من النفقة، ولما قيد الكسب بالطيب أتبعه اليمين لمناسبة بينهما في الشرف، ومن ثم كانت يده اليمنى للطهور. وضرب المثل بالفلوّ الذي هو من كرائم النتاج، وأنه يفتلي، أي يفطم، وأنه أقبل للتربية من سائر النتاج؛ لأن الكسب الطيب من أفضل أكساب الإنسان، وأنه أقبل للمزيد، والمضاعفة. والخبيت الذي هو الحرام علي عكسه. قال الله تعالي: {يمحق الله الربا ويربى الصدقات} والله أعلم. الحديت الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مانقصت صدقة من مال)) ((من)) هذه يحتمل أن تكون زائدة، أي ما نقصت صدقة مالا، ويحتمل أن تكون صلة لـ ((نقصت)) والمفعول الأول محذوف، أي ما نقصت شيئًا من مال. ((مح)): ذكر فيه وجهان: أحدهما أن يبارك فيه، ويدفع عنه المفسدات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة. والثانى: أنه وإن نقص صورة كان في الثواب المرتب علي نقصه زيادة إلي أضعاف كثيرة. وكذا في قوله: ((وما زاد الله عبدًا بعفو)) وجهان: أحدهما أنه علي ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه وكرامته. والثانى: المراد أجره في الآخرة، وعزه هناك. وكذا في قوله: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) وجهان: أحدهما يرفعه في الدنيا ويثبت له في القلوب بتواضعه منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه. والثانى: المراد به ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا. قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة. وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعهما في الدنيا والآخرة.

1890 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من أَنفقَ زوجينَ من شيءٍ من الأشياءِ في سبيل الله؛ دُعيَ من أبوابِ الجنَّةِ، وللجنَّةِ أبوابٌ. فَمَنْ كانً من أهل الصلاةِ دُعيَ من باب الصلاةِ، ومن كانَ من أهلِ الجهادِ دُعيَ من بابِ الجهاد، ومن كان من أهلِ الصَّدَقة دُعِي من باب الصدقةِ، ومن كانَ من أهلِ الصيامَ دُعيَ من بابِ الرَّيان)) فقال أبو بكرٍ: ما علي من دُعِيَ من تلكَ الأبواب من ضَرورةٍ، فهل يُدعى أحدٌ من تلكَ الأبوابِ كلَها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تَكون منهُم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((من أنفق زوجين)) ((تو)): فسر بدرهمين، أو دينارين، أو مدين من طعام، وما يضاهي تلك الأشياء. ويحتمل أن يراد به تكرار الإنفاق مرة بعد أخرى، أي يتعود ذلك ويتخذه دأبًا، نحو قوله تعالي: {فارجع البصر كرتين})). وفي الغريبين عن أبي ذر: ((من أنفق من ماله زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة. قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان، أو عبدان، أو بعيران من إبله)). أقول: هذا هو الوجه إذا حملت التثنية علي التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال والمواظبة عليه، كما قال تعالي: {مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتًا من أنفسهم} أي ليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء علي النفس من سائر العبادات الشاقة. قوله: ((في سبيل الله)) ((مح)): قال القاضي عياض: قيل: هو علي العموم في جميع وجوه الخير، وقيل: هو مخصوص بالجهاد، والأول أصح وأظهر. قوله: ((ما علي من دعى)) ((مظ)): ((ما)) نفي و ((من)) في ((من ضرورة)) زائدة، أي ليس ضرورة علي من دعى من تلك الأبواب، إذ لو دعى من باب واحد يحصل مراده، وهو دخول الجنة، ومع أنه لا ضرورة عليه في أن يدعى من جميع الأبواب، فهل أحد يدعى من جميع الأبواب؟ وذكر الشيخ التوربشتى هذا الوجه، وقال: وفي رواية: قال أبو بكر: ((يا رسول الله! ذلك الذي لاتوى عليه))، أي لاضياع عليه ولا خسارة. ((مح)): ((لاتوى)) - بفتح المثناة فوق مقصورًا - أي لا هلاك. أقول: هذه الرواية تستدعى أن يؤول قوله: ((من ضرورة)) إلي ضررٍ، والمقام أيضًا لا يقتضيه؛ لأن قوله: ((وللجنة أبواب)) وارد علي سبيل الاستطراد لقوله: ((دعى من أبواب الجنة)) فخص كل باب بمن أكثر نوعًا من العبادة، فلما سمع الصديق رضي الله عنه، رغب في أن يدعى من كل الأبواب، وقال: ليس علي من دعى من تلك الأبواب ضرر وتوى، بل له تكرمة

1891 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليومَ صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قالَ: ((فمنْ تبعَ منكم اليومَ جَنازة؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمَنْ أطعَمَ منكم اليومَ مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن عادَ منكمِ اليومَ مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمَعْنَ في امرِىءٍ، إلا دخلَ الجنَّة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإعزاز، فهل أحد منا يختص بتلك الكرامة؟ فأجيب: نعم إلي آخره. وقريب منه ما روى: أن أبا الدرداء كان يغرس غرسًا وهو شيخ، فقيل له فأجاب: وما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيرى. هكذا ينبغى أن يؤول؛ لأن سؤاله رضي الله عنه: ((فهل يدعى أحد من تلك الأبواب)) بعد ما سمع قوله: ((من أنفق زوجين دعى من أبواب الجنة)) لا يستقيم إلا بهذا التأويل؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه علم من ذلك أن أحدًا قد يدعى من جميع الأبواب. ولما كان السؤال عن الاختصاص، طابقه الجواب بقوله: ((أرجو أن تكون منهم)). فإن قلت: لم خص كل باب باسم العبادة المختصة به، وكنى عن الصيام بالريان؟ قلت: بما يدلي الصوم إلي النسبة إلي الله في قوله: ((الصوم لي))، وعلله بقوله: ((يترك طعامه وشرابه)) وخص الشراب بالذكر؛ لكونه أهم حينئذ. وفيه إشارة إلي قوله تعالي: {وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا} وقال الحربى: إن كان الريان اسمًا للباب فلا كلام فيه، وإلا فهو من الرواء الذي يروى، يقال: روى يروى فهو ريان. والمعنى: أن الصائم بتعطيشه نفسه في الدنيا، يدخل من باب الريان ليأمن من العطش. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قال أبو بكر: أنا)) ((تو)): ذهب طائفة من أهل العلم وفرقة من الصوفية إلي كراهة إخبار الرجل عن نفسه بقوله: ((أنا))، حتى قال بعض الصوفية: كلمة أنا لم تزل مشيءومة علي أصحابها، وأشار هذا القائل إلي أن إبليس إنما لعن لقوله: ((أنا)) وليس الأمر علي ما قدر، بل الذي نقض عليه أمره: هو النظر إلي نفسه بالخيرية، ونحن لاننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم وإشاراتهم في التبرى عن الدعاوى الوجودية. ولكنا نقول: إن الذي أشاروا إليه بهذا القول راجع إلي معان تعلقت بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول، كيف وقد ناقض ظاهر قولهم هذا نصوصًا كثيرة، وهم أشد الناس فرارًا عن جميع ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يأت القوم في الكرامة بمتمسك إلا بحديث جابر رضي الله عنه ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان علي أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا أنا، كأنه كرهها)) وهو حديث صحيح. وقد أورده مؤلفه هذا الكتاب في باب الاستئذان، ولو أخذنا بظاهر الحديث كنا كمن حفظ بابًا وضيع أبوابًا كثيرة، وأنى يصح

1892 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يانساءَ المسلماتِ! لا تحقِرَنَّ جارةً لجارَتِها ولو فِرْسَنَ شاةٍ)). منفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ القول بظاهر هذا الحديث؟ وقد وجدنا فيما حكى عن أنبياء الله في كتابه أنهم كانوا يستعملونها في كتابة كلامهم، ولا سيما فيما أمر الله به رسوله، نحو قوله تعالي: {إنما أنا بشر مثلكم}. وقوله: ((وأنا أول المسلمين))، وقوله: {وما أنا من المتكلفين} وقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم}، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي، وأنا المقفي)) إلي غير ذلك من الآيات والأحاديث. وقد تلفظ بها السابق بالخيرات صديق هذه الأمة رضي الله عنه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة بعد أخرى، فلم ينكر عليه؛ فلا وجه إذًا للذهاب إلي كراهة ذلك، ونظرنا إلي حديث جابر، فوجدناه قد ذكر الكراهة علي سبيل الحسبان، ثم إنه لم يصرح بالأمر المكروه، فالوجه أن نقول: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم استعمله ليخبر عن نفسه، فيعرف من الوارد عليه، فيرتفع الإبهام، فلما قال: أنا، لم يأت بجواب تفيده المعرفة، بل بقى الإبهام علي حاله، فكره ذلك للمعنى الذي ذكرناه لا لتلفظه بتلك الكلمة. فلو قال: أنا جابر، لم يكن صلى الله عليه وسلم ليكره قوله، أو ينكر عليه. وأقول: لعل ذلك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمقامات، فمن كان مترددًا في الأحوال، ومتحولاً في الفناء والتلوين، ينافي حاله أن يقول: ((أنا)) وأما إذا ترقى إلي مقامات البقاء بالله تعالي وتصاعد إلي درجات التمكين، فلا يضره أن يقول: ((أنا))، ومقامات الأنبياء والصديقين مقامات تمكين، وتكميل للناقصين، والله أعلم. الحديت الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يا نساء المسلمات)) ((مح)): في إعرابه ثلاثة أوجه: أصحها نصب النساء وجر المسلمات علي الإضافة، وهو من إضافة الموصوف إلي صفته، والعام إلي الخاص، كمسجد الجامع، وجانب الغربي، ولدار الآخرة. يجوزه الكوفيون، والبصريون يقدرون محذوفًا، أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربى، ولدار الحياة الآخرة، ويقدر هنا: يا نساء الطوائف المسلمات. وقيل: تقديره: يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم، أي ساداتهم. والوجه الثانى: رفعهما، قال الباجى: هكذا يروى أهل بلدنا. الثالث: رفع نساء وكسر المسلمات علي أنه منصوب علي الصفة علي المحل، كما يقال: يا زيد العاقل والعاقل. قوله: ((لا تحقرن جارة)) ((تو)): هذا اختصار لمعرفة المخاطين بالمراد منه؛ أي لا تحقرن أن

1893 - وعن جابرٍ وحُذْيفةَ، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ معروفٍ صدَقةٌ)). متفق عليه. 1894 - وعن أبي ذَرِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرنَّ منَ المعروفِ شيئًا، ولوْ أنْ تَلقى أخاكَ بوَجْهٍ طَليقٍ)). رواه مسلم. 1895 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((علي كلِّ مسلمٍ صدَقةٌ)). قالوا: فإِنْ لم يجدْ؟ قال: ((فلْيعمَلْ بيديهِ فينفَعُ نفسهَ، ويتصدَّقُ)). قالوا: فإنْ لم يستَطعْ؟ - أو لمْ يفعَلْ؟ - قال: ((فيُعينُ ذا الحاجةِ الملهوفَ)). قالوا: فإنْ لم يفعلْ؟ قال: ((فيأمرُ بالخَيرِ)). قالوا: فإِنْ لم يفعلْ؟ قال: ((فيُمسِكُ عنِ الشَّرِّ، فإِنَّه له صدقةٌ)). متفق عليه. 1896 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ سُلامى منَ النَّاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــ تهدى إلي جارتها، ولو أن تهدى فرسن شاة والفرسن وإن كان مما لا ينتفع به، استعمل هنا للمبالغة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة)) ومقدار المفحص لايمكن أن يتخذ مسجدًا، وإنما هو علي سبيل المبالغة. أقول: ويمكن أن يقال: إنه من النهي عن الشيء، والأمر بضده، وهو كناية عن التحاب والتواد، كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة، ويتساوى فيه الفقير والغنى، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو أهدى إلي ذرع لقبلت)) وخص النهي بالنساء؛ لأنهن مواد الشنآن، والمحبة. والفرسن عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة فيقال: فرسن شاة، والذي للشاة: هو الظلف، والنون زائدة، وقيل أصلية. الحديث السادس والسابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كل معروف صدقة)) ((نه)): المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلي الناس، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لاينكرونه، ومن المعروف: النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، وتلقى الناس بوجه طلق وبشاشة. الحديث الثامن عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((الملهوف)) نصب نعت ((لذا)) ((نه)): ((الملهوف واللهفان)) المكروب. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سلامى)) ((نه)): السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع علي سلاميات،

عليه صدقةٌ كل يومٍ تَطلُع فيه الشَّمسُ: يَعْدِلُ بينَ الاثنَينِ صدقةٌ، ويُعينُ الرَّجلَ علي دابَّته فيَحملُ علَيها أو يَرفعُ عليَها متَاعَه صدقةٌ، والكلمَةُ الطيِّبةُ صدقةٌ، وكلُّ خُطوَةٍ يَخطُوها إِلي الصَّلاةِ صدقةٌ، ويُميطُ الأذى عنِ الطريقِ صدقةٌ)). متفق عليه. 1897 - وعن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خُلِقَ كلُّ إِنسان منْ بني آدَم علي ستيِنَ وثلثماثة مَفصِلٍ: فمنْ كبَّرَ اللهَ، وحمدَ اللهَ، وهَللَ اللهَ، وسَبَّحَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام. ((مظ)): المعنى علي كل أحد بعدد كل مفصل في أعضائه صدقة، شكرًا لله تعالي بأن جعل في عظامه مفاصل تقدر علي القبض والبسط؛ فإن ذلك نعم عظيمة، إذ لو جعل أعضاءه بغير مفصل، كانت كالخشبة. وأقول: لعل تخصيص ((السلامى)) - وهي المفاصل من الأصابع – بالذكر؛ لما في أعمالها من دقائق الصنائع التي تتحير الأوهام فيها؟ ولذلك قال تعالي: {بلي قادرين علي أن نسوى بنانه}. أي نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية شيئًا واحدًا، كخف البعير وحافر الحمار، فلا يمكن أن يعمل بها شيئًا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل من فنون الأعمال دقها وجلها. ولهذا السر غلب الصغار من العظام علي الكبار. وقوله: ((كل سلامى)) مبتدأ و ((من الناس)) صفته، و ((عليه صدقة)) الجملة خبر، والراجع إلي المبتدأ الضمير المجرور في الخبر. قال المالكى: وحق الراجع إلي كل مضاف إلي نكرة أن يجىء علي وفق المضاف إليه، كقوله تعالي: {كل نفس ذائقة الموت} و {إن كل نفس لما عليها حافظ} وقد يجئ علي وفق ((كل)) كما في الحديث، فذكر الضمير موافقة ((لكل)). وقوله: ((كل يوم)) استئناف؛ فإنه لما قيل: ((علي كل سلامى صدقة)) توجه لسائل أن يسأل عمن يقدر علي هذا، وبأي شىء يتصدق؟ قيل: ((كل يوم)) إلي آخره. وقوله: ((يعدل)) أي يصلح بين الخصمين، ويدفع ظلم الظالم، مبتدأ و ((صدقة)) خبره علي تأويل ((أن يعدل)) فحذف ((أن)) فارتفع الفعل، كما في قوله تعالي: {ومن آياته يريكم البرق}، وينصره عطف قوله: ((عليه)) و ((الكلمة الطيبة صدقة)) وكذا ((كل خطوة)) عطف عليه، وكل من هذه الجمل أخبار لقوله: ((كل يوم تطلع فيه الشمس))، والرواجع من الأخبار المحذوفة، أي يعدل فيه مثلا. الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الثلثمائة.)) ((مح)): أضيف ((الثلاث)) وهي معرفة إلي ((مائة)) وهي نكرة. قيل في الاعتذار: إنه لا اعتداد باللام؟ لأنها زائدة. أقول: ولو

اللهَ، واستغفَرَ اللهَ، وعزَلَ حجرًا عنْ طريقِ النَّاسِ، أو شوكةً، أو عظمًا، أو أمرَ بمعروفٍ، أو نهي عنْ مُنكرٍ، عَدَدَ تلكَ الستينَ والثلثماثة، فإِنَّه يمشي يومَئذٍ وقدْ زحْزحَ نفسَه عن النَّارِ)). رواه مسلم. 1898 - وعن أبي ذَرٍّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدقةً، وكلِّ تكبيرةٍ صدقةً، وكلِّ تحميِدَةٍ صدقةَ، وكلِّ تهليلَةٍ صدقةً، وأمرٍ بالمعروفِ صدقةً، ونهي عن المنكر صدقةً، وفي بُضعِ أحدكم صدقةً)). قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوَتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لوْ وضعَها في حرامٍ، أكانَ عليه فيهِ وِزرٌ؟! فكذلك إذا وضعَها في الحَلالِ كانَ له أجرٌ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذهب إلي أن التعريف بعد الإضافة، كما في الخمسة عشر بعد التركيب، لكان وجهًا حسنًا. قوله: ((وقد زحزح نفسه)) ((نه)): أي باعدها عن النار، يقال: زحزحه، أي نحاه عن مكانه وباعده منه. أقول: قيد الفعل بالظرف دلالة علي إيجاب الشكر في كل يوم، وبالحال إشعارًا. بأن غير الشاكر كائن في النار، ومنغمس فيها، وبالصدقة يتخلص منها، ويمضى وما عليه تبعة من ذلك. ((فيمشى)) تمثيل لبراءة ساحته وفوزه. الحديث الحادى عشر عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله:، ((وكل تكبيرة صدقة)) ((مح)): روى ((صدقة)) بالرفع والنصب، أما الرفع، فعلي [الاستئناف]، والنصب عطف علي اسم ((إن)) فعلي هذا ((وكل تكبيرة)) مجرور فيكون من باب العطف علي عاملين مختلفين، فإن الواو نائب مناب ((إن))، و ((الباء)). وقال القاضى عياض: جعل التسبيح والتكبير والتهليل صدقة، تشبيهًا لها بالمال في إثبات الأجر، أو سميت بها علي سبيل المشاكلة. وقيل: معناه: أنها صدقة علي نفسه. قوله: ((وأمر بالمعروف)) أسقط المضاف هنا إما اعتمادًا. علي السابق، ويدل عليه رواية الجر، أو قطعًا له عن ذلك الحكم. وأن قليلا من هذا النوع يقوم مقام تلك الأمور السابقة، فكيف بالكثير. وذهب الشيخ النواوى إلي أن التنكير فيه للإفراد، حيث قال: فيه إشارة إلي ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا نكره، والثواب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أكثر منه بالتسبيح والتحميد؛ لأنهما فرضا كفاية، وتلك نوافل، فكم بين الفرض والنافلة! وروى إمام الحرمين عن بعضهم أن ثواب الفرض يزيد علي ثواب النافلة سبعين درجة. قوله: ((وفي بضع أحدكم)) ((نه)): البضع الجماع، والاستبضاع نوع من نكاح الجاهلية، وذلك: أن تطلب المرأة جماع الرجل، تسأل منه الولد فقط.

1899 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمَ الصَّدقةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنحةً، والشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنحةً تغدو بإناءٍ وتروحُ بآخرَ)). متفقٌ عليه. 1900 - وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مامِنْ مُسلمٍ يَغرِسُ غرسًا، أو يُزرَعُ زَرْعًا فيأكلُ منه إِنسانٌ أوْ طيرٌ أوْ بَهيمَةٌ؛ إِلاَّ كانتْ له صدقةٌ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: و ((في)) إعادة، دلالة علي أن الباء في قوله: ((إن بكل تسبيحة صدقة)) ثابتة، وهي بمعنى ((في)) وإن نزعت عن بعض النسخ، وأن هذا النوع من الصدقة أغرب من الكل حيث جعل قضاء الشهوة بهذا الطريق مكانًا للصدقة ومقرها. قوله: ((أكان)) أقحم همزة الاستفهام علي سبيل التقرير بين ((لو)) وجوابها تأكيدًا للاستخبار في قوله: ((أرأيتم)). الحديث الثانى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللقحة)) ((نه)): - بالكسر والفتح - الناقة القريبة العهد بالنتاج، والجمع لقح. والصفي الناقة الغزيرة اللبن. والمنحة العطية، وقد يقع علي الهبة مطلقًا، لا قرضًا ولا عارية. أقول: ((اللقحة)) مخصومة بالمدح، و ((منحة)) تمييز، و ((تغدو)) صفة لـ ((منحة)) إما مميزة ليتميز عن الهبة المطلقة، أو صفة مادحة، وهي أرجح الوجهين؛ لقوله: ((نعم)). وقوله: ((بإناء)) إما خبر أو حال، إذا كانت ناقصة، أي تغدو ملتبسة بملء إناه. قال المالكى: وقع في الحديث التمييز بعد فاعل ((نعم)) ظاهرًا، وهو مما منعه سيبويه، ويجيزه إذا وقع مضمرًا كقوله تعالي: {بئس للظالمين بدلا}؛ لأن التمييز فائدته رفع الإبهام، ولا إبهام إلا بعد الإضمار. وأجاز المبرد وقوعه بعد الفاعل الظاهر، وهو الصحيح؛ لأن التمييز بعد الفاعل الظاهر إنما يكون للتوكيد كالحال المؤكدة، نحو قوله تعالي: {ولي مدبرًا}، و {يوم أبعث حيًا} مع أن الأصل فيها أن يبين بها كيفية مجهولة، فكذا التمييز أصله أن يرفع به إبهام، وقد يجاء به بعد ارتفاع الإبهام قصدًا للتوكيد، كقوله تعالي: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا} وكقول أبي طالب: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا الحديت الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما من مسلم يغرس غرسًا)) ((مظ)): بأي سبب يؤكل مال الرجل يحصل له الثواب. أقول: نكر مسلمًا، وأوقعه في سياق النفي،

1901 - وفي رواية لمسلمٍ عن جابرٍ: ((وما سُرِقَ منه له صدقةٌ)). 1902 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ((غُفِرَ لامرأةٍ مُومِسَةٍ مرت بكلب علي رأس ركيٍّ، يلْهَثُ كادَ يقتُلُه العَطشُ، فنزَعتْ خُفَّها فأوثقَتْ بخمِارِها، فنزعَتْ له منَ الماءِ، فغُفِرَ لها بذلك)). قيلَ: إِنَّ لنا في البهائِمِ أجرًا، قال: ((في كل ذاتِ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزاد ((من)) الاستغراقية، وخص الغرس والزرع، وعم الحيوان؛ ليدل علي سبيل الكناية الإيمائية علي أن أي مسلم كان سواء حرًا أو عبدًا، مطيعًا أو عاصيًا، يعمل أي عمل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان - كان - يرجع نفعه اليه ويتاب عليه. ((حس)): روى أن رجلاً مر بأبي الدرداء وهو يغرس جوزة، فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، تموت غدًا أو بعد غد، وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عامًا! فقال: وما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيرى. وذكر أبو الوفاء البغدادى في كتاب المقامات: أنه مر أنوشروان علي شيخ يغرس شجر الزيتون، فقال له: ليس هذا أوان غرسك شجر الزيتون، وهو شجر بطئ الإثمار وأنت شيخ هرم. فأجاب: غرس من قبلنا وأكلنا، ونغرس ليأكل من بعدنا، فقال أنوشروان: زه - أي أحسنت - وكان إذا قال: ((زه)) يعطى من قيلت له أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك! كيف تتعجب من غراسى، واستبطاء ثمره، فما أسرع ما أثمرت! فقال: زه، فزيد أربعة آلاف أخرى، فقال: أيها الملك؟ كل شجرة تثمر في العام مرة، وقد أثمرت شجرتى في ساعة مرتين، فقال: زه، فزيد مثلها، ومضى أنوشروان، وقال: إن وقفنا عليه لم يكفه ما في خزائننا. قوله: ((إلا كانت له صدقة)) الرواية برفع الصدقة علي أن ((كانت)) تامة. الحديت الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مومسة)) ((تو)): هي الفاجرة المجاهرة. قيل: الومس تحكك الشيء بالشيء حتى يتجرد، ولعلها منه ((الركى))، البئر الذي لم يطو، وجمعه الركايا. لهث الكلب يلهت: إذا أخرج لسانه من العطش والتعب. قوله: ((ذات كبد رطبة)) ((تو)): قيل: إن الكبد إذا ظمئت ترطبت، وكذا إذا ألقيت علي النار. وقيل: هو من باب وصف الشىء باعتبار ما يؤول إليه، فمعناه في كل كبد حرَّى لمن سقاها حتى تصير رطبة أجر، والأول أوجه؛ لأن الرطبة قد وردت في الحديث بدل الحارة، فيجب أن يكون بمعناها. وفي حديت سراقة ومخول ((أو حارة)) بدل ((رطبة)) واللفظان معًا - أعنى حرَّى ورطبة - لم يجمعهما رواية. أقول: التركيب وارد علي سبيل المبالغة، وذلك أنه لما سمعوا حديث سقى المومسة

1903 - وعن ابن عمرَ، وأبي هريرةَ، قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عُذبتِ امرأةٌ في هرَّةٍ أمسكتْها حتى ماتتْ منَ الجوع، فلمْ تكنْ تُطعمها، ولا ترسلُها فتأكلَ منْ خشاشِ الأرضِ)). متفق عليه. 1904 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ علي ظهرِ طريقٍ، فقال: لأنَحينَّ هذا عن طريق المسلمين لا يُؤذيهِمْ، فأدخِلَ الجنَّةَ)). متفق عليه. 1905 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لقدْ رأيتُ رجلاً يتقلبُ في الجنَّةِ في شجرةٍ قَطعَها من ظهر الطريقِ كانت تُؤذِي النَّاسَ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغفران الله. لها، فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ((إن لنا)) أي أئن لنا، أتوا بالاستفهام المؤكد للتعجب، وأكدوا بـ ((أن)) بالغ صلوات الله عليه في الجواب، حيث عم أجناس الحيوان كلها، وقيد الكبد بالرطبة؛ ليدل علي أن الكبد الحرَّى أولي وأحرى. ((خط)): في إطعام كل حيوان وسقيه أجر، بشرط أن لا يكون مأمورًا بقتله كالحية وغيرها. الحديث الخامس عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((في هرة)) قال المالكى: تضمن ((في)) في الحديث معنى التعليل، وهو مما خفي علي أكثر النحويين. وفي التنزيل قوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}. أقول: إنهم يقدرون المضاف، أي في شأن الهرة وأمرها. و ((الفاء)) في ((فلم تكن)) تفصيل وتفسير للإمساك والجوع، وفي ((فتأكل)) ناصبة للفعل جوابًا للنفي. قوله: ((خشاش الأرض)) ((تو)): الخشاش – بالكسر – الحشرات، وقد يفتح. أقول: ذكر الأرض هنا كذكرها في قوله تعالي: {وما من دابة في الأرض} للإحاطة والشمول. الحديث السادس والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: وقوله: ((علي ظهر طريق)) أي علي ظاهره وفوقه. ((شف)): يمكن أن يدخل هذا الرجل الجنة بالنية الصالحة وإن لم ينحه، ويمكن أن يكون قد نحاه. أقول: ((الفاء)) علي الوجه الأول سببية، والسبب مذكور، وعلي الثانى فصيحة تدل علي محذوف هو سبب لما بعد الفاء، والتقدير: أقسم بالله أن أبعد الغصن من طريق المارة، فأبر قسمه حتى سهل للمارة العبور، فقبل منه وأدخل الجنة. وقوله: ((لا يؤذيهم)) جملة مستأنفة، بيان لعلة التنحية. وقيل: ((غصن شجرة)) ولم يقل: ((بغصن)) ليشعر بأنه لم يكن مقطوعًا عنها. وقيل: ((لأنحين))، ولم يقل: لأقطعن ليؤذن بأن

1906 - وعن أبي بَرزةَ، قال: قلتُ: يانبيَّ اللهِ! علّمني شيئًا أنتفعُ به. قال: ((اعْزِلِ الأذى عن طريق المسلمينَ)). رواه مسلم. وسنذكرُ حديث عَديِّ بنِ حاتمٍ: ((اتقوا النَّارَ)) في ((باب علاماتِ النُّبوَّة)) إِن شاءَ اللهُ تعالي. الفصل الثاني 1907 - عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، جئت، فلمَّا تبينتُ وجههَ، عرَفتُ أنَّ وجهه لسى بوجه كذَّابٍ. فكان أوَّلَ ما قال: ((يا أيُّها الناسُ! أفشُوا السَّلامَ، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرْحام، وصلّوا بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ؛ تدخُلوا الجنة بسَلامٍ)). رواه الترمذيُّ، وابنُ ماجه، والدارمي. 1908 - وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اعبدوا الرَّحمنَ، وأَطعمِوا الطعامَ، أفشُوا السَّلامَ، تدخُلوا الجنة بسَلامٍ)). رواه الترمذيُّ، وابنُ ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشجرة كانت ملكًا للغير، أو كانت مثمرة. ويحتمل أن يكون كل واحد من الحديثين مطلقًا من وجه، ومقيدًا من وجه، فذكر الغصن في الأول قيد لذكره الشجرة المطلقة في الثانى، وذكر القطع في الثانى قيد لذكر التنحية في الأول؛ لأن التنحية أعم من أن تكون بالقطع، أو بالإبعاد من غير قطع. قوله: ((يتقلب في الجنة)) التقلب التردد مع التنعم والترفه، قال الله تعالي: {لايغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد}. الحديت الثامن عشر عن أبي برزة: قوله: ((أنتفع به)) روى مجزومًا جوابًا للأمر، ومرفوعًا صفة لـ ((شيئًا)). فإن قلت: كيف خص الجواب بأدنى شعب الإيمان دون أعلاها وأوسطها؟ قلت: إن أبا برزة كان من أكابر الصحابة، وكان متحليًا بالشعب، وأهمها بالنسبة إليه هذه، أو ذكر أدناها؛ ليدل علي إرادة الأعلي بالطريق الأولي. الفصل الثاني الحديت الأول والثانى، عن عبد الله بن سلام: قوله: ((تبينت)) أي تكلفت في البيان، وتأملت إما بعلامات مذكورة في الكتب، أو بالتثبت في النظر والتفرس بأمارات لائحة في السيماء، وينصر هذا قوله: ((عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب))، ولو أريد الأول لقيل: عرفت أنه النبي الموعود. وأنشد ابن رواحة في المعنى: لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبئك عن خبره

1909 - وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنً الصَّدَقَةُ لتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ ((. رواه الترمذي. [1909] 1910 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ)). رواه أحمد، والترمذي. [1910] 1911 - وعن أبي ذَر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ، وأمرُكَ بالمعروفِ صدقة ونَهْيُكَ عن المنكرِ صدقةٌ، وإرشادُك الرجلَ في أرضِ الضلالِ لك صدقةٌ، وبَصَرُكَ الرجلِ الرِّدِيءِ البصرِ لك صدقةٌ، وإماطتُكَ الحَجَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان من مقالته ما هو جامع لمكارم الأخلاق من حسن المعاشرة مع الخلق بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، ومع الحق بالتقرب إليه بالتهجد، قال الله تعالي: ((ما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً)) الحديث. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ميتة السوء)) ((تو)): الميتة – بالكسر - الحالة التي يكون عليها الإنسان من الموت، وأراد بها ما لا يحمد عاقبته، ولا يؤمن غائلته من الحالات، كالفقر المدقع، والوصب الموجع، والألم المقلق، والأعلال التي تفضي به إلي كفران النعمة، ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه، ونحوها. ((مظ)): هي ما تعوذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)). أقول: ويجوز أن يحمل إطفاء الغضب علي المنع من إنزال المكروه في الدنيا، كما ورد ((لا يرد القضاء إلا الصدقة))، وموت السوء علي سوء الخاتمة؛ ورخامة العاقبة من العذاب في الآخرة كما ورد ((الصدقة تطفئ الخطيئة)) وقد سبق أنه من باب إطلاق السبب علي المسبب. وقد تقرر أن نفي المكروه لإثبات ضده أبلغ من العكس، وكأنه نفي الغضب، وميتة السوء، وأراد الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في العقبى، وعليه قوله تعالي:} فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {. الحديث الرابع والخامس، عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((في أرض الضلال)) أضاف

والشَّوْكَ والعَظْمَ عن الطريقِ لك صدقةٌ، وإفراغُكَ من دَلْوِكَ في دَلْوِ أخيك لك صدقةٌ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 1912 - وعن أبي سعد بن عبادةَ، قال يا رسول الله! إِنً أمَّ سعدٍ ماتت، فأيُّ الصدقةِ أفضلُ، قال ((الماء)) فحفرَ بئراً، وقال: هذه لأمِّ سعدٍ. رواه أَبو داود، والنسائي [1912]. 1913 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّما مسلم كسا مُسلماً ثوباً علي عُرْي؛ كساهُ اللهُ من خُضْرِ الجنَّة. وأيُّما مسلمٍ أطعمَ مُسلماً علي جوعٍ؛ أطعمَهُ اللهُ من ثمار الجنَّة. وأيما مسلمٍ سَقا مسلماً علي ظَمأٍ؛ سقاهُ اللهُ منَ الرَّحيقِ المختومِ)). رواه أبو داود، والترمذي. [1913] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرض إلي الضلال مبالغة، كأنه خيل للضلال أرضاً، والضلال للضال، وزيد ((لك)) في هذه القرينة والتي يليها، لمزيد الاختصاص بها. ((مظ)): أرض الضلال هي التي لا علامة فيها للطريق، فيضل فيها الرجل. قوله: ((رديء البصر)) هو من لا يبصر شيئاً، أو يبصر قليلاً، ووضع البصر موضع القياد مبالغة في الإعانة، كأنه يتضرر من كل شيء ويعثر من كل نتؤ، فيتظلم ويحتاج إلي من يبصِّره. الحديث السادس عن سعد: قوله: ((الماء)) إنما كان أفضل؛ لأنه أعم نفعاً في الأمور الدينية والدنيوية، ولذلك من الله تعالي بقوله:} وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً {وإنما وصف الماء بالطهور ليشير إلي أن الغرض الأصلي في الإنزال إزالة الموانع من العبادة، وباقي الأغراض تابعة لها. الحديث السابع عن أبي سعيد: قوله: ((خضر الجنة)) من إقامة الصفة مقام الموصوف أي ثيابها الخضر. قوله: ((الرحيق المختوم)) ((تو)): ((الرحيق)) الشراب الخالص الذي لا غش فيه، و ((المختوم)) الذي يختم أوإنيها، وهو عبارة عن نفاستها وكرامتها. وقيل: إن المراد منه أن آخر ما تجدون منه في الطعم رائحة المسك، من قولهم: ختمت الكتاب، أي انتهيت إلي آخره.

1914 - وعن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ في المالِ لَحقاً سوى الزكاةِ)) ثمَّ تلا:} ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وُجوهكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغرِب {الآية. رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [1914] 1915 - وعن بُهَيْسةَ، عن أبيها، قالت: قال: يا رسولَ الله! ما الشيء الذي لا يحلُّ منعُه؟ قال: ((الماءُ)). قال: يا نبيَّ الله! ما الشيء الذي لا يحِلُّ منعُه؟ قال: ((الملحُ)) قال: يا نبيَّ الله! ما الشيء الذي لا يحلُّ منعُه؟ قال: ((أن تفعلَ الخيرَ خير لك)). رواه أبو داود. [1915]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن فاطمة بنت قيس: قوله: ((إن في المال لحقاً سوى الزكاة)) ((مظ)): حق المال أن لا يحرم السائل، وأن لا يمنع متاع بيته من استعارة، كالقدر والقصعة وغيرهما، ولا يمنع أحداً الماء والملح والنار. قوله: ((تم تلا: {ليس البرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قبَلَ المشرق والمغرب ولكنَّ البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة} الآية. وطريق الاستدلال أنه تعالي ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة، فدل ذلك علي أن في المال حقاً سوى الزكاة. واعلم أن الحق حقان: حق يوجبه الله تعالي علي عباده، وحق يلتزمه العبد علي نفسه الزكية الموقاة عن الشح الذي جبلت عليه، وإليه الإشارة بقوله: ((علي حبه)) أي حب الله، أو حب الإيتاء. وأنشد: تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله وكان من حق الظاهر وعلي سنن الآيات والأحاديث أن يعطف ((وأقام الصلاة وآتى الزكاة)) علي قوله: ((من آمن بالله واليوم الآخر)) لكن أقحم قوله: ((وآتى المال)) وقيد بالحب في الله، وسلك به مسلك الإيمان بالله تثبيتاً من نفسه للتصديق، كأنه قيل: من آمن بالله حقاً، وأقام الصلاة وآتى الزكاة. الحديث التاسع عن بهيسة - بالباء الموحدة من تحت علي صيغة التصغير -: قوله: ((أن تفعل الخير)) أن مصدرية، أي فعل الخير خير لك، وتطبيقه علي السؤال ما الشيء الذي لا يحل منعه - أن يقال: هو فعل الخير الذي تدعو إليه نفسك الزكية، فإنه خير لك لا يحل لك منعه.

1916 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيى أرضاً مَيتةً فلهُ فيها أجر، وما أكلتِ العافيةُ منه فهوَ لهُ صدقة)). رواه [النسائي]، والدارمي. [1916] 1917 - وعن البَراءِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من منَحَ منحةَ لبنٍ أو وَرِقٍ، أو هَدَى زُقاقاً، كانَ له مِثلُ عِتقِ رقَبَةٍ)). رواه الترمذي [1917]. 1918 - وعن أبي جُري جابرِ بنِ سُليمٍ، قال: أتيتُ المدينةَ، فرأيتُ رجُلاً يُصدُر الناسُ عن رأيهِ، لا يقولُ شيئاً إلا صدروا عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسولُ الله. قال: قلت: عليكَ السَّلامُ يا رسولَ الله! مرتين. قال)):لا تقُلْ عليكَ السَّلام. عليكَ السَّلامُ تحيَّةُ الميت، قُل: السَّلامُ عليك)) قلت: أنتَ رسولُ اللهِ؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنه ما روى أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الحمر أي زكاته، فقال: ((لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} فالقرينة الأخيرة أعم من الأولين، فهي كالتذييل لهما، فتأمل أيها الناظر في هذا التأويل، وانتظام هذه الأحاديث في سلك هذه المعإني. الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((العافية)) ((تو)): هي كل طالب رزق من إنسان، أو بهيمة، أو طائر، وعافية الماء: واردته. الحديث الحادي عشر عن البراء بن عازب: قوله: ((منحة لبن)) ((تو)): منحة اللبن أن تعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها، ويعيدها. وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً، ثم يردها. ومنه الحديث ((المنحة مردودة)). قوله: ((أو ورق)) قال الترمذي في جامعة: إنما يعني به قرض الدراهم. قوله: ((أو هدى زقاقاً)) ((نه)) هو من هداية الطريق، أي عرف ضالاً أو ضريراً. ويروى بتشديد الدال إما للمبالغة من الهداية، أو من الهدية، أي من تصدق بزقاق من النخيل، وهو السكة والصف من أشجاره. الحديث الثاني عشر عن جابر بن سليم: قوله: ((يصدر الناس عن رأيه)) ((تو)): يقال: صدر عن المكان إذا رجع منه، شبه المنصرفين عنه صلى الله عليه وسلم بعد توجههم إليه لسؤال مصالح معادهم ومعاشهم بالواردة إذا صدروا عن المنهل بعد رى. قوله: ((لا تقل: عليك السلام)) في جامع الأصول: هذا يوهم أن السنة في تحية الموتى أن يقال لهم: عليكم السلام، كما تفعله العامة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل علي المقبرة، وقال: ((السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)) فقدم ذكر السلام علي ذكر المدعو له مثل تحية الأحياء. وإنما قال له ذلك إشارة منه إلي ما جرت به

فقال: ((أنا رسولُ الله، الذي إِن أصابكَ ضٌر فدعوتَه كشفَهُ عنك، وإِنْ أصابكَ عامُ سنة، فدعوتَهُ أنبَتَها لك، وإِذا كنتَ بأرضٍ قفر أو فلاةٍ فضلَّتْ راحلتُكَ فدعوتَه ردَّها عليك)). قلت: اعْهَد إِليّ - قال: ((لا تسُبن أحداً)) قال: فما سَبَبْتُ بعدَهُ حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة. قال: ((ولا تَحقرَن شيئاً من المعروف، وأنْ تُكلمَ أخاكَ وأنتَ منَبسط إِليه وجْهُك؛ إِن ذلكَ من المعروفِ. وارفَع إِزارَك إِلي نصف الساق، فإِنْ أبيتَ فإِلي الكَعبينِ، وإِياكَ وإِسبالُ الإِزار؛ فإِنَّها منَ المخيلَةِ، وإِنَّ اللهَ لا يحبُّ ـــــــــــــــــــــــــــــ العادة منهم في تحية الأموات، إذ كانوا يقدمن الدعاء علي اسم الميت قال الشاعر: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما وقال آخر عليك سلام من أمير وباركت فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات. وهو من كلام الخطابي. ((تو)): لم يرد بذلك أن الميت ينبغي أن يسلم عليه علي هذه الصيغة، فإنه كان يسلم علي الموتى فيقول: ((السلام عليكم ديار قوم مؤمنين)) وإنما أراد بذلك أن قولك هذا مما يحي به الأموات لا الأحياء؛ لأن الحي شرع له أن يسلم علي صاحبه، وشرع لصاحبه أن يرد عليه، فلا يحسن أن يوضع ما وضع للجواب موضع التحية، ولا ينكر ذلك في الأموات، إذ لا جواب هنالك، فاستوت التحيتان في حقهم. ثم إن السلام شرع لمعان: أحدها المسارعة إلي أمان المسلم عليه مما يتوهم من قبل المسلم من مكروه، وإذا قال: عليك السلام لم يحصل له الأمن حصوله بتقديم السلام، ىشتباه الحال علي المسلم عليه، في الدعاء له والدعاء عليه، حتى يذكر السلام، وإذا قدم السلام تبين له الأمن في أول الوهلة، ولا مدخل لشيء مما ذكرنا في تحية الأموات. أقول: يفهم من كلام جامع الأصول أن النهي معلل بفعل الجاهلية، فلا يستعمل في الأحياء ولا الأموات، ثم هذا النهي إما نهي تنزيه، أو تحريم. ((مح)): يحتمل أن يكون هذا الحديث وارداً في بيان الأحسن والأكمل، ولا يكون المراد أن هذا ليس بسلام. والمختار أنه يكره الابتداء بهذه الصيغة؛ فإن ابتدأ وجب الجواب؛ لأنه سلام. أقول: والوجه في الكراهة ما ذكره الخطابي، وما ذهب إليه الشيخ التوربشتى ضعيف؛ لأن قولك: ((عليك السلام)) من باب تقديم الخبر علي المبتدأ للاختصاص، كأن المسلم عليه استشعر من المسلم الخوف، فتردد بين السلامة والعطب، فخص بأن ليس عليه إلا السلامة. قوله: ((أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)) إلي آخره، فإن قلت: كيف طابق هذا الجواب

المخيلَةَ، وإِنِ امرؤ شتمَكَ وعيَّرك بما يعلَمُ فيك، فلا تعيِّرْه بما تعلمُ فيه، فإِنَّما وبالُ ذلكَ عليه)). رواه أبو داود، وروى الترمذي منه حديث السلام. وفي رواية: ((فيكونُ لكَ أجرُ ذلك ووبالُهُ عليه)) [1918]. 1919 - وعن عائشة، أنهم ذبحوا شاةً، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقيَ منها إِلا كَتِفُها، قال: ((بقىَ كلُّها غَيْرَ كتِفِها)). رواه الترمذي وصحَّحه. [1919]. ـــــــــــــــــــــــــــــ سؤاله ((أنت رسول الله))؟ قلت: هو من الأسلوب الحكيم، أي لا تسأل عن كوني رسول الله، فإن ذلك مقرر ثابت لا شك فيه، ولكن سل عما بعثت له من كوني رحمة للعالمين، ورسول أرحم الراحمين. ونظيره قول قوم صالح لمؤمنيهم: {أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون}. قوله: ((أنبتها لك)) أي صيرها ذات نبات، أي بدل بها خصباً. قوله: ((بأرض قفر)) قيل: هي الفلاة الخالية من النبات والشجر. والمراد منه المفازة المهلكة. يقال: عهد إليه إذا أوصاه. قوله: ((وأن تكلم أخاك)) مصدر وعامله محذوف، تقديره: كلم أخاك تكليما، فلما حذف الفعل، أضيف المصدر إلي الفاعل، وهو معطوف علي النهي، نحو قوله تعالي: {وبالوالدين إحساناً} عطفاً علي ((لا تشركوا)) أي لا تشركوا به شيئاً، فأحسنوا بالوالدين إحساناً قوله: ((من المخيلة)) ((نه)): يقال: اختال الرجل فهو ذو خيلاء، وذو خالٍ، وذو مخيلة، وذو كبر، وإضافة عام إلي سنة ليست من إضافة الشيء إلي نفسه؛ لأن السنة غلبت علي القحط حيث لا يكاد يفهم منها غير القحط، ومن ثم نكرت وأضيف إليها. الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بقى كلها غير كتفها)) ولما جعلت المشاهد المحسوس باقياً، والغائب فإنياً علي سبيل الحصر عكس صلوات الله عليه، أي ما تشاهدونه وتختصون به أنفسكم خيال؛ لأنه في معرض الفناء، ووشك الزوال وما تؤثرونه عليها وإن كان غائباً فهو ثابت عند الله، ووعده الصادق كما قال الله تعالي: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.

1920 - وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما مِنْ مُسلمٍ كَسا مُسلماً ثوباً؛ إِلاَّ كانَ في حفظٍ منَ اللهِ ما دامَ عليهِ منهُ خِرقة)). رواه أحمد، والترمذي. [1920]. 1921 - وعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ، يرفعُه، قال: ((ثلاثة يُحبُّهمُ اللهُ: رجل قامَ منَ الليلِ يتلو كتابَ اللهِ، ورجل يتصدَّقُ بصدقةٍ بيمنه يُخفيها- أراه قال: منْ شمالهِ-، ورجل كانَ في سريةٍ فانهزَمَ أصحابُه، فاستَقبلَ العدُوَّ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غيرُ محفوظٍ، أحدُ رُواته أبو بكرِ بنُ عياشٍ، كثيرُ الغلًط. 1922 - وعن أبي ذرِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يُحبهم اللهُ، وثلاثة يَبغُضهم اللهُ؛ فأما الذينَ يُحبُّهم اللهُ: فرجل أتى قوماً فسألَهم باللهِ ولم يسألهم لقَرابة بينَه وبينهم، فمنًعوه، فتخلفَ رجل بأعيانِهم، فأعطاه سراً، لا يعلَمُ بعطِيَّتِه إِلاَّ اللهُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في حفظ من الله)) لم يقل: في حفظ الله؛ ليدل التنكير علي نوع تفخيم وشيوع، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فلا حصر ولا عد لثوابه وكلاءته، ومن ثم ترك ذكره. ومنه قوله تعالي: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} لم يذكر الجزاء؛ ليدل علي ما لا يدخل تحت الوصف من الكرامة والبشارة، يعنى إذا جاءوها كان كيت وكيت، وفتحت أبوابها. الحديث الخامس عشر عن ابن مسعود: قوله: ((يرفعه)) أي يرفع الحديث إلي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يقل هذا لأوهم أن يكون الحديث موقوفاً علي ابن مسعود؛ لقوله بعده: ((قال: ثلاثة)) ولم ينسبه إلي النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث السادس عشر عن أبي ذر: قوله: ((فسألهم بالله)) أي مستعطفاً بالله قائلاً: أنشدكم بالله أعطوني كذا. قوله: ((فتخلف رجل بأعيانهم)) ((تو)): كذا رواه النسائي في كتابه، والمعنى أنه ترك القوم المسئول عنهم خلفه، وتقدم فأعطاه. والمراد بالأعيان الأشخاص. ويحتمل أنه أراد بذلك أنه سبقهم بهذا الخير، فجعلهم خلفه، وقد وجدت الطبرإني ذكر في كتابه الموسوم بـ ((المعجم الكبير)) ((فتخلف رجل عن أعيانهم)) وهذا أشبه وأشد من طريق المعنى، وإن كانت الرواية الأولي أوثق من طريق السند، والمعنى أنه تأخر عن أصحابه حتى خلا بالسائل، فأعطاه سراً.

والذي أعطاهَ. وقومٌ سارُوا ليلتَهم حتى إِذا كانَ. النَّومُ أحبَّ إليهم مما يُعْدَلُ به، فوضَعوا رُؤوسهم، فقامَ يتَملَّقُني ويتلو آياتي. ورجل كانَ في سرية، فلَقَي العدُوَّ، فهُزموا، فأقبلَ بصدره حتى يُقتلَ أو يُفتحَ له. والثلاثةُ الذينَ يَبغُضُهم اللهُ: الشَّيخُ الزَّإني، والفقيرُ المختالُ، والغَنيُّ الظَّلومُ)). رواه الترمذي، والنسائي. [1922]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ويمكن أن يقال: إن متعلق الفعل محذوف، والباء حال، أي فتخلف عنهم مستتراً بظللهم وأشخاصهم، بولغ فيه كما بولغ في قوله: ((حتى لا يعلم شماله ما تنفق يمينه)). ((مظ)): وإنما أحبه الله؛ لأنه عظم اسم الله تعالي، وتصدق سراً، فحصل له فضيلتان، ولأنه خالف أصحابه حيث اجترؤوا ولم يعظموا اسم الله تعالي، ولم يعطوا السائل شيئاً. قوله: ((وقوم)) عطف علي قوله: ((رجل أتى قوماً)) علي تقدير صاحب قوم، فيكون فاعل ((قام)) في قوله: ((قام يتملقني)) عائداً إلي هذا المقدر. قوله: ((مما يعدل به)) ((مظ)): أي مما يقابل بالنوم، يعنى يغلب عليهم النوم، حتى صار النوم أحب إليهم من كل شيء. أقول: ولا ارتياب أن سيرهم ذلك وإدلاجهم كان للفوز بمطلوب خطير، فاستأثر لذلك الرقاد علي الهجود، فبلغ الأمر إلي أن رجحوا جانب النوم علي ما استأثروا عليه. قوله: ((ويتملقني)) ((نه)): التملق تفعل من الملق، وهو – بالتحريك - الزيادة في التودد، والدعاء، والتضرع فوق ما ينبغي. ((شف)): في أول نظم هذا الحديث شيء، وهو أن أوله يرشد إلي أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وآخره وهو قوله: ((قام يتملقني)) يؤذن بأنه من كلام الله تعالي. أقول: لا شك أن هذا المقام مقام مناجاة بين العبد ومولاه، وفي التملق نوع دلال ومناغاة بين المحب والمحبوب، فلابد أن يجري بينهما أسرار، فحكي الله تعالي لنبيه ما جري بين الله تعالي وبين عبده، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى قول الله تعالي وما تلفظ به، لا معناه، إذ لو أراد المعنى لقال: قام يتملق الله ويتلو آياته. وليس هذا من الالتفات في شيء، وفي كل واحدة من الفقرات الثلاث تتميمات ينتهي إليها المعنى إلي النهاية في بابه، ففي إعطاء الرجل السائل بعد منع القوم إياه غاية في الإخلاص والجود، وفي قيام الرجل من بين القوم مع محبة النوم غاية في طلب القرب والزلفي من الله تعالي، وفي استقبال الرجل العدو من بين المنهزمين، ثم إقدامه بصدره غاية في الجرأة، وبذل النفس في سبيل الله تعالي؛ وعلي هذا الفقرات الآتية، فإن الزنى فاحش من كل أحد، ومن الشيخ أفحش، وإن الخيلاء مذمومة من كل أحد، ومن الفقير أذم، وإن الظلم قبيح، ومن الغني أقبح. وأراد بالظلم المطل، لشهرة المثل السائر: مطل الغنى ظلم.

1923 - وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خَلقَ اللهُ الأرضَ جعلَتْ تَميدُ، فخلقَ الجِبالَ، فقال: بها عليها؛ فاستقرَّتْ، فعجِبتِ الملائكةُ منْ شدَّة الجبِالِ. فقالوا: ياربِّ! هلْ منْ خلقكَ شيءٌ أشدُّ من الجبِالِ؟ قال: نعمْ الحديدُ. فقالوا: ياربِّ! هل من خلقك شيءٌ أشدُّ منَ الحديد؟ قال: نعم، النّار. فقالوا: ياربِّ! هل من خلقِك شيءٌ أشدُّ من النَّارِ؟ قال: نعمْ، الماءُ. فقالوا: ياربِّ! هلْ من خَلقكَ شيءٌ أشدُّ منَ الماءِ؟ قال: نعمْ، الرِّيحُ. فقالوا: ياربِّ! هلْ منْ خَلقكَ شيءٌ أشدُّ منَ الرِّيحِ؟ قال: نعمْ، ابنُ آدمَ تصدَّقَ صدَقةً بيميِنه يخُفيها منْ شِماله)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريب. وٌذِكر حديثُ معاذ: ((الصَّدفةُ تُطفئُ الخطيئةَ)) في ((كتاب الإِيمان)). [1923]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فقال بها عليها)) وقد مر مراراً أن القول يعبر به عن كل فعل، وقرينة اختصاصه اقتضاء المقام، فالتقدير: ألقى بالجبال علي الأرض، كما قال تعالي: {وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم} فالباء زائدة في المفعول، كما في قوله تعالي: {ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة} وإيثار القول علي الإلقاء والإرسال؛ لبيان العظمة والكبرياء، وأن مثل هذا الأمر العظيم يتأتى من عظيم قدرته بمجرد القول. وقوله: ((جعلت تميد)) أي طفقت تتحرك. قوله: ((قال: نعم ابن آدم تصدق صدقة)) ((تو)): اعلم أن الصدقة إنما كانت أشد وأقوى؛ لأن نفس الإنسان جبلت علي غرائز لا يلينها شيء من تلك الأجرام الشديدة فهي أشد من كل شديد، ومن طبعها إيثار السمعة الموجبة للشهرة، فإذا سخرها صاحبها، واستولي عليها بحيث رضيت بإخفاء الصدقة - وهي طالبة لشهرتها وإظهارها طبعاً - كان صاحبها أشد من الريح. ((مظ)): كون تصدق بني آدم سراً أشد من الريح، إما لعظم ثوابه، وإما لأنه مخالفة النفس وقهر الشيطان، وهذان الوصفان أعظم أيضاً من هذه الأشياء، وإما لأنه يحصل مرضات الله تعالي. ((شف)): وإنما كان التصدق أشد؛ لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وغضب الله تعالي لا يقابله شيء في الصعوبة والشدة. وأقول - وبالله التوفيق -: ولأمر ما سمى الله سبحانه وتعالي كلام نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه بالحكمة في قوله تعالي: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وإن شئت فتأمل في هذا الكلام الجامع الذي لا مطمح وراءه، فإنه صلوات الله عليه ذكر العناصر الأربعة وبين

الفصل الثالث 1924 - عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ مُسلم يُنفِقُ من كل مالٍ لهُ زوجينِ في سبيلِ اللهِ، إِلا استقبلَتْهَ حجَبَةُ الجنةِ، كلُّهم يدعوه إِلي ما عندهَ)). قلت: وكيفَ ذلك؟ قال: ((إِن كانَتْ إِبلاً فبعيرينِ، وإِنْ كانت بقرةً فبقرتين)). رواه النسائي. [1924]. ـــــــــــــــــــــــــــــ طبائعها ومقتضيات جبلتها، فإن الأرض طبيعتها الثقل، والرسوب، وإمساك الجبال الأرض ليس يعجب وإن تعجبت الملائكة منه؛ لأنه من طبيعتها وجبلتها. وعلي هذا تأثير النار في الحديد، والحديد في الجبال، وكذا إطفاء الماء النار، وتصرف الريح في السحاب الحامل للماء، وتفريقها في الآفاق، وتموج البحر وهيجانه كلها من طبائعها. وأما الإنسان فمن جبلته القبض والبخل الذي هو من طبيعة الأرض، ومن جبلته الاستعلاء والتفوق علي الغير، وطلب انتشار الصيت في الآفاق، وهما من طبيعتي النار والريح، فإذا خالف راغم طبيعته، وخالف جبلته، كان أشد من الجميع، ومن ثم فضل علي سائر المخلوقات. وما يرى فيه من النقائص كالشهوة والحرص والبخل، فهي مواد الكمال ومبادئها؛ فإن العفة نتيجة الشهوة، والسخاء نتيجة البخل، لأنها بين طرفي الإفراط والتفريط من التبذير والإمساك، والحرص نتيجة الترقي إلي منتهي بغيته. وروى الشيخ المرشد نجم الدين البكري - قدس الله سره - في ((فواتح الجمال)) عن الشيخ أبي الحسن الخرقإني قال: صعدت إلي العرش، فطفته ألف طوفة، ورأيت الملائكة يطوفون مطمئنين، فعجبوا من سرعة طوافي، فقلت: ما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا: نحن ملائكة أنوار لا نقدر أن نجاوزه، فقالوا: وما هذه السرعة؟ فقلت: أنا آدمي، وفيَّ نار ونور، وهذه السرعة من نتائج نار الشوق. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وكيف ذلك)) فإن قلت: ظاهر السؤال عن حقيقة الزوجين، فيقتضي أن يسأل بما. قلت: بل السؤال عن كيفية الإنفاق مما يتملكه بالعدد المخصوص. وينصره جزاء الشرط؛ لأن التقدير: فينفق بعيرين. وقوله ((كانت إبلاً)) اسم ((كان)) راجع إلي كل مال باعتبار الجماعة، أو باعتبار الخبر، فإن الإبل جنس، كقولهم: ((من كانت أمك)). الحديث الثاني عن مرثد بن عبد الله: قوله: ((إن ظل المؤمن)) هو من التشبيه المقلوب المحذوف

1925 - وعن مَرثَدِ بنِ عبد الله، قال: حدَّثني بعضُ أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنهَّ سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ ظِلَّ المؤِمنِ يومَ القيامةِ صَدقَتُهُ)). رواه أحمد. [1925]. 1926 - وعن ابنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ وَسَّعَ علي عياله في النَّفقةِ يومَ عاشوراءَ؛ وسَّعَ اللهُ عليهِ سائِرَ سنتِه)). قال سفيانُ: إِنَّا قد جرَّبناهُ فوجدناهُ كذلك. رواه رزين. [1926] 1927 - وروى البيهقي في ((شعب الإِيمان)) عنه، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر، وضعَّفَه. [1927]. 1928 - وعن أبي أُمامةَ، قال: قال أبو ذَرّ: يا نبي اللهِ! أرأيتَ الصدقةَ ماذا هيَ؟ قال: ((أضعافٌ مضاعفةٌ، وعندَ اللهِ المزيدُ)). رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ المحذوف الأداة؛ لأن الأصل أن الصدقة كالظل في أنه يحميه عن أذى الحر يوم القيامة نحو قوله صلى الله عليه وسلم ((اقرءوا الزهراوين- البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان)) الحديث، ثم قلب التشبيه، فجعل المشبه مشبهاً به مبالغة كقوله: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حيت يمتدح الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة: قوله: ((الصدقة ماذا هي)) ((الصدقة)) مبتدأـ و ((ماذا)) بمعنى أي شيء، والجملة الاستفهامية خبر بالتأويل، أي الصدقة. أقول: فهنا ((ماذا هي)) فالسؤال عن حقيقة الصدقة، لا يطابقه الجواب بقوله: ((أضعاف)) أي هي أضعاف، لكنه وارد علي الأسلوب الحكيم، يعني لا تسأل عن حقيقتها، فإنها معلومة، وسل عن ثوابها ليرغبك فيها ويحرضك عليها. قوله: ((أضعاف مضاعفة)) الضعف من الأسماء المتضايفة، فضعف الشيء هو الذي يثنيه. والمراد في الحديث الكثرة والتوسعة من الثواب الذي يعطي جزاءً للعمل. وقوله: وعند الله المزيد هي الزيادة علي الثواب، كما قال تعالي: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ونظيره قوله تعالي: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} فقوله: ((من لدنه)) أي من عنده تفضلا علي تفضل.

(7) باب أفضل الصدقة

(7) باب أفضل الصدقة الفصل الأول 1929 - عن أبي هريرةَ، وحكيمِ بنِ حزامٍ، قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ الصَّدقةِ ما كانَ عنْ ظهْرِ غِنىً، وابدَأْ بمنْ تَعولُ)). رواه البخاريّ ورواه مسلم عن حكيمٍ وحدَه. 1930 - وعن أبي مسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا أنفقَ المسلمُ نفقةً علي أهلِه، وهوَ يحتسبُها، كانتْ له صدقةً)). متفق عليه. 1931 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((دينارٌ أنفقته في سبيل اللهِ، ودينارٌ أنفقتَه في رقَبةٍ، ودينارٌ تصدَّقتَ بهِ علي مسكينٍ، ودينارٌ أنفقَته علي أهلكَ؛ أعظمُها أجراً الذي أنفقتَه علي أهلِكَ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب أفضل الصدقة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن ظهر غنى)) ((نه)): أي ما كان عفواً قد فضل عن ظهر غنى. والظهر زائد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مستندة إلي ظهر قوى من المال. ((حس)): أي غنى يعتمده ويستظهر به علي النوائب التي تنويه. ((تو)): هو مثل قولهم: هو علي ظهر سير، وراكب متن السلامة، وممتط غارب العز، ونحو ذلك من الألفاظ التي يعبر بها عن التمكن من الشيء والاستواء عليه، والتنكير فيه للتفخيم. أقول: استعير الصدقة للإنفاق حثاً عليه ومسارعة فيما يرجى منه جزيل الثواب، ومن ثم أتبعه بقوله: ((وابدأ بمن تعول)) قرينة للاستعارة، فيشمل النفقة علي العيال وصدقتي الواجب، والتطوع، وأن يكون ذلك الإنفاق من الربح لا من صلب المال كما سبق. فعلي هذا كان من الظاهر أن يؤتي بالفاء فعدل إلي الواو، ومن الجملة الإخبارية إلي الإنشائية تفويضاً للترتيب إلي الذهن، واهتماماً بشأن الإنفاق، وأن كل من تمكن من ذلك مأمور بالبدء، والبدء يقتضي أموراً تنتهي إلي الغاية، ويؤيد تأويل الصدقة بالإنفاق سرد الأحاديث بعده في هذا المعنى. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((قوله: ((دينار)) مبتدأ ((أنفقته)) صفته، وما بعده معطوف عليه، والخبر جملة قوله: ((أعظمها أجراً الذي)) إلي آخره.

1932 - وعن ثوْبانَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ دينارٍ يُنفقُه الرَّجلُ دينارٌ يُنفقُه علي عيالِه، ودينارٌ يُنفقُه علي دابَّتِه في سبيل اللهِ، ودينارٌ يُنفقُهُ علي أصحابِه في سبيلِ اللهِ). رواه مسلم. 1933 - وعن أمِّ سَلَمةَ، قالت: قُلتُ: يا رسولَ الله! أَلي أجْرٌ أن أُنفِقَ علي بني أبي سَلمةَ؟ إِنما هُمْ بَنيِّ. فقال: ((أنفِقي عليهم فلكِ أجرُ ما أنفقتِ عليهِم)). متفق عليه. 1934 - وعن زينبَ امرأةِ عبد الله بنِ مسعودٍ، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَصَدَّقنَ يا معشرَ النِّساءِ! ولو من حُلِيّكُنَّ)) قالت: فرجعتُ إِلي عبدِ اللهِ فقلت: إِنَّكَ رجلٌ خفيف ذاتِ اليد، وإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرَنا بالصَّدَقَةِ؛ فأْتِه فاسْألهُ، فإِنْ كانَ ذلكَ يُجزئُ عني وإِلا صرفتُها إِلي غيركم؟ قلت: فقال لي عبدُ الله: بل ائتيهِ أنتِ. قالت: فانطلَقتُ، فإذا امرأةٌ من الأنصارِ ببابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حاجتي حاجتُها قالت: وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقِيتْ عليهِ المهابة. فقالت: فخرجَ علينا بِلالٌ، فقُلنا له: ائتِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبِرْه أنَّ امرأتينِ بالباب تسألانِكَ: أتُجزئُ الصدقةُ عنهُما علي أزواجهما وعلي أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولاَ تُخبرْهُ من نحنُ. قالت: فدخلَ بِلالٌ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألَه، فقال لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من هُما؟)) قال: امرأةٌ من الأنصارِ وزينَبُ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((أي الزيانِب؟)) قال: امرأةُ عبدِ الله. فقال ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ثوبان: قوله: ((علي دابته في سبيل الله)) الظرف صفة لـ ((دابة)) فتقدر: مربوطة أو مجاهدة في سبيل الله، والثاني أولي. وكذا القول في ((ينفقه علي أصحابه في سبيل الله)). الحديث الخامس، والسادس عن زينب: قوله: ((فإذا كان)) الفاء تفصيل للمقدار المسئول عنه، أي سله، هل يجزئ عني أن أتصدق عليك وعلي أولادك، أم لا؟ فإن كان يجزئ عني صرفتها إليكم، وإن لم يجزئ صرفتها إلي غيركم. قوله: ((وكان قد ألقيت عليك المهابة)) كان هي التي تفيد الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن علي رءوسهم الطير. وذلك عزة منه لا كبر وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالي إياه صلوات الله عليه لا من تلقاء نفسه.

رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لهُما أجران: أجرُ القرابِة، وأجرُ الصدقِة)). متفق عليه، واللفظ لمسلم. 1935 - وعن ميمونةَ بنتِ الحارث: أنها أعتَقَتْ وليدةً في زمان رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكرَتْ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لو أعطيتِها أخوالكِ كانَ أعْظَمَ لأجرِكِ)). متفق عليه. 1936 - وعن عائشةَ، قالت: يا رسول اله إِنَّ لي جارَين فإِلي أيِّهما أهدي؟ قال: ((إِلي أقرَبِهما منكِ باباً)). رواه البخاري. 1937 - وعن أبي ذَرً، قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذا طبختَ مَرَقةً فأكثِر ماءَها، وتعاهَد جيرانَك)). رواه مسلم. الفصل الثاني 1938 - عن أبي هريرة، قال: يا رسولَ اللهِ! أيُّ الصدقةِ أفضَلُ؟ قال: ((جُهْدُ المقِلِ، وابدَأ بمَنْ تعولُ)). رواه أبو داود. [1938]. 1939 - وعن سليمانَ بنِ عامرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((الصدقةُ علي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن ظاهران. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جهد المقل)) أي مجهود المقل، وهو خبر مبتدأ محذوف. ((نه)): هو بالضم والفتح، بالضم الوسع والطاقة، وبالفتح المشقة. وقيل: المبالغة والغاية. وقيل: هما لغتان، المعنى: أفضل الصدقة ما يحتمله القليل المال. فإن قلت: كيف الجمع بين هذا الحديث وبين قوله: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غني))؟ قلت: الفضيلة تتفاوت بحسب الأشخاص، وقوة لتوكل، وضعف اليقين. فلما كان أبو هريرة رضي الله عنه مقلا متوكلا علي الله، ناسب أن يجاوب بما يقتضيه حاله- وهي نصوعه في قوة اليقين- بخلاف ما رواه حكيم بن حزام فإنه كان من أشراف قريش، ووجوهها في الجاهلية والإسلام.

المسكين صدقةٌ، وهيَ علي ذي الرَّحمِ ثنتانِ: صدقةٌ وصلةٌ)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدرامي. [1939]. 1940 - وعن أبي هُريرة، قال: جاء رجلٌ إلي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: عندي: دينارٌ فقال: ((أنفِقْهُ علي نفسكَ)). قال: عندي آخرُ. قال: ((أنفقْهُ علي ولدكَ)) قال: عندي آخرُ. قال: ((أنفِقْهُ علي أهلك)) قال: عندي آخرُ. قال: ((أنفِقْهُ علي خادِمِكَ)). قال: عندي آخَرُ. قال: ((أنتَ أعلَمُ)). رواه أبو داود، والنسائي. [1940]. 1941 - وعن ابن عَّباسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرُكم بخيرِ النَاسِ؟ رجلٌ مُمسكٌ بعِنانِ فرِسه في سبيل اللهِ. أَلا أخبرُكم بالذي يتلوهُ؟ رجلٌ مُعتزِلٌ في غُنيْمةٍ له يُؤدِي حقَّ اللهِ فيها. ألا أخبرُكم بشر النَّاسِ؟ رجُلٌ يسألُ باللهِ ولا يُعطي بهِ)). رواه الترمذي، والنَّسائيّ، والدارمي [1941]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنت أعلم)) أي أعلن بحال من يستحق الصدقة فتحرى في ذلك واجتهد، وإنما وكل إليه هذا القسم وبين السابق ومراتبه، لأن السائل أراد بؤاله الصدقة، فحمله عليه السلام علي الإنفاق جرياً علي الأسلوب الحكيم، وما هو أهم به وأولي، كقوله تعالي: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين}. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بخير الناس)) ((تو)): يحتمل أن يراد بقوله: ((خير الناس)) من خير الناس، إذ قد علمنا أن في القاعدين من هو خير من هذا، وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا، لا يريد تفضيله في نفسه علي جميع الأشياء. وأقول: قسم في ذا الحديث الناس علي ثلاثة أنواع: الأول: الذي يضرب في الأرض يقصد وجهة، فخيارهم غالباً من حاله أنه آخذ بعنان فرسه في سبيل الله. والثاني: من هو ملتزم بخويصة نفسه، فخيارهم غالباً من حاله أن يعتزل عن الناس، ويشتغل بعبادة ربه، ويكفي شره عن الخلق. والثلث: من أقم بين الناس، واختلط بهم، ويعاشرهم بالمعروف، ويعطي من يسأل بالله. وشرهم علي خلاف ذلك.

1942 - وعن أمَّ بُجَيْدٍ، قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((رُدُّوا السَّائلَ ولوْ بظِلْفٍ مُحَرَقٍ)) رواه مالك، والنسائي، وروى الترمذيّ وأبو داود معناه. [1942]. 1943 - وعن ابنِ عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((من اسْتَعاذَ منكم باللهِ فأعيذُوهُ، ومَنْ سألَ بالله فأعطُوه، ومَنْ دّعاكم فأجيبوهُ، ومَنْ صنَعَ إِليكم مَعروفاً فكافِئوهُ؛ فإِنْ لمْ تجِدوا ما تُكافئوهُ فادْعوا له حتى تُرَوا أنْ قدْ كافأتُموهُ)). رواه أحمد. وأبو داود، والنسائي [1943]. 1944 - وعن جابرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا يُسألُ بوَجهِ اللهِ إِلا الجنَّةُ)). رواه أبو داود. [1944]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((استعاذ بالله)) ((مظ)): ((استعاذ)) إذا طلب أحد أن يدفع عنه شراً، وأعاذه إذا دفع عنه الشر الذي يطلب منه دفعه، يعني إذا طلب أحد منكم أن تدفعوا عنه شركم، أو شر غيركم بالله- مثل قولك: يا فلان بالله عليك أن تدفع عني شر فلان وإيذاءه، أو أحفظني من شر فلان- فأجيبوه، واحفظوه لتعظيم اسم الله تعالي. أقول: قد جعل متعلق ((استعاذ)) محذوفاً، ((بالله)) حالا، أي من استعاذ بكم متوسلاً بالله ومستعطفاً به. ويمكن أن يكون ((بالله)) صلة ((استعاذ)) والمعنى من استعاذ بالله فلا تتعرضوا له، بل أعيذوه، وادفعوا عنه الشر، فوضع ((أعيذوه)) موضعه مبالغة. قوله: ((فإن لم تجدوا ما تكافئوه)) سقط النون من غير جازم ولا ناصب، إما تخفيضاً، أو سهواً من الناسخين، المعنى أن من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا علي ذلك، فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المثيلة، ووجه المبالغة أنه رأي من نفسه تقصيراً في المجازاة، فأحالها إلي الله تعالي، ونعم المجازي هو. وقد جاء في حديث آخر ((من صنع إليه معروف، فقال: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء)). الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)) ((وجه الله)) ذاته، والوجه يعبر عن الجملة والذات. ((مظ)) هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون

الفصل الثالث 1945 - عن أنسٍ، قال: كانَ أبو طلحةَ أكثرَ الأنصارِ بالمدينة مالاً من نخل، وكانَ أحبُّ أموالِه إليه بيرحاءَ، وكانتْ مستَقبلةَ المسجد، وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخلُها ويشربُ منْ ماءٍ فيها طيبٍ. قال أنسُ: فلمَّا نزلت هذه الآيةُ: {لَنْ تنالوا البرَّ حتى تُنْفقُوا مِمَّا تُحبُّون}، قام أبو طلحةَ إلي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! إنَّ اللهَ تعالي يقول: {لَنْ تنَالوا البِرَّ حتى تُنفقُوا ممَّا تُحبُّون}، وإِنَّ أحبَّ مالي إِليَّ بَيرُحاءُ، وإِنّها صدقة لله تعالي، أرجُو برَّها وذخرَّها عندَ الله، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراكَ اللهُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بَخٍ بًخٍ، ذلكَ مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أنْ تجعلَها في الأقرَبينَ)). فقال أبو طلحةَ: أفْعَلُ يا رسولَ اللهِ! فقسَمها أبو طلحةَ في أقاربِه وبَني عمّه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه لا تسألوا من الناس شيئاً بوجه الله مثل أن تقولوا لأحد: يا فلان أعطني شيئاً بوجه الله، أو بالله؛ فإن اسم الله تعالي أعظم من أن يسأل به شيء من متاع الدنيا، بل اسألوا به الجنة. والثاني: لا تسألوا الله شيئاً من متاع الدنيا، بل سلوا الله رضاه والجنة، فإن متاع الدنيا لا قدر له. أقول: في الوجهين نظر. ويمكن أن يجرى علي المبالغة يعني لا يسأل الناس ناشداً بالله إلا الجنة. وقد علم أن ليس إليهم ذلك، فيفيد المبالغة في قطع السؤال عنهم بالله. ونظيره قوله تعالي: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}، وهذا تأديب للسؤال والمكدين، وعليهم أن يحترزوا ويجتنبوا هذا الأمر الفظيع. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بيرحاء)) ((نه)): هذه اللفظة كثير ما يختلف ألفاظ المحدثين فيها، فيقولون: بيرحاء- بفتح الباء وكسرها، وبفتح الراء وضمها، والمد فيهما، وبفتحهما والقصر- وهي اسم ماء، أو موضع بالمدينة. وفي الفائق: أنها فيعلاء من البراح، وهي الأرض الظاهرة. قوله: ((لن تنالو البر)) أي لن تكونوا أبراراً محسنين، فكأنه جعل البر شيئاً متنا، ولا مبالغة، قالت الخنساء: وما بلغت كف امرئ متنا ولا ... من المجد إلا والذي نال أطول قوله: ((بخ بخ)) ((نه)) فيه لغتان: إسكان الخاء وكسرها منوناً، وهي كلمة يقولها المتعجب

(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج

1946 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ الصَّدقةِ أنْ تُشبِعَ كبِداً جائعاً)). رواه البيهقيُّ في ((شعب الإيمان)). [1946]. (8) باب صدقة المرأة من مال الزوج الفصل الأول 1947 - عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأةُ مِنْ طعامِ بيتها غير مُفسِدة؛ كانَ لها أجرُها بما أنفقَتْ، ولزَوجها أجرُه بما كَسَبَ، وللخازِنِ مثلُ ذلكَ: لا يَنقُصُ بعضُهم أجرَ بعضٍ شيئاً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الشيء، وعند المدح والرضي بالشيء، وقد تكرر للمبالغة يقال: بخ بخ. قوله: ((مال رابح)) أي ذو ربح، كقولك: لابن وتامر، ويروى بالياء ((مح)): أي رابح عليك نفعه، وفيه أن أفضل البر ما لأولي الأقرباء. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كبداً جائعاً)) وصف الكبد بصفة صاحبه علي الإسناد المجازى، وهو من جعل الوصف المناسب علة للحكم، وفائدة العموم يتناول أنواع الحيوان، سواء كان مؤمناً أو كافراً، ناطقاً أو غير ناطق. باب صدقة المرأة من مال الزوج الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها)) يعني ما أتى به من المطعوم، وجعلت المرأة متصرفة فيه، وجعله في يد خازن، فإذا أنفقت المرأة منه عليه، وعلي من يعوله من غير تقصير وتبذير، كان لها أجرها. والدليل علي ذلك قوله: ((من طعام بيتها)) فإنه أضاف البيت إليها دلالة علي أن الطعام هو ما يتخذ للأكل. وأما جواز التصدق منه وعدمه فليس في الحديث دلالة عليه صريحاً. نعم! الحديث الذي يبي هذا الحديث فيه دلالة علي الجواز بالتصدق بغير أمره. وأوَّله محيي السنة حيث قال: العمل علي هذا عند عامة أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إذنه، وكذلك الخادم،

1948 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا أنفقَتِ المرأةُ منْ كَسْبِ زَوِجها منْ غيرِ أمره؛ فلَها نصْفُ أجرِه)). متفق عليه. 1949 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الخازِنُ المسلمُ الأمينُ الذي يُعطي ما أُمرَ به كاملاً مُوَفَّراً طيبةً به نفسُه، فيدفعُه إِلي الذي أمرَ له به؛ أحَدُ المتصدِّقَيْنِ)). متفق عليه. 1950 - وعن عائشةٌ، قالت: إِنَّ رحلاً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أْمِّي افتُلتَتْ نفسُها، وأظنُّها لو تكلَّمتْ تصدَّقتْ، فهلْ لها أجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عنها؟ قال: ((نعم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبأثمان إن فعلا ذلك. وحديث عائشة خارج علي عادة أهل الحجاز، إنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أو نزل بهم الضيف، وحضهم علي لزوم تلك العادة كما قال لأسماء: ((لا توعى فيوعى الله عليك)). الحديث الثاني والثالث عن أبي موسى: قوله: ((أحد المتصدقين)) هو خبر ((الخازن)) وهو نحو قولهم في المبالغة: القلم أحد اللسإنين، والخال أحد الأبوين. ((مظ)): شرط في الحديث أربعة أشياء: الإذن، وعدم نقصان ما أمر به، وطيب النفس بإعطاء ما أمر به. فإن البخيل كل البخيل من بخل بمال الغير، وأن يعطي من أمر بالدفع إليه لا إلي الغير. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((افتلتت)) ((مح)): ضبطنا ((نفسها)) بنصب السين ورفعها، فالرفع علي أنه مفعول ما لم يسم فاعله، والنصب علي أنه مفعول ثان. قال القاضي عياض: الأكثر بالنصب. ((فا)): ((افتلتت)) أي استلبت نفسها، كما تقول: اختلسه الشيء واستلبه، يتعدى إلي مفعولين، فبني الفعل للمفعول فتحول الضمير مستتراً، وبقيت النفس منصوبة علي حالها. وقال في النهاية ماتت فجأة، أو أخذت نفسها فلتة. ((حس)): في الحديث دليل علي أن الصدقة عن الميت تنفعه، وهو قول أهل العلم، قالوا، ليس يصل إلي الميت إلا الصدقة والدعاء. ((تو)): الرجل هو سعد بن عبادة.

الفصل الثاني 1951 - عن أبي أُمامةَ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في خُطبِته عامَ حجَّة الوداعِ: ((لا تُنفِق امرأةٌ شيئاً منْ بيتِ زَوجِها إِلا بإِذنِ زَوِجها)). قيل: يا رسولَ اللهِ! ولا الطعام؟ قال: ((ذلكَ أفضلُ أموالِنا)). رواه الترمذي. [1951] 1952 - وعن سعدٍ، قال: لماَّ باَيعَ رسولُ اللهص لي الله عليه وسلم النساءَ قامتِ امرأةٌ جَليلةٌ كأنَّها منْ نساءِ مُضر، فقالتْ: يا نبيَّ الله! إنَّا كَلٌّ علي آبائنا وأبنائنا وأزْواجنا، فما يحَلُّ لنا منْ أموالِهم؟ قال: ((الرَّطْبُ تأكُلْنَه وتُهْدينَه)). رواه أبو داود. [1952] الفصل الثالث 1953 - عن عُميرٍ موْلي آبي اللحمِ، قال: أمرَني مولاي أنْ أُقَدِّدَ لحماً، فجاءَني مسكينٌ، فأطعمتُه منه، فعَلمَ بذلك مولايَ، فضرَبني، فأتَيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلكَ له، فدعاه، فقال: ((لمَ ضرَبْتَه؟)) قال: يُعطي طعَامي بغَيرِ أنْ آمُرهَ. فقال: ((الأجرُ بينَكما)). وفي روايةٍ قال: كنتُ مَملوكاً، فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أتصدَّقُ من ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول، عن سعد: قوله: ((كلٌّ علي آبائنا)) ((نه)) الكل- بالفتح- الثقل من كل ما يتكلف، والكل العيال. قوله: ((الرطب تأكلنه)) ((تو)): المراد بالرطب نحو اللبن، والفاكهة، والبقول، والمرق، وما يسرع إليه الفساد من الأطعمة، ولا يتقوى علي الخزن. وقيل: خص الرطب؛ لأن خطبه أيسر، والفساد إليه أسرع، فإذا ترك ولم يؤكل هلك، بخلاف اليابس، فوقعت المسامحة في ذلك بترك الاستئذان، وأن يجرى علي العادة المستحسنة، وهذا فيما بين الآباء والأمهات والأبناء، دون الأزواج والزوجات، فليس لأحدهما أن يفعل شيئاً إلا بإذن صاحبه. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمير أبي اللحم- بهمزة ممدودة وكسر الباء- قيل: لإنه كان لا يأكل اللحم، وقيل: كان لا يأكل ما ذبح للأصنام. واسم أبي اللحم عبد الله، وقيل: خلف، وقيل: الحويرث الغفاري: قوله: ((الأجر بينكما)) ((تو)): لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إطلاق يد العبد في مال سيده، وإنما كره صنيع مولاه في ضربه العبد علي الأمر الذي تبين رشده فيه، فحث السيد

(9) باب من لا يعود في الصدقة

مالِ موالِيَّ بشيء؟ قال: ((نعمْ، والأجرُ بينكُما نصفانِ)). رواه مسلم. (9) باب من لا يعود في الصدقة الفصل الأول 1954 - عن عمر بن الخطابِ [رضي الله عنه]، قال: حَمَلتُ علي فرسٍ في سبيل اللهِ فأضاعَه الذي كان عندَه، فأردتُ أنْ أشترِيَه، وظنَنْتُ أنَّهُ يبَيعُه بِرُخْصٍ، فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا تَشترِهِ ولا تَعُدْ في صدقِتكَ وإنْ أعطاكَه بدِرهمٍ، فإِنَّ العائدَ في صدقته كالكلبِ يعودُ في قَيْئِه)). وفي رواية: ((لا تعُدْ في صدَقِتك، فإِنَّ العائدَ في صدقِته كالعائد في قيئه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي اغتنام الأجر، ورغبَّه فيه، ولم يرد أن يمهد له فيما كان سبيله العفو، والتسامح. فإن قيل: فهل يجوز أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم في موضع الحاجة إلي البيان؟ قلنا: قد تبين ذلك في غير موضع. أقول: جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الأجر بينكما)) عن قوله: ((يعطي طعامي بغير أن آمره)) من الأسلوب الحكيم، أي لا تضربه لهذه العلة، بل إئذن له بالإعطاء ليحصل لكما الأجران. المعنى أهم بك من الضرب والإذن هو الإذن، وهو تعليم وإرشاد لأبي اللحم لا تقرير لفعل عمير، ونحوه قول الشاعر: أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأيت الضيفان ينحون منزلي فقلت كإني ما سمعت كلامها ... هم الضيف جدِّى في قراهم وعجِّلي باب من لا يعود في الصدقة الفصل الأول الحديث الأول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((حملت علي فرس)) ((تو)): أي جعلت فرساً حمولة من لم يكن له حمولة من المجاهدين، وأعطيته إياه فأضاعه، أي أساء سياسته، والقيام بعلفه، وسقيه، وإرساله المراعى، حتى صار كالشيء الهالك. قوله: ((وإن أعطاكه بدرهم)) متعلق بقوله: ((لا تشتره)) ومعناه لا ترغب البتة، ولا تنظر إلي رخصه، وصحة بيعه، ولكن إلي أنه صدقتك وهبتك. فقوله: ((ولا تعد في صدقتك)) معترضة كالتعليل للنهي، ثم ضرب له مثلاً، وشبهه بأخس الحيوان في أخس أحواله، تصويراً للتهجين وتنفيراً منه، وفيه كم من عقد يصح فتوى ولا يصح من جهة الخسة، والدناءة، والخروج عن المكروه.

كتاب الصوم

1955 - وعن بُريدَةَ، قال: كنتُ جالساً عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إذْ أتته امرأةٌ، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ! لإني تصدَّقتُ علي أُمي بجارِيةٍ، وإنَّها ماتتْ. قال: ((وجبَ أجرُكِ، وَردَّها علَيكِ الميراثُ)). قالتْ: يا رسول الله! إِنَّه كانَ علَيها صومُ شهر، أفأصومُ عنها؟ قال: ((صومي عنها)). قالت: إِنَّها لم تحجَّ قطُّ، أفأحُجُّ عنها، فال: ((نعم، حُجِّي عنها)). رواه مسلم. كتاب الصوم الفصل الأول 1956 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا دخلَ [شهرُ] رمضانَ فتحتْ أبوابُ السَّماء)) وفي رواية: ((فُتحتْ أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقت أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسلتِ الشَّياطينُ)). وفي رواية: ((فُتِحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن بريدة: قوله: ((إنه كان)) الضمير المنصوب للشأن، والجملة بعده مفسرة له. ((مظ)): جوز أحمد أن يصوم الولي عن الميت ما كان عليه من الصوم من قضاء رمضان، أو نذر، أو كفارة بهذا الحديث، ولم يجوزه مالك، والشافعي، وأبو حنيفة رضي الله عنهم. كتاب الصوم قال الراغب: الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل، مطعما كان، أو كلاماً، أو مشياً، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير، أو عن العلف: صائم. ومصام الفرس، ومصامته موقفه، وفي الشرع: إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلي الخيط الأسود عن تناول الأطيبين والاستمناء الاستقاء. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فتحت أبواب السماء)) ((تو)): فتح أبواب لسماء كناية عن تنزيل الرحمة، [وإزالة الغلق] عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم عبارة عن تنزه أنفس الصوَّام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث علي المعاصي بقمع الشهوات فإن قيل: ما منعكم أن تحملوا علي ظاهر المعنى، قلنا: لأنه ذكر علي سبيل المنِّ علي الصوَّام، وإتمام النعمة عليهم فيما أمروا به وندبوا إليه، حتى صار الجِنَانُ في هذا الشهر كأن أبوابها فتحت، ونعيمها أبيحت، والنيران كأن أبوابها أُغلقت، وأنكالها عطلت، وإذا ذهبنا فيه

1957 - عن سهلِ بن سعدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنَّةِ ثمإنيةُ أبوابٍ، منها: بابٌ يُسمَّي الرَّيَّانَ لا يَدخلُه إلا الصَّائمونَ)). متفق عليه. 1958 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صامَ رمضانَ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ لَه ما تقدَّمَ منْ ذَنبِه، ومَنْ قامَ رمضانَ إِيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّمَ منْ ذنبِه، ومَن قامَ ليلةَ القدْرِ إِيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّمَ منْ ذنبِه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي الظاهر لم تقع المنة موقعها، ويخلو من الفائدة، لأن الإنسان ما دام في هذه الدار، فإنه غير ميسر لدخول إحدى الدارين. وقد جوز الشيخ محيي الدين النواوي الوجهين في فتح أبواب السماء، وتغليق أبواب جهنم، أعني الحقيقة والمجاز. أقول: يمكن أن تكون فائدة الفتح توفيق الملائكة علي استحماد فعل الصائمين، وأن ذلك من الله تعالي بمنزلة عظيمة، وأيضاً إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد في نشاطه، ويتلقاه بأريحيته، وينصره حديث عمر في الفصل الثالث ((إن الجنة تزخرف لرمضان)) الحديث. الحديث الثاني عن سهل: قوله: ((يسمى الريان)) قد مضى الكلام فيه في باب فضل الصدقة في حديث أبي هريرة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إيماناً واحتساباً ((مظ)): يعني بالإيمان الاعتقاد بحقيقة فرضية صوم هذا الشهر، لا الخوف والاستحياء من الناس من غير اعتقاد بتعظيم هذا الشهر، والاحتساب طلب الثواب من الله الكريم، ((وقيام رمضان)) إحياء لياليه، أو بعضها من كل ليلة بصلاة التراويح، وغيرها من الطاعات. أقول: ذكر الخلال الثلاث من الصيام والقيام والإحياء، رتب علي كل واحد أمراً واحداً منِ الغفران إشعاراً بأنه نتيجة الفتوحات الإلهية، ومستتبع العواطف الربإنية، قال الله تعالي: {إِنَّا فَتحْنا لكَ فتْحاً مبيناً ليغفرَ لَكَ اللهُ مَا تقَّمَ منْ ذَنبك} الآية. قوله: ((ومن قامَ ليَلة القدر)) في أصل المالكي ((من يقم)) قال: وقع الشرط مضارعاً، والجواب ماضياً لفظاً لا معنى، ونحوه قول عائشة رضي الله عنها: ((إن أبا بكر رجل أسف، متي يقم مقامك رقَّ)). والنحويون يستضعفون ذلك، ويراه بعضهم مخصوصاً بالضرورة، والصحيح الحكم بجوازه مطلقاً لثبوته في كلام أفصح الفصحاء، وكثرة صدوره عن فحول الشعراء. أقول: نحوه في التنزيل {مَنْ يُصرَفْ عَنه يومنذ فقدْ رَحمَهُ} {وَمَن تُدْخِل النَّارَ فقدْ أَخْزيَته}، {وإِنْ تَتُوَبا إِلي اللهِ فقدْ صَغَتْ قلُوبُكًما} قال ابن الحاجب في الأمالي:

1959 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ عملِ ابنِ آدم يُضاعَفُ الحسَنةُ بعشر أمثالِها إلي سبعمائة ضعفٍ، قال اللهُ تعالي: إلا الصومَ فإنَّهُ لي وأنا أجزي به، يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ غندَ فطرِهِ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــ جواب الشرط ((فقد صغت قلبوكما)) من حيث الإخبار، كقولهم: إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس، فالإكرام المذكور شرط، وسبب للإخبار بالإكرام الزاقع من المتكلم، لا نفس الإكرام. فعلي هذا يحمل الجواب في الآية أي إن تتوبا إلي الله يكن سبباً لذكر هذا الخبر، وهو ((فقد صغت))، وصاحب المفتاح أول المثال بقوله: فإن تعتد بإكرامك لي الآن، فاعتد بإكرامي إياك أمس، وتأويل الحديث من يقم ليلة القدر فليحتسب قيامه، وليعلم أن الله قد حكم بغفرانه قبل. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يضاعَفُ الحسنةُ)) ((قض)): لما أراد بقوله: ((كل عمل)) الحسنات من الأعمال، وضع الحسنة في الخبر موضع الضمير الراجع إلي المبتدأ. ((وإلا)) مستثنى عن كلام غير محكى دل عليه ما قبله، والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشر أمثالها إلي سبعمائة إلا الصوم، فإن ثوابه لا يقادر قدره، ولا يقدر إحصاؤه إلا الله، فلذلك يتولي جزاءه بنفسه، ولا يكله إلي ملائكته، والموجب لاختصاص الصوم بهذا الفضل أمران: أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع عليه العباد، والصوم سر بينه وبين الله تعالي، يفعله خالصاً لوجه الله تعالي، ويعامله بها طالباً لرضاه، وإليه أشار بقوله: ((فإنه لي)). وثإنيهما: أن سائر الحسنات راجعة إلي صرف المال واشتغال البدن بما فيه رضاه، والصوم يتضمن كسر النفس، وتعريض البدن للنقصان والتحول، مع ما فيه من الصبر علي مضض الجوع وحرقة العطش، فبينه وبينها أمد بعيد، وإليه أشار بقوله: ((يدع شهوته وطعامه لأجلي)). أقول: بيان الوجه الثاني: أن قوله: ((يدع شهوته، وطعامه)) جملة متأنفة واردة بياناً لموجب الحكم. وأما قوله: ((وإلا مستثنى عن كلام غير محكى)) فيمكن أن يقال عليه: إنه مستثنى من ((كل عمل ابن آدم)) وهو مروى عن الله تعالي يدل عليه قوله: ((قال الله تعالي)) ولما لم يذكر هذا في صدر الكلام أورده في وسطه بياناً، وفائدة البيان بعد الإبهام تفخيم شأن الكلام، وأنه صلى الله عليه وسلم {مَا ينطقُ عن الهَوى إِنْ هُوَ إِلا وَحْى يُوْحَى} وكذا أراد بقوله: ((كل عمل ابن آدم)) الحسنات منه لا السيئات، فبين في الخبر أن المراد منه الحسنات دلالة علي أن المعتد به من الأعمال الحسنات، ولو قيل: حسنات ابن آدم تضاعف بعشر أمثالها، لم يكن بهذه المثابة. قوله: ((للصائم فرحتان)) ((مظ)): تحتمل الفرحة الأولي أمرين: فرح نفسه بالأكل والرب، وفرحها بوجدانه التوفيق لإتمام الصوم، والخروج عن العُهدة، والفرحة الثانية: نيل

ربِّه، ولَخُلوف فَمِ الصائم عندَ الله أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسك والصيامُ جنَّةٌ، وإذا كانَ يومٌ صومِ أحدِكم فلا يرفُث ولا يَصخَب، فإنْ سابَّهُ أحد أو قاتَلهُ فليَقُل: إني امرؤٌ صائم)) متفق عليه. الفصل الثاني 1960 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانَ أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضانَ صُفِّدت الشياطين ومردةُ الجنِّ، غلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ فلم يُفتَح منها بابٌ، وفُتحت أبوابُ الجنَّة فلم يُغلَق منها بابٌ، ويُنادي مُنادٍ، يا باغي الخيرِ أقبِل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتقاءُ من النارِ وذلك كلَّ ليلةٍ)). رواه الترمذي، وابن ماجه [1960]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجزاء عند لقاء الله تعالي، وهو فرح لا يكتنه كنهه، قوله: ((لخلوف فم الصائم)) ((مح)): هو بضم الخاء تغير رائحة الفم، هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور، وكثير يروونه بفتحها. قال الخطابي، وهو خطأ. ((قض قوله: ((أطيب)) تفضيل لما يستكره من الصائم علي أطيب ما يستلذ من جنسه- وهو المسك- ليقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم ونتائجه. والرفث الفحش، والصَخَبُ الصَياحُ، والخصومة. والصِّخَابُ الصِّياحُ. ((مظ)): الجُنَّة الترس، يحتمل أن يراد به أن الصوم يدفع الرجل عن المعاصي؛ لأنه يكسر النفس كما تدفع الجُنَّة السَّهمَ. وأن يراد به أن الصوم يدفع النار عن الصائم كالجنة، قيل في قوله: ((إني امرؤ صائم)): يراد به القول باللسان؛ ليندفع عنه خصمه، أي إذا كنت صائماً لا يجوز لي أن أخاصمك بالشتم والهذيان، وقيل: المراد به الكلام النفسي، بأن يتفكر في نفسه أنه صائم لا يجوز له أن يغضب، ويهذي، ويسب. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صفدت الشياطين)) ((نه)): أي شُدَّت، وأوثقت بالأغلال، يقال: صفدته والصَفَد والصفاد الشدُّ. والمردة جمع مارد، وهو العاتي الشديد، روى البيهقي عن الإمام أحمد عن الحليمي أنه قال: تصفيد الشياطين في شهر رمضان، يحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهُ خاصة، وأراد الشياطين التي هي مسترقة السمع، ألا تراه قال: ((مردة الشياطين))؛ لأن شهر رمضان كان وقتاً لنزول القرآن إلي السماء الدنيا، وكانت

1961 - ورواه أحمد عن رجل، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [1961]. الفصل الثالث 1962 - عن أبي هريرة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضانُ شهرٌ مبارَكٌ، فرَضَ اللهُ عليكم صيامَهُ، تُفتح فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتُغلقُ فيه أبوابُ الجحيم وتُغَلُّ فيه مَرَدةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِم خيرَها فقد حُرم)). رواه أحمد، والنسائي [1962]. 1963 - وعن عبد الله بن عمروٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيامُ والقرآنُ يشفعَانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ! إني منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ، فشفِّعني ـــــــــــــــــــــــــــــ الحراسة قد وقعت بالشهب، كما قال تعالي: {حَفظنَاهَا} الآية، والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهَ وبعده، والمعنى أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم. قوله: ((يا باغي الخير)) أي يا طالب الثواب أقبل، هذا أوانك، فإنك تعطي ثواباً كثيراً بعمل قليل، وذلك لشرف الشهر، ويا من يشرع ويسعى في المعاصي تب وارجع إلي الله تعالي، هذا أوان قبول التوبة، ولله عتقاء من النار، لعلك تكون من زمرتهم. الإشارة بقوله: ((ذلك)) إما إلي البعيد وهو النداء، أو إلي القريب وهو ((ولله عتقاء)). والإقصار الكف، يقال: أقصرت عنه، أي كففت. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من حرم خيرها فقد حرم)) اتحد الشرط والجزاء دلالة علي فخامة الجزاء، أي حرم خيراً كثيراً، لا يقادر قدره، كقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك، والضمان مرعى. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((يقول الصيام)): الشفاعة والقول من الصيام

فيه، ويقولُ القرآن: منعتُهُ النومَ بالليَّلِ فشفِّعني فيه، فيُشَفَّعانِ)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1963]. 1964 - وعن أنس بن مالك، قال: دخلَ رمضانُ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هذا الشَّهر قد حضركم، وفيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخير كلَّه، ولا يحرَمُ خَيْرها إلا كلُّ محرومٍ)). رواه ابن ماجه [1964]. 1965 - وعن سليمانَ الفارسيِّ، قال. خطَبنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبانَ فقال: ((يا أيُّها الناسُ، قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ، شهرٌ مباركٌ، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، جعلَ اللهُ صيامَهُ فريضةً، وقيامَ ليله تطوعاً، من تقرَّبَ فيهِ بخصلةٍ من الخير كان كمَنْ أدَّى فريضةً فيما سواه، ومَنْ أدَّى فريضةً فيه كان كمنْ أدَّى سبعينَ فريضةً فيما سواه. وهو شهر الصبرِ، والصبرُ ثوابهُ الجنَّةُ، وشهرُ المواساةِ، وشهرٌ يزادُ فيه رزقُ المؤمن، من فطَّر فيه صائماً كانَ لهُ مغفرةً لذنوبه، وعَتْقَ رقبتِه منَ النار، وكانَ له مثلُ أجرهِ من غيرِ أن ينتقص من أجرِهِ شيءٌ)) قلنا: يا رسولَ الله! ليس كلُّنا نجدُ ما نَفطر به الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعطى الله هذا الثوابَ من فطَّر ـــــــــــــــــــــــــــــ والقرآن إما أن يؤول، أو يجرى علي ما عليه النص .. هذا هو المنهج القويم، والصراط المستقيم فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية، ولا سبيل لها إلا الإذعان له، والإيمان به، ومن تأول ذهب إلي أنه استعيرت الشفاعة، والقول للصيام والقرآن لإطفاء غضب الله، وإعطاء الكرامة، ورفع الدرجات، والزلفي عند الله، والقرآن هنا عبارة عن التهجد، والقيام بالليل، كما عبر به عن الصلاة في قوله تعالي: {وَقُرأنَ الفَجْرِ} وإليه الإشارة بقوه: ((ويقول القرىن: منعته النوم بالليل)). الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا كل محروم)) أي كي [محارف] لاحظ له من السعادة، والمراد من قوله: ((من حرمها)) من حرم لطف الله وتوفيقه، ومنع عن الطاعة فيها، والقيام بها.

صائماً علي مذقة لبنٍ، أو تمرة أو شربةٍ من ماء، ومن أشبعَ صائماً؛ سقاهُ الله من حوضي شَربةً لا يَظمأُ حتى يدخُلَ الجنَّةَ. وهو شهرٌ أوَّلهُ رحمةٌن وأوسطهُ مغفرةٌ، وآخرهُ عِتقٌ من النَّار. ومن خفَّفَ عن مملوكِهِ فيه؛ غفَرَ الله لهُ وأعتقهُ من النار)). [1965]. 1966 - وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ شهرُ رمضانَ أطلقَ كلَّ أسيرِ وأعطى كل سائلِ. [1966]. 1967 - وعن ابنِ عمرَ، انَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الجنَّةَ تُزَخْرَفُ لرمضانَ من رأسِ الحولِ إلي حولٍ قابلِ)) قال: ((فإذاا كان أوَّلُ يومٍ من رمضانَ هبَّتْ ريحٌ تحت العرشِ من ورَقِ الجنَّة علي الحورِ العينِ، فيقُلنَ: يارب؛ اجعَلْ لنا من عبادكَ أزواجاً تقَرُّ بهم أعيُنُنا، وتقرُّ أعينُهُم بنا)). [1967] روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). 1968 - وعن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُغفَرُ لأمَّتهِ في آخرِ ليلة في رمضانَ)). قيل: يا رسولَ الله! أهيَ ليلةُ القدرِ؟ قال: ((لا، ولكنَّ العاملَ لإِنما يُوَّفي أجرَه إِذا قضى عمَلَه)). رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع إلي السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تقرُّ بهم أعيننا)) هو إما من القر البَردِ، أو من القرار، فالأول كناية عن السرور، والفرح. وحقيقته: أبرد الله دمعة عينه؛ لأن دمعة الفرح ةالسرور باردة. والثاني عبارة عن بلوغ الأمنية ورضاه بها؛ لأن من فاز ببغيته تقر نفسه، ولا تستشرف عينه إلي مطلوبه لحصوله. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((لأمته)) هو حكاية معنى ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم لا لفظه. قوله: ((ولكن العامل)) استدراك لسؤالهم عن سبب المغفرة، كأنهم ظنوا أن الليلة الأخيرة وهي ليلة القدر سبب للغفران، فبَّين صلى الله عليه وسلم أن سببها فراغ العبد من العمل، وهو مطرد

(1) باب رؤية الهلال

(1) باب رؤية الهلال الفصل الأول 1969 - عن ابن عمرَ، قال، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى ترُوا الهلالَ، ولا تُفْطِروا حتى تروه، فإنْ غُمَّ عليكُم فاقدرُوا له)). وفي رواية قال: ((الشهرُ تسعٌ وعِشرونَ ليلةً، فلا تصوموا حتى تروه، فإِن غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّةَ ثلاثين)). متفق عليه. 1970 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيَتِهِ وأفطروا لرؤيِته، فإِنْ غُمَّ عليكم فأكمِلوا عدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب رؤية الهلال الفصل الأول الحديث الول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا تصوموا)) ((قض)): هو نهي عن الصوم علي أنه قصد صوم رمضان إلا [بثبت]، وهو أن يرى هو، أو من يثق عليه. والمنفرد بالرؤية إذا لم يحكم بشهادته يجب عليه عندنا أن يصوم رمضان، ويسر بإفطار عيده. قوله: ((فإن غم عليكم)) أي غُطِيَّ الهلال بغيم من غممت الشيءَ إذا غطيته. وفيه ضمير الهلال. ويجوز أن يسند إلي الجار والمجرور بمعنى إن كنتم مغموماً عليكم، وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه. ((فاقدرُوا)) أي قدروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يوماً، إذ الأصل بقاء الشهر ودوام خفاء الهلال ما أمكن. ((حس)): قال ابن شريح: ((فاقدروا)) خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله: ((فأكملوا العدة)) خطاب للعامة. الحديث الثاني عن أبيِ هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صوموا لرؤيته)) اللام فيه للوقت كما في قوله تعالي: {أَقِمِ الصَّلاَة لِدلُوكِ الشَّمْس} أي وقت دُلوكها، يبينه حديث أبي البختري في الفصل الثالث مُدة للرؤية. قال القاضي عياض: أطال مدته إلي الرؤية. وقولك: جئته لثلاث خلون من شهر كذا. ويحتمل أن يكون بمعنى ((بعد)). قال المالكي: اللام تجيء بمعنى ((بعد))، قال المالكي: اللام في قوله تعالي: {أَقِمِ الصَّلاَة لِدلُوكِ الشَّمسِ} بمعنى ((بعد)) أي بعد زوالها، كقول الشاعر:

1971 - وعن ابن عمرَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنا أُمَّيةٌ، لا نكتبُ ولا نحسُبُ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) وعقَدَ الإبهامَ في الثالثةِ. ثمَّ قال: ((الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا)) يعني تمامَ الثلاثين، يعني مرَّةً تسعاً وعشرين، ومرةَّ ثلاثين. متفق عليه. 1972 - وعن أبي بكرة، قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((شهرا عيدٍ لا يَنْقُصانِ: رمضانُ وذو الحجَّةِ)). متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ رأينا أخاه فلما تفرقنا كإني ... ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً والضمير راجع إلي الهلال وإن لم يجر له ذكر؛ لدلالة السياق عليه كقوله تعالي: {وَلأبوَيِه لِكلِّ واحدٍ منهُمَا السُّدسُ} أي لأبوي الميت. الحديث الثالث عن ابت عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إِنَّا أُمَّة أُميِّةٌ)) ((إنا)) كناية عن جيل العرب، وقوله: ((لا نكتب ولا نحسب)) بيان لقوله: ((أمية)) وهذا البيان، ثم الإشارة باليد، ثم القول باللسان، ينبهك علي أن الاستقصاء في معرفة الشهر ليس إلي الكتاب والحساب، كما عليه أهل النجامة. ((مظ)): إنما قيل له: أمى علي معنى أنه باق علي الحال التي ولدته أمه، لم يتعلم قاءة ولا كتاباً. قوله: ((يعني تمام ثلاثين)) هو من كلام الراوي، وهو مقابل لقوله: ((وعقد الإبهام في الثالثة)) يريد أنه صلى الله عليه وسلمعقد الإبهام في المرة الأولي، وأرسلها في المرة الثانية. ولما أراد الراوي مزيد التوضيح والبيان، قال: يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في الإيضاح والتكرير فيه بأقصى الإمكان برسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الرابع عن أبي بكرة: قوله: ((شهرا عيد لا ينقصان)) ((تو)): قيل فيه وجوه: فمنهم من قال: لا ينقصان معاً في سنة واحدة، حملوه علي غالب المر. ومنهم من قال: إِنه أراد به تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. ومن قائل ثالث: أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب، وهذا الوجه أقوم الوجوه وأشبهها بالصواب. وذكر في النهاية الوجوه، ثم قال: يعني لا ينقصان في الحكم وإن نقصا في العدد، أي لا يعرض في قلوبكم شك إذا صمتم تسعة وعشرين يوماً، أو وقع في يوم الحج خطأ لم يكن في نسككم نقص. وأقول: ظاهر سياق الحديث في بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في سائرها، وليس

1973 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسلُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتقدَّمَنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومينِ، إلا أنْ يكونَ رجلٌ كانَ يصومُ صوماً؛ فَلْيصُم ذلكَ اليومَ)) متفق عليه. الفصل الثاني 1974 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا انتصفَ شعبان؛ فلا تصومُوا)). رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدرامي. [1974] ـــــــــــــــــــــــــــــ المراد أن ثواب الطاعة في سائرهما قد ينقص دونهما. فينبغي أن يحمل علي الحكم، ورفع الجناح والحرج. عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم؛ لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال الخطأ فيهما، ومن ثم لم يقل: شهر رمضان وذي الحجة، والله أعلم. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((لا يتقدمن)) ((مظ)): يكره صوم آخر شعبان يوماً أو يومين، وعلته أن الرجل ينبغي له أن يستريح من الصوم ليحصل له قوة ونشاط، كيلا يثقل عليه دخول رمضان. وقيل: علتها اختلاط صوم النفل بالفرض؛ فإنه يورث الشك بين الناس، فيقولون: لعله رأي هلال رمضان حتى يصوم فيوافقه بعض الناس علي ظن أنه رأي الهلال. هذا النهي في النفل. وأما القضاء والنذر ففيه ضرورة؛ لأنهما فرض، وتأخيره غير مرضيز وأما الورد: فتركه أيضاً شديد عند من ألفه. وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم، وقيده بالرؤية، فهو كالعلة للحكم، فمن تقدمه بصوم ييوم أو يومين، فقد حاول الطعن في العلة، وتقدم بين يدي الله ورسوله في الحكم، وإليه الإشارة بقوله: ((من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)) ومن أتى بالقضاء والنذر والورد أمن من ذلك، وقد نهي الله تعالي عن التقدم علي ما يحكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: حكمه في قوله تعالي: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)) ((قض)): المقصود من النهي استجمام من لم يقو علي تتابع الصيام الكثير، فاستحب الإفطار فيها كما استحب إفطار عرفة للحاج ليقوى علي الدعاء، وأما من لم يضعف به، فلا يتوجه النهي إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين صوم الشهرين معاً.

1975 - وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أحصُوا هلالَ شعبانَ لرمضانَ)). رواه الترمذي. [1975] 1976 - وعن أمِّ سلمةَ، قالت: ما رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصومُ شهرينِ متتابعينِ إِلا شعبانَ ورمضانَ. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [1976] 1977 - وعن عمَّارِ بن ياسرٍ [رضي الله عنهما]، قال: من صامَ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [1977] 1978 - وعن ابن عبَّاسٍ، قال: جاءَ أعرابيٌّ إِلي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيتُ الهلالَ- يعني هلالَ رمضانَ- فقال: ((أتشهدُ أن لا إله إلا الله؟)) قال: نعم، قال ((أتشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله؟)) قال: نعمز قال: ((يا بلال! أذِّنْ في النَّاسِ أن يَصُوموا غداً)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدرامي. [1978] 1979 - وعن ابن عمرَ، قال: تراءى النَّاسُ الهلالَ فأخبرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إني رأيتُه، فصامَ وأمرَ الناسَ بصيامِه. رواه أبو داود، والدرامي. [1979] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أحصوا)) أي عُدُوا، والإحصاء أبلغ في الضبط كما مر؛ لما فيه من إفراغ الجهد في العد، ومن ثم كنى عنه بالطاقة في قوله: ((استقيموا ولن تحصوا)). الحديث الثالث والرابع عن عمار قوله: ((اليوم الذي يشك فيه)) وإنما أتى بالموصول ولم يقل: ((يوم الشك)) مبالغة، وإن صوم يوم يشك فيه أدنى شك، سبب لعصيان من كنيته أبو القاسم الذي يقسم بين عباد الله حكم الله بحسب قدرهم واقتدارهم، فكيف بمن صام يوما الشك فيه قائم ثابت؟ ونحوه قوله تعالي: {وَلا ترْكَنوا إلي الذيِن ظَلَمُوا فَتمسَّكُم النَّارُ} أي إلي الذين أونس منهم أدنى الظلم، فكيف بالظالم المستمر عليه؟. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أن يصوموا غداً)) ((أن)) مصدية، والجار محذوف، أي أذن فيهم بصوم الغد. ((مظ)): في الحديث دليل علي أن الرجل إذا الرجل إذا لم يعرف منه فسق تقبل شهادته، وعلي أن شهادة الواحد مقبولة في هلال رمضان. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تراءى)) ((مظ)): الترائى أن يرى

الفصل الثالث 1980 - عن عائشةَ، قالت: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتحفظُ من شعبانَ مالا يتحفَّظُ من غيرِه. ثمَّ يصومُ لرؤيةِ رمضانَ، فإن غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثينَ يوماً ثم صامَ. رواه أبو داود. [1980] 1981 - وعن أبي البَختَريِّ. قال: خرجْنَا للعُمْرِة فلما نزلْنَا ببطن نخلة، تراءينا الهلال. فقال بعضُ القوم: هو ابنُ ثلاثٍ. وقال بعضُ القوِم: هو ابنُ ثلاثٍ، وقالَ بعض القوم: هو ابن ليلتين. فقال: أيَّ ليلةٍ رأيتُموه؟ قلنا: ليلةَ كذا وكذاز فقال: إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مدَّه للرؤية فهو لليلةِ رأيتُموه. وفي روايةٍ عنه. قال: أهلَلْنا رمضانَ ونحن بذاتِ عِرْقٍ، فأرسلْنا رجلا إِلي ابنِ عبَّاسٍ يسأله، فقال ابنُ عبَّاسٍ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله تعالي قد أمَدَّهُ لرؤيته، فإنْ أُغميَ عليكم فأكملوا العِدَّةَ. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض القوم بعضاً، والمراد منه هاهنا أنه اجتمع الناس لطلب الهلال، لقوله بعد ذلك: ((فأخبرت رسول الله إني رأيته)). الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يتحفظ)) أي يتكلف في عد أيامه، ويحصيها، ولا يهملها. الحديث الثاني عن البختري اسمه سعيد بن فيروز: قوله: ((مده للرؤية)) أي ضرب مدة رمضان زمان رؤية الهلال. وقوله: ((أمده)) قال القاضي عياض: معناه أطال مدته إلي الرؤية.

(2) باب [في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

(2) باب [في مسائل متفرقة من كتاب الصوم] الفصل الأول 1982 - عن أنسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تَسحَّرُوا فإِنَّ في السُّحور برَكةً)). متفق عليه. 1983 - وعن عمرو بنِ العاصِ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فصلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتابِ أكْلَة السَّحَرِ)). رواه مسلم. 1984 - وعن سهلٍ، قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزالُ النَّاسُ بخَيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فإن في السحور بركة)) ((نه)): السحور- بالفتح- اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، و- بالضم- المصدر. والفعل نفسه، وأكثر ما يروى بالفتح. وقيل: إن الصواب بالضم؛ لأنه بالفتح الطعام. والبركة- الجر والثواب- في الفعل لا في الطعام. الحديث الثاني والثالث عن عمرو بن العاص: قوله: ((فصل ما بين صيامنا)) ((تو)): ((فصل)) بالصاد المهملة، ومن الناس من يقول بالضاد المنقوطة تصحيفاً. و ((أكلة)). بفتح الهمزة، وهي المرة، والمعنى أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لأن الله أباح لنا ما حرم عليهم، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة. ويدخل في معناه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الذي يتلوه ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))؛ لأن فيه مخالفة أهل الكتاب، وكانوا يؤخرون الإفطار إلي اشتباك النجوم. ثم صار في ملتنا شعاراُ لأهل البدعة، وهذه هي الخصلة التي لم يرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقول: يشابه هذا التأخير تقديم صوم يوم أو يومين علي صوم رمضان. وفيه أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الطريق المستقيم، من تعوج عنها فقد ارتكب المعوج من الضلال ولو في العبادة.

1985 - وعن عمرَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا أقبلَ الليلُ منْ هاهُنا وأدْبرَ النَّهارُ منْ هَاهُنا وغرَبتِ الشَّمسُ، فقدْ أفطرَ الصائِمُ)). متفق عليه. 1986 - وعن أبي هريرةَ، قال: نَهي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِ الوِصالِ في الصَّوم. فقال له رجلٌ: إنَّكَ تُواصلُ يا رسولَ الله! قال: ((وأَيُّكم مثلي، إني أبيتُ يُطعِمُني ربي ويَسقِيني)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((إذا أقبل الليل من ها هنا)) أي أقبل ظلمة الليل من جانب المشرق، وأدبر ضوء النهار من جانب المغرب. وإنما قال: ((وغربت الشمس)) مع الاستغناء عنه؛ لبيان كمال الغروب، كيلا يظن أنه إذا غرب بعض الشمس جاز الإفطار. قوله: ((فقد أفطر الصائم)) ((حس)) و ((نه)): أي صار مفطراً حكماً وإن لم يفطر حساً، أو دخل في وقت الإفطار، كما يقال: أمسى وأصبح، أي دخل في وقت المساء والصباح. قال أبو عبيد: فيه رد علي المواصلين، أي ليس للمواصل فضل علي الآكل؛ لأن الليل لا يقبل الصوم، وأقول: ويمكن أن يحمل الإخبار علي الإنشاء إظهاراً للحرص علي وقوع المامور به، أي إذا أقبل الليل فليفطر الصائم، وذلك أن الخيرية منوطة بتعجيل الإفطار فكأنه قد وقع وحصل، وهو يخبر عنه، ونحوه قوله تعالي: {هَلْ أدلكُمْ عَلي تجَارَةٍ تُنجيكُمْ منْ عَذابٍ أَليمٍ تُؤمنونَ بِاللهِ وَرَسُولهِ} أي آمنوا وجاهدوا. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم)) ((قض)): الوصال تتابع الصوم من غير إفطار بالليل، والموجب للنهي عنه إيراث الضعف، والسآمة، والعجز عن المواظبة علي كثير من وظائف الطاعات، والقيام بحقوقها. وللعلماء اختلاف في أنه نهي تحريم، أو تنزيه، والظاهر الأول. ويريد بقوله: ((أيكم مثلي)) الفرق بينه وبين غيره؛ لأنه سبحانه وتعالي يفيض وتعالي يفيض عليه ما يسد مسد طعامه وشرابه من حيث أنه يشغله عن إحساس الجوع، العطش، ويقويه علي الطاعة، ويحرسه عن تحليل يفضي إلي كلال القوى، وضعف الأعضاء. أقول: هذا أحد قولي الخطابي، والقول الآخر ذكر في شرح السنة هو: أن يحمل علي الظاهر، بأن يرزقه الله طعاماً وشراباً ليالي صيامه، فيكون ذلك كرامة له. والقول الألول أرجح؛ لأن الاستفهام في قوله: ((أيكم مثلي)) يفيد التوبيخ المؤذن بالبعد البعيد، وكذلك لفظة ((مثلي)) لأن معناه من هو علي صفتي، ومنزلتي، وقربي من الله تعالي صلى الله عليه وسلم ومن ثم اتبعه بقوله: ((أبيت ويطعمني)) حال إن كانت تامة، وخبر إن كانت ناقصة.

الفصل الثاني 1987 - عن حفصةَ [رضي اللهُ عنها]، قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لم يُجْمِعِ الصِّيامَ قبلَ الفجرِ فلا صيامَ له)) رواه الترمذيُّ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وقال أبو داود: وقَفَه علي حفصةَ مَعْمَرٌ، والزُّبيدي، وابنُ عُيَينةَ، ويونسُ الأيلي كلُّهم عنِ الزُّهري. [1987] 1988 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذا سمِعَ النِداءَ أحدُكم والإِناءُ في يدِه، فلا يضعْهُ حتى يقضى حاجتَه منه)). رواه أبو داود [1988]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن حفصة: قوله: ((من لم يُجْمع الصيام)) ((قض)): يقال: أجمع علي الأمر وأزمع عليه، إذا صمم عزمه، ومنه قوله تعالي: {وَمَا كُنتَ لدَيهِمْ إِذْ أَجمَعُوا أَمْرهُمْ} أي أحكموه بالعزيمة. وظاهره أنه لا يصح الصوم لمن لم يعزم عليه من الليل قبل طلوع الفجر فرضاً كان أو نفلا، وإليه ذهب ابن عمر، وجابر بن زيد، ومالك، والمزنى، وداود. وذهب الباقون إلي صحة النفل بنية من النهار. وخصصوا هذا الحديث بما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني، فيقول: أعندك غدانا؟ فأقول: لا، فيقول: ((إني صائم)) وفي رواية ((إذن صائم))، و ((إذن)) للاستقبال وهو جواب وجزاء. واتفقوا علي اشتراط التبييت في كل فرض لم يتعلق بزمان بعينه، كالقضاء، والكفارة، والنذر المطلق. واختلفوا فيما له زمان معين، كزمان صوم رمضان، وشرطه الأكثرون فيه أخذاً بعوم الحديث، غير ان مالكاً وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه قالوا: لو نوى أول ليلة من رمضان صيام جميع الشهر أجزأه لأن صوم الكل كصوم يوم، وهو قياس لا يقابل النص. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا سمع النداء أحدكم)) إلي آخره، يشعر دليل الخطاب بأنه لم يفطر إذا كان الإناء في يده، وقد سبق أن تعجيل الإفطار مسنون. لكن هذا من مفهوم اللقب فلا يعمل به. ((خط)): هذا بناء علي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) أو يكون معناه أن يسمع النداء، وهو يشك في

1989 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((قالَ اللهُ تعالي: أحبُّ عِبادي إِليَّ أعجلُهمْ فطراً)). رواه الترمذي [1989]. 1990 - وعن سَلمان بنِ عامرٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أفطَرَ أحدُكم فليُطِرْ علي تمرٍ، فإِنَّه بَرَكةٌ، فإِنْ لم يجِدْ فلْيُطشرْ علي ماءٍ، فإِنَّه طَهورٌ)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابنُ ماجه، والدرامي. ولم يذكرْ ((فإنَّه برَكةٌ)) غيرُ الترمذيِّ [1990]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصبح، مثل أن تكون السماء مغيمة، فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع لعلمه أن دلائل الفجر معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً. فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة إلي أذان الصارخ؛ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)) ((مظ)): يعني من هو أكثر تعجيلا في الإفطار، فهو أحب إلي الله تعالي. ولعل محبة الله تعالي إياه لمتابعة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأنه إذا أفطر قبل الصلاة تمكن من أداء الصلاة بحضور القلب. ((تو)): أي أحب عبادي إلي من يخالف أهل البدعة فيما يعتقدون من وجوب التأخير. ويحتمل أنه أراد به جمهور هذه المة الذين يتدينون بشيعة محمد صلى الله عليه وسلم، أي هم أحب إلي ممن كان قبلهم من الأمم، والأول أشبه. وأقول: لعل الثاني أوجه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحث الناس علي تعجيل الفطر، ويبين مكانته عند الله وصف المخلصين من عباده بذلك؛ ليكون ذريعة إلي المقصود، ونحوه قوله تعالي: {الذِينَ يَحْمِلوَن العرشَ ومَنْ حَوْلَه، يُسبحِّوَن بِحمْد رِبِّهمْ، وَيُؤمِنونَ بِه} وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن ذكر الإيمان لشرفه، والترغيب فيه، ومن ثم خص المحبة بالذكر؛ لأن متابعة الحبيب توجب محبة الله تعالي {قُلْ إِنْ كُنتُم تُحبونَ الله فاتبِعُوني يُحْببكُمُ اللهُ} وإلي هذا ينظر القول الأول لمظهر: هذا إذا أريد الاتصاف بالخير، وإن أريد التفضلة بين هذه الأمة وبين اليهود والنصارى، كان الوصف للتمييز. ويؤيده حديث أبي هريرة ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)). الحديث الرابع عن سلمان بن عامر: قوله: ((فإنه بركة)) أي فإن في الإفطار علي التمر ثواباً

1991 - وعن أنسٍ، قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُفطِرُ قبلَ يُصليَ علي رُطبات، فإنْ لم تكنْ فَتُميراتٌ، فإِنْ لم تكن تُميرا حَسى حَسَواتٍ منْ ماءٍ. رواه الترمذيُّ، وأبو داود. وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسنٌ غريب [1991]. 1992 - وعن زيد بن خالد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ فطَّرَ صائماً، أو جهَّزَ غازياً، فلَه مثلُ أجرِه)) رواه البيهقيُّ في ((شعبِ الإِيمان))، ومُحيي السنُّة في ((شرْح السُّنةِ))، وقال: صحيح [1992]. 1993 - وعن ابن عمرَ، قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا أفطرَ قال: ((ذهبَ الظَّمأ، وابتَلَّتِ العُروقَ، وثَبتَ الأجرُ إِنْ شاءَ اللهُ)) رواه أبو داود [1993]. 1994 - وعن مُعاذِ بنِ وُهرةَ، قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذا أفطرَ قال: ((اللهُمَّ لكَ صُمْتُ، وعلي رِزْقِكَ أفطرْتُ)) رواه أبو داود مُرسلا [1994]. ـــــــــــــــــــــــــــــ كثيراً، ولارادة الثواب وبركته علل الماء بالطُهُورية؛ لأنه مزيل للمانع من أداء العبادة، ولهذا مَنَّ الله تعالي علي عباده بقوله: {وَأنَزلَنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوَراً}. الحديث الخامس والسادس عن زيد بن خالد: قوله: ((من فطر صائماً)) نظم الصائم في سلك الغازي؛ لانخراطهما في معنى المجاهدة مع أعداء الله، وقدم الجهاد اللكبر. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ثبت الأجر)) بعد قوله: ((ذهب الظمأ)) استبشار منهم؛ لأن من فاز ببغيته، ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد أن يستلذ بما أدركه مزيد استلذاذ، ذكر تلك المشقة، ومن ثم حَمِدَ أهل السعادة في الجنة بعد ما أفلحوا بقولهم: {الحَمدُ للهِ الذِي أذْهَب عنَّا الحزَنَ، إِنَّ ربنَا لغَفورٌ شَكُورٌ}. الحديث الثامن عن معاذ بن زهرة: قوله: ((الهم لك صمت)) قدم الجار والمجرور في القرينتين علي العامل دلالة علي الاختصاص، إظهاراً للإخلاص في الافتتاح، وإبداء لشكر الصنيع المختص به في الاختتام.

الفصل الثالث 1995 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزالُ الدِّينُ ظاهراً ما عجَّلَ النَّاسُ الفِطَر؛ لأنَّ اليهودَ والنَّصارى يُؤَخِّرونَ)) رواه أبو داود، وابنُ ماجه [1995]. 1996 - وعن أبي عطَّيةَ، قال: دخلتُ أنا ومسروقٌ علي عائشةَ، فقُلنا: يا أُمَّ المؤْمنينَ! رجُلانِ منء أصحابِ محمَّد صلى الله عليه وسلم: احدُهما: يُعجِّلُ الإفطارَ ويُعجِلُ الصلاةَ، والآخر: يُؤَخِّر الإِفطارَ ويُؤَخَّرُ الصَّلاةَ. قالتْ: أيهُّما يُعجِّلُ الإِفطارَ ويُعجِّلُ الصلاةَ؟ قُلنا: عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، قالتْ: هكذا صَنَعَ رسولُ اللهص لي الله عليه وسلم. والآخرُ أبو موسىز رواه مسلم. 1997 - وعن العِرباضِ بنِ سارِيةَ، قال: دَعإني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلي السَّحورِ في رَمضانَ، فقال: ((هَلُمَّ إِلي الغَداء المبارَكِ)). رواه أبو داود، والنسائي [1997]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) في هذا التعليل دليل علي أن قوام الدين الحنيفي علي مخالفة الأعداء من أهل الكتابين، وأن في موافقتهم ثلما للدين، قال الله تعالي: {يَأيهَا الذيَن آمنُوا لا تتخذُوا اليهُودَ والنَّصَارى أَوِليَاءَ بعضُهْم أوِلياءُ بْعضٍ ومنْ يتولهُمْ منكُمْ فإنهُ منهُمْ}. الحديث الثاني عن أبي عطية رضي الله عنه: قوله: ((رجلان)) مبتدأ و ((من أصحاب محمد)) صفته، والخبر جملة قوله: ((أحدهما يعجل الإفطار)). قوله ((هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) يعني تمسك ابن مسعود بالعزيمة في السنة، وأبو موسى بالرخصة فيها. الحديث الثالث عن العرباض بن سارية: قوله: ((هلم إلي الغداء المبارك)) ((نه)): معناه تعال، وفيه لغتان: فأهل الحجاز يطلقونه علي الواحد، والجمع، والاثنين، والمؤنث، بلفظ واحد مبني علي الفتح، وبنى تميم تثني، وتجمع، وتؤنث.

(3) باب تنزيه الصوم

1998 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ سَحورُ المؤْمن التَّمرُ)). رواه أبو داود. (3) باب تنزيه الصوم الفصل الأول 1999 - عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لم يدَعْ قوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بهِ، فليسَ للهِ حاجةٌ في أنْ يدَعَ طَعامَه وشرابَه)). رواه البخاريُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله ((نعم سحور المؤمن التمر)) وإنما مدحه في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور بركة، وتخصيصه بالتمر بركة علي بركة، كما سبق ((إذا أفطر أحدكم فليفطر علي تمر؛ فإنه بركة)) ليكون المبدوء به والمتتهي إليه البركة. باب تنزيه الصوم الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قول الزور)) الزور: الكذب، والبهتان، والعمل به، أي العمل بمقتضاه من الفواحش، ومما نهي الله عنه. ((قض)): المقصود من إيجاب الصوم وشرعيته، ليس نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل له شيء من ذلك، ولم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش، لم يبال الله تعالي بصومه، ولا ينظر إليه نظر قبول. وقوله: ((فليس لله حاجه)) مجاز عن عدم الالتفات والقبول، والميل إليه، نفي السبب وأراد نفي المسبب. ((تو)): والمعنى إن الله لا يبالي بعمله ذلك؛ لأنه أمسك عما أبيح له في غير حين الصوم، ولم يمسك عما حرم عليه في سائر الأحايين. وأقول: لما دل قوله تعالي: ((الصوم لي وأنا أجزى به)) علي شدة اختصاص الصوم به من بين سائر العبادات، وأنه مما يبالي ويحتفل به، فرع عليه قوله: ((فليس لله حاجة في أن يترك صاحبه الطعام والشراب)) وهو من الاستعارة التمثيلية، شبه حالته عز وجل مع تلك المبالاة والاحتفال بالصوم بحالة من افتقر إلي أمر لا عنى له عنه، ولا يتقوم إلا به، ثم ادخل المشبه في جنس المشبه به، واستعمل في المشبه ما كان مستعملاً في المشبه به من لفظ الحاجة مبالغة، لكمال الاعتناء والاهتمام. وفي الحديث دليل علي أن الكذب والزور أصل الفواحش، ومعدن المناهي، بل قرين

2000 - وعن عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلُ ويُباشِرُ وهوَ صائِمٌ، وكانَ أملَككم لأرَبِه. متفق عليه. 2001 - وعنها، قالتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُدرُكه الفجرُ في رمضانَ وهوَ جُنُبٌ منْ غيرِ حُلمٍ، فيغتَسِلُ ويصومُ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرك، قال تعالي: {فاجْتنبواُ الرجْسَ منَ الأَوثِان واجتِنُبوا قوْلَ الزُّورِ} وقد علم أن الشرك مضاد الإخلاص، وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص، فيرتفع بما يضاده. والله أعلم. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عها: قوله: ((وكان أملككم لأربه)) ((نه)): أي لحاجته، يعني أنه كان غالباً علي هواه. وأكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يروونه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان أحدهما: أنه الحاجة، يقال: فيها الإرب، والإرب، والإربة والمأربة. والثاني: أرادت به العضو، وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة، كذا ذكر في شرح السنة والفائق. ((تو)): حمل الأرْب- ساكنة الراء- علي العضو في هذا الحديث غير سديد، لا يعبر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب، مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب. وأقول: ولعل ذلك مستقيم؛ لأن الصديقة رضي الله عنها ذكرت أنواع الشهوة مترقية من الأدنى غلي الأعلي، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة، ثم ثنت بالمباشرة من نحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة كنَّتْ عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن منها. ((حس)): اختلف أهل العلم في جواز القبلة للصائم، فرخص عمر بن الخطاب وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا بأس بها إذا لم تحرك القبلة شهوته. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكره ذلك للشباب، ويرخص فيه للشيوخ. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من غير حُلمٍ)) صفة مميزة للجنب. ((غب)): سميت الجنابة جنابة؛ لكونها سبباً لتجنب الصلاة، والطواف، ونحوهما في حكم الشرع وذلك بإنزال الماء، أو بالتقاء الختإنين. ((حس)): ظاهر الحديث قول عامة أهل العلم. قالوا: من أصبح جنباً اغتسل وأتم صومه. وعن النخعى: أنه يجزئه التطوع، ويقضى الفريضة. أقول: ظاهر الحديث موافق لنص الكتاب {فَالآنَ باشِرُوهنَّ- إلي قوله- ثُمَّ أتمواُ الصيَامَ إِلي الليْلِ}؛ لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلي الانفجار لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الصبح.

2002 - وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجَمَ وهوَ مُحرِمٌ، واحتجَمَ وهوَ صائِمٌ. متفق عليه. 2003 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهص لي الله عليه وسلم: ((مَنْ نسِيَ وهوَ صائِمٌ فأكلَ أو شرِبَ، فلْيُتمَّ صوْمَه، فإِنَّما أطعمَه اللهُ وسَقاه)). متفق عليه. 2004 - وعنه، قال بَينما نحنُ جُلوسٌ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءَه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ! هلَكْتُ. قال: ((مالَكَ؟)) قال: وقَعتُ علي امرأتي وأنا صائِمٌ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجِدُ رقَبَةٌ تُعتِقُها؟)) قال: لا، قال: ((فعلْ تستَطيعُ أن تصومَ شهرَيْنِ مُتتابعينِ؟)) قال: لا. قال ((هلْ تجدُ إِطَعامَ سِتِّينَ مسكيناً؟)) قال: لا. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((احتجم وهو محرم)) ((مظ)): تجوز الحجامة للمحرم بالحج والعمرة بشرط أن لا ينتف شعراً، وكذلك يجوز للصائم الحجامة من غير كراهية عند أبي حنيفة، ومالك، والشافعي رضي الله عنهم. وقال الأوزاعي: يكره للصائم الحجامة مخافة الضعف. وقال أحمد: يبطل صوم الحاجم والمحجوم، ولا كفارة عليهما. وقال عطاء: يبطل صوم المحجوم، وعليه الكفارة. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإنما أطعمه الله وسقاه)) ((إنما)) للحصر، أما أطعمه ولا سقاه أحد إلا الله، فدل علي أن هذا النسيان من الله، ومن لطفه في حق عباده تيسيراً عليهم، ورفعاً للحرج. وعلي هذا قضاء الصلاة بعد النسيان. ((مظ)): الأئمة الثلاثة يقولون بظاهر الحديث، ويقول مالك بالبطلان. ((شف)) إطلاق هذا الحديث يدل علي انه لا يفطر الصوم النسيان، وإن أكل أو شرب كثيراً، وفي الكثير قول. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وانا صائم)) وفي أكثر نسخ المصابيح ((وقعت علي امرأتي وانا صائم في نهار رمضان)). ((تو)): الرجل علي ما ضبطناه هو سلمة ابن صخر الأنصاري البياضى، وقيل: سليمان، وسلمة أصح، فكان قد ظاهر من امرأته خشية أن لا يملك نفسه، ثم وقع عليها في رمضان. كذا وجدناه في عدة من كتب أصحاب الحديث، وعند الفقهاء: أنه أصابها في نهار رمضان. ((حس)) و ((قض)): رتب الثاني بالفاء علي فقد الأول، ثم الثالث بالفاء علي فقد الثاني، فدل علي عدم التخيير، وقال مالك بالتخيير، وأن المجامع مخير بين الخصال الثلاث. قوله: ((بعرق)) ((نه)): هو زنبيل منسوج من خوض، وكل شيء مضفور، فهو عرق وعرقة

((اجلسْ)) ومكثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فبَينا نحنُ علي ذلكَ، أتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيهِ تمرٌ- والعَرقُ: المِكتَلُ الضَّخمُ- قال: ((أينَ السَّائلُ؟)) قال: أنا. قال: ((خُذْ هذا فتصَدَّقْ بهِ)). فقال الرجلُ: أعلي أفقرَ مني يا رسولَ اللهِ؟ فوَ اللهِ ما بَينِ لابَتَيها- يُريدُ الحرَّتَينِ- أهلُ بيت أفقَر منْ أهلِ بَيتي. فضحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بَدتْ إنيابُه، ثمَّ قال: ((أطعِمْهُ أهلَك)). متفق عليه. الفصل الثاني 2005 - عن عائشة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُقبلُها وهوَ صائِمٌ، ويَمُصُّ لسانَها. رواه أبو داود [2005]. 2006 - وعن أبي هريرةَ، أنَّ رجلاً سألَ النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرةِ للصَّائِمِ، فرَخَّصَ له. وأتاهُ آخرُ فسألَه فنهاهُ، فإذا الذي رخَّصَ له شيخٌ وإذا الذي نهاهُ شابٌّ. رواه أبو داود [2006]. 2007 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ذَرَعَه القيءُ وهوَ صائِمٌ، فليسَ عليهِ قضاءٌ، ومَنِ استَقاء عمداً؛ فلْيَقضِ)) رواه الترمذيُّ، وأبو داود، وابنُ ـــــــــــــــــــــــــــــ -بفتح الراء فيهما- ((حس)): هو مكتل يسع خمسة عشر صاعاً. وفيه دلالة من حيث الظاهر علي أن طعام الكفارة مد لكل مسكين، لا يجوز أقل منه، ولا يجوز أكثر. لأن كل صاع أربعة أمداد. وفيه دليل علي أن العبرة في الكفارات بحالة الأداء، وهو قول أكثر العلماء، وهو أظهر قولي الشافعي؛ لأن الرجل حالة ارتكاب المحظور لم يكن له شيءٌ، فلما تصدق عليه، أمره بأن يكفر، فلما ذكر حاجته أخرها عليه إلي الوجد. هذا التأويل أحسن من قول الزهري: ((هذا كان خاصاً بذاك الرجل)) ومن قول قوم: ((إنه منسوخ)) إذ لا دليل لهما. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من ذرعه القئ)) ((نه)) أي سبقه وغلبه في الخروج ((حس)): العمل عند أهل العلم علي هذا، وقالوا: من استقاء عمداً فعليه القضاء، ومن ذرعه القئ فلا قضاء عليه. ولم يختلفوا في هذا.

ماجه، والدراميّ، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرِفه إِلا منْ حديثِ عيسى بنِ يونُسَ. وقال محمَّدُ- يعني البخاريَّ-: لا أراهُ محفُوظاً. 2008 - عن مَعدانَ بنِ طلحةَ، أنَّ أبا الدَّرداء حدَّثَه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطَرَ. قالَ: فلَقيتُ ثَوْبانَ في مسجد دمشقَ، فقلتُ: إنَّ أبا الدَّرداءِ حدَّثَني أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطرَ. قال: صدَقَ، وأنا صبَبَتُ لهَ وضوءَه. رواه أبو داود، والترمذيّ والدرامي. 2009 - وعن عامرِ بنِ ربيعةَ، قال: رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مالا أُحْصي يتسَوَّكُ وهوَ صائمٌ. رواه الترمذي، وأبو داود [2009]. 2010 - وعن أنسٍ، قال: جاءَ رجلٌ إِلي النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: اشْتكَيتُ عيني، أَفأكتحلُ وأنا صائمٌ؟ قال: ((نعم)). رواه الترمذيُّ، وقال: ليسَ إِسنادُه بالقويِّ، وأبو عاتِكة الرَّاوي يُضعَّفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج. قوله: ((لا أراه محفوظاً)) الضمير راجع إلي الحديث، وهو عبارة عن كونه منكراً. الحديث الرابع عن معدان بن طلحة رضي الله عنه: قوله: ((قاء فأفطر)) لعل الراوي رأي هذه الصورة فرواها، ولم يدر أنه صلى الله عليه وسلم استقاء. وإنما أولنا هذا الحديث؛ لما مر ((من ذرعه القئ فليس عليه قضاء))، أو كان متطوعاً. قوله: ((وضوءه)) ((مظ)): يعنى سكبت الماء علي يده، حتى غسل يده، حتى غسل يده وفمه. هذا تأويله عند الشافعي؛ لأن القئ لا يبطل الوضوء عنده. وقال أبو حنيفة: يبطل القئ الوضوء. الحديث الخامس عن عامر بن ربيعة: قوله: ((يتسوك)) ثإني مفعولي ((رأيت))؛ لأنه خبر في الحقيقة، و ((ما)) موصوفة، و ((لا أحصى)) صفتها، وهي ظرف لـ ((يتسوك)) أي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متسوكاً مدة لا أقدر علي عدها. ((مظ)): لا يكره السواك للصائم في جميع النهار، بل هو سنة عند أكثر العلماء، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، لانه تطهير. وقال ابن عمر: يكره بعد الزوال؛ لأن خلوف الصائم الصائم أثر العبادة، الخلوف يظهر عند خلو المعدة من الطعام، وخلو المعدة يكون عند الزوال غالباً، وإزالة أثر العبادة مكروهة، وبه قال الشافعي، وأحمد. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أفأكتحل وانا صائم)) ((مظ)): الاكتحال للصائم غير مكروه وإن ظهر طعمه في الحلق، عند الأئمة الثلاثة، وكرهه أحمد.

2011 - وعن بعضِ أصحاب ِّ صلى الله عليه وسلم، قال: لقدْ رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالعَرَجِ يَصبُّ علي رأسهِ الماءَ وهوَ ضائمٌ منَ العَطشِ أو منَ الحَرِّ. رواه مالك، وأبو داود [2011]. 32012 - وعن شدَّاد بن أوْس: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلا بالبقيع، وهوَ يحْتجِمُ، وهوَ آخذٌ بيدي لثمإني عشْرةَ خلَتْ منْ رمضانَن فقال: ((أفْطرَ الحاجِمُ والمحجومُ)). رواه أبو داود، وابنُ ماجه، والدارمي. قال الشيخُ الإِمامُ مُحيي السنّنة، رحمة الله عليه. وتأوَّله بعضُ منْ رخَّصَ في الحجامة: أي تعّرَّضا للأِفطار: المحجومُ للضعف، والحاجِمُ؛ لأنَّنه لا يأمَنُ منْ أنْ يصلَ شيءٌ إِلي جَوفِه بمصِّ الملازِمِ [2012]. 2013 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أفطرَ يوماً منْ رمضانَ منْ غيرِ رُخصةٍ ولا مَرَضٍ لمْ يَقضِ عنه صومُ الدَّهرِ كلِّه وإِنْ صامَه)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، والبخاري في ترجمة باب، وقال الترمذيُّ: سمعتُ محمَّداً- يعني البخاريَّ- يقول: أبو المطِّوسِ الراوي لا أعرفُ له غيرَ هذا الحديثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن عن شداد بن أوس: قوله: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ((قض)): ذهب إلي ظاهر الحديث حمع من الأئمة، وقالوا: يفطر الحاجم والمحجوم، ومنهم أحمد، وإسحاق. وقال قوم منهم مسروق، والحسن، وابن سيرين: تكره الحجامة للصائم، ولا يفسد الصوم بها، وحملوا الحديث علي التشديد، وأنهما نقصا أجر صيامهما، وأبطلاه بارتكاب هذا المكروه. وقال الأكثرون: لا بأس بها؛ إذ صح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم. وقالوا: معنى قوله: ((أفطر)) تعرض للإفطار كما يقال: هلك فلان إذا تعرض للهلاك، كما هو مشروح في المتن. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يقض عنه صوم الدهر)) ((مظ)): يعني لم يجد فضيلة الصوم المفروض بصوم النافلة، وليس معناه لو صام الدهر بنية قضء يوم رمضان لا يسقط عنه قضاء ذلك اليوم، بل يجزئه قضاء يوم بدلا من يوم. وأقول: هو من باب التشديد والمبالغة، ولذلك أكده بقوله: ((وإن صامه)) أي وإن صامه حق الصيام، ولم يقصر فيه، وبذل جهده وطاقته، كما في قوله تعالي: {اتقُوا اللهَ حقَّ

2014 - وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((كم منْ صائِمٍ ليسَ له منْ صيامِه إِلا الظَّمأُ، وكم منْ قائمٍ ليسَ له منْ قيامِه إِلا السَّهَر)). رواه الدارمي. وذُكِرَ حديثُ لَقيطِ بنِ صَبِرَةَ في ((بابِ سننِ الوضوءِ)) [2014]. الفصل الثالث 2015 - عن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((ثلاثٌ لا يفطرْنَ الصَّائَم: الحِجامة، والقيء، والاحتِلامُ)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ، وعبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ الرَّاوي يُضعَّفُ في الحديث. 2016 - وعن ثابت البُنإني، قال: سُئلَ أنسُ بنُ مالك: كنُتم تكرهونَ الحِجامةَ للِصَّائِمِ علي عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم،؟ قال: لا؛ إِلا منْ اجلِ الضَّعفِ. رواه البخاريُّ. 2017 - وعن البخاريِّ تعليقاً، قال: كانَ ابنُ عمرَ يحتجمُ وهوَ صائمٌ ثمَّ تركَه فكانَ يحتجمُ بالليلِ. 2018 - وعن عطاء، قال: إنْ مَضْمَض ثمَّ أفرغ ما في فيه من الماءِ، لا يضيرهُ أن يزدرِدَ ريقَه وما بقي في فيه، ولا يمضَغُ العلَكَ، فإنِ ازدردَ ريقَ العِلكِ لا أقول: إِنه يُفطرُ، ولكن يُنْهي عنه. رواه البخاري في ترحمة باب. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقاته}. وزيد في المبالغة حيث أسند القضاء إلي الصوم إسناداً مجازياً، وأضاف الصوم إلي الدهر إجراء للظرف مجرى المفعول به؛ إذ الأصل لم يقض هو في الدهر كله إذا صامه. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((كم من صائم)) إلي آخرهز ((مظ)): يعني كل صوم لا يكون خالصاً لله تعالي، لا مجتنباً عن قول الزور، والكذب، والبهتان، والغيبة، ونحوها من المناهي، يحصل له الجوع والعطش، ولا يحصل له الثواب، وكذا الحكم للقائم بالليل. أقول: ونحوها الصلاة في الدار المغصوبة، وأداؤها بغير جماعة من غير عذر، فإنها تسقط القضاء، ولا يترتب عليها الثواب. الفصل الثالث الحديث الأول إلي الرابع عن عطاء: قوله: ((لا يضيره أن يزدرد ريقه)) زرد اللقمة يزرد بلعها، والإزدراد الابتلاع. قوله: ((في ترجمة باب)) أي في تفسيره، كما يقال: باب الصلاة، باب الصوم.

(4) باب صوم المسافر

(4) باب صوم المسافر الفصل الأول 2019 - عن عائشةَ، قالت: إِنَّ حمزةَ بنَ عمرو الأسلميَّ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أَصومُ في السَّفرِ وكانَ كثيرَ الصيام. فقال: ((إِن شئت فصُمْ، وإِن شئتَ فأفطِرْ)). متفق عليه. 2020 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: غزوْنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لستَّ عّشْرةَ مضت من شهرِ رمضانَ، فمنَّا منْ صامَ ومنَّا من أفطَر، فلم يَعِبِ الصَّائمُ علي المفطرِ، ولا المفطرُ علي الصَّائم. رواه مسلم. 2021 - وعن جابر، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأي زِحاماً ورجلا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: صائم. فقال: ((ليس من البرِّ الصومُ في السَّفر)). متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ باب صوم المسافر الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن شئت فصم)) ((حس)) هذا التخيير قول عاة أهل العلم إلا ابن عمر، فإنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر، وإلا ابن عباس فإنه قال: لا يجوز الصوم في السفر، وإلي هذا ذهب داود بن علي من المتأخرين. ثم اختلفوا في الأفضل منهما، فقال طائفة: الفطر أفضل، يروى ذلك عن ابن عمر، وذهب جماعة إلي أن الصوم أفضل لتبررئة الذمة، وهو قول مالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. وقالت طائفة: أفضل الأمرين أيسرهما عليه، لقوله تعالي: {يُريدُ اللهُ بكُمُ اليسْر} فأم الذي يجهده الصوم في السفر ولا يطيقه، فالأولي له أن بفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين رأي زحاماً، ورجلا قد ظلل عليه: ((ليس من البر الصيام في السفر))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك العصاة)) فيمن بلغ أنهم قد صاموا، إن هذا فيمن لم يقبل قلبه رخصة الله تعالي، فأما من رأي الفطر مباحاً، وقوى علي الصوم فصام، فهو أعجب إلي. الحديث الثاني والثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((قد ظلل عليه)) كناية عن بلوغ الجهد، والطاقة في تأثير العطش، وحرارة الصوم. قوله: ((ليس من البر)) ((خط)): هذا كلام

2022 - وعن أنسٍ، قال: كنَّا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنَّا الصَّائُم ومنا المفطر، غنزلنا ممنزلا في يومٍ حار، فسقَطَ الصوَّامونَ، وقامَ المفْطِرون فضَربُوا الأبنيةَ وسَقَوا الرِّكابَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهبَ المفطرون اليومَ بالأجر)). متفق عليه. 2023 - وعن ابن عبَّاسٍ، قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينةِ إلي مكة، فصامَ حتى بلغ عسْفان، ثمَّ دعا يماءٍ فضرفَعَهُ إِلي يدهِ ليراهُ الناسُ فأفطر حتَّى قدِمَ مكَة، وذلك في رمضانَ، فكانَ ابنُ عبَّاسٍ يقول: قد صامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأفطَر. فمنْ شاءَ صام ومن شاءَ أفطر. متفق عليه. 2024 - وفي روايةٍ لمسلم عن جابر [رضي الله عنه] أنه شرب بعد العصر. ـــــــــــــــــــــــــــــ خرج علي سبب، فهو مقصور علي من كان في مثل حاله، كأنه قال: ليس من البر أن يصوم المسافر إذا كان الصوم يؤديه إلي مثل هذه الحالة، بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح، وخبر حمزة الأسلمي، وتخييره إياه بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم براً لم يخبره فيه. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) فيه من المبالغة ما فيه، أي أنهم مضوا واستصحبوا معهم الأجر، ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه، كما في قوله تعالي: {ذَهَبَ اللهُ بِنورِهمْ}. ((الكشاف)): يقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى معه، وهو مذهب المبرد، وقد تكلم فيه الأدباء، وأجبنا عن ذلك، ثم الذوق السليم والطبع المستقيم يحكم به في هذا المقام، ولا يأباه إلا من له جمود. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فرفعه إلي يده)) ((إلي يده)) حال: أي رفع الماء منتهياً إلي أقصى حد يده، أو تضمين، أي انتهي الرفع إلي أقصى غايتها ليراه الناس. ((حس)): فيه دليل علي أن من أصبح صائماً في رمضان في السفر، جاز له أن يفطر، ولا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشيء السفر في شهر رمضان، وبين من يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر، وقال عبيدة السلمإني: إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار لظاهر قوله تعالي: {فمن شهد منكمُ الشهرَ فليصُمْهُ} وهذا الحديث حجة علي القائل، ومعنى الآية شهد الشهر كله، فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر.

الفصل الثاني 2025 - عن أنس بنِ مالكٍ الكعبيِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ وضع عن المسافرِ شَطرَ الصلاةِ، والصومَ عن المسافرِ وعن المرضع والحُبلي)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [2025]. 2026 - وعن سلمةَ بن المحَبِّق، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((من كان لهُ حمولة تأوي إِلي شبعٍ فلْيصُمْ رمضانَ من حيث أدركَه)) رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((والصوم عن المسافر)) فإن قلت: إذا كان الصوم عطفا علي شطر الصلاة، وقد قيد الفعل الفعل بقله: ((عن المسافر)) فما فائدة إعادته في المعطوف؟ قلت: ليس هذا العطف للانسحاب، بل هو عطف علي سبيل التقدير ليصح عطف ((عن المرضع)) علي ((عن المسافر)) لأن المرضع والحبلي لم يضع عنهما شطر الصلاة، كأنه قيل: وضع عن المسافر شطر الصلاة، ووضع الصوم عن المسافر، والمرضع، والحبلي. ولو لم يعد قوله: ((عن المسافر)) لم يستقم، ولم يعلم حكم وضع الصوم عن المسافر. ((خط)): قد يجمع نظم الكلام أشياء ذات عدد مسوقة في الذكر، ومتفرقة في الحكم. وذلك أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط لا إلي قضاء، والصوم يسقط في السفر، ثم يلزمه القضاء إذا أقام، والحامل والمرضع تفطران إبقاء علي الولد، ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما. الحديث الثاني عن ابن المحبق بالحاء المهملة وبكسر الباء الموحدة وفتحها وبالتشديد-: قوله: ((من كان له حمولة)) ((تو)) و ((قض)) الحمولة- بفتح الحاء- كل ما يحمل عليه من إبل، أو حمار، وغيرهما. وفعول يدخله الهاء إذا كان بمعنى مفعول. و ((أوى)) لازم ومتعدٍ علي لفظ واحد، وإن كان الأكثر في المتعدى بالمد. فيالحديث يجوز الوجهان، المعنى تؤوى صاحبهان أو يصاحبخا، يعني من كان له حمولة تأويه إلي حال شبع، ورفاهية ولم يلحقه في سفره وعثاء ولا مشقة، فليصم رمضان، والمر فيه محمول علي الندب والحث علي الأولي والأفضل، للنصوص الدالة علي جواز الإفطار في السفر مطلقاً. ز ((مظ)): الحمولة- بفتح الحاء- المركب، يعني من كان راكباً، وسفره قصير بحيث يبلغ

الفصل الثالث 2027 - عن جابرٍ: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرجَ عامَ الفتحِ إلي مكة في رمضانَ، فصامَ حتَّى بلغَ كُراعَ الغَمِيم، فصامَ النَّاسُ، ثم دعا بقَدَحٍ مٍن ماءٍ فرفعَهُ، حتَّى نظَرَ الناسُ إِليه، ثمّض شَرِب، فقيلَ لهُ بعدَ ذلكَ: إنَّ بعضَ الناسِ قدْ صامَ. فقال: ((أولئك العصاةُ، أولئك العصاةُ)). رواه مسلم. 2028 - وعن عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ، قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((صائمُ رمضانَ في السَّفَرِ كالمفْطِرِ في الحضرِ)). رواه ابن ماجه. [2028] ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي المنزل في يوم، فليصم رمضان، والمراد بقوله: ((تأوى إلي شبع)) الوصول إلي المنزل، يعني إذا كانت المسافة أقل من ستة عشر فرسخاً لا يجوز الإفطار. وقال أبو داود: يجوز الإفطار في السفر أي قدرٍ كانَ. أقول: لا شك أن الحديث فيه كناية، وإطلاق اللازم علي الملزوم، ومن حقها الدلالة علي المكنى عنه بحيث لا يخفي علي السامع عند إطلاق اللازم المراد. وهذا علي الوجه الأخير غير مستقيم، والوجه هو الأول؛ لأنه من الكنايات المستحسنة عبر عن رفاهية الحال وعدم المشقة بهذه الألفاظ البليغة، فخض لفظ الحمولة ليدل علي قوة الظهر وسهولة السير، ووصفها بالإيواء لصاحبها إلي الشبع، فدل علي بلوغ المنزل بحيث يتمكن من تهيئة طعام يكفيه، ومسكن يبيت فيه. ولله دره من كلام فصيح حاوٍ لنوعى الإيجاز والإطناب! الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كُراعَ الغَمِيم)) ((نه)): هو اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحِرة تشبيهاً بالكراع، وهو ما دون الركبة من الساق، ((والغميم)) - بالفتح- واد بالحجاز. قوله: ((أولئك العصاة)) ((نه)): ((أولئك العصاة)) مرتين، وهذا محمول علي من تفرد بالصوم، وأنهم أمروا بالفطر أمراً جازماً لمصلحة بيان جوازه، فخالفوا. وأقول: التعريف في الخبر للجنس أي أولئك الكاملون في العصيان والمتجاوزون حده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس، ثم شرب لكي يتبعوه ويقبلوا رخضة الله، فمن أبي فقد بالغ في العصيان. الحديث الثاني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قوله: ((كالمفطر في الحضر)) شبه الصائم في السفر بالمفطر في الحضر في كونهما متساويين في الإباء عن الرخصة في السفر، وعن العزيمة في الحضر.

(5) باب القضاء

2029 - وعن حمزةَ بنِ عمرو الأسلميِّ، أنه قال: يا رسولَ اللهِ! إني أجدُ بي قوةً علي الصيام في السفر، فهل علي جُناحٌ؟ قال: ((هي رُخصَةٌ من اللهِ عَزَّ وجلَّ فَمنْ أخذَ بها فحسنٌ، ومنْ أحبَّ أنْ يصومَ فلا جُناحَ عليه)). رواه مسلم. (5) باب القضاء الفصل الأول 2030 - عن عائشة، قالت: كانَ يكونُ عليَّ الصوم منْ رمضانَ فما أستطيعُ أن أقضيَ إِلا في شعبانَ. قال يحيى بن سعيد: تعني الشُّغلَ منَ النبيِّ أو بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن حمزة بن عمرو،: قوله: ((هي رخصة)) الضمير راجع إلي معنى السؤال، أي هل علي إثم أن أفطر؟ فأنثه باعتبار الخبر، كما في قوله: ((من كانت أمك)) ويحتمل أن السائل قد سمع أن الإفطار في السفر عصيان كما في حديث جابر ((أولئك العصاة)) فيسأل: هل علي جناح أن أصوم؛ لأنى أقوى عليه؟ فقال: لا؛ لأن الإفطار رخصة نلفظ الحسن يقوى الوجه الأول، فإن العصيان إنما هو في رد الرخصة لا في إثباتها. باب القضاء الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كان يكون علي الصوم)) اسم ((كان)) ((الصوم))، والخبر ((علي)) أي إن كان الصوم واجبًا علي، وقوله: ((يكون)) زائدة كما في قولهم: إن من أفضلهم كان زيدًا. قوله: ((الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنبي)) ((مح)): هكذا هو في النسخ ((الشغل)) بالألف واللام مرفوع، أي يمنعنى الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعنى بالشغل أنها كانت مهيِّئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك. ((شف)): معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم كل شعبان علي ما روى ((أنه كان يصوم شعبان إلا قليلا)) فلا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بها، فتتفرغ عائشة في شعبان لقضاء ما عليها من رمضان. ((مظ)): إذا جاء شعبان قضت ما عليها من الصيام وإن فات عنها خدمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز تأخير القضاء عن شعبان، فإن تأخر وقُضِيَ بعد رمضان آخر، فعليه مع القضاء عن كل يرم مد من الطعام عند الشافعى، ومالك، وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه.

2031 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لايحلُّ للمرأة أنْ تصومَ وزوجها شاهدٌ إِلا بإذنه، ولا تأذن في بيتهِ إِلا بإذنهِ)). رواه مسلم. 2032 - وعن معاذةَ العَدَويَّة، أنها قالت لعائشة: ما بالُ الحائضِ تقضي الصَّومَ ولا تقضي الصلاةَ، قالت عائشة: كانَ يُصيبا ذلك فَنُؤْمَرُ بقضاءِ الصوم ولا نُؤْمَرُ بقضاءِ الصلاة. رواه مسلم. 2033 - وعن عائشة، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((من ماتَ وعليه صومٌ صامَ عنهُ وليُّه)). متفق عليه. الفصل الثاني 2024 - عن نافعٍ، عن ابنِ عمَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من ماتَ وعليهِ صيامُ شهر رمضانَ نليُطعَمْ عنهُ مكانَ كلِّ يومٍ مسكينٌ)). رواه الترمذي، وقال: والصحيح أنَّه موقوف علي ابنِ عمر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يحل للمرأة أن تصوم)) ((مظ)): المراد بهذا الصوم النافلة، كيلا يفوت علي الزوج استمتاعه بها، ولا تأذن أجنبيًا في دخول بيتها _لا بيا ذن الزوج. الحديث التالة عن معازة: قوله: ((قالت: كان يُصيبنا ذلك)) ((شف)): الأولي جعل اسم ((كان)) ضمير الشأن، أي كان الشأن يُصيبنا ذلك. أقول: والجواب من الأسلوب الحكيم، أي دعى السؤال عن العلة إلي ما هو أهم لك من متابعة النص، والانقياد للشارع، أما العلة فهي الضرر اللاحق بها في الصلاة، لأن الحيض إذا امتد إلي خمسة عشر مثلا في كل شهر تتضرر بقضائها، بخلاف الصوم. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((صام عنه وليُّه)) قال أبو داود: هذا في النذر، وقال: إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه. ((حس)): هذا قول ابن عباس. وقيل: قول أحمد وإسحاق. ((مح)): من فاته شيء من رمضان قبل إمكان القضاء، فلا تدارك له ولا إثم، ولو مات بعد تمكن لم يصم عنه وليه في الجديد، بل يخرج من تركته لكل يوم مد من طعام وكذا النذر والكفارة. وقال: في القديم: هذا أظهر. والولي كل قريب علي المختار، ولو صام أجنبى بإذن الولي صح لا مستقلا في الأصح، ذكر في إيجاز المحرر.

(6) باب صيام التطوع

الفصل الثالث 2035 - عن مالك، بلغه أنَّ ابنَ عمرَ كانَ يُسألُ: هل يصومُ أحدٌ عن أحدٍ، أو يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، فيقول: لايصومُ أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ. رواه في (الموطأ)). [2035] (6) باب صيام التطوع الفصل الأول 2036 - عن عائشةَ، قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حتى نَقُولَ: لا يُفطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نقولَ: لا يصوُمُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم استكملَ صيامَ شهرٍ قطُّ إِلا رمضانَ، وما رأيتهُ في شهرٍ أكثرَ منه صيامًا في شعبانَ. وفي رواية، قالت: كان يصومُ شعبانَ كلَّه، وكان يصومُ شعبانَ إِلا قليلا متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن مالك: قوله: ((ولا يصلي أحد عن أحد))، ((حس)): وبه قال الشافعى، وأصحاب أبي حنيفة، وذهب قوم إلي أنه يصوم عنه وليه، وبه قال أحمد. وقال الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلا كل واحد يومًا جاز. وقال: واتفق أهل العلم علي أن من مات وعليه صلاة، فلا كفارة لها، وهو قول الشافعى رضي الله عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله: إنه يطعم، وقال قوم: يصلي عنه. باب صيام التطوع الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عتها: قوله: ((حتى نقول)) ((تو)): الرواية بالنون، وقد وجدت في بعض النسخ بالتاء علي الخطاب، كأنها قالت: حتى تقول أيها السامع لو أبصرته، والرواية أيضًا بنصب ((نقول)) وهو الأكثر في كلا مهم. ومتهم من رفع المستقبل في مثل هذا الموضع. قوله: ((أكثر)) ثانى مفعولي ((رأيت)) والضمير في ((منه)) راجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم و ((في شعبان)) متعلق بـ ((صيامًا)) المعنى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان، وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامه في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه. قوله: أكان يصوم شعبان كله وكان يصوم شعبان إلا قليلا، ((مح)): ((كان)) الثانى تفسير للأول

2037 - وعن عبد الله بن شقيقٍ، قال: قلتُ لعائشَة: أكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُ شهرًا كله؟ قالت: ما عَلِمْتُهُ صامَ شهرًا كلَّه إِلا رمضانَ، ولا أفطرهُ كلَّه حتى يصومَ منه، حتى مضى لسبيلهِ. رواه مسلم. 2038 - وعن عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه سألهُ، أو سألَ رجلاً وعِمْرانُ يسمعُ، فقال: ((يا أبا فلان! أما صُمْتَ من سرَرِ شعبانَ؟)) قال: لا. قال: ((فإذا أفْطَرْتَ فصُمْ يومين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبيان قولها ((كله))، أي غالبه. وقيل: كان يصومه في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما. أقول: لفظة ((كله)) تأكيد لإرادة الشمول، ورفع التجوز من احتمال البعض، فتفسيره بالبعض مناف له، ولو جعل ((كان)) الثانى وما يتعلق به استئنافًا ليكون بيانًا للحالتين: حالة الإتمام وحالة غيره، لكان أحسن وأغرب، فلو عطف بالواو لم يحمل إلا علي هذا التأويل. الحديث الثانى عن عبد الله بن شقيق: قوله: ((ولا أفطره كله حتى يصوم منه)) (حتى)) الأولي بمعنى ((كى)) كقولك: سرت حتى أدخل البلد، بنصب إذا كان دخولك مترقبًا، لما يوجد، كأنك قلت: سرت كى أدخلها، أو كان منقضيًا إلا أنه في حكم المستقبل من حيث أنه في وقت وجود السير المفعول من أجله كان مترقبًا. وتحريره: أن ((حتى)) الأولي غاية عدم العلم باستمرار الإفطار المستعقب للصوم، والثانية غاية لعدم علمه بالحالتين من الصيام والإفطار، والاستمرار هو مستفاد من النفي الداخل علي الماضى. والحديث وارد علي هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حين عزم أن لا يصوم الشهر كله كان مترقبًا أن يصوم بعضه، و ((حتى)) الثانية غاية لما تقدم من الجمل كلها. و ((مضى لسبيله)) كناية عن الموت، واللام في ((لسبيله)) مثلها في قولك: لقيته لتلات بقين من الشهر، تريد مستقبلاً لثلاث. وفائدة الكناية: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن لبثه في الدنية إلا لأداء الرسالة التي أمر بتبليغها، فلما أدى ما عليه تركها ومضى إلي مأواه ومستقره. الحديث الثالث عن عمران بن حصين: قوله: ((أنه سأله)) الضمير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانى لعمران. ((نه)) و ((مح)): سرار الشهر - بالفتح والكسر - وكذا سرره، وهو آخر ليلة يستمر الهلال بنور الشمس. قالوا: كأن هذا الرجل قد أوجب صوم يومين علي نفسه بنذر، فلما فاته قال له: إذا أفطرت من رمضان فصم يومين وقيل: لعل ذلك عادة له قد اعتادها، فبين له بهذا القول أن صومه غير داخل في جملة القسم المنهي عنه بقوله: ((لا يقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين)).

2039 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ الصيامِ بعد رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ، وأفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضة صلاةُ الليلِ)) رواه مسلم. 2040 - وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صيامَ يومٍ فضلَه علي غَيرِه إِلاَّ هذا اليومَ: يوم عاشوراءَ، وهذا الشهرَ، يعني شهر رمضان. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شهر الله المحرم)) أي صيام شهر الله المحرم، يريد أنه يوم عاشوراء، أضاف الشهر إلي الله تعظيمًا وعطف ((المحرم)) إليه بيانًا تفخيمًا له. وفي قوله: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) للعلماء مقال. ولعمرى! إن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالي: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} وقوله: {تتجافي جنوبهم عن المضاجع - إلي قوله - فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} وغيرها من الآيات لكفاه تقدمًا ومزية. وينصره ما ذكره شارح مسلم، قال: في الحديث حجة لأبي إسحاق المروزى من أصحابنا، ومن وافقه: أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب. وقال أكثر أصحابنا: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى وأوفق لنص الحديث. والله أعلم. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فضله علي غيره)) في بعض نسخ المصأبيح ((فضله)) - بسكون الضاد ونصب اللام - وتؤيده رواية شرح السنة ((ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم يبتغى فضله إلا صيام رمضان، وهذا اليوم يوم عاشوراء)) ((مظ)): ((فضله)) بدل من قوله: ((صيام يوم)) والتقدير: يتحرى فضل صيام يوم علي غيره، والتحرى طلب الصواب، والمبالغة في طلب شيء، والمعنى ما رأيته يبالغ في تفضيل يوم علي يوم إلا عاشوراء ورمضان، وذلك؛ لأن رمضان فريضة، وعاشوراء كانت فريضة ثم نسخت. وأقول: علي هذا المبدل هنا ليس في حكم المنحى؛ لاستدعاء الضمير ما يرجع إليه نحو قولك: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحًا. وفي أكثر النسخ ((فضله)) - بتشديد الضاد -. قيل: هو بدل من ((يتحرى)) والحمل علي الصفة أولي؛ لأن قوله: ((هذا اليوم)) مستثنى، ولا بد من مستثنى منه، وليس ها هنا إلا قوله: ((يوم)) وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، فالمعنى: ما رأيته صلى الله عليه وسلم يتحرى في صيام يوم من الأيام صفته أنه مفضل علي غيره إلا صيام هذا اليوم، فإنه كان يتحرى في تفضيل صيامه مالم يكن يتحرى في تفضيل غيره، ونحوه في اعتبار المستثنى منه قوله: ((ما من أيام أحب إلي الله أن يتعبد له فيها من عشر ذى الحجة)). وقوله:

2041 - وعنه، قال: حينَ صامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراءَ وأمر بصيامِه قالوا: يارسولَ اللهِ! إِنَّه يومٌ يُعظِّمُه اليهودُ والنَّصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئنْ بَقيتُ إلي قابلٍ، لأصومَنَّ التاسعَ)) رواه مسلم. 2042 - وعن أمِّ الفَضلِ بنتِ الحارثِ: أنَّ ناسًا تمارَوا عندَها يومَ عرفَةَ في صيامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم، هو صائمٌ، وقال بعضهُم: ليس بصائمٍ، فأرسلت إليهِ بقدحِ لبنٍ وهوَ واقفٌ علي بعيرِه بعرَفةَ فشرِبَه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((هذا الشهر)) عطف علي قوله: ((هذا اليوم))، ولا يستقيم إلا بالتأويل، إما أن يقدر في المستثنى منه ((وصيام شهر فضله علي غيره)) وهو من اللف التقديرى، وإما أن يعتبر في الشهر ((أيامه يومًا فيومًا موصوفًا بهذا الوصف)). ((تو)): ((عاشوراء)) اليوم العاشر من المحرم. قيل: ليس فاعولاء - بالمد- في كلامهم غيره، وقد يلحق به تاسوعاء، وذهب بعضهم: أنه أخذ من العشر الذي هو من إظماء الإبل، ولهذا زعموا: أنه اليوم التاسع، والعشر ما بين الوردين، وذلك ثمإنية أيام، وإنما جعل التاسع؛ لأنها إذا وردت الماء ثم لم ترد ثمإنية أيام، فوردت التاسع، فذلك العشر، ووردت تسعًا إذا وردت اليوم الثامن. وفلان يحم ربعا، إذا حم اليوم الثالث، وعاشوراء من باب الصفة التي لم يرد لها فعل، والتقدير: يوم مدته عاشوراء، أو صفته عاشوراء. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لئن بقيت إلي قابل لأصومن التاسع)) ((مظ)): لم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي القابل، بل توفي في الثانى عشر من ربيع الأول، فصار اليوم التاسع من المحرم صومه سنة وإن لم يصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عزم علي صومه. ((تو)): قيل: أريد بذلك أن يضم إليه يومًا آخر ليكون هدية مخالفًا لهدى أهل الكتاب وهذا هو الوجه؛ لأنه وقع جوابًا لقولهم: ((إنه يوم يعظمه اليهود)). ((حس)): اختلف أهل العلم في يوم عاشوراء، فقال بعضهم: هو اليوم العاشر، وقال بعضهم: هو اليوم التاسع، روى ذلك عن ابن عباس. واستحب جماعة من العلماء أن يصوم اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود، وإليه ذهب الشافعى رضي الله عنه. الحديث السابع عن أم الفضل بنت الحارث وهي امرأة العباس: قوله: ((إن ناسًا تماروا)) إلي آخره. ((مظ)): صوم يوم عرفة سنة لغير الحاج، وأما للحاج، فقال الشافعى ومالك: ليس بسنة لهم كي لا يضعفوا عن الدعاء بعرفة. وقال إسحاق بن راهويه: إنه سنة لهم. وقال أحمد: إن لم يضعفوا صاموا.

2043 - وعن عائشةَ، قالتْ: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قطُّ. رواه مسلم. 2044 - وعن أبي قتادةَ: أنَّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: كيفَ تصومُ؟ فغضِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلمَّا رأي عمرُ غضَبَه، قال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا، نعوذُ باللهِ من غضبِ اللهِ، وغضب رسوله، فجعل عمرُ يُرددُ هذا الكلام حتى سكنَ غضبُه. فقال عمرُ: يا رسول اللهِ! كيفَ منْ يصومُ الدَّهرَ كلَّه؟ قال: ((لاصامَ ولا أفطرَ)) أو قالَ: ((لم يصُمْ ولم يُفطِرْ)). قال: كيف منْ يصومُ يومينِ ويُفطرُ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر)) ((مظ)): أي في عشر ذى الحجة. اعلم أن صوم تسعة أيام من أول ذى الحجة سنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أحب إلي الله أن يتعبد له فيها من عشر ذى الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)). وقولها: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط)) لا ينفي كونها سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ربما صامها ولم تعرف عائشة، وإذا تعارض النفي والإثبات، فالإثبات أولي بالقبول. الحديث التاسع عن أبي قتادة: قوله: ((فقال كيف تصوم)) ((حس)): يشبه أن يكون الذي سأل عنه من صوم الدهر، هو أن يسرد صيام أيام السنة كلها، لا يفطر فيها إلا الأيام المنهي عنها. ((مح)): قال العلماء: سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته؛ لأنه خشى من جوابه مفسدة، وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو استقله، أو اقتصر عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يبالغ في الصوم، ويقتصر علي ما كان عليه من صوم أيام قلائل؛ لشغله بمصالح المسلمين وحقوقهم، وحقوق أزواجه، وأضيافه ولئلا يقتدى به كل أحد، فيؤدى إلي الضرر في حق بعضهم. وكان حق السائل أن يقول: كم أصوم، أو كيف أصوم فيخص السؤال بنفسه، ليجيبه بما يقتضيه حاله، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم. قوله: ((لا صام ولا أفطر)) ((حس)): معناه الدعاء عليه زجرًا له، ويجوز أن يكون إخبارًا. ((مظ)): يعنى هذا الشخص كأنه لم يفطر؛ لأنه لم يأكل شيئًا، ولم يصم؛ لأنه لم يكن بأمر الشارع. قال الشافعى، ومالك: هذا في حق من صام جميع أيام السنة، حتى يومى العيد وأيام التشريق؛ لأن صومها محرم، فأما من لم يصمها فلا بأس عليه في صوم غيرها؛ لأن أبا طلحة الأنصاري، وحمزة بن عمرو الأسلمى كانا يصومان الدهر غير هذه الأيام، ولم ينكر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو علة النهي أن يصير الرجل بصوم الدهر كله ضعيفًا عاجزًا عن الجهاد وقضاء الحقوق.

يومًا؟ قال: ((ويُطيقُ ذلكَ أحدٌ؟)) قال: كيفَ مَنْ يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا؟ قال: ((ذلكَ صومُ داودَ)). قال: كيفَ مَنْ يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومينِ؟ قال: ((وددْتُ إني طُوِّقتُ ذلكَ)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كل شهرٍ، ورمضانُ إلي رمضانَ، فهذا صيامُ الدهر كلِّه. صيامُ يوم عرَفةَ أحتسبُ علي الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه، وصيامُ يوم عاشوراءَ أحتسِبُ علي اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه)) رواه مسلم. 2045 - وعنه، قال: سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنينِ. فقال: ((فيهِ وُلدْتُ، وفيهِ أُنزِلَ علي)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وددت أنى طوقت ذلك)) أي لم تشغلنى الحقوق عن ذلك حتى أصومَ، لا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكتر منه، ولأنه كان يواصل ويقول: ((إنى لست كأحدكم، إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقيني)). قوله: ((فهذا صيام الدهر)) أدخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وذلك أن ((ثلاث)) مبتدأ و ((من كل شهر)) صفته، أي صوم ثلاثة أيام يصومها الرجل من كل شهر صيام الدهر كله، إنما طرح التاء اعتبارًا للتالي. ((الكشاف)) في قوله: {أربعة أشهر وعشرًا}. قيل: ((عشرًا)) ذهابًا إلي الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلي الأيام، تقول: ((صمت عشرًا)) ولو ذكرت خرجت من كلا مهم. قوله: ((أحتسب علي الله)) ((نه)): الاحتساب في الأعمال الصالحة. هو البدار إلي طلب الأجر، وتحصيله باستعمال أنواع البر، والقيام بها علي الوجه المرسوم فيها طلبًا للثواب المرجو فيها. وأقول: كان الأصل أن يقال: أرجو من الله أن يكفر، فوضع موضعه ((أحتسب)) وعداه بـ ((علي)) الذي للوجوب علي سبيل الوعد، مبالغة لحصول الثواب. ((مح)): قالوا: والمراد بالذنوب الصغائر، وإن لم تكن الصغائر يرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت الدرجات. ((مظ)): قيل في تكفير ذنوب السنة التي بعدها: هو أنه تعالي يحفظه من أن يذنب فيها. وقيل: يعطى من الرحمة والثواب ما يكون كفارة السنة الثانية إن اتفق فيها ذنب. الحديث العاشر عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((فيه ولدت، وفيه أنزل علي)) أي فيه

2046 - وعن مُعاذَةَ العَدَويَّةِ، أنَّها سألتْ عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُ من كلِّ شهرٍ ثلاثة أيامٍ؟ قالتْ: نعم. فقلتُ لها؟ من أيِّ أيامِ الشهرِ كانَ يصومُ؟ قالتْ: لم يكُنْ يبالي من أي أيام الشهرِ يصومُ. رواه مسلم. 2047 - وعن أبي أيوبَ الأنصاريِّ، أنه حدَّثه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((منْ صامَ رمضانَ، ثم أتبعَه ستًا من شوَّال، كانَ كصيامِ الدهرِ)) رواه مسلم. 2048 - وعن أبي سعيد الخُدريِّ، قال: نهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومِ الفطرِ والنَّحرِ. متفق عليه. 2049 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صوم في يومينِ: الفطرِ ـــــــــــــــــــــــــــــ وجود نبيكم، وفيه نزول كتابكم، وثبوت نبوته، فأي يوم أفضل وأولي للصيام منه؟ فاقتصر علي العلة، أي سلوا عن فضيلته؟ لأنه لا مقال في صيامه، فهو من الأسلوب الحكيم. الحديث الحادى عشر والثانى عشر عن أبي أيوب رضي الله عنه: قوله: ((إنه حدثه)) الضمير الأول لأبي أيوب، والثانى يجوز أن يكون للراوى، وأن يكون للحديث، أي حدث حديثًا ثم بينه بقوله: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) الحديث علي سبيل البدل. قوله: ((كان كصيام الدهر))؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فأخرجه مخرج التشبيه للمبالغة، والحث علي صيام الست. ((حس)): قد استحب قوم صيام ستة أيام من شوال، والاختيار أن يصوم من أول الشهر متتابعة، وإن صامها متفرقة جاز. وحكى مالك الكراهة في صيامها عن أهل العلم. ((مح)): قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها. قالوا: يكره لئلا يظن وجوبه. الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن أبي سعيد: قوله: ((نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) هذا الحديث مروى من حيت المعنى، والذي يتلوه مروى من حيث اللفظُ، وما نص عليه، ولعل العدول عن قوله: ((نهي عن صوم العيدين)) إلي ذكر الفطر والنحر للإشعار بأن علة الحرمة هي الوصف بكونه يوم فطر ويوم نحر، والصوم ينافيهما. ((حس)): اتفق أهل العلم علي أن صوم يوم العيد لايجوز، ولو نذر صومه لاينعقد عند أكثر العلماء. وقال أصحاب أبي حنيفة: ينعقد، وعليه صوم يوم آخر.

2050 - وعن نُبَيشَةَ الهُذليِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيَّامُ التشريقِ أيَّامُ أكلٍ وشُرْبٍ وذكرِ اللهِ)) رواه مسلم. 2051 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لايصومُ أحدُكم يوم الجمعةِ إلاَّ أنْ يصومَ قبلَه أو يصومَ بعدَه)) متفق عليه. 2052 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تختصُّوا ليلةَ الجمعةِ بقيامٍ من بين الليالي، ولا تختصُّوا يوم الجمعةِ بصيامٍ من بين الأيَّامِ؛ إلاَّ أنْ يكونَ في صومٍ يصومُه أحدُكم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن نبيشة: قوله: ((أيام التشريق)) ((نه)): ((أيام التشريق)) هي ثلاثة أيام تلي عيد النحر، سميت بذلك من تتشريق اللحم - وهو تقديده، وبسطه في الشمس ليجف - لأن لحوم الأضاحى كانت تشرق فيها بمنى. وقيل: سميت به؛ لأن الهدى والضحايا لاتنحر حتى تشرق الشمس، أي تطلع. ((شف)): إنما عقب الأكل والشرب بذكر الله؛ لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه، وينسى في هذه الأيام حق الله تعالي. أقول: هو من باب التتميم صيانة، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أعاد في الخبر ذكر الأيام، وأضاف الأكل والشرب إليها، أوهم أنها لاتصلح إلا للدعة والأكل والشرب؛ لأن الناس أضياف الله في هذه الأيام، فتدارك بقوله: ((واذكروا الله))؛ لئلا يستغرق أوقاتهم باللذات النفسإنية، فينسوا نصيبهم من الروحإنية، نظيره في التتميم للصيانة قول الشاعر: فسقى ديارك غير مفسدها صوب السحاب وديعة تهمى ((حس)): اتفق أهل العلم علي أن صيام أيام التشريق لا يجور لغير المتمتع، واختلفوا في المتمتع إذا لم يجد الهدي. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا تختصوا يوم الجمعة)) ((يوم)) نصب مفعول به، كقوله: ويوم شهدناه. والاختصاص لازم ومتعد، وفي الحديث متعد. قال المالكى: المشهور في اختص أن يكون موافقًا لخص في التعدى إلي مفعول، وبذلك جاء قوله تعالي: {يختص برحمته من يشاء} وقول عمر بن عبد العزيز: ((ولم يختص قومًا))، وقد يكون ((اختص)) مطاوع ((خص))، فلا يتعدى، كقولك: خصصتك بالشىء فاختصصت به. قوله: ((إلا أن يكون في صوم يصومه)) التقدير: إلا أن يكون يوم الجمعة واقعًا في يوم صوم يصومه.

2053 - وعن أبي سعيد الخُدريِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يومًا في سبيل اللهِ بَعَّدَ اللهُ وجهَه عن النَّارِ سبعينَ خريفًا)) متفق عليه. 2054 - وعن عبد الله بنِ عمرِو بن العاصِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدَ الله؟ أَلَمْ أخبرْ أنَّكَ تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ؟)) فقلتُ: بلي يا رسول الله! قال: ((فلا ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): قيل: علة النهي ترك موافقة اليهود في يوم واحد من بين أيام الأسبوع، يعنى عظمت اليهود السبت، فلا تعظموا أنتم الجمعة خاصة بصيام وقيام. وأقول: لو كانت العلة مخالفة اليهود لكان الصوم أولي؛ لأنهم يستريحون فيه ويتنعمون بالأكل والشرب، ومصداقه حديث أم سلمة في الفصل الثالت من هذا الباب، ولكن العلة ورود النص. وتخصيص كل يوم بعبادة ليس ليوم آخر، فإن الله تعالي قد استأثر الجمعة بفضائل لم يستأثر بها غيرها، فجعل الاجتماع فيه للصلاة فرضًا علي العباد في البلاد، فلم ير أن يخصه بشيء من الأعمال سوى ما خصه به، ثم خص بعض الأيام بعمل دون ما خص به غيره، ليختص كل منها بنوع من العمل، ليظهر فضيلة كل بما يختص به. وقال الشيخ محيى الدين النواوي: في هذا الحديث نهي صريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، وهذا متفق علي كراهته، واحتج به العلماء علي كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب، قاتل الله واضعها! فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة، وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات في تقبيحها وتضليل مبتدعها أكثر من أن يحصى ذكره في شرح صحيح مسلم. الحديث السابع عشر عن أبي سعيد: قوله: ((من صام يومًا)) إلي آخره. ((مظ)) يعنى من جمع بين تحمل مشقة الصوم ومشقة الغزو يكون له هذا التشريف، وأما لو كان في السفر فإن لم يلحقه ضعف يمنعه عن الجهاد، فالصوم أفضل. ((شف)): ويحتمل أن يكون معناه من صام يومًا لله ولوجهه. ((نه)): الخريف الزمان المعروف ما بين الصيف والشتاء، ويراد به السنة؛ لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى الخريف انقضى السنة. أقول: إنما خص بالذكر دون سائر الفصول؛ لأنه زمان بلوغ الثمار، وحصاد الزرع، وحصول سعة العيش. الحديث الثامن عشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((بلي)) جواب عما يلزم من قوله: ((ألم أخبر))؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عما فعله من الصيام والقيام، كأنه قيل: ألم تصم النهار، أو لم تقم الليل؟ فقال: بلي. قوله: ((وإن لزورك)) ((نه)): الزور الزائر، وهو في الأصل مصدر وضع موضع الاسم، كصوم ونوم بمعنى صائم ونائم. وقد يكون الزور جمع زائر، كراكب وركب.

تفعل، صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لجسدِكَ عليكَ حقًا، وإنَّ لعينكَ [عليك] حقًا، وإنَّ لزوجِكَ عليكَ حقًا، وإنَّ لزوركَ عليك حقًا. لا صامَ من صامَ الدَّهَر. صومُ ثلاثة أيامٍ من كل شهرِ صوم الدَّهرِ كلّه. صُمْ كلَّ شهرٍ ثلاثة أيامٍ، واقرأ القرآن في كل شهرٍ)). قلتُ: إني أطيق أكثر من ذلكَ. قال: ((صُم أفضلَ الصومِ صومَ داود: صيامَ يومٍ، وإفطار يومٍ. واقرأ في كل سبع ليالٍ مرَّة، ولا تَزدْ علي ذلكَ)) متفق عليه. الفصل الثاني 2055 - عن عائشة، قالتْ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُوم الاثنين والخميسَ. رواه الترمذيُّ، والنسائي. [2055] 2056 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُعرضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائمٌ)) رواه الترمذي. [2056] 2057 - وعن أبي ذّر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إذا صُمتَ من الشهرِ أيَّامٍ، فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرةَ)) رواه الترمذي، والنسائي. [2057] 2058 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ من غُرَّةِ كل شهرٍ ثلاثة أيام، وقلما كان يُفطِرُ يوم الجمعة. رواه الترمذي، والنسائي. رواه أبو داود إلي ثلاثة أيام. [2058] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا صام من صام الدهر)) ((مح)): يحتمل أن يكون خبرًا لا دعاء، ومعنى ((لا صام)) أنه لايجد من مشقته ما يجدها غيره. ((قض)): فكأنه لم يصم؛ لأنه إذا اعتاد ذلك لم يجد منه رياضة وكلفة يتعلق بها مزيد ثواب. أقول: هذا التأويل يخالف سياق الحديث؛ لأن السياق في رفح التشديد ووضع الإصر، ألا ترى كيف نهاه أولاً عن صوم الدهر كله، ثم حثه علي صوم داود بقوله: ((صم أفضل الصوم صوم داود))؟ والأولي أن يجرى ((لاصام)) علي الإخبار أنه ما امتثل أمر الشارع، ((ولا أفطر)) لأنه لم يطعم شيئًا، كما سبق في حديث قتادة. الفصل الثاني الحديث الأول إلي الرابع عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((وقلما كان يفطر يوم الجمعة))

2059 - وعن عائشةَ، قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ منَ الشهرِ السَّبتَ والأحد والاثنينِ، ومن الشهر الآخر الثلاثاءَ والأربعاءَ والخميسَ. رواه الترمذي. [2059] 2060 - وعن أمِّ سلمة، قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمرُني أن أصوم ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، أوَّلُها الاثنينُ والخميسُ. رواه أبو داود، والنسائي. [2060] 2061 - وعن مسلمٍ القرشي، قال: سألتُ - أو سُئل - رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهرِ فقال: ((إنَّ لأهلكَ عليكَ حقًا، صُمْ رَمضانَ والذي يليهِ، وكلَّ أربعاءَ وخميسٍ، فإذًا أنتَ قدْ صُمْتَ الدَّهرَ كلَّهُ)) رواه أبو داود، والترمذي. [2061] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): تأويله أنه كان يصومه منضمًا إلي ما قبله، أو إلي ما بعده، أو أنه مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم كالوصال. ((قض)): يحتمل أن يكون المراد منه أنه كان صلى الله عليه وسلم يمسك قبل الصلاة، ولا يتغدى إلا بعد أداء الجمعة، كما روى عن سهل بن سعد الساعدى رضي الله عنه. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((السبت والأحد والاثنين)) ((مظ)): أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين سنة صوم جميع أيام الأسبوع، فصام من شهر السبت، والأحد، والاثنين، ومن شهر الثلاثاء، والأربعاء، والخميس. وإنما لم يصم جميع هذه السنة متوالية كيلا يشق علي الأمة الاقتداء، ولم يكن في هذا الحديث ذكر يوم الجمعة، وقد ذكر في حديث آخر قبيل هذا. الحديث السادس عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((أولها الاثنين والخميس)) ((شف)): القياس من جهة العربية الاثنان بالألف مرفوعًا علي أنه خبر للمبتدأ الذي هو أولها، لكن يمكن أن يقال: جعل اللفظ المبنى علمًا لذلك اليوم، فأعرب بالحركة لا بالحرف، أو يقال: تقديره ((أولها يوم الاثنين)) فحذف المضاف، وأبقى المضاف إليه علي حاله. وأقول: يمكن أن يقال: إن ((أولها)) منصوب، وكذا ((الاثنين)) بفعل مضمر، أي اجعل أولها الاثنين أو الخميس. وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتى حيث قال: صوابه أولها الاثنين أو الخميس، والمعنى أنها تجعل أول الأيام الثلاثة الاثنين أو الخميس؛ وذلك لأن الشهر إما أن يكون افتتاحه من الأسبوع في القسم الذي بعد الخميس، فيفتتح صومها في شهرها، وذلك بالخميس، وإما أن يكون بالقسم الذي بعد الاثنين، فيفتتح في شهرها ذلك بالخميس، وكذلك وجدت الحديث فيما نرويه من كتاب الطبرانى. الحديث السابع عن مسلم: قوله: ((فإذا أنت قد صمت)) هذا لفظ الترمذي وأبي داود. ((الفاء)) جزاء شرط محذوف، أي إنك ان فعلت ما قلت لك، فأنت قد صمت الدهر كله، و ((إذن)) جواب جىء به تأكيدًا للربط.

2062 - وعن أبي هريرة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهي عن صومِ يومِ عرفةَ بعرفةَ. رواه أبو داود. [2062] 2063 - وعن عبد الله بن بُسْرٍ، عن أُختِهِ الصمَّاءِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرضَ عليكُم، فإِنْ لم يجِد أحدُكم إِلاَّ لحاءَ عِنَبَةٍ، أو عودَ شجرةٍ فليمضغهُ)) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [2063] 2064 - وعن أبي أُمامةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صامَ يومًا في سبيل الله جعل الله بينه ربين النارِ خنْدقًا، كما بينَ السَّماءِ والأرض)) رواه الترمذي. [2064] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن عبد الله بن بسر: قوله: ((لاتصوموا يوم السبت)) قالوا: المراد بالنهي إفراد السبت بالصوم لا الصوم مطلقًا، لما سبق في حديث أبي هريرة في الجمعة. والداعى إليه مخالفة اليهود، وفي معنى المستثنى ما وافق سنة مؤكدة، كما إذا كانت السبت يوم عرفة أو عاشوراء؛ للأحاديث الصحاح التي وردت فيها. وقوله: ((فيما افترض عليكم)) يتناول المكتوبة، والمنذورة،. وقضاء الفائت الواجب، وصوم الكفارة، واتفق الجمهور علي أن هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه وكراهة، لاتحريم. قوله: ((إلا لحاء عنبة)) ((تو)): اللحاء ممدود، وهو قشر الشجر، والعنبة: هي الحبة من العنب، وبناؤها من نوادر الأبنية، وأريد بالعنبة ها هنا الحبة والقضابة منها علي الاتساع. الحديث العاشر عن أبي أمامة: قوله: ((خندقًا)) وهو استعارة تمثيلية عن الحاجز المانع، شبه الصوم بالحصن، وجعل له خندقًا حاجزًا بينة وبين النار التي شبهت بالعدو، ثم شبه الخندق في بعد غوره بما بين السماء والأرض.

2065 - وعن عامر بن مسعودٍ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الغنيمةُ الباردة الصومُ في الشتاء)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديثٌ مرسلٌ. 2066 - وذكر حديث أبي هريرة: مامن أيامٍ أحبُّ إلي الله في ((باب الأضحية)). الفصل الثالث 2067 - عن ابنِ عباسٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدمَ المدينةَ، فوجدَ اليهودَ صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومُونَه))؟)) فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ: أنجى الله فيهِ موسى وقومَه، وغَرَّقَ فرعونَ وقومَه؛ فصامه موسى شكرًا، فنحنُ نصومُه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحنُ أحقُّ وأولي بموسى منكم)) فصامَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرَ بصامه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادى عشر عن عامر: قوله: ((الغنيمة الباردة)) ((فا)): الغنيمة الباردة هي التي تجىء عفوًا من غير أن يصطلي دونها بنار الحرب، ويباشر حر القتال. وقيل: هي الهيئة الطيبة مأخوذ من العيش البارد. والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب والهناة، أن الهواء والماء لما كان طيبهما ببردهما خصوصًا، في بلاد تهامة والحجاز. قيل: هواء بارد وماء بارد علي سبيل الاستطابة، ثم كثر حتى قيل: عيش بارد، وغنيمة باردة، وبرد أمرنا تم كلامه. والتركيب من قلب التشبيه؛ لأن الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة، كقول الشاعر: لعاب الأفاعى القائلات لعابه أي لعاب القلم: وفيه من المبالغة أن الأصل في التشبيه أن يلحق الناقص بالكامل، كما يقال: زيد كالأسد، فإذا عكس وقيل: الأسد كزيد، ويجعل الأصل كالفرع، والفرع كالأصل يبلغ التشبيه إلي الدرجة القصوى في المبالغة، والمعنى أن الصائم يحوز الأجر من غير أن يمسه حر العطش، أو تصيبه لذعة الجوع من طول اليوم. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فيه إشكالان، أحدهما: أنهم يؤرخون الشهور علي غير ما يؤرخه العرب، والآخر: أن مخالفتهم، والتحرى عن اجتناب ما يرومونه من تعظيم الأيام بالصوم مطلوب، فكيف بالحديث؟ والجواب عنه: أنه لايبعد أن يتفق عاشوراء ذاك العام اليوم الذي أنجاهم الله من فرعون، وعن الثانى: أن

2068 - وعن أمِّ سلمةَ، قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومَ يومَ السبت ويوم الأحد أكثرَ ما يصومُ من الأيَّامِ، ويقولُ: ((إنَّهُما يوما عيدٍ للمشركينَ فأنا أحِبُّ أن أخالفهم)) رواه أحمد. [2068] 2069 - وعن جابر بن سمُرةَ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمرُ بصيام يوم عاشوراء، ويحثَّنا عليه، ويتعاهدنا عندَه، فلمَّا فُرِضَ رمضان لم يأمُرنا، ولم يَنهنَا عه، ولم يتعاهدْنا عندَه. رواه مسلم. 2070 - وعن حَفْصَةَ، قالت: أربعٌ لم يكن يدعُهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: صيامُ عاشوراءَ، والعشرِ، وثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، وركعتان قبل الفجر. رواه النسائي. 2071 - وعن ابن عباسٍ، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُفطِرُ أيَّامَ البيضِ في حَضَرٍ ولا في سفَرٍ. رواه النسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ المخالفة التي أمرنا بها هي ما أخطأوا فيه مكان التعظيم من اختيارهم يوم السبت، كما قال تعالي: {إنما جعل السبت علي الذين اختلفوا فيه} وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعنى الجمعة، فاختلفوا فيه)) الحديث. الحديث الثانى عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((يوما عيد للمشركين)) سمى اليهود والنصارى مشركين - والمشرك هو عابد للصنم - إما لأن النصارى يقولون: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله، وإما أنه سمى كل من يخالف دين الإسلام مشركًا علي التغليب. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ويتعاهدنا عنده)) أي ((ويحفظنا)) ويراعى حالنا، ويتخولنا الموعظة. الحديث الرابع والخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أيام البيض)) أي أيام الليالي البيض ((نه)): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم أيام البيض هذا علي حذف المضاف إليه، يريد أيام الليالي البيض، وهي الثالت عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، سميت لياليها بيضًا؛ لأن القمر يطلع فيها من أولها إلي آخرها. وأكتر ما تجىء الرواية ((الأيام البيض)) والصواب أن يقال: أيام البيض بالإضافة؛ لأن البيض من صفة الليالي.

2072 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلَّ شيءِ زكاة وزكاة الجسد الصوم)) رواه ابن ماجه. [2072] 2073 - وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يصوم يوم الاثنين والخميسِ. فقيلَ: يا رسول الله! إنَّكَ تصومُ يوم الاثنين والخميس. فقال: ((إنَّ يومَ الاثنين والخميس يغفرُ اللهُ فيهما لكلِّ مسلمِ إِلاَّ ذا هاجرينِ، يقولُ: دعهُما حتى يصطلحا)) رواه أحمد، وابن ماجه. [2073] 2074 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صامَ يومًا ابتِغاءَ وَجْهِ اللهِ، بَعَّدَه الله من جهَّنم كبُعدِ غُرابٍ طائرٍ وهو فرخٌ حتى ماتَ هَرِمُا)). 2075 - وروى البيهقى في ((شعب الإِيمان)) عن سلَمةَ بنِ قيس ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لكل شيء زكاة)) أي صدقة، وصدقة الجسد ما يخلصه من النار بجنة الصوم. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلا ذا هاجرين)) أي قاطعين، و ((ذا)) زائدة. وفي معناه قوله صلى الله عليه وسلم: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لايشرك بالله شيئًا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) وفي حديث آخر ((اتركوا هذين حتى يفيئا))، ولابد هنا من تقدير من يخاطب بقوله: ((اتركوا، وأنظروا، ودعهما)) كأنه تعالي لما غفر للناس سواهما، قيل: اللهم اغفر لهما أيضًا، فأجاب دعهما، أو اتركوا، أو انظروا هذين حتى يصطلحا. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كبعد غراب طائر)) ((طائر)) صفة ((غراب)) و ((هو فرخ)) حال من الضمير في ((طائر)) و ((حتى مات)) غاية الطيران، و ((هرمًا)) حال من فاعل ((مات)) مقابل لقوله: ((وهو فرخ)). وقيل: يضرب الغراب مثلاً في طول العمر، شبه بعد الصائم عن جهنم ببعد مسافة غراب طائر من أول عمره إلي آخره. هذا بحسب العرف، وإلا لا مناسبة بين البعدين.

(7) باب [في الإفطار من التطوع]

(7) باب [في الإفطار من التطوع] الفصل الأول 2076 - عن عائشة، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيءٌ)) فقلنا: لا، قال: ((فإني إذًا صائِمٌ)). ثم أتانا يومًا آخر، فقلْنا: يا رسول الله! أُهْدِي لنا حَيْسٌ، فقال: ((أَرِينيه فلقدْ أصبحتُ صائمًا)) فأكَلَ. رواه مسلم. 2077 - وعن أنس، قال: دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علي أُمِّ سُلَيمٍ فأتَتْه بتَمَرٍ وسَمنٍ، فقال: ((أعيِدوا سمنَكم في سقائِه، وتمركم في وعائِه، فإني صائمٌ)). ثم قامَ إِلي ناحيةٍ من البيتِ فصلي غيرَ المكتوبةِ فدَعا لأمَّ سُلَيمِ وأهلِ بيتهِا. رواه البخاري. 2078 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دُعيَ أحدُكم إِلي طعام وهو صائمٌ فليقُلْ: إني صائمٌ)). وفي روايةٍ قال: ((إذا دُعيَ أحدُكم فليُجِبْ، فإنْ كان صائمًا فليُصلِّ، وإن كانَ مُفطرًا فليُطعَمْ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في الإفطار من التطوع الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حيس)) ((نه)): هو الطعام المتخذ من التمر، والإقط، والسمن، وقد يجعل عوض الإقط الدقيق، والفتيت. ((قض)): وفي الحديث دليل علي أن الشروع في النفل لا يمنع من الخروج عنه، كما قال: ((الصائم المتطوع أمير نفسه)) وإليه ذهب أكتر العلماء. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجب إتمامه، ويلزمه القضاء إن أفطر. وقال مالك رضي الله عنه: يقضى حيث لا عذر له، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء والحديث مرسل لا يقاوم الصحيح علي أنه محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء استحبابًا؛ إذ الأصل لما لم يجب فالبدل بعدم الوجوب أولي. ((مظ)): في الحديث دليل علي جواز نية صوم النافلة في أثناء النهار. قوله: ((أرينيه)) وفي نسخة ((أُدنيه)) وأخرى ((قربيه)) و ((أرينيه)) كناية عنهما؛ لأن ما يكون قريبًا يكون مرئيًا. الحديث الثانى والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فليصل)) أي ليصل ركعتين في ناحية البيت، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، وقيل: فليدع لصاحب البيت بالمغفرة. ((مظ)): الضابط عند الشافعى رضي الله عنه أن الضيف ينظر، فإن كان المضيف يتأذى يترك الإفطار فالأفضل الإفطار وإلا فلا.

الفصل الثاني 2079 - عن أمِّ هانىءٍ [رضي الله عنها]، قالتْ: لما كانَ يوم الفتحِ فتحِ مكةَ، جاءَتْ فاطمةُ فجلستْ علي يسارِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأم هإنيءٍ عن يميِنه، فجاءتِ الوَليدَةُ بإناءٍ فيه شرابٌ، فناوَلتْهُ، فشرِبَ منهُ، ثمَّ ناوله أُمَّ هإنيءٍ فشربتْ منه، فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرْتُ وكنتُ صائمةً، فقالَ لها: ((أَكنتِ تقضِين شيئًا؟)) قالتْ: لا. قال: ((فلا يضُرُّكِ إنْ كانَ تطوُّعًا)) رواه أبو داود، والترمذي، والدارمي. وفي رواية لأحمد، والترمذيِّ نحوه، وفيه: فقالتْ: يا رسولَ الله! أما إني كنتُ صائمةً فقال: ((الصَّائمُ المتطوع أميرُ نفسِه؛ إنْ شاءَ صامَ، وإنْ شاءَ أفطَر)). [2079] 2080 - وعن الزُّهريِّ، عن عُرْوَةَ، عن عائشةَ، قالت: كنتُ أنا وحفصةُ صائمتَينِ، فعُرضَ لنا طعامٌ اشتهيناهُ، فأكلنْا منه. قال: ((اقضيا يومًا آخرَ مكانَه)) رواه الترمذيُّ. وذكرَ جماعةً من الحُفَّاظِ رَوَوْا عن الزُّهريّ عنْ عائشةَ مرسلاً، ولم يذكروا فيه عن عروةَ، وهذا أصحُّ. ورواه أبو داود. عن زُمَيْلٍ مولي عُروةَ، عن عروةَ، عن عائشة. 2081 - وعن أم عُمارةَ بنتِ كعبٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ عليها، فدَعتْ له ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أم هانىء رضي الله عنها: قوله: ((أم هانىء عن يمينه)) ((نه)): يجوز أن يكون عطفًا علي التقدير، أي جاءت أم هانىء وجلست، ويجوز أن يكون حالاً أي جاءت فاطمة وجلست عن يساره والحال أن أم هانىء تمشى يمينه. وعلي التقديرين الكلام مجرى علي خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر أن يقول: جلست عن يمينه، أو أنا جالسة، فإما أن يحمل علي التجريد، كأنها تحكى عن نفسها بذلك، أو أن الراوى وضع كلامه مكان كلامها. قوله: ((الصائم المتطوع أمير نفسه)) يفهم أن الصائم غير المتطوع لا تخيير له؟ لأنه مأمور مجبور عليه. الحديث الثانى والثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((اقضيا يومًا آخر مكانه)) ((خط)): هذا القضاء علي سبيل التخيير والاستحباب؛ لأن قضاء الشيء يكون حكمه حكم الأصل، فكما أن في الأصل كان الرجل فيه مخيرًا، فكذلك في قضائه.

(8) باب ليلة القدر

بطعامٍ، فقال لها: ((كُلي)) فقالتْ: إني صائمةٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الصَّائمَ إذا أُكِلَ عندَه، صلَّتْ عليه الملائكةُ حتى يفرْغوا)) رواه أحمد، والترمذي، وابنُ ماجه، والدارمي. الفصل الثالث 2082 - عن بُريدةَ، قال: دخلَ بلالٌ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوَ يتغدَّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغداءَ يابلالُ!)) قال: إني صائمٌ يا رسول الله! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((نأكُلُ رِزقنا، وفَضْلُ رزقِ بلالٍ في الجنَّةِ؛ أشعرتَ يا بلالُ أنَّ الصَّائمَ تسبِّحُ عظامُه، وتستغفِرُ له الملائكةُ ما أُكِلَ عندَه؟)) رواه البيهقي في ((شعبِ الإيمان)). (8) باب ليلة القدر الفصل الأول 2083 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحرَّوا ليلةَ القدْرِ في الوِتْرِ من العَشْرِ الأواخرِ منْ رمضانَ)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن بريدة: قوله: ((الغداء)) منصوب بفعل مضمر، أي احضر الغداء، أو هلم إليه، أو ائت. والغداء الطعام بعينه، والظاهر أن يقال: رزق بلال في الجنة، فقال: فضل رزقه، إشعارًا بأن رزقه الذي هو بدل هذا الرزق زيادة علي هذا، وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا ليس للوجوب. باب ليلة القدر ((مح)): قال العلماء: سميت ليلة القدر؛ لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار، والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة؛ لقوله تعالي: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وقوله تعالي: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالي به، وتقديره له. وقيل: سميت بها لعظم قدرها وشرفها، وأجمع من يعتد به علي وجودها ودوامها إلي آخر الدهر؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة.

2084 - وعن ابنِ عمر، قال: إِنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أًروا ليلة القَدْرِ في المنامِ في السبع الأواخر، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أرَى رؤياكم، قد تواطأت في السبع الأواخرِ، فمن كان مُتحرِّيها فلْيَتَحرَّها في السبع الأواخر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاض عياض: واختلفوا في محلها، فقال جماعة: هي منتقلة، تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى. وهذا الجمع بين الأحاديث المختلفة أوقاتها وهو قول مالك، والثورى، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم، قالوا: إنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: إنها معينة لا تنتقل أبدًا، وقيل: هي في السنة كلها، وهو قول ابن مسعود، وأبي خيفة، وقيل: هي في شهر رمضان كله، وهو قول ابن عمر وجماعة من أصحابه، وقيل: تختص بأوتار العشر. ((تو)): إنما جاء ((القدر)) بتسكين الدال، وإن كان الشائع في القدر - الذي هو قرينة القضاء - فتح الدال؛ ليعلم أنه لم يرد به ذلك، فإن القضاء سبق الزمان، وإنما أريد به تفصيل ما قد جرى به القضاء، وتبيينه وتجديده في المدة التي بعدها إلي مثلها من القابل ليحصل ما يلقى إليهم فيها مقدارًا بمقدار. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تحروا)) ((نه)): أي تعمدوا طلبها فيها، والتحرى القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم علي تخصيص الشيء بالفعل والقول. الحديث الثانى عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أروا)) أصله أريوا من الرؤيا، أي خيل لهم في المنام. قوله: ((تواطت)) ((مح)): هكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء، وهو مهموز، وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء، ولابد من قراءته مهموزًا، قال الله تعالي {ليواطئوا عدة ما حرم الله}. ((تو)): المواطأة: الموافقة، وأصله أن يطأ الرجل برجله موطئ صاحبه، وقد رواه بعضهم بالهمزة، وهو الأصل. ((والسبع الأواخر)) يحتمل أن يراد بها السبع التي تلي آخر الشهر، وأن يراد بها السبع بعد العشرين وحمله علي هذا أمثل لتناوله إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. وقوله ((فليتحرها في السبع الأواخر)) لاينافي قوله: ((فالتمسوها في العشر الأواخر))؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث بميقاتها مجزومًا، فذهب كل واحد من الصحابة بما سمعه، أو رآه هو. وقال الشافعى: والذي عندى - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب علي نحو ما يسأل عنه، يقال له تلتمسها في ليلة كذا، فيقول: التمسوها في ليلة كذا، فعلي هذا نوع اختيار كل فريق من أهل العلم، والذاهبون إلي سبع وعشرين، هم الأكثرون. ويحتمل أن فريقًا منهم علم بالتوقيف، ولم يؤذن له في الكشف عنه؛ لما كان في حكمة الله البالغة في تعميتها علي العموم؛ لئلا يتكلوا، وليزدادوا جدًا واجتهادًا في طلبها، ولهذا السر أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنسى.

2085 - وعن ابن عبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشرِ الأواخرِ منْ رمضان، ليلَةَ القدرِ: في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى)) رواه البخاري. 2086 - وعن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضان، ثمَّ اعتكفَ العشرَ الأوسطَ في قبَّةٍ تُرْكيَّةٍ، ثمَّ أطلعَ رأسهُ نقال: ((إني أعتكفُ العشر الأوَّل ألتمس هذه الليلةَ، ثمَّ أعتكفُ العشر الأوسطَ، ثمَّ أتيت فقيل لي: ((إنها في العشرِ الأواخرِ، فمن كان اعتكفَ معى فليعتكفِ العشر الأواخر، فقد أريتُ هذه الليلةَ، ثم أُنْسيتُها، وقد رأيْتُني أسجدُ في ماء وطينٍ من صبيحتها، فالتمسُوها في العشر الأواخرِ والتمسُوها في كلّ وترٍ)). قال: فمَطَرتِ السماءُ تلْكَ الليلةَ، وكان المسجدُ علي عَريشٍ، فوَكفَ المسجدُ، فبصُرَتْ عينايَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلي جبهتهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((التمسوها)) الضمير المنصوب مبهم، يفسره قوله: {ليلة القدر} كقوله تعالي: {فسواهن سبع سموات} وليس في نسخ المصابيح هذا الضمير. وقوله: ((في تاسعة تبقى)) إلي آخره بدل من قوله: ((في العشر الأواخر)) و ((تبقى)) صفة لما قبله من العدد. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله: ((قبة تركية)) ((مح)): أي قبة صغيرة من لبود. قوله: ((إنى أعتكف العشر الأول)) والظاهر أن يقال: اعتكف، وهو علي حكاية الحال الماضية تصويرًا لها، وأنه صلى الله عليه وسلم ما قصر في تحريها والتماسها، وإنما أمر بالاعتكاف لمن كان معه في العشر الأول والأوسط، لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف، والتحرى، والأمر بالاعتكاف للدوام والثبات فيه. [((نه))]: في بعض النسخ لمسلم ((فليثبت)) من الثبوت، وفي بعضها ((فليلبث)) من اللبث، وفي أكثرها ((فليبت في معتكفه)) من المبيت وكله صحيح. قوله: [((نه))] ((العريش)) والعرش كل ما يستظل به، ((وكف المسجد)) أي قطر ماء المطر، من سقفه. قوله: ((فبصرت عينأي)) هو مثل قولك: أخذت بيدى، ونظرة بعينى. وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهارًا للتعجب من حصول تلك الحالة الغريبة. ومن ثم أوقع ((رسول الله)) مفعولاً، ((وعلي جبهته)) حالاً منه، وكان من الظاهر أن يقال: رأيت علي جبهة رسول الله

أثرُ الماءِ والطينِ من صبيحةِ إحدى وعشرين. متفق عليه في المعنى. واللَّفظُ لمسلم إلي قوله: ((فقيل لي: إنها في العشر الأواخر)) والباقي للبخاري. 2087 - وفي رواية عبد الله بن إنيس قال: ((ليلة ثلاث وعشرين)) رواه مسلم. 2088 - وعن زرِّ بنِ حُبَيْشٍ قال: سألتُ أُبيَّ بن كعبٍ فقلت: إنَّ أخاكَ ابن مسعود يقول: من يَقُم الحولَ يُصِبْ ليلة القدر. فقال: رَحِمَهُ الله، أراد أن لا يتكل الناسُ أما إِنَّه قد عَلِمَ أنها في رمضانَ، وأنها في العشرِ الأواخر، وأنها ليلةُ سبعٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم أثر الماء والطين. فإن قلت: لم خولف بين الأوصاف، فوصف العشر الأول والأوسط بالمفرد، والآخر بالجمع؟ قلت: ((تصور في كل ليل من الليالي العشر الأخير كليلة القدر فجمعه، ولا كذلك في العشرين،. ((مح)): ((ثم اعتكف في العشر الأوسط)) كذا في جميع نسخ مسلم، والمشهور في الاستعمال تإنيث العشر، وتذكيره أيضًا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو باعتبار الوقت والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم. ((حس)): وفيه دليل علي وجوب السجود علي الجبهة، ولولا ذلك لصانها عن الطين. وفيه أن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد يكون تأويله أن يرى مثله في اليقظة. ((مح)): قال البخاري: كان الحميدى يحتج بهذا الحديث علي أن السنة للمصلي أن لايمسح جبهته في الصلاة، وكذا قال العلماء: هذا محمول علي أنه كان شيئًا يسيرًا لايمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض، فإنه لو كان كثيرًا لم تصح صلاته. قوله: ((في حديث عبد الله بن إنيس)) ولو قال: في روايته لكان أولي؛ لأنه ليس بحديث آخر، بل رواية أخرى فيه، والاختلاف في زيادة ليلة واختلاف العدد بأنة ثلاث وعشرون، أو إحدى وعشرون. الحديث الخامس عن زر بن حبيش: قوله: ((سألت أبي بن كعب فقلت)) أي أردت أن أسأله فقلت، كقوله تعالي: {إذا قرأت القرآن فاستعذ} قوله: ((ثم حلف لا يستثنى)) قيل: هو قول الرجل ((إن شاء الله)) يقال: حلف فلان يمينًا ليس فيها ثنا، ولاثنى ولا ثنية، ولا استثناء، كلها واحد، وأصلها من الثنى، وهو الكف والرد، وذلك أن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد انعقاد ذلك اليمين. فإن قلت: فقد جزم أبي علي اختصاصها بليلة مخصوصة، وحمل كلام ابن مسعود علي العموم مع إرادة الخصوص، فهل هو إخبار عن الشيء علي خلاف ما هو به، فإن بين العموم

وعشرين، ثمَّ حلفَ لايستثنى أنها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ. فَقُلْتُ: بأيّ شيءٍ تقولُ ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامةِ - أو بالآيةِ - التي أخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنهاَ تطْلُعُ يومئذٍ لاشُعاع لها. رواه مسلم. 2089 - وعن عائشة، قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ مالا يجتهد في غيره. رواه مسلم. 2090 - وعنها، قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ العشرُ شدَّ مئزَرَهُ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والخصوص تنافيًا؟ قلت: لا، إذا ذهب إلي التعريض، كما قال إبرا هيم عليه السلام في سارة ((أختى)) تعريضًا بأنها أخته في الدين. قوله: ((لا شعاع لها)) ((مح)): الشعاع هو ما ترى من ضوء الشمس عند ذرورها مثل الحبال والقضبان، مقبلة إليك إذا نظرت إليها. قيل: معنى ((لا شعاع لها)) أن الملائكة لكثرة اختلافها في ليلتها، ونزولها إلي الأرض وصعودها، تستر بأجنحتها، وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس. الحديث السادس والسابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((شد مئزره)) ((مح)): قيل: معنى شد المئزر الاجتهاد في العبادات زيادة علي عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه التشمر في العبادة، يقال: شددت في هذا الأمر مئزرى، أي تشمرت له وتفرغت. وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وترك النكاح، ودواعيه، وأسبابه. ((نه)): أو هو كناية عن التشمر للعبادة، والاعتزال عن النساء معًا. أقول: قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، كما إذا قلت: فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته، لذلك صلى الله عليه وسلم لا يستبعد أن يكون قد شد مئزره ظاهرًا، وتفرغ للعبادة، واشتغل بها عن غيرها، وإليه يرمز قول الشاعر: دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا قوله: ((أحى ليلته)) [((نه))]: أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها. وأما قول أصحابنا: يكره قيام الليل كله، فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة، أو ليلتين، والعشر. واتفقوا علي استحباب إحياء ليلتى العيد وغير ذلك. وأقول: وفي إحياء الليل وجهان: أحدهما راجع إلي نفس العابد، فإن العابد إذا اشتغل بالعبادة عن النوم الذي هو بمنزلة الموت، فكأنما أحى نفسه، كما قال الله تعالي: {الله يتوفي

الفصل الثاني 2091 - عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمتُ أي ليلة القدر، ما أقولُ فيها. قال: ((قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنى)) رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذى وصححه. [2091] 2092 - وعن أبي بكرةَ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((التمسوها _ يعنى ليلة القدر - في تسع يَبْقَيْنَ، أو في سبع يَبْقَيْنَ، أو في خمس يَبْقَيْنَ، أو ثلاثٍ، أو آخر ليلة)) رواه الترمذى. [2092] 2093 - وعن ابن عمر، قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال: ((هي في كل رمضانَ)) رواه أبو داود وقال: رواه سفيان وشعبةُ، عن أبي إسحاق موقوفًا علي ابن عمر. [2093] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}، وثإنيهما: أنه راجع إلي نفس الليل، فإن ليلة لما صار بمنزلة نهاره في القيام فيه، كأنه أحياه، وزينه بالطاعة والعبادة، ومنه قوله تعالي: {فانظر إلي آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها} فمن اجتهد فيه، وأحياه كله وفر نصيبه منها، ومن قام في بعضه أخذ نصيبه بقدر ما قام فيها، وإليه لمح سعيد بن المسيب بقوله: ((من شهد العشاء ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها)). الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أي ليلة)) مبتدأ و ((ليلة القدر)) خبره، والجملة سدت مسد المفعولين لـ ((علمت)) تعليقًا: و ((ما أقول فيها)) جواب الشرط، وكان الواجب أن يأتى بالفاء للاستفهام، ولعله سقط من الناسخ. وفيه دليل علي أن طلب العفو رأس كل خير، وفتح باب كل فلاح ونجاة؛ لأنه يستعد به للزلفي إلي الجناب الأقدس. الحديث الثانى عن أبي بكرة: قوله: ((أواخر ليلة)) يحتمل التسع، أو السلخ، رجحنا الأول بقرينة الأوتار. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((هي في كل رمضان)) يحتمل وجهين، أحدهما: أنها واقعة في كل رمضان من الأعوام، فيختص به، فلا يتعدَّى إلي سائر الشهور.

2094 - وعن عبد الله بن إنيس، قال: قلت: يا رسول الله إنَّ لي باديةً أكونُ فيها، وأنا أُصلي فيها بحمدِ اللهِ، فمرنى بليلةٍ أنزلها إلي هذا المسجد. فقال: ((انزلْ ليلة ثلاثٍ وعشرين)). قيل لابنه: كيف كان أبوك يصنعُ؟ قال: كان يدخلُ المسجدَ إذا صلي العصرَ، فلا يخرجُ منهُ لحاجةٍ حتى يُصلي الصبحَ، فإذا صلي الصبحَ وجدَ دابَّته علي باب المسجدِ، فجلسَ عليها ولحقَ بباديته. رواه أبو داود. [2094] الفصل الثالث 2095 - عن عُبادةَ بنِ الصُّامِتِ، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليُخبرنا بليلةِ القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجتُ لأخبرَكم بليلة القدر، فتلاحى فلانٌ وفلانٌ فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعةِ، والسابعةِ والخامسةِ)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتإنيهما: أنها واقعة في كل أيام رمضان، فلا يختص بالبعض الذي هو العشر الآخر؛ لأن البعض في مقابلة الكل، فلا ينافي وقوعها في سائر الشهور، اللهم إلا أن يختص بدليل خارجي. ويتفرع علي الوجه الثانى ما إذا علق الطلاق بدخول ليلة القدر في الليلة الثانية من شهر رمضان فما دونها، إلي السلخ، فلا يقع الطلاق إلا في السنة القابلة في ذلك الوقت الذي علق الطلاق فيه، بخلاف غرة الليلة الأولي، فإن الطلاق يقع في السلخ. الحديث الرابع عن عبد الله بن إنيس: قوله: ((أنزلها إلي هذا المسجد)) أي أنزل فيها قاصدًا إلي هذا المسجد، أو منتهيًا إليه. قوله: ((فلا يخرج منه لحاجة)) كذا في سنن أبي داود، وجامع الأصول. وفي شرح السنة والمصابيح ((فلم يخرج إلا في حاجة)) والتفكير في ((حاجة)) للتنويع، فعلي الأول معناه لا يخرج لحاجة منافية للاعتكاف، كما سيجىء في باب الاعتكاف في حديث عائشة رضي الله عنها. وعلي الثانى: فلا يخرج الا في حاجة يضطر إليها المعتكف. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبادة: قوله: ((فتلاحى رجلان)) ((نه)): نهيت عن ملاحاة الرجال، أي مقاولتهم ومخاصمتهم، ولاحيته ملاحاةً إذا نازعته. قوله: ((فرفعت)) قيل: رفعت معرفة ليلة القدر لتلاحى الناس. أقول: لعل مقدر المضاف ذهب إلي أن رفع ليلة القدر مسبوق بوقوعها، وحصولها، فإذا حصلت لم يكن لرفعها معنى. ويمكن أن يقال: إن المراد برفعها أنها شرعت أن تقع، فلما

(9) باب الاعتكاف

2096 - وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كانَ ليلةُ القدر نزلَ جبريل [عليه السلام] في كبَكَبَةٍ من الملائكةِ، يُصلون علي كل عبدٍ قائمٍ أو قاعدٍ يذكر الله عز وجل، فإذا كان يومُ عيدهم - يعني يوم فطرهم - باهي بهم ملائكته، فقال يا ملائكتي! ما جزاءُ أجيرٍ وفي عمله. قالوا: ربنَّا جزاؤه أن يُوفي أجرهُ. قال: ملائكتي! عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم، ثمَّ خرجوا يعجُّون إلي الدُّعاء، وعزَّتي وجلالي وكرمي وعلوِّي وارتفاع مكإني لأجيبنَّهم. فيقول: ارجعوا فقد غفرتُ لكم، وبدَّلتُ سيئاتِكم حسناتٍ. قال: فيرجعون مغفورًا لهم)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [2096] (9) باب الاعتكاف الفصل الأول 2097 - عن عائشة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشر الأواخرَ من رمضانَ حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ تلاحيا ارتفعت، فنزل الشروع منزلة الوقوع، ومن ثم عقبة بقوله: ((فالتمسوها في التاسعة)) أي التمسوا وقوعها لامعرفتها. الحديث الثانى عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في كبكبة)) ((نه)): هي - بالضم والفتح - الجماعة المتضامة من الناس وغيرهم. قوله: ((باهي بهم)) ((نه)): المباهاة المفاخرة، وقد باها به يباهي مباهاة. أقول: هذه المباهاة مثل المخاصمة في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالي: ((فيم يختصم الملأ الأعلي؟ قال: في الكفارات)) إلي آخره، وهي غبطة الملائكة فيما يختص به الإنسان مما ليس لهم فيه حظ، وهي ها هنا الصوم، وقيام الليل، وإحياؤه والذكر فيه، وغيرها من الطاعات والعبادات، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدع شهوته وطعامه من أجلي)) ومن ثم فسر يوم العيد بـ ((يوم الفطر)) وأضافه إليه، والعج رفع الصوت بالدعاء. قوله: ((وارتفاع مكانى)) كناية عن علو شأنه، وعظمة سلطانه، وإلا فالله تعالي منزه عن المكان، وما ينسب إليه من العلو والسفل. باب الاعتكاف ((مح)): الاعتكاف لغة: الحبس، والمكث، واللزوم، وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. ومذهب الشافعى وأصحابه: أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف، ويصح الاعتكاف ساعة واحدة، وهو يحصل بمكث يزيد علي طمإنينة الركوع. ولنا

توفَّاه اللهُ، ثم اعتكف أزواجُهُ من بعدِه. متفق عليه. 2098 - وعن ابن عبَّاس، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود النَّاس بالخير، وكانَ أجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ، وكان جبريل يلقاه كلَّ ليلةٍ في رمضانَ، يعرِضُ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فإذا لقيه جبريلُ كانَ أجودَ بالخيرِ من الرَّيحِ الُمرسلَةِ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجه: أنه يصح اعتكافه المار في المسجد، والمشهور الأول، فينبغى لكل حابس في المسجد لانتظار الصلاة، أو لشغل آخر من آخرة أو دنيا: أن ينوى الاعتكاف، فإذا خرج ثم دخل يجدد النية، ولو تكلم بكلام دنيا، أو عمل صنعة لم يبطل الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف ليس إلا لبثًا في المسجد مع النية. الفصل الأول الحديث الأول والثانى عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أجود الناس بالخير)) ((تو)): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمح بالموجود، لكونه مطبوعًا علي الجود مستغنيًا عن الفإنيات بالباقيات الصالحات، إذا بدا له عرض من أعراض الدنيا لم يعره مؤخر عينيه وإن عز وكثر ببذل المعروف قبل أن يسأل. وكان إذا أحسن عاد، وإن وجد جاد، وإن لم يجد وعد ولم يخلف الميعاد. وكان يظهر منه أكثر آثار ذلك في رمضان أكثر مما يظهر منه في غيره؛ لمعان، أحدها: أنه موسم الخيرات، وثإنيها: أن الله تعالي يتفضل علي عباده في ذلك الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره، وكان صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله تعالي في عباده، وثالثها: أنه كان يصادف البشرى من الله بملاقاة أمين الوحى، وبتتابع إمداد الكرامة عليه في سواد الليل وبياض النهار، فيجد في مقام البسط حلاوة الوجد، وبشاشة الوجدان، فينعم علي عباد الله بما يمكنه مما أنعم الله عليه، ويحسن إليهم كما أحسن الله إليه شكرًا لله علي ما آتاه. قوله: ((وكان أجود من الريح المرسلة)) قيل: يحتمل أنه أراد بها التي أرسلت بالبشرى بين يدى رحمة الله تعالي، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها. قال الله تعالي: {والمرسلات عرفَا} وأحد الوجوه في الآية: أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف. ويكون انتصاب ((عرفَا)) بالمفعول له. فلهذه المعانى المذكورة في المرسلة، شبه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد، وشتان ما بين الأثرين؛ فإن أحدهما يحيى القلب بعد موته، والآخر يحيى الأرض بعد موتها. وإنما لم يقتصر في تأويل الخير علي ما يبذله من مال، ويوصله من احتاج؛ لما عرفنا من تنوع أغراض المعترين إليه، واختلاف حاجات السائلين عنه،

2099 - وعن أبي هريرةَ، قال: كانَ يُعرض علي النبي صلى الله عليه وسلم القرآنُ كلَّ عام مرَّةً، فعُرِضَ عليه مرَّتينِ في العام الذي قُبضَ، وكانَ يعتكِفُ كلَّ عامٍ عشرًا، فاعتكفَ عشرينَ في العامِ الذي قُبضَ. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان صلى الله عليه وسلم يجود علي كل واحد منهم بما يسد خلته، وينقع غلته، ويشفي علته، وذلك المراد من قوله: ((أجود بالخير من الريح المرسلة)). ((مظ)): ((ما)) في ((ما يكون)) مصدرية، وهو جمع؛ لأن أفعل التفضيل إنما يضاف إلي جمع. والتقدير: وكان أجود أكوانه في رمضان. وأقول: لا نزاع في أن ((ما)) مصدرية، والوقت مقدر، كما في مقدم الحاج، والتقدير: كان أجود أوقاته وقت كونه في رمضان، فإسناد الجود إلي أوقاته صلى الله عليه وسلم كإسناد الصوم إلي النهار، والقيام إلي الليل في قولك: نهاره صائم وليله قائم. وفيه من المبالغة ما لا يخفي. وقوله: ((كان جبريل)) إلي آخره استئناف وتخصيص بعد تخصيص علي سبيل الترقى. فضل أولاً جوده مطلقًا علي جود الناس كلهم، ثم فضل ثإنيا جود كونه في رمضان علي جوده في سائر أوقاته، ثم فضل ثالثًا جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل علي جوده في رمضان مطلقًا، ثم شبهه بالريح، ووصفها بالمرسلة، ولا ارتياب أن مرسلها هو الله تعالي، وهو من صفات جوده علي الخلق طرًا، {وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدى رحمته} وأكرم بجود مشبه بجود الله تعالي. فإن قلت: أي مناسبة لهذا الحديث بباب الاعتكاف؟ قلت: من حيث إتيان أفضل ملائكة إلي أفضل خليقة بأفضل كلام من أفضل متكلم في أفضل أوقات، فالمناسب أن يكون في أفضل بقاع. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كان يعرض علي النبي صلى الله عليه وسلم)) ((مظ)): يعنى يأتيه جبريل عليه السلام، ويقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن عليه من أوله إلي آخره؛ لتجديد اللفظ، وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها؛ وليكون سنة في حق الأمة لتجدد التلامذة علي الشيوخ قراءتهم. أقول: لا يساعد هذا التأويل تعدية ((يعرض)) بـ ((علي))؛ لأن المعروض عليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذي يساعد عليه ما روى في شرح الله عن أبي عبد الرحمن السلمى: قرأ زيد بن ثابت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين. اللهم إلا أن يحمل علي باب القلب، كنحو قولهم: عرضت الناقة علي الحوض، أي الحوض علي الناقة، ويؤيده ما وواه أيضًا: أن زيد بن تابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي جبريل عليه السلام. وروى أيضًا: أن قراءة زيد هي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي جبريل عليه السلام مرتين في العام الذي قبض فيه. والله أعلم.

2100 - وعن عائشةَ، قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدْنى إلي رأسَه وهوَ في المسجدِ، فأرجلُه، وكانَ لا يدخل البيت إلاَّ لحاجةِ الإنسانِ. متفق عليه. 2101 - وعن ابن عمرَ: أنَّ عمرَ سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنُت نَذَرْتُ في الجاهلية أن أعتكفَ ليلةً في المسجد الحرام؟ قال: ((فأوف بنذرِكَ)) متفق عليه. الفصل الثاني 2102 - عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكفُ في العشرِ الأواخر من رمضانَ، فلم يعتكف عامًا. فلمَّا كان العامُ المقبِلُ اعتكفَ عشرينَ رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله ((أدنى إلي رأسه)) ((خط)): فيه من الفقه أن المعتكف ممنوع من الخروج إلا لغائط أو بول، وفيه أن ترجيل الشعر أي استعمال المشط فيه مباح للمعتكف، وفي معناه حلق الرأس، وتقليم الأظفار، وتنظيف البدن من الدرن. وفيه: أن من حلف لا يدخل بيتًا فأدخل رأسه فيه وسائر بدنه خارج، لا يحنث. وفيه أن بدن الحائض طاهر غير نجس. أقول: أضافت الحاجة إلي الإنسان لتنبه علي أن الخروج لا يضر إلي مما يضطر إليه الإنسان من الأكل والشرب، ودفع الأخبثين. وأما إذا خرج إلي ما له بد منه بطل اعتكافه إن نوى أيامًا متتابعة، ويلزمه الاستئناف، وإن لم ينو التتابع لم يستأنف، وحمل له ثواب الوقت الذي اعتكف فيه. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كنت نذرت في الجاهلية)) [((مظ))]: فيه من الفقه: أن نذر الجاهلية إذا كان علي وفاق حكم الإسلام كان معمولاً به، ويجب عليه الوفاء به بعد الإسلام. وفيه دليل علي أن من حلف في كفره فأسلم ثم حنث يلزمه الكفارة، وهو مذهب الشافعى رضي الله عنه، وكذلك ظهاره صحيح موجب للكفارة. وفي الحديث دليل علي أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف، وعلي أنه لو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام، لا يخرج عن النذر بالاعتكاف في موضع آخر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اعتكف عشرين)) ((خط)): في الحديث من الفقه: أن النوافل المؤقتة تقضى إذا فاتت، كما تقضى الفرائض. وفيه مستدل لمن جوز الاعتكاف يغير صوم، وهو قول الشافعى رضي الله عنه، وذلك؛ لأن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر؛ لأن الوقت مستحق له لا للاعتكاف.

2103 - ورواه أبو داود، وابنُ ماجه عنْ أبي بنِ كعب. [2103] 2104 - وعن عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أنْ يعتكف صلي الفجر ثمَّ دخل في مُعتكفِه. رواه أبو داود، وابنُ ماجه. [2104] 2105 - وعنها، قالتْ: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودُ المريضَ وهوَ معتكفٌ، فيمُر كما هوَ فلا يُعرِّجُ يسألُ عنه. رواه أبو داود، وابن ماجه. 2106 - وعنها، قالتْ: السُّنَّةُ علي المعتكفِ أن لا يعودَ مريضًا، ولا يشهَدَ جنازةً، ولا يمس المرأةَ، ولا يُباشرها، ولا يخرجَ لحاجةٍ، إلاَّ لما لابدَّ منه، ولا اعتكافَ إلاَّ بصومٍ، ولا اعتكافَ إلاَّ في مسجدٍ جامعٍ. رواه أبو داود. [2106] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((صلي الفجر ثم دخل في معتكفه)) ((مح)): احتج به من يقول: يبدأ بالاعتكاف من أول النهار، وبه قال الأوزاعى، والثورى، والليث في أحد قوليه. وقال مالك، وأبي حنيفة، والشافعى، وأحمد: يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو عشر. وتأولوا الحديث علي: أنه دخل المعتكف، وانقطع فيه، وتخلي بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أنه وقت ابتداء الاعتكاف؛ بل كان من قبل المغرب معتكفًا لابثًا في المسجد، فلما صلي الصبح انفرد. ((تو)): المراد من المعتكف في هذا الحديث الموضع الذي كان يخلو فيه بنفسه من المسجد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينفرد لنفسه موضعًا يستتر فيه عن أعين الناس، وفي معناه ورد الحديث الصحيح ((اتخذ حجرة من حصير)). الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فيمر كما هو)) الكاف صفة مصدر محذوف، و ((ما)) موصولة، ولفظ ((هو)) مبتدأ والخبر محذوف، والجملة صلة، أي يمروا مرورًا مثل الهيئة التي هو عليها، فلا يميل إلي الجوانب، ولا يقف. فيكون قوله: ((ولا يعرج)) بيانًا للمجمل؛ لأن التعريج الإقامة، والميل علي الطريق إلي جانب، وقوله ((يسأل عنه)) بيان لقوله: ((يعود المريض)) علي سبيل الاستئناف. ((مظ)): وفيه: أن من خرج لقضاء حاجة، واتفق له عيادة المريض، والصلاة علي الميت، فلم ينحرف عن الطريق، ولم يقف فيه وقوفًا أكثر من قدر الصلاة علي الميت مثلا، لم يبطل اعتكافه وإلا بطل عند الأئمة الأربعة. وقال الحسن، والنخعى: يجوز الخروج للمعتكف لصلاة الجمعة وعيادة المريض وصلاة الجنازة. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عتها: قوله: ((السنة علي المعتكف)) السنة الدين

ـــــــــــــــــــــــــــــ والشرع. ((خط)): إن أرادت عائشة رضي الله عنها بذلك إضافة هذه الأمور إلي النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً، فهي نصوص لا يجوز خلافها، وإن أرادت به الفتيا علي ما عقلت من السنة، فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، علي أن أبا داود قد ذكر علي أتر هذا الحديث: أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه أنها قالت: ((السنة كذا)) فدل ذلك علي احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها، وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويشبه أن تكون أرادت بقولها: ((لا يعود مريضًا)) أي لا يخرج من معتكفه قاصدًا عيادته، وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج، كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبل هذا. قوله: ((ولا يمس المرأة)) ((حس)): أي لا يجامعها، ولا خلاف في أنه لو جامع يبطل اعتكافه، أما لو قبل، أو باشر فيما دون الفرج فقد اختلفوا فيه، نذهب قوم إلي أنه لا يبطل وإن أنزل، كما لا يفسد به الحج، وهو أظهر قولي الشافعى، ذكر الإمام الرافعى رحمه الله في الشرح الكبير: لو لمس أي المعتكف، أو قبل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج متعمدًا، فهل يفسد اعتكافه؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة علي القولين، أحدهما - ويروى عن الإملاء - أنها تفسده، والثانى - ويروى عن الأم أنها لا تفسد؟ لأنها مباشرة لا تبطل الحج، فلا يبطل الاعتكاف، كالقبلة بغير شهوة. والطريق الثانى: القطع بأنها لا تفسد، حكاه الشيخ أبو محمد أو المسعودى. ثم قال الإمام: لو احتصرت الخلاف في المسألة، قلت: فيها ثلاتة أقوال، أحدها: أنه لا يفسد الاعتكاف أنزل أم لم ينزل، والثانى: تفسده أنزل أم لم ينزل، وبه قال مالك، والثالث، وبه قال أبو حنيفة، والمزنى، وأصحاب أحمد: أن ما أنزل منها أفسد الاعتكاف، وما لا فلا. والمفهوم من كلام الأصحاب بعد الفحص: أن هذا القول أرجح، وإليه ميل أبي إسحاق المروزى، وإن استبعده صاحب المهذب ومن تابعه. أقول: أما الاستدلال بنص القرآن، فإن قوله تعالي: {لا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} نهي، عطف علي الأمر من قوله: {فالآن باشروهن} ولا يستراب أن المراد منه الجماع لما سبق من قوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلي نسائكم} ثم قوله: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} فقوله: {لا تباشروهن} رخصة فيها بعد ما كانت منهية، فيجب الحمل علي الجماع فقط ليتجاوب النظم، فينبغى أن يحمل أظهر قولي الشافعى علي هذا. قوله: ((لا اعتكاف إلا بصوم)) أي لا اعتكاف كاملاً، أو فاضلاً، وإلا فالاعتكاف يصح بدون الصوم كما مر. قوله: ((ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)) ((حس)): فيه دليل أن الاعتكاف يختص

كتاب فضائل القرآن

الفصل الثالث 2107 - عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان إذا اعتكفَ طُرح له فِراشُه، أو يوضعُ لو سريرهُ وراء أسطوانةِ التوبة. رواه ابن ماجه. [2107] 2108 - وعن ابن عباسٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: ((هوَ يعتكفُ الذنوب ويُجرى له منَ الحسنات كعاملِ الحسناتِ كُلِّها)) رواه ابنُ ماجه. [2108] كتاب فضائل القرآن الفصل الأول 2109 - عن عثمان [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من ـــــــــــــــــــــــــــــ بالجامع، وذهب أكثر أهل العلم إلي جوار الاعتكاف في جميع المساجد، قال الله تعالي: {وأنتم عاكفون في المساجد} ولم يفصل. وبه قال الشافعى، وأبو حنيفة، وأصحابه رضي الله عنهم. وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((لا يجوز إلا في المسجد الجامع))، قال مالك، والشافعي: إذا كان اعتكافه أكثر من ستة أيام يجب أن يعتكف في المسجد الجامع؛ لأنه إذا اعتكف في غيره يجب عليه الخروج لصلاة الجمعة، وفيه قطع لاعتكافه، فإن كان أقل من ذلك، أو كان المعتكف ممن لا جمعة عليه، اعتكف في أي مسجد شاء. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أسطوانة التوبة)) لعل إضافتها إليها: أن بعضًا من الصحابة تيب عليه عندها. الحديث الثانى عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في المعتكف)) أي في حقه. و ((الذنوب)) نصب علي نزع الخافض، أي يحتبس عن الذنوب، والتعريف في الحسنات للعهد أي الحسنات التي يمتنع عنها بالاعتكاف، كعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والصلاة عليها، وزيارة الإخوان، وغيرهما. كتاب فضائل القرآن الفضائل جمع فضيلة، وهي ما يزيد به الرجل علي غيره، وأكثر ما يستعمل في الخصائل المحمودة، كما أن الفضول أكثر استعماله في المذموم. الفصل الأول الحديث الأول عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((خيركم من تعلم القرآن)) ((مظ)): يعنى إذا

تعلَّم القرآنَ وعلَّمه)) رواه البخاري. 2110 - وعن عُقبةَ بن عامرٍ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ في الصُّفَّة، فقال: ((أيُّكم يُحبُّ أن يغدُوَ كلَّ يومٍ إلي بُطحانَ أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوينِ في غير إثمٍ ولا قطعِ رحمٍ؟)) فقلنا: يا رسول الله! كلُّنا يُحب ذلك. فقال: ((أفلا يغدو أحدُكم إلي المسجدِ فيُعلِّم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خسرٌ له من ناقةِ أو ناقتينِ، وثلاثٌ خسرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربعٍ، ومن أعدادهنَّ من الإبل)) رواه مسلم. 2111 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُحب أحدُكم إذا رجع إلي أهله أنْ يجدَ فيه ثلاث خلفاتٍ عظامٍ سمانِ؟)) قُلنا: نعم. قال: ((فثلاث آيات يقرأُ بهنَّ أحدُكم في صلاتِه خيرٌ له من ثلاثِ خلفاتٍ عظامٍ سمانٍ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كان خير الكلام كلام الله، فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن، ويعلمه. وأقول: لابد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص، ومن أخلصهما وتخلق بهما، دخل في زمرة النبيين، والصديقين، وكان مفضلاً علي غيره ممن لم يتخلق به. الحديث الثانى عن عقبة: قوله: ((بطحان)) - بضم الباء وسكون الطاء - اسم واد بالمدينة، سمى بذلك لسعته وانبساطه، من البطح، وهو البسط. و ((العقيق)) يريد به العتيق الأصغر، وهو واد علي ثلاثة أميال، وقيل: علي ميلين من المدينة، عليه أموال أهلها. وإنما خصَّهما بالذكر؛ لأنهما أقرب المواضع التي يقام فيها أسواق الإبل إلي المدينة. و ((الكوماء)) الناقة العظيمة السنام المشرفة. وإنما ضرب المثل بها؛ لأنها من خيار مال العرب. قوله: ((في غير إثم)) أي في غير ما يوجب إثمًا، كسرقة، وغصب. سمى موجب الإثم إثمًا مجازًا. قوله: ((فيعلم)) صحح في جامع الأصول - بفتح الياء وسكون العين - أي فيعلم آيتين أو يقرأ، فـ ((أو)) لشك الراوى. قوله: ((خير له)) خير له مبتدأ خبر محذوف، أي هما خير له. قوله: ((ومن أعدادهن من الإبل)) ((قض)): متعلق بمحذوف تقديره: وأكثر من أربع آيات خير من أعدادهن من الإبل، فخمس آيات خير من خمس من الإبل، وكذلك الست والسبع إلي ما فوق من الأعداد. ((شف)): ويحتمل أن يكون المعنى الآيتان خير من ناقتين، ومن أعداد النوق من الإبل، أي الآيات تفضل علي مثل عددها من النوق، ومثل عددها من الإبل. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث خلفات)) ((مح)): الخلفات - بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام - الحوامل من الإبل إلي أن يمضى عليها نصف أمدها، ثم هي عشار. والواحدة خلفة. أقول: ((الفاء)) في ((فثلاث آيات)) جزاء شرط محذوف، فالمعنى: إذا

2112 - وعن عائشةَ، قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهرُ بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأُ القرآن ويتَتَعْمَعُ فيه، وهوَ عليه شاقٌ، له أجراْن)) متفق عليه. 2113 - وعن ابن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لاحَسَدَ إلاَّ علي اثنين: رجُلٍ آتاهُ الله القرآن، فهو يقومُ به آناء الليل وآناءَ النَّهار؛ ورجلٍ آتاهُ الله مالاً، فهو ينفقُ منه آناء الليل وآناءَ النهار)) متفق عليه. 2114 - وعن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنِ الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّةِ، ريحُها طيبٌ، وطعمُها طيبٌ؛ ومثلُ المؤمنِ الذي لا ـــــــــــــــــــــــــــــ تقرر ما زعمتم أنكم تحبون ما ذكرت لكم، فقد صح أن تفضلوا عليها ما أذكره لكم من قراءة ثلاث آيات؛ لأن هذا من الباقيات الصالحات، وتلك من الزائلات الفإنيات. فإن قلت: كان من حق الظاهر أن يعرف ((خلفات)) وصفتيها؛ ليعود إلي تلك المذكورات؟ قلت: لا يستبعد أن يخالف بين التنكيرين، فإن التنكير في الأولي للشيوع وبيان الأجناس، وفي الثانى للتفخيم والتعظيم. ولو ذهب إلي التعريف لم يحسن حسنه. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الماهر بالقرآن)) ((مح)): الماهر الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف في القراءة ولا تشق عليه لجودة حفظه، وإتقانه. و ((السفرة)) جمع سافر، ككاتب وكتبة، وهم الرسل؛ لأنهم يسفرون إلي الناس برسالات الله. وقيل: السفرة الكتبة. و ((البررة)) المطيعون من البر، وهو الطاعة. قال القاضى عياض: يحتمل أن يكون مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة؛ لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله. ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم، وسالك مسلكهم من كون أنهم يحفظونه، ويؤدونه إلي المؤمنين، ويكشفون لهم ما يلتبس عليهم. وأما الذي يتتعتع فيه، أي يتردد في قراءته، ويتلبد فيها لسانه لضعف حفظه فله أجران: أجر بالقراءة، وأجر بالتعب. قال: وليس معناه أن من يتتعتع به أجره أكثر من أجر الماهر. فكيف بذاك، وهو مع السفرة الكرام البررة، أم كيف يلتحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالي وحفظه، وإتقانه، وكثرة تلاوته، ودراسته، كاعتنائه حتى مهر فيه. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا حسد إلا علي اثنين)) قد مضى شرحه مستقصى في الفصل الأول من باب العلم في حديث ابن مسعود. ((مح)): ((آناء الليل)) ساعاتها، واحدها آنا، وأنا، وآنى، وآنو، أربع لغات. الحديث السادس عن أبي موسى: قوله: ((مثل الأترجة)) ((مظ)): فالمؤمن الذي يقرأ القرآن

يقرأُ القرآن مثلُ التمرة، لا ريحَ لها وطعمها حلوٌ؛ ومثلُ المنافق الذي لا يقرأُ القرآنَ كمثلِ الحنظلة، ليس لها ريحٌ وطعمُها مُرٌ ومثلُ المنافقِ الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيْحانةِ، ريحُها طيبٌ وطعمُها مُرٌّ)) متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمنُ الذي يقرأ القرآنَ ويعملُ به كالأترُجَّةِ، والمؤمنُ الذي لا يقرأ القرآنَ ويعمَلُ به كالتَّمرةِ)). ـــــــــــــــــــــــــــــ هكذا من حيث الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن، ومن حيث إنه يقرأ القرآن، ويستريحُ الناس بصوته، ويثابون بالاستماع إليه، ويتعلمون منه مثل الأترجة يستريح الناس برائحتها. ((تو)): الأترجة أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان، وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها، والخواص الموجودة فيها، فمن ذلك: كبر جرمها، وحسن منظرها، وطيب مطعمها، ولين ملمسها، تأخذ الأبصار صبغة ولونًا، فاقع لونها تسر الناظرين، تشوق إليها النفس قبل التناول، يفيد أكلها بعد الالتذاذ بذوائقها، طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوة هضم، اشتركت الحواس الأربع دون الاحتظاء بها: البصر، والذوق، والشم، واللمس. ثم إنها في أجزائها تنقسم علي طبائع، فقشرها حار يابس، ولحمها حار رطب، وحماضها بارد يابس، وبذرها حار مجفف. وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبية، وأية ثمرة تبلغ هذا المبلغ في كمال الخلقة، وشمول المنفعة؟ ثم إنه صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بما ينبته الأرض، ويخرجه الشجر، للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، فخص ما يخرجه الشجر من الأترجة والتمر بالمؤمن، وما تنبته الأرض من الحنظلة والريحانة بالمنافق، تنبيهًا علي علو شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك، وتوقيفًا علي ضعة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلة جدواه. وأقول - والله الموفق للصواب -: اعلم أن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف اشتمل علي معنى معقول صرف لا يبرزه عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد. ثم إن كلام الله المجيد له تأثيره، في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير، وهو المؤمن القارىء. ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق الحقيقى. ومن تأثر ظاهره دون باطنه، وهو المرائى. أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لم يقرأه. وإبراز هذه المعانى وتصويرها في المحسوسات ما هو مذكور في الحديث. ولم يجد ما يوافقها ويلائمها، أقرب ولا أحسن، ولا أجمع من ذلك؛ لأن المشبهات والمشبه بها واردة علي التقسيم الحاصر؛ لأن الناس إما مؤمن، أو غير مؤمن. والثانى: إما منافق صرف، أو ملحق به. والأول إما مواظب علي القراءة، أو غير مواظب

2115 - وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين)) رواه مسلم. 2116 - وعن أبي سعيد الخُدري، أنَّ أسيْدَ بن حُضّيرٍ، قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسُه مربوطة عنده، إذ جالت الفرَس، فسكت فسكنت: فقرأ فجالتْ، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالتِ الفرسُ، فانصرفَ، وكان ابنُه يحيى قريبًا ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها. فعلي هذا قس الأثمار المشبه بها. ووجه التشبيه في المذكورات مركب منتزع من أمرين محسوسين: طعم وريح، وليس بمفرق، كما في قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا لدى وكرها العناب والحشف البالي ثم إن إثبات القراءة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يقرأ القرآن)) علي صيغة المضارع، ونفيه في قوله: ((لا يقرأ)) ليس المراد منها حصولها مرة ونفيها بالكلية، بل المراد منها الاستمرار والدوام عليها، فإن القراءة دأبه وعادته، أو ليس ذلك من هجيراه، كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم. والله أعلم. الحديث السابع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا)) أي من قرأه، وعمل بمقتضاه مخلصًا، لقوله تعالي: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} ومن قرأه مرائيًا يضعه أسفل السافلين، لقوله تعالي: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور}. الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((جالت الفرس)) ((نه)): جال يجول جولة إذا دار. قوله: ((اقرأ يا ابن حضير)) ((مح)): ((اقرأ)) معناه كان ينبغى أن تستمر علي القراءة، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هي سبب بقائها. أقول: يريد أن ((اقرأ)) لفظة أمر طلب للقراءة في الحال، ومعناه تخصيص وطلب للاستزادة في الزمان الماضي، هذا كما إذا حكى صاحبك عندك ما جرى في الزمان الماضى مما يجب أن يفعله، أي هلا زدت، كأنه صلى الله عليه وسلم استحضر تلك الحالة العجيبة الشأن، فيأمره تحريضًا عليه. وكأن هذا من توارد الخواطر ووقوع الحافر علي الحافر، والدليل علي أن المراد من الأمر الاستزادة وطلب دوام القراءة، والنهي عن قطعها، قوله في الجواب: ((أشفقت يا رسول الله)) أي خفت إن دمت عليها أن يطأ الفرس ولدى يحيى.

منها، فأشْفقَ أن تُصيبَه، ولما أخرَّه رفعَ رأسه إلي السماء، فإذا مثلُ الظُّلة، فيها أمثالُ المصابيحِ، فلمَّا أصبحَ حدَّث النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اقرأ يابن حُضيرٍ! اقرأ يابن حُضَيرٍ!)) قال: فأشفقتُ يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكانَ منها قريبًا، فانصرفت إليهِ، ورفعت رأسي إلي السَّماء، فإذا مثل الظُّلةِ، فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أَراها. قال: ((وتدري ما ذاكَ؟)) قال: لا. قال: ((تلكَ الملائكةُ دَنَتْ لصوتِكَ، ولو قرأت لأصبحت ينظرُ الناس إليها لا تتوارى منهم)) متفق عليه، واللفظ للبخاريِّ، وفي مسلم: عرَجَتْ في الجوِّ، بدل: فخرجتُ علي صيغة المتكلم. 2117 - وعن البراء، قال: كان رجلٌ يقرأُ سورة الكهف، وإلي جانِبِه حصانٌ مربوطٌ بشطنين، فتغشَّتهُ سحَابةٌ، فجَعَلتْ تدنو وتدنو، وجعلَ فرسُهُ ينفِر، فلما أصبحَ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: ((تلكَ السكينةُ تنزلت بالقرآنِ)) متفق عليه. 2118 - وعن أبي سعيد بن المعَلي، قال: كنتُ أُصلي في المسجد فدعإني النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم أُجبهُ [حتى صليتُ] ثم أتيته فقلتُ: يا رسول الله! إنى كنتُ أُصلي. قال: ((ألم يقل اللهُ: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} ثم قال: ((ألا أعلمُكَ أعظمَ سورةٍ في القرآن قبل أن تخرُجَ من المسجد؟)) فأخذ بيدي، فلما أردْنا أن نخرُجَ قلتُ: يا رسول الله! قلتَ لأعَلِّمنَّكَ أعظمَ سورةٍ من القرآن قال: {الحمد لله ربِّ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن البراء: قوله: ((حصان مربوط بشطنين)) ((تو)): الحصان - بكسر الحاء - الكريم من فحولة الخيل، يقال فرس حصان بين التحصين والتحصن، وسمى به؛ لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا علي كريمة، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانًا. والشطن - بفتح الطاء - الحبل. وقيل: هو الحبل الطويل، وإنما ذكر الربط بشطنين، تنبيهًا علي جموحه واستصعابه. قوله: ((تلك السكينة)) في الغريبين: هي السكون والطمإنينة. قال بعضهم: هي الرحمة، وقيل: الوقار، وما يسكن به الإنسان. وقوله: ((بالقرآن)) أي بسببه، ولأجله. ((تو)): وإظهار أمثال هذه الآيات علي العباد من باب التأييد الإلهي يؤيد بها المؤمن، فيزداد يقينًا ويطمئن قلبه إذا كوشف بها. الحديث العاشر عن أبي سعيد بن المعلي: قوله: ((أعظم سورة)) ((تو)): السورة كل منزلة من

العالمين} هي السبعُ المثانى، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ البناء، ومنها سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد المنزلة مقطوعة عن الأخرى، أو لأنها من سور المدينة تشبيهًا بها؛ لكونها محيطة بها إحاطة السور بالمدينة، وإنما قال: ((أعظم سورة)) اعتبارًا بعظم قدرها، وتفردها بالخاصية التي لم يشاركها فيها غيرها من السور، ولاشتمالها علي فوائد ومعان كثيرة مع وجارة ألفاظها. ولذلك سميت أم القرآن لاشتمالها علي المعانى التي في القرآن من الثناء علي الله بما هو أهله، من التعبد بالأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. وقد اختلفوا في تفسير ((المثانى))، فمن قائل: إنه من التثنية، ومن قائل: إنه من المثنا جمع مثناة، أو مثنية صفة للآية، فعلي الأول معناها أنها تثنى علي مرور الأوقات أي تكرر، فلا تنقطع، وتدرس فلا تندرس، وقيل: لما يثنى ويتجدد من فوائد حالاً فحالاً، ولا يبعد أن يحمل علي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما من آية إلا ولها ظهر وبطن)) وعلي الثانى أنها لاشتمالها علي ما هو ثناء علي الله تعالي، فكأنها تثنى علي الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلي، أو لأنها أبدًا تدعو بوصفها المعجز إلي غرابة المنظم، وغرارة المعنى إلي الثناء عليها، ثم علي من يتعلمها، ويعمل بها. فإن قيل: في الحديث ((السبع المثانى)) وفي الكتاب ((سبعًا من المثانى)). قلنا: لا اختلاف في الصيغتين إذا جعلنا ((من)) للبيان. فإن قيل: كيف صح عطف ((القرآن)) علي ((السبع المثانى))، وعطف الشيء علي نفسه مما لا يجوز؟ قلنا: ليس بذلك، وإنما هو من باب ذكر الشىء بوصفين: أحدهما معطوف علي الآخر، والتقدير: آتيناك ما يقال له: السبع المثانى والقرآن العظيم، أي الجامع لهذين النعتين، والسبع بيان لعدد آياتها. وأقول: لا يبعد أن يكون التعريف في السبع للعهد، والمشار إليه ما في القرآن، كقوله تعالي: {أرسلنا إلي فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول} وتنكير ((سبعًا)) في التنزيل للتعظيم والتفخيم، ويشهد له ما يتبعه من قوله: {لا تمدن عينيك إلي ما منَّعْنا به أزواجًا منهم} أي ولقد آتيناك هذا العظيم الشأن الذي لا يوازيه شىء، فلا تطمح عينك إلي هذا الدنىء الحقير. وأما عطف ((القرآن)) علي ((السبع المثانى)) المراد منه الفاتحة، فمن باب عطف العام علي الخاص، تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن)) حيت نكر السورة، وأفردها؛ ليدل علي أنك إذا تقصيت سورة سورة في القرآن، وجدتها أعظم منها. ونظيره في النسق ((لكن)) من عطف الخاص علي العام قوله تعالي: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}. قوله: ((قال: الحمد لله)) ((قض)): هو خبر مبتدأ محذوف، أي هي السورة التي مستهلها

2119 - وعن أبي هريرة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر. إنَّ الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم. 2120 - وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الحمد لله)). ((تو)): الحمد أعلي مقامات العبودية. وإلي هذا المعني أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((بيدي لواء الحمد يوم القيامة)) وإنما يؤتى لواء محمد، لأنه أحمد الحامدين، ولا منزلة فوق ذلك. ومنه اشتق اسمه، وبه فتح كتابه، وبه ختم حاله، ووصف به مقامه، وهو المقام الذي لا يقومه أحد غيره. ((حس)): وفي الحديث دليل علي أن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة* لا تبطلها، كما أنك تخاطبه بقولك: ((السلام عليك أيها النبي))، ومثله يبطل الصلاة مع غيره. الحديث الحادى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر)) ((قض)): أي كالمقابر خالية عن الذكر، والطاعة. واجعلوا لها نصيباً من القراءة والصلاة. فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه البقرة، أي يئس من إغواء أهله وتسويلهم، لما يرى من جدهم في الدين، ورسخوهم في الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ البقرة وآل عمران جد فينا)) وذلك لما في حفظهما والمواظبة علي تلاوتهما من الكلفة والمشقة، واشتمالهما علي الحكم، وبيان الشرائع، والقصص، والمواعظ، والوقائع الغربية، والمعجزات العجيبة، وذكر خالصة أوليائه والمصطفين من عباده، وتفضيح الشيطان ولعنه، وكشف ما توسل به إلي تسويل آدم وذريته. أقول: قوله: ((إن الشيطان ينفر)) استئناف كالتعليل للنهي، كقوله تعالي: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} فلابد من بيان وجه المناسبة بين التعليل والمعلل. وذلك أن معنى التشبيه، لا تكونوا كالموتى في القبور، عارين عن القراءة والذكر، غير منفرين للشيطان. ونحوه في النهي قوله تعالي: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} نهاهم عن أن تموتوا علي غير الإسلام، والمراد الأمر علي ثباتهم في الإسلام، حيث إذا أدركهم الموت كانوا مسلمين، فكذا ها هنا المراد أمرهم علي قراءة القرآن، والعمل به، والتحري في استنباط معإنيه، والكشف عن حقائقه بحيث يصير ذا جد وحظ وافر من ذلك مراغمة للشيطان. وقوله: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر)) كناية تلويحية عن هذه المعإني. ((حس)): في الحديث دليل علي أنه يجوز أن يقال: سورة البقرة، وكرهه بعضهم. وقال: ينبغي أن يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة، وأمثالها.

فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى عشر عن أبي أمامة: قوله: ((اقرءوا الزهراوين)) الزهراء تإنيث الأزهر، وهو المضئ، ويقال للنيرين: الأزهران، مثل حراسة السورة إياه، وخلاصة بركتهما عن حر الموقف، وكرب يوم القيامة بإظلال أحد هذه الأشياء الثلاثة. والغمامة السحابة. والغيابة كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه مثل السحابة وغيرها، ويقال: غيأي القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلوه، كذا في الغريبين. والفرقان القطعتان، والفرق، والفريق، والفرقة القطعة. والصواف الباسطات أجنحتها متصلاً بعضها ببعض جمع صافة. ((حس)): (أو)) في الحديث للتنويع لا لشك الراوي، لاتساق الروايات كلها علي هذا الوجه. قالوا: الأول لمن يقرأهما، ولا يفهم معناهما. والثانى لمن وفق للجمع بين تلاوة اللفظ ورواية المعني. والثالث لمن ضم إليهما تعليم المستعدين، وبيان حقائقها لهم، لا جرم تتمثل له يوم القيامة مساعيه طيوراً صواف، يحرسونه ويحاجون عنه- انتهي كلامه. وإذا تحقق التفاوت في المشبهات يلزم التفاوت في المشبه بها، فالتظليل بالغمامة دون التظليل بالغيابة. فإن الأول عام في كل أحد، والثاني مختص بمثل الملوك، والثالث مختص بمن دعا بقوله: {رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}. ثم في هذا التشبيه من الغرابة أن شبههما أولاً بالنيرين في الإشراق وسطوع النور، وثإنياً بالغمامة والغياية، وبما ينبئ عما يخالف النور من الظل السواد كما في الحديث الذي يلي هذا الحديث ((أو ظلتان سوداوان)) فآذن بهما أن تينك المظلتين علي غير ما عليه المظلة المتعارفة في الدنيا، فإنها وإن كانت لدفع كرب الحر عن صاحبها ولتكرمته، ولكن لم تخل عن نوع كدورة وشائبة نصب وتلك- رزقنا الله منها- مبرأة عن ذلك، لكونهما كالنيرين في النور والإشراق، مسلوبتي الحرارة والكرب. وآذن بالتشبيه الثالث: أنهما مع كونهما مشرقتين مشبهتين بمظلة نبي الله، ثم بولغ فيه فزيد ((تحاجان)) لينبه به علي أن ذينك الفرقين من الطير علي غير ما عليه طير نبي الله، من كونهما حاميتين صاحبهما عما بسوؤه، شبههما أولاً بالنيرين لينبه علي أن مكانهما مما عداهما مكان القمرين بين سائر النجوم فيما ينشعب منهما لذوي الأبصار. ثم أوقع قوله: ((البقرة وآل عمران)) بدلاً منهما مبالغة في الكشف والبيان، كما تقول: هل أدلك علي الأكرم الأفضل فلان، وهو أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك علي فلان الأكرم

2121 - وعن النواس بن سمعان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به. تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملاً أولاً ومفصلاً ثإنياً، وأوقعت البقرة وآلا عمران تفسيراً وإيضاحاً لـ ((الزهراوين))، فجعلتهما علمين في الإشراق والإضاءة، ثم إن هذا البيان أخرج ((الزهراوين)) من الاستعارة إلي التشبيه، كقوله تعالي: {حتى يبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وهو مع كونه تشبيهاً أبلغ من الاستعارة، لا دعاء أنه مفسر مبين للمبهم. قوله: ((اقرءوا سورة البقرة)) تخصيص بعد تخصيص، عم أولاً بقوله: ((اقرءوا القرآن)) وعلق به الشفاعة، وخص منه ثإنياً الزهراوان، ونيط بهما معني التخليص من كرب حر القيامة، والمحاجة عن أصحابهما. وأفراد ثالثاً ((البقرة)) وضم إليها المعإني الثلاث دلالة علي أن لكل منها خاصية لا يقف عليها إلا صاحب الشرع. قوله: ((البطلة)) ((قض)): أي السحرة، عبر عن السحرة بالبطلة، لأن ما يأتونه باطل، سماهم باسم فعلهم. وإنما لم يقدروا علي حفظها ولم يستطيعوا قراءتهما، لزيغهم عن الحق وإتباعهم للوساوس، وانهماكهم في الباطل. وأقول: يحتمل أن يراد بـ ((البطلة)) المؤاخذون من سحرة البيان، حيث تحدي فيها بقوله: {فأتوا بسورة من مثله} فأفحموا وعجزوا. وهو من قوله: صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان سحراً)). وقيل: أرد بـ ((البطلة)) أصحاب البطلة، أي لا يستطيع قراءة ألفاظها، وتدبر معإنيها، والعمل بأوامرها ونواهيها، أصحاب البطالة والكسالة. الحديث الثالث عشر عن النواس: قوله: ((يعملون به)) ((مظ)): هذا إعلام بأن من قرأ القرآن، ولم يعمل به، ولم يحرم حرامه، ولا يحلل حلاله، ولا يعتقد عظمته لم يكن القرآن شفيعاً له يوم القيامة. قوله: ((يقدمه)) الضمير راجع إلي ((القرآن)). قيل: يقدم ثواب القرآن ثوابهما. وقيل: يصور القرآن صورة بحيث يجئ يوم القيامة ويراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد خيرها وشرها صورة ووزناً يوضع في الميزان، فليقبل المؤمن هذا وأمثاله، ويعتقده بإيمانه، لأنه ليس للعقل إلي مثل هذا سبيل، وفي تقدم هاتين السورتين علي القرآن دليل علي أنهما أعظم من غيرهما، لأهما أطول، والأحكام فيهما أكثر. قوله: ((بينهما شرق)) ((نه)): أي ضوء، وهو الشمس، والشق أيضاً. وفي الفائق: هو من

2122 - وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالي معك أعظم؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالي معك أعظم؟)) قلت: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). قال: فضرب في صدري وقال: ((ليهنك العلم يا أبا المنذر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قولهم: شاة شرفاء، أي بينهما فرجة وفصل، لتمييزهما بالتسمية ((تو)): إنما وصفهما بالسواد، لكثافتهما وارتكام البعض منهما علي بعض، وذلك أجدي ما يكون من الظلال في الأمر المطلوب عنهما، ثم بين صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بينهما شرق)) إنهما مع ارتكامهما وكثافتهما لا يستران الضوء، ولا يمحوانه. فعلي هذا الأشبه أن لا يراد بالشرق الشق، ولأنه استغني بقوله: ((ظلتان)) عن بيان البينونة. ((مح)): شرق- بفتح الراء وإسكانها- عن الأكثرين، والأشهر في الرواية واللغة والإسكان. الحديث الرابع عشر عن أبي بن كعب: قوله: ((أتدري أي آية)) ((تو)) اسم معرب يستفهم به، وهو لازم الإضافة. وذلك أن تلحق به تاء التإنيث في إضافته إلي المؤنث، ولك أن تتركها. وقوله: ((معك)) وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب الله، لأن ((مع)) كلمة تدل علي المصاحبة. وأما جوابه أولاً بقوله: ((الله ورسوله أعلم))، وثإنياً بما أتي به، فهو أن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصحابي في باب العلم إما أن يكون للحث علي الاستماع لما يريد أن يلقي عليه، أو الكشف عن مقدار فهمه، ومبلغ علمه. فلما راعي الأدب بقوله: ((الله ورسوله أعلم)) ورآه لا يكتفي بذلك وأعاد السؤال، علم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه. أقول: يمكن أن يقال: إنه ما علم أولاً، وأحال علمه إلي الله وإلي رسوله، فشرح الله صدره بقذف النور وأعلمه، فأجاب بما أجاب، ألا تري كيف هناه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ليهنك)). ((قض)): إنما كان آية الكرسي أعظم آية، لأنها مشتملة علي أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالة علي أنه تعالي واحد في الإلهية، متصف بالحياة، قائم بنفسه، مقوم لغيره، منزه عن التحيز والحلول، مبرأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعترى الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، العالم وحده بالأشياء كلها جليها وخفيها، كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، ولا يئوده شاق، ولا يشغله شأن، متعال عما يدركه وهم، عظيم لا يحيط به فهم. ذكره في تفسيره. ومن أراد المزيد عليه فعليه بفتوح الغيب.

2123 - وعن أبي هريرة، قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتإني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيالٌ، ولي حاجةٌ شديدةٌ، قال: فخليت عنه فأصبحت، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ليهنك العلم)) ((نه)): يقال: هنإني الطعام يهنؤني، وهنأت الطعام، أي تهنأت به، وهو كل أمر يأتيك من غير تعب، والمعني ليكن العلم هنيئاً لك. هذا دعاء له بتيسير العلم له، ورسوخه فيه، وإخبار بأنه عالم. وأقول: ظاهرة أمر للعلم بأن يكون هنيئاً له، ومعناه الدعاء، وحقيقته إخبار علي سبيل الكناية بأنه راسخ في العلم ومجيد فيه، لأنه طبق المفصل، وأصاب المحز. وأما ضربه في صدره، فتنبيه علي انشراحه وامتلائه علماً وحكمة، وتعدية الضرب بـ ((في)) وهو متعد كقوله تعالي: {وأصلح لي في ذريتي} أي أوقع الصلاح فيهم، واجعلهم مكاناً للصلاح. ((مح)): فيه منقبة عظيمة لأبي، ودليل علي كثرة علمه، وفيه تبجيل للعالم، وتكرمة بالتكنية، وجواز مدح الإنسان في وجهه ّاذا كان فيه مصلحة، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه، لرسوخه في التقوى. وقال القاضي عياض: فيه حجة القول بجواز تفضيل بعض القرآن علي بعض خلافاً لمن منعه، وقال: تفضيل البعض علي البعض يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقص. وأجيب: بأن ((أعزم)) بمعني عظيم، و ((أفضل)) بمعني فاضل، لقوله تعالي: {هو أعلم بكم} {وهو أهون عليه} أي عالم وهين، إذ لا مشارك له تعالي في علمه، ولا تفاوت في نسب المقدورات إلي قدرته. وقال إسحاق راهويه وغيره: المعني راجع إلي الثواب والأجر، أي أعظم ثواباً وأجراً، وهو المختار. وأقول: لا ريب أن القرآن من كونه كلام الله تعالي، سواء في الفضل والشرف، لكن يتفاوت بحسب المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً علي السورة التي يذكر فيها ((تبت)) مما لا يخفي علي كل أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاه وقد مر بيانه مراراً. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((زكاة رمضان)) الإضافة لأدنى ملابسة، لأنها شرعت لجبر ما عسى أن يقع في صومه تفريط. ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى ((من)) كقولك: خاتم فضة، ليتميز عن مطلق الزكاة. قوله: ((فجعل يحثو)) أي فطفق ينثر الطعام في الوعاء أي في ذيله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟)) قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله. قال: ((أما إنه قد كذبك، وسيعود))، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه سيعود))، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك؟)) قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته، فخليت سبيله. فقال: ((أما إنه قد كذبك، وسيعود)) فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها: إذا أويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك؟)) قلت: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: ((أما إنه صدقك، وهو كذوب. وتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال؟)) قلت: لا، قال: ((ذاك شيطان)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قول: ((لأرفعنك)) هو من رفع الخصم إلي الحاكم، أي لأذهبن بك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم عليك بقطه اليد، لأنك سارق. وقوله: ((ولي حاجة شديدة)) بعد قوله: ((إني محتاج)) إشارة إلي انه في نفسه فقير، وقد اضطر الآن إلي ما فعل، لأجل العيال. قوله: ((إنك تزعم لا تعود)) صفة لـ ((لثلاث مرات)) علي أن كل مرة موصوفة بهذا القول الباطل. قول: ((ينفعك الله)) مطلق لم يعلم منه أن النفع ما هو، فهو محمول علي المقيد في حديث علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قرأها-يعني آية الكرسي-حين يأخذ مضجعه، آمنه الله تعالي علي داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله)) رواه البيهقي في شعب الإيمان. قوله: ((وهو كذوب)) تتميم في غاية الحسن، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ((صدقك)) وأثبت الصدق له، وأوهم المدح، استدركه بصيغة تفيد المبالغة، أي صدقك في هذ القول مع أن عادته الكذب المبالغ في بابه، وفي المثل: إن الكذوب قد يصدق. وفي عكسه قوله تعالي: {والله يعلم إنك لرسوله} تتميم لقوله تعالي: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} بعد قولهم:

2124 - وعن ابن عباس، قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح ـــــــــــــــــــــــــــــ {نشهد إنك لرسول الله}. قوله: ((ذاك الشيطان)) وكان من الظاهر أن يقال شيطاناً بالنصب، لأن السؤال في قوله: ((من يخاطب)) عن المفعول، فعدل إلي الجملة الاسمية، وشخصه باسم الإشارة لمزيد التعيين، وداوم الاحتراز عن كيده ومكره. فإن قلت: لم تنكر الشيطان هنا بعد سبق ذكره منكراً في قوله: ((لا يقربك شيطان))؟ قلت: ليؤذن بأن الثانى غير الأول، وأن الأول مطلق شائع في جنسه، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس، أي شيطان من الشياطين، فلو عرف لأوهم خلاف المقصود، لأنه إما أن يشار إلي السابق أو إلي المعروف المشهور بين الناس، وكلاهما غير مراد. ((تو)): هذا الحديث وما في معناه من باب التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من إخباره عن الغيب. وكذا تمكن أبي هريرة من أخذ الشيطان ورده خاسئاً. والثانى أبلغ في حق من كوشف به من الأول، لأن أبا هريرة إنما كوشف بما كوشف به، فنال ما نال منه ببركة متابعته صلى الله عليه وسلم، ولا خفاء أن إكرام التابع تكرمة للمتبوع أعز وأعلي من إكرام المتبوع نفسه. ونظيره قول الذي عنده علم الكتاب بين يدي نبي الله سليمان عليه السلام: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} فإنه ما تمكن بما تمكن منه إلا ببركة سليمان وفضله، ول أتي به سليمان نفسه، لم يكن بهذه المثابة، فعلي هذا إصابة عمر رضي الله عنه لافي اجتهاده في المسائل الثلاث في الحجاب، وقتل الأقارب في وقعة بدر، وفي إتخاذ مقام إبراهيم مصلي. ((مظ)): في الحديث دليل علي جواز جمع جماعة زكاة فطرهم، ثم توكيلهم أحداً ليفرقها، وعلي جواز تعلم العلم ممن لم يعمل بما يقول بشرط أن يعلم المتعلم كون ما يتعلمه حسناً في الشرع، وأما إذا لم يعلم حسنه وقبحه فلا يجوز أن يتعلم إلا ممن هو صاحب ديانة. الحديث السادس عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بينما جبريل)) أي بين أوقات وحالات كان هو عنده. إذ ((سمع نقيضاً)) أي صوتا مثل صوت الباب. ((تو)): انتقاض الشيء صوت المحامل والرحال وما أشبه ذلك، وحقيقة الانتقاض ليست الصوت، وإنما هي انتقاض الشيء في نفسه، حتى يكون منه الصوت. وقوله: ((سمع)) مسند إلي جبريل عليه السلام، ويحتمل الإسناد إلي النبي صلى الله عليه وسلم علي بعد فيها، لما يدل علي نسق الكلام، وكذا عن القاضي قال: الضمائر الثلاثة في ((سمع ورفع وقال)) راجعة إلي جبريل، لأنه أكثر اطلاعاً علي أحوال السماء، وأحق بالإخبار عنها، واختار المظهر أن يكون الضمير في ((سمع ورفع)) راجعاً إلي النبي صلى الله عليه وسلم وفي ((فقال)) إلي جبريل ولعل المختار هذا، لأن حضور جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم لإخبار عن

قطُّ إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملكٌ نزل إلي الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أمر غريب، وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع رأسه ليستعمله أحسن مما استغربه جبريل ثم أخبر عنه. قوله: ((بنورين)) ((قض)): سماهما نورين، لأن كلا منهما يكون لصاحبه نور يسعى أماه، ولأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه إلي الطريق القويم، والمنهج المستقيم. قوله: ((لن تقرأ بحرف)) ((تو)): الباء في قوله: ((بحرف)) زائدة، كقولك: أخذت بزمام الناقة، وأخذت زمامها. ويجوز أن يكون لانزلاق القراءة به، وأراد بالحرف- والله أعلم- الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه، وكني به عن كل جملة مستقلة بنفسها، أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} وكقوله: ((غفرانك)) وكقوله: {ربنا لاتؤاخذنا} وكقوله: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} ونظائره. ويكون التأويل فيما شذ من هذا القبيل من حمد وثناء أن يعطي ثوابه. وأقول: يمكن أن يقال: إن ((قرأ)) ها هنا مضمن معني تحري واستعان، أي من اجتهد في الطلب، واستعان بهما في القراءة أعطي ما تحرى بهما. وقوله: ((إلا أعطيه)) حال، والمستفتي من قدر، أي مستعيناً بهما علي قضاء ما يسنح من الحوائج كما يفعله الناس إلا أعطي، أو يقدر صفة، أي لم يقرأ حرفاً منها مشتملاً علي دعاء وسؤال إلا أعطيه. أما الحمد والثناء والتمجيد فيعطي ثوابها، وأما الدعاء والسؤال، فيسعف بمطلوبه، ويستجاب له، فيوافق هذا التأويل حديث أبي هريرة ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل)). وتحرير معنى الدعاء في الفاتحة، هو أن المطلوب فيها الهداية المشتملة علي النعمة المطلقة، فيتناول نعمة الدارين، ظاهرها وباطنها، جليلها ودقيقها، حتى لا يشذ منها شيء. وعلي التوقي من غضب الله وسخطه مطلقاً، دنيا وعقبى، ومن جميع الأخلاق الذميمة، والضلالات المتنوعة، وما يعرجه عن الطريق المستقيم. وعلي هذا خاتمة سورة البقرة فإن قوله: {آمن الرسول - إلي قول - قالوا سمعنا} اشتمل علي معني التصديق والاعتقاد. ومنه إلي قوله: {ربنا لا تؤاخذنا} علي بيان الانقياد بالسمع والطاعة لما أمر الله تعالي به، ونهي

2125 - وعن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه)) متفق عليه. 2126 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من [فتنة] الدجال)) رواه مسلم. 2127 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟)) قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: (((قل هو الله أحد) يعدل ثلث القرآن)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه. ومنه إلي آخره علي الدعاء الجامع لفلاح الدارين والفوز بالحسنيين. ((قض)): ولعل ابن عباس رضي الله عنهما ترك الإسناد لوضوحه. ولا يبعد أن يقال: قد اتفق له وقت، فانكشف له الحال، وتمثل له جبريل والملك النازل، كما تمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاهدهما وسمع مقالتهما مع الرسول صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بحقائق ذلك. الحديث السابع عشر عن أبي مسعود: قوله: ((الآيتان من آخر سورة البقرة)) ((مظ)): الآيتان ((آمن الرسول)) إلي آخر السورة، ومعنى ((كفتاه)) دفعتا عن قارئيهما شر الإنس والجن. ((مح)): معناه كفتاه عن قراءة سورة الكهف، وآية الكرسى، وهو من كفي يكفي كفاية. أقول: ولعل المراد من سورة الكهف. ما ورد فيها ((من حفظ عشر آيات منها))، ومن آية الكرسى ما ورد فيها من قوله: ((من قرأها حين يأخذ مضجعه آمنه الله علي داره)) الحديث. الحديث الثامن عشر عن أبي الدرداء: قوله: ((عصم من الدجال)) التعريف فيه للعهد، وهو الذي يخرج في آخر الزمان يدعي الألوهية إما نفسه، أو يراد به من شابهه من فعله، ويجوز أن يكون للجنس، لأن الدجال من يكثر من الكذب والتلبيس، ومنه الحديث ((يكون في آخر الزمان دجالون)) أي كذابون مموهون. ((مح)): قيل: سبب ذلك لما فيها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال. أقول: ويمكن ان يقال: إن أولئك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار، كذلك يعصم الله القارئ من الجبارين. اللهم اعصمنا منهم وبدد شملهم. الحديث التاسع عشر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((قل هو الله أحد يعدل ثلث القرآن)) ((مح)): قال القاضي المازرى: قيل: معنها أن القرآن علي ثلاثة أنحاء: قصص وأحكام، وصفات الله تعالي، ((وقل هو الله أحد)) متمحضة للصفات، فهي ثلثه. وقيل: معناه أن ثواب قراءتها يضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف. أقول: فعلي هذا لا يلزم من تكريرها علي الأول استيعاب القرآن وختمه، ويلزم علي الثانى.

2128 - ورواه البخاري عن أبي سعيد. 2129 - وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً علي سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((سلوه لأي شيء يصنع ذلك)) فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخبروه أن الله يحبه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فيختم بقل هو الله أحد)) أي فيختم قراءته بها، يعني كان من عادته أن يقرأها بعد الفاتحة. قوله: ((إن الله يحبه)) ((مح)): قال المازري: محبة الله تعالي لعباده إرادة ثوابهم، وتنعيمهم. وقيل: نفس الإثابة والتنعيم، لا الإرادة وأما محبة العباد له سبحانه وتعالي فلا يبعد فيها الميل منهم إليه سبحانه وتعالي، وهو مقدس عن الميل. وقيل: محبتهم له: استقامتهم علي طاعته، فإن الاستقامة تمرة المحبة. وحقيقة المحبة ميلهم إليه، لاستحقاقه سبحانه وتعالي المحبة من جميع وجوهها. وأقول: تحريره أن حقيقة الحبة ميل النفس إلي مايلائمها من الاذات. وهي في حق الله تعالي محال. فيحمل إما علي إرادة الإثابة، أو علي الإثابة نفسها. وأما محبة العباد له تعالي فيحتمل أن يراد بها الميل إلي الله سبحانه وصفاته لاستحقاقه سبحانه إياها من جميع وجوهها، وأن يراد بها نفس الاستقامة علي طاعة الله تعالي، فيرجع حاصل هذا الوجه إلي الأول، لأن الاستقامة ثمرة المحبة، و {قل هو الله أحد} في معني لا إله إلا الله مع تعليله علي وجهين، أحدهما: أنه وحده، هو الصمد المرجوع إليه في حوائج العباد، والمخلوقات، ولا صمد سواه، ولو تصور سواه صمد لفسد نظام العالم. ومن ثم كرر ((الله)) وأوقع ((الصمد)) المعرفة خبراً له، وقطعه جملة مستأنفة علي بيان الموجب. وثإنيهما: أن الله هو الأحد في الألوهية إذ لو تصور غيره لكان إما أن يكون فوقه فيها، وهو محال، وإليه الإشارة بقوله: {لم يلد} أو مساوياً له، وهو محال أيضاً وإليه رمز بقوله: {ولم يكن له كفوا أحد}. ويجوز أن تكون الجمل المنفية تعليلاً للجملة الثانية المثبتة كأنه لما قيل: هو الصمد، المعبود، الخالق، الرازق، والمثيب، المعاقب، ولا صمد سواه. فقيل: لم كان ذلك؟ أجيب لأنه ليس فوقه أحد يمنعه من ذلك، ولا مساو يعاونه فيه، ولا دونه يستقل به، قال تعالي: {ما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير} والله أعلم.

2130 - وعن أنس، قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله! إني أحب هذه السورة: (قل هو الله أحد) قال: ((إن حبك إياها أدخلك الجنة)) رواه الترمذي، وروي البخاري معناه. 2131 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس))) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن حبك إياها أدخلك الجنة)) فإن قلت: ما التوفيق بين هذا الجواب وبين الجواب في الحديث السابق: أخبروه أن الله تعالي يحبه؟ قلت: هذا الجواب ثمرة ذلك الجواب، لأن الله تعالي إذا أحبه أدخله الجنة، وهذا من وجيز الكلام وبليغه، فإن اقتصر في الأول علي السبب عن المسبب، وفي الثانى عكس. الحديث الثانى والعشرون عن عقبة بن عامر: قوله: ((ألم تر)) هي كلمة تعجب وتعجيب. ولذلك بين معني التعجب بقوله: ((لم ير مثلهن)). ((مظ)): يعني لم تكن آيات سورة كلهن تعويذاً للقارئ من شر الأشرار غير هاتين السورتين. وأقول: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان، وعين الإنسان. فلما نزلت المعوذتان، أخذ بهما وترك ما سواهما، ولما سحر استشفي بهما. وإنما كان كذلك، لأنهما من الجوامع في هذا الباب. فتأمل في أولهما، كيف خص وصف المستعاذ به بـ ((رب الفلق)) أي بفالق الإصباح، لأن هذا الوقت وقت فيضان الأنوار، ونزول الخيرات والبركات، وخص المستعاذ منه بـ ((ما خلق))، فابتدأ بالعام من قوله: {من شر ما خلق} أي من شر خلقه، وشر ما يفعله المكلفون من المعاصى، ومضارة بعضهم بعضاً من ظلم وبغي، وقتل وضرب، وشتم وغيره، وما يفعله غير المكلفين من الحيوان، كالسباع والحشرات، من الأكل والنهش، واللدغ، والعض، وما وضعه الله في غير الحيوان من انواع الضرر كالإحراق في النار، والقتل في السم، ثم ثنى بالعطف عليه ما هو شره أخفي من الزمان، ما هو نقيض انفلاق الصبح من دخول الظلام واعتكاره المعني بقوله: {ومن شر غاسق إذا وقب}، لأن انبثاث الشر فيه أكثر، والتحرز منه أصعب ومنه قولهم: الليل أخفي للويل. وخص ما يكن في الزمان بما غائلته خفية من النفاثات والحاسد. الكشاف: وقد خص شر هؤلاء من كل شر، لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم كأنما يغتال به، وقيد الحاسد بـ {إذا حسد}، لأن الحاسد إذا أطهر حسده، وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود كان شره أتم، وضره أكمل.

2132 – * وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلي فراشه كل ليله، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما (قل هو الله أحد)، (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس)، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما علي رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم تفكر في ثإنيتهما، كيف وصف المستعاذ به بالرب، ثم بالملك، ثم بالإله، وأضافها إلي الناس، وكرره، وخص المستعاذ منه بالوسواس المعنى به الموسوس من الجنه والناس. الكشاف: إن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس. وكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلي الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلاههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخددومهم وولي أمرهم. بين بـ {ملك الناس} ثم زيد بيانا بـ {إله الناس}؛ لأنه قد يقال لغيره: رب الناس، وقد يقال: ملك الناس، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. وأقول هذه الممبالغة في جانب المستعاذ به. والترقى في الصفات تقتضى المبالغة في المستعاذ منه، ولعمرى! إن هذه الوسوسة إما أن تكون في صدور المستعيذ وهي رأس كل شر ومنشأ كل ضلالة وكفر وبدعة، أو في صدور من يناديه ويضاده، وهي معدن كل مضرة، ومنبع كل نكال، وعقوبة، فيدخل فيه نفسة كل نافث، وحسد كل حاسد. ((مح)): وفي الحديث دليل واضح علي كون المعوذتين من القراَن، ورد علي من نسب إلي ابن مسعود خلافه. وعلي أن لفظة ((قل)) من القراَن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة. وقد اجتمعت الأمة علي هذا. الحديث الثالث والعشرون من عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ثم نفث فيهما فقرأ فيهما)) ((مظ)): الفاء للتعقيب، وظاهر هذا الحديث يدل علي أنه صلى الله عليه وسلم نفث في كفيه أولاً ثم قرأ، وهذه لم يقل بها أحد، وليس فيها فائدة، ولعل هذا سهو من الكاتب، أو من راوى الراوى؛ لأن النفث ينبغى أن يكون بعد التلاوة، لتوصل بركة القراَن واسم الله إلي بشرة القارئ، أو المقرؤ له. ومعنى النفث إخراج الريح من الفم مع شيء من الريق. أقول: من ذهب إلي تخطئة الرواة الثقات العدول، ومن اتفقت الأمة علي صحة روايته، وضبطه وإتقانه بما سنح له الرأي الذي أوهن من بيت العنكبوت، فقد خطأ نفسه، وخاض فيما لا يعنيه، هل قاس هذا الفاعل علي ما في قوله تعالي: {فإذا قرأت القراَن}

وسنذكر حديث ابن مسعود: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم في ((باب المعراج)) إن شاء الله تعالي الفصل الثانى 2133 - عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة تحت العرش ـــــــــــــــــــــــــــــ {فأستعذ} وقوله: {فتوبوا بارئكم فاقتلوا أنفسكم} علي أن التوبة عين القتل، ونظائره في كلام الله العزيز غير عزيز. المعنى جمع كفيه ثم عزم علي النفث فيهما فقرأ فيهما، أو لعل السر في تقديم النفث علي القراءة، مخالفة السحرة البطلة، علي أن أسرار الكلام النبوى جلت عن أن تكون مشروع كل وارد. وبعض من لا بد له في علم المعانى لما أراد التقصى عن الشبهه، تشبث بأنه جاء في صحيح البخاري بالواو وهو يقتضى الجمعية لا الترتيب، وهو زور وبهتان، حيث لم أجد فيه، وفي كتاب الحميدى وجامع الأصول إلا بالفاء. قوله: ((بدأ بهما)) إلي اَخره بيان لجملة قوله: ((يمسح بهما ما استطاع من جسده)) أو بدل منه، كقول الشاعر: أقول له: ارحل لا تقيمن عندنا فإن ((لا تقيمن)) بدل من ((ارحل))، وكقول الاَخر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا لكن قوله: ((ما استطاع من جسده)) وقوله: ((يبدأ)) يقتضيان أن يقدر: يبدأ بهما علي رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده ثم ينتهي إلي ما أدبر من جسده. الفصل الثانى الحديث الأول عن عبدالرحمن: قوله: ((ثلاثة تحت العرش)) ((قض)): ((تحت العرش)) عبارة عن اختصاص هذه الاشياء الثلاثة من الله بمكان، وقرب منه، واعتبار عنده، بحيث لا يضيع أجر من حافظ عليها، ولا يهمل مجازاة من يضيعها، وأعرض عنها، كما هو الحال المقربين عند السلطان الواقفين تحت عرشه، فإن التوصل بهم، والإعراض عنهم، وشكرهم، وشكايتهم يكون لها تأثير عظيم لديه. ووجه اختصاص هذه الثلاثة بالذكر: أن كل ما يحاوله الإنسان إما أن يكون أمراً دائراً بينه وبين الله تعالي، لا يتعلق بغيره، وإما أن يكون دائراً بينه وبين عامة الناس، وإما أن يكون

يوم القيامة: القراَن يحلج العباد، له ظهر وبطن، والامانة، والرحم تنادى: ألا من وصلنى وصله الله، ومن قطعنى قطعه الله)). رواه في ((شرح السنة)). [2133] ـــــــــــــــــــــــــــــ دائراً بينه وبين اقاربه واهل بيته. والقراَن وصلة بين العبد وبين ربه، فمن راعى أحكامه، واتبع ظواهره وبواطنه، فقد أدى حقوق الربوية، وأتى بما هو وظائف العبودية. و ((الأمانة)) تعم الناس كلهم، فإن دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم وسائر حقوقهم أمانات فيما بينهم، فمن قام بحقها فقد أقام العدل، وجانب الظلم رأساً، ومن واصل الرحم، وراقب الأقارب، ودفع عنهم المخاوف، وأحسن إليهم في أمرى الدنيا والاَخره ما أستطاع، فقد أدى حقه، وخرج عن عهدته. ولما كان القراَن منها أعظم قدراً وأرفع مناراً، وكان العمل به والقيام بحقه يشتمل علي القيام بالأمرين الاَخرين، قدم قدم ذكره وأخبر عنه بأنه ((يحاج العباد))، أي يخاصمهم فيما ضيعوه، وأعرضهم عن حقوقه وأحكامه، ولم يلتفوا إلي مواعظه وأمثاله، سواء سواء ما ظهر منها معناها، فأستغنى عن التأويل، أو أخفي واحتاج إلي مزيد كلفة إبراز ماهو المقصود منه. وأخر الرحم؛ لأنه أخصها، وأفرده بالذكر وإن اشتملت محافظة الامرين الأولين علي محافظته؛ لأنه أحق حقوق العباد أن يحفظ، ولانه أراد أ، يبين صلى الله عليه وسلم أن صلته الرحم وقطيعته بهذه المثابة العظيمة من الوعد والوعيد. ((شف)): والضمير في ((تنادى)) عائد إلي الرحم، ويمكن عوده إلي كل واحد من الأمانة، والرحم. وأقول: ذهب الشيخ التوربشتى وتبعه الأشراف إلي أن قوله: ((يحاج العباد، له ظهر وبطن)) جملة مفصلة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، ينبه السامع علي جلالة شأن القراَن، وامتيازه عما سواه. وفيه بحث؛ لأن المعترضة كلام لا محل له من الإعراب، واقع بين أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى، مؤكد لما أعترض فيه، وهذه مرفوعة المحل، خبرا للقراَن علي نحو ((والرحم تنادى)). ولا فرق بينهما فيه، نعم من حق الظاهر أن يقال: ثلاثة تحت العرش يوم القيامة: القراَن، والأمانة، والرحم، فالقراَن يحاج، والأمانة كذا، والرحم تنادى، فأختصر، ولم يذكر للثانى ما هو له من البيان اعتماداً علي الأول، أو علي الثانى أي الأمانه تحاج، أو تنادى. ثم قوله: ((العباد)) يحتمل أن يكون مفعولا به لـ ((يحاج)) فيكون المعنى ماذكره القاضى ثإنياً من قوله: أي يخاصمهم فيما ضيعوه، وأعرضوا عن حدوده، وهو من كلام الشيخ التوربشتى. وأن يكون نصباً علي نزع الخافض، أي يحاج عن العباد، كما في حديث أبي أمامة، ((أو فرقان من طير صواف، يحاجان عن أصحابهما)) وهذا التأويل أنسب، وأقرب إلي معنى نداء الرحم:

2134 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القراَن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند اَخر اَيه تقرؤها)). رواه أحمد، والترمزى، وأبو داود، والنسائى. [2134] ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا من وصلنى، وعليه كلام القاضى أولا. ((تحت العرش)) عبارة عن اختصاص هذه الثلاثة من الله بمكان بحيث لا يضيع أجر من حافظ عليها إلي أخره، فالثالث أعنى ((والرحم تنادى)) قرينة لحذف ما للثانى من قوله: ((والأمانة تنادى ألا من حفظنى حفظه الله، ومن ضيعنى ضيعه الله)) ولتأويل معنى الأول بما يناسبه من قوله: ((القراَن ينادى)) بما لا يضيع أجر من حافظ عليها، ولا يهمل مجازاة من ضيعها. ثم قوله: ((له ظهر وبطن)) جملة اسمية، واقعة حالا من ضمير القراَن في الخبر بلا واو، أي القراَن يحاج العباد مستقصياً فيها، نحو: كلمته فوه إلي فيَّ، أي مسافها. والمعنى ما اختاره الشيخ التوربشتى حيث قال: ظهره ما استوى المكلفون فيه من الإيمان به، والعمل بمقتضاه، وبطنه ما وقع التفاوت في فهمه بين العباد علي حسب مراتبهم في الأفهام، والعقول، وتباين منازلهم في المعارف والعلوم، وفيه تنبيه علي أن كلا منهم إنما يطالب بقدر ما انتهي إليه من علم الكتاب وفهمه. والله أعلم. الحديث الثانى عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((لصاحب القراَن)) ((تو)): الصحبة للشيء الملازمة له إنساناً كان أو حيواناً، مكاناً كان أو زماناً، ويكون بالبدن، وهو الأصل والاكثر، ويكون بالعناية والهمة، وصاحب القراَن هو الملازم له بالهمة والعناية، ويكون ذلك تارة بالحفظ والتلاوة، وتارة بالتدبر له والعمل به. وإن ذهبنا إلي الأول، فالمراد من الدرجات بعضها دون بعض، والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة علي حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدين: أن العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأوه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ لكتاب الله من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأكثر تلاوة منه، وكان هو أفضلهم علي الأطلاق لسبقه عليهم في العلم بالله، وبكتابه، وتدبره له، وعمله به. وإن ذهبنا إلي الثانى- وهو أحق الوجهين وأتمهما- فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالاَيات سائرها، وحينئذ تقدر التلاوة في القيامة علي مقدار العمل، فلا يسطيع أحد أن يتلو به إلا وقد قام بما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبى صلى الله عليه وسلم، ثم للأمة بعده علي مراتبهم ومنازلهم في الدين، كل منهم يقرأ علي مقدار ملازمته إياه تدبراً وعملاً.

2135 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القراَن كالبيت الخراب)). رواه الترمذى، والدرامى. وقال الترمذى: هذا حديث صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): قد جاء في الأثر أن عدد أي القراَن علي قدر عدد درج الجنه، فيقال للقارئ: ارق في الدرج علي قدر ما كنت تقرأ من أي القراَن، فمن استوفي قراءة جميع أي القراَن استولي علي أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءاً منها كان رقيه في الدرج علي قدر ذلك، فيكون منتهي الثواب عند منتهي القراءة. أقول: لعل الشيخ التوربشتى عنى برده القول الأول ضعف هذا القول، وظاهر كلام القاضي اختياره، والذي يذهب إليه أن سياق هذا الحديث تحريض لصاحب القرآن علي التحرى في القراءة، والإمعان في النظر قبه، والملازمة له، والعمل بمقتضاه، وكل هذه الفوائد يعطيها معنى الصاحب استعارة؛ لآن أصل المصاحبة بالبدن، وقد علم أن الصاحب من يرافقك بالبدن ويوافقك بما يهمك، ويعاونك فيما ينفعك، ويدافع عنك ما يضرك، فإذن هو جامع لمعنى القراءة، والتدبر والعمل، ققوله: ((اقرأ وارق)) أمر له في الآخرة بالقراءة التي توصله إلي مصاعد ودرجات0 ثم قوله: ((فإن منزلتك)) تعليل للأمر المرتب عليه الترقى، يعنى قراءتك هذه ياصاحب القرآن ترقيك إلي منزلة قمنزلة علي قدر قراءتك، فإذا. قطعتها انقطعت، وإذا وصلتها اتصلت، وزادت إلي ما لا نهاية له. ولأن الشبهة. في قوله: ((ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)) تستدعى تشبيه الاتصال بالاتصال، وكما أن قراءته في حالة الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له علي ما ورد في حديث ((الحال المرتحل))، كذلك لا إنقطاع لهذه القراءة، ولا للرقى، ولا للمنازل، فهو كما قال تعالي: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب}. وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم عن سائر مستلذاتهم، بل هو المستلذ الاعظم ودونه كل مستلذ0 ترتيل القرآن قراءته علي ترتيل وتؤدة، بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجىء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الاقحوان. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي ايه عنهما: قوله: ((ليس في جوفه شىء من القرآن)). المراد بالجوف هنا القلب، إطلاقا لاسم المحل علي الحال، قال الله تعالي: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}، وفائدة ذكر تصحيح التشبيه بالبيت مثل جوف الإنسان الخالي مما لابد له منه، من التصديق والاعتقاد الحق والتفكر في آلاء الله، ومحبة الله وصفاته، بالبيت الخالي عما يعمره من الآثاث، والتجمع، وما قوامه به.

2136 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الرب تبارك وتعالي: من شغله القراَن عن ذكرى ومسالتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين. وفضل كلام الله علي سائر الكلام كفضل الله علي خلقه)). رواه الترمذى، والدارمى، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب. . [2136] 2137 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف. الف حرف، ولام حرف، وميم حرف)). رواه الترمذى، والدارمى. وقال: الترمذى: بهذا حديث حسن، غريب إسناداً0 [2137] 2138 - وعن الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((عن ذكرى ومسالتي)) أي عن الذكر والمسالة اللذين ليسا في القرآن، كالدعوات، والدليل عليه التذييل بقوله: ((وفضل كلام الله)) إلي آخره0 ((مظ)): يعنى لا يظن القارئ أنه إذا لم يطلب من الله حوائجه لا يعطيه اكمل الإعطاء، فانه من كان في كان الله له. عن الشيخ العارف أبي عبد الله بن خفيف قدس الله سره: شغل القرآن للقيام بموجباته من إقامة قرائضه، والاجتناب عن محارمه، فان الرجل إذا اطاع الله فقد ذكره وإن قل صلاته وصومه، وإن عصاه نسيه، وإن كثر صلاته وصومه0 الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وميم حرف)) يعنى مسمى ميم - وهو مه - حرف لما تقرر أن لفظة ((ميم)) اسم لهذا المسمى. فحمل الحرف في الحديث علي المذكورات مجازاً؛ لأن المراد منه في مثل ((ضرب)) في {يضرب الله مثلاً}. كل واحد من (ضه، وره، وبه). فعلي هذا إن اريد بـ ((اَلم))) مفتتح سورة الفيل يكون عدد الحسنات ثلالين، وإن أريد به مفتتح سورة البقرة وشبهها يبلغ العدد تسعين. والله أعلم. الحديث السادس عن الحارث الأعور رضي الله عنه: قوله: ((مررت في المسجد)) ((في

في الأحاديث، فدخلت علي عليّ رضي الله عنه، قأخبرتهُ، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال. أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا إنها ستكون فتنة)). قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ ظرف، والمرور به محذوف، يدل عليه قوله ((فإذا الناس يخوضون)). ((غب)): الخوض هوالشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الامور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشارع الشروع فيه نحو قوله تعالي: {ذرهم في خوضهم يلعبون}. قوله: ((ما المخرج منها)) ((تو)) المخرج - بفتح الميم - موضع الخروج، وهو ايضاًمصدر، تقول: خرجت خروجاً ومخرجاً، المعنى ما السبب الموصل عند وقوع تلك الفتنة الي التقصى عنها، والتخلص منها. قوله: ((هو الفصل ليس بالهزل)) من قوله تعالي: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل}. ((قض)): ((هو الفصل)) أي الفاصل بين الحق والباطل، وصف بالمصدر مبالغة كرجل عدل. ((ليس بالهزل)) أي جد كله ليس فيه ما يخلو عن إتقان وتخقيق، أو يعرى عن أمر خطير وقائدة عظمة، فيتساهل فيه. وقوله: ((كتاب الله)) علي حذف المضاف، أي التمسك بالكتاب، ليطابق السؤال. وأقول: والأحسن ما ذهب إليه الشيخ التوربشتى من تقدير المضاف في السؤال حيث قال: ما السبب الموصل؛ لأن كتاب الله مفسر في الحديث بالحبل المتين، والسبب في أصل اللغة هو الحبل، فيصح حمله عليه. و ((من)) في قوله: ((من جبار)) بيإنية، حال من الضمير المستتر في ((تركه))، ((قض)): بين ليدل علي أن الحامل له علي الترك، والإعراض عنه إنما هو التجبر والحماقة، والجبار لا يطلق في صفة العبد إلا في معرض الذم، لانه لا يليق به. و ((القصم)) كسر الشىء وإبانته، و ((قصمه الله)) و ((أضله الله)) يحتمل الخبر والدعاء. ((حبل الله المتين)) أي الوصلة التي يوثق عليها. فيتمسك بها من أراد الترقى والعروج إلي معارج القدس وجوار الحق. ((وهو الذكر)) أي المذكور ((الحكيم)) اي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، او المشتمل علي الحقائق، و ((الحكيم)) بمعنى ذو الحكمة. ((لا تزيع به الاهواء)) أي لا تميل عن الحق باتباعه او مادامت تتبعه. ((ولا تلتبس به الألسنة)) أي لا يختلط به غيره بحيث يشتبه الامر ويلتبس الحق بالباطل، فانه يقال يكفيك حفظه، قال تعالي {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. ((ولا يشبع منه العلماء)) أي ات يحيط علمهم بكنهه: فيقفوا عن طلبه وقوف من شبع مطعوم، فإن الناظر فيه لا ينتهي إلي حد إلا وهو بعد طالب لحقائقه، باحث عن دقائقه. ((ولا يخلق عن كثرة الرد))

ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر مابعدكم، وحكم مابينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى ـــــــــــــــــــــــــــــ أي لا يزول رونقه، ولذة قراءته واستماعه عن كثرة ترداده علي السنة التالين، وتكراره علي آذان المستمعين، علي خلاف ما هو كلام المخلوقين. ((مظ)) في قوله: ((من تركه من جبار)) إشارة إلي أن من ترك العمل بآية أو بكلمة من القرآن ما يجب به العمل، أو ترك قراءتها من الكبر يكون كافراً، ومن تركه من العجز والضعف والكسل مع اعتقاد تعظيمهم فلا إثم عليه. و ((الباء)) في قوله ((لا تزيغ به سببيه، أي لا يميل بسببه اهل الاهواء، يعنى لا يصير بالقرآن أحد مبتدعاً، وضالا، بل يصير مهتدياً، راشداً. ويحتمل أن يكون للتعدية، أي لا يزيغه أهل الاهواء، يعنى لا يقدر أهل الأهواء علي تبديله وتغييره. وذلك إشارة إلي تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وقيل: معنى ((لا تلتبس به الالسنة)) لا يتعسر علي ألسنة اهل اللغات المختلفة، بل يتيسر ويسهل عليهم تلاوته. وأقول: همزة الإنكار والواو العاطفة قى قوله: ((أو قد قعلوا)) يستدعيان فعلا منكرا معطوفاً عليه، أي ارتكبوا هذه الشنعاء، وخاضوا في الأباطيل؟ والضمير في قوله: ((إنها)) للقصة و ((ستكون)) بيان لها. وقوله: ((نبأ ما قبلكم)):خص النبأ بالاخبار الماضية. والخبر بالأحوال الآتية، والحكم بالحال حصرًا للأزمنة كلها، وأضاف كلا من الالفاظ إلي ما يناسبه، فإن النبأ فيه معنى الإخبار الذي ينبه السامع علي أمر خطير ذهل عنه السامع قال تعالي: {وجئتك من سبإ بنبإ يقين} فإذن ناسب أن يضاف إلي الأخبار الماضية. ((غب)): النبأ خبر ذو قائدة عظيمة يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الاصل نبأ، حتى يتضمن هذه الاشياء. وأما الاحوال الآتية من المغيبات، نحو هذا الحديث وأمارات الساعة، والاخبار عن الحشر والنشر وغيرها، فهي مناسبة للخبر؛ لانه يقال: أخبر عن الغيوب، ولا يقال: أنبأ، والحال يناسبها الحكم والقضاء، عرف الخبر في قوله: ((وهو الفصل)) فيفيد أنه مقصور علي أن يفصل الحق عن الباطل. ((فهو جد كله)) فيكون قوله: ((وليس بالهزل)) تاكيداً لهذا المعنى، كما أن قوله تعالي {لا ريب فيه} تأكيد لقوله تعالي: {ذلك الكتاب}. فاذا كان شأنه ذلك، فمن ارتاب فيه، وتركه مستبداً برأيه غير منقاد للحق، كان معانداً جباراً. ومن تركه ولم يستبد برأيه، وابتغى الهدى في غيره كان ضالاً، فإذن يلزم أن يتحد الشرط والجزاء، يعنى من ضل عنه وطلب الهدى في غيره يورطه الله تعالي في ضلال

الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل المتين، وهو الذكر الحكيم، وهوةالصراط المستقيم؛ هو الذي لا تزيغ به الاهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع من العلماء، ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس وراءه ضلال؛ لقوله تعالي: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته}، وقوله تعالي: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)} وقولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، والضمان مرعى و ((الذكر)) إن فسر بالمذكور، فالمناسب أن يؤول ((الحكيم)) بالمحكم، أي هذا الكتاب المذكور محكم آياته، ورصين ألفاظه، مصبوب في قالبى البلاغة والفصاحة، أعجز الخلق عن الإتيان بمثله. وإن فسر بالشرف والكرم، فالموافق أن يأول «الحكيم بذى الحكمة؛ لآن كون الكلام شريفاً إنما يكون باعتبار ما يتضمن فيه من الحكمة، والنكت، والمعإني الدقيقة، واللطائف الرشيقة. ثم جعله نفس الصراط المستقيم؛ لظهور بياناته الشافية لطريق الإسلام، فكأنه نفس الصراط. وقوله: ((لاتزيع به الآهواء)) تقرير لهذا المعنى، وهو من باب قوله .. ولا ترى الضب بها ينحجر، أي لا زيغ ولا أهواء هناك، فلا يحرمان حول حماه فالباء في ((به)) بمعنى ((في)) كما في ((بها)) في المثال. فإن قلت: كم من زائغ ابتغى ما تشابه منه، فضل وأضل0 قلت: هذا الزائغ اتبع هواه في المتشابه ولم يقصد به الا فتنة الناس، ولو قصد الحق، ورد المتشابه إلي المحكم ما ضل ولاأضل، كما قال تعالي: {لا ريب فيه} وكم من مرتاب، ومعناه انه لوضوح بياناته، وسطوع براهينه، لا ينبغى أن يحوم الريب حوله، والمرتاب لقصور فهمه وقصر باعه يرتاب، فلما وصف معإنيه بما وصف من أنه لا تشوبه الاهواء والزيغ، وصف ألفاظه بقوله: ((لا تلتبس به الألسنه)) من أن يدخل فيه ما ليس منه، أو يغير شىء من ألفاظه برصانته، وقوته. وروى أن اعرابياً سمع قارئاً يقرأ: {فإن زللتم من بعد جائتكم البينات فأعلموا أن الله غفور رحيم} بدل {عزيز حكيم}، فأنكر وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكرالغفران عند الزلل؛ لانه اغراء عليه. فكما وصف معإنيه بقوله: ((لا تزيغ به الاهواء)) وألفاظه بقوله: ((ولا تلتبس به الألسنة)) وصفهما بذلك في قوله: ((ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد)) فإن الشبع والطعم من الامور الباطنه، والثواب وخلافه من الظاهرة، والعريف في ((العلماء)) للعهد، والإشارة إلي قوله تعالي: {وكونوا ربإنيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.

ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا ينقضى عجائبه؛ هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا {إنا سمعنا قراَنا عجباً يهدى إلي الرشد فاًمنا به}. من قال به صدق، ومن عمل به اجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم)). رواه ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ولا ينقضى عجائبه)) كالعطف التفسيرى للقريتنين، وبيان عدم الشبع في المعنى، وبيان عدم الخلاقة في اللفظ؛ لأن معنى العجب هو ما لم يعهد مثله، ولم يعرف سببه، فيعتد به، ويوثق منظره، ويشتاق إليه، وبه فسر قوله تعالي: {إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلي الرشد}. وقوله: ((لم تنته الجن)) أي لم يتوقفوا ولم يمكثوا حتى قالوا: ((إنا سمعنا قرآنا عجباً)) علي سبيل البداهة، ((وإذا)) يختص بالاستقبال، وإذا دخل علي الماضى أفاد استحضار الحال الماضية في مشاهدة السامع، قال تعالي: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} ((الكشاف)): فإن قلت: كيف قيل: ((إذا ضربوا)) مع ((قالوا))؟ قلت: هو علي حكاية الحال الماضية كقوله: حين يضربون في الأرض، وقوله: ((من قال به صدق)) فيه وجهان: أحدهما: أن ((قال)) متضمن معنى أخبر، والاَخر: أنه مثل قوله: ((سبحان من لبس العز، وقال به)) أي أحبه واختصه لنفسه، كما يقال: فلان قول بفلان، أي بمحبته واختصاصه، فعلي هذا معنى صدق العمل بمقتضاه، والتحرى لرضي اللهن فحينئذ ينطبق عليه قوله: ((من عمل به أجر)). وقوله: ((هدى)) روى مجهولاً، ولابد فيه ضمير راجع إلي ((من)) فيصير الهادى مهتدياً، فمعناه: من دعا الناس إلي القرآن، وفق للهداية، ولو روى معروفاً كان المعنى من دعا الناس إلي القرآن، هداهم إلي صراط مستقيم. فإن قلت: قوله: ((وهو حبل الله المتين)) تشبيه، نحو هو أسد أي كأسد، لذكر المشبه والمشبه به، أم أستعارة؟ قلت: لو أقتر علي ((وهو حبل)) كان تشبيهاً كما في حديث بن أرقم ((كتاب الله حبل ممدود من السماء إلي الأرض))، فلما أضيف إلي الله رجع إلي الاستعارة؛ لأن نفس القرآن حينئذ ليست مشبهة بالحبل، وهو غير مذكور، فيكون أستعارة مصرحة تحقيقية، فإن المشبة المتروك أمر عقلي صرف، ثم إن قوله: ((المتين)) إن روى مرفوعاً صفة لـ ((الحبل)) يكون ترشيحاً للأستعارة؛ لأنه صفه ملائمة للمشبه به، وإنروى مجروراً صفة صفة للمضاف إليه يكون كناية إيمإنية لما يلزم من تخصيص وصف الله حينئذ بالمتين دون سائر الأسماء متانة حبل الله تعالي. وأما قوله: ((وهو الصراط المستقيم)) أي هو مثل الصراط المستقيم في أن يوصل سالكه إلي

الترمذى، والدرامى، وقال الترمذى،: هذا حديث إسناده مجهول، وفي الحارث مقال. [2138] 2139 - وعن مُعاذ الجهنى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجاً يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم؛ فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟!)). رواه أحمد، وأبوداود. [2139] ـــــــــــــــــــــــــــــ المقصد، فتشبيه بحذف أداته، ووجهه، وقوله: ((هو الذكر)) ليس بتشبيه فضلا عن أن يكون أستعارة، لكن وصفه بالحكيم إن أريد به ذو الحكمة، فهو حقيقة، وإن أريد به المحكم الرصين، فهو استعارة، وإن وصف بصفة متكلم يكون الإسناد مجازياً، نحو قولك: نهاره صائم وليله قائم. قوله: ((وفي الحارث مقال)) أي مكان قول يعنى طعن فيه. قال الشيخ محيى الدين في شرح مسلم: إن الشعبى روى عن الحارث الأعور، وشهد كاذب. الحديث السادس: عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((تاجاً)) تخصيص ذكر التاج كناية عن الملك والسيادة، كما يقال: قعد فلان علي السرير كناية عنه، وإنما قال: ((أحسن)) ولم يقل: أنور وأشرف؛ لأن تشبيه التاج مع ما فيه من الجواهر النفيسة الثمينة بالشمس ليس لمجرد الإشراق والضوء، بل مع الزينة والحسن. وأيضاً فيه تتميم صيانة من الأحرراق وكلال النظر بسبب أشعتها، كما أن قوله: ((لو كانت فيكم)) تتميم للمبالغة، فإن الشمس مع ضوئها وحسنها لو كانت في داخل البيت، كان اًنس وأتم وأكمل مما كانت خارجة عنه، وحسنه وإشراقه فيه، وهذا التشبيه مما يزيد حسناً ومبالغة بالشرط، قال بديع الزمان: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا الدهر لو لم يخن، والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد، والبحر لو عذباً قوله: ((فما ظنكم)) ((ما)) استفهامية مؤكدة لمعنى استقصار الظان في كنه معرفة ما يعطى للقارئ العامل به من الكرامة والملك، الذي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر، والظاهر أن المشار إليه بـ ((هذا)) في قوله: ((بالذي عمل بهذا)) هو قوله: ((مافيه))، في قوله: ((عمل بما فيه))، لكن المشار إليه المذكور في قوله: قرأ وعمل بما فيه))؛ لأن المراد فما ظنكم بمن قرأ وعمل بما فيه.

2140 - وعن عقبة بن عامر، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو جعل القرآن في هذا إهاب ثم ألقى في النار ما احترق)). رواه الدرامى. [2140] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عقبة بن عامر: قوله: ((لو جعل القرآن في إهاب)) ((نه)): قيل: كان ذلك معجزة للقرآن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تكون الأيات في عصر الأنبياء، وقيل: معناه من علمه الله القرآن لم تحرقه نار الاًخرة، فجعل جسم حافظ القرآن كالإهاب له، وذكر في شرح السنة بعد القول الثانى: هذا كما روى عن أبي أمامة ((احفظوا القرآن، فإن الله تعالي لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن))، وزاد علي القولين: قال أحمد بن حنبل: معناه لو كان القراَن في إهاب يعنى في جلد في قلب رجل، لرجى لمن القراَن محفوظ في قلبه أن لا تمسه النار. ((تو)): وإنما ضرب ضرب المثل بالإهاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ؛ لأن الفساد إليه أسرع ونفخ النار فيه أنفذ؛ ليبسه وجفافه، بخلاف المدبوغ للينه، المعنى: لو قدر أن يكون القراَن في إهاب ما مسته النار لبركة مجاورته للقراَن، فكيف بالمؤمن الذي تولي حفظه، والمواظبة عليه؟ والمراد بالنار نار الله الموقدة، المميزة بين الحق والباطل. وقال القاضى: هذا هو الأولي، ويحتمل أن يكون جنس النار. وأقول: لعل الجنس أقرب، وضرب المثل بالإهاب بالتحقير أحرى. ورواية ((مسته)) كما في أكثر النسخ أولي من ((احترق))، وتحريره أن التمثيل وارد علي المبالغة والفرض والتقدير ((فلو)) كما في قوله تعالي: {قل لو كان البحر مداداً} الاَية، أي ينبغى ويحق أن القراَن لو كان في مثل هذا الشيء الحقير الذي يؤبه به ويلقى في النار ما مسته، فكيف بالمؤمن الذي هو أكرم خلق الله وافضلهم، وقد وعاه في صدره، وتفكر في معإنيه، وواظب علي قراءته، وعمل بما فيه بجوارحه، كيف يمسه فضلا عن أن يحرقه؟ وفي معنى الحقارة والمحاورة وصيرورته موقى محترماً؟، قال الشاعر: من عاشر الشرفاء شرف قدره ... ومعاشر السفهاء غير مشرف فانظر إلي الجلد الحقير مقبلا ... بالثغر لما صار جار المصحف وبهذا التأويل وقع التناسب بين هذا الحديث وبين السابق، وحسن التشبيهان في المبالغة عن نيل الكرامة فإذن الفوز بها، وفي التوقى عن الخزى والنكال، قال تعالي: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} فإذن المعننى: أن من قرأ وعمل ألبس والداه تاجاً فكيف بالقارئ العامل؟ ولو جعل القراَن في إهاب وألقى في النار ما مسته النار، فكيف بالتالي العامل؟ ((وثم)) في قوله: ((ثم ألقى)) ليس للتراخى في الزمان بل للتراخى في الرتبة بين الجعل في الإهاب والإلقاء في النار

2141 - وعن علي ((رضي الله عنه)). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القراَن فاستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه؛ أدخله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم وجبت له النار)). رواه أحمد، والترمذى، وابن ماجه، والدرامى. وقال الترمذى: هذا الحديث غريب، وحفص بن سليمان الراوى ليس هو بالقوى، يضعف في الحديث. 2142 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((كيف تقرأ في الصلاة؟)) فقرأ أم القراَن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسى بيده، ما أنزلت ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنهما أمران منافيان لرتبة القراَن، وإن الثانى أعظم من الأول، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه أن سياق الكلام وارد علي التحقير والتعظيم. الحديث الثامن عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فاستظهره)) ((نه)): أي حفظه، يقال: قرأت القراَن عن ظهر قلبى، أي قرأته من حفظى. ((مظ)): ((استظهر)) إذا حفظ القراَن، واستظهر إذا طلب المظاهرة، وهي المعاونة، واستظهر إذا احتاط في الأمر وبالغ في حفظه، وإصلاحه. وهذه المعانى الثلاثة جائزة في هذا الحديث، يعنى من حفظ القراَن، وطلب القوة والمعاونة في الدين منه، واحتاط في حفظ حرمته واتباع أوامره ونواهيه. وأقول: بل المعانى الثلاثة كلها واجبة الرعاية في الحديث لشهادة الفاءين، فالأولي جعلت القراءة سبباً للاستظهار فلا تكون القراءة كذلك، حتى يلازم ويواظب عليها، والثانية جعلت الاستظهار المسبب عن القراءة سبباً لمقتضى العمل بتحليله وتحريمه، ودعوة الناس إليه، وذلك من مراتب الأنبياء، ومن ثم قرن الشفاعة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بجزاء الشرط، وفي قوله: ((قد وجبت له النار)) تتميم ومبالغة لمعنى قبول الشفاعة، ورد لمذهب المعتزلة في أن الشفاعة في رفعة المنزلة لا في وضع الوزر، والوجوب ها هنا علي سبيل المواعدة. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((فقرأ أم القراَن)) فإن قل: كيق طابق هذا جواباً عن السؤال بقوله: ((كيف تقرأ))؟ لأنه سؤال عن حالة القراءة لانفسها قلت: يحتمل أن يقدر: فقرأ أم القراَن مرتلا ومرسلا ومجوداً:: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم يسأل عن حال ما يقرأه في الصلاة، أهي سورة جامعة حاوية لمعانى القراَن أم لا، فلذلك جاء بأم القراَن وخصها بالذكر، أي هي جامعة لمعانى القراَن وأصل لها، ومن ثم قرره بقوله: ((ما أنزلت في التوراة)) إلي أخره وأبرزه في معرض القسمية.

في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القراَن مثلها، وانها سبع من المثانى والقراَن العظيم الذي أعطيته)). رواه الترمذى، وروى الدرامى من قوله: ((ما أنزلت)) ولم يذكر أبي بن كعب. وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. [2142] 2143 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا القراَن فاقرءوه، فإن مثل القراَن لمن تعلم فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكا، تفوح ريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ علي مسك)). رواه الترمذى، والنسائى، وابن ماجه. [2143] 2144 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ {حم} المؤمن إلي {إليه المصير}، واَية الكرسى حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى. ومن قرأ بهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح)). رواه الترمذى، والدرامى، وقال الترمذى: هذا حديث غريب. [2144] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثل القراَن)) مبتدأ والمضاف محذوف، واللام في ((لمن تعلمه)) متعلق بالمحذوف، والخبر قوله: ((كمثل)) علي تقدير المضاف ايضاً، أي ضرب المثل لأجل من تعلمه كضرب المثل بالجراب. والفاء في ((فاقرءوه)) كـ ((ثم)) في قوله: ((استغفروا ربكم ثم توبوا)) أي تعلموا القراَن، وداوموا علي تلاوته، والعمل بمقتضاه، يدل عليه التعليل بقوله: ((فإن مثل القراَن)) إلي اَخره. وإيقاع قوله: ((فرقد)) أي نام وغفل مقابلا لقوله: ((فقرأ وقام به)) فالتشبيهان يحتمل أن يكونا مفرقين، شبه قراءة القارئ وتعليمه الناس وإسماعهم قراءته بفتح رأس الجراب، وشبه إستفادة الناس من التعليم، واستلذاتهم بسماعه، والعمل بمقتضاه باستنشاق الخياشيم عرف المسك وانتفاعهم به، وشبه الإمساكل عن القراءة والتعليم وبخله عنها بإيكاء الجراب، وشبه عدم الأستفادة والاستلذاذ بعدم التضوع. ويجوز أن يكونا مركبين تمثيليين لجواز انتزاع الوجه عن عدة أمور متوهمة، وخص الجراب هنا بالذكر دون الإهاب احتراماً كما في حديث عقبة؛ لأنه من أوعية المسك. ((نه)): أوكيت السقاء إيكاء، وهو الخيط الذي تشد به الأوعية.

2145 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، أنزل منه اَيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا تقرأان في دار ثلاث ليال فيقر بها الشيطان)). رواه الترمذى، والدرامى، وقال الترمذى: هذا حديث غريب. [2145] 2146 - وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ ثلاث اَيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال)). رواه الترمذى، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [2146] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادى عشر والثانى عشر عن نعمان بن بشير: قوله: ((أنزل منه اَيتين)) ((تو)): في أكثر نسخ المصابيح بل سائرها إلا أصلح ((أنزل فيه اَيتين)) والرواية: ((أنزل منه)) أي أنزل من جملة الكتاب المذكور اَيتين ختم بهما سورة البقرة. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: ((أنه كتب كتاباً قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام)) وبين ما رواه عبدالله بن عمر ((وكتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))؟ فالوجه فيه أن نقول: أختلاف الزمإنين في إثبات الأمرين لا يقتضى التناقض بينهما؛ لأن من الجائز أن لا يكون مظهر الكوائن في اللوح دفعة واحدة، بل يثبتها الله شيئاً فشيئاً. ويكون المراد من الكتاب في هذا الحديث نوعاً مكتوباً في اللوح من الأنواع المكتوبة فيه، فيكون أمر المقادير علي ما ذكر، وأمر النوع الذي أنزل منه اَيتين علي ما ذكرنا. وفائدة التوقيت تعريفه صلى الله عليه وسلم إيانا فضل الاَيتين، فإن سبق الشيء بالذكر علي سائر أجناسه وأنواعه يدل علي فضيلة مختصة به. فإن قيل: أو ليس الكتاب الذي كتبه في المقادير اَتيا علي ذكر من هو كائن إلي يوم القيامة من ملك وجن وإنس، فكيف يتصور معه سابقة ذكر؟ قلنا: إنما كان ذلك لبيان علم الله بالمخلوقات الي أراد خلقها ونفوذ قضائه فيها، ولم يكن هناك ملك ولا جن ولا إنس حتى يذكر منهم أحد علي وجه الشرف والفضل، فإن هذا النوع من الذكر إنما يوجد مع وجود سامع من الخلق ولم يكن هناك سامع. أقول: لعل الخلاصة أن الكوائن كتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، ومن جملتها كتابة القراَن، ثم خلق الله خلقاً من الملائكة وغيرهم، فأظهر كتابة القراَن عليهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وخص من ذلك هاتان الاَيتان، وأنزلهما مختوماً بهما أولي الزهراوين، ونظير الكتابة بمعنى الإظهار علي الملائكة قراءة طه و ((يس) علي الملائكة قبل خلق السماوات والأرض بألف عام، تنبيهاً علي جلالتهما وشرفهما.

2147 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شيء قلباً، وقلب القراَن (يسَ)، ومن قرأ (يسَ) كتب الله له بقراءتها قراءة القراَن عشر مرات)). رواه الترمذى، والدرامى، وقال الترمذى: هذا الحديث غريب. [2147] 2148 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي قرأ (طه) و (يسَ) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القراَن قالت: طوبى لأمة ينزل هذا عليها، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا)). رواه الدارمى. [2148] ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز ألا يراد بالزمإنين التحديد، بل نفس السبق، والمبالغة فيه للشرف. والله أعلم بحقيقة الحال. والفاء في قوله: ((فيقرأ بها)) للتعقيب، أي لا توجد ولا تحصل قراءتهما فيعقبهما قربان الشيطان، فالنفي مسلط علي المجموع. الحديث الثالث والرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل شيء قلباً)) قلب الشيء زبدته وخلاصته. ((تو)): عن أبي عبيدة قوله: ((قلب القراَن يسَ)) أي لبه، وذلك لاحتواء تلك السورة مع قصر نظمها وصغر حجمها علي الاَيات الساطعة، والبراهين القاطعة، والعلوم المكنونة، والمعانى الدقيقة، والمواعيد الرغيبة، والزواجر البالغة، والإشارات الباهرة، والشواهد البليغة، وغير ذلك مما لو تدبره المؤمن العليم لصدر عنه بالرأي. وأقول: قد فصلنا هذا المجمل في باب ما يقول عند من حضره الموت وبيناه بما ألهمنا به. قوله: ((وهذا الحديث غريب)) ((تو)): هذا الحديث مخرج في كتاب أبي عيسى وفي إسناده [عن إبراهيم] عن هارون بن محمد بن مقاتل بن حيان، وهارون هذا لا يعرفه أهل الصنعة في رجال الحديث، فهو نكرة لا يكاد يعرف. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قرأ طه ويس)) سبق معنى القراءة في حديث نعمان بن بشير، واختصاص السورتين بالذكر لتصدرهما بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار ما منَّ عليه، وبيان ما أرسل به وأنزل عليه. قوله: ((فلما سمعت الملائكة القراَن)) أي القراءة ويجوز أن يكون أسماً أي هذا الجنس من القراَن، وسماهما قراَناً تفخيماً لشأنهما. و ((طوبى)) مصدر علي وزن فعلي من الطيب كبشرى وزلفي، ومعنى قولهم: ((طوبى لك وطوباك)) - علي لإضافة- أصبت خيراً علي الدعاء، وفي محلها وجهان: النصب والرفع، كقولك طيباً لك وطيب لك، وسلاماً لك وسلام لك.

2149 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ (حم) الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك)). رواه الترمذى، وقال: هذا حديث غريب، وعمر بن أبي خثعم الراوى يضعف، وقال محمد- يعنى البخاري-: هو منكر الحديث. [2149] 2150 - وعنه، قال: قال رسول الله صلي الله وعليه وسلم: ((من قرأ (حم) الدخان في ليلة الجمعة غفر له)). رواه الترمذى، وقال: هذا حديث غريب، وهشام أبو المقدام الراوى يضعف. [2150] 2151 - وعن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، يقول: ((إن فيهن اَيةً خير من ألف اَية)). رواه الترمذى وأبو داود. [2151] 2152 - ورواه الدرامى عن خالد بن معدان مرسلا. وقال الترمذى: هذا حديث غريب. [2152] 2153 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن سورة في القراَن، ثلاثون اَية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: {تبارك الذي بيده الملك} رواه أحمد، والترمذى، وأبوداود، والنسائى، وابن ماجه. [2153] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((في ليلة)) أي في ليلة من الليالي، ولو قيل: في الليل معرفاً؛ لأوهم أن هذا الثواب مرتب علي القراءة الواقعة في جنس الليل. الحديث السابع والثامن عشر عن العرباض بن سارية: قوله: ((كان يقرأ المسبحات)) هي كل سورة افتتحت بسبحان، وسبح، ويسبح، ونظيره قوله: ((فيهن اَية)) مجملا. إخفاء ليلة القدر في رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، محافظة علي الكل لئلا تشذ تلك الاَية. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في القراَن)) نصب صفة لاسم ((إن)) و ((ثلاثون)) رفع خبر له. وقوله: ((شفعت)) خبر بعد خبر، أو استئناف. وفي هذا الإبهام والتطويل فيه، ثم البيان بقوله: ((وهي: {تبارك الذي} نوع تفخيم، وتعظيم لشأنها،

2154 - وعن ابن عباس، قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه علي قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة {تبارك الذي بيده الملك} حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب الله)). رواه الترمذى، وقال: هذا حديث غريب. [2154] 2155 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ: {اَلم تنزيل} و {تبارك الذي بيده الملك}. رواه أحمد والترمذى، والدرامى. وقال الترمذى: هذا حديث صحيح. وكذا في ((شرح السنة)). وفي ((المصابيح)): غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذ لو قيل: إن سورة تبارك شفعت، لم تكن بهذه المنزلة، والتنكير في ((رجل)) للإفراد شخصاً، أي شفعت لرجل من الرجال. ولو ذهب أن ((شفعت)) بمعنى تشفع، كما في قوله تعالي: {ونادى أصحاب الجنة}، و {إنا فتحنا لك فتحاً} لكان إخباراً عن الغيب وإن رجلا ما يقرأها فتشفع له، فيكون تحريضاً لكل أحد أن يواظب علي قراءتها. وإثبات الشفاعة للقراَن إما علي الحقيقة في علم الله، أو علي سبيل الأستعارة. الحديث العشرون عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ضرب خباءه)) ((نه)): هو أحد بيوت العرب من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، ويكون علي عمودين أو ثلاثة، والجمع أخبئة، قوله: ((وفيه أنسان)) التنكير فيه كما في ((رجل)) في الحديث السابق، فيحتمل أن يكون هو إياه، فحينئذ إن تقدم هذا الحديث علي السابق، يكون السابق إخباراً عن الماضى، وإن تأخر يكون إخباراً عن الغيب. وقوله: ((هي المنجية)) يحتمل أن تكون مؤكدة لقوله: ((هي المانعة))، وأن تكون مفسرة، ومن ثم عقب بقوله: ((تنجيه من عذاب الله)) ثم الجملتان مبينتان لمعنى الشفاعة في الحديث السابق، وتعريف الخبر فيهما لفائدة الحصر، أي إن هذه السورة هي المنجية لا غير، أو هي كاملة في الإنجاء، فعلي هذا التعريف للجنس. الحديث الحادى والعشرون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كان لا ينام حتى يقرأ)) ((حتى)) غاية ((لاينام)) ويحتمل أن يكون المعنى إذا دخل وقت النوم لا ينام حتى يقرأ، وأن يكون ((لا ينام)) مطلقاً حتى يقرأ، المعنى لم يكن من عادته النوم قبل القراءة، فتقع القراءة قبل دخول وقت النوم أي وقت كان، ولو قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقلاأهما بالليل لم يفد هذه الفائدة: قوله: ((في المصابيح: غريب)) هذا ينافي قول الترمذى: ((هذا حديث صحيح)) وقد سبق بيان: أن الصحيح قد يكون غريباً.

2156 - وعن أبن عباس، وأنس بن مالك رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا زلزلت} تعدل نصف القراَن، و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القراَن، و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القراَن)). رواه الترمذى. [2156] 2157 - وعن معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقرأ ثلاث اَيات من اَخر سورة ((الحشر)) وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسى، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً. ومن قالها حين يمسى كان بتلك المنزلة)). رواه الترمذى، والدرامى. وقال الترمذى: هذا حديث غريب. [2157] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثانى والعشرون عن أبن عباس وأنس رضي الله عنهما: قوله: (({إذا زلزلت} تعدل نصف القراَن)) ((تو)): يحتمل أن يكون: المقصود الأعظم بالذات من القراَن بيان المبدأ، والمعاد، و ((إذا زلزلت)) مقصورة علي ذكر المعاد، مستقلة ببيان أحواله، فتعادل نصفه، وجاء في حديث اَخر: ((إنها ربع القراَن)) وتقريره أن يقال: القراَن يشتمل علي تقرير التوحيد، والنبوات، وبيان أحكام المعاش، وأحوال المعاد، وهذه السورة مشتملة علي القسم الأخير من الأربع. و {قل با أيها الكافرون} محتوية علي القسم الأول منها؛ لأن البراءة من الشرك إثبات للتوحيد، فيكون كل واحدة منها كأنها ربع القراَن، وهذا تلخيص كلام الشيخ التوربشتى رحمه الله. فإن قلت: هلا حملوا المعادلة علي التسوية في الثواب علي المقدار المنصوص عليه قلت: منعهم من ذلك لزوم فضل ((إذا زلزلت)) علي سورة الإخلاص، والقول الجامع فيه ما ذكره الشيخ التوربشتى رحمه الله من قوله: نحن وإن سلكنا هذا المسلك بمبلغ علمنا نعتقد ونعترف أن بيان ذلك علي الحقيقة إنما يتلقى من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ينتهي إاليه في معرفة حقائق الأشياء، والكشف علي خفيات العلوم. فأما القول الذي نحن بصدده، ونحوم حوله علي مقدار فهمنا، وإن سلم من الخلل والزلل لا يتعدى عن ضرب من الأحتمال. الحديث الثالث والعشرون عن معقل بن يسار: قوله: ((فقرأ ثلاث اَيات)) هذه الفاء مقابلة لما في قوله تعالي: {فإذا قرأت القراَن فأستعذ}؛ لأن الاَيه توجب تقديم القراءة علي الأستعاذة ظاهراً، والحديث بخلافه، فاقتضى ذلك أن يقال: وإذا أردت القراءة، فأستعذ، ولا يحسن هذا

2158 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قرأ كل يوم مائتى مرة {قل هو الله أحد} محى عنه ذنوب خمسين سنة؛ الإ أن يكون عليه دين)). رواه الترمذى، والدرامى وفي روايته: ((خمسين مرة))، ولم يذكر: ((إلا أن يكون عليه دين)). [2158] 2159 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن ينام علي فراشه، فنام علي يمينه، ثم قرأ مائة مرة {قل هو الله أحد}، إذا كان يوم القيامة يقول له الرب: ياعبدي! ادخل علي يمينك الجنة)). رواه الترمذى، وقال: هذا حديث حسن غريب. [2159] 2160 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ {قل هو الله أحد}، فقال ((وجبت)). قلت: وما وجبت؟ قال: ((الجنة)). رواه مالك، والترمذى، والنسائى. [2160] 2161 - وعن فروة بن نوفل، عن أبيه: أنه قال: يارسول الله! علمنى شيءياً أقوله إذا أويت إلي فراشى. فقال: ((اقرأ {قل يا أيها الكافرون}، فإنها براءة من الشرك)). رواه الترمذى، وأبوداود، والدرامى. [2161] ـــــــــــــــــــــــــــــ التأويل في الحديث والاَيات الثلاث من قوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة}. الحديث الرابع والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا أن يكون عليه دين)) جعل الدين من حنس الذنوب تهويلا له، ثم استثنى منها. الحديث الخامس والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فنام)) الفاء للتعقيب. وجزاء الشرط، الشرط مع جزائه في قوله: ((إذا كان يوم القيامة)) ولم يعمل الشرط الثانى في جزائه أعنى ((يقول))؛ لأن الشرط ماض فلم تعمل فيه ((إذا)). فلا تعمل في الجزاء، كما قول الشاعر: إذا أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرام قوله: ((علي يمسنك)) حال من فاعل ((ادخل)) فطابق هذا قوله: ((فنام علي يمينه)). ((مظ)) يعنى إذا أطعت رسولي، واضطجعت علي يمينك في فراشك، وقرأت السورة التي فيها صفاتى، فأنت اليوم من أصحاب اليمين، فاذهب من جانب يمينك إلي الجنة.

2162 - وعن عقبة بن عامر، قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والابواء، إذ غشيتنا ريح وظلمتة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يتعوذ بـ {أعوذ برب الفلق}، و {أعوذ برب الناس}، ويقول: ((ياعقبةّ! تعوذبهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما)) رواه أبوداود. [2162] 2163 - وعن عبدالله بن خبيب، قال: خرجنا في ليله مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركناه، فقال: ((قل)). قلت: ما أقول؟ قال: (({قل هو الله أحد} والمعوذتين، حين تصبح وحين تمسى ثلاث مرات تكفيك من كل شيء)) رواه الترمذى، وأبوداود، والنسائى. [2163] 2164 - وعن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله! أقرأ سورة (هود) أو سورة (يوسف)؟ قال: ((لن تقرأ شيءياً أبلغ عند الله من {قل أعوذ برب الفلق}. رواه أحمد، والنسائى، والدرامى. [2164] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس إلي الثامن والعشرين عن عقبة: قوله: ((بين الجحفة والأبواء)) ((تو)): الجحفة محل أحل الشام، والأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة ثلاثون أو عشرون ميلا، سميت بذلك لتبوء السيول بها. الحديث التاسع والعشرون عن عبدالله بن خبيب: قوله: ((والمعوذتين)) نصب عطفاً علي {قل هو الله أحد} علي تقدير اقرأ. والقول في قول النبي ((قل)) وفي قول الصحأبي ما أقول علي تأويل القراءة، ومن هذا يعرف أن ((قل هو الله أحد)) علم لهذه السورة، وكذا المعوذتان للسورتين الأخيرتين. قوله: ((تكفيك من كل شيء)) أي تدفع عنك كل شيء سوء. ويحتمل أن يكون معناه تغنيك عما سواها، وينصر المعنى الثانى الحديث الاَتى. الحديث الثلاثون عن عقبة: قوله: ((لن تقرأ شيئاً أبلغ)) بيان لتقييد السؤال المطلق، أي أأقرأ سورة هود، وسورة يوسف لدفع السوء عنى؟، فقال: لن تقرأ شيئاً أبلغ لدفع السوء من هاتين السورتين، ويؤيده قوله في حديث عقبة أيضاً: ((تعوذ بهما تعوذ متعوذ بمثلهم)).

الفصل الثالث 2165 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعربوا القراَن، واتبعوا غرائبه، وغرائبه فرائضه وحدوده)). [2165] 2166 - وعن عائشة [رضي الله عنها]: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قراءة القراَن في الصلاة أفضل من قراءة القراَن في غير صلاة، وقراءة القراَن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير، والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جنة من النار)). [2166] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أعربوا القراَن)) ((نه)): يقال: أعرب عنه لسانه وعرب، إذا بين ما في ضميره، وإنما سمى الإعراب إعراباً لتبيينه وإيضاحه، المعنى بينوا مافي القراَن من غرائب اللغة، وبدائع الإعراب. وقوله: ((وابعوا غرائبه)) لم يرد به غرائب اللغة لئلا يلزم التكرار، ولهذا فسره بقوله: ((وغرائبه فرائضه وحدوده)) وهي تحتمل وجهين، أحدهما: فرائض المواريث، وحدود الأحكام، وثإنيهما: أن يراد بالفرائض مايجب علي المكلف اتباعه، وبالحدود مايطلع به علي الأسرار الخفية والرموز الدقيقة. وهذا التأويل قريب من معنى ما ورد ((أنزل القراَن علي سبعة أحرف، لكل اَيه منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع))، فقوله: ((أعربوا)) إشارة إلي ما ظهر منه، و ((فرائضه وحدوده)) إلي مابطن منه. ولما كان الغرض الأصلي هذا الثانى، قال: ((واتبعوا)) أي شمروا عن ساق الجد في تفتيش مايعنيكم، وجدوا في تنقير مايهمكم من الأسرار، ولا توانوا فيه. الحديث الثانى عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((والصوم جنة)) ((تو)): ذكر خاصية المفضول وترك خواص الفواضل تنبيهاً علي أنها تناهت عن الوصف. فإن قلت: دل هذا الحديث علي أن الصوم دون الصلاة والصدقة، ودل قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن اَدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف الإ الصوم)) الحديث علي أن الصوم أفضل. قلت: إذا نظر إلي نفس العبادة، كانت الصلاة أفضل من الصدقة، وهي من الصوم؛ فإن موارد التنزيل وشواهد الأحاديث النبوية جارية علي تقديم الأفضل، فإذا نظرت إلي كل منها وما يدلي إليه من الخاصية التي لم يشاركه غيره فيها كان الصوم أفضل.

2167 - وعن عثمان بن عبدالله بن أوس الثقفي، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قراءة القراَن في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضعف علي ذلك إلي ألفي درجة)). [2167] 2168 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء)). قيل: يارسول الله! وما جلاؤها؟ قال: ((كثرة ذكر الموت، وتلاوة القراَن)) روى البيهقى الأحاديث الأربعة في ((شعب الإيمان)). [2168] 2169 - وعن، أيفع بن عبد الكلاعى، قال: قال رجل: يارسول الله! أي سورة القراَن أعظم؟ قال: {قل هو الله أحد}. قال: فأي اَية في القراَن أعظم؟ قال: ((اَية الكرسى {الله لا إله هو الحى القيوم}. قال: فأي اَية يانبى الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عثمان بن عبدالله: قوله: ((ألف درجة)) خبر لقوله: ((قراءة الرجل)) علي تقدير المضاف، أي ذات ألف درجة ليصح الحمل، كما في قوله تعالي: {هم درجات عند الله} أي ذو درجات. وإنما فضلت القراءة في المصحف، لحفظ النظر في المصحف، وحمله، ومسه، وتمكنه من التفكر فيه، واستنباط معإنيه. وقوله: ((إلي ألفي درجة)) حال، أي ينتهي إلي ألفي درجة. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كما يصدأ الحديد)) صداء الحديد وسخه، شبه القلوب الطاهرة من اوضار الذنوب بالمراَة المجلوة، ومايكتسبها من الاَثار بالصداء في تكدير الصفاء، قال تعالي: {كلا بل ران علي قلوبهم ماكانوا يكسبون} أما جلاؤه بذكر الموت، فإن ذكره هادم للذات التي حملت الشخص علي ارتكاب الفواحش، والمعاصى، وتصفيتها بتلاوة القراَن؛ لأن القلب الخالي عن القراءة كالبيت الضيق الخرب المظلم، ونور القراَن يشرحه ويوسعه وينوره، قال الله تعالي: {فمن يرد أن يهديه بشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} الحديث الخامس عن أيفع بن عبد الكلاعى: أيفع بفتح الهمزة وسكون الياء تحتها نقطتان

تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال: ((خاتمة سورة (البقرة) فإنها من خزائن رحمة الله تعالي من تحت عرشه، أعطاها هذه الأمة، لم تترك خيراً من خير الدنيا والأخرة إلا أشتملت عليه)). رواه الدرامى. 2170 - وعن عبدالملك بن عمير مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)) رواه الدارمى، والبيهقى في ((شعب الإيمان)). [2170]. 2171 - وعن عثمان بن عفان [رضي الله عنه]، قال: من قرأ اَخر (اَل عمران) في ليلة كتب له قيام ليلة. [2171]. 2172 - وعن مكحول، قال: من قرأ سورة {اَل عمران} يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلي الليل. رواهما الدارمى. [2172]. 2173 - وعن جبير بن نفير [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ختم سورة (البقرة) باَيتين، أعطيتما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نسائكم، فإنها صلاة وقربان ودعاء)). رواه الدارمى مرسلا. [2173]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتح الفاء. قوله: ((تحب أن تصيبك)) أي فائدتها، يدل علي هذا التقدير قوله: ((لم تترك خيراً من خير الدنيا والاَخرة الإ اشتملت عليه)) أما خير الاَخرة فإن قوله: {اَمن الرسول - إلي قوله – لا نفرق بين أحد من رسله} إشارة إلي الإيمان والتصديق، وقوله: {سمعنا وأطعنا} إلي الإسلام والانقياد والأعمال الظاهرة، وقوله: {وإليك المصير} إشارة إلي جزاء العمل في الاَخرة، وقوله: {لا يكلف الله نفساً - إلي قوله – وانصرنا علي القوم الكافرين} إشارة إلي المنافع الدنيوية. الحديث السادس عن عبد الملك بن عمير: قوله: ((مرسلا)) لأن عبدالملك كان من مشاهير التابعين وثقاتهم، وكان علي قضاء الكوفة بعد الشعبى. قوله: {شفاء من كل داء} يشتمل عليداء الجهل، والكفر، والمعاصى، والأمراض الظاهرة، ولعمرى! إنها كذلك لمن تفكر وتأمل وجرب. الحديث السابع إلي التاسع عن جبير بن نفير: قوله: ((فإنها صلاة)) ضمير المؤنث راجع إلي معنى الجماعة من الحروف في قوله: ((باَيتين)) وعلي هذا قوله: ((فتعلموهن)) نحو قوله

2174 - وعن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرأوا سورة (هود) يوم الجمعة)). رواه الدارمى مرسلا. 2175 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ سورة (الكهف) في يوم الجمعة أضاء له النور مابين الجمعتين)). رواه البيهقى في ((الدعوات الكبير)). 2176 - وعن خالد بن معدان قال: اقرءوا المنجية وهي {الم تنزيل}، فإنه بلغنى أن رجلا كان يقرؤها، مايقرأ شيئاً غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرت جناحها عليه، قالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر قراءتى، فشفعها الرب تعالي فيه، وقال: اكتبوا له بكل خطئة حسنة، وارفعوا له درجة)) وقال أيضاً: ((إنها تجادل عن صاحبها ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الله تعالي: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} والصلاة لا تحمل علي الأركان المخصوصة لانها غيرها، ولا علي الدعاء؛ لئلا يلزم التكرار، بل علي الاستغار لقوله: ((غفرانك)) وقوله: {واغفر لنا} فإنهم حملوا صلاة الملائكة في قوله تعالي: {إن الله وملائكته يصلون علي النبي} علي الأستغفار. وأما كونها قرباناً، فإما إلي الله تعالي، وهو الإشارة بقوله: {وإليك المصير} وإما إلي الرسول صلى الله عليه وسلم. وعطف قوله: {والمؤمنون} علي {الرسول}، ثم جمعه في قوله: {كل اَمن بالله} أي كل من الرسول والمؤمنين اَمن بالله وملائكته، والتنوين في ((كل)) عوض من الرسول والمؤمنين. الحديث العاشر والحادى عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أضاء له)) يجوز أن يكون لازاماً، وقوله: ((ما بين الجمعتين)) ظرف، فيكون إشراق ضوء النور فيما بين الجمعتين بمنزلة إشراق النور نفسه مبالغة. ويجوز أن يكون متعدياً، والظرف مفعول به وعلي الوجهين فسر قوله تعالي: {فلما أضاءت ما حوله}. الحديث الثانى عشر عن خالد بن معدان: قوله: ((قال: اقرءوا)) يشعر بأن الحديث موقوف عليه، فقوله: ((اقرءوا)) يحتمل أن يكون من كلام الرسول، وقوله: ((فإنه بلغنى أن رجلا كان يقرؤها)) إخبار منه صلى الله عليه وسلم، كما أخبر في قوله: ((إن سورة في القراَن ثلاثون اَية شفعت لرجل))،

في القبر، تقول: اللهم إن كنت من كتابك فشفعنى فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحنى عنه، وإنها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له، فتمنعه من عذاب القبر)). وقال في (تبارك) مثله. وكان خالد لا يبيت حتى يقرأهمها. [2176]. وقال طاووس: فضلتا علي كل سورة في القراَن بستين حسنة. رواه الدارمى. 2177 - وعن عطاء بن أبي رباح. قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ (يسَ) في صدر النهار قضيت حوائجه)). رواه الدارمى مرسلا. [2177]. 2178 - وعن معقل بن يسار المزنى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قرأ (يسَ) ابتغاء وجه اللي تعالي غفر له ماتقدم من ذنبه، فاقرءوها عند موتاكم)). رواه البيهقى في ((شعب الإيمان)). [2178]. 2179 - وعن عبدالله بن مسعود، أنه قال: إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القراَن سورة (البقرة)، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القراَن المفصل. رواه الدارمى. [2179]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن يكون من كلام الراوى. وقوله: ((مايقرأ شيءياً غيرها)) معناه أنه لم يجعل لنفسه ورداً غيره. وقوله: ((اكتبوا له بكل خطئة حسنة)) نحو قوله تعالي: {فؤلئك يبدل الله سياَتهم حسنات}. وقوله: ((إن كنت من كتابك)) إلي اَخره بيان للمجادلة، وهو كما يقول الأب لابنه الذي لم يراع حقه: إن كنت لك أباً فراع حقى، وإن لم أكن لك أباً فكيف تراعى حقى، وهذه المجادلة ونشر الجناح علي قارئها، كالمحاجة، والتظليل المذكور في الزهراوين، كأنهما طيران صواف يحاجان عن أصحابهما، وهي من الكناية الزبدية التي ماَل معناها أن قراءة هذه السورة وبركتها وتنجى صاحبها من كرب القيامة والقبر، وإلي هذا المعنى أشار في صدر الحديث ((اقرأوا المنجية)). الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن معقل بن يسار: قوله: ((فاقرءوها عند موتاكم)) الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا كان قراءة (يسَ) بالإخلاص تكحو الذنوب السالفة فاقرءوا علي من شارف الموت حتى يسمعها أو يجربها علي قلبه فيغفر له ما أسلفه. الحديث الخامس عشر عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((إن لكل شيء سناماً)) أي رفعة وعلواً،

2180 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لكل شيء عروس، وعروس القراَن (الرحمن))) [2180]. 2181 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ سورة (الواقعة) في كل ليلة لم تصبه فاقة ابداً)). وكان ابن مسعود يأمر بناته يقرأن بها في كل ليلة. [2181]. رواهما البيهقى في ((شعب الإيمان)). 2182 - وعن علي رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة {سبح اسم ربك الأعلي} رواه أحمد. 2183 - وعن عبدالله بن عمرو، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأنى ـــــــــــــــــــــــــــــ استعير من سنام الجمل، ثم كثر أستعماله فيها حتى صار مثلا، ومنه سميت البقرة سنام القراَن، ولباب كل شيء خلاصته، وزبدته مأخوذ من الزبد. الحديث السادس عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لكل شيء عروس)) ((نه)): أعرس الرجل يعرس فهو معرس إذا دخل بإمرأته عند بنائها، ويقال للرجل: عروس، كما يقال للمرأه، وهو أسم لهمها عند دخول أحدهما بالأخر. ((كل شيء)) ها هنا مثل ما في قوله تعالي حكاية سليمان: {وأوتينا من كل شيء} أي من كل مايليق بحالنا، وما يصح أن ينسب إلينا من النبؤة، والعلم، والملك، وفي حق بلقيس {وأوتيت من كل شيء} أي من كل مايستقيم أن ينسب إليها، فالمعنى أن كل شيء يستقيم أتضاف إليه العروس. والعروس ها هنا يحتمل وجهين: أحدهما ازينة كما أريد بقوله: ((لكل شيء قلب ولب)) ومنه قوله تعالي: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت} شبهها بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب الفاخرة، وثإنيهما: الزلفي إلي المحبوب والوصول إلي المطلوب، وذلك أنه كلما كرر قوله: {فبأي اَلاَء ربكما تكذبان} كأنه يجلو نعمة السابغة علي الثقلين، ويزينها ويمن عليهم بها. الحديث السابع والثامن والتاسع عشر عن عبدالله بن عمرو: قوله: ((من ذوات الر)) أي من

يا رسول الله! فقال: ((اقرأ ثلاثاً من ذوات (الر))). فقال: كبرت سنى، وأشتد قلبى، وغلظ لسانى. قال: ((فاقرأ ثلاثاً من ذوات (حم))). فقال مثل مقالته، قال الرجل: يارسول الله! أقرئنى سورة جامعة، فأقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا زلزلت} حتى فرغ منها. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليه أبداً، ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح الرويجل)) مرتين. رواه أحمد، وأبوداود. [2183]. 2184 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف اَية في كل يوم؟)) قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف اَية في كل يوم؟ قال: ((أما يستطيع أحدكم أن يقرأ {ألهاكم التكاثر}؟)). رواه البيهقى في ((شعب الإيمان)). [2184]. 2185 - وعن سعيد بن المسيب، مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى له قصر في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بنى له ـــــــــــــــــــــــــــــ السور التي صدرت بهذه الفواتح. قوله: ((فأقرأه (إذا زلزلت))) إجابة عن سؤاله، يدل علي أنها من الجوامع التي حوت معانى جمة، وما ذلك إلا قوله: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) إلي اَخرها علي ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر، قال: ((لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الاَية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره})). وبيان ذلك أنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها، كقوله تعالي: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفي بنا حاسبين}. ولعل طلب الرجل القراءة بقوله: ((أقرأنى)) كان طلباً لما يحصل به الفلاح إذا عمل به وقام عليه، وكان موجزاً جامعاً، ومن ثم قال: ((لا أزيد عليه ابداً)) فلما طبق المفصل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح الرويجل)) علي تصغير التعظيم لبعد غوره وقوة إدراكه، وينصر هذا التأويل ما روى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الاَية، فقال: ((حسبى لا أبالي أن لا أسمع غيرها)) والرويجل تصغير شاذ؛ لأن القياس رجيل. الحديث العشرون والحادى والعشرون عن سعيد بن المسيب: قوله: ((إذاً تكثرون)) ((إذاً)) جواب وجزاء، وفيه معنى التعجب، أي إذا كان جزاء قراءة عشر مرات قصراً فلا حد له حينئذ

(1) باب [آداب التلاوة ودروس القرآن]

بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى له بها ثلاثة قصور في الجنة)). فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والله يارسول الله! إذا لنكثرن قصورنا. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((الله أوسع من ذلك)) رواه الدارمي. [2185]. 2186 - وعن الحسن، مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن تلك الليلة ومن قرأ في ليلة مائتى آية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة إلي الألف أصبح وله قنطار من الاجر)) قالوا: وما القنطار؟ قال: ((اثنا عشر ألفاً)). رواه الدارمى. [2186] (1) باب [آداب التلاوة ودروس القرآن] الفصل الأول 2187 - عن أبي موسى الاشعرى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لنر أشذ تفصيأ من الإبل في عقلها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك أجاب بقوله: ((أوسع من ذلك)) أي قدرة الله ورحمته وفضله أوسع، فلا تتعجب0 الحديث الثانى والعشرون عن الحسن: قوله: ((لم يحاجه القرآن)). فيه أن قراءته لازمة لكل إنسان وواجبة عليه، فإذا لم يقرأه يخاصمه الله تعالي ويغلبه بالحجة، فإسناد المحاجة إلي القرآن مجاز. قوله: ((قنوت ليلة)) أي قيامها. قوله: ((وله قنطار)) أي له ثواب بعدد القنطار أو بوزنه. ((نه)): في الحديث: ((أن القنطار ألف ومائتا أوقية، والآوقية خير مما بين السماء والأرض)). باب آداب التلاوة ودروس القرآن الفصل الأول الحديث الأول عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((تعاهدوا القرآن)) تعاهد الشىء وتعهده محافظته وتجديد العهد به، أي واظبوا علي تلاوته، وداوموا علي تكراره ودرسه كيلا ينسى

2188 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت اَية كيت وكيت؛ بل نسى، واستذكروا القراَن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم)). متفق عليه، وزاد مسلم: ((بعقلها)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله ((أشد تفصياً)) التفصى من الشىء التخلص منه، تقول: تفصيت من الديون اذا خرجت منها، شبه القرآن وكونه محفوظا علي ظهر القلب بالإبل الأبدة النافرة، وقد عقل عليها، وشد بذراعيها بالحبل المتين، وذلك ان القرآن ليس من كلام البشر بل هو كلام خالق القوى والقدر، وليس بينه وبين، البشر مناسبة قريبة؛ لانه حادث وهو قديم والله سبحانه بلطفه العميم، وكلامه القديم من عليهم ومنحهم هذه النعمة العظيمة قينبغى له أن يتعاهده بالحفظ والمواظبة عليه ما أمكنه. ((قوله قى عقلها)) ((تو)): هي جمع عقال مثل كتاب وكتب، يقال: عقلت البعير أعقله عقلأ، وهو أن يثنى وظيفه مع ذراعه فيشدهما جمينا في وسط الذراع، وذلك الحبل هو العقال. ويجوز تخفيف الحرف الوسط في الجمع مثل كتب وكتب، والرواية فيه من غير تخفيف. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله ((بئس ما لآحدهم)) ((ما)) نكرة موصوفة، و ((أن يقول)) مخصوص بالذم (كقوله تعالي {بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا} أي بئس شيئاً كائنا للرجل. قوله: ((نسيت آية كيت وكيت)) وذلك ان هذا القول يدل علي أنه لم يتعاهد القرآن ولم يلازم عليه، وقوله: ((بل ننسي)) إشارة إلي عدم تقصيره في المحافظة. لكن الله تعالي نساه لمصالح، قال: {ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها}. ((خط)): قوله: ((بل نسى)) يحتمل أن يكون ذلك خاصاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون معنى قوله: ((نسى)) أي نسخت تلاوته، نهاهم عن هذا القول لئلا يتوهم السضياع علي محكم القرآن، قأعلمهم بأن ذلك من قبل الله لما رأي فيه من الحكمة يعنى نسخ التلاوة0 قوله: ((واستذكروا)) السين للمبالغة أي اطلبوا من انفسكم المذاكرة به، والمحافظة عل قراءته. وهو عطف من حيث المعني علي قوله: ((بئس ما لأحدهم ان يقول)) أي لا تقصروا في معاهدة القرآن واستذكروه. وقوله: بالإ نساء الذي اضراب عن القول بنسبة النسيان إلي النفس المسبب عن عدم التعاهد إلي القول بالإنساء الذي هو من فعل الله من غير تقصير منه، أي لا تقولوا ذلك القول، بل قولواما قيل في عهد الرسول فلو كما يشهد له ما روى عن عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ بالليل، ققال ((يرحمه الله! قد أذكرنى كذا وكذا آية كنت أنسيتها)) قال أبو عبيد: أما الحريص علي حفظ القرآن الدائب في تلاوته، لكن النسيان يغلبه، فلا يدخل في هذا الحكم بدليل هذا

2189 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة، إذ عاهد عليها امسكها، وإذ أطلقها ذهبت)) متفق عليه. 2190 - وعن جندب بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فاذا اختلفتم فقوموا عنه)) متفق عليه. 2191 - وعن قتادة، قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صى الله عليه وسلم؟ فقال: ((كانت مداً مداً، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بيسم الله، ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. رواه البخاري. 2192 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغئى بالقرآن)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث. وقيل: معنى ((نسي)) عوقب بالنسيان علي ذنب أو سوء تعهد بالقرآن. أقول: هو من قوله تعالي {أتتك اَياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} الحديث الثالث والرابع عن جندب: قوله: ((ما ائتلفت عليه قلوبكم)) يعني اقرأوه علي نشاط منكم وخواطركم مجموعة، فإذا حصل لكم ملالة وتفرق القلوب فاتركوه، فإنه أعظم من ان يقرأه أحد من غير حضور القلب. يقال: قام بالأمر إذا جد فيه ودام عليه، وقام عن الآمر إذا تركه وتجاوز عنه. الحديث الخامس عن قتادة: قوله: ((كانت مدا)) ((تو)) أي ذات مد، وفي كتاب البخاري ((كان يمده مدا)) وفي رواية ((كانت مداً)) أي كان يمده مدا، وفي المصابيح ((كانت مداً)) ولم نطلع عليه رواية، وفي أكثر النسخ قيد مداء علي زنة قعلاء، والظاهر أنه قول علي التخمين. ((مظ)): يعنى كانت قراءته مداء أي قراءته كثيرة المد، وهي تإنيث أمد، وحروف المد ثلاثة الالف والواو والياء، فإذا كانت بعدها همزة يمد ذلك الحرف، وفي قدره اختلفوا، فبعضهم يمد يقدر ألف وبعضهم يمد بقدر ألفين إلي خمس ألفات، ويعنى بقدر الألف قدر مد صوتك إذا قلت باء أو تاء. وإن كان بعدها تشديد تمد بقدر أربع ألفات بالاتفاق مثا داَبة، وإن كان بعدها ساكن تمد بقدر ألفين، نحو صاد ويعلمون، ونستعين، عند الوقف، وإذا كان بعد حروف المد غير ماذكر لم تمد حروف المد إلا بقدر خروجها من الفم، نحو إياك وكذا تعملون ونستعين عند الوصل. وما نحن فيه من هذا القبيل، بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن الإ بقدر خروج المد من الفم الإ الرحيم عند الوقف فيمد ألفين. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما أذن الله لشيء)) ((نه)): أي ما

2193 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبى حسن الصوت بالقراَن، يجهر به)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ استمع الله لشيء كاستماعه لنبى يستغنى بالقراَن، أي يتلوه ويجهر به. ((حس)): يقال: أذنت لشيء اَذن أذناً- بفتح الالف والذال – إذا استمعت له. أقول: والمراد بـ ((شيء)) المسموع لقوله تعالي: {فاستمع لما يوحى}، وقوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} فلا بد من تقدير مضاف عند قوله: ((لنبى)) أي لصوت نبى، والنبي جنس شائع في كل نبى، فالمراد بالقراَن القراءة. ((مح)): قالوا: لا يجوز أن يحمل الاستمتاع علي الإصغاء، فإنه يستحيل علي الله تعالي، بل هو كناية عن تقريبه وإجزال ثوابه؛ لأن سماع الله لا يختلف. قوله: ((يتغنى بالقراَن)) معناه عند الشافعى وأصحابه، وأكثر العلماء: تحسين الصوت به، وعند سفيان بن عيينه: يستغنى به الناس. وقيل: عن غيره من الأحاديث والكتب. قال القاضى عياض: يقال: تغنيت وتغإنيت بمعنى استغنيت. وقال الشافعى وموافقوه: معناه تحزين القراءة وترقيقها، واستدلوا بالحديث الاَخر ((زينوا القراَن بأصواتكم)) قال الأزهرى: معنى ((يتغنى به)) يجهر به. وأنكر أبو جعفر الطبرى تفسير من قال: يستغنى به، وخطأه من حيث اللغة، والمعنى، والصحيح: أنه من تحسين الصوت، وتؤيده الرواية الاَخرى ((يتغنى بالقراَن يجهر به)). أقول: يريد أن قوله: ((يجهر به)) جملة مبينة لقوله: ((يتغنى بالقراَن)) فلن يكون المبين علي خلاف البيان، كذلك ((يتغنى بالقراَن)) في الرواية الاولي بيان لقوله: ((ما أذن لنبى)) أي لصوته، فكيف يحمل علي غير حسن الصوت؟ علي أن الاستماع ينبو عن الاستغناء، وينصره الحديث الاَتى: ((ما أذن لنبى حسن الصوت بالقراَن يجهر به)). ((حس)): في الحديث دليل علي أن المسموع من قراءة القارئ هو القراَن، وليس بحكاية القراَن. قال الشافعى رضي الله عنه: لو كان معنى ((يتغنى بالقراَن)) علي الاستغناء لكان يتغانى، وتحسين الصوت هو يتغنى. قال: ولا بأس في القراَن بالألحان، وتحسين الصوت بأي وجه كان. ((مح)): يستحب تحسين الصوت بالقراءة، وتزيينها بالألحان ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً، أو أخفي حرفاً فهو حرام. ذكره في الأذكار.

2194 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقراَن)) رواه البخاري .. 2195 - وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي المنبر: ((اقرأ علي)). قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((إنى أحب أسمعه من غيرى)). فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلي هذه الأية {فكيف إذا جئنا من كل أمه بشهيد وجئنا بك عى هؤلاء شهيداً}، قال: ((حسبك الاَن))، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس منا لم يتغن بالقراَن)) ((يتغنى)) ها هنا يحتمل أن يكون بمعنى الاستغناء، وأن يكون بمعنى التغنى، ما لم يكن بياناً للسابق ومبيناً للاحق، كما في الحديث السابق. ((ومن)) في ((منا)) اتصالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا من دد ولا الدد منى)) أي ما انا متصل باللهو، ولا اللهو متصل بلا، والشيخ التوربشتى رجح جانب الاستغناء، وقال: المعنى ليس من أهل سنتنا، وممن يتبعنا في أمرنا، وهو وعيد، ولا خلاف بين الأمة أن القراَن مثاب علي قراءته، ومأجور من غير تحسين صوته، فكيف يحمل علي كونه مستحقاً للوعيد، وهو مثاب مأجور؟ وأقول: يمكن أن يحمل علي معنى التغني، أي ليس منا معشر الأنبياء ممن يحسن صوته بالقراءة، ويستمع الله منه، بل يكون من جملة من هو نازل عن مرتبتهم، فيثاب علي قراءته كسائر المسلمين، لا علي تحسين صوته كالأنبياء ومن تابعهم فيه. الحديث التاسع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: {فكيف إذا جئنا} الاَية، ((مظ)): يعنى فكيف حال الناس في يوم تحضر أمه كل نبى، ويكون بينهم شهيداً بما فعلوا من قبولهم النبي أو ردهم إياه، وكذلك نفعل بك يا محمد وبأمتك. أقول: ينافي هذا القول قوله تعالي: {لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي حفيظاً لكم ومزكياً لكم، فالشهادة لهم لا عليهم، فكيف يفسر هذا بما يناقضه، بل المعنى بـ ((هؤلاء)) أشخاص معينون من الكفرة. الكشاف: المعنى كيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمه بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا، وهو نبيهم. وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فلفرط رأفته، ومزيد شفقته حيث عز عليه عنتهمظن فعوى عليهم وبكى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم}.

2196 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((إن الله أمرنى أن اقرأ عليك القراَن)) .. قال: الله سمانى لك؟ قال: ((نعم)). قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال ((نعم)) فذرفت عيناه. وفي رواية: ((إن الله أمرنى أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا})) قال: وسمانى؟ قال: ((نعم)). فبكى. متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): في الحديث فوائد: منها استحباب استماع القراءة والإصغاء لها، والبكاء عندها، والتدبر فيها، واستحباب طلب القراءة من الغير ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه تواضع لأهل العلم والفضل، ورفع منزلتهم. قوله: ((تذرفان)) ((نه): يقال: ذرفت العين إذا جرى دمعها. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الله سمانى)) أي أن الله بتحقيق الهمزتين، وحذف الأولي، أو الله بالمد بغير حذف، والهمزة للتعجب إما هضما لنفسه أي أنى لي هذه المنزلة، أو استلذاذاً لذلك، قال: بلي سرنى أن خطرت ببالك. وقوله: ((وقد ذكرت عنده)) تقرير للتعجب بعد تقرير، أي وقد ذكرنى، و ((عند)) ها هنا كناية عن الذات وعظمته، كقوله تعالي: {من خاف مقان ربه} أي عظمته وجلالته. في الحديث فوائد جمه: منها استحباب القراءة علي الحداق وأهل العلم به والفضل، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه، ومنها المنقبة الشريفة لأبي، ولا نعلم أن أحداً شاركه فيها، ومنها منقبة اَخرى له بذكر الله تعالي إياه ونصه عليه، ومنها البكاء للسرور والفرح بما يبشر الإنسان به، وبما يعطاه من معالي الأمور. وأما تخصيص قراءة {لك يكن} فلأنها وجيزه جامعة لقواعد كثيرة من أصول الدين، ومهمات في الوعد، والوعيد، والإخلاص وتطهير القلوب. وكان أبي مقدماً علي قراء الصحابة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أقرأكم أبي)). ((تو)) إنما خص به أبي لماقيض له من الأمانة في هذا الشأن، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه ليأخذ عنه رسم التلاوة كما أخذه نبى الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، ثم يأخذه علي هذا النمط الاَخر عن الأول، والخلف عن السلف، وقد أخذ عن أبي رضي الله عنه بشر كثير من التابعين، وهلم جرا.

2197 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقراَن إلي أرض العدو. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لا تسافروا بالقراَن، فإنى لا اَمن أن يناله العدو)). الفصل الثانى 2198 - عن أبي سعيد الخدرى، قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادى والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أن يسافر بالقراَن)) الباء في ((بالقراَن)) زائدة، و ((القراَن)) أقيم مقام الفاعل، وليست كما في قوله: ((لا تسافروا بالقراَن)) فإنها حال، كما في قولك: ((دخلت عليه بثياب السفر)) وعلل النهي بالخوف علي إصابة العدو وإياه فيحقره ويستخف به، وذلك خلاف ما هو من شأنه من التعظيم، فالقراَن يراد به المصحف. ((شف)): كان جميع القراَن محفوظاً عند جميع الصحابة، فلو مشى من عنده بعض القراَن به إلي أرض العو ومات، لضاع ذلك القدر الذي كان عنده. أقول: ذهب في هذا إلي الكناية؛ لأن المصحف لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: لم لا يجوز أن يراد بـ ((القراَن)) بعض مانسخ وكتب في عهده صلى الله عليه وسلم، أو يكون إخباراً عن الغيب. ((حس)): حمل المصحف إالي دار الكفر مكروه، كما جاء في الحديث، ولو كتب إليهم كتاباً فيه اَية من القراَن لا بأس به، كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلي هرقل {يا أهل الكتاب تعالوا} الاَية، ويكره تنفيش الجدر والثياب بالقراَن، وذكر الله تعالي، ورخص قوم في تحريق ما يجتمع عنده من الرسائل، وسئل مالك عن تفضيض المصاحف؟ فأخرج مصحفاً، وقال: حدثنى أبي عن جدى: أنهم جمعوا القراَن علة عهد عثمان رضي الله عنه، وفضضوا المصاحف علي هذا أو نحوه. الفصل الثانى الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((إذ جاء رسول الله)) إذ للمفاجأة. ((مظ)): يعنى كنا غافلين عن مجيئه، فنظرنا فإذا هو قائم فوق رؤسنا يستمع إلي كتاب الله، أي يصغى إليه. ((قوله)): ((فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتى)) لما رأي صلى الله عليه وسلم من حالهم وفقرهم وعريهم، ثم تلاوتهم كتاب الله، وإصغائهم إليه بشراشرهم*، شكر صنعيتهم، وذكر ما قال الله تعالي

الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلم، ثم قال: ((ما كنتم تصنعون؟)) قلنا: كنا نستمع إلي كتاب الله. فقال: ((الحمد لله الذي جعل من أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معهم)) قال: فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا، فتحلقوا وبرزت وجوههم له، فقال: ((أبشروا يامعشر صعاليك المهاجرين! بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة)). رواه أبو داود. [2198]. 2199 - وعن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القراَن بأصواتكم)) رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه والدارمى. [2199]. ـــــــــــــــــــــــــــــ في حقهم، وما أمره أن يصبر معهم في قوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه} وحمد علي ذلك. نظلت الاَية في فقراء المهاجرين حين قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء الفقراء من عندك حتى نجالسك ونؤمن بك فمال إلي ما قالوا، فنزلت {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى} وهذه الاَية. وقوله: ((ليعدل بنفسه)) ((تو)): أي ليجعل نفسه عديلا ممن جلس إليهم، ويسوى بينه وبين اؤلئك الزمرة في المجلس رغبة فيما كانوا فيه، وتوا1عاً لربه سبحانه وتعالي. قوله: ((ثم قال بيده هكذا)) يعنى لما جلس بينهم لم تكن وجوه القوم بارزة له، ثم أشار بيده إلي أن يجلسوا حلقه لتظهر وجوههم له، ويراهم كلهم، امتثالا لقوله تعالي: {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} وإن كانت كناية عن الإزدراء بهم، وأن ينبو عن رثاثه زيهم طموحاً إلي زى الأغنياء وحسن سادتهم، لكن لا ينافي إرادة الحقيقة، وأن ينظر إليهم بعينه جميعاً بين مدلولي المفهوم والمنطوق. ((تو)): الصعلوك الذي لا مال له، وصعاليك العرب دونها*، وصعاليك المهاجرين فقراؤهم. قوله: ((بنصف يوم)) ((مظ)): وذلك لأن الأغنياء وقفوا في العرصات للحساب، وسئلوا من أين حصلوا المال، وفي أي شيء صرفوه، ولم يكن مال حتى يتوقفوا. وعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقراء، الصابرين والصالحين منهم، وبالأغنياء، الشاكرين المؤدين حقوق أموالهم. الحديث الثانى عن البراء: قوله: ((زينوا القراَن بأصواتكم)) ((قض)): قيل: إنه من المقلوب،

2200 - وعن سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئ يقرأ القراَن ثم ينساه إلا لقى الله يوم القيامه أجزم)) رواه أبو داود، والدارمى. [2200]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويدل عليه أنه روى أيضاً عن البراء عكس ذلك. ونظيره في كلام العرب قولهم: عرضت الناقة علي الحوض، والمعروض هو الحوض علي الناقة، وقولهم: إذا طلعت الشعرى، واستوى العود علي الحرباء، فإن الحرباء تستوى علي العود. ويجوز أ، يجرى علي ظاهره، فيقال: المراد تزيينه بالترتيل، والجهر به، وتحسين الصوت، فإنه إذا سمه من صيت حسن الصوت يقرأ بصوت طيب ولحن حزين، يكون أوقع في القلب وأشد تأثيراً، وأرق لسامعيه، وسماه تزييناً، لانه تزيين اللفظ والمعنى. ((تو)): هذا إذا لم يخرجه التغنى عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف، فإذا انتهي إلي ذلك عاد الاستحباب فيه كراهة، وأما الذي أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى، فيأخذون في كلام الله مأخذهم في التنشيد والغزل، فإنه من أشد البد وأسوأ الأحداث، فيوجب علي السامع النكير، وعلي التالي التعزيز. ((مح)): في الروضة: أما تحسين الصوت بقراءة القراَن فمسنون، وأما القراءة بالألحان، فقال الشافعى في المختصر: لا بأس بها، وفي رواية أنه مكروه. قال جمهور الأصحاب: ليست علي القولين، بل المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات، حتى يتولد من الفتحة ألف، ومن الضمة واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الإدغام، فإن لم ينته إلي هذا الحد فلا كراهة. قال الشيخ محى الدين: الصحيح أنه إذا أفرط علي الوجه المذكور فهو حرام، صرح به صاحب الحاوى، فقال: هو حرام يفسق به القارئ ويأثم المستمع؛ لانه عدل به عن نهجه القويم، وهذا مراد الشافعى بالكراهة. الحديث الثالث عن سعد: قوله: ((أجذم)) ((نه)): أي مقطوع اليد، من الجذم وهو القطع. وفي الغريبين احتج أبو عبيد في هذا القول بقول علي رضي الله هنه: ((من نكث بيعته لقى الله تعالي وهو أجذم ليس له يد)). وقال القتيبى: الأجذمها هنا الذي ذهبت أعضاؤه كلها، وليست يد الناسى للقراَن اولي بالعقوبة من سائر أعضائه، يقال: رجل أجذم، إذا تهافتت اعضاؤه من الجذام. قال ابن الأنبارى: القول ما قال أبو عبيد، فإن العقاب لو كان يقع بالجارحه التي باشرت المعصية لما عوقب الزانى بالنار في الاَخر، وبارجم والجلد في الدنيا. وقيل: معناه أنه أجذم الحجه، لا لسان له يتكلم، ولا حجة في يده. واليد يراد به الحجة، ألا ترى أن الصحيح اليد يقول لصاحبة: قطعت يدى، أي أذهبت حجتى. وقال الخطأبي: معناه ما ذكره

2201 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لم يفقه من قرأ القراَن في أقل من ثلاث)) رواه الترمذى، وأبوداود، والدارمى [2201]. 2202 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجاهر بالقراَن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقراَن كالمسر بالصدقة)) رواه الترمذى، وأبوداود، والنسائى. وقال الترمذى: هذا الحديث حسن غريب ـــــــــــــــــــــــــــــ ابن الأعرأبي، أي خالي اليد عن الخير، وكنى باليد عما تحويه اليد وأقول: ويطابقه قوله تعالي: {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً- إلي قوله – وكذلك اليوم تنسى}. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((لم يفقه)) أي لم يفهم ظاهر معانى القراَن في أقل من هذه المدة، وأما إذا أعمل الفكر وأراد التدبر فيه، فلم يف عمره في أسرار أقل اَية بل كلمة منه، ويفهم من هذا نفي التفهم لا نفي الثواب، ثم يتفاوت هذا بتفاوت الأشخاص وأفهامهم. ((مح)): قد كان للسلف رضي الله عنهم عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه. فمنهم من يختم كل شهرين ختمه، واَخرون في شهر وعشر، وفي أسبوع إلي أربع وكثيرون في ثلاث وكثيرون في يوم وليلة، وختم ثمانى ختمات أربعاً بالنهار وأربعاً بالليل السيد الجليل ابن الكاتب الصوفي رحمه الله. وأما الذين ختموا القراَن في ركعة فلا يحصون كثرة، فمنهم عثمان، وتميم الدارى، وسعيد جبير رضي الله عنهم. والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له تدقيق فكر اللطائف والمعارف فليقتصر علي قدر يحصل له معه كمال فهم مايقرأ، ومن أشتغل بنشر العلم أو فصل الحكومات من مهمات المسلمين فليقتصر علي قدر لا يمنه من ذلك ولا يختل بما هو مترصد له، ومن لم يكن من هؤلاء فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلي حد الملال أو الهذرمة. ذكر كله في الاذكار. الحديث الخامس عن عقبة: قوله: ((الجاهر بالقراَن كاجاهر بالصدقة)) شبه القراَن جهراً وسراً بالصدقة جهراً وسراً. ووجه الشبه ماذكره الشيخ محيى الدين النواوى حيث قال: جاءت اَثار بفضيلة رفع الصوت بالقراَن واَثار بفضيلة الإسرار. قال العلماء: والجمع بينهما أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف، فالجهر أفضل بشرط أن لا يؤذى غيره من مصل أو نائم أو غيرهما. ودليل فضيلة الجهر أن العمل فيه أكثر؛ ولأنه

2203 - وعن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اَمن بالقراَن من استحل محارمه)) رواه الترمذى: وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى. [2203]. 2204 - وعن الليث بن سعد، عن أبن أبي مليكة، عن يعلي بن مملك، أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. رواه الترمذى، وأبوداود، والنسائى. 2205 - وعن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، يقول: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف، ثم يقول {الرحمن الرحيم} ثم يقف. رواه الترمذى، وقال: ليس إسناده بمتصل، لأن الليث روى هذا الحديث عن ابن مليكة، عن يعلي بن مملك، عن أم سلمة وحديثة الليث أصح. [2205]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يتعدى نفعه إلي غيره؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلي الفكر، ويصرف سمعه إليه؛ ولانه يطرد النوم، ويزيد في النشاط، ويوقظ غيره من نائم وغافل، وينشطه، فمتى حضره شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل. الحديث السادس عن صهيب: قوله: ((مل اَمن بالقراَن من استحل ما حرم الله تعالي في القراَن فقد كفر مطلقاً. فخص ذكر القراَن لعظمته وجلاله. الحديث السابع عن يعلي: قوله: ((فإذا هي نعت)) أي تصف. ويحتمل وجهين، أحدهما أن تقول: كانت قراءته كيت وكيت، وثإنيهما: أن تقرأ مرتلة مبينة، كقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه قولهم: وجهها يصف الجمال. ومنه قوله تعالي: {وتصف ألسنتهم الكذب}. الحديث الثامن عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: يقول: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف، بيان لقوله: ((يقطع قراءته)). ((نه)): هذه الرواية ليست بسديده في الألسنة، ولا بمرضية في اللهجة العربية، بل هي صيغه لا يكاد يرتضيها أهل البلاغة، وأصحاب اللسان، فإن الوقف الحسن ما اتفق عند الفصل، والوقف التام من أول الفاتحة عند قوله: ((مالك يوم الدين))

الفصل الثالث 2206 - عن جابر، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القراَن، وفينا الأعرأبي والأعجمى. قال: اقرأوا فكل حسن؛ وسيجئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعلجونه ولا يتأجلونه)) رواه أبوداود، والبيهقى في ((شعب الإيمان)). [2206]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لهجة، واتمهم بلاغة. وقد استدرك الراوى ذلك بقوله: ((والأول أصح)). والمظهر اختار هذا القول علي ماذكره أولا، إنما كان صلى الله عليه وسلم يقف علي الاَية ليتبين للمستمعين روؤس الاَية، ولو لم يكن لهذه العلة لما وقف علي {رب العالمين} ولا علي {الرحمن الرحيم}؛ لأن الوقف عليهما قطع للصفة عن الموصوفظن وهذا غير صواب. قال صاحب الكواشى: كيف الوقف علي {الرحمن الرحيم}؟! قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقفه، ولأن ما بعده فيه معنى القوة والجبروت، وفيها بعد عن الرحمة. أقول: أراد أن معنى {مالك يوم الدين} يلتقى ومعنى قوله تعالي {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار}. واعلم أن قوله: {رب العالمين} يشير إلي أنه تعالي مالك لذوى العلم من الملائكة، والثقلين، مدبر أمورهم ومصالحهك في الدنيا، وقوله: {مالك يوم الدين} يشير أنه متصرف فيهم في الاَخره يثيبهم ويعاقبهم علي أعمالهم، وقوله: {الرحمن الرحيم} متوسط بينهما، ولذلك قيل: رحمن الدنيا ورحيم الاَخرة، فكما جاز ذلك الوقف يجوز هذا. والنقل اولي أن يتبع. وأما قول الراوى: ((والأول أصح)) فلا يوجب أن يضرب عن الثانى صفحاً. وقد قال تعالي: {كتاب فصلت اَياته}، الكشاف: فصله سوراً، وسورة اَيات. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وفينا الأعرأبي والأعجمى)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن كلهم منحصرون في هذين الصنفين، وثإنيهما: أن فينا معشر العرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بيننا تلك الطائفتان، وهذا الوجه أظهر؛ لأنه فرق بين الأعرأبي، والعربى، بمثل ما في خطبته: مهاجر ليس بأعرأبي، جعل المهاجر ضد الأعرأبي، والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها الإ لحاجة. والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، سواء أقام بالبادية او الدن. قوله: ((فكل حسن)) أي فكل قراءة مما يقرأ أحدكم من العرب، والأعراب، والعجم حسن إذا آثرتم ثواب الاَجلة علي العاجلة، ولا عليكم أن تقيموا ألسنتكم إقامة السهم قبل أن يراش.

2207 - وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق*، ولحون أهل الكتابين، وسيجىء بعدي قومٌ يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان))، ورزينٌ في ((كتابه)). [2207] 2208 - وعن البراء بن عازب [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حَسِّنُوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيدُ القرآن حُسنًا)) رواه الدارمي. [2208] ـــــــــــــــــــــــــــــ وسيجىء أقوام يقيمونه إلي آخره. وفيه رفع الحرج، وبناء الأمر علي المساهلة في الظاهر، وتحري الحسنة والإخلاص في العمل، والتفكر في معإني القرأن، والوص في عجائب أمره. ذكر الشيخ أبو حامد في الإحياء أن أكثر الناس منعوا من فهم معإني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان علي قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن، منها: أن يكون الهم منصرفًا إلي تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها. وهذا يتولي حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن معإني كلام الله، فلا يزال يحملهم علي ترديد الحروف، ويخيل إليهم أنه لم يخرج الحرف من مخرجه، فهذا يكون تأمله مقصورًا علي مخارج الحروف، فأنى تنكشف له المعإني؟ وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعًا لمثل هذا التلبيس. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((يلحون العرب)) قال صاحب جامع الأصول: اللحون والألحان جمع لحن، وهو التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين قراءة القرآن، أو الشعر، أو الغناء. ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس، من اللحون الأعجمية التي يقرأون بها مما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((يرجعون)) الترجيع في القراءة ترديد الحروف كقراءة النصاري. ((الحناجر)) جمع الحنجرة، وهي رأس الفلصمة حيث تراه ثابتًا من خارج الحلق، و ((التجاوز)) يحتمل الصعود والحدور، والمعنى علي الصعود: لا يرفعها الله ولا يقبلها، فكأنها لم تتجاوز حلوقهم، وعلي الحدور: أن قراءتهم لا يصل أثرها إلي قلوبهم، فلا يتفكرون فيه، ولا يعملون بمقتضاه، فلا يثابون علي قراءته، ولا يحصل لهم غير بلوغ الصوت إلي الحناجر. ويؤيد المعنى الثاني قوله: ((مفتونة قلوبهم)) أي مبتلي بحب الدنيا، وتحسين الناس لهم. وهي صفة أخرى بعد صفة القوم. الحديث الثالث عن البراء: قوله: ((حسنوا القرآن بأصواتكم)) معناه ما سبق من أن المراد

2209 - وعن طاوسٍ، مرسلا، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحسن صوتا للقرآن؟ وأحسن قراءة؟ قال: ((من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله)) قال طاوس: وكان طلق كذلك. رواه الدرامي [2209]. 2210 - وعن عبيدة المليكي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل القرآن! لا تتوسدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته، من آناء الليل والنهار، وأفشوه وتغنوه وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون، ولاتعجلوا ثوابه، فإن له ثوابا)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [2210]. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتزيين الترتيل، والجهر به، وتحسين الصوت. وهذا الحديث لا يحتمل القلب، كما احتمله الحديث السابق، لتعليله بقوله: ((فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا)). الحديث الرابع عن طاوس: قوله: ((أريت أنه يخشى الله)) أن من حسبته وظنته أنه يخشى الله، وتظهر أمارات الخشية منه، ويتأثر به قلبك. ولا يكون القارىء حينئذ إلا عالما بزواجره، وقوارعه، ومواعيده، فيخشى عذاب الله، ويرجو رحمته. وكأن الجواب من الأسلوب الحكيم حيث اشتغل في الجواب عن الصوت الحسن بما يظهر الخشية في القاريء والمستمع. الحديث الخامس عن عبيدة: قوله: ((لا تتوسدوا القرآن)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون كناية رمزية عن التكاسل، أي لا تجعلوه وسادة تنامون عليه، بل قوموا به واتلوه آناء الليل وأطراف النهار. هذا معنى قوله: ((واتلوه حتى تلاوته)). وثإنيهما: أن يكون كناية تلويحية عن التغافل، فإن من جعل القرآن وسادة يلزم منه النوم، فتلزم منه الغفلة، يعني لا تغفلوا عن تدبر معإنيه، وكشف أسراراه، ولا تتوانوا في العمل بمقتضاه، والإخلاص فيه. وهذا معنى قوله: ((واتلوه حتى تلاوته)). وقول الله تعالي {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلإنية يرجون تجارة لن تبور} جامع للمعنيين، فإن قوله: (أقاموا، وأنفقوا) ماضيان عطفا علي ((يتلون)) وهو مضارع، دلالة علي الدوام والاستمرار في التلاوة المثمرة، لتجدد العمل المرجو منه التجارة المربحة. قوله: ((وأفشوه)) أي سمعوا الناس قراءته، وعلموهم، وأكثروا من كتابته، وتفسيره،

(2) باب [اختلاف القراءات وجمع القرآن]

(2) باب [اختلاف القراءات وجمع القرآن] الفصل الأول 2211 - عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، قال: سمعت هشام بن حكيم ابن حزام يقرأ سورة (الفرقان) علي غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرإنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة (الفرقان) علي غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أرسله، اقرأ)) فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا أنزلت)) ثم قال لي ((اقرأ)) فقرأت. فقال: ((هكذا أنزلت، إن ـــــــــــــــــــــــــــــ وتدرسيه. وقوله: ((تغنوه)) يحتمل الاستغناء والتغني بالجهر، والترتيل. ((ولا تعجلوا)) أي لا تستعجلوا الحظوظ الدنوية به، فإن ثوابه في الآخرة مما لا يقادر قدره، ولا يكننه كنهه، ومن ثم أعاد الثواب منكرا مفخما. باب الفصل الأول الحديث الأول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((فكدت أن أعجل عليه)) أي أن أخاصمه، وأظهر بوادر غضبي عليه. قوله: ((لببته)) - بالتشديد - ((نه)): يقال: لببت الرجل ولببته، إذا جعلت في عنقه ثوبا، وجررته به. ((مح)): في هذا بيان ما كانوا عليه من الاعتناء بالقرآن، والذب عنه، والمحافظة علي لفظه كما سمعوه من غير عدول إلي ما تجوزه العربية. وقال: قال العلماء: سبب إنزاله عى سبعة أحرف: التخفيف والتسهيل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هون علي أمتى)) كما صرح به في آخر الحديث ((فاقرأوا ما تيسر منه)). واختلفوا في المراد بسبعة أحرف. وأصحها وأقربها إلي معنى الحديث قول من قال: هي كيفية النظق بكلماتها من إدغام وإظهار، وتفحيم وترقيق، وإمالة ومد، وهمز وتليين؛ لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه، فيسر الله تعالي عليهم ليقرأ كل بما يوافق لغته، ويسهل علي لسانه. قال أبو الفتوح العجلي في تفسيره: فإن قيل: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنزل القرآن علي سبعة أحرف))، فكيف وجه الزيادة علي السبع؟

هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرفٍ، فاقرأوا ما تيسَّرَ منه)) متفق عليه، واللفظ لمسلم. 2212 - وعن ابن مسعود [رضي الله عنه] قال: سمعت رجلا قرأ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، فقال: ((كلاكما محسن، فلا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالجواب: أن الأئمة قالوا في معنى الخبر: إن الاختلاف في القراءات وإن كثرت وتعددت، الكلمة في نفسها، كقوله تعالي: {ننشزها} و {ننشرها} وبالزيادة والنقصان كقوله تعالي: {قالوا اتخد الله}، {وقالوا اتخد الله} بزيادة الواو ونقصها، والوجوه الستة الباقية تكون بأن تثبت الكلمة نفسها جنسها، وتتغير من قبل لواحقها، كالجمع والتوحيد في قوله تعالي: {كطي السجل للكتاب}، {والكتب}. والثاني: كالتذكير والتإنيث في قوله: {لتحصنكم من بأسكم} و {ليحصنكم}. والثالث: الاختلاف التصريفي، كقوله: {ولا كذابا}، {ولا كذبا} بالتخفيف والتثقيل، {ومن يقنط} *، و {ومن يقنط} بفتح النون وكسرها. والرابع: الاختلاف الإعرابي: كقوله تعالي: {ذو العرش المجيد} برفع الدال وجرها، والخامس: اختلاف الأدوات، كقوله تعالي: ((ولكن الشياطين)) بتشديد النون وتخفيفها والسادس: اختلاف اللغات، كالتفخيم والإمالة. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((كلاكما محسن)) فإن قلت: كيف يستقيم هذا القول مع إظهار الكراهية؟ قلت: معنى الإحسان راجع إلي ذلك الرجل لقراءته، وإلي ابن مسعود لسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تحريه في الاحتياط، والكراهية راجعة إلي جداله مع ذلك الرجل كما فعل عمر بهشام؛ لأن ذلك مسبوق بالاختلاف، وكان الواجب عليه أن يقره علي قراءته، ثم يسأله عن وجهها. ((مظ)): الاختلاف في القرآن غير جائز؛ لأن كل لفظ منه إذا جاز قراءته علي وجهين أو أكثر، فلو أنكر أحد واحدًا من ذينك الوجهين أو الوجوه، فقد أنكر القرآن ولا يجوز في القرآن القول بالرأي؛ لأن القرآن سنة متبعة، بل عليهما أن يسألا عن ذلك ممن هو أعلم.

2213 - وعن أبي بن كعب، قال: كنتُ في المسجد، فدخل رجلٌ يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعًا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قوله: ((ودخل آخر)) عطف علي مقدر، أي قلت: إن هذا دخل في المسجد فقرأ قراءة انكرتها، ودخل آخر. قوله: ((فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذا كنت)) ((مظ)): يعني وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في تحسينه لشأنهما تكذيبًا أكثر من تكذيبي إياه قبل الإسلام. ((مح)): معناه وسوس لي الشيطان تكذيبًا أشد مما كنت عليه في الجاهلية؛ لأنه كان في الجاهلية غافلا، أو متشككا. ((تو)): إنما استعظم الحالة التي ابتلي بها فوق ما استعظم حالته الأولي؛ لأن الشك الذي يداخله في أمر الدين، ورد علي مورد اليقين، والمعرفة بعد النكره أطم وأعظم. وقيل: فاعل ((سقط)) محوف، أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر علي وصفه، ولم أعهد بمثله، ولا إذا كنت في الجاهلية. أقول: قد أحسن هذا القائل وأصاب في هذا التقدير، ويشهد له قوله: ((فلما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني)) أي من التكذيب، فـ ((من)) علي هذا بيإنية، و ((الواو)) في ((ولا إذ كنت)) تستدعي معطوفا عليه، و ((لا)) المؤكدة توجب أن يكون المعطوف عليه منفيا، وهو هذا المحذوف. وها أسد في العربية من جعل ((ولا إذ كنت)) صفة لمصدر محذوف، كما سبق؛ لأن واو العطف مانعة. ولو ذهب إلي الحال لجاز علي التعسف. وفي استعمال السقوط والقذف في المعإني، وأنهما مستعملان في الأجسام، إشعار بشدة الخطب، وفخامة الأمر، فاستعارة ((سقط)) لفخامة في الحديث، كاستعارة القذف للإزالة، والمغ للمحق، في قوله تعالي: {بل نقذف بالحق علي الباطل فيدمغه}. قوله: ((ففضت عرقا)) ((مظ)): ((عرقًا وفرقًا)) منصوبان علي التمييز، والتظاهر أن يكون ((فرقًا)) مفعولا له، أو حالا؛ لأنه لا يجوز أن يقال: نظر في فرقي. كان أبي من أفاضل الصحابة، ومن الموقنين، وكان طريان ذلك التكذيب بسبب الاختلاف نزعة من الشيطان، فلما أصاب بركة يده وضربه صلى الله عليه وسلم علي صدره، زالت تلك الهاجسة إلي الخارج مع العرق، فرجع الشك المسبوق بعلم اليقين إلي عين اليقين، فنظر إلي الله خوفا، خجلا مما غشيه من الشيطان.

غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلي الله فرقاً، فقال لي: ((يا أبي! أرسل إلي: أن اقرأ القرآن علي حرف. فرددت إليه: أن هون علي أمتي، فرد إلي الثانية: اقرأه علي حرفين، فرددت إليه: أن هون علي أمتي، فرد إلي الثالثة: اقرأه علي سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أن هون علي أمتي)) ((أن)) يجوز أن تكون مفسرة لما في ((رددت)) من معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية وإن كان مدخوله أمراً. وجوز ذلك صاحب الكشاف نقلا عن سيبويه. والرد هاهنا ليس ضد القبول، وإنما هو سجع ورد للجواب، ولذلك سمي إجابة الله تعالي أيضاً رداً. فإن قلت: قوله: ((فرد إلي الثانية)) يستدعي الردة الأولي، وليس في الكلام ما يشعر به؟ قلت: قوله: ((أرسل إلي)) سمي رداً: إما مشاكلة، أو مسبوقاً بطلب من الرسول كيفية القراءة. قوله: ((تسألينها)) صفة مؤكدة لمسألة، كقوله تعالي: {ولا طائر يطير} أي مسألة ينبغي لك أن تسألها، وأنك لا تخيب فيها. قوله: ((وأخرت الثالثة)) قيل: لما انقسم من يحتاج إلي مغفرته تعالي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلي مفرط ومفرط، استغفر صلى الله عليه وسلم مرة للمقتصد المفرط في الطاعة، وأخرى للظالم المفرط في المعصية، وأخر الثالثة لاحتياج جميع الأولين والآخرين يومئذ إليها. وأقول: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل الثلاث مقصورة علي واحدة، لكن جعل تعدادها بحسب الزمان، مرتين في الدنيا، ومرة في الآخرة، يوم يقول الأنبياء كلهم: ((نفسي نفسي))، وهو يقول: ((أمتي أمتي)) فقوله: ((يرغب إلي الخلق)) صفة لـ ((يوم)) أي أخرت قولي: ((اللهم اغفر لأمتي)) لأجل يوم هذا وصفه، وينصر هذا التأويل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، فإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلي يوم القيامة)) انظر إلي هذه الرأفة، والمرحمة، والحدب لأمته صلى الله عليه وسلم. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم طلب من الله تعالي لأمته السهولة واليسر في القراءة ثلاث مرات، فأسعفه الله تعالي وأنجح مطلوبه، ولم يكتف بذلك بل أمره بأن يزيد علي المسألة بما يسهل عليهم في الآخرة ليجمع لهم التيسير والتسهيل في الدارين. فالله أرأف بهم وأرحم لهم.

2214 - وعن ابن عباس [رضي الله عنهما]. قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أقرإني جبريل علي حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني، حتى انتهي إلي سبعة أحرف)). قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر تكون واحداً لا تختلف في حلال ولا حرام. متفق عليه. الفصل الثاني 2215 - عن أبي بن كعب [رضي الله عنه] قال: لقي رسول الله جبريل، فقال: ((يا جبريل! إني بعثت إلي أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. قال: يا محمد! إن القرآن أنزل علي سبعة أحرف)). رواه الترمذي. وفي رواية لأحمد، وأبي داود: قال: ((ليس منها إلا شاف كاف)). وفي رواية للنسائي، قال: ((إن جبريل وميكائيل أتيإني، فقعد جبريل عن يميني ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فلم أزل أستزيده)) ((مح)): أي لم أزل أطلب منه أن يطلب من الله الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف، ويسأل جبريل ربه تعالي فيزيده. قوله: ((إنما هي في الأمر تكون واحداً)) معناه أن ذلك الاختلاف يرجع إلي معنى واحد وإن اختلف اللفظ من هيئته إلي سبعة أنحاء. وأما إذا اختلف اللفظ بحسب الاختلاف في الأداء إلي أن يصير المنفي مثبتاً، والمثبت منفياً، والحرام حلالاً، والحلال حراماً، مثلا، فلا يجوز ذلك، لقوله تعالي: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} الفصل الثاني الحديث الأول عن أُبي رضي الله عنه: قوله: ((قال: يا محمد! إن القرآن أنزل علي سبعة أحرف)) يعني ذكرت أن أمتك أميون، عاجزون غير قادرين علي أن يتفقوا علي قراءة واحدة، فإن الله تعالي سهل عليهم، ويسر لهم، فأنزل القرآن علي سبع لغات، فيقرأ كل بما يسهل عليه. قوله: ((وليس منها إلا شاف كاف)) أي ليس حرف من تلك الأحرف في أداء المقصود من فهم المعنى إلا شاف للعليل، ومن إظهار البلاغة والفصاحة إلا كاف للإعجاز. ((حس)): يريد - والله أعلم - أن كل حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين لاتفاقها في

وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن علي حرف، قال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فكل حرف شاف كاف)). 2166 _ * وعن عمران بن حصين [رضي الله عنهما]، أنه مر علي قاص يقرأ، ثم يسأل. فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجىء أقوام يقرأون القرآن يسألون به الناس)) رواه أحمد، والترمذي. الفصل الثالث 2177 - عن بريدة [رضي الله عنه]، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى، وكونها من عند الله تعالي، وهو كاف في الحجة علي صدق النبي صلى الله عليه وسلم لإعجاز نظمه، وعجز الخلق عن الإتيان بمثله. الحديث الثاني عن عمران بن حصين: قوله ((علي قاص)) أي يقص الأخبار ويكدي، فاسترجع عمران، وقال: ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) لما ابتلي بهذه المصيبة، ولأنها من أمارات القيامة. قوله: ((فيسأل الله به)) يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كلما قرأ آية رحمة ذكرت فيها الجنة يسأل الله، وآية عذاب فيها ذكر النار يتعوذ منها إلي غير ذلك. وثإنيهما: أن يدعو بعد الفراغ من القراءة بالأدعية المأثورة. ((مح)): يستحب الدعاء بعد قراءة القرآن استحباباً متأكداً تأكيداً شديداً، فينبغي أن يلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك بل كله في أمور الآخرة، وأمور المسلمين، وصلاح سلطانهم، وسائر ولاة أمورهم، وفي توفيقهم للطاعات وعصمتهم من المخالفات، وتعاونهم علي البر والتقوى، وقيامهم بالحق، واجتماعهم عليه، وظهورهم علي أعداء الدين. الفصل الثالث الحديث الأول عن بريدة: قوله: ((يتأكل به الناس)) يتأكل بمعنى يستأكل، كقوله تعالي: {فمن تعجل في يومين} أي استعجل، و ((الباء)) في ((به)) للآلة، كما في قولك: كتبت بالقلم، أي من تعجل القرآن ذريعة ووسيلة إلي حطام الدنيا، جاء يوم القيامة في أسوأ حالة

2118 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه (بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود. 2219 - وعن علقمة، قال: كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة (يوسف)، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبد الله: والله لقرأتها علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أحسنت)). فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر. فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟! فضربه الحد. متفق عليه. 2220 - وعن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر [رضي الله عنه] مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتإني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقبح صورة، حيث عكس وجعل الأشياء وأعزها وصلة إلي أذل الأشياء وأحطها. وهو أبلغ مما روي عنه صلى الله عليه وسلم ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مذعة لحم)) [لأنه أخبر عن وجهه بأنه عظم حرق ثم أكده بقوله: ((وليس عليه مزعة لحم))]. ومنه قول الشيخ الشاطبي: تخيرهم نقادهم كل بارع ... وليس علي قرآنه متأكلا سمعت شيخي عبد الرحمن الأفضلي رحمه الله يقول: من استجر الجيفة ببعض الملاهي والمعارف أهون ممن استجرها بالمصحف، وفي الإحياء: من طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه ونعله بمحاسنه لينظفه. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((حتى ينزل عليه بسم الله)) هذا الحديث وما يسرد في آخر الباب دليلان ظاهران علي أن البسملة آية من كل سورة، أنزلت مكررة للفصل. الحديث الثالث عن علقمة: قوله: ((فقال: أحسنت)) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: ((أحسنت)) وفي ظاهر قوله: ((يكذب بالكتاب)) أن من أنكر شيئاً من القراء المشهورة، فقد كذب بالكتاب، والمكذب كافر، لكن قالو: ليس بكافر؛ لأن إنكار القراءة إنكار في أداء الكلمة، لا في جوهرها، ولذلك أجرى عليه حد الشارب، لاحد المرتد، فنسبة التكذيب إليه تغليظ. الحديث الرابع عن زيد بن ثابت: قوله: ((مقتل أهل اليمامة)) ((مقتل)) ظرف زمان، أي أيام قتل أهل اليمامة، واليمامة بلاد الجو، وكان يقال لها: زرقاء، يضرب بها المثل في قوة البصر، فيقال: أبصر من زرقاء اليمامة، ثم إن أبا بكر بعث خالد بن الوليد مع جيش من

كثير من القرآن، وإني أرى تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأي عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قال: قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبو بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة (التوبة) مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لقد جاءكم ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين، فاقتتل المسلمون وبنو حنيفة قتالا ما رأي المسلمون قتلة مثلها، وقتل المسلمين ألف ومأتان، وخرج من بقى، وكان عدة من قتل من القراء يومئذ سبعمائة، ثم إن براء بن مالك ثار، فحمل علي أصحاب مسيلمة، فانكشفوا وتبعهم المسلمون، وقتلوا مسيلمة وأصحابه. قوله: ((قد استحر)) ((نه)): أي كثر واشتد، وهو استفعل من الحر الشدة. قوله: ((إني أخشى إن استحر القتل بالقراء)) ((إن استحر)) مفعول ((أخشى)) و ((الفاء)) في ((فيذهب)) للتعقيب. ويجوز أن يكون مفعول ((أخشى)) محذوفاً، و ((إن)) بالكسر، والجملة الشرطية بيان للمحذوف. والخشية إنما تكون مما لم يوجد من المكروه، فعلي هذا المراد من ((استحر)) الزيادة علي ما كان. قوله: ((هذا والله خير)) رد لقوله: ((كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وإشعار بأن من البدع ما هو حسن وخير. قوله: ((إنك رجل شاب)) وفي التقييد بـ ((شاب)) إشارة إلي حدة نظره، وبعده عن النسان، وضبطه وإتقانه، و ((لا نتهمك)) إلي عدم ضعفه، ونسيانه، وكذبه، وأنه صدوق، وذلك صريح بكمال ورعه، وتمام معرفته، وغزارة علومه، وشدة تحقيقه، وتقعده في هذا الشأن وتمكنه منه. قوله: ((اجمعه من العسب)) حال من فاعل ((تتبعت) أو من مفعوله. ((العسب)) جمع عسيب، وهو سعف النخل. و ((اللخاف)) جمع لخفة، وهي الحجارة البيض الرقاق، والمراد بصدور الرجال الذين جمعوا القرآن، وحفظوه في صدورهم كاملاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي زيد. وفي رواية أبي الدرداء بدل أبي فيكون ما في العسب واللخاف وغيرهما تقريراً علي تقرير. فإن قلت: كيف التوفيق بين قولك هذا وبين

رسول من أنفسكم} حتى خاتمة (براءة)، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر. رواه البخاري. 2221 - وعن أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قدم علي عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلي حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلي عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاث: إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلي حفصة، وأرسل إلي كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لم أجدها مع أحد غير أبي خزيمة))؟ قلت: الحفاظ حفظوها ثم نسوها، فلما سمعوها استذكروا كما قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة ابن ثابت. قال السخاوي في شرح الرائية: فإن قيل: فما قصد عثمان بإرساله إلي حفصة، وإحضاره الصحف, وقد كان زيد ومن أضيف إليه حفظه في زعمكم؟ قلت: الغرض بذلك سد باب المقالة وأن يزعم زاعم أن في المصحف قرآنا لم يكتب، ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئا مما لم يقرأ به فينكره، فالصحف شاهدة بصحة جميع ما كتبوه. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إذا اختلفتم- إلي قوله- فاكتبوه بلسان قريش)) فإن قلت كيف الجمع بين هذا وبين قوله: ((أنزل القرآن علي سبعة أحرف)) أي لغات؟ قلت: الكتابة والمثبت في المصحف بلغة قريش لا يقدح في القراءة بتلك اللغات. وقوله: ((إنما نزل بلسانهم)) يريد به: أن أول ما نزل بلغة قريش، وهو الأصل ثم خفف ورخص أن يقرأ بسائر اللغات. قول ((أن يحرق)) بالحاء المهملة. وفي- شرح السنة- بالخاء المعجمة، وحققه بما في شرح السنة عن الوليد ابن مسلم سألت مالكا عن تفضيض المصحف، فأخرج إلينا مصحفا، فقال: حدثني أبي عن جدي: أنهم جمعوا القرآن علي عهد عثمان رضي الله عنه وأنهم فضضوا المصاحف علي هذا ونحوه.

يحرق. قال ابن شهاب: فأخبرني خارجة ابن زيد بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من (الأحزاب) حين نسخنا المصحف، قد كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}، فألحقناها في سورتها في المصحف. رواه البخاري. 2222 - وعن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم علي أن عمدتم إلي (الأنفال)، وهي من المثإني، وإلي (براءة)، وهي من المثين، فقرنتم بينها ولم تكتبوا سطر {بسم الله الرحمن الرحيم}، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم علي ذلك؟ قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ((ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)) فإذا نزلت عليه الآية فيقول: ((ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)). وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت (براءة) من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتها في السبع الطوال. رواه الترمذي، وأبو داود. [2222] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): في الحديث البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزل الله تعالي علي رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن زادوا فيه أو أنقصوا منه شيئا باتفاق من جميعهم، وكتبوه كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا شيئا، أو أخروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن علي الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إياه علي ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية في السورة التي يذكر فيها كذا، روى معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وهي من المثإني)) أي من السبع

كتاب الدعوات

كتاب الدعوات الفصل الأول 2223 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) رواه مسلم، وللبخاري أقصر منه [2223]. ـــــــــــــــــــــــــــــ المثإني، وهي السبع الطول ((وإلي براءة وهي من المثين)) أي مائة وثلاثون آية، فقرنتم بينهما، ولم تفصلوا بالبسملة. وتوجيه السؤال: أن الأنفال ليست من السبع الطول لقصرها عن المثين؛ لأنها سبع وسبعون آية، وليست غيرها لعم الفصل بينا وبين براءة، فأجاب عثمان رضي الله عنه بما يشاكل ما وجده، فعلم من جوابه أن الأنفال والبراءة نزلتا منزلة سورة واحدة، وكملت السبع الطوال بها. كتاب الدعوات ((غب)): الدعاء كالنداء، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، قال تعالي {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} ويستعمل استعمال التسمية نحو: دعوت ابني زيدًا، أي سميته، قال الله تعالي: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} أي لا تقولوا: يا محمد؛ تعظيما له وتوقيرا. ((مح)): دلت الأحاديث الصحيحة علي استحباب الدعاء والاستعاذة، وعليه أجمع العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، وذهب طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلي أنترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء. وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن خص نفسه فلا، ومنهم من قال: إن وجد في نفسه باعثا للدعاء استحب وإلا فلا. ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء والإخبار عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اختبأت دعوتي)) أي ادخرتها وجعلتها خبيئة لنفسي. الاختباء: الاختفاء والستر. قول: ((نائلة)) أي واصلة. يقال: نال ينال نيلا، إذا

2224 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته: شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أصاب فهو نائل. ((شف)): ((من مات)) في محل النصب علي أنه مفعول لـ ((نائلة)) وقوله: ((لا يشرك بالله)) نصب علي الحال من فاعل ((مات)) أي شفاعتي نائلة من مات من أمتي غير مشرك بالله شيئًا. ((مظ)): اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة, والمراد بهذا الحديث: أنَّ كلَّ نبي دعا علي أمته بالإهلاك، كنوح، وصالح، وشعيب، وموسى، وغيرهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يدع علي أعدائه بالإهلاك، فأعطى قبول الشفاعة يوم القيامة عوضا عما لم يدع علي أمته، وصبر علي أذاهم، ونعني بالأمة هنا أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، فإن أحدا من الأنبياء لم يدع علي من أجابه من أمته، بل دعا علي من كفر به. أقول: هذا مشكل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا علي أحياء من العرب بقوله: ((اللهم العن فلانا وفلانا))، ودعا علي رعل، وذكوان، وعصية، ودعا علي مضر، وقال: ((اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها سنين كسني يوسف)) فالتأويل المستقيم، أن معنى قوله: ((لكل نبي دعوة مستجابة)) أن الله تعالي جعل لكل نبي دعوة واحدة مستجابة في حق أمته، فكل من الأنبياء نالوها في الدنيا بإهلاك قومه، وأنا ما نلتها في الدنيا، حيث دعوت علي بعض أمتي فقيل لي: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} فبقيت تلك الدعوة المستجابة مدخرة في الآخرة، وأما دعاؤه علي مضر فليس للإهلاك، بل للارتداع لينيبوا إلي الله تعالي، فانظر أيها المتأمل بين الدعاءين، ثم تحقق قوله تعالي: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وأما قوله: ((إن جميع دعوات الأنبياء مستجابة)) فيقف عليه عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((سألت الله ثلاثا فأعطإني اثنين ومنعني واحدة)) وهي: أن لا يذيق بعض أمته بأس بعض، والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اتخذت عندك عهدا)) ((قض)): لما كان كل واحد من العهد والوعد متضمنا معنى الآخر، عبر عن الوعد بالعهد تأكيدًا وإشعارًا بأنه من المواعيد التي لا يتطرق إليها الخلف، وقال ((لن تخلفنيه)) ولا ينبغي أن يتطرق إليها كالمواثيق، ولذلك استعمل فيه الخلف، فقال: ((لن تخلفنيه)) للمبالغة وزيادة التأكيد. ((تو)): العهد هنا الأمان، المعنى: أسألك أمانًا لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه، وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقًا للرجاء بأنه حاصل إذا كان موعودا بإجابة الدعوة؛ ولهذا قال: ((لن تخلفنيه)) أحل العهد المسئول محل الشيء الموعود، ثم أشار إلي أن وعد الله لا يتأتى فيه الخلف، فإن الإلوهية تنافيه.

2225 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا بقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، غنه يفعل ما يشاء، ولا مكره له)) رواه البخاري. 2226 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم ـــــــــــــــــــــــــــــ ((غب)): العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا، والاتخاذ: افتعال من الأخذ، وقد تعدى إلي مفعولين، ويجري مجرى الجعل. أقول: أصل الكلام، إني طلبت منك حاجة تسعفني إياها، ولا تخيبني فيها. فوضع العهد الموثق موضع الحاجة مبالغة في كونها مقضيه، {إن العهد كان مسئولا}، ووضع ((لن تخلفنيه)) موضع لا تخيبني فيها نظرا إلي أن الألوهية منافية لخلف الوعد، أو أن العهد إنما يقع بين الاثنين فيوحي علي كل واحد من المتعاهدين مراعاته بالحفظ والاستيفاء، فوضع ((لن تخلفنيه)) موضع ((لن تنقضه)) مبالغة كما مر. ((قض)): قوله: ((فإنما أنا بشر)) تمهيد لمعذرته فيما يندر عنه صلى الله عليه وسلم، لأن من لوازم البشرية الغضب المؤدي إلي ذلك. وقوله: ((فأي المؤمنين)) إلي آخره بيان وتفصيل لما كان يلتمسه، قابل أنواع الفظاظة والإيذاء بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف، وعد الأقسام الأول متناسقة من غير عاطف، وذكر ما يقابلها بالواو لما كان المطلوب معارضة كل واحد من تلك بهذه الأمور، وأقول: لعل قوله: ((شتمته، لعنته، جلدته)) تفصيل لقوله ((آذيته)) ومن ثم أفرد الضمير ثلاثة، وإتيانه في قوله: ((صلاة وزكاة وقربة)) ليجمعها بإزاء واحدة من تلك الخلال علي سبيل الاستقلال، وليس من باب اللف والنشر*، ((تو)): و ((الصلاة)) وضعت ها هنا موضع الترحم والرأفة، و ((الزكاة)) يراد بها الطهارة من الذنوب، والنماء، والبركة في الأفعال. وهذه هي الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء، فما ظنك بالمحسن؟. قال الله تعالي: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم- إلي قوله- بالمؤمنين رءوف رحيم} وقال تعالي: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وليعزم مسألته)) ((نه)): أي يجد فيها ويقطعها. ((مظ)): نهي عن قوله: ((إن شئت)) في الدعاء؛ لأنه شك في القبول، بل ليعزم مسألته، وليكن متيقنا في قبول الدعاء، فإن الله تعالي كريم لا بخل عنده، وقدير لا يعجز عن شيء، ولا يكرهه أحد، ولا يحكم عليه، فلا يجوز أن يقال: اغفر لي إن شئت.

اغفر لي إن شئت؛ ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) رواه مسلم [2226]. 2227 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله ما الاستعجال قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت. فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)). رواه مسلم [2227]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والضمير في ((أعطاه)) يرجع إلي ((شيء)) يعني لا يعظم عليه إعطاء، بل جميع الموجودات في أمره يسير، أقول: قوله: ((إن شئت)) في الحديثين ليس بمعنى واحد؛ لأن تعليل قوله: ((ليعزم)) بما بعده يوجب الفرق، فقوله: ((إن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له)) يقتضي أن يُأول قوله: ((اغفر لي إن شئت)) بأنه لا مشيئة لأحد غيرك؛ ليطابق التعليل، ويأول الثاني: بأنه لا كراهة لك فيما تعطي؛ لأن العظيم والحقير عندك سيان. الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((ما لم يدع)) ((ما)) ظرف لـ ((يستجاب)) بمعنى المدة، وكان من حق الظاهر أن يجاء بالعاطف في قوله: ((ما لم يستعجل)) فتركه العاطف علي تقدير عامل آخر استقلالا لكل من القيدين؛ أي يستجاب ما لم يدع بإثم، يستجاب ما لم يستعجل، فترك العاطف استئنافا كأنه لما سمع المخاطب قوله: يستجاب ما لم يدع بإثم، سأل هل الاستجابة مقصورة علي هذا القيد أم لا؟ فأجيب: لا، بل يستجاب ما لم يستعجل. قول: ((قد دعوت وقد دعوت)) التكرار والاستمرار، أي دعوت دعوة مرارا كثيرة، وقوله: ((فلم أر يستجاب)) أي: فلم أعلم، مفعول أول ((أر)) محذوف، و ((يستجاب)) مفعول ثان، قيل: جاز ذلك، لأنها من دواخل المبتدأ والخبر، فكما جاز المبتدأ جاز ما أقيم مقامه، كذا ذكر صاحب الكشاف في قوله تعالي: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} أي بل هم أحياء. قوله: ((فيستحسر)) أي يمل. ((نه)): هو استفعال من حسر إذا أعيى وتعب. ((مظ)): من كان

2228 - وعن أبي الدرداء] رضي الله عنه [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وعند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)) رواه مسلم [2228]. 2229 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعو علي أنفسكم، ولا تدعوا علي أولادكم، ولا تدعوا علي أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) رواه مسلم [2229]. وذكر حديث ابن عباس: ((اتق دعوة المظلوم)) في كتاب الزكاة. ـــــــــــــــــــــــــــــ ملاله من الدعاء لا يقبل الله دعاءه؛ لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة، وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها؛ فإن لكل شيء وقتا، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا، ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخر القبول ليلح، ويبالغ فيها، فإن الله تعالي يحب الإلحاح في الدعاء. الحديث السادس عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((بظهر الغيب)) الظهر: مقحم وموضعه نصب علي الحال من المضاف إليه؛ لأن الدعوة مصدر أضيف إلي الفاعل. ويجوز أن يكون ظرفا للمصدر. وقوله: ((مستجابة)) خير لها. وقوله ((عند رأسه ملك)) جملة مستأنفة مبينة للاستجابة، والباء في ((بمثل)) زائدة في المبتدأ، كما في قولك: بحسبك درهم. ((مح)): معناه دعوة المسلم في غيبة المدعو له وفي السر مستجابة؛ لأنها أبلغ في الإخلاص. وقوله: ((ولك بمثل)) بكسر الميم رواية مشهورة, وعن القاضي عياض: بفتح الميم والثاء وبزيادة الياء والهاء، بمثله أي عديله سواء, وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب ويحصل له مثلها. الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا توافقوا)) نهي للداعي وعلة للنهي، أي لا تدعوا علي أنفسكم وعلي أولادكم، كي لا توافقوا ساعة الإجابة فتندموا، قوله: ((فيستجيب)) نصب علي أنه جواب النهي من قبيل ((لا تدن من الأسد يأكلك)) علي مذهب الكسائي. ويحتمل أن يكون مرفوعًا، أي فهو يستجيب.

الفصل الثاني 2230 - عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة [2230]. 2231 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)) رواه الترمذي [2231]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: قوله: ((الدعاء هو العبادة)) أتى بضمير الفصل، والخبر المعرف باللام، ليدل علي الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء. ((قض)): لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة من حيث إنه يدل علي أن فاعله مقبل بوجهه إلي الله تعالي معرض عما سواه، لا يجو ولا يخاف إلا منه، استدل عليه بالآية، فإنها تدل علي أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء علي الشرط، والمسبب علي السبب، وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، وتقرب منه الرواية الأخرى، فإن مخ الشيء خالصه. ((غب)): العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وأقول: يمكن أن تحمل العبادة علي المعنى اللغوي، أي الدعاء ليس إلا إظهار غاية التذلل، والافتقار والاستكانة. قال الله تعالي: {يأيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد}. الجملتان واردتان علي الحصر، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة {إن اللذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار ووضع ((عبادتي)) موضع دعائي، وجعل جزاء ذلك الاستكبار، الصغار والهوان.

2232 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم علي الله من الدعاء)) رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [2232]. 2233 - وعن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس أكرم علي الله من الدعاء)) ((أكرم)) نصب خبر ((ليس)) فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله تعالي: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قلت: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، قال الله تعالي {فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}. وإنما كان أكرم الناس أتقاهم؛ لأن الكرم من الأفعال المحمودة، وأكرمها ما يقصد به أشرف الوجوه فأشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله تعالي، فمن قصد ذلك بمحاسن أفعاله فهو التقي، فإذا أكرم الناس أتقاهم، وعلي هذا حكم الدعاء؛ لأنه مخ العبادة كما مر. الحديث الرابع عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: قوله: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)). ((تو)): القضاء الأمر المقدر، في تأويل الحديث وجهان: أحدهما أن يراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه، ويتوقاه، فإذا وفق للدعاء دفع الله عنه، فتكون تسميته بالقضاء علي المجاز، ويزيد توضيحه ما سئل صلى الله عليه وسلم ((أرأيت رقى نسترقيها- إلي قوله: قال ((هي من قدر الله)) فقد أمر الله تعالي بالدعاء والتداوي، مع علم الخلق بأن المقدور كائن؛ لأن حقيقة المقدور وجودا أو عدما مخفية عنهم، وثإنيهما: أن يراد به الحقيقة، فيكون معنى رد الدعاء القضاء، تهوينه وتيسير الأمر فيه حتى يكون القضاء النازل كأنه لم ينزل به، ويؤيده الحديث التالي: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل)) أما نفعه مما نزل عليه، فصبره عليه، وتحمله له، رضاه به، حتى لا يكون في نزوله متمنيًا خلاف ما كان، وأما نفعه مما لم ينزل، فهو أن يصرفه عنه، أو يمده قبل النزول بتأييد من عنده، حتى تخف معه أعباء ذلك إذا نزل به. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع

2234 - وعن ابن عمر] رضي الله عنه [، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) رواه الترمذي. [2234] ـــــــــــــــــــــــــــــ السهم فيتدافعان، كذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح، وقد قال تعالي: {وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}. فقدر الله تعالي الأمر وقدر سببه، وفي الدعاء من الفوائد ما ذكرنا من حضور القلب، والافتقار، وهما نهاية العبادة والمعرفة. قوله: ((ولا يزيد في العمر إلا البر)) ((شف)): قيل: معناه إذا أبر فلا يضيع عمره، فكأنه زاد. وقيل: يزاد في العمر حقيقة، قال الله تعالي: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}. وقال تعالي: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}. وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب. وصورته: أن يكتب في اللوح المحفوظ إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما، فبلغ الستين، فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وذكر نحوه في معالم التنزيل، ثم قال: فقيل للقائل: إن الله يقول: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما ما قبل ذلك، فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ {إن ذلك علي الله يسير}. ((مح)): إذا علم الله تعالي أن زيدًا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله أن تزيد أو تنقص، فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلي ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح، وأمره بالقبض بعد آجال محدودة، فإنه تعالي بعد أن يأمره ذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد علي ما سبق به علمه في كل شيء وهو معنى قوله تعالي: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. وعلي ما ذكر يحمل قوله تعالي: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده}، فالإشارة بالأجل الأول إلي ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلي قوله: {وعنده أم الكتاب} وقوله تعالي: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) الفاء جزاء شرط محذوف، يعني إذا رزق بالدعاء الصبر والتحمل علي القضاء النازل، ويرد به القضاء غير

2235 - ورواه أحمد عن معاذ ابن جبل، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 2236 - وعن جابر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) رواه الترمذي. [2236] 2237 - وعن ابن مسعود [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [2237] ـــــــــــــــــــــــــــــ النازل، فالزموا عباد الله الدعاء، وواظبوا عليه، وخص ((عباد الله)) بالذكر تحريضًا علي الدعاء وإشارة إلي أن الدعاء هو العبادة. الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مثله)) الضمير راجع إلي ما سأله. فإن قلت: كيف مثل جلب النفع بدفع الضرر، وما وجه التشبيه؟ قلت: الوجه ما هو السائل مفتقر إليه، وما ليس مستغنى عنه. الحديث السابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وأفضل العبادة انتظار الفرج)) ((مظ)): يعني إذا نزل بأحد بلاء، فترك الشكاية وصبر، وانتظر الفرج، فذلك أفضل العبادات؛ لأن الصبر في البلاء انقياد لقضاء الله، وإنما استتبع انتظار الفرج قوله: ((يحب أن يسأل))؛ لأن المراد بقوله: ((سلوا الله من فضله)) ادعوا الله لإذهاب البلاء، والحزن وانتظروا الفرج، ولا تستعجلوا في طلب إجابة الدعاء. أقول: الفضل الزيادة، وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال له: فضل، نحو قوله تعالي {واسألوا الله من فضله} و {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. المعنى أن فضل الله تعالي ليس بسبب استحقاق العبد، بل إكرام وإفضال من غير سابقة، فلا يمنعكم شيء من السؤال، ثم علل ذلك بقوله: ((فإن الله يحب أن يسأل)) أي من فضله؛ لأن خزانته ملأي لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، فلما حث علي السؤال هذا الحث البليغ، وعلم أن بعضهم يمتنع من الدعاء لاستبطاء الإجابة، فسيتحسر عند ذلك ويدعه، قال: ((أفضل العبادة انتظار الفرج)) أي أفضل الدعاء أن يستبطأ بالإجابة، فينتظر الداعي الفرج والإجابة، فيزيد في خضوعه وخشوعه، وعبادته التي يحبها الله تعالي، وهو المراد من قوله: ((فإن الله يحب أن يسأل)) والله أعلم. اللهم عجل فرجنا وفرج المسلمين أجمعين آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

2238 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) رواه الترمذي. [2238] 2239 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا - يعني أحب إليه - من أن يسأل العافية)) رواه الترمذي. [2239] 2240 - وعن أبي هريرةَ [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يستجيبَ الله عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [2240] 2241 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وانتم موقنون بالإجابة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة - رضي الله عنه: قوله: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) وذلك لأن الله تعالي يحب أن يسأل من فضله علي ما مر، فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه لا محالة، ((تو)): اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون، وجماهير العلماء من الطوائف كلها سلفًا وخلفًا: أن الدعاء مستحب بدليل الكتاب والسنة. الحديث التاسع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعني أحب إليه)) تقييد للمطلق، فهو نصب بـ ((يعني))، وفي الحقيقة صفة لـ ((شيئا)). وأوصل الكلام: ما يسأل الله شيئا أحب إليه من العافية؛ فأقحم المفسر لفظة ((أن يسأل)) تقريرا للسؤال واعتناء به، وإنما كانت العافية أحب؛ لأنها لفظة جامعة لأنواع خير الدارين من الصحة في الدنيا، والسلامة فيها وفي الآخرة. ((نه)): ((العافية)) أن يسلم من الأسقام، والبلايا، وهي الصحة ضد المرض، ونظيرها الثاغية، والراغية، بمعنى الثغاء والرغاء. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من سره أن يستجيب الله)) من شيمة المؤمن الشاكر الحازم أن يريش السهم قبل الرمي، ويلتجئ إلي الله قبل الاضطرار إليه، بخلاف الكافر الغبي، كما قال تعالي {وإذا مس الإنسان الضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا}. الآية. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((موقنون بالاجابة)).

واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [2241]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): فيه وجهان: أحدهما، أن يقال: كونوا أوان الدعاء علي حالة تستحقون منها الإجابة، وذلك بإتيان المعروف، واجتناب المنكر، وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه، حتى تكون الإجابة علي قلبه أغلب من الرد، وثإنيهما: أن يقال: ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة؛ لأن الداعي إذا لم يكن متحققًا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقًا، وإذا لم يكن الرجاء صادقًا، لم يكن الدعاء خالصًا، والداعي مخلصًا، فإن الرجاء هو الباعث علي الطلب، ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل. ((مظ)): المعنى ليكن الداعي ربه علي يقين بأنه تعالي يجيبه؛ لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته، أو لعدم كرم في المدعو، أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي، وهذه الأشياء منفية عن الله تعالي، وأنه جل جلاله عالم كريم، قادر لا مانع له من الإجابة، فإذا كان الأمر كذلك، فليكن الداعي موقنًا بالإجابة وأقول: قيد الأمر بالدعاء باليقين، والمراد النهي عن التعرض لما هو مناف للإيقان من الغفلة واللهو، بصدهما من إحضار القلب، والجد في الطلب بالعزم في المسألة، فإذا حصلا حصل اليقين، ونبه صلى الله عليه وسلم هذا التنبيه بقوله: ((واعلموا)) ونظيره في الكناية قوله تعالي: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} نهاهم عن الموت علي حالة غير الإسلام، وليس ذلك بمقدورهم، لكنه أمر علي الثبات علي حالة الإسلام بحيث إذا أدركهم الموت أدركهم عل تلك الحالة، ثم اعلم أن التقيظ، والجد في الدعاء من أعظم آدابه، وأوثق عراه. ((مح)): ومن آداب الدعاء: حضور القلب، وهو القصد الأولي منه، وقال أبو حامد في - الإحياء -: آداب الدعاء عشرة: ترصد الأزمان الشريفة كيوم عرفة، واغتنام الأحوال الشريفة كحالة السجود، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وخفض الصوت بين المخافتة والجهر، وأن لا يتكلف السجع، وأن يتضرع ويتخشع، وأن يجزم بالطلب، ويوقن بالإجابة، وأن يلح في الدعاء، ولا يستبطئ، وأن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالي، ويرد المظالم، وزاد الشيخ محيي الدين علي هذا، بأن قال: وأن يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالي، وأقول: وأن يختتم الدعاء بالطابع، أي بآمين، وأن لا يخص نفسه بالدعاء، بل يعم ليدرج دعاءه وطلبه في تضاعيف دعاء الموحدين، ويخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتهم، وتجاب. وإلي هذا يلوح قول القارئ والمصلي: {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} وأصل ذلك كله ورأسه: اتقاء الشبهات فضلا عن الحرام.

2242 - وعن مالك بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها)) [2242]. 2243 - وفي رواية ابن عباس، قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)) رواه أبو داود [2243]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر من مالك: قوله: ((ببطون أكفكم)) ((الباء)) للآلة، ويجوز أن تكون للمصاحبة. ((مظ)): عادة من طلب شيئا من غيره، أن يمد كفه إليه، فالداعي يبسط كفه إلي الله تعالي متواضعا متخشعا، ولا يرفع ظهر كفه؛ لأنه إشارة إلي الدفع، لكن من أراد دفع بلاء فليرفع ظهر كفه. وأقول: ولعل الظاهر أن من يطلب شيئًا من غيره يمد يده إليه ليضع النائل فيها، ومن جمع اليدين يؤذن بكثرة العطية لتمتلئا منها. وإليه ينظر الحديث التالي ((يستحيي أن يردهما صفرا)). ومن جعل بطن الكفين إلي أسفل، كأنه أشار إلي عكس ذلك، وخلوهما عن الخير. ويؤيده مسح الوجه بهما تفاؤلا بإصابة ما طلبه، وتبركا باتصاله إلي وجهه الذي هو أولي الأعضاء وأولاها، فمنه يسري إلي سائر الأعضاء. وأما حديث الاستسقاء، وأنه صلى الله عليه وسلم استسقى وأشار بظهر كفيه إلي السماء، فمعناه: أنه رفعهما رفعًا تامًا حتى ظهر بياض إبطيه، وصارت كفاه محاذيتين لرأسه ملتمسًا أن يغمره برحمته من رأسه إلي قدميه. وذلك لشدة مساس الحاجة إلي الغيث. {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته}. هذا وقد تقرر: أن شرعية الدعاء إنما كانت لإظهار الافتقار والضراعة. بين يدي الجبار، وكان الثناء علي الله تعالي بمحامده، والاعتراف بالذلة والمسكنة، والقصور عما يبتغيه ابتهالا قوليا، ومد اليد علي سبيل الضراعة ابتهالا فعليا، لأنه يصير بذلك كالسائل المتكفف؛ لأن يملأ كفه بما يسد حاجته. ولما كانت هذه الصورة صورة ضراعة، وإظهار فاقة؛ استحب مد اليد. فكلما كانت الحاجة أمس كان مد اليد أشد، كالحريص علي الشيء يتوقع تناوله. وذلك في الاستسقاء لامتساس الحاجة إلي الغيث عند الجدب، وحبس المطر. هذا مختصر كلام التوربشتي، وقع علي سبيل توارد الخاطر، وقع الحافر علي الحافر.

2244 - وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا)) رواه الترمذي وأبو داود، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) [2244]. 2245 - وعن عمر [رضي الله عنه]، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطها حتى يمسح بها وجهه. رواه الترمذي [2245]. 2246 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. رواه أبو داود [2246]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عنه سلمان رضي الله عنه: قوله: ((يستحيي من عبده)) الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، ويذم. وهو علي الله تعالي محال فيحمل علي التمثيل، مثل تركه تعالي تخييب العبد، وأنه لا يرد يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. في الكشاف: فقوله: ((يستحيى)) إلي آخره جملة مستأنفة بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، يعني حياؤه وكرمه يمنعه من أن يخيب عبده السائل. قوله: ((صفرا)) أي خالية، يقال: صفر الشيء – بالكسر - أي خلا، والمصدر الصفر بالتحريك، ويستوي فيه المذكر، والمؤنث والتثنية، والجمع. الحديث الرابع والخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها. قوله. ((الجوامع من الدعاء)) ((نه)): هي التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء علي الله تعالي وآداب المسألة. ((مظ)): هي ما كان من لفظه قليلا ومعناه كثيرًا، جمع فيه خير الدنيا والآخرة، نحو قوله تعالي: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)). قوله: ((ويدع ما سوى ذلك)) و ((ذلك)) إشارة إلي معنى ما يراد به من ((الجوامع))، فيختلف معنى ((سوى ذلك)) بحسب اختلاف تفسير ((الجوامع)) انعكاسًا.

2247 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)) رواه الترمذي، وأبو داود. 2248 - وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: ((أشركنا يا أخي في دعائك ولا تنسنا)) فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. رواه أبو داود، والترمذي وانتهت روايته عن قوله: ((ولا تنسنا)) [2248]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((أشركنا يا أخي في دعائك)) ((قض)): في هذا الالتماس إظهار الخضوع, المسكنة في مقام العبودية، وتحضيض للأمة علي الرغبة في دعاء الصالحين. وتفخيم شأن عمر، وإشادة بذكره، وإرشاد إلي ما يحمى دعاءه من الرد، ويوجب إجابته، وتعليم للأمة بأن لا يخصوا أنفسهم بالدعاء، ويشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم، لا سيما في مظان الإجابة. وأتى ((أخي)) بالتصغير تلطفا وتعطفا كالتصغير في يا بني. وقوله: ((فقال كلمة)) يحتمل أن يكون المراد بها ما سبق، وأن يكون غيره، ولم يصرح به توقيا عن تفاخر أو نحوه، والباء في ((بها)) بدليه أي لو كانت الدنيا لي بدل تلك الكلمة لما سرني؛ لعلمي بأن تلك الكلمة خير لي من الدنيا. أقول: الفاء في قوله: ((فقال)) عاطفة علي ((قال: أشركنا)) إما لتعقيب القول بعد القول، أو تعقيب المفسر بالمفسر، و ((كلمة)) نكرة نصب بـ ((قال)) علي معنى تكلم، فالفاء علي الأول تقتضي أن يكون القول الثاني غير الأول، وعلي الثاني هو الأول تفسيرا، وإنما نكرها تفخيما لشأنها, وعلي كلا التقديرين الكلمة يراد بها الجملة من الكلام؛ لقوله تعالي: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} وكقولك: كلمة الحويدرة تريد قصيدته. والظاهر أن المراد بالكلمة ما سبق، وأي فضيلة لعمر رضي الله عنه أرفع وأسنى من قوله: ((أشركنا)) حيث وصاه بالشركة في الدعاء، ومن أشرك غيره مع نفسه جعله مصاحبا وقينا له، ثم ترقى من كونه قرينا له إلي كونه قريبا له وبمنزلة الأخ، ثم ترقى بالتصغير إلي أن ذلك الأخ ليس كسائر الأخوة، بل كأخ شفيق متعطف، ثم توكيد الوصية بقوله: ((لا تنسنا)) إظهار لغاية الاهتمام بما وصاه، وأنه مستقل به، ولا يصدر إلا عن مثله، وأن دعاءه مستجاب البتة، فينبغي أن يشركه فيه. والله أعلم.

2249 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي [2249]. 2250 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. [2250]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم)) ((الصائم)) بدل من ((دعوتهم)) علي حذف المضاف، أي دعوة الصائم، ودعوة الإمام بدليل عطفه ((ودعوة المظلوم)) عليه، و ((يرفعها)) حال من ضمير الدعوة، كذا قيل. والأولي أن يكون خبرا لقوله: ((ودعوة المظلوم))، وقطع هذا القسم عن أخويه لشدة الاعتناء بشأنه، وينصر هذا الوجه عطف قوله: ((ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك)) علي قوله: ((وتفتح)) لأن هذا لا يستقيم علي الوجه الأول. ((قض)): استأنف بهذه الجملة الكلام لفخامة شأن دعاء المظلوم، واختصاصه بمزيد القبول، ورفعها فوق الغمام، وفتح أبواب السماء لها مجاز عن إثارة الآثار العلوية وجمع الأسباب السماوية علي انتصاره بالانتقام من الظالم، وإنزال البأس عليه. وقوله: ((ولو بعد حين)) يدل علي أنه سبحانه وتعالي يمهل الظالم، ولا يهمله، قال تعالي: {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا}. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث دعوات مستجابات)) وإنما قال في الحديث السابق ((ثلاثة)) وفي هذا ((ثلاث دعوات))؛ لأن الكلام علي الأول في شأن الداعي، وتحريه في طريق الاستجابة، وما هي منوطة به من الصوم، والعدل، بخلاف الوالد والمسافر؛ إذ ليس عليهما الاجتهاد في العمل وقال هناك: ((لا ترد دعوتهم)) وهنا ((مستجابات)) وقيدها بقوله: ((لا شك فيهن)) ليتفقا في التقرير؛ لأن ((لا ترد)) كناية عن الاستجابة. وقد تقرر عند علماء البيان: أن الكناية أبلغ من التصريح، فجبر التصريح بقوله: ((لا شك فيهن)). وقوله: ((دعوة الوالد)) مطلق يحتمل للولد، وعليه ليسعي في مراضيه حتى يدعو له، ويجتنب عما يسخطه لئلا يدعو عليه. وإنما لم يذكر الوالدة علي أن حقوقها أكثر فيكون دعائها أقرب إلي

الفصل الثالث 2251 - عن أنس [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)) [2251]. 2252 - زاد في رواية عن ثابت البنإني مرسلا ((حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعه إذا انقطع)). رواه الترمذي [2252]. 2253 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه. [2253] 2254 - وعن سهل بن سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان يجعل أصبعيه حذاء منكبيه، ويدعو. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإجابة؛ لما علم ذلك بطريق الأولوية، يدل عليه قوله تعالي: ((ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا علي وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك)) حيث أوقع ((حملته أمه- إلي قوله- في عامين)) اعتراضا بين المفسر أعني ((أن اشكر لي)) والمفسر أي ((وصينا))، وفائدة الاعتراض التوكيد في التوصية في حقهما، خصوصا في حق الوالدة لما تكابد من مشاق الحمل والرضاع. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى يسأل شسع نعله)) ((نه)): الشسع أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في النقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام السير الذي يدخل فيه الشسع. وقد ذكرنا في - فتوح الغيب - أن الرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأنه دل علي جلائل النعم، والرحيم علي دقائقها، فيكون من باب التتميم لا الترقي، ولو لمح فيه هذا المعنى لكان من باب الترقي؛ لأن طلب أحقر الأشياء من أعظم العظماء أبلغ في الطلب من طلب الشيء العظيم منه، ومن ثم قال: ((ليسأل)) وكرره؛ لأنه يدل علي أن لا منع هناك، ولا رد للسائل عما طلب. وفيه أن العبد لا يلتجئ ولا يظهر الافتقار إلا إلي الله تعالي، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه. الحديث الثاني والثالث عن سهل: قوله: ((كان يجعل أصبعيه)) دل هذا الحديث علي القصد في رفع اليدين، والسابق علي الزيادة علي القصد.

2255 - وعن السائب بن يزيد، عن أبيه،: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، فرفع يديه مسح وجهه بيديه [2255]. 2256 - وعن عكرمة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما]، قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا. وفي رواية. قال: والابتهال هكذا، ورفع يديه، وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. رواه أبو داود. 2257 - وعن ابن عمر، أنه يقول: إن رفعكم أيديكم بدعة، ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا - يعنى إلي الصدر - رواه أحمد. 2258 - وعن أبي بن كعب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب صحيح. [2258] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن السائب: قوله: ((فرفع)) عطف علي الشرط، وجوابه ((مسح)). وفائدته دلالة المفهوم، يعنى إذا دعا ولم يرفع يديه لم يمسح وجهه. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((المسألة أن ترفع)) المسألة مصدر بمعنى السؤال. والمضاف محذوف؛ ليصح الحمل، أي أدب السؤال وطريقة رفع اليدين، وأدب الاستغفار الإشارة بالسبابة سبا للنفس الأمارة والشيطان، والتعوذ منهما إلي الله تعالي. ولعل المراد من الابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب، فيجعل يديه كالترس ليستره عن المكروه. ((مظ)): العادة فيمن طلب شيئا أن يبسط الكف إلي المدعو متواضعا متخاشعا، وفيمن أراد كف مكروه، أن يرفع ظهر كفه إشارة إلي الدفع. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعني إلي الصدر)) تفسير لما فعله ابن عمر من رفع اليدين إلي الصدر، يعني أن رفعكم أيديكم إلي فوق الصدر بدعة، وما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رفع اليدين إلي الصدر. أنكر عليهم غالب أحوالهم في الدعاء والسؤال، وعدم تمييزهم بين الحالات من الرفع إلي الصدر لأمر، وفوقه إلي المنكبين لآخر، وفوقهما لغير ذلك.

2259 - وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يدعو لدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) قالوا: إذن نكثر. قال: ((الله أكثر)). رواه أحمد. [2259] 2260 - وعن ابن عباس [رضي الله عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خمسُ دعوات يستجابُ لهنَّ: دعوة المظلوم حتى ينتصرَ، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقعد، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب)) ثم قال: ((وأسرع الدعوات إجابة دعوة الأخ بظهر الغيب)) رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2260] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي رضي الله عنه: قوله: ((فدعا له)) عطف علي الشرط، وجزاؤه ((بدأ)) فدل بالمفهوم علي: أنه إذا لم يحصل الشرط المقيد لم يوجد الجزاء؛ لأن الدعاء بعد الذكر يدل علي سابقة فيهتم بدعائه فبدأ بنفسه؛ ليكون أقرب إلي الإجابة ووسيلة إلي الفوز. الحديث الثامن عن أبي سعيد: قول: ((قال الله أكثر)) أي أكثر إجابة من دعائكم. المعنى أن غاية الله تعالي في بابها أكثر وأبلغ من دعائكم في بابه، وهو قريب من قوله: العسل أحلي من الخل، والصيف أحر من الشتاء، وإنما جيء ((أكثر)) بالثاء المثلثة مشاكلة لقولهم: ((نكثر)). الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((حتى ينتصر)) ((حتى)) في القرائن الأربع بمعنى ((إلي)) كقولك: سرت حتى تغيب الشمس؛ لأن ما بعدها غير داخل فيما قبلها. فدعوة المظلوم مستجابة إلي أن ينتصر، أي ينتقم من ظالمه إما باللسان أو باليد، ودعوة الحاج حتى يفرغ من أعماله، ويصدر إلي أهله، ودعوة المجاهد حتى يقعد ما استتبت به مجاهدته، يعني حتى يفرغ منها. فإن قلت هذا يوهم أن دعاء هؤلاء الأربع لا يستجاب بعد ذلك, وكذا دعاء الغائب إلي أن يحضر؟ قلت: نعم، لكن الأسباب مختلفة فيكون سبب الإجابة حينئذ أمرًا آخر غير المذكور. وإنما كان دعاء الغائب أسرع إجابة؛ لأنه أقرب إلي الإخلاص، وأنه تعالي يعينه في دعائه كما ورد: ((إن الله تعالي في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم))، ومن ثم صرح بذكر الأخ في الحديث.

(1) باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه

(1) باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه الفصل الأول 2261 - عن أبي هريرة، وأبي سعيد [رضي الله عنهما] قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)). رواه مسلم. [2261] 2262 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر علي جبل يقال له: جمدان، فقال: ((سيروا هذا جمدان، سبق المفردون)). قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله قال: ((الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). رواه مسلم. [2262] ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: قوله: ((لا يقعد قوم يذكرون)) سبق شرحه في كتاب العلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جمدان)) ((نه)): هو- بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون- جبل علي ليلة من المدينة. قول: ((سبق المفردون)) ((نه)): وفي رواية ((طوبى للمفردين)) قيل: ((وما المفردون؟ قال: الذين [أُهتِرُوا] في ذكر الله تعالي)). يقال: فرد برأيه، وأفرد، وفرد، واستفرد بمعنى انفرد به. وقيل: [فرَّد] الرجل إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. ((تو)) و ((قض)): المفرد من فرد، إذا اعتزل الناس وتخلي للعبادة، فكأنه فرد نفسه بالتبتل إلي الله تعالي، ولذلك فسر بقوله: ((الذاكرون الله)) أي سبقوا بنيل الزلفي، والعروج إلي

2263 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر مثل الحي والميت)). متفق عليه. 2264 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالي: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم)). متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ الدرجات العلي. وإنما قالوا: ((ما المفردون)) ولم يقولوا: من هم؛ لأنهم أرادوا [فسر] اللفظ وبيان ما هو المراد منه، لا تتعين المتصفين به، وتعريف أشخاصهم، فعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب عن بيان اللفظ إلي حقيقة ما يقتضيه توقيفا للسائل بالبيان المعنوي علي المعنى اللغوي إيجازا، فاكتفي فيه بالإشارة المعنوية إلي ما استبهم عليهم من الكناية اللفظية. أقول - وما توفيقي إلا بالله -: ولعلهم كانوا قافلين من غزو أو سفر، قاصدين المدينة، وقربوا منها واشتاقوا إلي الأوطان، فتفرد منهم جماعة مهترين سابقين، وبقي بعضهم غير باسطين، فقال صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المتخلفين: سيروا وقد قرب الدار، وهذا جمدان وسبقكم المفردون. وأما جواب رسول الله عن قولهم: ((ما المفردون)) بقوله: ((الذاكرون الله كثيرا)) فمن الأسلوب الحكيم الوارد علي سبيل الاستطراد، أي دعوا سؤالكم هذا؛ لأنه ظاهر مكشوف، واسألوه عن السابقين إلي الخيرات المتبتلين إلي الله تعالي بمداومة الذكر، المفردين الله بالذكر عمن سواه هذا، وأما المطابقة بين السؤال والجواب لفظًا، فهي حاصلة؛ لأن ((ما)) كما يسأل بها عن حقيقة الشيء يسأل بها عن وصفه أيضًا، نحو سؤال فرعون ((وما رب العالمين)) وجوابه عليه السلام ((رب السموات والأرض)) في وجه. كأنهم يألوا ما صفة هؤلاء المفردين؟ فأجيبوا: صفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا. قوله: ((والذاكرات)) ((مح)): أي الذاكراته فحذف الهاء كما حذف في التنزيل إنهاء رأس آية، ولأنه مفعول، وحذفه سائغ. الحديث الثالث عن أبي موسي: قول: ((مثل الذي يذكر ربه)) شبه الذاكر بالحي الذي تزين ظاهره بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريد، وباطنه منور بنور العلم والفهم والإدراك، كذلك الذاكر مزين ظاهرة بنور العمل والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة، [فقلبه] مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل، وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه.

2265 - وعن أبي ذر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يقول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ظن عبدي بي)) ((تو)): الظن لما كان واسطة بين اليقين والشك، استعمل تارة بمعنى اليقين. وذلك إذا ظهرت أماراته، وبمعنى الشك إذا ضعفت أماراته. وفي المعنى الأول ورد قوله تعالي: ((الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)) أي يوقنون، وعلي الثاني قوله: ((وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)) أي توهموا. ((قض)): الظن في الحديث يصح إجراؤه علي ظاهره، ويكون المعنى أنا عند ظن عبدي بي، أي أعامله علي حسب ظنه، وأفعل به ما يتوقعه مني. والمراد الحث علي تغليب الرجاء علي الخوف، وحسن الظن بالله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)). ويجوز أن يفسر بالعلم، والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي، وحسابه علي، وأن ما قضيت له من خير أو شر فلا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، أي إذا تمكن العبد في مقام التوحيد، ورسخ في الإيمان والوثوق بالله تعالي، قرب منه ورفع دونه الحجاب بحيث إذا دعاه أجاب، وإذا سأله استجاب، كما روي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال عن الله تعالي: ((علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت له)). قوله: ((وأنا معه إذا ذكرني)) أي بالتوفيق، والمعونة، أو أسمع ما يقوله. ((فإن ذكرني في نفسه)) أي سرًا وخفية إخلاصًا وتجنبًا عن الرياء ((ذكرته في نفسي)) أي أسر بثوابه علي منوال عمله وأتولي بنفسي إثابته لا أكله إلي أحد من خلقي. وقوله: ((في ملأ خير منه)) أي ملأ من الملائكة المقربين وأرواح المرسلين. والمراد منه مجازاة العبد بأحسن مما فعله وأفضل مما جاء به. وأقول: وإنما قيده بقوله: ((وأرواح المرسلين)) لئلا يستدل بهذا الحديث أن الملائكة أفضل من البشر، علي أن المراد من الملأ الملائكة فحسب. واعلم أن ((الفاء)) في قوله: ((فإن ذكرني في نفسه)) إلي آخره، تفصيل للسابق فينبغي للحاذق الماهر أن يجعل السابق محلا للتفصيل ومتضمنًا معناه علي سبيل الإبهام، فمعنى المفصل، أنه تعالي عالم بسر العبد وعلإنيته، وإخلاصه في العمل وريائه فيه، وأنه مجازيه علي أعماله بأفضل وأكمل مما عمله، وإذا تقرر هذا ينبغي أن يحمل الظن علي الاعتقاد الجازم بأنه تعالي كريم جواد يجازي العبد بأفضل وأحسن مما عمل، وأنه معه رقيب عليه حافظ لما أسره وما أعلنه، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير. وقوله: ((ذكرته في نفسي)) جاء علي سبيل المشاكلة؛ لأن المراد من قوله: ((في نفسه)) قلبه وسره؛ ولأنه جعل النفس ظرفًا للذكر، تعالي الله أن يتصف بهما. الحديث الخامس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((تقربت منه)) ((مح)): هذا الحديث من

تعالي: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأزيدُ؛ ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر؛ ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا؛ ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا؛ ومن أتإني يمشي أتيته هرولة؛ ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)). رواه مسلم. [2265] ـــــــــــــــــــــــــــــ أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهرة. ومعناه من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي, والتوفيق في الإعانة، وإن زاد زدت، وإن أتإني يمشي ويسرع في طاعتي أتيته هرولة، أي صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلي المشي الكثير في الوصول إلي المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه علي حساب تقربه. ((تو)): الهرولة ضرب من التسرع في السير، وهو فوق المشي ودون العدو، وهذه أمثال يقرب بها المعنى المراد منها إلي أفهام السامعين. والمراد منها: أن الله تعالي يكافئ العبد ويجازيه في معاملاته التي يقع بها التقرب إلي الله بأضعاف ما يتقرب العبد به إلي الله. وسمي الثواب تقربًا مشاكلة وتحسينًا، ولأنه من أجله وبسببه، كقوله تعالي ((وجزاء سيئة سيئة مثلها)). وقيل: تقرب الباري سبحانه إليه بالهداية، وشرح صدره لما تقرب به، وكأن المعنى: إذا قصد ذلك وعمله أعنته عليه وسهلته له. والقراب ما يقارب ملاءها وهو مصدر قارب. ((شف)): قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا، فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله: ((لقيته بمثلها مغفرة)) علي عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة. ((مظ)): لا يجوز لأحد أن يغتر بهذا الحديث ويقول: إذا كان كذلك، فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله مغفرتي، وإنما قال ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته، ولا شك أن لله مغفرة وعقوبة، ومغفرته أكثر، ولكن لا يعلم أحد أنه من المغفورين أو من المعاقبين، فإذن ينبغي للمرء أن يكون بين الخوف والرجاء. وأقول: هذا الحديث عام خص بحسب الأحوال والأوقات. فإن جانب الخوف في ابتداء الأحوال ينبغي أن يكون راجحا علي الرجاء، وفي أواخرها يكون مرجوحا، أو مطلق محمول علي المقيد بالمشيئة كما في قوله تعالي: ((ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) أو بالعمل الصالح مع الإيمان كما في قوله تعالي: ((إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)) فدل ((أولئك)) أن ما بعدها جدير بمن ذكر قبلها، بسبب ما اختص به من الصفات.

ـــــــــــــــــــــــــــــ والمذكور في الآية التائب الذي آمن بالله وعمل عملا صالحًا. والتمثيل مركب من عدة أمور متوهمة، مثلت صورة تقرب العبد إلي الله بالطاعة والإخلاص فيها مع معاونة الله تعالي بتيسير الطاعة وتسهيل السلوك إليه، بصورة تقرب من يعنى بحالة من الخواص إلي بعض العظماء فإنه يستقبله، ويخطو خطوات نحوه تقليلا للمسافة إكراما له، وهذا المعنى يقرب من الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ التوربشتي، ويكشف عن هذا المعنى في الحديث الذي يليه كشفًا يتحقق به مغزى الكلام. فإن قلت: ما معنى التعريف في ((الحسنة والسيئة))، ولم خصت القرينة الثانية أعني ((من جاء بالسيئة)) بلفظ الجزاء، ولم وضعت ((سيئة)) موضع الضمير الراجع إلي المذكور في الشرط ونكرت؟ ولم قيل في القرينة الأولي ((وأزيد)) بالواو، وفي الثانية أغفر ((أو أغفر))؟ وما وجه النظم بين قوله: ((ومن تقرب إلي)) إلي آخر الحديث، وبين الكلام السابق؟ قلت- وبالله التوفيق-: أما التعريف فيهما فللعهد الذهني، كقولك: دخلت السوق في بلد كذا أي سوقًا من الأسواق، ويعرف كل أحد أن السوق ما هو، فالمعنى: أية حسنة كانت، وأية سيئة كانت. وأما اختصاص ذكر الجزاء بالثانية، فلأن ما يقابل العمل الصالح من الثواب، كله إفضال وإكرام من الله تعالي، وما يقابل السيئة هو عدل وقصاص، فلا يكون مقصودا بالذات كالثواب، فنص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة، فلتنصيص معنى الوحدة المبهم في السيئة، والمعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى واو العطف في ((وأزيد)) فلمطلق الجمع، إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالي: ((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة))، وإن أريد بها الأضعاف كما في قوله تعالي: ((كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)) الآية، فالواو بمعنى أو التنويعية، كما هي في قوله: ((أو أغفر)) في الحديث. وأما وجه النظم، فإن تركيب الحديث من باب اللف والنشر؛ لأن قوله: ((من تقرب مني- إلي قوله- هرولة)) مناسب للقرينة الأولي، وقوله: ((ومن لقيني)) إلي آخر الحديث مناسب للقرينة الأولي أن القرب إلي الله تعالي إنما يحصل بواسطة الطاعة المقارنة بالإخلاص، وقمع هوى النفس الأمارة بالسوء، والفناء عن الأوصاف البشرية المانعة عن الوصول إلي حظيرة القدس، فكلما زاد الإخلاص في الطاعة والتوغل فيه، وبعد عن هوى النفس وشهواتها ولذاتها، ازداد قربا إلي الله تعالي. ومراتب القرب لا تحصى، فذكر منها في الحديث ثلاثا تقريبا. وقوله: ((أمثالها)) من إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، أي عشر حسنات أمثالها. وقوله: ((شبرًا، وذراعًا، وباعًا)) في الشرط والجزاء منصوبات علي الظرفية، أي من تقرب إلي

2266 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي ـــــــــــــــــــــــــــــ مقدار شبر. وقوله: ((يمشي)) و ((هرولة)) حالان. وقوله: ((خطيئة)) و ((مغفرة)) تمييزان، و ((هرولة)) يجوز أن تكون مفعولا مطلقا؛ لأنه نوع من الإتيان نحو رجعت القهقرى، لكن الحمل علي الحال أولي؛ لأن قرينته ((يمشي)) حال لا محالة. ((تو)): الحديث علي الوجه الذي ورد في المصابيح من رواية أبي ذر: ((من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا)) هكذا مخرج في كتاب ابن ماجة، وفي كتاب مسلم ((تقربت إليه ذراعًا، تقربت إليه باعًا)). ولما ذكر الحديث في قسم الصحاح لم يكن له أن يأتي فيه بما لا يوجد في الكتابين - كتاب البخاري وكتاب مسلم، وذلك من التجوز الذي لا يتدين به المحدثون. أقول: هذا الحديث من أفراد مسلم، ذكره الحميدي في كتابه كما في المصابيح والمشكاة. وكذا في نسخة معتمدة لمسلم, وعلي هذا شرحه الشيخ محيي الدين النواوي، ولعل الشيخ وجد نسخة علي ما نقله فأخذ يطعن علي مؤلف المصابيح، ولا يسعه ذلك. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((من عادى لي وليا)) ((نه)): الولي: هو الناصر. وقيل: المتولي للأمور. ((شف)): الولي له معنيان: أحدهما أنه فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولي الله تعالي أمره فلا يكله إلي نفسه لحظة، قال الله تعالي: ((وهو يتولي الصالحين))، وثإنيهما أنه فعيل بمعنى فاعل مبالغة، وهو الذي يتولي عبادة الله تعالي وطاعته. وكلا الوصفين شرط في ولاية الولي، فيجب قيامه بحقوق الله تعالي علي الاستقصاء والاستبقاء؛ ليدوم حفظ الله تعالي وتولي أموره إياه في السراء والضراء. و ((آذنته)) أعلمته، أي فقد أعلمت معادي وليي بمحاربتي معه وليي. وفي قوله: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) إرشاد إلي أن باب [المحبة] * إلي الله تعالي للعبد هو التقرب إلي الله تعالي بالنوافل الزائدة علي الفرائض فلا يزال العبد يتقرب إلي الله تعالي بأنواع الطاعات، ويرتقي من مقام إلي آخر بأصناف الرياضات، حتى يحبه الله، فيستغرق بملاحظة جناب قدسه بحيث ما لاحظ شيئا إلا رأي الله تعالي فيه، وهو آخر درجات السالكين وأول درجات الواصلين. قول: ((فكنت سمعه)) ((حس)): سئل أبو عثمان الخيري عن معنى هذا الخبر، فقال: كنت أسرع إلي قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وبصره في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، [((خط))]: هذه أمثال ضربها، والمعنى- والله أعلم- توفيقه في الأعمال التي

يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه)). رواه البخاري ـــــــــــــــــــــــــــــ يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره من إصغاء إلي اللهو يسمعه، ونظر إلي ما نهي عنه ببصره، وبطش ما لا يحل بيده، وسعي في الباطل. وقد يكون معناه سرعة إجابة في الدعاء والإنجاح في الطلبة، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع. ((تو)): معنى قوله: ((كنت سمعه)) إلي تمام الفصل، أجعل سلطان حبي غالبًا عليه، حتى يسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي، فيصير متخلفا عن الشهوات، ذاهلا عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالي بمرأي منه وبمستمع، لا تطور حالته الغفلة، ولا تحول دون شهوده الحجبة، ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان، يأخذ بمجامع قلبه حب الله، فلا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبه، ويكون الله سبحانه في ذلك له يدا ومؤيدا وعونا ووكيلا يحمي سمعه، وبصره، ويده، ورجله عما لا يرضاه. وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله تعالي، وحسن رعاية الله له، وذلك علي سبيل الاتساع، فإنهم إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع منه، والاهتمام به، والعناية والاستغراق فيه، والفناء والوله إليه، والنزوع له، سلكوا هذا الطريق، قال: جنوني فيك لا يخفي وناري فيك لا تخبو فأنت السمع والنظر والمهجة والقلب ولسلفنا من مشايخ الصوفية في هذا الباب فتوحات غيبية، وإشارات ذوقية، تهتز منها العظام البالية، غير أنها لا تصلح إلا لمن سلك سبيلهم، فعلم مشربهم، وأما غيرهم فلا يؤمن عليه عن سماعها من الأغاليط التي تهوى بصاحبها إلي مهواة الحلول والاتحاد. وتعالي الله الملك الحق عن صفات المخلوقين، ونعوت المربوبين. وحسب ذوي الألباب من شواهد هذا الباب، أن الله تبارك وتعالي لما أراد أن يقرر في قلوب السامعين عنه الواقفين معه أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده معه، أضاف المبايعة معه إلي نفسه بآكد الألفاظ وأخص المعإني، فقال: ((إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)). قوله: ((وأنا أكره مساءته)) هذا آخر الحديث في كتاب البخاري والحميدي وجامع الأصول وشرح السنة وليس فيها ((فإذا أحببته)) كما في بعض نسخ المصابيح، ولا زيادة لفظة ((قبض)) عند قوله: ((عن قبض نفس المؤمن))، ولا قول: ((ولابد له منه)) في آخر الحديث، والمذكورات وردت في حديث روى أنس نحوه في شرح السنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وما ترددت عن شيء)) ((قض)): التردد تعارض الرأيين، وترادف الخاطرين، وهو وإن كان محالا في حقه تعالي إلا أنه أسند إليه باعتبار غايته ومنتهاه الذي هو التوقف والتإني في الأمر، كذلك سائر ما يسند إلي الله تعالي من صفات المخلوقين كالغضب والحياء والمكر، فالمعنى: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن، أتوقف فيه حتى يسهل عليه، ويمل قلبه إليه شوقا إلي أن ينخرط في سلك المقربين، ويتبوأ في أعلي عليين. وأقول: تفسير الولي علي ما نقلناه يستلزم المحبة، وأن يكون الولي محبوبا، وإلي المحبة ألإشارة بقوله: ((حتى أحبه)) وإلي معنى تولي الأمور لمح قوله: ((فكنت سمعه الذي يسمع به)) إلي آخر الفصل. وقوله ((أحب إلي مما افترضت عليه)) يقتضي أن تكون وسائل التقرب كثيرة، وأحبها إلي الله تعالي أداء الفرائض، فتندرج فيها النوافل. وقوله: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)) إلي آخره بيان أن حكم بعض المفضل عليه الذي هو النافلة بهذه المثابة، فما الظن بالمفضل الذي هو الفرائض؟ فالتقرب المذكور في هذا الحديث وما رتب عليه من قوله: ((فكنت سمعه)) إلي آخره تفسير للمبهم، وتفصيل للمجمل في الحديث السابق. قال فيه: ((من تقرب إلي شبرًا)) ولم يبين المتقرب به، وفسر هنا بأداء الفرائض والنوافل، وقال هناك: ((تقربت إليه ذراعا)) ولم يبين بماذا تقرب، فبين هنا بقوله: ((فكنت سمعه)) دلالة علي التأييد، والتوفيق، وتسهيل سلوك الطريق المستقيم، وإليه يلمح ترتب قوله: ((اهدنا الصراط المستقيم)) إلي آخره علي قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، فلما بنى افتتاح الكلام علي ذكر الولاية والمحبة تكرما وتفضلا، ونبه أنه تعالي لا يحوج وليه إلي انتقام من يعاديه، بل هو بذاته ينتصر منه، ويتولي حربه، وأنه سبحانه يتلقاه في التقرب منه بما تقر به عينه، وينشرح به صدره بقوله: ((فكنت سمعه وبصر)) إلي آخره، ختمه بالتأخير عما يسوء المحبة ويكرهه تلطفًا وتعطفًا. وقوله: ((وما ترددت في شيء أنا فاعله)) مرتب عليه قوله: ((هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته)) من باب التمثيل، سبه صورة توقف الله تعالي وتأخيره العبد عما يسوءه من الموت الذي في الظاهر مضرة، وتنبؤ عنه بشرية العبد، وفي ضمنه المنافع والوصول إلي غاية المطالب حتى تزول تلك الكراهة بلطائف يحدثها الله تعالي، ويظهرها عليه، فيشتاق إليه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله تعالي وكرامته، بصورة أب مشفق بولده متعطف له، يريد إيصاله إلي ما يتم به كمال نفسه من العلم والأدب، ولا يتم ذلك إلا بنصب التكرار وتعب السهر، والولد يكرهه، وهو لا يريد مساءته، ولا أن يترك ما هو صلاحه فيه، فيتوخى لطائف الحيل، حتى يميل إليه قلب الولد، وينزع إليه. ثم أدخل صورة المشبه في جنس المشبه به مبالغة، ثم استعمل في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه به من التردد، وهذا التأويل موافق

2267 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكروا الله تنادوا: هلموا إلي حاجتكم)) قال: ((فيحفونهم بأجنحتهم إلي السماء الدنيا)) قال: ((فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟)) قال: ((يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك)) قال: ((فيقول: هل رأوني؟)) قال: ((فيقولون: لا والله ما رأوك)) قال: ((فيقول: كيف لو ـــــــــــــــــــــــــــــ للحديث المتفق علي صحته ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله)) قالت عائشة: ((إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بضر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه)) هذان الحديثان توأمان بلغا غايتهما في دقة المعنى ورقة الألفاظ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أهل الذكر)) المراد بالذكر التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتمجيد، ولم يذكر التهليل؛ لدلالة التمجيد عليه، وينصره رواية مسلم ((التهليل)) بدل التمجيد. قوله: ((هلموا)) ((نه)): معناه تعالوا، وفيه لغتان: أهل الحجاز يطلقونه علي الواحد، والجمع، والاثنين، والمؤنث بلفظ واحد مبني علي الفتح، وبنو تميم يثنى، ويجمع ويؤنث. قوله: ((فيحفونهم بأجنحتهم)) [((تو))]: أي يطوفون بهم ويدورون حولهم؟ ((مظ)): الباء للتعدية، يعني يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. أقول: الظاهر أن الباء للاستعانة كما في قولك: كتبت بالقلم؛ لأن حفهم الذي ينتهي إلي السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة كما في العرف. قوله: ((وهو أعلم بهم)) حال؛ والأحسن أن تكون معترضة، أو تتميما صيانة عن التوهم، وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول التعريض بالملائكة، وبقولهم في بني آدم: ((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) وفي قوله: ((هل رأوني، وهل رأوا جنتي، وهل رأوا ناري)) تقريع للملائكة وتنبيه علي أن تسبيح بنى آدم وتقديسهم أعلي وأشرف من تقديسهم، لحصول هذا في عالم الغيب مع وجود الموانع والصوارف، وحصول ذلك في عالم المشهادة من غير صارف. وقد ورد ((أفضل العبادة أحمزها)). قوله: ((عبد خطاء)) بدل من ((فلان)) وفي الرواية الأولي ((فلان ليس منهم)) فـ ((ليس منهم)) حال من المستتر في الخبر يعني فيهم. قوله: ((هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) يعني أن مجالستهم مؤثرة في الجليس، فإذا لم يكن للجليس نصيب مما أصابهم كان محرومًا فيشقى. فإذًا لا يستقيم وصف القوم بهذه الصفة. ولو

رأوني؟)) قال: ((فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحًا)) قال: ((فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة)) قال: ((يقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يارب ما رأوها)) قال: ((فيقول: فكيف لو رأوها؟)) قال: ((يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة)) ((قال: فمم يتعوذون؟)) قال: ((يقولون: من النار)) قال: ((يقول: فهل رأوها؟)) قال: ((يقولون: لا والله يارب ما رأوها)) قال: ((يقول فكيف لو رأوها؟)) قال: ((يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافةً)) قال: ((فيقول فأشهدكم إني قد غفرت لهم)) قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)). رواه البخاري وفي وراية مسلم، قال: ((إن لله ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلي السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك، [ويمجدونك]، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي ربِّ! قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: هم قوم يسعد بهم جليسهم لم يكن بهذه الحيثية. وأما علي رواية مسلم فتعريف الخبر يدل علي الكمال، أي هم القوم، أي القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة، فيكون قوله: ((لا يشقى بهم جليسهم)) استئنافًا لبيان الموجب. ويجوز أن يكون صفة؛ لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة. قوله: ((فضلا)) بإسكان الضاد جمع فاضل، صفة بعد صفة للملائكة كبزل وبازل. قوله: ((فإذا تفرقوا عرجوا)) الضمير في فعل الشرط للقوم، وفي الجزاء للملائكة، فكما كان اجتماع القوم سببا لنزول الملائكة وحفهم، كان تفرقهم سببًا لعروجهم وقربهم إلي الله تعالي ومكالمتهم مع الله تعالي. قوله: ((وكيف لو رأوا جنتي)) جواب ((لو)) ما دل عليه ((كيف)) لأنه سؤال عن الحال، أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر؟ فإن قلت: ما الفرق بين مجيء جواب الملائكة في رواية

وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يارب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك)). قال: ((فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا)) قال: ((فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم)) قال: ((فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)). 2268 - وعن حنظله بن الربيع الأسيدي، قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قلتُ: نكونُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري: ((لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا)) وبين ذكر الجواب في رواية مسلم؟ قلت: ((كيف)) في رواية البخاري لمجرد السؤال عن الحال، وفي رواية مسلم للتعجيب والتعجب مثلا قوله: ((إنما مر)) فإن قلت: ((إنما مر)) مشكل، لأن ((إنما)) توجب حصر ما بعده في آخر الكلام، كما تقول: إنما يجيء زيد أو إنما زيد يجيء، ولم يصرح هنا، غير كلمة واحدة، وكذلك قوله ((وله غفرت)) يقتضي تقديم الظرف علي عامله اختصاص الغفران بالمار دون غيره، وليس كذلك. قلت: في التركيب الأول تقديم وتأخير، أي إنما فلان مر، أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقيبه، يعني ما ذكر الله تعالي. فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل الضمير في ((مر)) بارزًا ليكون الحصر فيه؟ قلت: لو أريد هذا، لوجب الإبراز، ولئن سلم لأدى إلي خلاف المقصود، وأن المرور منحصر في ((فلان))، ولا يتعدى إلي غيره، وهو خلف. وفي التركيب الثاني الواو للعطف، وهو يقتضي معطوفًا عليه، أي قد غفرت لهم وله. ثم أتبع ((غفرت)) تأكيدًا وتقريرًا، نحوه قوله تعالي: ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب)) ((الكشاف)): أحد المفعولين ((الذين يفرحون)) والثاني ((بمفازة)) وقوله: ((فلا تحسبنهم)) تأكيد، أي لا تحسبنهم فائزين. الحديث الثامن عن حنظلة: قول: ((كيف أنت يا حنظلة)) ((كيف)) سؤال عن الحال، أي أمستقيم علي الطريق أم لا؟ فأجاب: نافق حنظلة. وفيه تجريد؛ لأن أصل الكلام: نافقت، فجرد من نفسه شخصا آخر مثله، فهو يخبر عنه لما رأي من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن، والحضور الغيبة. قوله: ((سبحان الله!)) كلمة تعجب، و ((ما)) استفهامية، فقوله: ((ما تقول؟)) هو المتعجب منه. قوله: ((رأي عين)) ((فا)): منصوب بإضمار ((نرى)) ومثله ((حمد الله)). قوله: ((عافسنا)) ((فا)): المعافسة: المعالجة، والممارسة، والضيعة: الصناعة والحرفة. ويقال للرجل: ما ضيعتك؟ ((نه)): ضيعة الرجل ما يكون معاشه به كالتجارة، والزراعة وغير ذلك.

الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: نافق حنظله يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون علي ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة علي فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة)) ثلاث مراتٍ. رواه مسلم. الفصل الثاني 2269 - وعن أبي الدرداء [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم؟، وأزكاها عند مليككم؟، وأرفعها في درجاتكم؟، وخيرٍ لكم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((نسينا كثيرًا)) أي نسينا أكثر مما ذكرتنا به، أو نسينا نيسانًا كثيرًا، كأنا ما سمعنا منك شيئًا قط، هذا مناسب لقوله: ((رأي عين)) إذا أريد به المصدر في إرادة المبالغة منها. قوله: ((وفي الذكر)) عطف علي خبر ((كان)) الذي هو ((عندي)). قوله: ((علي فرشكم وطريقكم)) يريد به الديمومة في جميع الحالات. ((شف)): أي في حالتي فراغكم وشغلكم، وفي زمإني أيامكم ولياليكم. أقول: ((لو)) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فتنتفي المداومة، علي حالة حاصلة عند الحضور وعلي الذكر بانتفاء مصافحة الملائكة عيانا علي الدوام. فقوله: ((ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) استدراك عن هذا التعليق، وتقرير علي الحالة التي كان عليها حنظلة، وأنكر عليها، ومن ثم ناداه باسمه تنبيهًا علي أنه كان ثابتًا علي الطريق المستقيم، وما نافق قط. قوله: ((ثلاث مرات)) أي قال: يكونون ساعة في الحضور في الذكر، وساعة في المعافسة- ثلاث مرات- تأكيدًا لتأثير القول حتى يزيل عنهم ما اتهم به نفسه. ((تو)): ((ساعة وساعة)) محتمل للترخيص، وهو أظهر، ومحتمل للحث علي التحفظ به لئلا تسأم النفس عن العبادة. ((مظ)): معنى الحديث لو كنتم في غيبتي مثل ما كنتم في حضوري، من صفاء القلب والخوف من الله تعالي، ولو دمتم علي الذكر، لزارتكم الملائكة وصافحتكم عيانًا. ولابد من هذا القيد؛ لأن الملائكة يصافحون أهل الذكر غير عيان. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((وخير لكم من إنفاق الذهب)) مجرور

من إنفاق الذهب والورق؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلي. قال: ((ذكر الله)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، إلا أن مالكا وقفه علي أبي الدرداء [2269]. 2270 - وعن عبد الله بن بُسر، قال: جاء أعرابي إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ فقال: ((طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله)). قال: يا رسول الله! أي ـــــــــــــــــــــــــــــ عُطف علي ((خير أعمالكم)) من حيث المعنى؛ لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم، ونفوسكم؟. قال الشيخ ابن عبد السلام في كتاب القواعد: هذا الحديث مما يدل علي أن الثواب لا يترتب علي قدر النصب في جميع العبادات، بل قد يؤجر الله تعالي علي قليل الأعمال أكثر مما يؤجره علي كثيرها، فإن* الثواب يترتب علي تفاوت الرتب في الشرف. ((شف)): لعل الخيرية والأرفعية في الذكر؛ لأجل أن سائر العبادات من إنفاق الذهب، والفضة، ومن ملاقاة العدو، والمقاتلة معهم إنما هي وسائل ووسائط يتقرب العباد بها إلي الله، والذكر إنما هو المقصود الأسني، والمطلوب الأعلي، وناهيك عن فضيلة الذكر قوله تعالي: ((فاذكروني أذكركم))، وقوله: ((أنا جليس من ذكرني، وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) - الحديث. أقول: ولا ارتياب أن أفضل الذكر قول لا إله إلا الله، وهي الكلمة العليا، وهي القطب الذي يدور عليها رحى الإسلام، وهي القاعدة التي بنى عليها أركان الدين، وهي الشعبة التي هي أعلي شعب الإيمان بل هو الكل، وليس غيره، ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)) أي الوحي مقصور علي استئثار الله تعالي بالوحدإنية؛ لأن المقصود الأعظم من الوحي هو التوحيد، وسائر التكاليف متفرع عليه، ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)) ولأمر ما تجد العارفين وأرباب القلوب يستأثرونها علي سائر الأذكار؛ لما رأوا فيها خواص ليس الطريق إلي معرفتها إلا الوجدان والذوق، رزقنا الله وإياكم. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((طوبى)) قال الشارحون: لما كان السؤال عما هو غيب لا يعلمه إلا الله تعالي عدل عن الجواب إلي كلام مبتدأ يشعر بأمارات تدل علي المسئول عنه، وهو طول العمر مع حسن العمل، فإنه يدل علي سعادة الدارين والفوز بالحسنين.

الأعمال أفضل؟ قال: ((أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)). رواه أحمد، والترمذي. [2270] 2271 - وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)). رواه الترمذي. [2271] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقول: ((طوبى)) كلمة إنشاء؛ لأنها دعاء معناها أصاب خيرا من طال عمره، وحسن عمله، وكان من الظاهر أن يجاب عنه بقوله: ((من طال)) فالجواب من الأسلوب الحكيم، أي غير خاف أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله؛ بل الذي يهمك أن تدعو له فتصيب من بركته. وإنما كان خير الناس من طال عمره، وحسن عمله؛ لأن مثل الإنسان في الدار الدنيا مع عمله الصالح، كمثل تاجر سافر من مقره إلي فرضة* ليتجر فيها ويربح، فيرجع إلي وطنه سالما غانما، فيصيب خيرا، فرأس مال الإنسان عمره، ونقده أنفاسه ومزاولة جوارحه، وربحه الأعمال الصالحة، فكلما زاد رأس المال زاد الربح، ومقره ومستقره الدار الآخرة، فمتى استقر فيها وجد ثواب ما ربح موفي، {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلإنية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} ومن لم ينتبه لذلك، وأضاع رأس ماله فلم يوفق للعمل، {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}. قوله: ((ولسانك رطب)) رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، كما أن يبسه عبارة عن ضده، ثم أن جريان اللسان حينئذ عبارة عن مداومته الذكر قبل ذلك، فكأنه قيل: وخير الأعمال مداومة الذكر، فهو من أسلوب قوله تعالي: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إذا مررتم برياض الجنة)) هذا الحديث مطلق من وجهين: أن تلك الحلق في أي مكان هي؟ وأن ذلك الذكر ما هو؟ فيحمل علي المقيد في باب المساجد، أن المكان هو المسجد وأن الذكر هو قوله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد مر تحقيقه هناك.

2272 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة)). رواه أبو داود. [2272] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حلق الذكر)) ((نه)): الحلق- بكسر الحاء وفتح اللام- هي جمع حلقة مثل قصعة وقصع، وهي جماعة من الناس يستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق- بفتح الحاء- علي غير قياس. وحكي ابن عمرو أن الواحد حلقة- بالتحريك- والجمع حلق بالفتح. ((مح)): أعلم أنه كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله، وقد تظاهرت الأدلة علي ذلك. والذكر قد يكون بالقلب، وقد يكون باللسان، والأفضل منهما ما كان بالقلب واللسان جميعا، فإن اقتصر علي أحدهما فالقلب أفضل. وينبغي أن لا يترك الذكر باللسان مع القلب بالإخلاص خوفا من أن يظن به الرياء، وقد نقل عن التفضيل رحمه الله: ترك العمل لأجل الناس رياء، وقال: لو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتزاز عن طريق ظنونهم الباطلة، لانسد عليه أكثر أبواب الخير، [وضيع] علي نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين، وليس هذا من وظيفة العارفين. وأن يكون علي أكمل الصفات بأن يكون جاسًا مستقبل القبلة، متخشعًا مع سكينة ووقار، مطرقًا رأسه، وأن يكون الموضع خاليًا نظيفًا، فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور. وينبغي أن يدوم علي الذكر إلا زمان قضاء الحاجة، والجماع، وسماع الخطبة في الجمعة وغيرها، وفي القيام للصلاة، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق، ولا في الحمام. وينبغي له أن يحضر قلبه؛ لأنه هو المقصود في الذكر فيتحرى في تحصيله، ويتدبر ما يذكره. والمذهب الصحيح أن أولي الأذكار قول: لا إله إلا الله، وأقوال السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة. وإذا اعترضت للذكر أحوال يستحب له قطع الذكر، ثم الإعادة بعد زوالها، منها رد تسليم الداخل عليه، وتشميت العاطس، وجواب المؤذن في الأذان والإقامة، ورفع المنكر والإرشاد إلي المعروف عند رؤيتهما، وإجابة المسترشد، وما أشبه ذلك كله في الأذكار. الحديث الرابع إلي السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كانت عليه من الله ترة)) ((تو)): قيل: أي حسرة، والموتر الذي قتل له قتيل، ولم يدرك بدمه. وكذلك وتره حقه، أي نقصه، وكلا الأمرين معقب للحسرة. أقول: قوله: ((من قعد مقعدا)) الحديث ((كانت)) في الموضعين رويت علي التإنيت في أبي داود، وجامع الأصول. وفي الحديثين اللذين يليانه علي

2273 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)). رواه أحمد، وأبو داود. [2273] 2274 - وعنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا علي نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) رواه الترمذي. [2274] 2275 - وعن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل ُّكلام ابن آدم عليه لا ـــــــــــــــــــــــــــــ التذكير فيهما، فعلي رواية التإنيث في ((كانت)) ورفع ((ترة)) ينبغي أن يؤول مرجع الضمير من ((كانت)) مؤنثا، أي القعدة أو الاضطجاعة، فيكون ((ترة)) مبتدأ والجار والمجرور خبره، والجملة خبر كان. وأما علي رواية التذكير ونصب ((ترة)) كما هو في المصابيح فظاهر، والجار والمجرور متعلق بـ ((ترة)) ويؤيد هذه الرواية الأحاديث الآتية بعد. وذكر المكإنين هنا لاستيعاب الأمكنة، كذكر الزمإنين بكرة وعشيا لاستيعاب الأزمنة، يعنى من فتر ساعة من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة كان عليه حسرة وندامة؛ لأنه ضيع رأس ماله، وفوت ربحه، كما مر قبيل هذا، وأية حسرة أعظم من هذا!. قوله: ((إلا قاموا)) استثناء مفرغ التقدير: ما يقومون قياما إلا هذا القيام، وضمن ((قاموا)) معنى التجاوز فعدى بـ ((عن)) والمثل يراد به الكلام الذي يجري بين الناس في المجالس من الأمور الدنيوية والهفوات، والسقطات، فإذا لم تجر باسم الله تعالي يكون كجيفة يعافها الناس. وخص الحمار بالذكر ليشعر ببلادة أهل المجلس، وينصر هذا التأويل حديث أبي هريرة ((من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه)). وقوله ((وإن شاء عذبهم)) من باب التشديد، والتغليظ، ويحتمل أن يصدر من أهل المجلس ما يوجب العقوبة من حصائد ألسنتهم، والصلوات علي الرسول في هذا الحديث تلميح إلي معنى قوله تعالي: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}. الحديث السابع عن أم حبيبة: قوله: ((عليه لا له)) ((مظ)): قد يكون بعض الكلام لا عليه ولا

له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)) رواه الترمذي، وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب. 2276 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)) رواه الترمذي [2267]. 2277 - وعن ثوبان، قال: لما نزلت {والذين يكنزون الذهب والفضة} ـــــــــــــــــــــــــــــ له؛ لأن الكلام إما خير أو شر أو مباح، ففي الخير أجر، وفي الشر إثم، وفي المباح عفو لا إثم فيه ولا أجر، والمراد بذكر الله هنا ما فيه رضي الله من الكلام، كالتلاوة، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح، والتهليل، والدعاء للمؤمنين وما أسبه ذلك. أقول: قوله: ((إلا أمر بمعروف)) استثناء من قوله: ((كل كلام ابن آدم)) فلا يخرج المباح من جملة ما عليه، وأقله أن يحاسب عليه، قال تعالي: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) ويورث قساوة القلب، كما يشير إليه الحديث الآتي، وقوله الشارح: ((وفي المباح عفو)) دليل علي أنه مما عليه؛ لأن العفو يقتضي الجرمية، يعفي عنها تفضلا والحاصل: أن قوله: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له)) دل علي أن جميع ما ينطق به الإنسان مضرة عليه، ولذلك ورد ((من صمت نجا)) ثم خص هذا العام مرة بما لابد منه للإنسان من الأمور الدينية، كذكر الله وما والاه، وأخرى بالأمور الدنيوية، [وما نظام] أمر المكلف عليه من المباحات، تفضلا من الله تعالي وعفوا منه. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قسوة للقلب)) أي سبب لقسوة القلب، ((مظ)) وهي عبارة عن دعم قبول ذكر الله، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من الخصال الحميدة، وعدم هذه الخلال يبعد الناس عن الله تعالي ولابد في الكلام من التقدير بأن يقال: إن أبعد القلوب من الله القلب القاسي، أو إن أبعد الناس من الله القلب القاسي. أقول: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص؛ لأنه به كما قيل: المرء بأصغريه، أي بقلبه ولسانه أو يقدر: ذو القلب، فلا يحتاج إذن إلي حذف الموصول مع بعض الصلة. الحديث التاسع عن ثوبان: قوله: ((لو علمنا أي المال خير فنتخذه)) ((لو)) للتمني، ولذلك نصب ((فنتخذه)) و ((أي)) رفع بالابتداء، والخبر ((خير))، والجملة سادة مسد المفعولين لـ ((علمنا))

كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: نزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال ((أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه علي إيمانه)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. الفصل الثالث 2278 - عن أبي سعيد، قال: خرج معاوية علي حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلي اله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علي حلقة من أصحابه، فقال: ((ما أجلسكم ها هنا؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده علي ما هدانا ـــــــــــــــــــــــــــــ تعليقًا، والضمير في ((أفضله)) راجع إلي ((المال)) علي تأويل النفع، أي لو علمنا أفضل الأشياء نفعا فنقتنيه، ولهذا السر استثنى الله تعالي)) من أتى الله بقلب سليم)) من قوله: ((مال ولا بنون)) والقلب إذا سلم من آفاته شكر الله تعالي، فسرى ذلك إلي لسانه، فحمد الله وأثنى عليه، ولا يحصل ذلك إلا بفراغ القلب ومعاونة رفيق يعينه في طاعة الله تعالي. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((الله ما أجلسكم؟)) هو بالنصب، أي أتقسمون بالله، فحذف الجار وأوصل الفعل، ثم حذف الفعل، وقولهم: ((آلله ما أجلسنا غيره)) تقديره: إي أو نعم نقسم بالله ما أجلسنا غيره، فوضع الهمزة موضعها مشاكلة وتقريرا لذلك. وقوله: ((وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) إلي آخره متصل بقوله: ((إني لم أستحلفكم)) اتصال الاستدراك بالمستدرك يدل عليه قوله: ((ولكنه أتإني)) وقوله: ((وما كان أحد بمنزلتي)) إلي آخره اعتراض وقع تأكيدا بين الاستدراك والمستدرك، وآذن به أنه لم ينسه. فإن قلت: ما معنى الاستدراك، وانه لم يستحلفه تهمة، وإنما استحلفه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام؟ قلت: الجملة القسمية إنما وضعت لدفع التهمة، ورفع الإنكار البليغ، فأوجب أن تضمن التأكيد البليغ. وربما تستعمل فيما لا يكون فيه تهمة ولا إنكار، بل يجاء بها لمجرد التأكيد تقريرا له في النفوس وتثبيتا لها، كما تقول لمن بعثته إلي مهم وقد جاءك: والله لقد جئتني، أي نعم ما فعلت، تحسينا له علي

للإسلام، ومن به علينا. قال: ((الله ما أجلسكم إلا ذلك؟)) قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتإني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) رواه مسلم. 2279 - وعن عبد الله بن بسر: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيءٍ أتشبث به. قال: ((لا يزالُ لسانكَ رطبًا من ذكر الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريب. 2280 - وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ: أيُّ العباد أفضلُ وأرفع درجة عن الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). قيل: يا رسول الله! ومن الغازي في سبيل الله؟ ((قال: ((لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا، فإن الذاكر لله أفضل منه درجة)) رواه أحمد، الترمذي. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعله، وعلي هذا جل أقسام الله تعالي: وأكثر أقسام الرسول صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، وهو من هذا القبيل. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((إن شرائع الإسلام)) ((نه)): الشريعة مورد الإبل علي الماء الجاري، وفي الشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، أي سنه لهم، وافترضه عليهم، والتنكير في بـ ((شيء)) للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم، كقوله تعالي: {ورضوان من الله أكبر} معناه أخبرني بعمل يسير مستجلب لثواب كثير، فألازم عليه، وأعتصم به، ولم يرد بقوله: ((كثرت علي)) أنه يترك ذلك رأسا، ويشتغل بغيره فحسب، وإنما أراد أنه بعد أداء ما افترض عليه يتشبث بما يستغنى به عن سائر ما لم يفترض عليه. وعدى ((كثرت)) بـ ((علي)) تضمينا لمعنى غلبتها إياه وعجزه عنها. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((ومن الغازي)) فيه معنى التعجب، وهو عطف علي مقدر لأن تقدير السؤال: أي العباد أفضل من غيره؟، وتقرير الجواب الذاكرون الله أفضل من غيرهم، ((ومن الغازي)) عطف علي هذا. وقوله: ((في الكفار)) من باب قوله: يجرح في عراقيبها نصلي، حيث جعل المفعول به مفعولا فيه مبالغة أي يوجد فيهم الضرب، ويجعلهم مكانا للضرب بالسيف. قوله: ((فإن الذاكر لله أفضل)) تكرير للتأكيد والتقرير. وقوله: ((درجة)) يحتمل الوحدة والنوع، أي درجة عظيمة.

2281 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم علي قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)) رواه البخاري تعليقًا. 2282 - وعن مالك، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: ((ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين، وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس)) [2282]. 2283 - وفي رواية: ((مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي، وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم)). والفصيح: بنو آدم، والأعجم: البهائم. رواه رزين. 2284 - وعن معاذ بن جبلٍ، قال: ما عملَ العبدُ عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر اللهِ. رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جاثم)) ((نه)) أصل الجثوم في الطير، والأرانب وما أشبههما مما يجثم بالأرض، أي يلزمها ويلتصق بها، وهو بمنزلة البروك للإبل. ((فا)) ((خنس)) انقبض وتأخر، هو من قوله تعالي: ((ومن شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس)) ومعنى التعليق قد سبق. الحديث الخامس عن مالك: قوله: ((ذاكر الله في الغافلين)) من باب الترديد. كرر ليناط به كل مرة ما لم ينط به أولا. قوله: ((كالمقاتل خلف الفارين)) شبه الذاكر الذي يذكر الله بين جماعة لم يذكروا، بالمجاهد الذي يقاتل الكفار بعد فرار أصحابه منهم، فالذاكر قاهر لجند الشيطان وهازم له، والغافل مقهور ومنهزم منه. ثم شبهه ثإنيا بالغصن الأخضر الذي يعد للإثمار، والغافل باليابس الذي تهيأ للإحراق. ثم شبهه ثالثا بالمصباح في مجرد كونه مضيئا في نفسه والغافل في مجرد الظلمة، كما في قول الشاعر: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع شبه النجوم بالسنن في مجرد الإشراق، والبدع بالليل في مجرد الظلمة.

2285 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ تعالي يقولُ: أنا معَ عبْدي إذا ذكرني، وتحركتْ بي شفتاهُ)) رواه البخاريُّ [2285]. 2286 - وعن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يقولُ: ((لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله)). قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)) رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا مع عبدي)) قيل: أي بالرحمة، والإعانة، والتوفيق. أقول: معنى المعية كناية عن القربة، والشرف، لما ورد ((أنا جليس من ذكرني)) كما يقال: فلان جليس السلطان، أي مقرب مشرف عنده والحديث أبلغ حيث لم يقل هو جليسي. وقوله: ((وتحركت بي)) أي بذكري، فيه من المبالغة ما ليس في قوله: إذا ذكرني باللسان, هذا إذا كان الواو للحال، وأما إذا كان للعطف فيحتمل الجمع بين الذكر باللسان وبالقلب، وهذا الثاني أولي؛ لأن المؤثر النافع هو الذكر باللسان مع حضور القلب، وأما الذكر باللسان والقلب لاه، فهو قليل الجدوى. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لكل شيء صقالة)) ((كل شيء)) عام خص بقينه العقل، أي لكل شيء مما يصدأ حقيقة ومجازا، فإن صداء القلوب الرين في قوله تعالي: ((كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون)) بمتابعة الهوى، المعني بها في قوله تعالي: ((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)) فكلمة ((لا إله)) يخليها و ((إلا الله يحليها، وباقي الحديث مضى شرحه في الفصل الثاني في حديث أبي الدرداء.

(2) كتاب أسماء الله تعالي

(2) كتاب أسماء الله تعالي الفصل الأول 2287 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالي تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة)). وفي رواية: ((وهو وتر يحب الوتر)). متفق عليه. الفصل الثاني 2288 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب أسماء الله تعالي [((غب))]: أسماء الله مائح أن يطلق عليه سبحأنه وتعالي بالنظر إلي ذاته، أو باعتبار صفة من صفاته السلبية، كالقدوس والأول، أو الحقيقة به كالعليم والقادر، أو الإضافية كالحميد واملك، أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق والرازق. وقالت المعتزلة: الاسم هو التسمية دون المسمى. قال الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله: الاسم هو اللفظ الدال علي المعنى بالوضع لغة، والمسمى هو المعنى الموضوع له الاسم والتسمية هو اللفظ الدال علي المسمى والاسم هو المعنى الموضوع له الاسم والتسمية وضع اللفظ له أو إطلاقه عليه. وقال مشايخنا رحمهم الله: التسمية هو اللفظ الدال علي المسمى، والاسم نهو المعن المسمى به، كمان الوصف هو لفظ الواصف، والصفة دلولة، وهو المعنى القائم بالموصوف. وقد يطلق ويراد به اللفظ كمتطلق الصفة ويراد به الوصف إطلاق الاسم المدلول علي الدال وعليه اصطلحت النحاة. ((غب)): الرق بين الاسم والمسمى إنما يظهر من قولك: رأيت زيدًا، فإن المراد بالاسم المسمى؛ لأن المرئي ليس زاجا وياء ودالا، وإذالة: سميته زيدًا، فالمراد غير المسمى؛ لأن معناه سميته بما يتركب من هذه الحروف. وقولك: زيد حسن لفظ مشترك إن يعن به هذا اللفظ حسن، وإن يعن به المسمى حسن. وما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال نار: احترق فمه، فهو بعيد؛ لأن العاقل لايقول: إن الذي هو زاي وياء ودال هو الشيخ. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) سيرد الكلام فيها مشبعا بعد في الفصل الثاني.

تعالي تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة، هو الذي لا إله إلا هو، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا)) رواه الشيخ محيى الدين النوأوي عن الإمام أبي القاسم القشيري. في الحديث دليل علي أن الاسم هو المسمى، إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره. لخص هذ المعنى القاضي، وأجاب عنه حيث قال: فإن قيل: إذا كان الاسم عين المسمى لزم من قوله ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) الحكم بتعدد الإله؛ فالجواب من وجهين: الأول أن المراد من الاسم هاهنا اللفظ، ولا خلاف ورود الاسم بهذا المعنى، إنما النزاع في أنه هل يطلق ويراد به المسمى عينه، ولا يلزم تعدد الأسماء تعدد المسمى. والثاني: أن كل واحد من الألفاظ المطلقة علي الله سبحأنه يدل علي ذاعت باعتبار صفة حقيقية، أو غير حقيقية، وذلك يستدعى التعدد في الاعتبارات والصفات دون الذات، ولا استحالة في ذلك. ((خط)): فيه دليل علي أن أشهر أسماء الله تعالي ((الله)) لإضافة هذه الأسماء إليه، وقد روي ((إن الله هو اسمه الأعظم)) وقال الملكي النحوي: ولكون ((الله)) اسم علم وليس بصفة، قيل في كل اسم من اسمائه تعالي سواه: اسم من أسماء الله تعالي، وهو من قول الطبري هللي ما رواه الشيخ محيى الديالي الله ينسب كل اسم له. ويقال: الكريم من أسماء الله، ولا يقال من أسماء الكريم ((الله)). وجاء في الروايات الصحاح ((مائة إلا واحدة)) أنت واحدة ذهابا إلي معنى التسمية، أو الصفة، أو الكلمة. فإن قلت: ما فائدة هذا التأكيد؟ قلت: ما ذكره الشيخ التوربشتي: إن معرفة أسماء الله تعالي وصفاته توقيفية، تعلم من طريق الوحي والسنة، ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما نهتدى إليه بمبلغ علمنا، ومنتهي عقولنا، وقد نعنا عن إطلاق مالم يرد به التوقيف من ذلك وإن جوزه العقل وحكم به القياس، كان الخطب في ذلك غير هي، والمخطئ فيه غير معذور، والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضي، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعًا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب، وهفوة القلم بسبعة وتسعين أو سبعة وسبعين أو تسعة وسبعين، فبنشأ الاختلاف في المسموع من المسطور، فأكده به حسم المادة الخلاف وإرشادًا إلي الاحتياط في هذا الباب. وقال محيي السنة في معالم التنزيل: الإلحاد في أسمائه تسميته بما لا ينطق به كتاب ولا سنة. وقال أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج: أسماء الله تؤخذ توقيفًا، ويراعي فيها الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد في هذه الأصول زج إطلاقه في [وصف] تعالي، ومالم يرد فيها لا يجوز إطلاقه في وصفه تعالي وإن صح معناه. قال الراغب: ذهبت المعتزلة

ـــــــــــــــــــــــــــــ إلي أنه يصح أن يطلق علي الله عز وجل كل اسم يصح مع تهافيه، والأفهام الصحيحة البشرية لها سعة ومجال في اختيار الصفات. وقال: وما ذهب إليه أهل الحديث هو الصحيح. ولو ترك الانسان وعقله لما جسر أن يطلق عليه غاية هذه الأسماء التي ورد الشرع بها، إذا كان أكثرها تعارفنا يقتضى أعراضًا، إما كمية نحو العظيم والكبير، وإما كيفية نحو الحي والقادر، أو زمانا نحو القديم والباقي، أو مكانًا نحو العلي والمتعالي، أو انفعالا نحو الرحيم والودود، وهذه معان له تصح عليه سبحأنه علي حسب ما هو متعارف بيننا، وإن كان لها معان معقولة عند أهل الحقائق، من أجلها صح إطلاقها عليه عز وجل. وقال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يدعوه بمال يصف به نفسه، فيقول: ((يا رحيم)) لا ((يا رفيق))، ويقول ((يا قوي))، لا ((يا جليد)). وقال الإمام فخرالدين الرازي: قال أصحابنا: ليس كل مائح معناه جاز إطلاقه عليه سبحأنه وتعالي؛ فأنه الخاق للأشياء كلها، ولا يجوز أن يقال: ((يا خالق الذئب، والقردة))، وورد ((وعلم آدم الأسماء كلها))، ((وعلمك مالم تكن تعلم)) ((وعلمناه من لدنك علما)) ولا يجوز ((يا معلم))، ولا يجوز عندي ((يا محب)) وقد ورد ((يحبهم ويحبونه)). فإن قلت: ما ورد في شرح السنة عن أبي أمية قال: أنه رأي الذي بظهر رسول الله صلة الله عليه وسلم، فقال دعني أعالجه، فإني طبيب، فقال: ((أنت رفيق والله الطبيب))، هل هو إذن منه صلى الله عليه وسلم في تسمية الله بـ ((الطبيب))؟ قلت: لا، لوقوعه مقابلا لقوله: ((فإني طبيب)) مشاكلة وطباقًا للجواب علي السؤال لقوله تعالي: ((تعلم ما في نفسى ولا أعلم ما في نفسك)) قوله: ((من أحصاها)) فيه وجوه: أحدها ((مح)): معنى ((أحصاها)) حفظها، هكذا فسره البخاري والأكثرون. ويؤيده أنه ورد في رواية في الصحيح ((من حفظها دخل الجنة)). أقول: أراد بالحفظ القراءة بظهر القلب، فيكون كناية؛ لأن الحفظ يستلزم التكرار، فالمراد بإحصاء تكرار مجموعها. وثإنيها: أن يكون بمعنى الضي، والتفقد، والرعاية، فيرجع إلي معنى ما ذكره الشارحون: من أتى عليه حصرًا وتعدادًا وعلمًا وإيمانًا، فدعا الله بها استحق بذلك دخول الجنة، وذكر الجزاء بلفظ الماضى تحقيقًا. وثالثها: أن يكون بمعنى الإطاقة، أي أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها، وذلك بأن يعتبر معإنيها فيطالب نفسه بما تتضمنه من صفات الربوبية وأحكام العبودية، فيتخلق بها. ورابعها: أن تكون بمعنى العلم، أي عقلها وأحاط بمعإنيها، ويكون من قولهم: فلان ذو حصاة، أي ذو عقل ولب. وخامسها: أن يكون مستعارًا للعلم من الإحصاء الذي هو عد الشيء؛ لكونه موجبًا للعلم به. وأقول: لما أكد الأعداد دفعًا للتجوز واحتمال الزيادة والنقصان، وقد أرشد الله تعالي بقوله:

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)) إلي عظم الخطب في الإحصاء، بأن لا يتجأوز المسموع والأعداد المذكورة، وأن لا يلحد منها إلي الباطل، بل يستقيم فيها، ويعمل بمقتضاها. وقد علم من قوله: ((استقيموا ولن تحصوا)) أن الاستقامة أمر شاق. فقوله: ((أحصى)) كلمة جامعة لا تحصى فائدتها، ضرب لمعنى التجنب عن الزيادة والنقصان في عدد مثل تلك الأسماء مثل، وهو أن الطبيب الحاذق إذا وصف لداء مخصوص معجونا مركبا من أدوية معدودة بأوزان معينة، فإذا تصرف فيها بالزيادة والنقصان في العدد والوزن علي ما وصفه، لم يفد فائدة ما إذا لم يتصرف فيها. وهكذا قيل: إذا وصى الوالد ولده بأنى خبأت لك كنزا، ومن موضع كذا إليه كذا خطوات، فإن تعدى خطوة جأوز عنه، وإن نقص خطوة لم يصل إليه؛ لأن لمراتب الأعداد خواص في الشرع علي سبيل التعبد، كأعداد الركعات، ونصب الزكاة، ومقادير الحدود والكفارات، لا يعقل معناها وإن كانت لا تخلو عن حكمة بالغة، وجاء أيضا في رواية الصحاح. ((الوتر)) ((تو)): الوتر الفرد، الله سبحأنه هو الفرد الوتر؛ لأنه واحد لا شريك له، بل هو الوتر من حيث ماله الوحدة من كل وجه. وقوله: ((يحب الوتر)) أي يثيب علي العمل الذي أتى به وترا، ويقبله من عامله؛ لما فيه من التنبيه علي معإني الفردإنية قلبا، ولسانا، وإيمانا، وإخلاصا، ثم أنه أدعى إلي معإني التوحيد. قوله: ((هو الله الذي)) ((هو)) مبتدأ ((الله)) خبره ((الذي لا إله إلا هو)) صفته، و ((الرحمن)) إلي آخره خبر بعد خبر، والجملة مستأنفة، إما بيان لكمية تلك الأعداد أنها ما هي في قوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) وذكر الضمير نظرا إلي الخبر، وإما بيان لكيفية الإحصاء في قوله: ((من أحصاها دخل الجنة)) دالة كيف تحصى، فالضمير راجع إلي المسمى الدال عليه قوله ((الله)). كأنه لما قيل: ((ولله الأسماء الحسنى)) سئل وما تلك الأسماء؟ فأجيب: هو ((الله))، أو لما قيل: ((من أحصاها دخل الجنة)) كيف أحصيها؟ فأجيب: قل ((هو الله))، فعلي هذا الضمير ضمير الشأن، و ((الله)) مبتدأ وقوله: ((الذي لا إله إلا هو)) خبره، والموصول مع الصلة صفة ((الله)). فإن قلت: الإحصاء يقتضى أن يلقيها أغفالا من سمية الإعراب، فيقول: الله، الرحمن، الرحيم، موقوفة كما يلقى علي الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبأنها فيقول: دار، غلام، جارية، ولو أعربت ركبت شططا. قلت: إنما عدل عن التعداد تفخيما لشأنها، وإدخالا للروعة في قلب السامع، فيحصل منه.

ـــــــــــــــــــــــــــــ التعداد ضمنًا، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صف لنا ربك الذي تدعونا إليه)) فنزلت ((قل هو الله أحد)) يعنى الذي سألتموني وصفه، هو الله. قال الشيخ أبو القاسم القشيري في التحبير في شرح أسماء الله الحسنى: هو للإشارة، وهو للإشارة، وهو عند هذه الطائفة إخبار عن نهاية التحقيق، فإذا قلت: ((هو)) لا يسبق إلي قلوبهم غير الحق فيكتفون عن كل بيان يتلوه لا ستهلكهم في حقائق القرب، واستيلاء ذكر الحق علي أسراهم، وانمحاقيهم عن شواهدهم، فضلا عن إحساسهم ممن سواه. أقول: فيكون ((هو)) إذن بمنزلة اسم الإشارة في قول الشاعر: كأنه في الجلد ... توليع ... البهق كأنه قيل: ما ذلك المسمى، وما تلك الأسماء؟ قيل: ذلك المسمى هو الذي له هذه الأسماء المعدودة، فكان هذا الوجه أولي الوجوه علي التقديرين: المراد بقوله: ((الله)) المسمى لا الاسم. فإن قلت: قد سبق أن ((الله)) اسم علم، والبواقى صفات، فكيف سميت بالاسم، وجعلت أخبارا لا صفات؟ قلت: لقوله تعالي: ((ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها))، لأنه إذا دعى بها قيل: ياالله يا رحمن، يا رحيم، فالرحمن صفة أقيمت مقام ذات له الرحمة، فلا يكون حينئذ صفة كما يقال: شجاع باسل، فيصفه بالبسالة علي تأويل ذات له الشجاعة، وهو باسل. ((الله)) ((قض)): قيل: أصله ((لاها)) بالسريإنية، فعرب. وقيل: عربي وضع لذاته سبحأنه كالعلم له؛ لأنه يوصف ولا يوصف به؛ ولأنه لابد من اسم يجرى عليه صفاته، وليصلح له غيره، فتعين أن يكون هو اسمه، ولأنه لو كان وصفًا لم يكن قولنا: ((لا إله إلا الله)) توحيدًا، كمثل لا إله إلا الرحيم، فأنه لا يمنع لشركة. والحق أنه وصف في أصله؛ لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غير حقيقي معقول للبشر، فلا يمكنه وضع الفظ له، ولا الإشارة إليه بإطلاق اللفظ عليه. أقول: وفيه نظر؛ لأن الواضع إن كان الله تعالي فظاهر، وإن كان غيره فيكفي في الوضع تعقله بوجه ما. ثم قال: لكنه لما غلب بحيث لا يستعمل في غيرهن وصار كالعلم أجرى مجراه في إجراء الأوصاف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، ومعناه المستحق للعبادة، وأصله أله إلاهة وألوهة بمعنى عبادة وعبودة، أومن إذا تحير، لأن العقول تتحير في معرفته. واعلم ان إحصاء العوام له: إجراؤه علي اللسان، والذكر به علي الخشية والتعظيم: وإحصاء الخواص أن يتأملوا معناه، ويعلموا أن هذا الاسم لا يستحق ولا يستأهل لأن يطلق إلا علي من كان موجودًا، فائض الجود، جامعا لصفات الإلهية، منعوت الربوبية. وإحصاء الأخص

ـــــــــــــــــــــــــــــ له أن يستغرق له قلبه باللهن فلا يلتفت إلي أحد سواه، ولا يرجو ولا يخاف فيما يأتى ويذر إلا إياه؛ لأنه هو الحق الثابت، وما عداه باطل، قال تعالي: ((كل شيء هالك إلأوجهه)). وقال إياه؛ لأنه هو الحق الثابت، ماقال أحد ((الله)) سوى الله، فإن من قال قاله بحظ، وأنى تدرك الحقائق بالحظوظ! قال الشيخ أبو القاسم: قال بعضهم: كل اسم من أسمائه يصلح للتخلق به إلا هذ الاسم، فأنه للتعلق دون التخلق. وقال فياسم المؤمن: اعلم أن الموافقة في الأسماء لا تقتضى المشابهة في الذوات، فيصبح أن يكون الحق سبحانه وتعالي مؤمنًا، والعبد مؤمنًا، ولا يقتضي مشابهة العبد الرب، ألا ترى أن الكلاميين يشتركان في الاسم، ولا يتشبهان. وقال أبو حامد رحمه الله: إن هذا الاسم أعظم الاسماء؛ لأنه دال علي الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء، وسائر الأسماء لا تدل أحادها إلا علي آحاد الصفت من علم، أو قدرة، أو غيرها. قوله: ((الذي لا إله إلا هو)) قال الشيخ أبو القاسم: هذا القول وان كان المراد ابتداؤه النفي، فالمراد به غاية الاثبات، ونهاية التحقيق، فإن قول القائل: لا أخ لي سواك، ولا معين لي غيرك، أكد من قولهم: أنت أخي، وانت معين. قالوا في هذه الكلمة: أننها نفي ما يستحيل كوننه، وأثبات ما يستحيل فقده، أي أن كون الشريك له سبحأنه وتعالي محال وتقدير العدم لوجوده مستحيل. قال الشيخ أبو علي الدقاق: إذا قال العبد ((لا إله)) صفا قلبه، وحض سره، فيكون ورود قوله ((إلا الله)) علي القلب منقي، وسر مصفي. أقول: كذا فيئ قوله تعالي: {فلبثت فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} الاستثناء في التأكيد لإثبات المعدود بمنزلة المؤكدات في الشمول، نحو كل وأجمع، وفي خبر ((لا)) في هذه الكلمة مذهبان: حجازي، وتميمي. وقد حققنا القول فيه في شرح التبيان ((قض)): لهذه الكلمة فوائد جمة يقف الحصر دون إحصائها، ولها خمس مراتب: الأولي: أن يتكلم بها المنافق مجردًا عن تصديق قلب، قلت وهي وإن لم تنفعه في الأخرة، لكن لا تدعه محروما من بركتها، من حقن دمه وحرز ماله وأهله. ولعله يحظيه من مال الغنيمة، وربما يفضى به إلي الإخلاص. والثانية: ان ينضم إليها عقد قلب علي سبيل التقليد، وفي صحته خلاف. والثالثة: أن يكون صدورها عن اعتقاد مستفاد من الأمارات، والأكثر علي اعتبارها. والرابعة: أن تكون معربة عن عقد جازم مستفاد من حجج قاطعة، وهي مقبولة بالاتفاق،

الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، ـــــــــــــــــــــــــــــ مخلصة عن العذاب، موصلة إلي الثواب. والخامسة: أن يكون المتكلم بها مكاشفًا بمفهومها، كأنه يعاينه بصيرته، ويشاهده بقلبه، وهذه هي المرتبة العليا، والنهاية القصوى. قال الشيخ أبو القاسم: فالأهل الإشارة: إذا كان مخلصًا في مقالته، كان داخلا في الجنة في حالته، قال تعالي {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قيل: جنة معجلة، وهي حلأوة الطاعات، ولذة المناجاة، والاستئناس بقبول المكاشفات، وجنة مؤجلة، وهي قبول المثوبات، وعلو الدرجات. ((الرحمن الرحيم)) اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة رقة القلب وانعطاف، يقتضى التفضيل والإحسان علي من رق له. وأسماء الله تعالي وصفاته إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات، فرحمة الله علي العباد إما إرادة الإنعام عليهم، ودفع الضرر عنهم، فيكون الاسمان من صفات الذات، أو نفس الإنعام والدفع، فيعودان إلي فات الأفعال. و ((الرحمن)) أبلغ من الرحيم لزيادة بنائه. وحظ العارف منهما: أن يتوجه بكليته إلي جناب قدسه، ويتوكل عليه، ويلتجئ فيما يعن له إليه، ويشغل سره بذكره، والاستمداد به عن غيره، لما فهم منهما أنه المنعم الحقيقي المولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، ويرحم عباد الله؛ فيعأون المظلوم، ويصرف الظالم عن ظلمه بالطريق الأحسن، وينبه الغافل، وينظر إلي العاصي بعين الرحمة دون الإزاء، ويجتهد في إزالة المنكر وإزاحته علي أحسن ماي ستطيعه، ويسعى في سد خلة المحتاجين بقدر وسعة وطاقته. وعن عبد الله بن المبارك: ((الرحمن)) هو الذي إذا سؤل أعطي، و ((الرحيم)) هو الذي إذا لم يسأل غضب. وفي الحديث: ((مالم يسأل الله يغضب عليه)). قال بعض المفسرين: إنما يلي الرحمن ((الله))، لأنه كالعلم إذا كان لا يوصف به غير اله، فكأنه الموصوف، وهو الأقدم، إذ الأصل في نعم الله أن تكون عظيمة، فالبداية بما يدل علي عظمها أولي. وهذا المعنى قريب مما في نعم الله أن تكون عظيمة، فالبداية بما يدل علي عظمها أولي. وهذا المعنى قريب مما في – الكشاف - لما قال: ((الرحمن)) فيتنأول جلائل النعم وعظمائها وأصولها، أردفه ((بالرحيم)) كالتتمة والرديف، ليتنأول ما دق منها ولطف. وأقول: قد تقرر في موضعه أن هذا الأسلوب من باب التتميم، وموقع ((الملك)) في الحديث كموقع ((ملك يوم الدين)) في التنزيل علي سبيل التكميل؛ لأنه تتالي لما ذكر ما دل علي النعم والألطاف، أردفه بما يدل علي الغلبة والقوة، وأنه الملك الحقيقي، وأن لا ملم سواه، إذ القدرة الكاملة ليست إلا له. ثم أنه لما وصفه بما قد يوصف به المخلوق، وكان مظنة للتشبيه، فإرداد أن ينزهه عن ذلك أتبعه بقوله. ((القدوس)) بما قد يوصف به المخلوق، وكان مظنة للتشبيه، فأرد أن ينزهه عن ذلك أتبعه بقوله ((القدوس)) وهلم جرا يتابع سائر الأسماء في التناسب، فليتأمل، والله الموفق.

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الملك)) معناه ذو الملك، وهو إذا كان عبارة عن القدرة علي التصرف، كان من صفات الذات، كالقادر، وإذا كان عبارة عن التصرف في الأشياء بالخلق، والإبداع، والأمانة، والإحياء، كان من أسماء الافعال، كالخالق. وعن بعض المحققين: الملك الحق، هو الغنى مطلقًا في ذاته وفي صفاته عن كل ما سواه، ويحتاج إليه كل ما سواه، إما بواسطة أو بغير واسطة، فهو بتقديره متفرد منفرد وبتدبيره متوحد، ليس لأمره مرد، ولا لحكمه رد. أما العبد محتاج في الوجود إلي الغير، والاحتياج مما ينافي الملك، فلا يمكن أن يكون له ملك مطلق، والملك المطلق مختص عرفًا بمن يسوس ذوى العقول، ويدبر أمورهم، فلذلك يقال له: ملك الناس، ولا يقال ملك الأشياء. وهو أبلغ من المالك باعتبار الزنة في النعوت لأنه فعل في النعوت موضوع للثبات، بخلاف الفاعل، ولذلك أطلق الملك علي الله وحدهن ولم يطلق الملك إلا مضافًا إلي ما يقيد معنى الملك، وباعتبار المعنى؛ لأن كل ملم مالكوا ينعكس. ووظيفة العارف من هذا الاسم: أن يعلم أنه هو المستغنى علي الإطلاق عن كل شيء، وما عداه مفتقر إليه في وجوده وبقائه، مسخر لحكمه أنه هو المستغنى علي الأطلاق عن كل شيءن وما عداه مفتقر إليه في وجوده وبقائه، مسخر لحكمه وقضائه، فيستغنى عن الناس رأسًا، ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه، ويتخلق بالاستغناء علي جنوده ورعاياه، من القوى والجوارح، واستعمالها فيما فيه خير الدارين، وصلاح المنزلين. فعلي هذا قال الشيخ أبو القاسم: ((الملك)) عند أهل التحقيق هو القدرة علي الإبداع والإنشاء، فعلي هذا فلا مالك علي الحقيقة إلا الله، والعبد إذا وصف بالملك، فلفظ الملك في حقه مجاز، وإن كان أحكام الملك في مسائل الشرع في حقه حقيقة؛ فإن لفظ الاستنجاء في الاستطابة توسع فيه ثم لا تمنع أن يكون أحكام الاستنجاء في الشريعة علي الحقيقة. قيل: ((الملك)) عبارة عن جواز التصرف في الأعيان إن لم يكن مانعًا، هذا في حق الخلق متفأوت، ولكن بالنسبة إلي الحق واحد؛ لأن القدرة الحقيقية بالتصرف في الأعيان بالإيجاد عن العدم، وبالإعدام بالنسبة إلي الحق واحد؛ لأن القدرة الحقيقة بالتصرف في الأعيان بالإيجاد عن العد، وبالإعدام عن الوجود بلا مانع لله تعالي وحده، قال تعالي: {لله ملك السموات والأرض} وقال: {وإن لنا للآخرة والأولي} ذكر ((لام)) التمليك، وقدم الجار والمجرور فنفي الملك في الدارين إلا له. وقال تعالي: ((مالك الملك)) فالملك مملوك المالك، فإذن لا ملك ولا مالك إلا هو، فكل ملم في الدنيا ملكه عارية من الله تعالي وكل مستعار مردود، وإليه الإشارة بقوله في المحشر: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار}، ومن ثم سمى نفسه {ملك يوم الدين}؛ لأن العارية من الملك والمالك عادت إلي مالكها وعيرها، ولما كان ملم الملوك في الحقيقة هو الله تعالي وحده، كان أبغض التسمية وأقبحها عنده أن يسمى الرجل نفسه ملك الأملاك.

ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: إذا تحقق العبد أن الملك لله، وتنكب عن وصف الدعوى، وتبرأ من الحول والقوى، سلم الأمر لمالكه، فلا يقول: لي. ولهذا قال بعض المشايخ: التوحيد إسقاط إيلات يريد الإضافة إلي النفس. وقيل لبعضهم: ألك رب؟ فقال: أنا عبد، وليس لي نملة، فمن أنا حتى أقول: لي! وإذا ثبت أنه مالك علي الإطلاق، يملك من عباده من سبقت له عنايته، وحقت له في عموم الأحوال رعاية، فيملكه هواه، ويعتقه عن أسر نفسه ومناه، ويحرره عن رق البشرية، ويخلصه عن رعونة الإنسإنية. وفي معناه قيل: من ملك نفسه فهو حر، والعبد من يملكه هواه. وحكى أن بعض الأمراء قال لبعض الصالحين: سلنى حاجتك: قال أو لي تقول، ولي عبدان سيداك! قال: ومن هما؟ قال: الشهوة والغضب، غلبتها وغلبك، وملكتهما ومكاك. وإذا ثبت أن لا ملك ولا مالك إلا هو، فلا يعتمد إلا عليه، وليثق إلا به، وأن يكون بما في حكم الله تعالي أوثق منه بما في يده، ولا يهتم ولا يحزن علي المفقود، ولا يفرح بالموجود. حكى الشقيق البلخي: أنه قال: كان ابتداء توبت أنى رأيت غلاما في سنة قحط، يمر في زهو، والناس يعلوهم الكآبة من مقاساة الجدوبة، فقلت ما هذا المرح؟ اما ترى ما فيه الناس من المحن؟ فانتهيت وتبت الحزن، ولسيدي قرية مملوكة يدخل منها ما أحتاج إليه، فقلت في نفسى: إن كان العبد المخلوق، لا يستوحش من السنة والقحط؛ لا أن لسيده قرية مملوكة، فكيف يصح لي أن أستوحش، وسيدى مالك الملوك؟ فانتهيت وتبت. ((القدوس)) فعول من القدس، وهو الطهارة والنزاهة، ومعناه المنزه عن سمات النقص، وموجبات الحدوث، المبرأ عما يدركه حس، أو يتصوره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يحيط به عقل، وهو من أسماء التنزيه. وحظ العارف منه: أن يتحقق أنه لا يحق الوصول إلا بد العروج من عالم الشهادة إلي عالم الغيب، وتنزيه السر عن المتخيلات والمحسوسات، والتطواف حول العلوم الإلهية، والأمور الأزلية المتعالية عن تعليقات الحس والخيال، وتطهير القصد عن أن يحوم حول الحظوظ الحيوإنية، واللذائذ الجسمإنية، فيقبل بكليته علي الله تعالي شوقًا إلي لقائه مقصور الهم علي معارفه ومطالعة جماله، حتى يصل إلي جناب العز، وينزل بحبوحة القدس. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف أنه القدوس، تسمو همته إلي أن يطهره الحق من عيوبه وآفاته، ويقدسه عن دنس آثامه في جميع حالاته، فيحتال في تصفية وقته عن الكدورات، ويرجع إلي الله تعالي بحسن استعانته في جميع أوقاته، فإن من طهر الله قلبه سبحأنه وتعالي لسأنه عن الغيبة، طهر الله قلبه عن العيبة، ومن طهر الله قلبه عن العيبة طهر الله طرفه عن نظر الريبة، ومن طهر الله طرفه عن نظر الريبة، طهر الله سره عن الجبة من القربة القريبة. حكى

ـــــــــــــــــــــــــــــ عن إبراهيم بن أدهم: أنه مر بسكران مطروح علي قارعة الطرق، وقد تقيأ، فنظر إليه وقال: بأي لسان أصابته هذه الآفة، وقد ذكر الله به، وغسل فمه فلما أن أفاق السكران أخبر بما فعله، فخجل، وتاب، وحسنت توبته، فرأي إبراهيم في المنام كأن قائلا يقول له: غسلت لأجلنا فمه غسلنا لأجلك قلبه. ((السلام)) مصدر، نعت به، والمعنى ذو السلامة ممن كل أفة ونقيضه، أي الذي تسلم ذاته عن الحدوث والعيب، وصفاته عن النقص، وأفعاله عن الشر المحض، فإن ما تراه من الشرور فهي مقضية، لا لأنها كذلك، بل لما تتضمن من الخير الغالب الذي يؤدى تركه إلا شر عظيم، فالمقتضى والمفعول بالذات هو الخير، واشر داخل تحت القضاء، وعلي هذا يكون من أسماء التنزيه. والفرق بينه وبين القدوس: أن القدوس يدل علي براءة الشيء من نقص تفتضيه ذاته ويقوم به، فإن القدوس طهارة الشيء في نفسه، ولذلك جاء الفعل منه علي فعل-بالضم- والسلام يدل علي نزاهته عن نقص يعتريه لعروض لآفة، أو صدور فعل، ويقرب منه ما قيل: القدوس فيما لم يزل، والسلام فيما لايزال، وقيل: معناه مالط تسليم العباد من المخأوف والمهالك، فرجع إلي القدرة، فيكون من فات الذات. وقيل ذو السلام علي المؤمنين في الجنان، كما قال تعالي {سلام قولا من رب رحيم} فيكون مرجعه إلي الكلام القديم. ووظيفة العارف: أن يتخلق به حيث يسلم قلبه عن الحقد والحسد، وإرادة الشر، وقصد الخيانة، وجوارحه عن ارتكاب المحظورات، واقتراف الآثام، ويكون سلما لأهل الإسلام ساعيًا في ذب المضار ودفع المعاطب عنهم، ومسلما عن كل من يراه عرفه أو لم يعرفه. وعن بعض الصالحين: السليم من العباد من سلم عن المخالفات سرًا وعلنًا، وبرئ من العيوب ظاهرًا وباطنًا. قال الشيخ أبو القاسم: ومن آداب من تحقق بهذا الاسم أن يعود إلي مولاه بقلب سليم، والقلب السليم هو الخالص من الغل، والحقد، والحسد؛ فلا يضمر للمسلمين إلا كل خير ونصح، فيحسن الظن بكافتهم، ويسئ الظن بنفسهن فإذا رأي من هو أكبر منه سنًا قال: هو خير منى لأنه أكثر منى طاعة، وإذا رأي من هو دونه في السن قال: أنه خير منى؛ لأنه أقل معصية. وقال المشايخ: إذا ظهر لك من أخيك عيب، فاطلب له سبعين بابا من العذر، فإن اتضح لك عذره، وإلا عد علي نفسك باللوم، وقل: بئس الرجل أنت، حيث لم تقبل سبعين عذرًا من أخيك. ((المؤمن)) المؤمن في الأصل الذي يجعل غيره آمنًا، ويقال للمصدق من حيث أنه جعل المصدق آمنًا من التكذيب والمخالفة، وإطلاقه علي الله تعالي باعتبار كل واحد من المعنين صحيح، فأنه تعالي المصدق: بأن صدق رسله بقوله الصدق، فيكون مرجعه إلي الكلام أو

ـــــــــــــــــــــــــــــ بخلق المعجزات، وإظهارها عليهم، فيكون من أسماء الأفعال: وقيل: معناه أنه الذي آمن البرية بخلق أسباب الأمان، وسد أبواب المخأوف، وإفادة آلات يدفع بها المضار، فيكون أيضًا من أسماء الأفعال. وقيل: معناه أنه يؤمن عباده الأبرار يوم العرض من الفزع الأكبر، إما بقول مثل {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}، أو بخلق الأمن والطمإنينة فيهم، فيرجع إلي الكلام، أو الخلق. ووظيفة العارف منه: أن يصدق الحق، ويسعى في تقريره، ويكف نفسه عن الإضرار، والحيف، ويكون بحيث يأمن الناس بوائقه، ويعتضدون به في دفع المخأوف، ورفع المفاسد في أمور الدين والدنيا. قال الشيخ أبو القاسم: إذا كان أحد معانى اسمة أنه يؤمن عباده ويجيرهم، فاعلم: أن إجارته وإيمأنه للعبد علي قسمين: مؤجل، ومعجل، فالمؤجل في القيامة والجنة، قال الله تعالي: {أولئك لهم الأمن}، والمعجل علي أقسام، لكل بحسب ما يليق بوقته، فمنهم من يؤمنه من خواطر الشيطان الذي يقدح في الإيمان بما يظهر في قلوبهم من أوضح البرهان، ويلوح لأسرارهم من لائح البيان، حتى إذا عارضهم نوازع الشكوك، أو ناظرهم من هو في حكم المخالف في العقد، غيروا في وجه شبهتهم، ودمروا بالحجج علي أصحاب البدعة، والناس في أسر التهمة، والكرب، والغمة، وامتداد الظلمة، وهم في برد اليقين، وروح الحق المبين. وفي معناه أنشد: ليلي من وجهك شمس الضحى وإنما الظلمة في الجو والناس في ظلمة من ليلهم ونحن من وجهك في الضو وكان الشيخ أبو علي الدقاق كثيًرا ما ينشد: إن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب وأنشد بعضهم: هي الشمس إلا ان للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب ومنهم من يؤمنه من هواجس النفوس ودواعى الزلات، حتى لا تدعوه نفسه إلي ارتكاب محظور. يحكى عن أبي زيد أنه قال: كنت هممت أن أدعو الله سبحأنه ليكفيني شهوات النفس. قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك، فتركت الدعاء، فمن بركة اتباع هذه السنة، كفانى الله سبحأنه شهوات نفسى حتى لا أميز بين امرأة وجدار. ومنهم من يؤمنه خوف النقر ورعب الضر، حتى يكون فارغ القلب، ساكن السر، يثق بموعود ربه كما يثق أرباب الغفلة بمعلوم النفس، فخوف النقر قرينة الكفر، وحسن الثقة بالرب نتيجة الإيمان. سأل رجل أبا زيد

ـــــــــــــــــــــــــــــ عن سبب معيشته، وكان قد صلي خلفه، فقال اصبر حتى أقضى الصلاة التي صليتها خلفك، حيث شككت في أرزاق المخلوقين. ((المهيمن)) الرقيب المبالغ في المراقبة والحفظ، من قولهم: هيمن الطير إذا نشر جناحه علي فرخة صيانة له، هكذا قاله الخليل، وسيأتى معنى الرقيب. فإن قيل: كيف تجعله مرادفًا للرقيب، والمستفاد من أحد المترادفين عين المستفاد من الآخر، فلا يكون في إحصاء الثانى فائدة؛ لأن فضيلة هذه الأساس لما تحتها من المعانى، فإذا دل عليه بلفظ لم يكن للدلالة عليه بلفظ آخر مزيد فضل؟ قلت: لا أجعله مرادفًا، إذ في ((المهيمن)) من المبالغة باعتبار الاشتقاق والزنة ما ليس في الرقيب، فهما كالغافر والغفور، والرحمن والرحيم. وقيل: معناه الشاهد أي العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة، فيرجع إلي العلم، أو الذي يشهد علي كل نفس بما كسبت، فيرجع إلي القول. وقيل: أصله مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، كما قلبت في ((هرقت، وهرجت، وهياك)) ومعناه الأمين الصادق وعده. وقيل: هو القائم علي خلقه بأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم، فيرجع إلي القدرة. قال الشيخ أبو حامد: ((المهيمن)) اسم لمن استجمع ثلاث صفات: العلم بحال الشىء، والقدرة التامة علي مراعاة مصالحه، والقيام عليها. وهو كالشرح والتفصيل للقول الأول، فإن المراقبة والمبالغة في الحفظ إنما تتم بهذه الثلاث، وإن صح وضعه لهذا كان من الأسماء المركبة من صفات المعنى والفعل. وحظ العارف منه: أن يراقب قلبه، ويقوم أحواله، ويحفظ القوى والجوارح عن الاشتغال بما يشغل قلبه عن جناب القدس، ويحول بينه وبين الحق. قال الشيخ أبو القاسم: من تحقق بهذا الاسم يكون محتشما من رريته، مستحيى من محل اطلاعه، وهذا المعنى يسمى مراقبة في لسان أهل المعاملة. قال أبو محمد الحريرى: من لم يحكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة، لم يصل إلي الكشف والمشاهدة. حكى الشيخ أبو علي: أن وزيرًا بين يدى الأمين نظر إلي بعض غلمأنه بمؤخر عينيه، فلمح الأمير إليه، ففطن الوزير أنه يوهم فيه الريبة، فجعل يرى من نفه الحول كلما يدخل علي الأمير، حتى ظن أنه حدث فيه الحول. وحكي: أن ابراهيم بن أدهم كان يصلي قاعدًا فجلس، ومد رجليه، فهتف به هاتف: أهكذا تجالس الملوك؟ وكان الحريرى لا يمد رجليه في الخلوة، فقيل: وليس يراك أحد، فقال: حفظ الأدب مع الله أحق. وفي معناه أنشد: كأن رقيبًا منك يرعى خواطرى وآخر يرعى ناظرى ولسانى فما رمقت عينأي بعدك منظرًا يوؤك إلا قلت: قد رمقانى وما بدرت من في بعدك مزحة بسرك إلا قلت قد سمعانى

ـــــــــــــــــــــــــــــ وما خطرت في السر منى خطرة لغيرك إلا عرجا بعنانى وما الزهد أسلي عنهم غير أننى وجدتك مشهودى بكل مكانى وإخوان صدق قد سمعت حديتهم وأمسكت عنهم ناظرى ولسانى ((العزيز)) الغالب من قولهم: عز إذا غلب، ومرجعة إلي القدرة المتعالية عن المعارضة فمعناه مركب من وصف حقيقى، ونعت تنزيهي. وقيل: القوى الشديد من قولهم: عز يعز إذا قوى واشتد. ومنه قوله تعالي: {فعززنا بثالث} وقيل: عديم المثل، فيكون من أسماء التنزيه. وقيل: هو الذي يتعذر الإحاطة بوصفه، ويعسر الوصول إليه مع أن الحاجة تشتد إليه. وحظ العارف منه: أن يعز نفسه، فلا يستهينها بالمطامع الدنيوية، ولا يدنسها بالسؤال عن الناس، والافتقار إليهم، ويجعلها بحيث يشتد إليها احتياج العباد في الإرفاق والإرشاد. قال الشيخ أبو القاسم: ((العزيز)) علي طريقة أهل الإشارة هو الذي لا يدحر (خدمة من خدمة) شيئًا، ولا يؤثر من عرفه هواه علي رضاه، فيقضى حقوقه فرضًا، ولا يرى لنفسه عليه حقًا، وأنشد: وتكرمها جاراتها فيزرنها وتقعد عن إتيأنهن فتعزز والعزيز من العباد: من يمنع فيشكر، ويبلي فلا يشكو، من يعرفه يستلذ بحكمة الهوان ويستحلي منه الحرمان دون الإحسان. وأنشد: وأهنتنى فأهنت نفس صاغرًا ما من يهون عليك ممن أكرم أشبهت أعداتى فصرت أحبهم إذ كان حظى منك حظى منهم قيل: إنما يعرف الله تعالي عزيزًا من أعز أمره وطاعته، فأما من استهان بأوامره، فمن المحال أن يكون متحققًا بعزته. وقيل لبعضهم: ما علامة أنك تعرفه؟ فقال: لا أهم لمخالفته إلا نادانى من قلبى مناد: استحيي منه. وقيل: العزيز من ضلت العقول في بحار عظمته، وحارة الألباب دون إدراك نعته، وكلت الألسن عن استيفاء مدح جلاله، ووصف جماله. وأنشد: وكل من أغرق في مدحه أصبح منسوبًا إلي العي قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه بعد ما بلغ في ثنائه تعالي: ((لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك)). ومن آداب من عرف أنه العزيز: أن لا يعتقد لمخلوق إجلالا، ولهذا قالوا: المعرفة تحقير الأقدار سوى قدره، ومحو الأذكار سوى ذكره، وإذا عرف أنه المعز لم يطلب العز إلا منه، ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون العز إلا في طاعته تعالي. حكى عن بعضهم: أنه قال: رأيت رجلا في الطواف، وبين يديه شرطيان يطردان الناس، ثم بعد ذلك رأيته يتكفف علي الجسر، فسألته عن ذلك، فقال: إنى تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فوضعنى الله تعالي في موضع يترفع فيه الناس. قال الشيخ أبو حامد في معنى قوله تعالي: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} العزيز من العباد من يحتاج إليه خلق الله عز وجل في أهم أمورهم، وهي الحياة الأخروية، والسعادة الأبدية، وذلك مما يقل لا محالة وجوده، ويصعب إدراكه، وهذه رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم، ويشاركهم في العز من يتفرد بالقرب من درجتهم في عصره، كالخلفاءء وورثتهم من العلماء، وعزة كل واحد منهم بقدر علو رتبته، عن سهولة النيل والمشاركة، وبقدر عناية وإرشاد الخلق. ((الجبار)) بناء مبالغة من الجبر، وهو في الأصل إصلاح الشىء يضرب من القهر، ثم يطلق تارة في الإصلاح المجرد، نحو قول علي رضي الله عنه: ((يا جابر كل كسير، ومسهل كل عسير))، وتارة في القهر المجرد، نحو ما ورد: ((لا جبر ولا تفويض)) ثم تجوز عنه لمجرد العلو؛ لأن القهر مسبب عنه، فيقال: نخلة جبارة، للباسقة التي لا تنالها الأيدى، ولذلك قيل: الجبار هو المصلح لأمور العباد والمتكفل لمصالحهم، فهو إذن من أسماء الأفعال، وقيل: معناه حامل العباد علي ما يشاء، لا انفكاك لهم عما شاء من الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، والآجال. فمرجعه أيضا إلي الفعل. وقيل: معناه المتعالي عن أن يناله كيد الكائدين، ويؤثر فيه قصد القاصدين، فيكون مرجعة إلي التقديس والتنزيه. وحظ العارف من هذا الاسم: أن يقبل علي النفس فيجبر نقائصها باستكمال الفضاتل، ويحملها علي ملازمة التقوى، والمواظبة علي الطاعة، ويكسر فيها الهوى والشهوات بأنوع الرياضات، ويترفع عما سوى الحق غير ملتفت إلي الخلق، فيتحلي بحلي المسكينة والوقار، بحيث لا يزلزله تعاور الحوادث، ولا يؤثر فيه تعاقب النوازل، بل يقوى علي التأثير في الأنفي والآفاق بالإرشاد والإصلاح. قال الشيخ أبو القاسم: الاسم إذا احتمل معإني مما يصح في وصفة تعالي، فمن دعاه بهذا الاسم فقد أثنى عليه بتلك المعإني، فهو الجبار علي معنى أنه عزيز، متكبر، محسن إلي عباده، لا يجرى في سلطانة شىء بخلاف مر اده. ومن آداب من عرف أنه لا تناله الأيدى لعلو قدره: أن يتحقق بأنه لا سبيل إليه، ولابد منه. فلا يصيب العبد منه إلا لطفه، وإحسأنه، اليوم عرفانة، وغدًا غفرأنه. وأنشد: فلا بذل إلا ما تزود ناظرى ولا وصل إلا بالخيال الذي يسرى

المتكبر، الخالقً، البارِىءُ، المصورُ، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقلن لنا نحن الآهلة إنما نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى وإذا علم أنه يجبر الخلق علي مراده، وعلم أنه لا يجرى في سلطأنه ما يأباه، ويكرهه ترك ما يهواه، وانقاد لما يحكم به مولاه، فيستريح عن كد الفكر، وتعب التدبير. وفي بعض الكتب: عبدي تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد، فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. قال أبو حامد: الجبار من العباد من ارتفع عن الاتباع، ونال درجة الاستتباع، وتفرد بعلو رتبته بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته علي الاقتداء به، ومتابعته في سمته وسيرته، فيفيد الخلق ولا يستفيد، ويؤثر ولا يتأثر. وإنما خص بهذا الوصف سيد البشر صلوات الله عليه، حيث قال: ((لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعى، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر)). ((المتكبر)) هو الذي يرى غيره حقيرًا بالإضافة إلي ذاته، فينظر إلي غيره نظر المالك إلي عبده. وهو علي الإطلاق لا يتصور إلا لله تعالي، فأنه المتفرد بالعظمة والكبرياء بالنسبة إلي كل شىء من كل وجه. ولذلك لا يطلق علي غيره إلا في معرض الذم. فإن قيل: هذا اللفظ من باب التفعل ووضعه للتكلف في إظهار ما لا يكون، فينبغى أن لا يطلق علي الله تعالي. قلت: لما تضمن التكلف بالفعل مبالغة فيه، أطلق اللفظ وأريد به مجرد المبالغة. ونظير ذلك فيه شائع في كلامهم، مع أن التفعل جاء لغير التكلف كثيرًا، كالتعمم، والتقمص. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف علوه تعالي وكبرياءه، لازم طريق التواضع، وسلك سبيل التذلل، وقد قيل: هتك ستره، من جاوز قدره. وقد قيل: الفقير في خَلقِه* أحسن منه في جديد غيره، ولا شىء أحسن علي الخدم من التواضع بحضرة السادة، وأنشد: ويظهر في الهوى عز الموالي فيلزمنى له ذل العبيد وسئل يحيى بن معاذ عن المحبة: فقال: هو مالا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء. وقيل: كل من أخلص في وده، وصدق في حبه، كان استلذاذه بمنعه أكثر من استلذاذه بعطائه. وحظ العارف منه: أن يتكبر عن الركون إلي الشهوات، والسكون إلي الدنيا وزخارفها، فإن البهائم تساهمه فيها، بل عن كل ما يشغل سره عن الحق، ويستحقر كل شىء سوى الوصول إلي جناب القدس من مستلذات الدنيا والآخرة. ((الخالق، البارىء، المصور)) قيل: أنها ألفاظ مترادفة، وهو وهم، فإن الخالق من الخلق، وأصلة التقدير المستقيم، ويستعمل بمعنى الإبداع، وهو إيجاد الشىء من غير أصل، كقوله

ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي: {خلق السموت والأرض} وبمعنى التكوين، كقوله تعالي: {خلق الإنسان من نطفة} وقوله: {وخلق الجان من مارج من نار}. و ((البارىء)) مأخوذ من البرء، وأصله خلوص الشىء عن غيره، إما علي سبيل التفصى منه، وعلية قولهم: برىء فلان من مرضه، والمديون من دينه، واستبرأت الجارية رحمها. وإما علي سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة، وهو البارىء لها. وقيل: البارىء هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام الكامل، فهو أيضًا مأخوذ من معنى التفصى. و ((المصور)) هو مبدع صور المخترعات، ومزينها، ومرتبها، فالله سبحأنه خالق كل شىء، بمعنى أنه مقدر، ء أو موجده من أصل، ومن غير أصل، وباريه بحسب ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته من غير تفاوت واختلال، ومصوره بصورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله، وثلاثتها من أسماء الأفعال، اللهم إلا إذا فسر الخالق بالمقدر، فيكون من صفات المعانى؛ لأن مرجع التقدير إلي الارادة، وإن فسر الخالق بالمقدر، فوجه الترتيب ظاهر؛ لأنه يكون التقدير أولا، ثم الأحداث علي الوجه المقدر ثإنيا، ثم التسوية والتصوير ثالثًا، وإن فسر بالموجد، فالاسمان الآخران كالتفصيل له، فإن الخالق هو الموجد بتقدير واختيار، سواء كان الموجد مادة أو صورة، ذاتًا أو صفة. وحظ العارف منها: أن لا يرى شيئًا، ولا يتصور أمرًا إلا ويتأمل فيما فيه من باهر القدرة، وعجائب الصنع، فيترقى من المخلوق إلي الخالق، وينتقل من ملاحظة المصنوع إلي ملاحظة الصانع، حتى يصير بحيث كلما نظر إلي شىء وجد الله عنده. قال الشيخ أبو القاسم: وإذا عرف العبد أنه لم يكن شيئًا، ولا عينًا، فحولة الله شيئًا، وجعله عينًا، فبالحري أن لا يعجب بحاله، ولا يدل بأفعاله. وقد أشكل عليه حكم ماله، وكيف لا يتواضع من يعلم أنه في الابتداء نطفة، وفي الانتهاء جيفة، وفي الحال صريع جوعة، وأسير شبعة، وحمال وحشة، كنيف في قميص، إن أمسك عن الكلام ساعة تغير عليه خلوفه، وإن عرق في سعيه (سطع) (تفتر) المستطاب صنان إبطه ورائحة رجله، ثم إذا شاهد نقص نفسه، عرف جلال ربه. وقال بعضهم: لما قال تعالي: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} نبههم علي حسن الخلق بما دلهم علي صفة الأرض، وذلك أنه يلقى عليها كل وحشة، فيخرج منها كل زهرة وخضرة، وهكذا المؤمن ينبغى أن يكون متشربًا غير مترشح، محتملا للجفاء غير منتقم، لا يقابل بالجفاء إلا قابل الجافي بالاحتمال، وجميل الإغضاء والأفعال. يحكى أن بعضهم كان يسىء القول في واحد، والرجل يسمع ويسكت، فضاق صدر هذا الرجل، فقال: إياك أعنى، فقال الرجل: وعنك أحلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الغفار)) في الأصل بمعنى الستار من الغفر، وهو ستر الشى، بما يصونه، ومنه المغفر، ومعناه أنه يستر القبائح والذنوب، بإسبال الستر عليها في الدنيا، وترك المؤاخذة بالعفو عنها في العقبى، ويصون العبد من أوزارها. وهو من أسماء الأفعال، وقد جاء التوقيف في التنزيل بالغفار والغفور والغافر، والفرق بينها أن الغافر يدل علي اتصافه بالمغفرة مطلقًا، والغفار والغفور يدلان عليه مع المبالغة، والغفار أبلغ لما فيه من زيادة البناء، ولعل المبالغة في الغفور باعتبار الكيفية، وفي الغفار باعتبار الكمية، وهو قياس المشدد للمبالفة من النعوت والأفعال. وقال بعض الصالحين: إنه غافر؛ لأنه يزيل معصيتك من ديوانك، وغفور؛ لأنه ينسى الملائكة أفعالك، وغفار؛ لأنه ينسيك ذنبك حتى كأنك لم تفعله. وقال آخر: إنه غافر لمن له علم اليقين، وغفور لمن له عين اليقين، وغفار لمن له حق اليقين. وحظ العارف منه: أن يستر من أخيه ما يحب أن يستر منه، فلا يفشى منه إلا أحسن ما فيه، ويتجاوز عما يندر عنه، ويكافيء المسى، إليه بالصفح والإنعام عليه. قال الشيخ أبو القاسم في قوله تعالي: ((ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا}. ((ثم)) تقتضى التراخى، كأنه قال: من زجى عمره في الزلات، وأفنى حياته في المخالفات، وأبلي شبابه في البطالات، ثم ندم قبل الممات، وجد من الله العفو عن السيئات. ((ومن يعمل سوءًا)) إخبار عن الفعل، و ((يستغفر الله)) عن القول، كأنه قيل: الذين زلاتهم حالة، وتوبتهم قالة، ولقد سهل عليك الأمر من رضي عنك بقالة، وقد عملت ما عملت، والاستغفار يستدعى مجرد الغفران، فقوبل بقوله: ((يجد الله)) انظر إلي حال هذا المذنب كيف طلب المغفرة، فوجد الله تعالي والله أعلم. ((القهار)) هو الذي لا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته، مسخر لقضائه، عاجز في قبضته، ومرجعه إلي القدرة، فيكون من صفات المعنى. وقيل: هو الذي أذل الجبابرة، وقصم ظهورهم بالإهلاك، ونحوه. فهو إذن من أسماء الأفعال. وعن بعض السالكين: ((القهار)) الذي طاحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين. قال الله تعالي: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} فأين الجبابرة الأكاسرة عند ظهور هذا الخطاب، وأين الأنبياء والمرسلون والملائكة في هذا العتاب، وأين أهل الضلال والإلحاد والتوحيد والرشاد، وأين آدم وذريته وإبليس وشيعته. فكأنهم بادوا وانقرضوا، زهقت النفوس وتلفت الأرواح، وتبددت الأجسام والأشباح، وتفرقت الأوصال، وبقى الموجود الذي لم يزل ولا يزال. وحظ العارف منه: أن يسعى في تطويع النقس الأمارة للنفس المطمتنة قهرًا، وكسر شهواتها، فإنها أعدى عدوه. قال الشيخ أبو القاسم: من علم أنه القهار خشى بغتات مكره،

ـــــــــــــــــــــــــــــ وخاف فجاءة قهره فيكون وجلاً بقلبه، منفردًا عن قومه ورهطه، مستديمًا لكربه، مفارقًا لخلطاته وصحبه، كما قيل: فريد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد واعلم أن الله تعالي قهر نفوس العابدين بخوف عقوبته، وقلوب العارفين بسطوة قربته، وأرواح الواجدين بكشف حقيقته، فالعابد بلا نفس لاستيلاء سلطان أفعاله عليه، والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان إقباله عليه، والواجد بلا روح لاستيلاء كشف جماله وجلاله عليه. فمتى أراد العابد خروجه عن قيد مجاهدته، قهرته سطوات العقاب، فردته إلي بذل المهجة، ومتى أراد العارف خروجه عن مطالبات القربة، قهرته بواده الهيبة، فردته إلي توديع المهجة، فشتان بين عبد هو مقهور أفعاله، وبين عبد هو مقهور جماله وجلاله. ((الوهاب)) كثير النعم، دائم العطاء، والهبة الحقيقية هي العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإن المعطى لغرض مستفيض وليس بواهب، وهو من أسماء الأفعال. وحظ العارف منه: أن لا يستمنح، ولا يتوقع إلا من الله، بل أن يبذل جميع ما يملكه حتى الروح خالصة لوجه الله، لا يريد به جزاء ولا شكورًا. قال الشيخ أبو القاسم: من تحقق بأنه الوهاب لم يخش الفقر، ومقاساة الضر، ورجع إليه في كل وقت بحسن المقصد. ويحكى أن الشبلي سأل بعض أصحاب أبي علي الثقفي، فقال: أي اسم من أسمائه يجرى علي لسان أبي علي الثقفي أكثر؟ فقال الرجل: اسمه الوهاب، فقال الشبلي لذلك كثر ماله. ((الرزاق)) خالق الأرزاق والأسباب التي يتمتع بها، والرزق هو المنتفع به، وكل ما ينتفع به منتفع فهو رزقه، سواء كان مباحًا أو محظورًا. وقالت المعتزلة: الرزق هو الملك، وفساده ظاهر طردًا وعكسًا. أما الأول: فلأن كل ما سرى الله تعالي ملكه، وليس رزقًا له، وللفرار من هذا الإشكال زاد بعضهم، وقال: رزق كل مرزوق ما ينتفع به من ملكه. وأما الثانى: فلأن ما يدر علي البهائم رزقها لقوله تعالي: ((وما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها)) وليس ملكًا لها، والرزق نوعان: محسوس ومعقول، فلذلك قال بعض المحققين: الرزاق من رزق الأشباح فوائد لطفه، والأرواح عوائد كشفه، وقال آخر: الرزاق من غذى نفوس الأنبياء بتوفيقه، وحلي قلوب الأخيار بتصديقه. وحظ العارف منه: أن يحقق معناه ليتيقن أنه لا يستحقه إلا الله تعالي، فلا ينتظر الرزق ولا يتوقعه إلا منه، فيكل أمره إليه، ولا يتوكل فيه إلا عليه، ويجعل يده خزانة ربه، ولسانه وصلة بين الله وبين الناس في وصول الأرزاق الروحإنية والجسمإنية إليهم بالإرشاد، والتعليم،

ـــــــــــــــــــــــــــــ وصرف المال، ودعاء الخير، وغير ذلك؟ لينال حظًا وافرًا من هذه الصفة. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف أن الله تعالي هو الرزاق، أفرده بالقصد إليه، وتقرب إليه بدوام التوكل عليه، قيل لبعضهم: من أين يأكل فلان؟ قال: مذ عرفت خالقه، ما شككت في رازقه. وقيل: أراد حاتم الأصم أن يسافر فقال لامرأته: كم تحتاجين من النفقة؟ فقالت: بقدر ما يتخلف من الحياة، فقال حاتم: وما يدرينى كم تعيشين؟ فقالت: كله إلي من يعلم. فلما سافر، قيل لها: إن حاتماً تركك بلا نفقة، فقالت: إنه كان أكلا للرزق، ولم يكن رازقًا. ومن الناس من تسمو همتهم فلا يطلبون منه الحوائج الخسيسة. يحكى عن الشبلي أنه أرسل إلي غني أن ابعث إلينا شيئًا من دنياك، فكتب إليه، سل دنياك من مولاك، فكتب إليه الشبلي: الدنيا حقيرة وأنت حقير، وإنما أطلب الحقير من الحقير، ولا أطلب من مولاي غير مولاي. واعلم أنه يرزق الأرواح والسرائر، كما يرزق الأشباح والظواهر، وأرزاق القلوب الكشوفات والمعانى، كما أن أرزاق النفوس الغذاء والأحاظى. وقيل لعارف: أيش القوت؟ فقال: ذكر الحى الذي لا يموت. وأنشد: إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها فلم تلبث النفس التي أنت قوتها وقال بعضهم: دخلت علي داود الطائى، فرأيته منبسطًا، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضًا، فسألته عن ذلك، فقال: سقانى البارحة وقت السحر شراب أنسه، فأردت أن أجعل اليوم عيدًا، وأنشد: فأسكر القوم دور كأسى وكان سكرى من المدير وقال غيره: فمن ذا يلمنى أن أهز معاطفي وقد وصلت ليلي وقد وعدت هند ((الفتاح)) الحاكم بين الخلائق، من الفتح بمعنى الحكم، قال الله تعالي: ((ربنا افتح بيننا وبين قومنا)) أي احكم، وذلك، لأن الحكم فتح الأمر المغلق بين الخصمين، والله سبحانه بين الحق وأوضحه، وميز الباطل وأدحضه، بإنزال الكتب ونصب الحجج، ومرجعة إما إلي القول القديم، أو الأفعال المنتصفة للمظلومين عن الظلمة. وقيل: هو الذي يفتح خزائن الرحمة علي أصناف البرية، قال الله تعالي: ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)). وقيل: معناه مبدع الفتح والنصرة. وعن بعض الصالحين: ((الفتاح)) الذي لا يغلق وجوه النعمة بالعصيان، ولا يترك إيصال الرحمة إليهم باللسان. وعن آخر منهم: ((الفتاح)) الذي فتح قلوب

الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزُّ، المذل، السميع، البصير ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤمنين بمعرفته، وفتح علي العاصين أبواب مغفرته. وقيل: ((الفتاح)) الذي فتح علي النفوس باب توفيقه، وعلي الأسرار باب تحقيقه. وحظ العارف منه: أن يسعى في الفصل بين الناس، وانتصار المظلومين، ويهتم بتيسير ما تعسر علي الخلق من الأمور الدينية والدنيوية، حتى يكون له حظ من هذا الاسم. قال الشيخ أبو القاسم: من علم أنه ((الفتاح)) للأبواب، والميسر للأسباب، الكافي للخطوب، المصلح للأمور، فإنه لا يتعلق بغيره قلبه، ولا يشتغل بدونه فكره، يعيش معه بحسن الانتظار لا يزداد بلاءً، إلا ويزداد بربه ثقة ورجاءً. واعلم أنه يفتح للنفوس بركات التوفيق، وللقلوب زوائد التحقيق، فبتوفيقه تتزين النفوس بالمجاهدات، وبتحقيقه تتزين القلوب بالمشاهدات. ومن آداب من علم أنه ((الفتاح)) أن يكون حسن الانتظار لنيل كرمه، لوجود لطفه سبحانه، دائم الترقب لحصول فضله، يستديم التطلع لنيل كرمة تاركًا للاستعجال عليه، ساكنًا تحت جريان الحكم، عالماً بأنه لا يقدم ما حكم بتأخيره، ولا يؤخر ما حكم بتقديمه. ويحكى أن مؤذناً لعلي رضي الله عنه قال لجارية له تمر عليه: إنى أحبك، فشكت يومًا إلي علي، فقال: قولي له: وأنا أيضًا أحبك، فأيش بعد هذا؟ فقالت الجارية ذلك له، فقال: إذن نصبر حتى يحكم الله بيننا، فذ كرت ذلك لعلي، فدعا بالمؤذن وسأله عن القصة، فأخبره بالصدق، فقال علي: خذ بيدها فهي لك، فقد حكم الله بينكما. ((العليم)) العليم بناء مبالغة من العلم، والله سبحانه حقيق بالمبالغة في وصفة، وعلمه تعالي شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق علي وجودها، لا تخفي عليه خافية، ولا يعزب عنه قاصية ولا دإنية، ولا يشغله علم عن علم كما لا يشغله شأن عن شأن، وهو من صفات الذات. وحظ العبد منه: أن يكون مشغوفا بتحصيل العلوم الدينية، لاسيما المعارف الإلهية التي هي باحثة عن ذاته وصفاته، فإنها أشرف العلوم، وأقرب الوسائل إلي الله تعالي، مراقبًا لأحواله، محتاطًا في مصادره وموارده، لعلمه بأنه تعالي عالم بضمائره مطلع علي سرائره. وعن بعض الصالحين: من عرف أنه عليم بحالته، صبر علي بليته، وشكر علي عطيته، واعتذر عن قبيح خطيئته. قال الشيخ أبو القاسم: من آداب من علم أن الله تعالي عالم الخفيات خبير بما في الضمائر والسرائر من الخطرات، لا يخفي عليه شىء من الحوادث في عموم الحالات، فبالحرى أن يستحي عن مواضع اطلاعه، ويرعوى عن الاغترار بجميل ستره. وفي بعض الكتب: إن لم تعلموا أنى أراكم فالخلل في ايمانكم، وإن علمتم أنى أراكم فلم جعلتمونى أهون الناظرين إليكم؟ فمن شأن من تحققه أن يكون مكتفيًا بعلمه عند جريان حكمة، ساكنًا عن تدبيره وتقديره، فارغًا عن اختياره واحتياله. قيل لبعض الموفقين: أيطلب

ـــــــــــــــــــــــــــــ العبد الرزق؟ فقال: إن علم أين هو فليطلب. وقيل: أيسأل الله؟ فقال: إن علم أنه نسيه فليذكره. ((القابض، الباسط)) ((مظ)): مضيق الرزق علي من أراد، وموسعه لمن شاء. وقيل: هو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات، وينشر الأرواح في الأجساد عند الحياة، وقيل: قبض القلوب وبسطها،، تارة بالضلالة والهدى، وأخرى بالخشية والرجا،، ولذلك قيل: القابض الذي يكاشفك بجلاله فيفنيك، ويكاشفك بجماله فيبقيك، وكلاهما من منصات الأفعال. وإنما يحسن إطلاقهما معًا ليدل علي كمال القدرة والحكمة. وحظ العارف منهما: أن يراقب الحالين فيرى القبض عدلا من الله، فيصبر عليه، والبسط فضلا منه، فيشكر. وأن يكون ذا قبض وبسط ضنا علي الأسرار الإلهية علي غير أهلها، وإفاضة لها علي من هو أهلها. قال الشيخ أبو القاسم: القبض والبسط نعتان، يتعاقبان علي قلوب أهل العرفان، فإذا غلب الخوف انقبض، وإذا غلبه الرجا، انبسط. ويحكى عن الجنيد أنه قال: الخوف يقبضنى، والرجاء يبسطنى، والحق يجمعنى، والحقيقة تفرقنى، وهو في ذلك كله موحش غير مؤنسى، بحضورى أذوق طعم وجودى فليته أفنانى، أوغيبنى منى. فإذا كاشف الحق عند وصف جلاله قبضه، وإذا كاشفه بنعت جماله بسطه، والقبض يوجب إيحاشه، والبسط يوجب إيناسه. ويحكى عن الشبلي أنه قال: من عرف الله حمل السموات والأرضين علي شعرة من جفن عينه، ومن عرف الله لو تعلق به جناح بعوضة (لضج يحمل متنه) *. هذا علي حالتي القبض والبسط. وقال بعضهم: إنه إذا قبض قبض حتى لا طاقة، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة. وينبغى للعبد أن يتجنب الضجر وقت قبضه، ويجتنب ترك الأدب في حال بسطه، ومن هذا خشى الأ كابر والسادة. ((الخافض، الرافع)) هو الذي يخفض القسط ويرفعه، أو يخفض الكفار بالخزى والصغار، ويرفع المؤمنين بالنصر والإعزاز، أو يخفض أعداءه بالإبعاد ويرفع أولياءه بالتقريب والإسعاد، وخفض أهل الشقاء بالطبع والإضلال، ورفع ذوى العادة بالتوفيق والإرشاد، وكلاهما من صفاات الأفعال. وحظ العبد منهما: أن يخفض الباطل، ويرفع الحق، ويعادى أعداء الله فيخفضهم، ويوالي أولياء، فيرفعهم. قال الشيخ أبو القاسم: ليس المرفوع قدرًا، والمعلي شأناً وأمرًا، والمستحق مجدًا وفخرًا، من رفع الطين علي الطين، وتكبر علي المساكين، وتجبر علي أشكاله بكثرة ماله، واستقامة أحواله، وإنما المشرف شأناً، والمعلي رتبة ومكانًا، من رفعه الله بتوفيقه، وأيده لتصديقه، وهداه لطريقه، صفا مع الله قلبه، وجلي له وجهه، وصدق إلي الله شوقه وحنينه.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وروى في الخبر ((كم من أشعث أغبر زى طمرين لا يؤبه له، لو أقسم علي الله لابرَّه))، وقيل: إن رجلاً رثى واقفاً في الهواء، فقيل له: بم بلغت هذه المنزلة؟ فقال: أنا رجل جعلت هوأي تحت أقدامى فسخر الله لي الهواء. ((المعز، المذل)) الإعزاز جعل الشىء ذا كمال يصير بسببه مرغوبًا قليل المثال، والإذلال جعله ذا نقيصة بسببها يرغب عنه، ويسقط عن درجة الاعتبار، وكلا المعنيين يعرض للإنسان وغيره، والذي يعرض للإنسان منه ما يتعلق بالبدن كالقوة، والجمال، ورفعة الجاه، وكثرة المال، وشرف النسب، والتظاهر بالأتباع والأنصار، ونقائضها. ومنه ما يتعلق بالنفوس كالتخليص عن ذل الحاجة، واتباع الشهوة، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، والإرشاد إلي معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وما يقابل ذلك. وقال بعض الصالحين: ((المعز)) الذي أعز أولياءه بعصمته، ثم غفر لهم برحمته، ثم نقلهم إلي دار كرامته، ثم أكرمهم برؤيته ومشاهدته. و ((المذل)) الذي أذل أعداءه بحرمان معرفته، وركوب مخالفته، ثم نقلهم إلي دار عقوبته، وأهأنهم بطرده ومفارقته. وحظ العبد من ذلك أن يعز الحق وأهله، ويذل الباطل وحزبه، وأن يسأل الله تعالي التوفيق لما يستمد به إعزازه، ويجتهد فيه، ويستعيذ به من موجبات الإذلال ويتوقى عن مظانه. قال الشيخ أبو القاسم: الحق يعز الزاهدين بعزوب نفوسهم عن الدنيا، ويعز العابدين بسلامة نفوسهم عن الرغبات والمنى، ويعز أصحاب العبادات بسلامتهم عن اتباع الهوى، ويعز المريدين بزهادتهم عن صحبة الورى، وانقطاعهم إلي باب المولي، ويعز العارفين بتأهيلهم لمقامات النجوى، ويعز المحبين بالكشف واللقاء، والغنى عن كل ما هو غير وسوى، ويعز الموحدين بشهودهم جلالة من له البقاء والبهاء. قال المشايخ: ما أعز الله عبدًا بمثل ما يرشده إلي ذل نقسه، وما أذل الله عبدًا بمثل ما يرده إلي توهم عزه. وقيل في معنى قوله تعالي: ((تعز من تشاء وتذل من تشاء)) المذلة أن يكون في أسر نفسه، وغطاء شهواته، وسجن تمنيه وآفاته، يصبح محجوبًا ويمسى محرومًا، لا بالطاعات له توفيق، ولا بالقلب تصديق، ولا في الحال تحقيق، نعوذ بالله من شر الأقدار وسوء الاختيار، وبالله التوفيق. ((السميع، البصير)) هما من أوصاف الذات، والسمع إدراك المسموعات حال حدوثها، والبصر إدراك المبصرات حال وجودها. وقيل: إنهما في حقه تعالي صفتان تنكشف بهما المسموعات والمبصرات انكشافًا تامًا، ولا يلزم من افتقار هذين النوعين من الإدراك فينا إلي آلة

الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، ـــــــــــــــــــــــــــــ افتقارهما إليها بالنسبة إلي الله تعالي؛ لأن صفات الله تعالي مخالفة لصفات المخلوقين بالذات، وإن كانت تشاركها، فإنما تشاركها بالعوارض، وفي بعض اللوازم، ألا ترى أن صفاتنا أعراض عارضة معرضة للآفة والنقصان، وصفاته تعالي مقدسة عن ذلك؟. وحظ العبد منهما: أن يتحقق أنه بمسمع من الله ومرأي منه، فلا يستهين باطلاع الله عليه ونظره إليه، ويراقب مجامع أحواله من مقاله وأفعاله. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف من عباده أنه السميع البصير فمن آدابه: دوام المراقبة، ومطالعة النفس بدقيق المحاسبة. وقيل: إذا عصيت مولاك فاعص في موضع لا يراك. ومن ألطاف الله تعالي بعباده الذين يحفظون له سمعهم وبصرهم أن يكفيهم مئونة أنفسهم، ويصونهم في أحوالهم، فتكون أسماعهم مصونة عن سماع كل لغو، وأبصارهم محفوظة عن شهود كل كفو وغير، وإليه الإشارة بقوله: ((كنت له سمعًا وبصرًا، فبي يسمع وبي يبصر)) الحديث. وهذا هو محل الحفظ، ووصف التخصيص فن العناية، وروى عن سهل بن عبد الله أنه قال: منذ كذا سنة أنا أخاطب الحق تعالي، والناس يتوهمون أنى أكلمهم. وفي معناه أنشد: وظنونى أخاطبهم قديماً وأنت بما أخاطبهم مرادى وهذا هو صفة الجمع الذي أشار إليه القوم أن لا يكون العبد لنفسه بنفسه، بل يكون لربه بربه. واعلم أنه إذا علم أن مولاه يسمع ما يقول، ويرى ما يختلف به من الأحوال، فإنه يكتفي بسمعه وبصره عن انتقامه وانتصاره، فإن نصرة الحق أتم له من نصرته لنفسه، قال الله تعالي لنبيه صلوات الله عليه: ((ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون)) ثم انظر بماذا سلاه، وكيف خفف عليه تحمل أثقال بلواهم بما يشغله به عنهم، وأمره به حيث قال: ((فسبح بحمد ربك)) أي فاتصف أنت بمدحنا وثنائنا، يعنى إذا تأذيت بسماع السوء منهم، فاستروح بروح ثنائك علينا. قال الشيخ أبو حامد: من أخفي عن غير الله ما لا يخفيه عن الله، فقد استهان ينظر الله. والمراقبة إحدى مراتب الإيمان بهذه الصفة، فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله تعالي يراه، فما أجرأه وما أجسره! ومن ظن أن الله تعالي لا يراه فما أكفره وما أكفره! ((الحكم)) الحاكم الذي لا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ومرجع الحكم إما إلي القول الفاصل بين الحق والباطل، والبر والفاجر، والمبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر؛ وإما إلي الفعل الدال علي ذلك لنصب الدلائل، والأمارات الدالة عليه؛ وإما إلي المميز بين الشقى والسعيد بالإثابة والعقاب. وقيل: أصله المنع، ومنه سميت حكمة اللجام حكمة؛ فإنها تمنع الدابة عن الجماح، والعلوم حكمًا؛ لأنها تزع صاحبها عن شيم الجهال.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وحظ العبد منه: أن يستسلم لحكمه، وينقاد لأمره، فإن لم يرض بقضائه اختيارًا أمضى فيه إجبارًا، ومن رضي به طوعًا لعلمه بأن له في كل شىء لطفًا مخفيًا، عاش راضيًا مرضيًا. قال الشيخ أبو القاسم: واعلم أنه تعالي حكم في الأزل لعباده بما شاء، فمن شقي وسعيد، وقريب وبعيد، فمن حكم له بالسعادة فلا يشقى أبدًا، ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدًا، كذا قالوا: من آقصته السوابق لم تدنه الوسائل، وقالوا: من قعد به جِدُّه لم ينهض به جَدُّه. واعلم أن الناس علي أربعة أقسام: أصحاب السوابق، فتكون فكرتهم أبدًا فيما سبق لهم من الله تعالي في الأزل، يعلمون أن الحكم الأزلي لا يتغير با كتساب العبد، وأصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور بخواتيمها، والعاقبة مستورة، ولهذا قيل: لا يغرنك صفاء الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات، فكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة، وظهرت عليه أثمار السعادة، وانتشر صيته في الآفاق، وعقد عليه الخناصر، وظنوا أنه من جملة أوليائه وأهل صفائه بُدل بالوحشة صفاؤه، وبالغيبة ضياؤه. وفي معناه أنشد: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم يخف سوء ما يأتى به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر وأصحاب الوقت وهم لا يشتغلون بالتفكر في السوابق والعواقب، بل بمراعاة الوقت، وأداء ما كلفوا من أحكامه. وقيل: العارف ابن وقته، وأصحاب الشهود هم الذين غلب عليهم ذكر الحق، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات، لا يتفرغون إلي مراعاة وقت وزمان، ولا يتطلعون بشهود حين وأوان. ويحكى عن الجنيد أنه قال: قلت للسرى: كيف أصبحت؟ فانشأ يقول: ما في النهار ولا في الليل لي فرح فلا أبالي أطال الليل أم قصرا ثم قال: ليس عند ربكم صباح ولا مساء، أشار بهذا أنه غير متطلع للأوقات، بل هو متوفي شهود الوقت عن الحالات والتارات. ((العدل)) العدل في الأمل مصدر عدلت الشىء أعدله: إذا قومته. ثم قيل للتسوية والإنصاف؛ لما فيه من إقامة الأمر، وحفظه عن طرفي الإفراط والتفريط. ومعناه البالغ في العدل، وهو الذي لا يفعل إلا ماله فعله. مصدر نعت به للمبالغة، وهو من صفات الأفعال. ووظيفة العارف منه: أن لا يعترض علي الله تعالي في تدبيره وحكمه، بل يرى الكل منه حقًا وعدلاً، ويستعمل كل ما منح من الأمور الداخلة فيه والخارجة عنه فيما ينبغى أن يستعمل فيه شرعًا وعقلاً، ويجتنب في مجامع أموره طرفي الإفراط والتفريط، فيتوقى في الأفعال الشهوية

ـــــــــــــــــــــــــــــ عن الفجور والخمود، وفي الأفعال الغضبية عن التهور والجبن، وفي الآراء والتدابير عن الجربزة والبلاهة، ويلازم أوساطها التي هي العفة والشجاعة والحكمة، المعبر عن مجموعها بالعدالة، ليندرج تحت المخاطبين بقوله تعالي: ((وكذلك جعلناكم أمة وسط لتكونوا شهداء علي الناس)). قال الشيخ أبو القاسم: حقيقة العدل أن يكون فعله حسنًا صوابًا، وإنما يكون حسنًا وصوابًا إذا كان لفاعله أن يفعل فهو عادل، وأفعاله عدل، وله أن يفعل بحق ملكه ما يريد في خلقه. وحكى أن رجلا جاء إلي سمنون وقال له: ما معني قوله تعالي: ((ومكروا ومكر الله))؟ فأنشد سمنون*: ويقبح من سواك الفعل عندى وتفعله فيحسن منك ذاكا فأنكر عليه السائل، فقال: لم أجبك بالبيت لقصور في الجواب، ولكن أردت أن أبين لك أن في أقل قليل أدل دليل علي ما سألت، فالجواب أن تخليته إياهم مع مكرهم مكره بهم. فمن علم أنه ((العدل)) لم يستقبح منه موجودًا، ولم يستثقل منه حكمًا، بل استقبل حكمة بالرضا والصبر تحت بلاياه بغير شكوى لم يضيق لتحمل بلاياه قلبًا، ووسع لمقاساة فجاءة تقديره ذرعًا. ((اللطيف)) قيل: معناه الملطف كالجميل، فإنه بمعنى المجمل، فيكون من أسماء الأفعال. وقيل: معناه العليم بخفيات الأمور ودقائقها، وما لطف منها. وحظ العبد منه: أن يلطف بعباده، ويرفق بهم في الدعاء إلي الله تعالي، والإرشاد إلي طريقة الحق، ويتيقن أنه تعالي عالم بمكنونات الضمائر علمه بجليات الظواهر، فلا يضمر ما لا يحسن إظهاره. قال الشيخ أبو القاسم: ((اللطيف)) العليم بدقائق الأمور ومشكلاتها، وهذا في وصفه واجب، واللطيف المحسن الموصل للمنافع برفق، وهذا في نعته مستحق، وهو من صفات فعله. وقوله تعالي: ((الله لطيف بعباده)) يحتمل المعنيين جميعًا، أن يكون عالمًا بهم وبمواضع حوائجهم، يرزق من يشاء ما يشاء كما يشاء، ولطيف بهم يحسن إليهم ويتفضل عليهم، ويرفق بهم. قيل: إن من لطفه تعالي بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلفهم دون الطاقة، ومن لطفه بعباده توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير المرافقات، إذ لولا ذلك لكان للمخالفات مرتكبًا، وفي الزلات منهمكًا، ثم من لطفه بعباده حفظ التوحيد في القلوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب، وإن بقاء المعرفة بين وحشة الزلة أعجب من إخراج اللبن من بين الفرث والدم، ولكن جرت سنته بحفظ كل لطيفة بين كثيفة، بل أجرى سنته بإخفاء الودائع في مواضع مجهولة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: ((اللطيف)) في الأصل ضد الكثيف. ومن خواصه أن لا يحس به، فإطلاقه علي الله تعالي باعتبار أنه متعال من أن يحس به، فيكون من الصفات التنزيهية، وعلية قوله تعالي: ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)). وفيه لف ونشر، يعنى أنه لطيف لا تحيط بكنهه الأبصار، وهو للطف إدراكه للمدركات يحيط بتلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك علما. ((الخبير)) العليم ببواطن الأشياء من الخبرة، وهي العلم بالخفايا الباطنة، وقيل: هو المتكمن من الإخبار عما علمه. وحظ العبد منه: أن لا يتغافل عن بواطن أحواله، ويشتغل بإصلاحها، وتلافي ما يحدث فيها من المقابح. وعن بعض الصالحين: من عرف أنه خبير كان بزمام التقوى مشدودًا، وعن طريق المنى مصدودًا، والله الموفق. قال الشيخ أبو القاسم: إذا علم العبد أنه تعالي مطلع علي سره، عليم بأمره، يكتفي من سؤاله برفع همته، وإحضار الحاجة بقلبه من غير أن ينطق بلسانه. وحكى أن رجلا جاء إلي أبي يزيد، وقال: أيها الشيخ! إن الناس قد احتاجوا إلي المطر، فادع الله يرزقهم ذلك، فقال أبو يزيد: يا غلام! أصلح الميزاب، فلم يفرغ الغلام من إصلاح الميزاب حتى جاء المطر، ولم يتكلم بشىء. ((الحليم)) هو الذي لا يستفزه غضب، ولا يحمله غيظ علي استعجال العقوبة والمسارعة إلي الانتقام، وحاصلة راجع إلي التنزيه عن العجلة. وحظ العبد منه: أن يتخلق به ويحمل نفسه علي كظم الغيظ، وإطفاء ثائرة الغضب بالحلم. قال الشيخ أبو القاسم: وإنما يلذ حلمة لرجاء عفوه؟ لأنه إذا ستر في الحال بفضله، فالمأمول منه أن يغفر في المال بلطفه. وروى أن بعضهم رئى في المنام بعد وفاته، فتيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أعطانى صحيفتى، فمررت بزلة استحييت أن أقرأها، فقلت: إلهي لا تفضحنى! قال: حين فعلتها ولم تستحي ما فضحتك، أفأفضحك وأنت تستحي!. قال الإمام فخر الدين: ليس الوصف بالحلم أنه لا يحمله غيظ علي استعجال العقوبة علي الإطلاق، فإن الذي لا يعجل الانتقام إذا كان علي عزمه سمى حقودًا، ولم يسم حليمًا، بل الحليم هو الذي لا يقصد الانتقام علي الجزم، وأعرض عن إظهاره، والعَفُوُّ هو الذي أعرض عنه بعد إظهاره. قال القاضى: الفرق بين الحقود والحليم: أن الحقود يؤخي الانتقام انتهازًا للفرصة، والحليم يؤخره انتظارًا للتوبة. ((العظيم)) أصله من عظم الشىء إذا كبر عظمه، ثم استعير لكل جسم كبير المقدار كبرًا يملأ العين، كالجمل والفيل، أو كبرًا يمنع إحاطة البصر بجميع أقطاره كالأرض والسماء. ثم لكل شىء كبير القدر عظيم المرتبة علي هذا القياس، والعظيم المطلق البالغ إلي أقصى مراتب

ـــــــــــــــــــــــــــــ العظمة: هو الذي لا يتصور، عقل، ولا يحيط بكنهه بصيرة، وهو الله تعالي فيرجع حاصل الاسم إلي التنزيه، والتعالي عن إحاطة العقول بكنه ذاته. وحظ العبد منه: أن يحقر نفسه ويذللها، للإقبال علي الله تعالي بالانقياد لأوامره ونواهيه، والاجتهاد في اقتناص مراضيه. قال الشيخ أبو القاسم: يجب أن يحمل العظيم في صفة الله تعالي علي استحقاق علو الوصف من استحقاق القدم، ووجود الوحدإنية والانفراد بالقدرة علي الإيجاد، وشمول العلم بجميع المعلومات، ونفوذ الإرادة في المتناولات، وإدراك السمع والبصر لجميع المسموعات والمرئيات، وتنزه ذاته عن قبول الحدثان، فسبحانه من عظم لا يصادره ((عن)) ولا يلاصقه ((إلي)) ولا يحده ((كيف)) ولا يقابل بـ ((كم)) - ولا يستخبر عن ذاته، بـ ((أين)) ولا يستخبر عن نفسه بـ ((ما)). ومن عرف أن مقدوراته لا نهاية لها، علم أنه لو أراد أن يخلق في لحظة عشرين ألف ألف عالم لم يكن إلا كما إذا أراد خلق بعوضة بلا تفاوت بينهما، إذ ليس خلق بقة أعظم عليه من خلق ألف عالم. واعلم أن همة العارف أعظم المخلوقات لأنه يضيع ويتلاشى فيها جملة المقدورات فضلا عن المخلوقات. سبحانه ما أعظم شأنه!. ((الغفور)) كثير المغفرة، وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب بالتجاوز عن ذنوبه من الغفر، وهو إلباس الشىء بما يصونه عن الدنس، ولعل الغفار أبلغ منه؛ لزيادة بنائه. وقيل: الفرق بينه ربين الغفار أن المبالغة فيه من جهة الكيفية، وفي الغفار باعتبار الكمية. ولعل إيراد كل من أبنية المبالغة من الرحمة والمغفرة في الأسماء التسعة والتسعين لتأكيد أمرهما، والدلالة علي أنه تعالي عظيم الرحمة عميمها، كثير المغفرة كبيرها، والإشعار بأن رحمته أغلب من غضبه، وغفرانه أكبر من عقابه. ((الشكور)) هو الذي يعطي الثواب الجزيل ملي العمل القليل، فيرجع إلي الفعل. وقيل: هو المثنى علي العباد المطيعين، فيرجع إلي القول. وقيل: معناه المجازي عباده علي شكرهم، فيكون الاسم من قبيل الازدواج، كما سمى جزاء السيئة سيئة. وحظ العبد منه: أن يعرف نعم الله تعالي، ويقوم بمواجب شكره، ويواظب علي وظائفه، وأن يكون شاكرًا للناس معروفهم، لأن من لم يشكر الناس لم يشكر الله. قال الشيخ أبو القاسم: حقيقة الشكر الثناء علي المحسن يذكر إحسانه، ثم العبد يثنى علي الرب بذكر إحسانه الذي هو نعمته، والرب يثنى علي عبده بأن يمدحه، ويذكر إحسانه وطاعاته. وقد قيل: إن الشكور في وصفه بمعنى أنه يعطي الثواب الكثير علي اليسير من الطاعة. حكى أن رجلا رئى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: حاسبنى، فخفت كفة حسناتى، فوقعت فيها صرة، فقلت، فقلت: ما هذا؟ قال: كف تراب ألقيته في قبر مسلم.

العليُّ، الكبيرُ، الحفيظُ، المقيتُ، الحسيبُ، الجليلُ، الكريمُ، الرَّقيبُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالي: ((وقليل من عبادى الشكور)). وقال بعضهم: قليل من عبادى من يشهد النعمة منى، لأن حقيقة الشكر الغيبة عن شهود النعمة بشهود المنعم، وقيل: هم الأكثرون وإن قلُّوا، ومواضع الأنس حيث حلُّوا. ((العلي)) فعيل من العلو، ومعناه البالغ في علو الرتبة إلي حيث لا رتبة إلا وهي منحطة عنه، وهو من الأسماء الإضافية. قال بعض الصالحين: العلي الذي علا عن الدرك ذاته، وكبر عن التصور صفاته. وقال آخر: هو الذي تاهت الألباب في جلاله، وعجزت العقول عن وصف كماله. وحظ العبد منه: أن يذل نفسه في طاعة الله ويبذل جهده في العلم والعمل، حتى يفوق جنس الإنس في الكمالات النفسإنية، والمراتب العلمية والعملية. قال الشيخ أبو القاسم: ومن علوه وكبريائه أنه لا يصير بتكبير العباد له كبيرًا، ولا بإجلالهم له جليلا، بل من وفقه لإجلاله فبتوفيقه أجله، ومن أيده بتكبيره وتعظيمه، فقد رفع محله، لا يلحقه نقص فيجبر ذلك بتوحيد عباده، فهو العزيز الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يتوجه عليه سبة ولا لوم. ومن حق من عرف عظمته: أن لا يذل لخلقه ويتواضع لهم، فإن من تذلل لله في نفسه رفع الله قدره علي أبناء جنسه. وقيل: المؤمن له العزة لا الكبر، وله التواضع لا المذلة. ((الكبير)) نقيض الصغير، وهما في الأصل يستعملان للأجسام باعتبار مقاديرها، ثم لعالي الرتبة ودإنيها، قال الله تعالي حكاية عن فرعون: ((إنه لكبيركم الذي علمكم السحر)) والله سبحانه وتعالي كبير بالمعنى الثانى، إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها، من حيث أنه قديم، أزلي، غنى، علي الإطلاق، وما سواه حادث بالذات، نازل في حضيض الحاجة والافتقار، وإما باعتبار أنه كبير عن مشاهدة الحواس، وإدراك العقول. وعلي الوجهين فهو من أسماء التنزيه. وحظ العبد منه: أن يجتهد في تكميل نفسه علما وعملا، بحيث يتعدى كماله إلي غيره، ويقتدى بآثاره، ويقتبس من أنواره، قال عيسى عليه السلام: من علم وعمل، فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء. ((الحفيظ)) الحفظ صون الشىء عن الزوال والاختلال، إما في الذهن، وبإزائه النسيان، وإما في الخارج، وبإزائه التضييع. والحفيظ يصح إطلاقه علي الله تعالي بكل واحد من الاعتبارين، فإن الأشياء كلها محفوظة في علمه تعالي، لا يمكن زوالها عنه بسهو أو نسيان، وإنه تعالي يحفظ الموجودات عن الزوال والاختلال ما شاء، ويصون المتضادات والمتعاديات بعضها عن

ـــــــــــــــــــــــــــــ بعض، فيحفظها في المركبات محمية عن إفناء بعضها بعضًا، فلا يطفيء الماء النار، ولا تحلل النار الماء. ويحفظ علي العباد أعمالهم، ويحصى عليهم أفعالهم، وأقوالهم. وحظ العبد منه: أن يحفظ سره عن اتباع الشبهات والبدع، وجوارحه عن انقياد الشهوات والغضب، ويختار قصد الأمور، ويحفظ نفسه عن الميل إلي طرفي الإفراط والتفريط. والعارف خصوصًا أن يحفظ باطنه عن ملاحظة الأغيار، وظاهره عن موافقة الفجار. قال الشيخ أبو القاسم: ومن حفظه تعالي لأوليائه صيانة عقودهم في التوحيد عن اكتفائهم بالتقليد، وتحقيق العرفان في أسرارهم بجميل التأييد، وليس كل الحفظ أن يحفظ عبدًا بين البلاء عن البلاء؛ وإنما الحفظ أن يحفظ قلبًا علي خلوص المعرفة من الأهواء، حتى لا يزل عن الطريقة المثلي، ولا يحيد إلي البدع والهوى. وقيل: من حفظ لله جوارحه، حفظ الله عليه قلبه، لا بل من حفظ لله حقه حفظ الله عليه حظه. وحكى: أن بعض الصالحين وقع بصره يومًا علي محظور، فقال: إلهي إنما أريد بصرى لأجلك، فإذا صار سببًا لمخالفة أمرك فاسلبنيه، فعمى. وكان يصلي بالليل، فاحتاج إلي الطهارة، ولم يتمكن منها فقال: إلهي إنما قلت خذ بصرى لأجلك، فالليل احتاج لأجلك، فعاد إليه بصره. ((المقيت)) خالق الأقوات البدنية، والروحإنية، وموصلها إلي الأشباح والأرواح، وفي الحديث: ((كفي بالمرء إثمًا أن يضيع من بقيت))، فهو من صفات الأفعال. وقيل: هو المقتدر بلغة قريش. قال الشاعر: وذى ضغن كففت النفس عنه وكنت علي إساءته مقيتًا وقيل: الشاهد والمطلع علي الشىء، من أقات الشىء إذا شهد عليه، فهو علي الوجهين من صفات الذات. وحظ العبد منه: أن يصير نافعًا هاديًا، يطعم الجائع، ويرشد الغافل. قال الشيخ أبو القاسم: وإذا اختلفت الأقوات، فمن عباده من يجعل قوت نفسه توفيق العبادات، وقوت قلبه تحقيق المعارف والمكاشفات، وقوت روحه إدامة المشاهدات والمؤانسات، خص كلا بما يليق به علي ما سبق فيه الاختيار، وحق فيه القول، وإذا شغل عبد بطاعاة الله أقام لأجله من يقوم بشغله، وإذا رجع إلي متابعة شهوته، وتحصيل أمنيته، وكله إلي حوله وقوته، ورفع عنه ظل عنايته. ((الحسيب)) الكافي في الأمور، قال الله تعالي: ((ومن يتوكل علي الله فهو حسبه)) من أحسبنى إذا كفانى، فعيل بمعنى مفعل، كأليم، والحسيب المطلق هو الله تعالي، إذ لا يمكن أن تحصل الكفاية في جميع ما يحتاج إليه الشىء في وجوده وبقائه، وكماله البدنى والروحانى

ـــــــــــــــــــــــــــــ بأحد سواه. وقيل: المحاسب يحاسب الخلائق يوم القيام، فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والنديم، فمرجعه بالمعنى الأول إلي الفعل، وبالمعنى الثانى إليه أن جعل المحاسبة عبارة عن المكافأة، وإلي القول إن أريد بها السؤال والمعاتبة، وتعداد ما عملوا من الحسنات والسيئات، وكأنه جمع بين المعنيين من قال: الحسيب من يعد عليك أنفاسك، ويصرف بفضله عنك بأسك. وقيل: الشريف، والحسب الشرف. وحظ العبد منه: أن يتسبب لكفاية حاجات المحتاجين، وسد خلتهم، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويشرف نفسه بالمعرفة والطاعة. قال الشيخ أبو القاسم: كفاية الله للعبد أن يكفيه جميع أحواله وأشغاله، وأجل الكفايات أن لا يعطيه إرادة الشىء، فإن سلامته عن إرادة الأشياء حتى لا يريد شيئًا أتم من قضاء الحاجة، وتحقيق المأمول. ومن علم أن الله تعالي كافية لا يستوحش من إعراض الخلق ثقة بأن الذي قسم له لا يفوته وإن أعرضوا، وأن الذي لم يقسم لا يصل إليه وإن أقبلوا عليه، وقيل في معناه: إن كان الله معك، فمن تخاف؟ وإن كان الله عليك، فمن ترجو؟ ثم إن العبد إذا اكتفي بحسن توليته تعالي لأحواله فعن قريب يرضيه بما يختار له مولاه، فعند ذلك يؤثر العدم علي الوجود، والفقر علي الغنى، ويستروح إلي عدم الأسباب. وقيل: إن فتحًا الموصلي رجع ليلة إلي بيته فلم يجد عشاء، ولا سراجًا، ولا حطبًا، فأخذ يحمد الله تعالي ويتضرع إليه، ويقول: إلهي! لأي سبب، وبأي وسيلة واستحقاق عاملتنى بما تعامل به أولياءك!. ((الجليل)) المنعوت بنعوت الجلال، وهي من الصفات التنزيهية، كالقدوس والغنى. قال الإمام الرازى: الفرق بينه وبين الكبير العظيم: أن الكبير اسم الكامل في الذات، والجليل اسم الكامل في الصفات، والعظيم اسم الكامل فيهما. وحظ العبد منه: أن ينزه نفسه عن العقائد الزائغة، والخيالات الفارغة، والأخلاق الذميمة، والأفعال الدنية*. قال الشيخ أبو القاسم: إن الله تعالي جعل يقلب قلوب العابدين بين شهود ثوابه وأفضاله، وشهود عذابه وأنكاله، فإذا فكروا في إفضاله ازداد رغبتهم، وإذا فكروا في عذابه وإنكاله ازداد رهبتهم، وأنه جعل تنزه أسرار العارفين في شهود جلاله وجماله، إذا كوشفوا بنعت الجلال، فأحوالهم طمس في طمس، وإذا كوشفوا بوصف الجمال، فأحوالهم أنس في أنس، فكشف الجلال يوجب محوًا وغيبة، وكشف الجمال يوجب صحوًا وقربة، فالعارفون كاشفهم بجلاله، فعابوا، والمحبون كاشفهم بجماله، فطابوا، والحقائق إذا اصطلمت القلوب، لا تبقي ولا تذر، والمعإني إذا استولت علي الأسرار، فلا عين ولا أثر. وإن للعلوم علي القلوب مطالبات، وللحقائق سلطان يغلب علي أقسام الترتيب، فالحال تؤذن حتى ليس الأقرب، والحقائق تبرز نعت الصمدية حتى لا قرب، وأنشد:

المجيبُ، الواسعُ، الحكيمُ، الودودُ، المجيدُ، الباعثُ، الشهيدُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ بأي نواحى الأرض أبغى وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو ((الكريم)) المفضل. الذي يعطى من غير مسألة، ولا وسيلة، وقيل: المتجاوز الذي لا يستقصى في العتاب. وقيل: المقدس عن النقائص والعيوب. من قولهم: كرائم الأموال لنفائسها. ومنه سمى شجر العنب كرمًا، لأنه طيب الثمرة، قريب المتناول، سهل القطاف، عار عن الشوك، بخلاف النخل، وحظ العبد منه: أن يتخلق به، فيعطى من غير موعدة، ويعفو عن مقدورة، ويتجنب عن الأخلاق المردية، والأفعال المؤذية. قال الشيخ أبو القاسم: قيل: الكريم هو الذي إذا أذنبت اعتذر عنك، وإذا هجرت وصلك، وإذا قدم من السفر زارك، وإذا افتقر أحسن إليك ببقية ماله. وقيل: الكريم الذي يرى لمن يقبل عطاءه منه علي نفسه. وقيل: الكريم هو الذي إذا رفعت إليه حاجتك عاتب نفسه، كيف لم يبادر إلي قضائها قبل أن تسأله. وأنشد في المعنى الأول: إذا شئت أن تدعى كريمًا مكرمًا حليما ظريفًا ماجدًا فطنًا* حًرا إذا ما بدا من صاحب لك زلة فكن أنت محتالاً لزلته عذرًا ((الرقيب)) الحفيظ الذي يراقب الأشياء ويلاحظها، فلا تعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وحظ العبد منه: أن يراقب أحوال نفسه، ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة، فيهلكه علي غفلة فيلاحظ مكامنه ومنافذه، ويسد عليه طرقة ومجاريه. قال الشيخ أبو القاسم: المراقبة عند هذه الطائفة هي أن يصير الغالب علي العبد ذكره بقلبه، ويعلم أن الله تعالي مطلع عليه، فيرجع إليه في كل حال، ويخاف سطوات عقوبته في كل نفس، ويهابه في كل وقت، فصاحب المراقبة يدع من المخالفات استحاء منه وهيبة له، أكثر مما يترك من يدع من المعاصى لخوف عقوبته، وأن من راعى قلبه، عد مع الله أنفاسه، فلا يضيع مع الله نفسًا، ولا يخلو عن طاعته لحظة، كيف وقد علم أن الله يحاسبه علي ما قل وجل. وحكى عن بعضهم: أنه رئى في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأحسن إلي إلا أنه حاسبنى حتى طالبنى بيوم كنت صائمًا، فلما كان وقت الإفطار أخذت حنطة من حانوت صديق لي فكسرتها، فذكرت أنها ليست لي، فألقيتها علي حنطته، فأخذ من حسناتى مقدار كسرها. ومن تحقق ذلك لم يزج في البطالات عمره، ولم يمحق في الغفلات وقته. ((المجيب)) هو الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أو يسعف السائل إلي ما التمسه واستدعاه، وحظ العبد منه: أن يجيب ربه أولا فيما أمره ونهاه، ويتلقى عباده بلطف الجواب وإسعاف السؤال. قال الشيخ أبو القاسم: في الخبر ((إن الله يستحيي أن يرد يد عبده صفرًا)) وأنه تعالي

ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا علم من أخطر من أوليائه حاجتهم ببالهم يحقق لهم مرادهم قبل أن يذكروا بلسانهم، وربما يضيق عليهم الحال حتى إذا يئسوا وظنوا أنه لا يجيبهم، يتداركهم بحسن إيجاده ودليل وجميل إمداده. ((الواسع)) مشتق من السعة، وهي تستعمل حقيقة باعتبار المكان، وهي لا يمكن إطلاقها علي الله تعالي بهذا المعنى، ومجازًا في العلم والإنعام، والمكنة والمغنى، قال تعالي: ((وسعت كل شىء رحمة وعلما)) وقال تعالي: ((لينفق ذو سعة من سعته)) ولذلك فسر الواسع بالعالم المحيط علمة بجميع المعلومات كليها وجزئيها، موجودها ومعدومها، وبالجواد الذي عمت نعمته، وشملت رحمته كل بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وبالغنى التام الغنى المتمكن مما يشاء. وعن بعض العارفين: الواسع الذي لا نهاية لبرهانه، ولا غاية لسلطانه، ولا حد لإحسانه. وحظ العبد منه: أن يسعى في سعة معارفه وأخلاقه، ويكون جوادًا بالطبع، غنى النفس لا يضيق قلبه بفقد الفائت، ولا يهتم بتحصيل المآرب. قال الشيخ أبو القاسم: من الواجب علي العبد أن يعلم أنه ليس كل إنعامه انتظام أسباب الدنيا، والتمكن من تحصيل المنى، والوصول إلي الهوى؛ بل ألطاف الله تعالي إلي ما يزوى عنهم للدنيا أكثر، وإحسانه إليهم أوفر، وإن قرب العبد من الرب تعالي علي حسب تباعده عن الدنيا. وفي بعض الكتب: إن أهون ما أصنع بالعالم إذا مال إلي الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتى. ((الحكيم)) ذو الحكمة، وهي عبارة عن كمال العلم، وإحسان العمل والإتقان فيه. وقد يستعمل بمعنى العليم، والمحكم. وقيل: هو مبالغة الحاكم، فعلي الأول مركب من صفتين إحداهما من صفات الذات، والأخرى من صفات الأفعال، وعلي الثانى يرجع إلي القول. وعن بعضهم: الحكيم هو الذي يكون مصيبًا في التقدير، ومحصيًا في التدبير. وحظ العبد من هذا الاسم: أن يجتهد في تكميل القوة النظرية بتحصيل المعارف الإلهية، واستكمال القوة العملية بتصفية النفس عن الرذائل، والميل إلي الدنيا، والرغبة في زخارفها، والاشتغال بما يوجب الزلق من الله تعالي حتى يندرج تحت ((من)) في قوله تعالي: ((ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا)). قال الشيخ أبو القاسم: من حكمة علي عباده وتخصيصه قومًا بحكم السعادة من غير استحقاق وسبب، ولا جهد وطلب، ولا زيادة أدب ولا شرف نسب، بل تعلق العلم القديم بإسعاده، وسبق الحكم الأولي بإيجاده؟ وخص قومًا بطرده وإبعاده، ووضع قدره بين عباده من غير جرم سلف، ولا ذنب اقترف، بل حقت الكلمة عليه بشقاوته، ونفذت المشيئة بجحد قلبه

ـــــــــــــــــــــــــــــ وقساوته. فالذي كان شقيًا في حكمه، أبرزه في نطاق أوليائه، ثم حطه أبلغ حط، وقال: ((فمثله كمثل الكلب)). والذي كان سعيدًا في حكمه خلقه في صورة الكلب، ثم حشره في جملة أوليائه، وذكر، في جملة أصفيائه، فقال: ((رابعهم كلبهم))، وقال: ((وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)). ((الودود)) مبالغة الواد. ومعناه: الذي يحب الخير لجميع الخلائق، ويحسن إليهم في الأحوال كلها. وقيل: المحب لأوليائه. وحاصله يرجع إلي إرادة مخصومة. وحظ العبد منه: أن يريد للخلق ما يريد لنفسه، ويحسن إليهم حب قدرته ووسعه، ويحب الصالحين من عباده. قال الشيخ أبو القاسم: قيل: إنه فعول بمعنى الفاعل، كما يقال: رجل قتول، إذا كان كثير القتل. وقيل: إنه بمعنى المفعول، كقولهم: ناقة حلوب، بمعنى محلوبة، فمعنى ((الودود)) في وصفه أنه يود المؤمنين، ويودونه، قال تعالي: ((يحبهم ويحبونه)). ومعنى المحبة في صفة الحق لعباده تكون بمعنى رحمته عليهم، وإرادته للجميل لهم، ومدحه لهم، وبمعنى إنعامه عليهم، وإحسانه إليهم. ومحبة العبد لله تعالي تكون بمعنى طاعته له، وموافقته لأمره، وتكون بمعنى تعظيمه له، وهيبته عنه. وقد تكلموا في اشتقاق المحبة علي وجوه: أحدها: أنه من حبب الإنسان، وهو صفاؤها ونضارتها، فمحة العبد صفاء وقته، وضياء أحواله. وذلك لتنزهه عن الغفلات، وتباعده عن العلات، وتنقيه عن أوضاع المخالفات، وتوقيه من أدناس الزلات. وثإنيها: أنه من قولهم: أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح، فالمحب أبدًا يكون مقيمًا علي باب محبوبه بنفسه وبدنه، فإن لم يمكنه فبقلبه وروحه، والمحب يصل سيره بسراه، ويدع هواه في رضاه. وأنشد: أحبكم ما دمت حيًا فإن أمت يحبك عظم في التراب رميم يهجر فيأبي إلا الوصال، ويقابل بالصد والرد، والإهانة والطرد، والتنفير والبعد، ولا يزداد بالظاهر إلا جهدًا علي جهد، وبالباطن إلا وجدًا علي وجد، يؤثر العز علي الذل، والبعد علي القرب. وأنشد: رأيتك يدنينى إليك تباعدى فباعدت نفسى لابتغاء التقرب وثالثها: أنه من الحب، وهو القرط، سمى حبًا لقلقه واضطرابه، كما أن القرط لا يستقر بل يضطرب دائمًا، كذلك المحب عديم القرار، فقيد الاصطبار لا يسكن إنينه، ولا يهدأ حنينه، نهاره ليل، وليله ويل، ونومة مفقود، وفي قلبه وقود.

ـــــــــــــــــــــــــــــ ورابعها: أنها من الحبة، وهي بذور تنبت في الصحراء، فالمحبة شجرة تغرس في الفؤاد، وتسقى بماء الوفاء، أصلها ثابت في السر، وفرعها ثابت في الهوى، وثمراتها لطائف الأنس تؤتى أكلها دائمًا، جوره أحلي من عدله، ومنعة أشهي من بذلة، ورده أحظى من قبوله، ولا يودى قتيله، ولا يسلك إلا بنعت التحمل سبيله. ((المجيد)) مبالغة الماجد من المجد، وهو سعة الكرم، من قولهم: مجدت الماشية إذا صادفت روضة أنفا، وأمجدها الراعى. ومنه قولهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، والمرخ والعفار شجرتان إذا دلكت أحدهما بالأحرى اصطلم النار منهما. واستمجد أي استكثر. وحظ العبد منه: أن يعامل الناس بالكرم وحسن الخلق، ليكون ماجدًا فيما بينهم. قال الشيخ أبو القاسم: ((المجيد)) في وصفه تعالي، قيل: بمعنى العظيم الرفيع القدر، فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل: معناه الجميل العطاء، فهو فعيل بمعنى فاعل مبالغة. وكل وصف من أوصافه يحتمل معنيين، فمن أثنى عليه بذلك الوصف فقد أتى بالمعنيين، وكل من قال له مجيد فقد وصفه بأنه عظيم رفيع القدر، وأنه محسن جزيل البر. ومن أعظم ما ينعم الله علي عباده، حفظه عليهم توحيدهم ودينهم، حتى لا يزولوا ولا يزيغوا، إذ لولا لطفه وإحسانه لضلوا وارتدوا. ومن وجوه إحسانه إليهم الذي لا يخفي علي أكثر الخلق حفظة عليهم قلوبهم، وتصفيته لهم أوقاتهم، فإن النعمة العظمى نعم القلوب كما أن المحنة الكبرى محن القلوب. ويحكى عن بعضهم قال: رأيت رجلا يطرف بالبيت، وهو يقول: واوحشتاه بعد الأنس! واذلاه بعد العز! وافقراه بعد الغنى! قال: فقلت: أذهب لك مال أم أصابتك مصيبة؟ قال: لا، ولكن كان لي قلب فقدته. ((الباعث)) هو الذي يبعث* ما في القبور، ويحيي الأموات يوم النشور. وقيل: هو باعث الرسل إلي الأمم. وقيل: هو باعث الهمم إلي الترقى في ساحات التوحيد، والتنقى من ظلم صفات العبيد، وهو في الجملة من صفات الأفعال. وحظ العبد منه: أن يؤمن أولاً بمعنييه، ويكون مقبلاً بشراشره علي استصلاح المعاد، والاستعداد ليوم التناد، منقادًا بطبعه للرسل، سالكًا ما يهديهم من السبل، ويحيى النفوس الجاهلة بالتعليم والتذكير، فيبدأ بنفسه، ثم بمن هو أقرب منه منزلة وأدنى رتبة. ويكون معنى الباعث في وصفه أنه يبعث الخواطر الخفية في الأسرار، فمن دواع تبعثها إلي الحسنات، ومن دواع تبعثها إلي السيئات، ومن موفق لاستحقاق وطلب، ومن مخذول لا لعلة وسبب. ((الشهيد)) من الشهود، وهو الحضور، ومعناه العليم بظاهر الأشياء، وما يمكن مشاهدتها، كما أن الخبير هو العليم بباطن الأشياء، وما لم ممكن الإحساس بها. وقيل: مبالغة الشاهد،

الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبديء، المعيد، ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى أنه تعالي يشهد علي الخلق يوم القيامة، وهو علي الوجهين من صفات المعانى؛ لأن مرجعه إما إلي العلم أو إلي الكلام. وحظ العبد منه: أن يسعى في التزكية والتصفية حتى يصير من أهل الشهود، وينخرط في سلك المخاطبين بقوله تعالي: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا)). قال الشيخ أبو القاسم: إن أهل المعرفة لم يطلبوا مع الله مؤنًا سواه، ولا أحدًا يشكون بين يديه غيره، بل رضوا به شهيدًا لأحوالهم عليمًا بأمورهم، وكيف لا، وهو يعلم السر وأخفي، ويسمع النجوى، ويكشف البلوى، ويجزل الحسنى، ويصرف الردى، وأنشد: أنتم سرورى وأنتم مشتكى حزنى وأنتم في سواد الليل سماوى وإن تكلمت لم ألفظ بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضمارى ((الحق)) الثابت، وبإزائه الباطل الذي هو المعدوم، والثابت مطلقًا هو الله سبحانه، وسائر الموجودات من حيث أنها ممكنة لا وجود لها في حد ذاتها، ولا ثبوت لها من قبل أنفسها، وإياه عنى الشاعر بقوله: ألا كل شىء ما خلا الله باطل وهو بهذا المعنى من صفات الذات. وقيل: معناه المحق، أي المظهر للحق، أو الموجد للشىء حسبما تقتضيه الحكمة، فيكون من صفات الأفعال. وحظ العبد منه: أن يرى الله تعالي حقًا وما سواه باطلا في ذاته، حقًا بإيجاده واختراعه، وأن له حكمة ولطفًا في كل ما يوجده، وإن خفي علينا كنهه. قال الشيخ أبو القاسم: الحق والحقيقة من صفات الخلق في اصطلاح هذه الطائفة، يعنون بالحق ما يعود إلي العقائد وأوصاف القلوب في المعارف، وبالحقيقة المعاملات والمنازلات، ومأخذ هذا الاصطلاح خبر حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: أسهرت ليلي، وأظمأت نهارى)) فأشار بالحقيقة إلي المعاملات من سهر الليل وظمأ النهار. ((الوكيل)) القائم بأمور العباد، وتحصيل ما يحتاجون إليه. وقيل: الموكول إليه تدبير البرية، وهذا الأمر ينبىء عن أمرين: أحدهما عجز الخلق عن القيام بمجامع أمورهم كما ينبغي، إذ الغالب أن العاقل لا يكل أمره إلي غيره إلا إذا تعذر، أو تعسر عليه. وثإنيهما: أنه تعالي عالم بحالهم قادر علي ما يحتاجون إليه، رحيم بهم، فإن من لم يستجمع هذه الصفات لا يحسن توكيله.

ـــــــــــــــــــــــــــــ وحظ العبد منه: أن يكل إليه، ويتوكل عليه، ويستكفي بالاستعانة به عن الاستمداد بغيره، ويقوم بأمور الناس، ويسعى في إنجاح مآربهم، وتحصيل مطالبهم. قال الشيخ أبو القاسم: إذا تولي الله تعالي أمر عبد بجميل الكفاية، كفاه كل شغل، وأغناه عن كل غير ومثل. فلا يستكثر العبد حوائجه؛ لأنه يعلم أن كافيه مولاه، ولهذا قيل: من علامات التوحيد كثرة العيال علي بساط التوكل. ومن عرف أنه وكيله، وصدق عليه تعويله، فبالحرى أن يكون وكيله تعالي علي نفسه في استيفاء حقوقه ولوازمه، واقتضاء أوامره وفرائضه، فيكون خصمه تعالي علي نفسه ليلاً ونهارًا، ولا يفتر لحظة، ولا يجوز التقصير منه. وأنشد: علي رقيب منك حال بمهجتى إذا رمت تسهيلاً عليَّ تصعبا ((القوى، المتين)) القوة تطلق علي معانى مرتبة، أقصاها القدرة التامة البالغة إلي الكمال، والله تعالي قوى بهذا المعنى، والمتانة شدة الشىء واستحكامه، وهي في الأصل مصدر متن إذا قوى ظهره، ومرجعهما إلي الوصف بكمال القدرة وشدتها. وحظ العبد منه: أن يقوى نفسه بحيث يغلب أولا علي هواه، فيؤثر فيه ولا يتأثر عنه، ثم إلي ما عداه فلايلتفت إلي سوى الله ولا ينغفل عنه. قال الشيخ أبو القاسم: اعلم أنه تعالي علي ما يشاء قدير، لا يخرج عن قدرته مقدور، كما لا ينفك عن حكمته مفطور، وهو تعالي في إمضائه غير مستظهر بجند ومدد، ولا يستعين بجيش وعضد، إن أراد إهلاك عبد أهلكه بيده، حتى يخرج علي نفسه فيتلف نفسه إما خنقًا أو غرقًا، سمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: خف من لا يحتاج إلي عون عليك، بل لو شاء إتلافك أخرجك علي نفسك، حتى يكون هلاكك علي يدك. وأنشد: إلي حتفي مش قدمى أرى قدمى أراق دمى ومن علم أن مولاه قدير علي ما يريد، يقطع رجاءه عن الأغيار، ويفرد سره لمن لم يزل ولا يزال. ((الولي)) المحب الناصر، وقيل: معناه متولي أمر الخلائق. وحظ العبد منه: أن يحب الله ويحب أولياءه، ويجتهد في نصره ونصر أوليائه، وقهر أعدائه، ويسعى في ترويج حوائج الناس ونظم مصالحهم، حتى يتشرف بهذا الاسم. قال الشيخ أبو القاسم: ومن أمارات ولايته لعبد أن يديم توفيقه حتى لو أراد سوءًا، أو قصد محظورًا عصمه عن ارتكابه، ولو جنح إلي تقصير في طاعته أبي إلا توفيقًا له وتأييدًا، وهذا من أمارات السعادة، وعكس هذا من أمارات الشقاوة. ومن أمارات ولايته: أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه، فإنَّ الله تعالي ينظر إلي قلوب أوليائه في كل وقت، فإذا رأي في قلوبهم لعبد محلا نظر إليه باللطف، وإذا رأي همة ولي من أوليائه بشأن عبد، أو سمع دعاء ولي في شأن شخص، يأبي إلا الفضل والإحسان إليه، بذلك أجرى

سنته الكريمة. وسمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: لو أن وليا من أولياء الله مر ببلدة، لنال بركات مروره أهل تلك البلدة، حتى يغفر الله لهم كلهم، قال الله تعالي:} ولم يكن له ولي من الذل {فأولياؤه يكونون في العز في دنياهم وعقباهم، وآخرتهم وأولاهم. جعلنا الله منهم بفضله ورحمته. ((الحميد)) المحمود المستحق للثناء، فإنه الموصوف بكل كمال، والمولي لكل نوال، وإن من شيء إلا يسبح بحمده بلسان الحال، فهو الحميد المطلق. والحمد أعم من الشكر من حيث إنه يطلق بمعنى الثناء علي الجميل من الصفات والأفعال، يقال: حمدت فلانا علي علمه وكرمه. والشكر مخصوص بالنعم وإن كان الشكر أعم منه من حيث إنه يكون باللسان والقلب والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان. وحظ العبد منه: أن يسعى لينخرط في سلك المقربين الذين يحمدون الله لذاته لا لغيره، وأن يستضئ بانعكاس نور هذا الاسم إذا سعى قدر ما يقدر في تنقيح عقائده، وتهذيب أخلاقه، وتحسين أعماله، ثم إنه بعد لم يخل عن مذمة خلقه، أو منقصة خلقته لا يستطيع التفصي عنه. قال الشيخ أبو القاسم: حمد العبد لله تعالي الذي هو شكره ينبغي أن يكون علي شهود المنعم؛ لأن حقيقة الشكر الغيبة بشهود المنعم عن شهود النعمة. وقيل: إن داود عليه السلام قال في مناجاته: إلهي كيف أشكرك، وشكري لك نعمة منك علي؟ فأوحى الله إليه: الآن قد شكرتني. وكم من عبد يتوهم أنه في نعمة يجب شكرها، وهو في الحقيقة في محنة يجب عليه الصبر عنها، فإن حقيقة النعمة ما يوصلك إلي المنعم لا ما يشغلك عنه، فإذن النعم ما كان دينيا، فإن كان مع النعم الدينية راحات معجلة، فهو الكمال، فإن وجد التوفيق للشكر فذاك، وإلا انقلبت النعمة محنة. ((المحصى)) العالم الذي يحصي المعلومات، ويحيط بها إحاطة العاد بما يعده. وقيل: القادر الذي لا يشذ عنه شيء من المقدورات، وقد سبق الكلام في شرح الإحصاء في أول الباب. والعبد وإن أمكنه إحصاء بعض المعلومات، والوصول إلي بعض ما يقدر عليه، لكنه يعجز عن إحصاء أكثرها، فينبغي أن يحصي ما قدر عليه من أعمال نفسه قبل أن يحصي، ويتلافي مقابح أعماله قبل أن يجازى. قال الشيخ أبو القاسم: ومن آداب من علم أنه المحصى: أن يتكلف عد آلائه لديه وإن علم أنه لا يحصيها، قال الله تعالي:} وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها {ليزجى وقته بذكر إنعامه، وشكر أقسامه، مستوجب المزيد من عوائد إحسانه. رئى بعضهم يعد تسبيحاته، فقيل: أتعد عليه؟ قال: لا ولكن أعد له. فيجب أن يراعى

المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، ـــــــــــــــــــــــــــــ أيامه، ويعد آثامه، فيشكر جميل ما يوليه ربه، ويعتذر من قبيح ما تأتيه نفسه، ويذكر الأيام الماضية. والتأسف علي ما سلف من الأوقات الصافية صفة الأكثرين من هذه الطائفة؛ إذ قل كثير منهم إلا ولهم من هذه القصة حصة، وها هو سيد هذه الطائفة أبو القاسم جنيد، يقول: لا أزال أحن إلي بدو إرادتي وحدة سمعي وركوبي الأهوال، طمعا في الوصال، وها أنا في أوقات الفترة أبكي علي الأيام الماضية. وأنشد: منازل كنت تهواها وتألفها ... أيام كنت علي الأيام منصور وقال الله تعالي:} وذكرهم بأيام الله {،واعجبا للقلوب التي منيت بالبعاد بعد الوصلة، وأطلقها سبحانه الغيبة بعد أنس القربة! كيف لا تنقطع آسفا، ولا تتفتت حسرة ولهفا؛ لأن هذا العظيم من المحنة شديد الوقعة. ((المبدئ، المعيد)) قال الشيخ أبو القاسم: المبدئ المظهر للشيء من العدم إلي الوجود، وهو بمعنى الخالق المنشيء، والإعادة خلق الشيء بعد ما عدم، والله تعالي قادر علي إعادة المحدثات ((إذا عدمت جواهرها وأعراضها))،خلافا لمن قال: الإعادة خلق مثله لا إعادة عينه. وذلك إذا كان مقدورا قبل أن خلقه، فإذا عدم بعد وجوده أعاد إلي ما كان قبله عليه. ويجوز أن تكون الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة من المكلفين، فإذا بعث الخلق وحشرهم فقد أعادهم. وحظ العبد منه: أن يسعى في إبداء الخيرات، وتأسيس الحسنات، وإعادة ما انقطع عنها، واضمحل حتى يصير ذا حظ من آثار هذين الاسمين العظيمين. ومن معنى هذا الاسم إعادة الله تعالي للعبد عوائده، وفوائده وألطافه، وإحسانه وإسعافه، وقد أجرى الله تعالي سنته بأن ينعم علي عباده عودا علي بدء، وأن الكريم من يربى صنائعه. وأنشد: بدأت بإحسان، وثنيت بالرضا ... وثلثت بالنعمى، وربعت بالفضل ((المحيي المميت)) الإحياء خلق الحياة في الجسم والإماتة إزالتها عنه. فإن قيل: الموت عدم الحياة، والعدم لا يكون بالفاعل. قلت: العدم الأصلي كذلك، فأما العدم المتجدد، فهو بالفاعل، ولكن الفاعل لا يفعل العدم، وإنما يفعل ما يستلزمه، قال الله تعالي:} وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم {أسند الموت الثاني إلي أفعاله دون الموت الأول، المراد به

العدم الأصلي. قال بعض الصالحين: المحيي من أحيا قلوب العارفين بأنوار معرفته، وأرواحهم بلطف مشاهدته، والمميت من أمات القلوب بالغفلة، والنفوس باستيلاء الزلة، والعقول بالشهوة. وحظ العبد: أن تسعى روحه بالمعارف الإلهية، والاستعداد لقبول الواردات الغيبية، وإماتة القوى الغضبية والشهوية في نفسه. قال الشيخ أبو القاسم: من أقبل عليه الحق أحياه، ومن غيبه أماته وأفناه. وأنشد: أموت إذا ذكرتك ثم أحيى ... فكم أحيى عليك وكم أموت ((الحي)) ذو الحياة، وهو الفعال الدراك، واختلف في معنى الحياة، فذهب أكثر أصحابنا، والمعتزلة إلي أنه صفة حقيقية قائمة بذاته لأجلها، صح لذاته أن يعلم ويقدر. وذهب آخرون إلي أن معناها: أنه لا يمتنع منه أن يعلم ويقدر، هذا في حقه، وأما في حقنا: فعبارة عن اعتدال المزاج المخصوص بجنس الحيوان. وقيل: هو القوة التابعة له، المعدة لقبوله الحس والحركة الإرادية. وحظ العبد منه: أن يصير حيا بالله حتى لا يموت، كما قال تعالي:} ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم {قال الشيخ أبو القاسم: إذا علم العبد أنه تعالي حي وعالم، وأنه حي لا يموت، وقديم وقائم، لا يجوز عليه العدم، صح توكله عليه، ولهذا قال تعالي:} وتوكل علي الحي الذي لا يموت {أي أن من اعتمد علي مخلوق، واتكل عليه ليوم حاجته، احتمل وفاته وقت حاجته إليه، فيضيع رجاؤه وأمله لديه. ((القيوم)) فيعول للمبالغة، كالديور والديوم، ومعناه القائم بنفسه المقيم لغيره، وهو علي الإطلاق والعموم لا يصح إلا لله تعالي، فإن قوامه بذاته لا يتوقف بوجه ما علي غيره، وقوام كل شيء به؛ إذ لا يتصور للأشياء وجود ودوام إلا بوجوده، وللعبد فيه مدخل بقدر استغنائه عما سوى الله وإمداده للناس، وكان مفهومه مركب من نعوت الجلال، وصفات الأفعال. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف أنه القيوم بالأمور استراح عن كد التدبير، وتعب الاشتغال، وعاش براحة التفويض، فلم يضن بكريمة، ولم يجعل في قلبه للدنيا كثرة قيمة. ((الواجد)) هو الذي يجد كل ما يطلبه ويريده، ولا يعوزه شيء من ذلك. وقيل: الغنى مأخوذ من الوجد، قال الله تعالي:} أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم {.وحظ العبد: أنه إذا عرف أن الله غني، فمن أماراته أن يستغني به، ويلتجئ إليه. قال الشيخ أبو القاسم: والوجد عند القوم ما يصادفونه من الأحوال من غير تكلف ولا تطلب. قالثوري: الوجد لهيب ينشأ

في الأسرار، ويسنح عن الشوق، فيضرب الجوارح طربا، أو حزنا عند ذلك. وقيل: الوجد وجود نسيم الحبيب، كقوله سبحانه وتعالي:} إني لأجد ريح يوسف {،وقيل: الوجد نيران الأنس تثيرها رياح القدس. ((الماجد)) بمعنى المجيد، إلا أن في المجيد مبالغة ليست في الماجد، وقد سبق الكلام فيه. ((الواحد الأحد)) ((الأحد)) ليس في جامع الترمذي، والدعوات للبيهقي، وشرح السنة، لكن ثبت في جامع الأصول ((الواحد والأحد)) مأخوذان من الوحدة، فإن أصل ((أحد)) وحد- بفتحتين- فأبدلت الواو همزة، والفرق بينهما من حيث اللفظ من وجوه: الأول: أن أحدا لا يستعمل في الإثبات علي غير الله، فيقال: الله أحد، ولا يقال: زيد أحد، كما يقال: زيد واحد، وكأنه بني لنفي ما يذكر معه من العدد. والثاني أن نفيه يعم، ونفي الواحد قد لا يعم، ولذلك صح أن يقال: ليس في الدار واحد بل فيها اثنان، ولا يصح ذلك في ((أحد))؛ فلذلك قال تعالي:} لستن كأحد من النساء {، ولم يقل لستم كواحدة. الثالث: أن الواحد يفتح به العدد، ولا كذلك الأحد. الرابع: أن الواحد يلحقه التاء بخلاف الأحد. ومن حيث المعنى أيضا وجوه: الأول: أن أحدا من حيث البناء أبلغ من واحد كأنه من الصفات المشبهة التي بنيت بمعنى الثبات وتشهد له الفروق اللفظية المذكورة. الثاني: أن الوحدة تطلق ويراد بها عدم التجزؤ، وتطلق ويراد بها عدم التثني، والنظير كوحدة الشمس، والواحد يكثر إطلاقه بالمعنى الأول، والأحد يغلب استعماله في الثاني، ولذلك لا يجمع. قال الأزهري: سئل أحمد بن يحيي عن الآحاد أنه جمع أحد؟ فقال: معاذ الله! ليس للأحد جمع، ولا يبعد أن يقال: جمع واحد، كالأشهاد في جمع شاهد. ولا يفتح به العدد، وإليه أشار من قال: الواحد للوصل، والأحد للفصل، فمن الواحد وصل إلي عباده ما وصل من النعم، ومن الأحد فصل منهم ما فصل من النقم. الثالث: ما ذكره بعض المتكلمين في صفاته تعالي خاصة، وهو الواحد باعتبار الذات، والأحد باعتبار الصفات. وحظ العبد: أن يغوص لجة التوحيد، ويستغرق فيه، حتى لا يرى من الأزل إلي الأبد غير الواحد الصمد. قال الشيخ أبو بكر بن فورك: الواحد في وصفه تعالي له ثلاثة معان حقيقة: أحدها: أنه لا قسم لذاته، أنه غير متبعض، ولا متجزئ. والثاني: أنه لا شبيه له، والعرب تقول: فلان واحد في عصره، أي لا شبيه له. يا واحد العرب الذي ما في الأنام له نظير ... لو كان مثلك آخر ما كان في الدنيا فقير والثالث: أنه واحد علي معنى أنه لا شريك له في أفعاله، يقال: فلان متوحد في هذا الأمر، أي ليس يشركه فيه أحد.

قال الشيخ أبو القاسم: والأولون قالوا: هذه المعإني الثلاثة مستحقة لله تعالي، ولكن لفظ التوحيد فيه حقيقة في نفي القسم، مجاز في الثاني، والتوحيد الحكم بأن الواحد واحد، ويكون ذلك الحكم بالقول، وبالعلم، وقد يكون بالإشارة إذا عقد علي أصبع واحد. والتوحيد ثلاثة: توحيد الحق تعالي لنفسه، وهو علمه بأنه واحد، وإخباره عنه بأنه واحد، وتوحيد العبد للحق بهذا المعنى، وتوحيد الحق للعبد، وهو إعطاؤه التوحيد له، وتوفيقه لذلك. قال الشبلي: التوحيد للحق والخلق طفيل. وقال الجنيد: التوحيد له إفراد القدم من الحدث. وقيل: التوحيد إسقاط اليآات، أي لا يقول: ((بى)) ولا ((منى)) ولا ((لي)).وقيل: التوحيد فناء الاسم لظهور الاسم، وقيل: ثبور الخلق لظهور الحق. ((الصمد)) السيد، سمي بذلك؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في الرغائب، من صمدت الأمر إذا قصدته. وقيل: إنه المنزه عن أن يكون بصدد الحاجة أو في معرض الآفة، مأخوذ من الصمد بمعنى المصمد، وهو الصلب الذي لا جوف له. ومن كان يقصده الناس فيما يعن لهم من مهام دينهم ودنياهم، فله حظ من هذا الوصف، أو من رسخ في التوحيد، وصار متصلبا في الدين، لا يتزلزل بتقادم الشبهات، وتعاقب البليات، فقد حظى منه. قال الشيخ أبو القاسم: الصمد قيل: معناه: الباقي الذي لا يزول، وقيل: الدائم. ومن حق من عرفه بهذا الوصف أن يعرف نفسه بالفناء والزوال، ووشك الارتحال، ويلاحظ الكون بعين الفناء فيزهد في حطامها، ولا يرغب في حلالها فضلا عن حرامها. وقيل: هو الذي لا يطعم، ولكن يطعم، فمن عرفه به تتوجه رغائبه عند مآربه إليه، ويصدق توكله في جميع حالاته عليه، فلا يتهمه في رزقه كما أنه لم يستغن بأحد في خلقه، كذلك لا يشاركه في رزقه، وقضاء حوائجه غيره. وإذا عرف أنه الذي يصمد إليه في الحوائج، شكا إليه حاجته وفاقته، ورفع إليه، ويملق بجميل تضرعه، ويقرب بصنوف توسله. وعن بعضهم أنه زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إلهي إن غفرت لي سررت نبيك هذا، وإن رددتني أشمت عدوك الشيطان، وأنا لا أتوفع منك أن تؤثر عدوك علي سرور نبيك. ((القادر المقتدر)) معناهما ذو القدرة، إلا أن المقتدر أبلغ لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب، فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالي حقيقة لكنه يفيد المعنى مبالغة، ونظيره سافرت وغادرت لواحد، ومن حقهما أن لا يوصف بهما مطلقا غير الله، فإنه القادر بالذات، والمقتدر علي جميع الممكنات، وما عداه فإنما يقدر بإقداره علي بعض الأشياء في بعض الأحوال، فحقيق به أن لا يقال له: إنه قادر إلا مقيدا، أو علي قصد التقييد. قال الشيخ أبو القاسم: ومن عرف أنه قادر علي الكمال خشي سطوات عقوبته عند ارتكاب مخالفته، وأمل لطائف رحمته، وزوائد نعمته عند سؤاله وحاجته، لا بوسيلة طاعته، ولكن بإسداء كرمه ومنته. وكذلك من عرف أن مولاه قدير، ترك الانتقام ثقة بأن صنع الحق له،

وانتصاره له أتم من انتقامه لنفسه، ولهذا قيل: احذروا من لا ناصر له غير الله، قال الله تعالي:} إن بطش ربك لشديد {. ((المقدم المؤخر)) هو الذي يقدم الأشياء بعضها علي بعض، إما بالوجود، كتقديم الأسباب علي مسبباتها، أو بالشرف والقربة، كتقديم الأنبياء والصالحين علي من عداهم، أو بالمكان كتقديم الأجسام العلوية علي السفلية، والصاعدات منها علي الهابطات، أو بالزمان كتقديم الأطوار والقرون بعضها علي بعض. وعن بعض العارفين: المقدم من قدم الأبرار بفنون المار، والمؤخر من أخر الفجار، وشغلهم بالأغيار. وحظ العبد منه: أن يهتم بأمره فيقدم الأهم فالأهم، كما ورد ((كن في الدنيا كأنك تعيش أبدا، وفي الآخرة كأنك تموت غدا)) فإنه يستدعي تقديم أمر الآخرة، والاستعجال فيها، وتأخير أمور الدنيا والتإني فيها، فإن من وجد في الأمر مهلة أخره، وتساهل فيه، ومن ضاق عليه وقت فعل، قدمه وسارع إليه. قال الشيخ أبو القاسم: إن أولياء الله مختلفون، فمنهم من يتقدم بجهده وعبادته، ويتكلف أن لا يتخلف عن أشكاله في موافقته. وأنشد: السباق السباق قولا وفعلا ... حذر النفس حسرة المسبوق ومنهم من لم يروا لأنفسهم استحقاق التقدم، وكانت همتهم السلامة فحسب. وقال أبو سعيد الخزاز: لو خيرت بين القرب والبعد، آثرت البعد علي القرب. وأنشد: وما رمت الدخول عليه حتى ... حللت محله العبد الذليل وأغضيت الجفون علي قذاها ... فمضت النفس عن قال وقيل ومنه ما روى ابن عبد البر في الاستيعاب: حضر الناس باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه، فجعل يأذن لأهل بدر، كصهيب وبلال، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيها القوم! إنى والله أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا علي أنفسكم دعى القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه ثم نفض ثوبه، وقام ولحق بالشام قاصدا الغزو، فقال الحسن- وياله من رجل ما كان أعقله! وصدق-:والله لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه. والله أعلم. ((الأول والآخر والظاهر والباطن)) ((الأول)) السابق علي الأشياء؛ فإنه موجدها ومبدعها. ((الآخر)) الباقي وحده، بعد أن يفنى الخلق كله، أو الذي هو منتهي السلوك، فإنه منه بدأ وإليه يعود. ((الظاهر)) الجلي وجوده بآياته الباهرة في أرضه وسمائه. و ((الباطن)) المحتجب

عنه ذاته عن نظر الخلق بحجب كبريائه، وإليه أشار من قال: الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر بالقدرة، والباطن عن الفكرة. وقيل: الأول بلا مطلع، والآخر بلا مقطع، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا حجاب. قال الشيخ أبو حامد: اعلم أنه تعالي إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره، وظهوره سبب بطونه، ونوره هو حجاب نوره، وكل ما جاوز حده انعكس علي ضده. وحظ العبد: أن يهتم بأمره، فيتدبر أوله ويتدبر آخره، ويصلح باطنه وظاهره. قال الشيخ أبو القاسم: أشار بهذه الأسماء إلي صفات أفعاله، فهو الأول بإحسانه، والآخر بغفرانه، والظاهر بنعمته، والباطن برحمته. وقيل: هو الأول بحسن تعريفه؛ إذ لولا فضله بدا لك من إحسانه لما عرفته. وأنشد: سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا وهو الآخر بإكمال اللطف، كما كان أولا بإسداء العرف. وهو الظاهر بما يفيض عليك من العطاء والنعماء، والباطن بما يدفع عنك من فنون البلاء وصنوف الأدواء. وقيل: الظاهر لقوم فلذلك وحدوه، والباطن عن قوم فلذلك جحدوه. ويقال: الأول بوده لك بدأ، إذ لولا أنه بدأك بسابق وده، ما أخلصت له في عقده وعهده، آثرك في سابق القدم، وحكم لك عنده بصدق القدم، ورباك بفنون النعم، وعصمك عن سجود الصنم، واختارك علي جميع الأمم، ورداك برداء الإيمان، وكفاك بجميل الإحسان، ورقاك إلي درجة الرضوان، وحرسك من الشرك والبدع، وألقى في قلبك حسن الرجاء والطمع، فإن لم يلبسك صدار العرفان والورع، فلم يؤنسك عن لطفه بنهاية الفزع، وإن الذي هداك في الابتداء هو الذي يكفيك في الانتهاء. يقال: إن العبد يبتهل إلي الله تعالي في الإعتذار، والحق تعالي يقول: عبدي لو لم أقبل عذرك لما وفقتك للعذر. وإن من فكر في صنوف الضلال، وكثرة طرق المحال، وشدة مغاليط الناس في البدع والأهواء، وما تشعب لكل قوم من مختلفي النحل والآراء، ثم فكر في ضعفه، ونقصان عقله، وكثرة تحيره في الأمور، وشدة جهله، وتناقص تدبيره في أحواله، شدة حاجته إلي الاستعانة بأشكاله في أعماله، ثم رأي خالص يقينه، وقوة استبصاره في دينه، ونقاء توحيده عن غبرة الشرك، وصفاء عين عرفانه عن وهج الشك- علم أن ذلك ليس من مناقبه، ولا بجهده، وكده، ووسعه ووجده، بل بفضل ربه، وسابق طوله. ((الوالي)) هو الذي تولي الأمور، وملك الجمهور. ((المتعالي)) هو البالغ في العلاء، والمرتفع عن النقائص.

المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((البر)) المحسن، وهو البر في الحقيقة؛ إذا ما من بر وإحسان إلا وهو موليه. قال الشيخ أبو القاسم: من كان الله تعالي بارا به، عصم عن المخالفات نفسه، وأدام بفنون اللطائف أنسه، وطيب فؤاده، وحصل مراده، ووفر في طريقه اجتهاده، وجعل التقوى زاده، وجعل قصده سداده، ومبتغاه وساده، وأغناه عن إشكاله بإفضاله، وحماه عن مخالفته بيمن إقباله، فهو ملك لا يستظهر بجيش وعدد، وغنى لا يتمول بمال وعدد. ومن آداب من عرف أنه تعالي البر: أن يكون بارا بكل أحد لاسيما بأبويه. ((التواب)) الذي يرجع بالإنعام علي مذنب حل عقد إصراره، ورجع إلي التزام الطاعة بقبول توبته، من التوب وهو الرجوع. وقيل: هو الذي ييسر للمذنبيين أسباب التوبة، ويوفقهم لها، ويسوق إليهم ما ينبههم عن رقدة الغفلة، ويطلعهم علي وخامة عواقب الزلة؛ فسمى المسبب للشيء باسم المباشر له، كما أسند إليه فعله في قولهم: بني الأمير المدينة. وحظ العبد منه: أن يكون واثقا بقبول التوبة غير آيس عن الرحمة، يكره ما اقترفه من الذنوب صفاحا عن المجرمين، قابلا لمعاذيرهم، حتى يفوز بنصيب كامل من هذا الوصف، ويصير متخلقا بهذا الخلق كل التخلق. قال الشيخ أبو القاسم: قيل توبة الله تعالي علي العبد توفيقه للتوبة؛ لأنه ما لم يتب علي العبد لا يتوب، فإذن ابتداء التوبة وأصلها من الله، وكذلك تمامها علي الله تعالي، ونظامها بالله نظامها في الحال، وتمامها في المآل، ولولا أن الله تعالي يتوب علي العبد، ما كان للعبد توبة؟ قال الله تعالي:} ثم تاب عليهم ليتوبوا {.ومن الكرم أن يتوب علي ذنبك فيك. وأنشد: إذا مرضنا أتيناكم نعود ... كم فتذنبون فنأتيكم ونعتذر ((المنتقم)) هو المعاقب للعصاة علي مكروهات الأفعال. والانتقام افتعال من نقم الشيء إذا كرهه غاية الإكراه، وهو لا يحمد من العبد إلا إذا كان انتقامه من أعداء الله، وأحق الأعداء بالانتقام نفسه، فينتقم منها مهما قارفت معصية، أو تركت طاعة، بأن يكلفها خلاف ما حملته عليه. ((العفو)) هو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو أبلغ من الغفور؛ لأن الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، وأصل العفو: القصد لتناول الشيء، سمي به المحو؛ لأنه قصد لإزالة الممحو. وحظ العبد منه ظاهر. قال الشيخ أبو القاسم: من عرف أنه تعالي عفو، طلب عفوه، ومن طلب عفوه، تجاوز عن خلقه، فإن الله تعالي بذلك أدبهم،

وإليه ندبهم، فقال عز من قائل:} وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم {. وإن الكريم إذا عفا، حفظ قلب المسئ عن الاستيحاش بتذكره سوء فعله، بل يزيد عنه تلك الخجلة بما يسبل عليه من ثوب العفو، ويفيض عليه من ذيول الصفح، وعفو الله تعالي عن العباد ليس مما يستقصي بالعبارات كنه معإنيه. وروى أن بعضهم قال في آخر مجلس له. اللهم اغفر لأقسانا قلبا، وأجمدنا عينا، وأقربنا بالمعصية عهدا، وكان حاضر المجلس مخنثا، فقال: أعد هذه الدعاء فإني أقساكم قلبا، وأجمدكم عينا، وأقربكم بالمعاصي عهدا، قال: فرأيت في الليلة الثانية في المنام رب العزة يقول: سرني حيث أوقعت الصلح بيني وبين عبدي، وقد غفرت لك ولأهل مجلسك. ((الرءوف)) ذو الرأفة، وهي شدة الرحمة، فهو أبلغ من الرحيم بمرتبة، ومن الراحم بمرتبتين. وقيل: الفرق بين الرأفة والرحمة، أن الرأفة إحسان مبدأه شفقة المحسن، والرحمة إحسان مبدأه فاقة المحسن إليه. قال الشيخ أبو القاسم: ومن رحمته بعباده أن يصونهم عن موجبات عقوبته، فإن عصمته عن الزلة أبلغ في باب الرحمة من غفران المعصية، ومن رحمته بعبده أن يصونه عن ملاحظة الأغيار والاعتلال، ورفع الحوائج إلي الأمثال والأشكال، بصدق الرجوع إلي الملك الجبار، وبحسن الاستغناء به في جميع الأحوال. وقال رجل لآخر: ألك حاجه؟ فقال: لا حاجة لي إلي من لا يعلم حاجتي. وأن الله تعالي ربما يدني العبد من المحبة، ثم يجري عليه بعد يأسه بفتح باب الرحمة، قال الله تعالي:} وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته {،وإذا كانت الحسنى بعد اليأس كان أوجب للسرور والاستئناس. وعن بعضهم: أنه كان في جيرانه رجل شرير فمات، فرفعت جنازته، قال: فتنحيت من الطريق؛ لئلا يحتاج إلي الصلاة عليه، فرؤى في المنام علي حالة حسنة، فقال له الرائى: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وقال: قل لفلان:} لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق {. ((مالك الملك)) هو الذي ينفذ مشيئته في ملكه، يجري الأمور فيه علي ما يشاء، لا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه. ((ذو الجلال والإكرام)) هو الذي لا شرف ولا كمال إلا وهو له، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي منه. قال الشيخ أبو القاسم: جلاله، وكبرياؤه، وعلوه، وبهاؤها كونه الحق بالوصف الذي يحق له العز والإكرام، قريب من معنى الإنعام، إلا أنه أخص؛ لأنه ينعم علي من لا يقال أكرمه، ولكن لا يكرم إلا من يقال أنعم عليه. ومن عرف جلاله تذلل وتواضع له، ومن

المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، ـــــــــــــــــــــــــــــ عرف إكرامه لا يشكر غيره، فإذا كان الحق ينعم، والعبد يشكر غيره، وهو يرزق والعبد يخدم غيره، وهو يعطي والعبد يسأل غيره، فقد أخطأ طريق الرشد، وسلك سوء الطريق. ((المقسط)) الذي ينتصف للمظلومين، ويدرأ بأس الظلمة عن المستضعفين، يقال: قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل وأزال الجور. وحظ العبد منه: أن يتجنب الظلم رأسا أولا علي نفسه، ثم علي غيره، ويسعى لوجه الله في إماطته حسب منته وطاقته، حتى يكون من المسلمين بطاعته، ومن المستوجبين لمحبته. ((الجامع)) هو المؤلف بين أشتات الحقائق المختلفة والمتضادة، متحاورة وممتزجة في الأنفس والآفاق، ويستجمع للحشر الأجزاء المتفرقة المتبددة، ويعيد من تأليفها الأبدان كما كان. ثم يجمع بينها وبين أرواحها المفرقة، فيحييها، ثم يجمعهم للجزاء في موقف الحساب. فمن جمع بين العلم والعمل، ووافق الكمالات النفسإنية بالآداب الجسمإنية، فله حظ من ذلك. قال الشيخ أبو القاسم: وقد يجمع الله اليوم قلوب أوليائه إلي شهود تقديره، حتى يتخلص من أسباب التفرقة فيطيب عيشه؛ إذ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فلا يرى الوسائط، ولا ينظر إلي الحادثات إلا بعين التقدير، إن كان نعمة علم أن الله هو المعطي لها، وإن كان شدة علم أن الله هو الكاشف لها ومزيجها. وأنشد: فلا ألبس الدنيا وغيرك ملبسى ... ولا أقبل الدنيا وغيرك واهبى ((الغني)) هو الذي يستغني عن كل شيء لا يحتاج إليه في ذاته، ولا في شيء من صفاته؛ لأنه الجامع من جميع جهاته. ((المغني)) هو الذي وفر علي كل شيء ما يحتاج إليه حسب ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، فأغناه من فضله. والعبد إذا قطع الطمع عما في أيدي الناس، وأعرض عن السؤال عنهم، والتوقع منهم رأسا بحيث لم يبق له حاجة إلا إلي الله، وسعى في سد خلة المحتاجين فاز بحظ أوفر من هذين الاسمين، مع أنهما علي الإطلاق لا يصدقان إلا علي الله تعالي. قال الشيخ أبو القاسم: إن الله تعالي يغني عباده بعضهم عن بعض علي الحقيقة؛ لأن الحوائج لا تكون إلا إلي الله، فمن أشار إلي الله تعالي، ثم رجع عند حوائجه إلي غير الله ابتلاه الله تعالي بالحاجة إلي الخلق، ثم ينزع الرحمة من قلوبهم، ومن شهد محل افتقاره إلي الله تعالي فرجع إليه بحسن العرفان أغناه من حيث لا يحتسب، وأعطاه من حيث لا يرتقب. وإغناء الله العباد علي قسمين، منهم من يغنيه بتنمية أمواله، ومنهم من يغنيه بتصفية أحواله، وهذا هو المغني الحقيقي. ((المانع)) هو الذي يمنع أسباب الهلاك، والنقصان في الأبدان والأديان، ولما كان المنع من

مقدمات الحفظ أعني حفظ ما يفضي إلي الفساد، ويؤدي إلي الهلاك، صار كونه مانعا من مقدمات كونه حفيظا. قال الشيخ أبو القاسم: المانع في وصفه تعالي يكون بمعنى منع البلاء عن أوليائه، ويكون بمعنى منع العطاء عمن شاء من عباده وأوليائه وأعدائه. وقد يمنع المنى والشهوات من نفوس العوام، ويمنع الإرادات والاختيارات عن قلوب الخواص، ويمنع الشبه عن القلوب، والبدع من العقائد، والمخالفات في الأوقات، والزلل من النفوس، وهو من أجل النعم التي يخص بها عباده المقربين، ويكرم بها أولياءه المنتجيين، جعلنا الله من جملتهم وحشرنا في زمرتهم، ويرحم الله عبدا قال: آمينا. ((الضار النافع)) اعلم أن مجموع الوصفين كوصف واحد، وهو الوصف بالقدرة التامة الشاملة، فهو الذي يصدر عنه النفع والضر، فلا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر إلا وهو صادر عنه، منسوب إليه، إما بواسطة أو بغير واسطة. قال الشيخ أبو القاسم: وفي معنى الوصفين إشارة إلي معنى التوحيد، وهو أنه لا يحدث شيء في ملكه إلا بإيجاده، وحكمه وقضائه، وإرادته ومشيئته، فمن استسلم بحكمه عاش في راحة، ومن آثر اختياره وقع في كل آفة، وقد ورد ((أنا الله لا إله إلا أنا، من استسلم لقضائي، وصبر علي بلائي، وشكر نعمائي؛ فليطلب ربا سواي)). وإذا عرف العبد ذلك فوض الأمور إليه، وعاش في راحة من الخلق، والخلق في راحة منه، فيبذل النصح من نفسه، ولم يستشعر الغش والخيانة لغيره، وورد ((اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإن فيهم غضبي))،وإن رحمة الحق تعالي بالعبد أتم من رحمة بعضهم لبعضهم. ((النور)) هو الظاهر بنفسه، المظهر لغيره، ولا شك في أن الوجود إذا قوبل بالعدم، كان الظهور للوجود، والخفاء للعدم، ولما كان الباري تعالي موجودا بذاته، مبرأ عن ظلمة العدم، وإمكان طروئه، وكان وجود سائر الأشياء فائضا عن وجوده، صح إطلاق لفظ النور عليه. وحظ العبد منه أن يضئ قلبه بنور معرفته، فإن انشراح القلب وإضاءته بالمعرفة، كما قال تعالي:} ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور {. قال الشيخ أبو القاسم: الله نور السموات والأرض، ينور الآفاق بالنجوم والأنوار، والقلوب بفنون الدلائل، وصنوف الحجج والملاطفات، والأبدان بآثار الطاعات؛ لأن العبادات زينة النفوس والأشباح، والمعارف زينة القلوب والأرواح، والتأييد بالموافقات نور الظواهر، والتوحيد بالمواصالات نور السرائر، وإن الله تعالي يزيد قلب العبد نورا علي نور، يهدي الله لنوره من

يشاء، ويهدي القلوب إلي محاسن الأخلاق ليؤثر الحق ويصطفيه، ويترك الباطل ويدع ما يستدعيه. ((الهادي)) هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والذي هدى خاصة عباده إلي معرفة ذاته، فاطلعوا بها علي معرفة مصنوعاته، وهدى عامة خلقه إلي مخلوقاته حتى استشهدوا بها علي معرفة ذاته وصفاته. والمحظوظ في هذا الاسم من الناس من أرشد الخلق إلي الحق القويم، وهداهم إلي الصراط المستقيم، وهم الأنبياء، ثم العلماء الوارثون لهم. قال الشيخ أبو القاسم: يهديهم ربهم، يكرم قوما بما يلهمهم من جميل الأخلاق، ويصرف قلوبهم إلي ابتغاء ما فيه رضاه، ويهديهم إلي استصغار قدر الدنيا، واستحقار كرائمها، حتى لا يسترقهم ذل الأطماع، ولا تستعبدهم أخطار المستحقرات، فلا يتدنسون بالركون إلي كل خسيسة، ولا يتلبسون بتعاطي كل نفيسة،} ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة {.والهداية إلي حسن الخلق ثإني الهداية إلي اعتقاد الحق؛ لأن الدين شيئان، صدق مع الحق، وخلق مع الخلق. ((البديع)) المبدع وهو الذي أتى بما لم يسبق إليه. وقيل: هو الذي لم يعهد مثله. والله سبحانه وتعالي هو البديع مطلقا بالمعنيين، أما الأول فظاهر، وأما الثاني؛ فلأنه لا مثل له في ذاته ولا نظير له في صفاته وأفعاله، ومرجعه بالمعنى الأول إلي صفات الأفعال، وبالمعنى الثاني إلي صفات التنزيه. وحظ العبد منه: أن يتأمل عجائب صنعه ليرى غرائب حكمته، وليحقق كمال قدرته، وأنه هو المبدع وحده، وكل من أبدع شيئا خلاف ما أبدعه فهو مبتدع، فلا تتبعه. قال الشيخ أبو القاسم: ومن آداب من عرف هذا الاسم لله: أن يجتنب البدعة، ويلازم السنة، والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، قال تعالي:} فليحذر الذين يخالفون عن أمره {وقال:} وإن تطيعوه تهتدوا {.وقال أبو عثمان الحيرى: من أمر السنة علي نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى علي نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة. وقال سهل بن عبدالله التستري: أصول مذهبنا ثلاثة: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال وصدق المقال، وإخلاص النية في جميع الأعمال. وقال أيضل: من داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن، ومن ضحك إلي مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه. وسمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: من استهان بأدب من آداب الإسلام عوقب بحرمان السنة، ومن ترك سنة عقوب بحرمان الفريضة، ومن استهان بالفرائض قيض الله مبتدعا يذكر عنده باطلا، فيوقع في قلبه شبهة. وفقنا الله لمتابعة السنة، وعصمنا من اتباع البدعة.

الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور)).رواه الترمذي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2288] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الباقي)) الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء. قال الشيخ أبو القاسم: حقيقة الباقي من له البقاء، ولا يجوز أن يكون الباقي باقيا ببقاء في غيره. ومما يجب أن يشتد العناية به: أن يتحقق العبد أن المخلوق لا يجوز أن يكون متصفا بصفات الحق تعالي؛ فلا يجوز أن يكون العبد عالما بعلم الحق، ولا قادر بقدرته، ولا سميعا بسمعه، ولا بصيرا ببصره، ولا باقيا ببقائه؛ لأن الصفة القديمة لا يجوز قيامها بالذات الحادثة، كما لا يجوز قيام الصفة الحادثة بالذات القديمة. وحفظ هذا الباب أصل التوحيد، وإن كثيرا ممن لا تحصيل له ولا تحقيق زعموا: أن العبد يصير باقيا ببقاء الحق، سميعا بسمعه، بصيرا ببصره. وهذا خروج عن الدين وانسلاخ عن الإسلام بالكلية، وربما تعلقوا في نصرة هذه المقالة الشنيعة بما روى في الخبر ((فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا، فبي يسمع وبي يبصر)).ولا احتجاج لهم في ظاهره، إذ ليس فيه أنه يسمع بسمعي، ويبصر ببصري، بل قال: بي يسمع))،قال النصر آبادى: الله تعالي باق ببقائه، والعبد باق بإبقائه. ولقد حقق رحمه الله وحصل، وأخذ عن نكتة المسألة وفصل. ((الوارث)) الباقي بعد فناء الموجودات، فترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك، وهذا بالنظر العامى، وأما بالنظر الحقيقي: فهو المالك علي الإطلاق من أزل الآزال إلي أبد الآباد، لم يتبدل ملكه ولا يزال، كما قيل: الوارث الذي يرث بلا توريث أحد، الباقي الذي ليس لملكه أمد. ((الرشيد)) الذي تنساق تدابيره إلي غاياتها علي سنن السداد، من غير استشارة وإرشاد. وقيل: هو المرشد، فعيل بمعنى مفعل، كالأليم والوجيع. والرشيد من العباد من هدى إلي التدابير الصائبة فيما يعن له من مقاصد الدين والدنيا، فيتبع مقتضى العقل والشرع، ويتجنب الهوى والطبع، لتصير آراؤه مصونة عن الخطر والزلل، وأفعاله مأمونة عن الفساد والخطل. قال الشيخ أبو القاسم: إرشاد الله لعبده هدايته لقلبه إلي معرفته، هذا هو الإرشاد الأكبر الذي خص به أولياءه من المؤمنين، ثم إنه تعالي أرشد نفوس الزاهدين إلي طريق طاعته، وقلوب العارفين إلي سبيل معرفته، وأرواح الواحدين إلي حقيقة محبته، وأسرار الموحدين إلي

تطلع قربته. وأمارة من يرشده الحق لإصلاح نفسه أن يلهممه حسن التوكل عليه، وتفويض أموره بالكلية، واستخارته إياه في كل خطب، واستجارته به في كل شغل. فإن رجع بعد ما أرشده الله إلي ذاك عاتبه الله بما يعلم أنه كان منه سوء أدب، حنى يعود إلي سكونه، وترك اختياره واحتياله. حكى أن إبراهيم بن أدهم جاع يوما، فأخرج شيئا كان معه، وأمر أن يرهن ويؤتى بشيء يأكله، فخرج الرجل، فاستقبله إنسان بين يديه بغلة موقرة طالبا إبراهيم بن أدهم، قال الرجل فقلت له: ما تريد منه؟ فقال: أنا غلام أبيه، وهذه الأشياء له، فدللته عليه، فدخل المسجد، وقال: أنا غلام أبيك ومعي أربعون ألف دينار ميراثا لك من أبيك. فقال: إن كنت صادقا فأنت حر لوجه الله، والذي معك كله وهبته منك، انصرف عني. فلما خرج، قال: يارب كلمتك في رغيف، فصببت علي الدنيا صبا! فوحقك لئن أمتني لم أتعرض بعده لطلب شيء. ((الصبور)) هو الذي لا يستعجل في قوله مؤاخذة للعصاة، ومعاقبة المذنبين. وقيل: هو الذي لا تحمله العجلة علي المسارعة إلي الفعل قبل أوانه، وهو أعم من الأول. والفرق بينه وبين الحليم: أن الصبور يشعر بأنه يعاقب بالآخرة بخلاف الحليم. وأصل الصبر حبس النفس عن المراد، فاستعير لمطلق التإني في الفعل. والعبد إذا حبس نفسه عما تدعو إليه القوى، وصبر علي مضض الطاعات، وترك الشهوات، حتى يترقى إلي جناب القدس، ومحل الكرامة والأنس فاز بالحظ الأوفي من هذا الإسم. قال الشيخ أبو القاسم: رتبة العباد في الصبر علي أقسام: أولها التصبر، وهو تكلف الصبر، ومقاساة الشدة فيه، وبعد ذلك الصبر وهو سهولة تحمل ما يستقبله من فنون القضاء وصنوف البلاء وبعد ذلك الاصطبار، وهو النهاية في الباب، ويكون ذلك بأن يألف الضر فلا يجد مشقة بل يجد روحا وراحة. قال: تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلي الصبر وقيل: من شرط الصبر أن لا يتنفس بخلاف الإذن تحت جريان حكمه. وقيل: حقيقة الصبر تجرع البلاء من غير تعبس. وقيل: ينبغي أن يكون الصابر في حكمه، كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء. هذا، وإن المحققين من العلماء والراسخين منهم، قد صنفوا فيها مصنفات جمة ذات ذيول وأطراف، ولخصها القاضي تلخيصا غريبا، وكان أجمع للمقصود، وأشمل في المغزى، فآثرنا إيراده من غير تغيير، وأضفنا إليه من كلام الشيخ أبي القاسم القشيري مما لم يورده اختصارا لمعنى دعا إليه. فإن قلت: قد سبق عن الشيخ التوربشتي: أن فائدة التأكيد بقوله: ((مائة إلا واحدة))

لقوله: ((تسعة وتسعين)) أن لا يزاد فيها ولا ينقص، وإنا نجد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أسماء سوى ما في هذا الحديث، ومما دل عليه الكتاب: الرب، الأكرم، الأعلي، أحكم الحاكمين، أرحم الراحمين، أحسن الخالقين، الحافظ، الخلاق، ذو الفضل، ذو الطول، ذو القوة، ذو المعارج، ذو العرش، رفيع الدرجات، ((الساتر، الستار))،العادل، العالم، العلام، غافرالذنب، الغالب، القاهر، الفاطر، الفالق، الفعال لما يريد، قابل التوب، القدير، فإني قريب، القاهر، الكافي، المنير، المحيط، المليك، المولي، مخرج الحي، النصير. ومما وردت به السنة: المقيت، والقريب بدل الرقيب، المبين بدل المتين، كذا ذكره النواوي في الأذكار. وورد في السنة: الحنان، المنان، ونجد مثال ذلك في أحاديث. وروي هذا الحديث الإمام محمد بن يزيد بن ماجه، كما رواه البخاري ومسلم، وعد الأسماء كما عدها الترمذي إلا أن فيها زوائد وتبديلا واختلافا، فأردت أن أذكر تلك الرواية لتحيط بها أيضا، وهي هذه: هو الله، الواحد، الصمد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الخالق، البارئ، المصور، الملك، الحق، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الخبير، السلام، البصير، العليم، العظيم، البار، المتعالي، الجليل، الجميل، الحي، القيوم، القادر، القاهر، العالي، الحكيم، القريب، المجيب، الغني، الوهاب، الودودـ، الشكور، الماجد، الوالي، الراشد، الحليم، الكريم، التواب، الرب، المجيد، الولي، الشهيد، المبين، البرهان، الرؤوف، المبدئ، المعيد، الباعث، الوارث، القوي، الشديد، الضار، النافع، الباقي، الواقي، الخافض، الرافع، القابض، الباسط، المعز، المذل، المقسط، الرزاق، ذو القوة، المتين، القائم، الدائم، الحافظ، الوكيل، الناظر، السامع، المعطي، المانع، المحيي، المميت، الجامع، الهادي، الكافي، الأبد، العالم، الصادق، النور، المنير، التام، القديم، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. قلت: قد أوقع صلى الله عليه وسلم دخول الجنة جزاء للشرط، أي الإحصاء، ثم أتبعه هذه الأسماء، وهو لا يدل علي أن الأسماء لا تزيد علي ما ذكر لغير هذه الخاصية. وتحريره أن من أحصى هذه الأسماء المحصورة دخل الجنة، ومن زاد عليها في غير هذا النص زاد ثوابه، وارتفعت درجاته في الجنة. وما قيل في الجواب: إنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) الحصر، ونفي ما يزيد عليها، بل أراد تخصيصها بالذكر؛ لكونها أشهر لفظا، وأظهر معنى- لا يتم جوابا ولا يدفع التناقص، والله أعلم.

2289 - وعن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك بأنك الله أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: ((دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) رواه الترمذي، وأبو داود. [2289] 2290 - وعن أنس، قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، ياذا الجلال والإكرام! يا حي ياقيوم، أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعا الله باسمه الأعظم الذيإذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى،)) رواه الترمذي، وأبو داود. [2290] 2291 - وعن أسماء بنت يزيد ((رضي الله عنها)):أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين:} وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم {،وفاتحة ((آل عمران)):} آلم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم {)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدرامي. [2291] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلي الرابع عن بريدة: قوله: ((دعا الله باسمه الأعظم)) ((مظ)):قيل الأعظم هنا بمعنى العظيم، وليس أفعل التفضيل؛ لأن جميع أسمائه عظيم، وليس بعضها أعظم من بعض. وقيل: بل هو للتفضيل؛ لأن كل اسم فيه أكقر تعظيما لله، فهو أعظم، فالرحمن أعظم من الرحيم، والله أعظم من الرب، فإنه لا شريك في تسميته به لا بالإضافة ولا بدونها، وأما الرب فيضاف إلي المخلوقات، كما يقال: رب الدار. وفي لباب شرح السنة: في هذا الحديث دلالة علي أن لله تعالي اسما أعظم، إذا دعي به أجاب، وأن ذلك هو المذكور فيها، وهو حجة علي من قال: ليس الاسم الأعظم اسما معينا،

2292 - وعن سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة ذي النون إذا دعا ربه وهو في بطن الحوت} لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين {،لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلا استجاب له)) رواه أحمد، والترمذي. [2292] الفصل الثالث 2293 - عن بريدة ((رضي الله عنه))، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عشاء، فإذا رجل يقرأ، ويرفع صوته، فقلت: يارسول الله! أتقول: هذا مراء؟ قال: بل مؤمن منين)).قال: وأبو موسى الأشعري يقرأ، ويرفع صوته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته، ثم جلس أبو موسى يدعو، فقال: اللهم إني أشهدك أنك أنت ـــــــــــــــــــــــــــــ بكل اسم ذكر بإخلاص تام مع الإعراض عما سوى الله هو الاسم الأعظم، لأن شرف الاسم بشرف المسمى، لا بواسطة الحروف المخصوصة. وأقول: ولناصر هذا الحديث أن يقول: سترد أحاديث مختلفة، فيها أسام لم تذكر في هذا الحديث، قيل في كل منها: إنه الاسم الأعظم، فصح قول من قال: إنه أفعل ليس للتفضيل، بل هو لمطلق الزيادة، نعم! قد ذكر في كل منه لفظ الله تعالي، فإذا استدل بذلك علي أنه الاسم الأعظم استقام وصح. فإن قلت ما الفرق بين قوله: ((إذا سئل به أعطى)) وبين قوله: ((إذا دعي به أجاب))؟ قلت القإني أبلغ، فإن إجابة الدعاء تدل علي شرف الداعي، ووجاهته عند المجيب، فيتضمن أيضا قضاء حاجته، بخلاف السؤال، فإنه قد يكون مذموما، ولذلك ذم السائل في كثير من الأحاديث، ومدح المتعفف عنه، علي أن في الحديث فضل دلالة علي فضل الدعاء علي السؤال. الفصل الثالث الحديث الأول عن بريدة: قوله: ((أتقول: هذا مراء؟)) أي أتعتقد أو أتحكم، وفي رواية شرح السنة ((أتراه مرائيا))،وإنما أجاب بقوله: ((بل مؤمن منيب))؛لأن المرائيين حينئذ أكثرهم منافقون، وفي الإضراب إنكار علي السؤال. وقوله: ((وأبو موسى يقرأ)) حال من فاعل ((قال))،

(3) باب ثواب التسبيح والتحميد

الله، لا إله إلا أنت، أحدا صمدا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحدا، فقال رسوال الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) قلت: يارسول الله! أخبره بما سمعت منك؟ قال: ((نعم)).فاخبرته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أنت اليوم لي أخ صديق، حدثتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه رزين [2293]. (3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير الفصل الأول 2294 - عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).وفي رواية: أحب الكلام إلي ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتقدير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أن أبا موسى يقرأ، ويؤيد هذا التأويل رواية شرح السنة بعد هذا، فعلم من ذلك أن الرجل في صدر الحديث هو أبو موسى، وفي رواية شرح السنة ((قال بل هو مؤمن منيب)). عبد الله بن قيس، أو أبي موسى قوله: ((أحدا صمدا)) منصوبان علي الاختصاص، لقوله تعالي:} شهد الله أنه لا إله إلا هو- إلي قوله- قائما بالقسط {. وفي شرح السنة: مرفوعان معرفتان صفتان لله. وفي الحديث دليل علي أن من رأي أو سمع في حق أخيه المسلم ما يسره من أمور الدين، يجب عليه إعلامه ليؤدي حق الأخوة. باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير الفصل الأول الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((أفضل الكلام أربع)) ((مح)):هذا محمول علي كلام البشر، وإلا فالقرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، وأما المأثور في وقت، أو حال ونحو ذلك، فالاشتغال به أفضل. ((قض)):الظاهر أن المراد من الكلام كلام البشر، فإن الثلاث الأول وإن

الله أربع، سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت)) رواه مسلم [2294]. 2295 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول: سبحان الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وجدت في القرآن، لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه علي ما هو فيه؛ ولأنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الذكر بعد كتاب الله: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))،والموجب لفضلها اشتمالها علي جملة أنواع الذكر، ومن التنزيه، والتحميد، والتمجيد، والتوحيد، ودلالتها علي جميع المطالب الإلهية إجمالا. وهذا النظم وإن لم يتوقف عليه المعنى المقصود؛ لاستقلال كل واحدة من الجمل الأربع، ولذلك جاء في رواية ((لا يضرك بأيهن بدأت)) لكنه حقيق بأن يراعي؛ لأن الناظر المتدرج في المعارف يعرفه سبحانه أولا بنعوت الجلال التي هي تنزيه ذاته عما يوجب حاجة أو نقصا. ثم بصفات الإكرام، وهي الصفات الثبوتية التي بها يستحق الحمد، ثم يعلم أن من هذا شأنه لا يماثله غيره، ولا يستحق الألوهية سواه، فيكشف له من ذلك أنه أكبر، إذ كل شيء هالك إلا وجه، له الحكم، وإليه ترجعون. أقول: قوله: ((لا يضرك)) بعد إيراد الكلمات علي النسق والترتيب يشعر بأن العزيمة أن يراعي الترتيب، والعدول عنه رخصة ورفع للجناح، روي عن مالك بن أنس: أن الباقيات الصالحات هي هذه الكلمة، ولعله صلوات الله عليه قد خصها بالباقيات الصالحات؛ لكونها جامعات للمعارف الإلهية، فالتسبيح تقديس لذاته عما لا يليق بجلاله، وتنزيه لصفاته من النقائص، والتحميد منبه علي معنى الفضل والإفضال من الصفات الذاتية والإضافية، والتهليل توحيد للذات، ونفي للضد والند، وتنبيه علي التبري عن الحول والقوة إلا به، واختتامها بالتكبير اعتراف بالقصور في الأفعال والأقوال. قال: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك)).وفي هذا التدرج لمعة من معنى العروج للسالك العارف. وتسميتها بالباقيات الصالحات؛ لما أنه تعالي قابلها بالفإنيات الزائلات أعني ((وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)) الآية، وخص منها ما هو العمدة فيها، ويحصل منه تزيين المجالس، والتفاخر في المحافل من المال والبنين، وجعلها خير منها ثوابا وخير مؤمل. ((حس)):يحتج بهذا الحديث من يذهب إلي أن من حلف أن لا يتكلم اليوم، فسبح أو كبر، أو هلل، أو ذكر الله أنه يحنث؛ لأن الكل كلام، وهو قول بعض أهل العلم، وذهب قوم إلا أنه لا يحنث إلا أن يريده بنيته. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في ((يوم)) مطلق، لم يعلم في أي

الحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليا مما طلعت عليه الشمس)) رواه مسلم. [2295] 2296 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) متفق عليه. 2297 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)) متفق عليه. 2298 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان علي اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلي الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقت من أوقاته، لا يقيد بشيء منها. قوله ((مثل زبد البحر)) هذا وأمثاله نحو ((ما طلعت عليه الشمس)) كنايات، عبر بها عن الكثرة عرفا. ((مح)):ظاهر الإطلاق يشعر بأنه يحصل هذا الأجر المذكور لمن قال ذلك مائة مرة في يومه، سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس، أو بعضها أول النهار وبعضها آخره، لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو زاد عليه)) ((مح)):فيه دليل علي أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم، كان له هذا الأجر المذكور والزيادة عليه، وليس هذا من التحديد الذي نهي عن اعتدائها، والمجاوزة عن أعدادها، وأن زيادتها لأفضل فيها، أو يبطلها كالزيادة في عدد الطهارة، وعد ركعات الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالزيادة ما أتى من أعمال الخير، لا من نفس التسبيح. أقول: والاستثناء قوله: ((إلا أحد)) منقطع، فالتقدير: لم يأت أحد بأفضل مما جاء، ولكن رجل قال مثل ما قاله، فإنه يأتي بمساو له، ولا يستقيم أن يكون متصلا إلا علي التأويل. نحو قول الشاعر: وبلدة ليس بها إنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((كلمتان خفيفتان)) الخفة مستعارة للسهولة، شبه سهولة جريان الكلمتين علي اللسان بما يخف علي الحامل من بعض الأمتعة،

2299 - وعن سعد بن أبي وقاص. قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟)) فسأل سائل، من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له مائة حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)) رواه مسلم. وفي كتابه: في جميع الروايات عن موسى الجهني: ((أو يحط))، قال أبو بكر البرقإني: ورواه شعبة، وأبو عوانة، ويحيي بن سعيد القطان عن موسى، فقالوا: ((ويحط)) بغير ألف. هكذا في كتاب الحميدي. 2230 - وعن أبي ذر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل؟ قال: ((ما اصطفي الله لملائكته سبحان الله وبحمده)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يتعبه كالشيء الثقيل، فذكر المشبه به وأراد المشبه، وأما الثقل فعلي الحقيقة عند علماء أهل السنة؛ إذ الأعمال تتجسم حينئذ، والخفة والسهولة من الأمور النسبية فهما مختصران من قوله: ((سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله، والله أكبر)) فتدبر. وفيه حث علي المواظبة عليها، وتحريض علي ملازمتها، وتعريض بأن سائر التكاليف صعبة شاقة علي النفس ثقيلة، وهذه خفيفة سهلة عليها، مع أنها تثقل في الميزان ثقل غيرها من التكاليف، فلا يتركوها إذا. روى في الآثار أنه سئل عيسى عليه السلام: ما بال الحسنة تثقل، والسيئة تخف؟ فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها، وغابت حلاوتها، فلذلك ثقلت عليكم، فلا يحملنكم ثقلها علي تركها، فإن بذلك ثقلت الموازين يوم القيامة،، والسيئات حضرت حلاوتها، وغابت مرارتها، فخفت عليكم، فلا يحملنكم علي فعلها خفتها، فإن بذلك خفت الموازين يوم القيامة. الحديث السادس عن سعد: قوله: ((وفي كتابه)) إلي آخر الفصل مذكور في شرح صحيح مسلم. أقول: يختلف معنى الواو وأو إذا أريد به أحد الأمرين، وأما إذا أريد به التنويع. فهما سيان في القصد. الحديث السابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((اصطفي الله لملائكته)) لمح به إلي قوله تعالي:} ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك {،ويمكن أن تجعل هذه الكلمة مختصرة من قوله: ((سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) لما سبق أنه سبحان الله)) تنزيه

2301 - وعن جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلي الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، قال: ((مازلت علي الحال التي فارقتك عليها؟)) قالت: نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لذاته عما يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى قوله ((لا إله إلا الله))، وقوله ((وبحمده)) صريح في معنى ((والحمدلله صلى الله عليه وسلم))؛لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ومستلزم لمعنى ((والله أكبر))؛لأنه إذا كان كل الفضل والإفضال لله ومن الله، وليس من غيره، فلا يكون أحد أكبر منه. فإن قلت: يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل. قلت: لا يلزم ذلك؛ إذ التهليل تصريح في التوحيد، والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول: ((لا إله إلا الله)) نفي لمصححهما من الخالقية والرازقية وكونه مثيبا ومعاقبا من الغير، وقوله: ((إلا الله)) إثبات له، يلزم من ذلك ما نفي ما يضاد الإلهية ويخالفها من النقائض، فمنطوق ((سبحان الله)) تنزيه، ومفهومه توحيد، ومنطوق ((لا إله إلا الله)) توحيد، ومفهومه تقديس، فإذا اجتمعا دخلا في أسلوب الطرد والعكس، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الحديث الثامن عن جويرية، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيها الحارث بن ضرار: قوله: ((في مسجدها)) أي موضع سجودها للصلاة بعد أن أضحى، أي دخل في الضحى. و ((أربع كلمات)) نصب علي المصدر، أي تكلمت بعد مفارقتك أربع كلمات. قوله: ((لوزنتهن)) ((تو)):أي ساوتهن، أي لو قوبلت بما قلت لساوتهن، ويحتمل أن يراد الرجحان، أي رجحت عليهن في الوزن، كما تقول: حاججته فحججته، أي غلبته في الحجة، أعاد الضمير إلي ما يقتضيه المعنى لا إلي لفظه ((ما)) في قوله: ((ما قلت))،وفيه تنبيه علي أنها كلمات كثيرة، و ((اليوم)) في قوله: ((منذ اليوم)) مجرور، وهو الاختيار. ((شف)):وقوله: ((عدد خلقه)) وكذلك ما بعده نصب علي المصدر، أي سبحته تسبيحا يساوي خلقه عند التعداد، وزنة عرشه، ومداد كلماته في المقدار، ويوجب رضي نفسه، أو يكون ما يرتضيه لنفسه. ((مظ)): ((عدد خلقه)) منصوب علي المصدر، أي أعد تسبيحه وتحميده بعدد خلقه، وبمقدار ما يرضاه خالصا، وبثقل عرشه، ومقداره، وبمقدار كلماته. ((تو)): ((زنة عرشه)) ما يوازنه في القدر والرزانة، يقال: هو زنة الجبل أي حذاؤه في الثقل، والوزانة المداد، مصدر، تقول: مددت الشيء أمده مدا ومدادا. وقيل: يحتمل أن يكون جمع مد- بالضم- أي

2302 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)) متفق عليه. 2303 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأيها الناس! أربعوا علي أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا، وهو معكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ مكيال، فإنه يجمع علي مداد، وكلمات الله علمه، وقيل: كلامه، وقيل: يراد به القرآن، وذكر العدد علي المجاز مبالغة بالكثرة؛ لأنها لا تتعدد ولا تنحصر. ((مح)) فيه ترقى. أقول: قوله: ((أربع كلمات)) يقتضي تقدير الناصب في كل من المنصوبات؛ إذ الكلمات خمس، كأنه قيل: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، وسبحان الله وبحمده رضي نفسه، وهلم جر. فإن قلت: كيف أصرح في القرينة الأولي بالعدد، وفي الثالثة بالزنة، وعزل الثانية والرابعة عنهما؟ قلت: ليؤذن بأنهما لا يدخلان في جنس المعدود والموزون، ولا يحصرهما المقدار لا حقيقة ولا مجازا، فيحصل الترقي حينئذ من عدد الخلق إلي رضي الله، ومن زنة العرش إلي مداد الكلمات. الحديث التاسمع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((محيت عنه مائة سيئة)) ((مح)):جعل في هذا الحديث التهليل ماحيا للسيئات مقدارا معلوما، وفي حديث التسبيح جعل التسبيح ماحيا لها مقدار زبد البحر، فيلزم أن يكون التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل: ((ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به))؟ أجاب القاضي عياض: أن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل؛ لأنه جزاءه مشتمل علي محو السيئات، وعلي عتق عشر رقاب، وعلي إثبات مائة حسنة، والحرز من الشيطان. الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((أربعوا علي أنفسكم)) أي ارفقوا بها، يقال: أربع علي نفسك، أي انتظر، وقيل: المعنى أمسكوا عن الجهر وقفوا عنه،، من أربع الرجل بالمكان، إذا وقف عن السير وأقام. قوله: ((إنكم تدعون سميعا بصيرا)) كالتعليل لقوله: ((لا تدعون أصم))،وقوله: ((وهو معكم)) لقوله ((ولا غائبا)).فإن قلت: فما فائدة الزيادة في قوله: ((بصيرا))؟ قلت: السميع البصير أشد إدراكا وأكمل إحساسا من الضرير والأعمى.

والذي تدعونه أقرب إلي أحدكم من عنق راحلته. قال أبو موسى: وأنا خلفه أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله في نفسي، فقال: ((يا عبدالله بن قيس! ألا أدلك علي كنز من كنوز الجنة؟))، فقلت بلي يا رسول الله. قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) متفق عليه. الفصل الثاني 2304 - عن جابر، قال: قال رسول الله: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) رواه الترمذي [2304]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والذي تدعونه)) أقرب تمثيل لمعنى قرب القريب، والمبالغة فيه، فيكون ترقيا من قوله: ((وهو معكم)).قوله: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) ذكر في إعرابه وجوه خمسة في كتب النحو. ((تو)) الأصل في الحول تغيير الشيء وانفصاله عن غيره، فيفسر بالحالة, وهي ما يتوصل به إلي حيلة ما خفية. وقيل: الحيلة هي الحول, قلبت واوه ياء لانكسار ما قبلها، والمعنى لا توصل إلا تدبير أمر وتغيير حال إلا بمشيئتك ومعونتك. وقيل: الحول الحركة، يقال: حال الشخص إذا تحرك، فالمعنى لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله. ومعنى قوله: ((كنز من كنوز الدنيا)) أنه يعد لقائله، ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا؛ لأن من شأن الكانزين أن يسعدوا به، ويستظهروا بوجدان ذلك عند الحاجة. قوله: ((كنز من كنوز الجنة)) قد سبق مثل هذا التركيب أنه ليس باستعارة؛ لذكر المشبه وهو الحوقلة، والمشبه به وهو الكنز، ولا التشبيه الصرف؛ لبيان الكنز بقوله: ((من كنوز الجنة))؛بل هو من إدخال الشيء في جنس، وجعل أحد أنواعه علي التغليب ونحوه قوله تعالي:} لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم {فالكنز إذن نوعان: المتعارف. وهو المال الكثير يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، وغير المتعارف، وهي هذه الكلمة الجامعة المكتنزة بالمعإني الإلهية، كما أنها محتوية علي التوحيد الخفي؛ لأنه إذا نفيت الحيلة والحركة والاستطاعة عما من شأنه ذلك، وأثبتت لله علي سبيل الحصر وبإيجاده واستعانته وتوفيقه، لم يخرج شيء من ملكه وملكوته، ومن الدلالة علي أنها دالة علي التوحيد الخفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ((ألا أدلك علي كنز من الكنوز)) مع أنه كان يذكرها في نفسه، والدلالة إنما تستقيم علي ما لم يكن عليه، وهو أنه لم يعلم أنه توحيد خفي، وكنز من الكنوز، ولأنه لم يقل: ما ذكرته كنز من الكنوز، بل صرح بها وقال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) تنبيها له علي هذا السر، والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن الزبير رضي الله عنه قوله: ((صباح)) نكرة وقعت في سياق النفي،

2305 - وعن الزبير، قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صباح يصبح العباد إلا مناد ينادي: سبحوا الملك القدوس)) رواه الترمذي. [2305] 2306 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمدلله)) رواد الترمذي، وابن ماجه. [2306] ـــــــــــــــــــــــــــــ وضمت إليها ((من)) الإستغراقيو لإفادة الشمول، ثم جئ بقوله: ((يصبح)) صفة مؤكدة لمزيد من الشمول والإحاطة، كقوله تعالي:} وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه {الآية. قوله: ((سبحوا الملك القدوس)) ((مظ)):أي قولوا: سبحان الملك القدوس. أو ما في معناه من قوله: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. أقول: كأنه قيل: نزهوا عن النقائص من هو منزه عنها. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أفضل الذكر لا إله إلا الله)) قال بعض المحققين: إنما جعل التهليل أفضل الذكر؛ لأن لها تأثير في تطهير الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودات في باطن الذاكر، قال تعالي:} أفرأيت من اتخذ إلهه هواه {فيفيد نفي عموم الإلهية بقول: ((لا إله)) ويثبت الواحد بقوله: ((إلا الله)) ويعود الذكر من ظاهر لسانه إلي باطن قالبه، فيتمكن فيه ويستولي علي جوارحه. وجد حلاوة هذا من ذاق. وإطلاق الدعاء علي الحمد من باب المجاز، ولعله جعل أفضل الدعاء من حيث أنه دعاء لطيف يدق مسلكه، ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت حين خرج إلي بعض الملوك يطلب نائله: إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء أقول: يمكن أن يكون قوله: ((الحمدلله)) من باب التلميح والإشارة إلي قوله:} اهدنا الصراط المستقيم*صراط الذين أنعمت عليهم {وأي دعاء أفضل وأكمل وأجمع من ذلك! ونظيره قوله تعالي:} ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض وآتينا داود زبورا {الكشاف: قوله: ((وآتينا داود زبورا)) دلالة علي وجه تفضيل محمد صلوات الله عليه، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم؛ لأن ذلك مكتوب في الزبور، قال تعالي: ((ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)).ونظائر هذا كثيرة في التبيان. ((مظ)):إنما كان التهليل أفضل الذكر؛ لأنه لا يصح الإيمان إلا به، وإنما جعل ((الحمدلله))

2307 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبدا لا يحمده)). [2307] 2308 - وعن ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما دعي إلي الجنة ـــــــــــــــــــــــــــــ أفضل الدعاء؛ لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله، وأن يطلب منه حاجته، و ((الحمدلله)) تشملهما؛ فإن من حمد الله إنما يحمده علي نعمته،، والحمد علي النعمة طلب مزيد، قال تعالي:} لئن شكرتم لأزيدنكم {. الحديث الرابع عن عبدالله بن عمرو: قوله: ((الحمد رأس الشكر)) –الكشاف-:الحمد الثناء علي الجميل من نعمة وغيرها، تقول: حمدته علي إنعامه وعلي شجاعته، وأما الشكر فعلي النعمة خاصة، وهو بالقلب واللسان والجوارح، والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر. وإنما جعل رأسا؛ لأن ذكر النعمة باللسان، والثناء علي موليها أشيع لها وأدل علي مكانها من الاعتقاد، وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان، وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي، ويجلي عن كل مشتبه. وأقول: ولذلك صرح نبي الله داود وسليمان القول بالتحميد، وقصرا عليه، وكنيا عن أعمال الجوارح والقلب بالواو العاطفة في قوله تعالي:} ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمدلله {إذ التقدير: آتينا داود وسليمان علما، فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة، وقالا: الحمدلله، ونحن لما ذهبنا إلي أن ((الحمدلله)) أفضل الدعاء في الحديث السابق تلميحا إلي ما في الفاتحة، فتقول: إنما كان رأس الشكر؛ لأنه حكم رتب عليه الأوصاف الآتية إشعارا بالعلية، فيجعل اللام فيه للاستغراق؛ ليدل علي أن كل ثناء وشكر صدر عن المخلوقات من الملائكة، والثقلين وغيرهما، من ابتداء خلقتهم إلي الأبد لله تعالي؛ لأنه ربهم ومولي نعمهم جلائلها ودقائقها، وظاهرها وباطنها، ومالك أمورهم في العاقبة، فأي حمد أفضل وأعلي وأسنى منه؟ فطابق معنى الحمد معنى الدعاء في قوله: ((اهدنا الصراط المستقيم)) يعني حمدناك بما هو رأس الشكر, فأولنا ما هو أفضل، وهي الهداية إلي الصراط المستقيم. قوله: ((ما شكر الله عبد لم يحمده)) ((قض)):ولما جعل الحمد رأس الشكر، وأصله والعمدة فيه، حتى انعكس عليه، حتى انعكس عليه، لم يعتد بغيره من الشعب عند فقده، وكان التارك له كالمعرض عن الشكر رأسا. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في السراء والضراء)) هو عبارة عن

يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء)) رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)) [2308] 2309 - وعن أبس سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى عليه السلام: يارب! علمني شيئا أذكرك به، وأدعوك به، فقال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن، غيري، والأرضين السبع وضعن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله)) رواه في ((شرح السنة)). [2309] ـــــــــــــــــــــــــــــ جميع أحوال الإنسان، فالسراء من المسرة، والضراء من المضرة، والمقابلة بينهما من حيث المعنى؛ إذ المقابلة الحقيقية للسرور الحزن، وللضر النفع، فقوبل بينهما لمزيد التعميم والإحاطة، وهو أسلوب غريب في البديع. الحديث السادس عن أبس سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أذكرك به)) خبر مبتدأ محذوف استئنافا، أي أنا أذكرك، ولا يجزم جوابا للأمر لعطف قوله: ((أو أدعوك به)) ويجوز الجزم، وعطف ((أو أدعوك)) بالجزم علي منوال قوله ولسنا بالجبال ولا الحديدا. قوله: ((قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله)) فإن قلت: طلب موسى ما به يفوق علي غيره من الذكر أو الدعاء، فما مطابقة الجواب السؤال؟ قلت: كأنه تعالي قال: طلبت شيئا محالا؛ إذ لا ذكر ولا دعاء أفضل من هذا، إذ المطلوب من الذكر والدعاء الثواب، فلا ثواب أعظم من ثوابها. وفي إخراج ذاته تعالي من بين عمارها إشعار بأن لا غاية لثواب هذه الكلمة؛ إذ المعنى: أن ثواب هذه الكلمة، أو مدلولها لو وزنت بالسموات والملائكة القانطين فيها، والموكلين بحفظها، والأرضين السبع لترجحت، والزبدة والخلاصة منه: أنه لو وزنت بجميع الكائنات لرجحت، ولإرادة الاستيعاب، وأن المعنى به ما سوى الله استثناه بقوله: ((وعامرهن غيري)) وهذا الذي أردناه بالمحال. قوله: ((عامرهن)) العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة، والعمر اسم للمدة التي فيها عمارة البدن بالحياة، والعمرة الزيارة التي فيها عمارة الود. وقوله: ((إنما يعمر مساجد الله)) إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من

2310 - وعن أبي سعيد، وأبي هريرة ((رضي الله عنهما))، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر، صدقه ربه. قال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: لا إله إلا أنا، لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي)) وكان يقول: ((من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [2310] ـــــــــــــــــــــــــــــ قولهم ((عمرت بمكان كذا)) أي أقمت به. ((قض)):عامر الشيء حافظه، ومدبره، وممسكه من الخلل والانحلال، ولذك سمي الساكن والمقيم في البلدة عامره، وسمي زوار البيت عمارا. وفي الحديث علي المعنى الأعم الذي هو الأصل والحقيقة؛ ليصبح استثناؤه تعالي عنه، فإنه الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا بالحقيقة. أقول: لو حمل علي جميع مفهومات العمارة من الإصلاح، والمرمة، والحفظ والإمساك، والزيارة، والإقامة وغير ذلك لم يستبعد، فيكون من باب قوله:} إن الله وملائكته يصلون علي النبي {أو يكون ((غيري)) صفة لـ ((عامرهن))،وهذا أولي بسياق الحديث، وإرادة المبالغة منه. ((مظ)):قوله: ((غيري)) مشكل علي تأويل العامر بالساكن؛ فإن الله ليس بساكن فيها، فمعنى العامر- المصلح؛ لأنه تعالي مصلح للسموات والأرض ومن فيهن، والملائكة في السموات مصلحوها بالسكون، وأهل الأرض مصلحوها كذلك، فإذن صح الاستثناء، ويحتمل أن يكون التقدير: وما فيهن كلامي وذكري، فحذف المضاف. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((صدقه ربه)) أي قرره بأن قال ما قال، وهو أبلغ من أن لو قال: صدقت، نحوه قوله تعالي:} لقد صدق الله رسوله الرؤيا {أي حقق في اليقظة ما رآه صلى الله عليه وسلم في النوم، وقوله:} والذي جاء بالصدق وصدق به {،فقوله: ((لا إله إلا أنا)) بيان لقوله: ((صدقه)) لأنه هو التصديق بعينه. قوله: ((لم تطعمه النار)) استعار الطعم للإحراق مبالغة، كأن الإنسان طعامها تتغذى وتتقوى به، نحو قوله:} وقودها الناس والحجارة {أي الناس كالوقود والحطب الذي تشتعل به النار.

2311 - وعن سعد بن أبي وقاص، أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم علي امرأة وبين يديها نوى أو حصى، تسبح به فقال: ((ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء. وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد مابين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمدلله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)) رواه الترمذي، وأبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2311] 2312 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله: ((من سبح مائة بالغداة ومائة بالعشي؛ كان كمن حج مائة حجة، ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي؛ كان كمن حمل علي مائة فرس في سبيل الله، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي؛ كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي؛ لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ذلك، أو زاد علي ما قال)).رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب. [2312] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أو أفضل)) ((مظ)):شك الراوي أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسر عليك، أو قال: أفضل. أقول: ويمكن أن يكون ((أو)) بمعنى بل، وإنما كان أفضل؛ لأنه اعترف بالقصور، وأنه لا يقدر أن يحصي ثناؤه، وتسبيحه علي العد بالنواة إقدام علي أنه قادر علي الإحصاء، كما قال: ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت علي نفسك)).قوله: ((عدد ما خلق في السماء)) في ((ما)) وجهان: أحدهما أنه عام في الأجناس كلها، سواء كانت ذوات العلم أم لا، وثإنيهما جعل ذوا العلم بمنزلة غيره علي تأويل المعدود. قوله: ((ما هو خالق)) أي ما هو خالقه، أجمل بعد التفصيل؛ لأن اسم الفاعل إذا أسند إلي الله يفيد الاستمرار من بدء الخلق إلي الأبد- الكشاف-:قوله:} وجاعل الليل سكنا {ما هو بمعنى المضي، وإنما هو دال علي جعل مستمر في الأزمنة المختلفة، كما تقول: الله قادر عالم، فلا تقصد زمانا دون زمان. قوله: ((مثل ذلك)) ((مثل)) منصوب نصب عدد في القرائن السابقة علي المصدر. الحديث التاسع عن عمرو بن شعيب: قوله: ((من ولد إسماعيل)) تتميم ومبالغة في معنى

2313 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التسبيح نصف الميزان. والحمدلله يملؤه. ولا إله إلا الله ليس لها حجاب دون الله حتى تخلص إليه)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي. [2313] 2314 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، ((ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلي العرش مااجتنب الكبائر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [2314] ـــــــــــــــــــــــــــــ العتق؛ لأن فك الرقاب أعظم مطلوب، وكونه من عنصر إسماعيل الذي هو أشرف الخلق نسبا، أعظم وأمثل. الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((التسبيح نصف الميزان))،والحمدلله يملؤه)) قالوا: فيه وجهان، أحدهما أن يراد التسوية بين التسبيح والتحميد، بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان، فيملأن الميزان معا، وذلك؛ لأن الأذكار التي هي أم العبادات البدنية، والغرض الأصلي من شرعها تنحصر في نوعين، أحدهما: التنزيه، والآخر التمجيد، والتسبيح يستوعب القسم الأول، والتحميد يتضمن القسم الثاني. وثإنيهما: أن يراد بيان تفضيل الحمد علي التسبيح، وأن ثوابه ضعف ثواب التسبيح؛ لأن التسبيح نصف الميزان، والتحميد وحده يملؤه. وذلك؛ لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرءا عن النقائص، منعوتا بنعوت الجلال وصفات الإكرام، فيكون الحمد شاملا للأمرين وأعلي القسمين، وإلي الوجه الأول الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان علي اللسان، ثقيلتان في الميزان)) وإلي الثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: ((بيدي لواء الحمد يوم القيامة)).أقول: يؤيد معنى الترجيح الترقي في قوله: ((ولا إله إلا الله ليس لها حجاب))؛ لأن هذه الكلمة اشتملت علي التنزيه والتمجيد لله تعالي كما مر، وعلي نفي ذلك عما سواه صريحا، ومن ثم جعله من جنس آخر؛ لأن الأولين دخلا في معنى الوزن، والمقدار في الأعمال، وهذا حصل منه القرب إلي الله تعالي من غير حاجز ولا مانع. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى يفضي إلي العرش)) أي ينتهي إليه، وأصله من الفضاء. ((غب)):الفضاء المكان الواسع، ومنه أفضى بيده، وأفضى إلي امرأته، قال: ((وقد أفضى بعضكم إلي بعض)). ((مظ)):الحديث المتقدم يدل علي أنه تجاوز من العرش حتى انتهي إلي الله تعالي، والمراد بهذا وأمثاله سرعة القبول، وكثرة الثواب. قيد سرعة القبول وكمال الثواب باجتناب الكبائر؛ فإن الثواب يحصل للقائل سواء

2315 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن، غريب إسنادا. [2315] 2316 - وعن بسيرة ((رضي الله عنها))،وكانت من المهاجرات، قالت: قال لنا ـــــــــــــــــــــــــــــ اجتنب الكبائر أو لم يجتنب، ولكن ثواب من يجتنب الكبائر أكمل ممن لم يجتنب، فإن السيئة لا تحط الحسنة، بل تذهب الحسنة السيئة، قال تعالي:} إن الحسنات يذهبن السيئات {. الحديث الثاني عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أنها قيعان)) ((تو)):القيعان جمع قاع، وهو المستوي من الأرض، والغراس جمع غرس، وهو ما يغرس، والغرائس أيضا وقت الغرس، والغرس إنما يصلح في التربة الطيبة، وينمو بالماء العذب، المعنى: أعلمهم أن هذه الكلمات تورث قائلها الجنة، وتفيد مخارفتها، وأن الساعي في اكتسابها لا يصيع سعيه؛ لأنها المغرس الذي لا يتلف ما استودع فيه. وأقول: هنا إشكال؛ لأن هذا الحديث يدل علي أن الجنة أرض خالية عن الأشجار والقصور، ويدل قوله تعالي:} جنات تجري من تحتها الأنهار {وقوله تعالي:} أعدت للمتقين {علي أنها غير خالية عنها؛ لأنها إذا سميت جنة لأشجارها المتكاثفة المظلة بالتفاف أغصانها، وتركيب الجنة دائر علي معنى الستر، وأنها مخلوقة معدة للمتقين. والجواب: أنها كانت قيعانا، ثم إن الله تعالي أوجد بفضله وسعة رحمته فيها أشجارا وقصورا علي حسب أعمال العاملين، لكل عامل ما يختص به بحسب عمله، ثم إن الله تعالي لما يسره لما خلق له من العمل لينال به ذلك الثواب، جعله كالغارس لتلك الأشجار علي سبيل المجاز؛ إطلاقا للسبب علي المسبب. مثاله في الشاهد الوالد إذا ألف كتابا جامعا للآداب، فقال: هذا لولدي إذا تعلم ونشأ أدبيا، فإذا حصل له ولد بعد برهة علي ما أراد منه، فقال: أنت صاحب ذلك الكتاب، وأنت الذي حصلته، وجمعت ما فيه؛ لأنك أنت الغرض فيه، ولما كان سبب إيجاد الله الأشجار عمل العامل أسند الغراس إليه. والله أعلم بالصواب. الحديث الثالث عشر عن بسيرة: قوله: ((والتهليل)) ((تو)):العرب إذا كثر إستعمالهم

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكن بالتسبيح والتهليل، والتقديس. وأعقدن بالأنامل، فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [2316] الفصل الثالث 2317 - عن سعد بن أبي وقاص، قال: جاء أعرابي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علمني كلاما أقوله، قال: ((قل: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا. والحمدلله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين. لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)) فقال: فهولاء لربي، فما لي؟ فقال: ((قل: اللهم اغفر لي، وأرحمني، واهدني، وازرقني وعافني)) شك الراوي في ((عافني)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكلمتين، ضموا بعض حروف إحداهما إلي بعض حروف الأخرى، مثل الحوقلة، والبسملة، فالتهليل مأخوذ من لا إله إلا الله، يقال: هيلل الرجل وهلل إذا قالها، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحصيل تلك الكلمات بأناملهن ليحط عنها بذلك ما اجترحته من الأوزار، فإنهن مسئولات مستنطقات، فيشهدن علي أنفسهن بما اكتسبنها، قال تعالي:} وما كنتم تسترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم)). ((مظ)):فيه تحريض علي استخدام جميع الأعضاء في الخيرات. قوله: ((فتنسين الرحمة)) ((تو)):النسيان ترك ضبط ما استودع، وإما لضعف قلبه، وإما عن غفلة أو قصد، أي استحفظتن ذكر الرحمة، وأمرتن بمسألتها، فإذا غفلتن ضيعتن ما استودعن. ((مظ)):المعنى لا تتركن الذكر، فإنكن إن تركتن الذكر لحرمتن ثواب الذكر، فإن الله تعالي قال:} فاذكروني أذكركم {.وأقول: قوله: ((لا تغفلن)) نهي للأمرين، أي لا تغفلن عما ذكرت، لكن من اللزم علي الذكر والمحافظة عليه، والعقد بالأصابع توثيقا. وقوله: ((فتنسين)) جواب له، أي إنكن لو تغفلن عما ذكرت لكن تركتن سدى عن رحمة الله، هذا من باب قوله تعالي:} لا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي {أي لا تكن منكن الغفلة، فيكون من الله ترك الرحمة، فعبر بالنسيان عن الترك كما في قوله تعالي:} وكذلك اليوم تنسى {. الفصل الثالث الحديث الأول عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((الله أكبر كبيرا)) ((مح)):هو منصوب بفعل مضمر، أي كبرت كبيرا، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة كقولك: زيد أبوك عطوفا. قوله:

2318 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر علي شجرة يابسة الأوراق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمدلله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تساقط ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة)) رواه الترمذي، وقال: هذه حديث غريب, [2318] 2319 - وعن مكحول، عن أبي هريرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها من كنز الجنة)) قال المحكول: فمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجي من الله إلا إليه؛ كشف الله عنه سبعين بابا من الضر، أدناها الفقر. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، ومحكول لم يسمع عن أبي هريرة. [2319] 2320 - وعن أبي هريرة رضي، قال: قال رسول الله صلي اللع عليه وسلم: ((لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم)). [2320] 2321 - وعنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك علي كلمة من تحت العرش من كنز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول الله تعالي: أسلم عبدي، واستسلم)) رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2321] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((العزيز الحكيم)) هذه التتمة للحوقلة لم ترد في أكثر الروايات إلا عن الإمام أحمد بن حنبل، فإن أردفها بقوله: ((العلي العظيم)). الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((تساقط)) –بضم التاء- وقوله: ((كما يتساقط)) إن جعل صفة مصدر محذوف لم تبق المطابقة بين المصدرين، ولو جعل حالا من الذنوب استقام، ويكون تقديره: تساقط الذنوب مشبها تساقطها بتساقط الورق. الحديث الثالث عن مكحول: قوله: ((فمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله إلي آخره)) موقوف عليه. الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((من تحت العرش)) صفة ((كلمة))،ويجوز أن تكون ((من)) ابتدائية، أي ناشيءة من تحت العرش، وبيإنية أي كائنة من تحت العرش، ومستقرة فيه. وأما ((من)) الثانية فليست إلا بيإنية، فإذا ذهب إلي أن الجنة تحت العرش، والعرش سقفها جاز أن يكون ((من كنز الجنة)) بدلا من ((تحت العرش)).وقد مر أن ((لا حول)) دل علي نفي التدبير للكائنات، وإثباته لله عز وجل، هذا معنى قوله: ((أسلم عبدي

(4) باب الاستغفار والتوبة

2322 - وعن ابن عمر/ أنه قال: سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمدلله كلمة الشكر، ولا إله إلا الله كلمة الإخلاص، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال الله تعالي: أسلم واستسلم. رواه رزين (4) باب الاستغفار والتوبة الفصل الأول 2323 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ واستسلم)) أي فوض أمور الكائنات كلها إلي الله، وانقاد هو بنفسه لله تعالي مخلصا له الدين، والعرش منصة التدابير، قال الله تعالي:} ثم استوى علي العرش يدبر الأمر {فقوله:)) يقول الله تعالي)) جزاء شرط محذوف، أي إذا قال العبد هذه الكلمة يقول الله. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((سبحان الله، هي صلاة الخلائق)) ((هي)) ضمير فصل وعماد، وعلي التقديرين الحصر لازم، و ((الخلائق)) جمع محلي بلام الاستغراق، فلا يخرج ذرة من ذرات الكائنات إلا هي مسبحة لله خاضعة لأمره منقادة لطاعته. قال تعالي:} وإن من شيء إلا يسبح بحمده {.فالتسبيح إما بالمقال أو بالحال حيث يدل علي الصانع، وعلي قدرته، وحكمته، وحيث ينزه الله مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها، فالمراد بالصلاة كونها منقادو لله تعالي، مسخرة لما يراد منهم، وهي كالسجود في قوله:} يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون {-الكشاف-:أي يرجع الظلال من جانب إلي جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وهي داخرة صاغرة لأفعاله تعالي. قوله: ((والله أكبر تملأ السماء والأرض)) إشارة إلي أن هذه الخاتمة كالمجمل للتفصيل، وقد سبق أنه كاعتراف العبد بالقصور من إجراء تلك الأوصاف علي موصوفها. باب الاستغفار والتوبة الاستغفار استفعال من الغفران، وأصله من الغفر، وهو إلباس الشيء بما يصونه عن الدنس. ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء، فإنه أغفر للوسخ. الغفران والمغفرة من الله، هو أن

2324 - وعن الأغر المزني ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليغان علي قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ يصون العبد من أن يمسه العذاب، والتوبة ترك الذنب علي أحمد الوجوه، وهو أبلغ ضروب الاعتذار، فإن الاعتذار علي ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت أو أسأت، ولقد أقلعت، ولا رابع لذلك. وهذا الأخير هو التوبة، ثم التوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم علي ما فرط منه، والعزيمة علي ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة؛ فمتى اجتمع هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة، وتاب إلي الله. هذا كلام الراغب، وزاد كلام الشيخ محيي الدين النواوي وقال: وإن كان الذنب يتعلق ببني آدم، فلها شرط آخر، وهو رد الظلامة إلي صاحبها، أو تحصيل البراءة منه. والتوبة أهم قواعد الإسلام، وهي أول مقدمات سالكي الآخرة. وأنشد بعضهم في مناجاته: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من وجود كفيك ما علمتني الطلبا يريد به قوله تعالي:} واستغفروا ربكم إنه كان غفارا {. الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن الأغر: قوله: ((إنه ليغان علي قلبي)) اسم ((إن)) ضمير الشأن، والجملة بعده خبر له مفسرة. ((فا)): ((ليغان)) أي ليطبق إطباق الغين، وهو الغيم، يقال: غيت السماء تغان، والفعل مسند إلي الظرف، وموضعه رفعه بالفاعلية. ((مح)): ذكروا في الغين وجوها، أحدها قال القاضي عياض: المراد به فترات وغفلات من الذكر الذي شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه، أو غفل عنه عد ذلك ذنبا فاستغفر منه. وثإنيها: هو همه بسبب أمته، وما طلع عليه من أحوالهم بعده ويستغفر لهم. وثالثهما: قيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته، وأمورهم ومحاربة العدو ومداراتهم، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك من معاشرة الأزواج، والأكل والشرب والنوم، وذلك مما يحجبه، ويحجزه عن عظيم مقامه، فيراه ذنبا بالنسبة إلي ذلك المقام العلي، وهو حضوره في حظيرة القدس ومشاهدته، ومراقبته وفراغه مع الله تعالي مما سواه، فيستغفر لذلك. ورابعها: قيل: يحتمل أن الغين هو السكينة التي تغشي قلبه لقوله تعالي:} فأنزل الله سكينته علي رسوله {فالاستغفار لإظهار العبودية والافتقار، والشكر لما أولاه. وخامسها قيل: يحتمل أن الغين هو حالة خشية وإعظام، فالاستغفار شكر لها. قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام. وسادسها: هو شيء يعتري القلوب مما تتحدث به النفس، كل ذلك في شرح مسلم.

2325 - وعنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأيها الناس! توبوا إلي الله، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)):سئل الأصمعي عن هذا الحديث، فقال: عن قلب من تروى هذا؟ فقال: عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كان عن قلب غيره لكنت أفسره لك. ولله دره في انتهاجه في منهج الأدب، وإجلال القلب الذي جعله الله موقع وحيه، ومنزل تنزله! وبعد فإن قلبه مشرب، سد عن أهل اللسان موارده، وفتح لأهل السلوك مسالكه، وأحق من يعرب، أو يعبر عنه، مشايخ الصوفية الذين نازل الحق أسرارهم، ووضع الذكر أوزارهم. ومن كلمات شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهروي- قدس الله سره-:لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حاله صلوات الله عليه، بل هو كمال، أو تتمة كمال، وهذا السر دقيق لا ينكشف إلا بمثال، وهو أن الجفن المسبل علي حدقة البصر، وإن كانت صورته صورة نقصان، من حيث هو إسبال وتغطية علي من شأنه أن يكون باديا مكشوفا، فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية، وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين، واتصالها بالمرئيات علي مذهب قوم، وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية علي مذهب آخرين، فكيف ما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف العين، وعرائها عما يعمل من انبعاث الأشعة عنها، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوإنية قلما يخلو من الأغبرة الثائرة بحركة الرياح، فلو كانت الحدقة دائمة الانكشاف، لاستضرت بملاقاتها وتراكمها عليها، فأسبلت أغطية الجفون عليها، وقاية لها، ومصقلة لها؛ لتنصقل الحدقة بإسبال الأهداب، ورفعها لخفة حركة الجفن، فيدوم جلاؤها، ويحتد نظرها. فالجفن وإن كان نقصا ظاهرا، فهو كمال حقيقة، فهكذا لم تزل بصيرة النبي صلي الله معترضة لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فلا جرم دعت الحاجة إلي إسبال جفن من الغين علي حدقة بصيرته سترا لها، ووقاية وصقالا عن تلك الأغبرة المثارة برؤية الأغيار وأنفاسها، فصه أن الغين وإن كانت صورته نقصا، فمعناه كمال وصقال حقيقة. ثم قال- رضي الله عنه-:وأيضا فإن روح النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل في الترقي إلي مقامات القرب، مستتبعة للقلب في رقيها إلي مركزها، وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية، ولا خفاء أن حركة الروح والقلب أسرع وأتم من نهضة النفس وحركتها، فكانت خطى النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حريم القلب، ولوحقها بهما، فاقتضت العواطف الربإنية علي الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بإلقاء الغين عليه؛ لئلا يسرع القلب، ويسرح في معارج الروح ومدارجها، فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب، فيبقى العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة، والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة، حيث كان يرى صلى الله عليه وسلم إبطاء القلب بالغين الملقى عليه، وقصور النفس عن شأنه، وترقي الروح في الرفيق الأعلي،

2326 - وعن أبي ذر ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالي أنه قال: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم علي نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من اهديته، فاستهدوني أهدكم. يا ـــــــــــــــــــــــــــــ كان يفزع إلي الاستغفار؛ إذا لم تف قوامهما في سرعة اللحوق بها. وهذا من أعز مقول في هذا المعنى، وأحسن مشروح فيه. والله أعلم. الحديث الثالث والرابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((يا عبادي)) ((قض)):الخطاب مع الثقلين خاصة لاختصاص التكليف، وتعاقب التقوى والفجور بهم، ولذلك فصل المخاطبين بالأنس والجن، ويحتمل أن يكون عاما شاملا لذوي العلم كلهم من الملائكة والثقلين، ويكون ذكر الملائكة مطويا مدرجا في قوله: ((وجنكم)) لشمول الاجتنان لهم، وتوجه هذا الخطاب نحوهم لا يتوقف علي صدور الفجور منهم، ولا علي إمكانه؛ لأنه كلام صادر علي سبيل الفرض والتقدير. وأقول: يمكن أن يكون الخطاب عاما، ولا يدخل الملائكة في الجن؛ لأن الإضافة في ((جنكم)) تقتضي المغايرة، فلا يكون تفصيلا، بل إخراجا للقبيلين الذين يصح اتصاف كل منهما بالتقوى والفجور. قوله: ((حرمت الظلم علي نفسي)) ((نه)):أي تقدست عنه، وتعاليت، فهو في حقي كالشيء المحرم علي الناس. أقول: يريد أنه استعارة مصرحة تبعية، شبه تنزهه تعالي عن الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه، باحتراز المكلف عما نهي عنه شرعا في الامتناع منه، ثم استعمل في جانب المشبه به مبالغة وتشديدا، ويحتمل أن يكون مشاكلة لقوله بعده: ((وجعلته بينكم محرما)). نحو قول الشاعر: من مبلغ أفناه يعرب كلها ... إني بنيت الجار قبل المنزل قوله: ((يا عبادي كلكم ضال)) لما كان الخطاب بعد ((يا عبادي)) معنيا به مهتما بشأنه، كرره تنبيها علي فخامته، ونسبة الضلال إلي الكل بحسب مراتبهم. ((غب)):الضلال العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية، ويقال الضلال عدول عن المنهج، عمدا كان أو سهوا، يسيرا كان أو كثيرا، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدا. قيل: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة؛ فإن الاستقامة والصواب تجري مجرى المقرطس والمرمى، وما عداه كلها ضلال، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا)).فإذا كان الأمر علي ما جرى، صح أن يستعمل لفظ الضلال فيمن أن يكون علي خطأ ما, ولذلك نسب الضلال إلي الأنبياء وإلي الكفار وإن كان بين

عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا علي أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي! لو أن ـــــــــــــــــــــــــــــ الضلالين بون بعيد، قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:} ووجدك ضالا فهدى {أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال موسى عليه السلام:} فعلتها إذن وأنا من الضالين {تنبيها علي أن ذلك منه سهو. ولما فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في بالامتنان بأمور الدنيا، وذكر منها ما هو أصل فيها، ومكمل لمنافعها من الشبع واللبس ولا يستغنى عنهما، ومن ثم وصف الجنة بقوله:} إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى {. فإن قلت: ما معنى الاستثناء في قوله:)) إلا من أطعمته، وإلا من كسوته)) إذ ليس أحد من الناس محروما عنهما؟ قلت: الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق، وعدمها من التقتير والضيق، كما قال تعالي:} الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {سهل التقصي عن الجواب، فظهر من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه، نفي الشبع والكسوة بالكلية، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا، بل المراد بسطهما وتكثيرهما، يوضحه الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني أنه وضع قوله: ((وكلكم فقراء إلا من أغتنيت)) في موضعه. قوله: ((إنكم لن تبلغوا ضري، فتضروني)) نصب، حذف منه نون الإعراب جوابا عن النفي، أي لن تبلغوا لعجزكم إلي مضرتي، ولا يستقيم، ولا يصح منكم أن تضروني أو تنفعوني، حتى أتضرر منكم أو أنتفع بكم؛ لأنكم لو اجتمعتم علي عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني ولا زدتم في ملكي شيئا، ولو اجتمعتم كلكم علي عصيإني ما ضررتموني، ولا نقصتم من ملكي شيئا، فالقرينتان الأخيرتان كالنشر للأولين. قوله: ((كانوا أتقى قلب رجل واحد)) ((قض)):أي علي تقوى أتقى قلب رجل، أو علي أتقى أحوال قلب رجل واحد. أقول: لا بد من هذا التقدير ليستقيم أن يقع ((أتقى)) خبرا لـ ((كان)) ثم إنه لم يرد أن كلهم بمنزلة رجل واحد، هو أتقى من الناس، بل كل واحد من الجمع

أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، كانوا علي أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم، وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خير فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) رواه مسلم. 2327 - وعن أبي سعيد الخدري ((رضي الله عنه))، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ بمنزلته؛ لأن هذا أبلغ، كقولك: ركبوا فرسهم، وعليه قوله تعالي:} ختم الله علي قلوبهم وعلي سمعهم {في وجه، ثم إضافة ((أفعل)) إلي نكرة مفردة تدل علي أنك لو تقصيت قلب رجل رجل من كل الخلائق، لم تجد أتقى قلبا من هذا الرجل، قوله: ((ما نقص ذلك من ملكي شيئا)) ((شيئا)) يجوز أن يكون مفعول به، إن قلنا: إن ((نقص)) متعد، ومفعولا مطلقا إن قلنا: إنه لازم، أي نقص نقصانا قليلا، والتنكير فيه للتحقير بقرينة قوله في الحديث الآتي: ((جناح بعوضة)). قوله: ((في صعيد واحد)) الصعيد وجه الأرض. ((قض)):قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد؛ لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويبهته، ويعسر عليه إنجاح مآربهم، والإسعاف إلي مطالبهم. و ((المخيط)) بكسر الميم وسكون الخاء الإبرة، وغمسها في البحر إن لم يخل عن نقص ما، لكنه لما لم يظهر ما ينقصه للحس، ولم يعتد به العقل، وكان أقرب المحسوسات نظيرا ومثالا، شبه به صرف ملتمسات السائلين مما عنده، فإنه لا يغيضه مثل ذلك، ولا أقل منه. قوله: ((إنما أعمالكم)) ((قض)):أي هي جزاء أعمالكم، فأحفظها عليكم، ثم أؤديها إليكم تاما وافيا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ((مظ)): ((أعمالكم)) تفسير لضمير المؤنث في قوله: ((إنما هي)) يعني إنما نحصي أعمالكم، أي نعد ونكتب أعمالكم من الخير والشر، توفية لجزاء عمل أحدكم علي التمام. أقول: يمكن أن يرجع الضمير إلي ما يفهم من قوله: ((أتقى قلب رجل، وأفجر قلب رجل)) وهي الأعمال الصالحات والطالحات، ويشهد له لفظة ((إنما)) فإنها تستدعي الحصر، أي ليس نفعها وضرها راجعا إلي، بل أحصيها إليكم، لأجازيكم بها، فمن وجد خيرا فليشكر الله؛ لأنه تعالي هو هادي الضلال، وموفقهم للخيرات، ومن وجد شر، فليلم نفسه؛ لأنه باق علي ضلاله الذي أشار إليه بقوله: ((كلكم ضال)). الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أله توبة)) ((مظ)):أي هل تقبل

((كان في بني اسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا، فسأله، فقال: أله توبة؟ قال: لا فقتله؛ وجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلي هذه تقربي، وإلي هذه أن تباعدي، فقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلي هذه أقرب بشبر فغفر له)) متفق عليه. 2328 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيتستغفرون الله فيغفر لهم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ توبته بعد هذه الجريمة العظيمة؟ في الحديث إشكال؛ لأنا إذا قلنا: لا، فقد خالفنا نصوصا، وإن قلنا: نعم، فقد خالفنا أيضا أصل الشرع، فإن حقوق بني آدم لا تسقط بالتوبة، بل توبتها أداؤها إلي مستحقيها، أو الاستحلال منها. فالجواب: أن الله تعالي إذا رضي منه، وقبل توبته، يرضي خصمه. قوله: ((فأدركه الموت)) أي أمارته وسكراته، فالفاء عطف علي محذوف، أي قيل له: ائت قرية كذا، فقصدها وصار نحوها، وقرب من وسط الطريق فأدركه الموت. قوله: ((فناء)) ((نه)):أي نهض، ويحتمل أن يكون بمعنى ناء، أي بعد، يقال: ناء ونائ بمعنى. قوله: ((فأوحى الله إلي هذه، أن تقربي)) ((أن)) مفسرة، لأن ((أوحي)) فيه معنى القول، و ((هذه)) إشارة إلي القرية التي توجه إليها، أي تقربي من الميت، وقوله: ((هذه)) ثإنيا إشارة إلي القرية التي هاجر منها، وقيل: هي إشارة إلي الملائكة المتخاصمين. وفيه بعد؛ إذ لو أريد هذا، لقيل: أبعدا عنه وقيسا. ((مظ)): فيه تحريض للمذنبين علي التوبة، ومنع لهم عن اليأس من رحمة الله تعالي، إذ لا منجأ ولا ملجأ، ولا مجير للمذنبين سواه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)) ((تو)):لم يورد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب، وقلة اختفال منهم بمواقعة الذنوب، علي ما يتوهم الغرة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب؛ بل ورد مورد البيان لعفو الله عن المذنبين، وحسن التجاوز عنهم، ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار. والمعنى المراد من الحديث هو أن الله تعالي كما أحب أن يحسن إلي المحسن، أحب أن يتجاوز عن المسئ- وقد دل علي ذلك غير واحد من أسمائه الغفار، الحليم، التواب، العفو لم

2329 - وعن أبي موسى ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).رواه مسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ يكن ليجعل العباد شأنا واحدا كالملائكة مجبولين علي التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالا إلي الهوى، متفتنا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه، ويحذره من مداناته، ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفي فأجره علي الله، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لو كنتم مجبولين علي ما جبلت عليه الملائكة، لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتحلي عليهم بتلك الصفات علي مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورا، كما أن الرزاق يستدعي مرزوقا. أقول: تصدير الحديث بالقسم رد لمن ينكر صدور الذنب عن العباد، ويعده نقصا فيهم مطلقا، وأن الله تعالي لم يرد من العباد صدوره، كالمعتزلة ومن سلك مسلكهم، فنظروا إلي ظاهره، وأنه مفسدة صرفة، ولم يقفوا علي سره أنه مستجلب للتوبة والاستغفار الذي هو موقع محبة الله،} إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {و ((‘ن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار))،و ((الله أشد فرحا بتوبة عبده)) الحديث. ولعل السر في إظهار صفة الكرم، والحلم، والغفران، ولو لم يوجد لنثلم طرف من صفات الألوهية، والإنسان إنما هو خليفة الله في أرضه، يتجلي له بصفات الجلال، والإكرام، والقهر، واللطف، والملائكة لما نظروا إلي الجلال والقهر، قالوا:} أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء {والله تعالي حين نظر إلي صفة الإكرام واللطف قال:} إني أعلم ما لا تعلمون {.وإلي هذا الموضوع يلمح قوله صلى الله عليه وسلم: ((لذهب الله بكم)) ولم يكتف بقوله: ((لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون)) والله أعلم. الحديث السابع عن أبي موسى: قوله: ((إن الله يبسط يده)) ((تو)) بسط اليد عبارة عن التوسع في الجود، والتنزه عن المنع عند اقتضاء الحكمة، ومنه الباسط. وفي الحديث تنبيه علي سعة رحمة الله، وكثرة تجاوزه عن الذنوب. ((مح)): ((بسط اليد)) عبارة عن قبول التوبة. قال المازري: وذلك أن العرب إذا رضي أحدهم شيء، بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه. أقول: لعله تمثيل، شبه حالة إرادة الله تعالي التوبة من العبد، وأنها مما هو مطلوبه يجب أن ينالها. بحالة من ضاع ما هو تعيشه به، ولا غنى له عنه، فيفتقده وهو يمد يده إلي من وجد

2330 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا اعترف ثم تاب؛ تاب الله عليه)) متفق عليه. 2331 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تاب الله عليه)).رواه مسلم 2332 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليه طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته, فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة من عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح)).رواه مسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ضالته، طالبا منه، متضرعا لديه. ثم استعمل في جانب المستعار له ما كان مستعملا في جانب المستعار منه من بسط اليد. ويشهد له الحديث العاشر من هذا الفصل، وما جاء في رواية أخرى: ((إن الله واضع يده لمسيء الليل)) ((نه)):المعنى يكفها لأجله يتقاضى منه التوبة ليقبلها منه. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تاب الله عليه)) أي قب توبته، وتحقيقه أن الله تعالي رجع متعطفا عليه برحمته، وقبل توبته، فيكون ((تاب الله عليه)) كناية عن قبول التوبة؛ لأن قبول التوبة مستلزم لتعطف الله تعالي وترحمه عليه. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قبل أن تطلع الشمس من مغربها)) ((مح)):هذا حد لقبول التوبة، وهو معنى قوله:} يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل {.وللتوبة حد آخر، وهو أن يتوب قبل أن يغرغر، وأن يرى بأس الله؛ لقوله تعالي:} فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا {لأن الاعتبار إنما هو للإيمان بالغيب. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لله أشد فرحا)) ((مظ)):معناه أرضي بالتوبة وأقبل لها، والفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز علي الله تعالي؛ إنما معناه الرضي، وكذلك الضحك والاستبشار. والمتقدمون من أهل الحديث فهموا منها ما وقع الترغيب فيه من الأعمال، والإخبار عن فضل الله عز وجل، وأثبتوا هذه الصفات لله تعالي، ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالي منزه عن صفات المخلوقين، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.

2333 - وعن أبي هريرة ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عبدا أذنب ذنبا، فقال. رب! أذنبت فاغفره، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رب يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، فقال رب! أذنبت ذنبا فاغفره فقال ((ربه)).أعلم عبدي أن له رب يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، فقال رب! أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي. فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: هذا هو المذهب المحتاط، وقلما يزيغ عنه قدم الراسخ، ومن اشتغل بالتفسير والتأويل، فله طريقان، أحدهما أن التشبيه مركب عقلي من غير نظر إلي مفردات التركيب، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، وهي غاية الرضا ونهايته، وإنما أبرز ذلك في صورة التشبيه تقريرا لمعنى الرضا في نفس السامع، وتصويرا لمعناه. وثإنيهما تمثيلي، وهو أن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به، وينتزع له منها ما يناسبه حاله بحيث لم يختل منها شيء، فإنك إذا أمعنت النظر في التمثيل السابق في حديث بسط اليد، حل لك هذا المعضل، وانكشف لك الحال. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أعلم عبدي)) يجوز أن يكون استخبارا عن الملائكة وهو أعلم بهم، للمباهاة، وأن يكون استفهاما للتقرير والتعجيب، والتفاتا عدل من الخطاب، وقوله: ((أعلم عبدي)) إلي الغيبة شكرا لصنيعه إلي غيره وإحمادا له علي فعله. قوله: ((فليفعل ما شاء)) ((مح)):معناه اعمل ما شئت ما دمت تذنب، ثم تتوب فقد غفرت لك. ((فليفعل ما شاء)) كلام يستعمل تارة في معرض السخطة والنكير، وطورا في صورة اللطف والحفاوة، وليس المراد منه في كلتا الصورتين الحث علي الفعل أو الترخص فيه. وعلي السخطة والنكير ورد قوله تعالي:} اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير {، وعلي الحفاوة والتلطف ورد هذا الحديث، وذلك مثل قولك لمن توده وترى منه الجفاء: اصنع ما شئت، فلست بتارك لك، وقوله صلى الله عليه وسلم في حق حاطب بن أبي بلتعة: ((لعل الله اطلع إلي أهل بدر فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).قوله: ((فقال)) خبر ((إن)) إذ كان اسمها نكرة موصوفة بفعل، فالفاء في ((فاغفره)) سببية، جعل اعترافه بالذنب سببا للمغفرة، حيث أوجب الله تعالي المغفرة للتائبين المعترفين بالسيئات علي سبيل الوعد.

2234 - وعن جندب ((رضي الله عنه)):أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: ((أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالي قال: من ذا الذي يتألي علي إني لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)).أو كما قال رواه مسلم. 2335 - وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا علي عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن جندب رضي الله عنه: قوله: ((من ذا الذي يتألي)) وارد علي الإنكار والتهديد، وكان من الظاهر أن يقال: أنت الذي تتألي علي، يدل عليه الالتفاف في قوله: ((أحبطت عملك)) فعدل منه شاكيا صنيعه لغيره، معرضا عنه علي عكس الحديث السابق. ((نه)): ((من يتألي علي الله)) أي من حكم علي الله وحلف، كما تقول: والله لا يدخلن الله فلانا النار، وفلانا الجنة، ومنه الحديث ((من يتألي علي الله يكذبه)). ((مظ)):لا يجوز لأحد أن يجزم بالغفران، أو بالعقاب؛ لأن أحدا لا يعلم مشيئة الله وإرادته في عباده، بل نرجو للمطيع، ونخاف للعاصي، وإنما يجزم القول في حق من جاء فيه نص، كالعشرة المبشرة. قوله: ((أحبطت عملك)) إن قلنا: قوله هذا كفر، فهو ظاهر، وإن قلنا إنه معصية، فمذهب المعتزلة علي هذا، وأما علي مذهب أهل السنة فمحمول علي التغليظ، وقد تأوله المظهر، بأن قال: أبطلت قسمك، وجعلت حلفك كذبا. قوله: ((أو كما قال)) أي قال ما ذكرته، أو قال ما يشبهه. ((مح)):ينبغي لمن روى حديثا بالمعنى أن يقول عقيبة: أو كما قال، أو نحو هذا، وما أشبهه، وروي هذا عن عبدالله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس وغيرهم. الحديث الثالث عشر عن شداد: قوله: ((سيد الاستغفار)) السيد هنا مستعار من الرئيس المقدم، الذي يصمد إليه في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور بهذا الدعاء، الذي هو جامع لمعإني التوبة كلها، وقد سبق أن التوبة غاية الاعتذار. وقوله: ((وأنا عبدك)) يجوز أن يكون مؤكده، وأن يكون مقدرة، أي أنا عابد لك، كقوله تعالي:} وبشرناه بإسحاق نبيا {وينصره عطف قوله: ((وأنا علي عهدك، ووعدك)). ((حس)):يريد أنا علي ما عاهدتك عليه، وواعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، وقد يكون معناه إني مقيم علي ما عاهدت إلي من أمرك ومتمسك به، ومنتجز وعدك في المثوبة، والأجر عليه. واشتراط الاستطاعة في ذلك،

لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) قال: ((ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة. ومن قالها بالليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو في الحنة)).رواه البخاري. الفصل الثاني 2336 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك علي ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة)) رواه الترمذي. [2336] ـــــــــــــــــــــــــــــ معناه الاعتراف بالعجز، والقصور عن كنه الواجب من حقه عز وجل. أقول: ويجوز أن يراد بالعهد والوعد ما في قوله: تعالي:} وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلي شهدنا {. قوله: ((أبوء لك)) ((نه)):أي ألتزم وأرجع، وأقر، وأصل البوء اللزوم، ومنه الحديث ((فقد باء أحدهما)) أي ألزمه، ورجع به. أقول: اعترف أولا بأنه تعالي أنعم عليه، ولم يقيده ليشمل كل الإنعام، ثم أعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، وعده ذنبا مبالغة في التقصير وهضم النفس. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما دعوتني)) أي ما دمت تدعوني، وترجو مغفرتي، ولا تقنط من رحمتي، فإني أغفر لك، ولا يعظم علي مغفرتك وإن كانت ذنوبك كثيرة وفي عدم المبالاة معنى قوله: ((لا يسأل عما يفعل)).قوله: ((عنان السماء)) ((نه)):العنان السحاب، وإضافته علي هذا المعنى إلي السماء غير فصيح، وأرى الصواب ((أعنان السماء))،وهي صفائحها، وما اعترض من أقطارها، وكأنها جمع عنن، فلعل الهمزة أسقطت عن بعض الرواة، أو ورد العنان بمعنى العنن.

2337 - ورواه أحمد، والدرامي، عن أبي ذر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 2338 - وعن ابن عباس ((رضي الله عنهما))،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله تعالي: من علم إني ذو قدرة علي مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئا)).رواه في ((شرح السنة)). [2338] 2339 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)).رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [2339] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: يمكن أن يجعل من باب قوله: تعالي:} فخر عليهم السقف من فوقهم {تصويرا لارتفاع شأن السحاب، وأنها بلغت السماء، وأن يجعل من قوله:} أو كصيب من السماء {فإن فائدة ذكر السماء، والصيب لا يكون إلا منها، أنه جيء بها معرفة، فبقي أن يتصور من سماء، أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق؛ لأن كل أفق من آفاقها سماء. و ((قراب الأرض)) ملاؤها، ومثله طباقها وطلاعها. قوله: ((خطايا)) تمييز من الإضافة، نحو قولك: ملاء الإناء عسلا. قوله: ((ثم لقيني لا يشرك)) ((ثم)) للتراخي في الإخبار، وأن عدم الشرك مطلوب أولي، ولذلك أعاد ((لقيني)) وعلقه به، وإلا لكان يكفي أن يقال: لو لقيني بقراب الأرض خطايا لا يشرك بي. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((من علم إني ذو قدرة)) ((مظ)):فيه أن اعتراف العبد بأنه تعالي قادر علي مغفرة الذنوب سبب للغفران، وهو نظير قوله: ((أنا عن ظن عبدي)).أقول: إن قوله: ((من علم إني ذو قدرة علي مغفرة الذنوب)) تعريض بالوعيدية، وبمن قال: إن الله تعالي لا يغفر الذنوب بغير توبة، ويشهد للتعريض قوله: ((ولا أبالي)) أي لا أحتفل بما يقوله المعتزلة القائلون بالحسن والقبح العقليين. ((حس)):روى أن حماد بن سلمة عاد سفيان الثوري، فقال له سفيان: يا أبا سلمة! أترى الله يغفر لمثلي؟ قال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله تعالي إياي وبين محاسبة أبوي لاخترت محاسبة الله علي محاسبة أبوي لأن الله أرحم من أبوي. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جعل الله له من كل ضيق مخرجا))

2340 - وعن أبي بكر الصديق ((رضي الله عنه))، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)).رواه الترمذي، وأبو داود. [2340] 2341 - وعن أنس، قال: قال رسول الله: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدرامي. [2341] ـــــــــــــــــــــــــــــ مقتبس من قوله تعالي:} ومن يتق الله يجعل له مخرجا {لأن من دوام الاستغفار وأقام بحقه، كان متقيا، وناظرا إلي قوله تعالي:} فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا {الآية، روى عن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفروا ربكم، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقيل له: شكوا إليك أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا الآية. الحديث الرابع عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((ما أصر)) قال الشيخ ابن عبد السلام في كتابه القواعد: وقد جعل الإصرار علي الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا صغيرة مع إصرار))،فما حد الإصرار، هل يثبت بمرة أو مرتين، أو بأكثر؟ قلنا: إذا تكررت الصغيرة منه تكرارا يشعر بقلة مبالاته بذنبه إشعار ارتكاب الكبيرة، ردت شهادته وروايته بذلك، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع حيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر. أقول: الإصرار ها هنا مطلق، أي من أصر علي الذنب، سواء كان صغيرة أو كبيرة، ولأن الاستغفار يرفع الذنوب كلها حتى الشرك. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((خطاء)) ((نه)):يقال: رجل خطاء، إذا كان ملازما للخطايا، غير تارك لها، وهو من أبنية المبالغة. أقول: إن أريد بلفظ الكل الكل من حيث هو كل، كان تغليبا؛ لأن فيهم الأنبياء، وليسوا مبالغين في الخطأ، وإن أريد به الاستغراق، وأن كل واحد واحد خطاء فلا يستقيم إلا علي التوزيع، كما تقول: هو ظلام لعبيده، أي يظلم كل احد واحد، فهو ظالم بالنسبة إلي كل أحد، وظلام بالنسبة إلي المجموع، وإذا قلت: هو ظلام لعبده، كان مبالغا في الظلم. ((مظ)):فيه تعميم جميع بني آدم حتى الأنبياء، لكنهم خصوا منه لكونهم معصومين، واختلفوا في أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر، أم عن الكبائر، فمن قال: هم غير

2342 - وعن أبي هريرة ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن إذا أذنب كانت نكته سوداء في قلبه، فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلكم الران الذي ذكر الله تعالي:} كلا، بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون {.رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. [2342] 2343 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).رواه الترمذي، وابن ماجه. [2343] ـــــــــــــــــــــــــــــ معصومين عن الصغائر استدلوا بعصيان آدم، وكذبا إبراهيم عليهما السلام، ومن قال: هم معصومين عن الصغائر أيضا، حملوا زلات الأنبياء علي النسيان، والخطأ، وهذا هو الأولي لما فيه تعظيم من تعظيم الأنبياء، وقد أمرنا بتعظيمهم. أقول: إخراجه الأنبياء من هذا الحديث بالنظر إلي بناء المبالغة، وإثبات الخطأ لهم بالنظر إلي التوزيع. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الران)) ((نه)):أصل الرين الطبع والتغطية، والران والرين سواء كالذم والذيم، والعاب والعيب. ((قض)):المعنى بالقصد الأول في التكليف بالأعمال الظاهرة، والأمر بمحاسنها، والنهي عن مقابحها هو ما تكتسب النفس منها من الأخلاق الفاضلة، والهيئات الذميمة، فمن أذنب ذنبا أثر ذلك في نفسه، وأورث لها كدورة ما، فإن تحقق قبحه وتاب عنه، زال الأثر، وصارت النفس مصقولة صافية، وإن انهمك فيه، وأصر عليه زاد الأثر، وفشا في النفس، واستعلي عليها، وصار من أهل الطبع. وقوله: ((فذلكم الران)) أي فذلك الأثر المستعلي ما أخبر الله تعالي وعبر عنه بقوله:} ران علي قلوبهم {أي غلب واستولي علي قلوبهم ما كانوا يكسبون من الذنوب. وأدخل حرف التعريف علي الفعل، لما قصد به حكاية اللفظ، فأجراه مجرى الاسم، وشبه تأثر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث إنهما يضادان الجلاء والصفاء، وأنت الضمير الذي في ((كانت)) الراجع إلي ما دل عليه ((أذنب)) لتإنيثها علي تأويل السيئة. تم كلامه. وروي ((نكتة)) بالرفع علي أن ((كان)) تامة، فلا بد من الراجع، أي حدثت نكتة من أي من الذنب. ((مظ)):هذه الآية نازلة في حق الكفار، ولكن ذكرها في الحديث تخويف للمؤمنين، لكي يحترزوا عن كثرة الذنوب؛ لأن المؤمن لا يكفر بكثرة الذنوب، لكن يصير قلبه مسودا بها، فيشبه الكافر في اسوداد القلب. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ما لم يغرغر)) ((نه)):الغرغرة أن يجعل المشروب في الفم، ويردد إلي أصل الحلق، ولا يبلغ، فالمعنى ما لم تبلغ روحه حلقومه،

2344 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قال: وعزتك يا رب! لا أبرج أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي وارتفاع مكإني، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)) رواه أحمد. [2344] فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض. ((قض)):اعلم أن توبة العبد المذنب مقبولة ما لم يحضره الموت، فإذا حضره لم ينفعه؛ كما قال تعالي:} وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن {.وذلك لأن من شرط التوبة العزم علي ترك الذنب المتوب عنه، وعدم المعاودة عليه، وذلك إنما يتحقق مع تمكن التائب منه، وبقاء أوان الاختيار. ((مظ)):قال ابن عباس رضي الله عنهما: تقبل التوبة ما لم يعاين الرجل ملك الموت معناه أنه ما لم يتيقن الموت، لا أنه يرى ملك الموت بعينه؛ لأن كثير من الناس لم يره وفيه نظر، لقوله تعالي:} قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم {وقوله:} فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا {وهذا القائل من أين علم أن المحتضر لم ير ملك الموت؟ ((مظ)):هذا الخلاف في التوبة من الذنوب، أما لو استحل من مظلمة صح تحليله، وكذا لو أوصى بشيء أو نصب وليا علي أطفاله أو علي خير، صحت وصيته. الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((وعزتك يارب)) الحديث. فإن قلت: كيف المطابقة بين الحديث وبين قوله الله تعالي:} لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين* قال الحق والحق أقول* لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين {فإن الآية دلت علي أن المخلصين هم الناجون فحسب، والحديث دال علي أن غير المخلصين أيضا ناجون؟ قلت: قيد قوله تعالي:} ممن تبعك {أخرج العاصين المستغفرين منهم؛ لأن المعنى ممن تبعك، واستمر علي المتابعة، ولم يرجع إلي الله ولم يستغفر. قوله: ((وارتفاع مكإني)) عبارة عن علو شأنه من غير ذهاب إلي المكان، كقولهم: المجلس العالي.

2345 - وعن صفوان بن عسال ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي جعل بالمغرب بابا، عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة، لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله عز وجل: ((يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل)).رواه الترمذي، وابن ماجه. [2345] 2346 - وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن صفوان: قوله: ((إن الله تعالي جعل بالمغرب بابا)) ((قض)):المعنى أن باب التوبة مفتوح علي الناس، وهم في فسحة وسعة منها، ما لم تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت انسد عليهم، فلم يقبل منهم إيمان ولا توبة؛ لأنهم إذا عاينوا ذلك، واضطروا إلي الإيمان والتوبة، فلا ينفعهم ذلك، كما لا ينفع المحتضر. ولعله لما رأي أن سد الباب إنما هو من قبل المغرب، جعل فتح الباب أيضا من ذلك الجانب. وقوله: ((مسيرة سبعين عاما)) مبالغة في التوسعة، أو تقدير لعرض الباب بمقدار ما يسده من جرم الشمس الطالع من الغرب. قوله:} لا ينفع نفسا إيمانها {تمسكت المعتزلة بها علي أن الإيمان المجرد لا ينفع شيئا. –الكشاف-: ((لم تكن آمنت من قبل)) صفة لقوله:} نفسا {وقوله:} أو كسبت في إيمانها خيرا {عطف علي ((آمنت))،والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت- وهي آيات ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة خيرا في إيمانها. فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقتها ولم تكسب خيرا؛ ليعلم أن قوله تعالي:} الذين آمنوا وعملوا الصالحات {جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تتفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقاوة والهلاك. الجواب أنه إن حمل علي ما قال، لم يفد قوله:} في إيمانها {،لما يلزم من العطف علي ((آمنت)) حصول الكسب في الإيمان، فالوجه أن يحمل علي الوجه التقديري، بأن يقال: لا ينفع نفسا إيمانها حينئذ، أو كسبها في إيمانها خيرا، حينئذ لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل، والإيجاز من حلية التنزيل. الحديث العاشر عن معاوية: قوله: ((لا تنقطع الهجرة)) لم يرد بها الهجرة من مكة إلي المدينة؛ لأنها انقطعت، ولا الهجرة من الذنوب والخطايا، كما ورد ((المهاجر من هاجر الذنوب والخطايا)) لأنها عين التوبة، فليلزم التكرار، فيجب أن يحمل علي الهجرة من مقام لم يتمكن فيه.

التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).رواه أحمد، وأبو داود، والدرامي. [2346] 2347 - وعن أبي هريرة ((رضي الله عنه))، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر يقول: مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. فيقول: خلني وربي. حتى وجده يوما علي ذنب استعظمه فقال: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدا، ولا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر علي عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب! قال: اذهبوا به إلي النار)).رواه أحمد. [2347] 2348 - وعن أسماء بنت يزيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:} قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا { ـــــــــــــــــــــــــــــ من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله، قال تعالي:} ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها {. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يقول: مذنب)) ((مظ)):أي يقول للآخر: أنا مذنب، ويحتمل أن يكون معناه ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: الآخر مذنب. أقول: ويمكن أن يقال: إن المعنى: والآخر منهمك في الذنب، ليطايق قوله: ((مجتهد في العبادة))؛لأن القول كثيرا ما يعبر عن الأفعال المختلفة بحسب المقام. والتنكير في قوله: ((ملكا)) إما للإفراد شخصا، أي ملكا من أعوان ملك الموت، أو للتعظيم والتفخيم، أي ملك عظيم الشأن، وهو ملك الموت، كقوله تعالي:} إنا أرسلنا إلي فرعون رسولا {. قوله: ((اذهبوا به إلي النار)) ((مظ)):الضمير في ((اذهبوا)) يرجع إلي ما لم يجر له ذكر؛ لأنه لا إلباس في أن المراد منه الملائكة، وإدخاله النار؛ لجازاته علي قسمه بأن الله تعالي لا يغفر للمذنب؛ لأن هذا حكم علي الله تعالي، وجعل الناس آيسا من رحمته، وحكم بكون الله غير غفور. ((حس)):قال أبو هريرة فيه: ((والذي نفسي بيده! لتكلم بالكلمة أوبقت دنياه وآخرته)). الحديث الثاني عشر عن أسماء رضي الله عنها: قوله: ((يا عبادي)) في هذه الآية مبالغات شتى، والتفاسير مشحونة بها.

((ولا يبالي)).رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. وفي ((شرح السنة)) يقول: بدل: يقرأ. 2349 - وعن ابن عباس: في قوله تعالي:} إلا اللمم {،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما)). [2349] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إلا اللمم)) ((تو)):اللمم ما قل وصغر، ومنه قولهم: ألم بالمكان، إذا قل فيه لبثه، ويقال: زيارته لمام، أي قليلة، ومنه قول القائل: لقاء أخلاء الصفاء لمام، وإلي هذا المعنى أشار ابن عباس بما نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالي:} والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم {من قوله:)) إن تغفر اللهم- البيت))،والاستثناء فيها منقطع. ويجوز أن يكون قوله: ((إلا اللمم)) صفة، أي كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، وقد تنوعت أقاويل أهل التفسير فيه، فمن قائل: هو النظرة، والغمزة، والقبلة، ومن قائل: كل ذنب لم يذكر الله فيه حدا ولا عذابا، ولا خفاء في أن المراد منه صغائر الذنوب. أقول: وجه مطابقة الآية وتفسيرها للبيت، هو أن يقال: إن الشرط والجزاء في البيت متحدان، فيدل علي كمال الغفران ونهايته، ومجيئهما مضارعين للدلالة علي الاستمرار وأن هذا من شأنه تعالي، وكذا الاعتراض بـ ((اللهم)) يدل علي فخامة الشأن، أي من شأنك اللهم أن تغفر غفرانا كبيرا للذنوب العظيمة، وأما الجرائم الصغائر، فلا تنسب إليك؛ لأن أحدا لا يخلو عنها، وأنها مكفرة باجتناب الكبائر. فإن قلت: فعلي هذا كان الواجب أن يجاء بـ ((إذا)) المقتضية بالقطع، لا ((إن)) لاقتضائها الشك. قلت: ((إن)) هاهنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالي للنبي وأصحابه:} ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين {أي لأجل أنكم مؤمنين لا تهنوا ولا تحزنوا، وقولك للسلطان: إن كنت سلطانا فأعط الجزيل من النوال. ((قض)):البيت لأمية بن الصلت، أنشده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالي:} وما علمناه الشعر وما ينبغي له {ينفي إنشاء الشعر، لا إنشاده؛ لأنه رد لقولهم: هو شاعر.

2350 - وعن أي ذر، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالي يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديت؛ فاسألوني الهدى أهدكم. وكلكم فقراء إلا من أغنيت؛ فاسألوني أرزقكم. وكلكم مذنب إلا من عافيت؛ فمن علم منكم إني ذو قدرة علي المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم، وميتكم، ورطبكم، ويابسكم اجتمعوا علي أتقى قلب عبد من عبادي؛ ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم، وميتكم، ورطبكم، ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد؛ ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة، ثم رفعها؛ ذلك بإني جواد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقوله له: ((كن، فيكون)))) رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه. [2350] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((يقول الله تعالي: كلكم ضال)) الحديث سبق شرحه مستوفي في الفصل الأول، وسنذكر أبحاثا مخصوصة بهذا الحديث، منها قوله: ((كلكم مذنب إلا من عافيت)) أي من شأن بني آدم وجبلتهم، أن يذنب إلا من أعصمه من الأنبياء، والصديقين، فوضع ((عافيت)) موضع ((عصمت)) يشعر بأن الذنب مرض ذاتي، وصحته عصمة الله تعالي منه. وقوله: ((فمن علم)) مرتب علي حاصل معنى الذكور، أي فمن لم أعصمه فأذنب، وعلم إني ذو قدرة علي المغفرة، ((غفرت له)). قوله: ((ورطبكم ويابسكم)) ((مظ)):أي أهل البحر والبر، ويحتمل أن يراد بالرطب النبات والشجر، وباليابس الحجر والمدر، يعني لو صار كل مافي الأرض من النبات والشجر والحجر والمدر إنسانا كان كيت كيت. أقول: الرطب واليابس عبارتان عن الاستيعاب التام، كما في قوله تعالي:} ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين {.والإضافة إلي ضمير المخاطبين تقتضي أن يكون الاستيعاب في نوع الإنسان، فيكون تأكيدا للشمول بعد تأكيد، وتقريرا بعد تقرير. قوله: ((إلا كما لو أن أحدكم)) هذا تمثيل يوهم النقصان في الممثل أيضا. قلت: هو من باب الفرض والتنزل، أي لو فرض النقص في ملك الله تعالي، لكان مقداره مقدار الممثل به، نحو قوله تعالي:} لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي {وقد حققنا القول فيه في شرح

2351 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ:} هو أهل التقوى وأهل المغفرة {قال: ((قال ربكم)) أنا أهل أن أتقى، فمن اتقإني فأنا أهل أنا أغفر له)).رواه الترمذي، وابن ماجه، والدرامي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف. قوله: ((وذلك بإني جواد ماجد)) فيه ترق؛ لأن الماجد أبلغ من الجواد، فإن معناه السعة في الكرم والجلال، موقع ذلك هاهنا كموقع} أولئك علي هدى من ربهم {من الكلام السابق، يعني بإني جدير أن أتمدح بالجواد الماجد، لإني هاد كل ضال، ومغن لكل فقير، وعاف لكل مذنب، وغافر لكل مستغفر، وإن طاعتكم ومعصيتكم لا تزيد ولا تنقص من ملكي شيئا، وإن خزائن رحمتي لا ينفدها إسعاف حاجاتكم. قوله: ((عطائي كلام)) إلي آخره استئناف علي بيان الموجب لقوله: ((أفعل ما أريد)). ((تو)):المعنى الخلق يعتريهم العجز إذا أرادوا الانتقام، ويعتورهم العوز إذا أرادوا الإعطاء؛ لأنهم يفتقرون فيه إلي مادة فينقطع بهم انقطاع المادة، وأنا الغني القادر الذي لا يفتقر إلي المواد، ولا ينقص ما عندي بالعطاء، وإني إذا أردت إيجاد شيء لم يتأخر كونه عن الأمر. قوله: ((كن فيكون)) –الكشاف-: ((كن)) من كان التامة، أي أحدث فيحدث، وهذا ومعناه أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون، ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، ولا يتوقف ولا يمتنع، ولا يكون فيه الإباء. الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أهل التقوى)) أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب، أو دين، أو ما يجري مجراهما من صناعة، وبيت وبلد وضيعة. وكما قيل لمن يجمعهم دين: هم أهل دين، كذا نفاه عن ابن نوح بقوله:} إنه ليس من أهلك {ثم تجوز واستعمل في معنى الخليق والجدير، فقيل: فلان أهل لكذا، أي خليق به، وهو المعنى بقوله: ((هو أهل التقوى)). والواو في قوله تعالي:} وأهل المغفرة {عاطفة بمنزلة الفاء السببية، أخبر الله تعالي أنه أهل التقوى، أي حقيق بأن يتقى منه، وأخبر بأنه حقيق يغفر لمن اتقاه، ففوض الترتب إلي ذهن السامع، ولعل الفاء في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله: ((فأنا أهل أن أغفر له)) تفسير لهذا الواو.

2352 - وعن ابن عمر، قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: ((رب! اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور)) مائة مرة. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2352] 2353 - وعن بلال بن يسار بن زيد مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثني أبي، عن جدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. غفر له، وإنا كان قد فر من الزحف)).رواه الترمذي، وأبو داود، لكنه عند أبي داود: هلال بن يسار، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2353] الفصل الثالث 2354 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يارب إني لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)).رواه أحمد. [2354] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إن كنا)) ((إن)) هي المخففة من الثقيلة، و ((اللام)) هي الفارقة، وفيه معنى التأكيد، وأن العد واقع ألبتة، والمعدود قوله: ((يقول)) علي تأويل أن يقول، كما في قوله: احضر الوغى، المعنى كنا نكثر أن نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قول: ((رب اغفر لي)) مائة مرة. الحديث السابع عشر عن بلال: قوله: ((الحي القيوم)) يجوز فيهما النصب صفة لـ ((الله))،أو مدحا، والرفع بدلا من الضمير، أو خبر مبتدأ محذوف علي المدح. قوله: ((من الزحف)) الزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيبا من زحف الصبي، إذا دب علي استه قليلا قليلا. أقول: وفي تخصيص ذكر الفرار عن الزحف إدماج لمعنى أن هذا الذنب من أعظم الكبائر لأن سياق الكلام، وارد في الاستغفار، وعبارته في المبالغة عن حط الذنوب عنه، فيلزم بإشارته أن هذا الذنب أعظم الذنوب. ((مظ)):أراد بقوله: ((فر من الزحف)) أنه فرمن حرب الكفار حيث لا يجوز له الفرار، وذلك بأن لا يكون عدد الكفار علي مثلي عدد جيش المسلمين. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن الله عز وجل ليرفع)) الحديث، دل الحديث علي أن الاستغفار يحط من الذنوب أعظمها، وهذا يدل علي أنه يرفع درجة غير المستغفر إلي ما لم يبلغها بعمله فما ظنك بالعامل المستغفر؟ ولو لم يكن في النكاح فضيلة

2355 - وعن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الميت في القبر إلا كالغريق المتغوث، ينتظر دعوة تلحقه من أب، أو أم، أو أخ، أو صديق، فإذا لحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن الله تعالي ليدخل علي أهل القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال، وإن هدية الأحياء إلي الأموات الاستغفار لهم)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [2355] 2356 - وعن عبد الله بن بسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)). رواه ابن ماجه، وروى النسائي في ((عمل يوم وليلة)) [2356] 2357 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أسأووا استغفروا)).رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2357] 2358 - وعن الحارث بن سويد، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه. قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه ـــــــــــــــــــــــــــــ غير هذا، لكفي به فضلا. فإن قلت: كيف طابق الباء في قوله: ((باستغفار)) و ((اللام)) في قوله: ((لي))؟ والظاهر أن يقال: لاستغفار. قلت: ليس بذلك، بل التقدير كيف حصل لي هذه؟ فقيل: حصل لك باستغفار ولدك. الحديث الثاني والثالث عن عبد الله: قوله: ((لمن وجد في صحيفته)) فإن قلت: لم يقل: ((طوبى لمن استغفر كثيرا)) وما فائدة العدول؟ قلت: هو كناية عنه، فيدل علي حصول ذلك جزما، وعلي الإخلاص؛ لأنه إذا لم يكن مختصا فيه، كان هباء منثورا، فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه، ووبالا له. قوله: ((في عمل يوم وليلة)) هو ترجمة كتاب صنف في الأعمال اليومية والليلية. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إذا أحسنوا استبشروا)) أي إذا أتو بعمل حسن، قرنوه بالإخلاص، فيترتب عليه الجزاء، فيستحقوا الجنة، ويستبشروا بها، كما قال:} وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون {فهو كناية تلويحية. وقوله: ((وإذا أساءوا استغفروا)) عبارة أن لا يبتليه بالاستدراج، ويرى عمله حسنا، فإن الله يضله فيهلك، كما قال تعالي:} أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء {.

قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر علي أنفه فقال به هكذا- أي بيده- فذبه عنه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لله أفرح بتوبة عبد مؤمن من رجل، نزل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستقيظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله. قال: أرجع إلي مكإني الذي كنت فيه. فأنام حتى أموت، فوضع رأسه علي ساعده ليموت، فاستيقظ؛ فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) روى مسلم المرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف علي ابن مسعود أيضا. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن الحارث: قوله: ((يرى ذنوبه)) المفعول الثاني محذوف، أي كالجبال، بدليل قوله: ((كذباب)).ويجوز أن يكون ((كأنه)) مفعولا ثإنيا، والتشبية تمثيل، شبه حالة ذنوبه وأنها مهلكة له بحالته إذا كان تحت جبل، علي منوال قوله: وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها، وغدوا بلاقع لم يشبه الناس بالديار، بل شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم، بحلول أهل الديار ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. دل التمثيل الأول علي غاية الخوف، والاحتراز من الذنوب، والثاني علي نهاية قلة المبالاة، والاحتفال بها. فإن قلت: ما التوفيق بين هذا القول، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح))؟ قلت: لما بالغ في احتراز المؤمن، وخوفه من الذنوب، وصوره بتلك الصورة الفظيعة الهائلة، تصور أنه طلب ملجأ وكهفا يلوذ إليه من ذلك الهول، فقيل له: ليس ذلك الملجأ والمفزع إلا إلي الله؛ لأنه أفرح إلي آخره، وذكر الفاجر وارد علي سبيل الاستطراد، كما في قوله تعالي:} ومن كل تأكلون لحما طريا {بعد قوله:} وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه {؛لأن البحرين تمثيل للمؤمن والكافر. قوله: ((لله أفرح)) الحديث قد مر شرحه في الفصل الأول، ويذكر بعض ما يختص به هاهنا. قوله: ((دوية)) ((مح)):هي بتشديد الواو والياء جميعا، وذكر مسلم في رواية أخرى ((داوية)) بزيادة ألف، وهي بتشديد الياء أيضا، وهي الأرض القفر والمفازة الخالية، فالدوية منسوبة إلي الدو، وأما الداوية فإبدال إحدى الواوين ألفا، كالطائي منسوبا إلي الطيء. و ((المهلكة)) –بفتح

2359 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب)). [2359] 2360 - وعن ثوبان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أحب أن لي الدنيا بهذه الآية} يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا {)) الآية. فقال رجل: فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((ألا ومن أشرك)) ثلاث مرات. [2360] 2361 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب)).قالوا: يارسول الله! وما الحجاب؟ قال: ((أن تموت النفس وهي مشركة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الميم وفتح اللام وكسرها- موضع خوف الهلاك، قوله: ((أو ما شاء الله)) إن كان الترديد من الراوي، كان التقدير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أو قال: ما شاء الله، وإن كان من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، تكون ((أو)) للتنويع، وكان التقدير: اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله من العذاب والبلاء غير الحر والعطش. قوله: ((فالله أشد فرحا)) ((الفاء)) هي التي تعقب المجمل بالمفصل تأكيدا وتقريرا له؛ لئلا يزاد فيه ولا ينقص. الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((المفتن)) ((نه)):وفي الحديث: ((المؤمن خلق مفتنا)) أي ممتحنا يمتحنه الله باالذنب، ثم يتوب ثم يعود ثم يتوب، يقال: فتنته أفتنه فتنا، وفتونا، إذا امتحنته، وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر. الحديث السابع عن ثوبان: قوله: ((بهذه الآية)) أي بدلها، وهي أرجى آية في القرآن، وذلك أن وحشيا قاتل حمزة عرض عليه آيات نحو ذلك، فما اطمأن ولا آمن إلا بها. و ((الواو)) في قوله: ((ألا ومن أشرك)) مانعة من حمل ((إلا)) علي الاستثناء، وموجبة لحملها علي حرف التنبيه، فقول السائل: ((فمن أشرك؟)) هل خص هذا العام بمن أشرك، أي المشرك داخل فيه أم خارج؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه داخل فيه، ويمكن أن ينزل السؤال علي قوله:} يا عبادي {يعني المشرك داخل في هذا المفهوم، وينادي بـ} يا عبادي {فقيل: ((نعم)) أو علي الذين أسرفوا أي هل يصح أن يقال لهم: أسرفوا علي أنفسهم، فقيل: نعم، أو علي} لا تقنطوا {فينهون عن القنوط، فقيل: نعم، أو علي قوله:} إن الله يغفر الذنوب جميعا {فقيل: نعم. وفي قوله: ((فسكت ثم قال)) يحتمل وجهين، أنه صلى الله عليه وسلم علم بوحي نزل عليه، فأجاب، أو تفكر واجتهد فأجاب.

(5) باب ((سعة رحمة الله))

روى الأحاديث الثلاثة أحمد، وروى البيهقي الأخير في كتاب ((البعث والنشور)). [2361] 2362 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لقى الله لا يعدل به شيئا في الدنيا، ثم كان عليه مثل جبال ذنوب غفر الله له)) رواه البيهقي في كتاب ((البعث والنشور)). 2363 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((التائب من الذنب كم لا ذنب له)).رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: تفرد به النهرإني وهو مجهول. [2363] وفي ((شرح السنة)) روى عنه موقوفا، قال: الندم توبة، والتائب كم لا ذنب له. (5) باب ((سعة رحمة الله)) الفصل الأول 2364 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما قضى الله الخلق كتب كتابا، فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)) وفي رواية: ((غلبت غضبي)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن أبي ذر رضي الله عنه قوله: ((لا يعدل به)) يحتمل معنيين، أحدهما أن لا يوازي ولا يساوي بالله شيئا، وثإنيهما أنه لا يتجاوز إلي غيره، فعلي هذا ((شيئا)) نصب علي نزع الخافض. الحديث العاشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: ((كمن لا ذنب له)) هذا من باب إلحاق الناقص بالكامل مبالغة، كما تقول زيد كالأسد، وإلا أنى يكون المشرك التائب معادلا بالنبي المعصوم؟. باب ((سعة رحمة الله)) الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لما قضى الله الخلق)) ((قض)):القضاء فصل الأمر، سواء كان بقول أو فعل، والمراد به هاهنا الخلق كما في قوله تعالي:} فقضاهن {أي لما خلق الله الخلق، حكم حكما جازما، ووعد وعدا لازما لا خلف فيه،

2365 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها ـــــــــــــــــــــــــــــ بـ ((أن رحمتي سبقت غضبي))،شبه حكمه الجازم الذي لا يعتريه نسخ، ولا يتطرق إليه تغيير بحكم الحاكم، إذا قضى أمرا وأراد إحكامه، عقد عليه سجلا، وحفظ عنده ليكون ذلك حجة باقية، محفوظة من التبديل والتحريف. وقوله: ((فوق العرش)) تنبيه علي تعظيم الأمر، وجلالة القدر، فإن اللوح المحفوظ ((تحت)) العرش، والكتاب المشتمل علي هذا الحكم فوق العرش، ولعل السبب في ذلك- والعلم عن الله تعالي- أن ما تحت العرش عالم الأسباب والمسببات، واللوح يشتمل علي تفاصيل ذلك، وقضية هذا العالم- وهو عالم العدل، وإليه أشار بقوله: ((ووبالعدل قامت السموات والأرض)) –إثابة المطيع وعقاب العاصي حسب ما يقتضيه العمل، من خير أو شر، وذلك يستدعي غلبة الغضب علي الرحمة، لكثرة موجبه ومقتضيه، كما قال تعالي:} ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك علي ظهرها من دابة {فتكون سعة الرحمة وشمولها علي البرية، وقبول إنابة التائب والعفو عن المشتغل بذنبه المنهمك به، كما في قوله تعالي:} وإن ربك لذو مغفرة للناس علي ظلمهم {أمرا خارجا عنه، مترقيا منه إلي عالم الفضل الذي هو فوق العرش. وفي أمثال هذا الحديث أسرار، إفشاؤها بدعة، فكن من الواصلين إلي العين دون السامعين للخبر. فإن قلت: ما المناسبة بين قضاء الخلق، وسبق الرحمة علي الغضب؟ قلت: لم يكن قضاء الخلق إلا للعبادة، قضاء لشكر تلك النعمة، قال تعالي:} وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {فمن الخلق من قام بالشكر علي قدر استطاعته لا بموجبه؛ لأن أحد لم يقدر علي أن يشكره حق شكره، ومنهم من قصر فيه، فسبقت رحمة الله تعالي في حق الشاكر، بأن وفي جزاءه، وزاد عليه بسعة رحمته ما لا يدخل تحت الحصر، وفي حق المقصر إذا تاب ورجع أن يغفره، ويتجاوز، وبدلها حسنات، ولم يغضب عليه، نحو قوله تعالي:} كتب علي نفسه الرحمة {ثم تعليله بقوله:} أنه من عمل منكم بسوء بجهالة ثم تاب من بعده {الآية. وعلي هذا ((قضى)) بمعنى فصل، أي فصل أمر الخلق، فمن منعم عليهم بالرحمة، ومغضوب عليهم بالسخط. ومعنى ((سبقت رحمتي)) تمثيل لكثرتها وغلبتها علي الغضب بفرسي رهان تسابقتا، فسبقت إحداهما علي الأخرى، وهذا التوجيه أنسب بالباب. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن لله مائة رحمة)) الحديث ((تو)):رحمة الله تعالي غير متناهية، فلا تعتورها التجزئة والتقسيم، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب

رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش علي ولدها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)) متفق عليه. 2366 - وفي رواية لمسلم عن سلمان نحوه. وفي آخره قال: ((فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)). 2367 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة؛ ما طمع بجنته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة؛ ما قنط من جنته أحد)) متفق عليه. 2368 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجنة أقرب من أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ للأمة مثلا، فيعرفوا التناسب الذي بين الجزئين، ويجعل لهم مثالا فيفهموا به التفاوت بين القسطين، قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الأولي، فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمتين الدارين علي الأقسام المذكورة، تنبيها علي المستعجم، وتوفيقا علي المستبهم، ولم يرد به تحديد ما قد جل عن الحد، أو تعديد ما تجاوز عن العد. قوله: ((وأخر الله)) عطف علي ((أنزل منها الرحمة))،وأظهر المستكن بيانا لشدة العناية برحمة الله الأخروية. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لو يعلم المؤمن)) سياق الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة لله تعالي، كما أن صفات الله تعالي غير متناهية، لا يبلغ كنه معرفتها أحد، كذلك عقوبته ورحمته، فلو فرض أن المؤمن وقف علي كنه صفة القهارية، أظهر منها ما يقنط من ذلك الخلق طرا، فلا يطمع بجنته أحد، هذا معنى وضع ((أحد)) موضع ضمير ((المؤمن)).ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس علي سبيل الاستغراق، فالتقدير: أحد منه. ويجوز أن يكون المعنى علي وجه آخر، وهو أن المؤمن قد اختص بأن يطمع بالجنة، فإذا انتفي الطمع منه، فقد انتفي عن الكل وكذلك الكافر مختص بالقنوط، فإذا انتفي القنوط عنه فقد انتفي عن الكل. ((مظ)):ورد الحديث في بيان كثرة عقوبته ورحمته، كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن عذابه، ولا ييأس كافر من رحمته. الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((من شراك نعله)) ((نه)):الشراك أحد سيور النعل التي يكون علي وجهها. أقول: ضرب القرب مثلا بالشراك؛ لأن سبب حصول الثواب والعقاب، إنما هو يسعى العبد، وتحري السعي بالأقدام، وكل من خيرا استحق

2369 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله- وفي رواية- أسرف رجل علي نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب! وأنت أعلم، فغفر له)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنة بوعده، ومن عمل شر استحق النار بوعيده، وما وعد وأوعد منجزان، فكأنهما حاصلان. وقوله: ((ذلك)) إشارة إلي المذكور، أي النار مثل الجنة في كونها أقرب من شراك النعل. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يعمل خيرا قط)) صفة رجل، والمقول قوله: ((إذا مات)) إلي آخره، وقد تنازع فيه ((قال وأوصى)) في الروايتين. قوله: ((أسرف)) ((مح)):أي بالغ وغلا في المعاصي، والسرف مجاوزة الحد في الشيء. قوله: ((ثم اذروا)) ((نه)):يقال: ذرته الريح، وأذرته، تذروه، وتذريه إذا أطارته، ومنه تذرية الطعام. قوله: ((إذا مات فاحرقوه)) لو حكى ما تلفظ به الرجل، لكان ينبغي أن يقال: إذا مت فاحرقوني، ثم اذروا نصفي، ولو نقل معنى ما تلفظ به، لينبغي أن يقال: إذا مات فليحرقه قومه، ثم ليذروه، فعدل عن ضمير المتكلم إلي الغائب تحاشيا عن وصمة نسبة التحريق، وتوهم الشك في قدرة الله تعالي إلي نفسه. قوله: ((فوالله لئن قدر الله)) ((اللام)) موطئة للقسم، وقوله: ((ليعذبنه)) جواب القسم. سدت مسد جواب الشرط. ((مح)): اختلفوا في تأويله علي وجوه، أولها قيل: لا يصلح حمله علي أنه أراد به نفي قدرة الله تعالي، فإن الشك فيها كفر، وقد قال في آخر الحديث: إنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالي، فغفر له، والكافر لا يخشاه ولا يغفر له، فله تأويلان: أحدهما: لئن قدر علي العذاب، أي قضاه، يقال منه: قدر- بالتخفيف والتشديد- بمعنى واحد، والثاني: أن ((قدر)) بمعنى ضيق، قال تعالي:} فقدر عليه رزقه {وقال:} فظن أن لن نقدر عليه أحد {. وثإنيهما: قيل: هو علي ظاهره، ولكن قاله وهو غير ضابط لكلامه، ولا قاصد حقيقة معناه، بل قاله في حالة غلب فيها الدهش، والخوف، والجزع، ولم يتدبر ما قاله، كالغافل والناسي، فلا يؤاخذ فيما قال. ونحوه قوله من قال حين وجد راحلته فرحا: ((أنت عبدي وأنا ربك)) ولم يكفر بذلك، وقد جاء في هذا الحديث من غير رواية مسلم ((فلعلي أضل الله)) أي أغيب عنه، وهذا يدل علي قوله: ((لئن قدر علي)) محمول علي ظاهره.

وثالثهما: قيل: هذا من جملة العرب، وبديع استعمالها، يسمونه مزج الشك باليقين، كقوله تعالي:} وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين {صورته صورة الشك، والمراد به اليقين. ورابعها: قيل: إنه جهل صفة من صفات الله تعالي، وقد اختلفوا في تكفير جاهل صفة من صفات الله تعالي، قال القاضي عياض: وممن كفره ابن جرير الطبري، وقال به أبو الحسن الأشعري أولا، وقال آخرون: لا يكفر به، بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن، وعليه استقر مذهبه. قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا شرعا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق. وقالوا: لو سئل الناس عن الصفات، لوجد العارف بها قليلا. وخامسها: قيل: هذا الرجل كان في زمان فترة حين ينفع مجرد التوحيد، ولا تكليف قبل ورود الشرع علي المذهب الصحيح؛ لقوله تعالي:} وما كنا معذبين حتى نبعث فيهم رسولا {. وسادسها: قيل: إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالي. ((قض)):يحتمل أن يكون قوله: ((لئن قدر الله عليه)) من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معناه: أنه تعالي لو وجده علي ما كان عليه، ولم يفعل به مافعل، فترحم عليه بسببه، ورفع عنه أعباء ذنبه، لعذبه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، أو لو ضيق عليه، وناقشه في الحساب، لعذبه أشد العذاب ويحتمل أن يكون من تتمة كلام الموصي علي غير لفظه. أقول: وفي صحيح مسلم علي ما رواه الشيخ محيي الدين، وبنى عليه الشرح لفظة ((علي)) فلا يكون محتملا للوجه الأول، وعلي ما هو في أكثر السنة، وهو لفظة ((عليه)) إما الراوي حكى معنى لفظة لا ما تلفظه، أو قاله الرجل دهشا. والشيخ التوربشتي استشهد بالوجه الثالث، وهو مزج الشك باليقين لقوله تعالي:} فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب {وسماه بتجاهل العارف. وتحريره: أن الله تعالي أراد أن يحقق ما أنزل عليه من أمر أهل الكتاب، ويقرره عنده، وعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشك فيه قطعا، وإنما قاله تهييجا وإلهابا له، ليحصل له مزيد ثبات، ورسوخ قدم فيه، كذلك هذا الرجل علم أن الله تعالي قادر علي أن ينشره، ويبعثه، ويعذبه بعد ذلك، ويؤيده ما ورد في رواية آخرى ((وإن الله يقدر علي أن يعذبني)) فأراد أن يحرض القوم علي إنفاذ وصيته، فأخرج الكلام في معرض التشكيك لهم لئلا يتهاونوا في وصيته، فيقوموا بها حق القيام.

2370 - وعن عمر بن الخطاب، قال: قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى، إذا وجدت صبي في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) فقلنا: لا، هي تقدر علي أن لا تطرحه. فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما تنزيله علي ما استشهد به الشيخ محيي الديث بقوله:} وإنا وإياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين {هو أن هذا من الكلام المصنف، وإرخاء العنان، فإن قوله صلى الله عليه وسلم هذا وارد علي التنزل، وبعث الخصم علي التفكر لينظر في حال نفسه من الزيغ والضلال، وحاله صلى الله عليه وسلم من الهدى والصلاح، فيقف علي ما هو عليه وما عليه رسول الله، فيذعن للحق ولا يغضب، وكذلكم هذا الرجل أوصى أهله فيما أوصى، ثم عقبه بهذا الكلام، فيتفكروا في ذلك، وما كانوا عليه من الفساد، وعرفوا أن ما قاله حق، فينفذوا وصيته، ويبذلوا جهدهم فيه. وينصر الوجه الرابع- وهو أن الجاهل بصفة من صفات الله تعالي لا يكفر- قول الحواريين لعيسى عليه السلام- وهم خلصاؤه-:} هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء {. الحديث السادس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((سبي)) ((نه)):السبي النهب، وأخذ الناس عبيدا وإماءا، والسبية المرأة المنهوبة، فعيلة بمعنى مفعولة، وجمعها السبايا. قوله: ((قد تحلب)) ((تو)):أي سال. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت عمرا يتحلب فوه، أي يتهيأ رضابه للسيلان. و ((تسعى)) أي تعدو، وروى في كتاب مسلم ((تبتغي)) أي طالبة لابنها، وفي كتاب البخاري ((تسقي)) وليس بشيء. ((مح)):قال القاضي: الصواب ما في رواية البخاري ((تسعى)) بالسين من السعى. أقول: قوله: ((وفي كتاب البخاري تسقي كما في بعض نسخ المصابيح)) إن كان ردا للرواية، فلا كلام فيه، وإن كان الرد من حيث الدراية، فغير مستقيم؛ لأن ((تسقي)) إذا جعل حالا مقدرة من ضمير المرأة بمعنى قد تحلب ثديها مقدرة السقي، ففاجأت صبيا من الصبيان، فأي بعد فيه؟. قوله: ((وهي تقدر)) ((الواو)) للحال، وصاحبها مقدر، أي لا تكون طارحة حال قدرتها علي أن لا تطرح، وفائدة الحال أن هذه المرأة استطاعت أن تحفظ الولد، ولا اضطرت إلي طرحه، بذلت جهدها فيه، والله تعالي منزه عن الاضطرار، فلا يطرح عبده في النار ألبتة.

2371 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحد منكم عمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته؛ فسددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا أنت يا رسول الله؟)) عدل عن مقتضى الظاهر، وهو ((ولا إياك)) انتقالا عن الجملة الفعلية إلي الجملة الاسمية، فيكون التقدير ((ولا أنت ممن ينجيه عمله)) استبعادا هن هذه النسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا أنا)) فليكون مطابقا لقولهم: ((ولا أنت)).قوله: ((إلا أن يتغمدني الله)) الاستثناء مقطع. ((نه)):يلبسنيها، ويسترني بها، مأخوذ من غمد السيف وهي غلافه يقال: غمدت السيف وأغمدته. والغدو سير أول النهار، نقيض الرواح، يقال: غدا يغدو غدوا. قوله: ((فسددوا)) ((نه)):سدد الرجل إذا صار ذا سداد، وسدد في رميته، إذا بالغ في تصويبها وإصابتها. وقارب الإبل، أي جمعها حتى لا تتبدد، والمقاربة أيضا القصد في الأمور التي لا غلو فيها، ولا تقصير. و ((الدلجة)) سير الليل. وقوله: ((وشيء من الدلجة)) مجرور بالعطف علي قوله: ((بالغدو والروحة)) ((مظ)):تقديره: وليكن في مشيتكم شيء من الدلجة، ((شغف)):وارتفع ((شيء)) علي الابتداء، وخبره محذوف، أي شيء من الدلجة اعملوا فيه علي تقدير مطلوب فيه عملكم. قوله: ((والقصد القصد)) ((نه)):أي عليكم بالقصد في الأمور في القول والفعل، وهو الوسط بين الطرفين من الإفراط والتفريط. ((قض)):النجاة من العذاب والفوز بالثواب بفضل الله ورحمته، والعمل غير مؤثر فيهما علي سبيل الإيجاب، بل غايته أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه وتقرب إليه الرحمة. ومعنى قوله: ((إلا أن يتغمدني الله برحمته)) يحفظني بها كما يحفظ السيف في غمده، ويجعل رحمته محيطة بي إحاطة الغلاف بما يحفظ فيه. وقوله: ((فسددوا)) بالغوا في التصويب، واقربوا إلي الله بكثرة القربات، والمواظبة علي الطاعات، واعبدوا الله طرفي النهار وزلفا من الليل. شبه العبادة في هذه الأوقات من حيث أنها توجه إلي مقصد وسعى للوصول إليه، بالسلوك والسير، وقطع المسافة في هذه الأوقات، أو معنى ((قاربوا)) اقتصدوا في الأمور، واجتنبوا طرفي الإفراط والتفريط، فلا تترهبوا فتسأم نفوسكم، ويختل معاشكم، ولا تنهمكوا في أمر الدنيا، فتعرضوا عن الطاعة رأسا. ((تو)):ليس المراد بهذا الحديث نفي العمل، وتوهين أمره، بل توقيف العباد علي أن العمل إنما يتم بفضل الله ورحمته، لئلا يتكلوا اغترارا بها، فإن الإنسان ذو السهو والنسيان، وعرضة

2372 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل أحد منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة الله)).رواه مسلم. 2373 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أسلم العبد وحسن إسلامه، يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)).رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ للآفات، قلما يخلص له من عمل من شائبة رياء، أو فساد نية، ثم إن سلم له العمل عن ذلك، فلا يسلم إلا برحمة من الله، ثم إن أرجى عمل من أعماله لا يفي بشكر أدنى نعمة من نعم الله، فأنى له أن يستظهر بعمل لم يهتد إليه إلا برحمة من الله وفضل منه! ((شف)):لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم أول الكلام علي أن العمل لا ينجي، ولا يوجب الخلاص، لئلا يتكلوا علي أعمالهم، عقبه بفاء التعقيب للحث علي الأعمال، والأمر بالمواظبة علي وظائف الطاعات، والاقتصاد في الأمور، لئلا يتوهموا أن العمل ملغي، وجوده وعدمه سواء، بل العمل أدعى للخلاص، وأقرب إلي النجاة، فقال: ((فسددوا وقاربوا)). أقول الفاء في قوله: ((فسددوا)) جزاء شرط محذوف، يدل عليه الكلام السابق، فقوله: ((لن ينجي أحد منكم)) أي من بني آدم يقتضي رد المخاطبين فيما اعتقدوه من أن النجاة في العمل، فيجب الاتكال عليه، والاستقصاء فيه، والمواظبة عليه ليلا ونهارا فردهم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لن ينجي أحد منكم))،وأجاب عن سؤالهم بما أجاب، وقد علم من شرعه صلى الله عليه وسلم، أن الأعمال غير مرفوعة أيضا، فعقبه بقوله: ((فسددوا)).وإنما قلنا: إن ((لن)) تقتضي رد المخاطبين فيما اعتقدوه؛ لأن ((لن)) تأكيدا وتشديدا، تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك، قلت: لن أقيم غدا، كما تفعل في إني مقيم وإني مقيم. الحديث الثامن والتاسع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((زلفها)) ((نه)):زلفها أي قدمها وأسلفها، والأصل فيه القرب والتقديم، قوله: ((القصاص)) ((تو)):القصاص هاهنا المجازاة، واتباع كل عمل بمثله، وأخذ من القصص الذي هو تتبع الأثر، وهو رجوع الرجل من حيث جاء، وجاء قوله: ((الحسنة بعشر أمثالها بسبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها)) مجيء التفسير للقصاص. أقول: الفاء في قوله: ((فحسن)) وقع موقع ((ثم)) في قوله: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أي أسلم واستقام علي الإسلام، بأن أدى حقه، وأخلص في عمله، ولم يرغ روغان الثعلب، ومضاف إليه بعد ما يعلم من المجموع، أي كان بعد حكم محو السيئات وتكفيرها بالإسلام والإخلاص فيه القصاص، أي المجازاة بمثله، فيكون قوله: ((السيئة بمثلها)) هو المراد

2374 - وعن ابن عباس ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات: فمن هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنة كاملة. فإن هم بها فعملها؛ كتبها الله عنده عشر حسنات إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف، كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنة كاملة. فإن هو هم بها فعملها؛ كتبها الله بها سيئة واحدة)) متفق عليه. الفصل الثاني 2375 - عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مثل الذي يعمل ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقصاص؛ لأن المثلية معتبرة فيه، وإن السيئة هي التي تقص لا الحسنة، فيكون قوله: ((الحسنة بعشر أمثالها)) مستطردا. وكالتوطئة لذكر السيئة. وهذا التأويل أنسب؛ لأن القصاص في الشرع مجازاة بمثل ما فعله من الجرح والقتل. فيؤخذ الجإني في سبيل الذي جاء منه من غير زيادة، فيجرح مثل جرحه، ويقتل كقتله صاحبه. والمراد بـ ((ضعف)) في قوله: ((سبعمائة ضعف)) المثل، وعليه قوله تعالي:} يضاعف لها العذاب ضعفين {. ((المغرب)) قال أبو عبيدة: معناه جعل الواحد ثلاثة، أي يعذب ثلاثة أعذبة، وأنكره الأزهري، وقال: هذا الذي يستعمله الناس في كلامهم، وإنما الذي قال الحذاق: إنها تعذب مثلي عذاب غيرها؛ لأن الضعف في كلام العرب المثل. الحديث العاشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فمن هم)) ((الفاء)) فيه تفصيلية؛ لأن قوله: ((كتب الحسنات والسيئات)) مجمل لم يفهم منه كيفية الكتابة، ففصله بقوله: ((فمن هم)) إلي آخره. وإنما جوزي من هم بسيئة ولم يعملها بحسنة كاملة؛ لأنه خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى، و ((حسنة كاملة)) مفعول ثان لـ ((كتبها)) بمعنى صيرها. ((مح)):ذكر في الأربعين: فانظر يا أخي- وفقني الله وإياك- إلي عظم لطفه، وتأمل هذه الألفاظ. وقوله: ((عنده)) إشارة إلي الاعتناء به، وقوله: ((كاملة)) للتوكيد، وشدة الاعتناء في السيئة التي هم بها ثم تركها، كتبها الله حسنة كاملة، فأكدها الله بـ ((كاملة))،وإن عملها كتبها سيئة واحدة، فأكدا تقليلا لها بـ ((واحدة)) ولم يؤكدها بـ ((كاملة)) ولله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه، وبالله التوفيق. الفصل الثاني الحديث الأول عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: قوله: ((إن مثل الذي)) الحديث ((مظ)):

السيئات ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة، قد خنقته ثم عمل حسنة، فانفكت حلقة ثم عمل حلقة أخرى فانفكت أخرى، حتى تخرج إلي الأرض)) رواه في ((شرح السنة)) [2375]. 2376 - وعن أبي الدرداء: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقص علي المنبر وهو يقول:} ولمن خاف مقام ربه جنتان {قلت: وإنى زنى وإن سرق؟ يا رسول الله! فقال الثانية:} ولمن خاف مقام ربه جنتان {فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق؟ يا رسول الله! فقال الثالثة:} ولمن خاف مقام ربه جنتان {فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق؟ يا رسول الله! قال: ((وإن رغم أنف أبي الدرداء)).رواه أحمد. [2376] 2377 - وعن عامر الرام، قال: بينا نحن عنده، يعني عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه، فقال: يا رسول الله! مررت بغيضة ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني عمل السيئات يضيق صدر عامله ورزقه، ويحيره في أمره، فلا تتيسر له أموره، ويبغضه عند الناس، فإذا عمل الحسنات تزيل حسناته سيئاته، فإذا زالت انشرح صدره، وتوسع رزقه، وتيسر له أموره، وصار محبوبا في قلوب الناس. و ((خنقته)) أي عصر حلقه وترقوته من ضيق تلك الدرع، ومعنى قوله: ((حتى تخرج إلي الأرض)) انحلت وانفكت حتى تسقط تلك الدرع، ويخرج صاحبها من ضيقها، فقوله: ((تخرج إلي الأرض)) كناية عن سقوطها. الحديث الثاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((مقام ربه)) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة، قال تعالي:} يوم يقوم الناس لرب العالمين {ويجوز أن يراد به أن الله قائم عليه، أي حافظ ومهيمن، من قوله:} أفمن هو قائم علي كل نفس بما كسبت {فهو يراقب ذلك، ولا يجسر علي معصية. ومعنى التثنية في ((جنتان)) أن له جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى تضم إليها علي وجه التفضيل. الحديث الثالث عن عامر: قوله: ((بغيضة شجر)) الغيضة هي الشجر الملتف، وإضافتها إلي

شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن، فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن، فاستدرت علي رأسي، فكشفت لها عنهن، فوقعت عليهن فلففتهن بكسائي، فهن أولاء معي. قال: ((ضعهن)).فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتعجبون لرحم أم الأفراخ فراخها؟ فو الذي بعثني بالحق: لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها. ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن)) فرجع بهن. رواه أبو داود. [2377]. الفصل الثالث 2378 - عن عبد الله بن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فمر بقوم، فقال: ((من القوم؟)).قالوا: نحن المسلمون وامرأة تحضب بقدرها، ومعها ابن لها، فإذا ارتفع وهج تنحت به، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أنت رسول الله؟ قال: ((نعم)) قالت: بأبي أنت وأمي، أليس الله أرحم الراحمين؟ قال: ((بلي)) قالت: أليس الله أرحم بعباده من الأم بولدها؟ قال: ((بلي)) قالت: إن الأم لا تلقي ولدها في ـــــــــــــــــــــــــــــ الشجر إما لمزيد البيان، أيراد بالشجر المرعى، كما جاء في الحديث ((ونأي بي الشجر)) أي بعد بي المرعى في الشجر. و ((الفرخ)) ولد الطير، وجمع القلة أفراخ، والكثرة فراخ، وجمع بينهما في الحديث إما اتساعا واستعمالا لكل من الجمعين مكان لآخر؛ لاشتراكهما في الجمعية، كقوله تعالي:} والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {وإما الإشعار بأن تلك القلة كانت خارجة عن العادة، وبالغة إلي حد الكثرة، ويشهد له الضمائر المتعاقبة في ((أخذتهن، فوضعتهن، فجاءت أمهن)).و ((أمهن معهن)) مبتدأ وخبر، و ((الواو)) للحال، و ((من)) في ((من حيث أخذتهن)) إما ابتدائية، أي حتى تجعل ابتداء وضعهن مكانا أخذتهن منه، بأن لا تضعهن مكانا آخر، أو زائدة علي مذهب الأخفش. و ((إلا لزومهن)) استثناء مفرغ لما في ((أبت)) من معنى النفي، و ((الرحم)) بالضم مصدر كالرحمة، ويجوز تحريكه مثل عسر وعسر. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((نحن المسلمون)) كان من الظاهر أن يقال في الجواب: نحن مضريون، أو قرشيون، أو طائيون، فعدلوا من الظاهر وعرفوا الخبر حصرا، أي نحن قوم

النار، فأكب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، ثم رفع رأسه إليها، فقال: ((إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي يتمرد علي الله، وأبي أن يقول: لا إله إلا الله)).رواه ابن ماجه. [2378] 2379 - وعن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليلتمس مرضاة الله، فلا يزال بذلك؛ فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة الله علي فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السموات السبع، ثم تهبط له إلي الأرض)).رواه أحمد. [2379] 2380 - وعن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل:} فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات {قال: كلهم في الجنة)).رواه البيهقي في كتاب ((البعث والنشور)). ـــــــــــــــــــــــــــــ لا نتجاوز الإسلا، توهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أنهم غير مسلمين. و ((تحضب)) بالحاء المهملة والضاد المعجمة، أي توقد، الجوهري: الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار، وأوقدتها به، والوهج- بالتحريك- حر النار، وبالسكون مصدر. قوله: ((إلا المارد)) ((غب)):المارد والمريد من شياطين الجن والإنس المتعري من الخيرات، من قولهم: شجر أمرد، إذا تعرى من الورق، وتعقيب المارد بالمتمرد وتكريره للمبالغة، وبلوغه غاية المرود. وقوله: ((أبي أن يكون)) عطف تفسيري علي قوله: ((إلا المارد المتمرد)) والكلام في هذا الحديث وأمثاله سبق مستوفي في باب الإيمان. الحديث الثاني عن ثوبان: قوله: ((يلتمس)) أي يطلب، واللمس إدراك بظاهر البشرة كالمس، ويعبر به عن الطلب، والمراد به هاهنا التقرب إلي الله بأصناف الطاعات. وقوله: ((بذلك)) خبر ((لا يزال)) أي ملتبسا بالالتباس. قوله: ((ثم تهبط له)) أي الرحمة لأجله ((إلي الأرض))،يعني محبة الله إياه، ثم يضع له القبول فيها، فمعنى هذا الحديث، ومعنى الحديث المشهور في المحبة متقاربان. الحديث الثالث عن أسامة رضي الله عنه: قوله:} فمنهم ظالم لنفسه {((الفاء)) تفصيلية، فصلت قوله تعالي:} الذين اصطفينا من عبادنا {بالأصناف الثلاثة علي سبيل الحصر، فالظالم لنفسه، هو المجرم المرجئ لأمر الله، والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا آخر سيئا، والسابق

(6) باب ما يقال عند الصباح والمساء والمنام

(6) باب ما يقال عند الصباح والمساء والمنام الفصل الأول 2381 - وعن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: ((أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وما فيها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، وسوء الكبر، ـــــــــــــــــــــــــــــ من السابقين المقربين، وقوله: ((كلهم في الجنة)) إيذان بأن قوله:} جنات عدن يدخلونها {استئناف علي تقدير سؤال سائل: ما لهؤلاء المصطفين الحائزين للفضل الكثير علي الثواب؟ فأجيب:} جنات عدن يدخلونها {.ويطابق هذا التفسير قولهم:} إن ربنا لغفور شكور {أي كثير الغفران للظالم لنفسه، وكثير الشكر للإثابة للسابق، وليس ببدل من} الفضل الكبير {المعني به السبق بالخيرات، كما زعم صاحب الكشاف، وأخرج الظالم والمقتصد من هذا العام، ومن ((الفضل الكبير والجنات))،وقد استقصينا القول فيه في فتوح الغيب. باب ما يقول عن الصباح والمساء والمنام الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((والحمدلله)) ((مظ)): عطف علي ((أمسينا وأمسى الملك لله)) وأمسى إذا دخل في المساء، وأمسى إذا صار، يعني دخلنا في المساء، وصرنا نحن، وجميع الملك، وجميع الحمدلله. أقول: الظاهر أنه عطف علي قوله: ((الملك لله)) ويدل عليه قوله بعد: ((له الملك وله الحمد))، وقوله: ((وأمسى الملك لله)) حال من ((أمسينا)) إذا قلنا: أنه فعل تام، ومعطوف علي ((أمسينا)) إذا قلنا: إنه ناقص، والخبر محذوف لدلالة الثاني عليه، والواو فيه كما في قول الحماسي: فأمسى وهو عريان. قال أبو البقاء: ((أمسى)) هاهنا الناقصة، والجملة بعدها خبر لها. فإن قلت: خبر كان مثل خبر المبتدأ لا يجوز أن تدخل عليه الواو، قيل: الواو إنما دخلت في خبر كان؛ لأن اسم كان يشبه الفاعل، وخبرها يشبه الحال. وقوله: ((ولا إله إلا الله)) عطف علي ((الحمدلله)) علي تأويل، و ((أمسى)) الفردإنية والوحدإنية مختصين بالله. فإن قلت: ما معنى ((أمسى الملك لله)) والملك له أبدا، وكذلك الحمد؟ قلت هو بيان حال القائل، أي عرفنا أن الملك والحمد لله لا لغيره. فالتجأنا إليه، واستعنا به، وخصصناه بالعبادة

وفتنة الدنيا، وعذاب القبر)) وإذا أصبح قال أيضا: ((أصبحنا، وأصبح الملك لله))،وفي رواية: ((ربي إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)) رواه مسلم. 2382 - وعن حذيفة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: ((اللهم باسمك أموت وأحيا)).وإذا استيقظ قال: ((الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) رواه البخاري. 2383 - وعن مسلم عن البراء. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثناء عليه، والشكر له، ثم طلب استمرار ذلك في بدخوله في الليل، واستعاذ مما يمنعه مما كان فيه في اليوم قائلا: ((أسألك من خير هذه الليلة)) إلي آخره. قوله: ((من خير هذه الليلة)) أي من خير ما ينشأ فيها، و ((خير ما فيها))، أي خير ما سكن فيها، قال الله تعالي:} وله ما سكن في الليل والنهار {. قوله: ((من الكسل)) ((تو)):الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير مع ظهور الاستطاعة. و ((الهرم)) كبر السن الذي يؤدي إلي تماذق الأعضاء، وتساقط القوى، وإنما استعاذ منه؛ لكونه من الأدواء التي لا دواء لها، والمراد بسوء الكبر ما يورثه كبر السن من ذهاب العقل، والتخابط في الرأي، وغير ذلك مما يسوء به الحال. أقول: يمكن أن يراد بالفقرات كلها معنى الترقي، استعاذ أولا من الكسل، أي أعوذ أن أتثاقل في الطاعة مع استطاعتي، ثم من الهرم الذي فيه سقوط بعض الاستطاعة، فيقوم ببعض وظائف العبادات، ثم من سوء الكبر الذي يصير فيه كالحلس الملقى علي الأرض، لا يصدر منه شيء من الخيرات، فيطابق هذا تفسيرنا قوله: ((أمسينا وأمسى الملك لله)). قوله: ((سوء الكبر)) ((نه)): ((الكبر)) يروى بسكون الباء وفتحها، فالسكون بمعنى البطر، والفتح بمعنى الهرم. ((خط)):والفتح أصح. أقول: والدراية أيضا تساعد الرواية؛ لأن الجمع بين البطر والهرم بالعطف، كالجمع بين الضب والنون، والتنكير في ((عذاب)) للتهويل والتفخيم. قوله: ((ذلك)) المشار ما سبق بإبدال ((أمسينا))، و ((أمسى)) بـ ((أصبحنا))،و ((أصبح)). الحديث الثاني عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((من الليل)) صلة لـ ((أخذ)) علي طريق الاستعارة، فإن لكل أحد حظا منه، وهو السكون والنوم فيه، فكأنه يأخذ منه حظه ونصيبه، قال الله تعالي:} جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه {فالمضجع علي هذا يكون مصدرا.

2384 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أوى أحدكم إلي فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) وفي رواية: ((ثم ليضطجع علي شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أحيانا بعد ما أماتنا)) ((مظ)):سمي النوم موتا؛ لأنه يزول معه العقل والحركة، تمثيلا وتشبيها، وقيل: الموت في كلام العرب يطلق علي السكون، يقال: ماتت الريح إذا سكنت، ويستعمل في زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة في قوله تعالي:} أو من كان ميتا فأحييناه {،وقوله تعالي:} إنك لا تسمع الموتى {،وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة، كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية، وغير ذلك. أقول: ولا ارتياب في أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو بتحري رضي الله وتوخي طاعته، والاجتناب عن سخطه وعقابه، فمن زال عنه هذا الانتفاع، ولم يأخذ نصيب حياته، فكان كالميت، وكان قوله: ((الحمدلله)) شكرا لنيل هذه النعمة، وزوال ذلك المانع. وهذا التأويل موافق للحديث السابق واللاحق من قوله: ((أمسينا وأمسى الملك لله))، ومن قوله: ((وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين به))،وينتظم معه قوله: ((وإليه النشور)) أي إليه المرجع في نيل الثواب مما نكتسبه في حياتنا هذه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بداخلة إزاره)) ((قض)):هي الحاشية اللي تلي الجسم وتماسه، وإنما أمر بالنفض بها؛ لأن المتحول إلي فراشه يحل بيمنه خارجة الإزار، وتبقى الداخلة معلقة فينفض بها. قوله: ((ما خلفه)) ((فا)): ((ما)) مبتدأ و ((يدري)) معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام. ((مظ)): ((خلفه)) أي أقام مقامه بعده علي الفراش، يعني لا يدري ما وقع في فراشه بعد ما خرج هو منه من تراب، أو قذاة، أو هوام. قوله: ((إن أمسكت نفسي)) هو من قوله تعالي:} الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمى {جمع النفسين في حكم التوفي، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك وهو قبض الروح، والإرسال وهو رد الحياة، أي الله يتوفي الأنفس، النفس التي تقبض، والنفس التي لم تقبض فيمسك الأولي ويرسل الأخرى. قوله: ((بما تحفظ به)) ((الباء)) مثلها في كتبت بالقلم، و ((ما)) موصولة مبهمة،

وفي رواية: ((فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات، وإن أمسكت نفسي فاغفر لها)) 2385 - وعن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلي فراشه نام علي شقه الأيمن ثم قال: ((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك. آمنت بكتابك الذين أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قالهن ثم مات تحت ليلته مات علي الفطرة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وبيانها ما دل عليه صلتها؛ لأن الله تعالي إنما يحفظ عباده الصالحين من المعاصي، ومن أن لا يهنوا في طاعته وعبادته، بتوفيقه ولطفه. قوله: ((بصنفة ثوبه)) ((فا)):هي حاشية الإزار التي تلي جسده. الحديث الرابع عن البراء: قوله: ((أسلمت نفسي إليك)) في هذا النظم غرائب وعجائب، لا يعرفها إلا الثقات من أهل البيان؛ فقوله: ((أسلمت نفسي)) إشارة إلا أن جوارحه منقادة لله تعالي في أوامره ونواهيه، وقوله: ((وجهت وجهي)) إلي أن ذاته وحقيقته مخلصة له بريئة من النفاق، وقوله: ((فوضت)) إلي أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه، لا مدبر لها غيره، وقوله: ((ألجأت ظهري إليك)) بعد قوله: ((فوضت أمري)) إلي أن بعد تفويض أموره- التي هو مفتقر إليها وبها معاشه، وعليها مدار أمره- يلتجئ إليه مما يضره، ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة، ثم قوله: ((رغبة ورهبة)) منصوبان علي المفعول له علي طريقة اللف والنشر، أي فوضت أمري إليك رغبة، وألجأت ظهري من المكاره والشدائد إليك رهبة منك؛ لأنه لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك. ((ملجأ)) مهموز، و ((منجأ)) مقصور همز للازدواج. وقوله: ((نبيك الذي أرسلت)) تخصيص من التخصيص، فعلي هذه قوله: ((رغبة ورهبة إليك)) من باب قوله: متقلدا سيفا ورمحا. ومعنى قوله: ((تحت ليلته)) أنه لم يتجاوز عنه إلا النهار؛ لأن يسلخ من النهار، فهو تحته، أو يكون المعنى: إن مت تحت نازلة تنزل عليك في ليلتك، وكذا معنى ((من)) الرواية الأخرى ((مت من ليلتك)) أي من أجل ما يحدث في ليلتك. وقوله: ((مات علي الفطرة)) أي مات علي الدين القويم ملة إبراهيم، فإنه عليه السلام أسلم واستسلم، وقال: أسلمت لرب العالمين، وجاء بقلب سليم. قوله: ((ونبيك الذي أرسلت)) ((تو)):في بعض طرق هذا الحديث عن البراء قال: قلت: ((وبرسولك الذي أرسلت)) قال: ((نبيك))،قيل: إنما رد عليه قوله؛ لأن البيان صار مكررا من غير إفادة زيادة في المعنى، وذلك مما يأبه البليغ، ثم لأنه كان نبيا قبل أن يكون رسولا،

وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: ((يا فلان! إذا أويت إلي فراشك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع علي شقك الأيمن، ثم قلت: اللهم أسلمت نفسي إليك، إلي قوله: أرسلت)) وقال: ((فإن مت من ليلتك مت علي الفطرة، وإن أصبحت أصبحت خيرا)).متفق عليه. 2386 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلي فراشه قال: ((الحمدلله الذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولأنه اختار أن يثني عليه بالجمع بين الاسمين، ويعد نعمة الله في الحليين تعظيما لما عظم موقعه عنده من منة الله عليه وإحسانه إليه. ((نه)):النبي فعيل بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ للخبر؛ لأنه أنبأ عن الله تعالي، أي أخبر، ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه، وقيل: إن النبي مشتق من النباوة وهو الشيء المرتفع. ورد النبي صلى الله عليه وسلم علي البراء حين قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) بما رد عليه ليختلف اللفظان، ويجمع الثنائين معنى الارتفاع والإرسال، ويكون تعديدا للنعمة في الحالين، وتعظيما للمنة علي الوجهين. قوله: ((لرجل يا فلان)) وهو أسيد بن حضير. وقوله: ((إذا أويت إلي فراشك فتوضأ)) مثل قوله تعالي:} إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا {أي إذا أردت أن تجعل فراشك مكان نومك فتوضأ. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: ((فكم ممن لا كافي)) ((مظ)):الكافي والمؤوي، هو الله تعالي، يكفي شر بعض الخلق عن بعض، ويهيء لهم المأوى والسكن، فالحمد لله الذي جعلنا منهم، فكم من خلق لا يكفيهم الله شر الأشرار، بل تركهم وشرهم، وكم من خلق لم يجعل الله لهم مأوى، بل تركهم يهيمون في البوادي. أقول: ((كم)) تقتضي الكثرة، ولا يرى ممن حاله هذا إلا قليلا نادرا، علي أنه افتتح بقوله: ((أطعمنا وسقانا)).ويمكن أن ينزل هذا المعنى علي قوله تعالي:} ذلك بأن الله مولي الذين آمنوا والذين كفروا لا مولي لهم {. فالمعنى إنا نحمد الله تعالي علي أن عرفنا نعمته، ووفقنا لأداء شكرها، فكم من منعم عليه لم يعرفها فكفر بها. وكذلك الله مولي الخلق كلهم بمعنى أنه ربهم ومالكهم، لكنه ناصر للمؤمنين ومحب لهم، فالفاء في ((فكم)) لتعليل الحمد. ((مح)):قيل معنى ((آوانا)) هنا رحمنا، فقوله: ((كم ممن لا مؤرى له)) أي لا راحم ولا عاطف عليه.

2387 - وعن علي: أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه. فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة. قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: علي مكانكما، فجاء وقعد بيني وبينها، حتى وجدت برد قدمه علي بطني. فقال: ((ألا أدلكما علي خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضجعكما؛ فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين؛ فهو خير لكما من خادم)).متفق عليه. 2388 - وعن أبي هريرة، قال: جاءت فاطمة إلي النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما. فقال: ((ألا أدلك علي ما هو خير من خادم؟ تسبحين الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين عن كل صلاة، وعند منامك)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((تشكو)) يجوز أن يكون مفعولا له، أي أتت إليه إرادة أن تشكو، فحذف ((أن))،ويجوز أن يكون حالا مقدرة، أي مقدرة الشكوى، وقوله: ((فلم تصادفه)) عطف علي قوله: ((أتت النبي)) أي بيته، حتى يصح هذا العطف. وقوله: ((من الرحى)) أي من أثر إدارة الرحى. وقوله: ((وبلغها)) حال من الضمير ((أتت)). ((نه)):الرقيق المملوك، فعيل بمعنى مفعول، وقد يطلق علي الجماعة كالرفيق، يقال: أرق العبد وأرقه واسترقه. قوله: ((قال)) من كلام الراوي وهو علي رضي الله عنه، و ((ذهبنا)) أي طفقنا و ((نقوم)) خبره. وقوله: ((علي مكانكما)) أي دوما واثبتا علي ما أنتما عليه، وفي الحديث دلالة علي مكان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته إياها حيث خصتها فاطمة رضي الله عنها بالسفارة بينها وبين أبيها، دون سائر الأزواج. وفيه أيضا بيان إظهار غاية التعطف والشفقة علي ابنته وصهره، ونهاية الاتحاد برفع الحشمة والحجاب، حيث لم يزعجهما عن مكانهما، وتركهما علي ما هما عليه من الاضطجاع، بل أدخل رجله بينهما ومكث حتى وجدا برد قدمه علي بطنهما، ثم علمها ما هو الأهم بحالها من التسبيح والتحميد والتكبير من طلبها الرقيق، فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يتطلب، إيذانا بأن الأهم من المطلوب هو التزود للمعاد، والتجافي من دار الغرور، والصبر علي مشاقها ومتاعبها. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خادما)) ((نه)):الخادم واحد الخدم، ويقع علي الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال، كحائض وعانق.

الفصل الثاني 2389 - وعن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: ((اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير)).وإذا أمسى قال: ((اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2389]. 2390 - وعنه، قال: قال أبو بكر: قلت يا رسول الله! مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: ((قل: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه. قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك)) رواه الترمذي، وأبو داود، والدرامي. ... [2390] 2391 - وعن أبان بن عثمان، قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بك أصبحنا)) الباء متعلق بمحذوف، وهو خبر ((أصبح)) ولا بد من تقدير مضاف، أي أصبحنا متلبسن بنعمتك، أو بحياطتك وكلاءتك، أو بذكر اسمك، وهو قوله: ((بك نحيا وبك نموت)) حكاية عن الحال الآتية يعني يستمر حالنا علي هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال ومثله حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم باسمك أموت وأحيا)) أي لا أنفك عنه، ولا أهجر. ((مح)): ((باسمك أحيا وأموت)) معناه أنت تحييني، وأنت تميتني، فالاسم هنا المسمى. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومليكه)) فعيل بمعنى فاعل للمبالغة، كالقدير بمعنى القادر. قوله: ((وشركه)) ((نه)):يروى بكسر الشين وسكون الراء، وهو ما يدعو إليه من الإشراك بالله عز وجل، ويوسوس، وبفتح الشين والراء أي ما يفتن به الناس من حبائله، والشرك حبالة الصائد، الواحد شركه. أقول: فالإضافة علي الثاني محضة، وعلي الأول إضافة المصدر إلي فاعله. الحديث الثالث عن أبان ((مح)):في ((أبان)) وجهان الصرف وعدمه، والصحيح الأشهر

((ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات فيضره شيء)).فكان أبان قد أصابه فالج، فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إلي؟ أما أن الحديث كما حدثتك، ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره. رواه الترمذي، وابن ماجه، وأبو داود وفي روايته: ((لم تصبه فجاءة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح لم تصبه فجاءة بلاء حتى يمسي)). [2391] 2392 - وعن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أمسى: ((أمسينا وأامسى الملك لله، والحمدلله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة، وشر مابعدها، رب! أعوذ بك من الكسل، ومن سوء الكبر أو الكفر)).وفي رواية: ((من سوء الكبر والكبر، رب! أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر)) وإذا أصبح قال ذلك أيضا: ((أصبحنا وأصبح الملك لله)).رواه أبو داود، والترمذي وفي روايته لم يذكر: ((من سوء الكفر)) [2392] 2393 - وعن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعلمها فيقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ الصرف؛ لأن وزنه فعال، ومن لم يصرفه قال: وزنه أفعل. قوله: ((فيضره)) الفاء مثلها في قوله: ((لا يموت لمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار)) المعنى لا يجتمع هذا القول مع المضرة واللام في قوله ((ليمضي الله)) علة لعدم القول، وليس بفرض له، كقولهم: قعدت من الحرب جبنا. ((مح)) قوله: ((ما تنظر إلي)) ((ما)) هي الاستفهامية، وصلتها محذوفة، و ((تنظر إلي)) حال، أي مالك تنظر إلي. قوله: ((ليمضي الله)) ((اللام)) للعاقبة، كما في قوله: لدوا للموت. قوله: ((فجاءة البلاء)) ((نه)):فجئه الأمر وفجأه فجاءة وفجأة بالضم والمد، فاجأه ومفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مد علي المرة. الحديث الرابع والخامس عن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم: قوله: ((كان يعلمها فيقول)) ((الفاء)) مثلها

((قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله علي كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، فإنه من قالها حين يصبح حفظ حتى يمسي، ومن قالها حين ينسي حفظ حتى يصبح)) رواه أبو داود. [2393]. 2394 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح:} فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحيت تظهرون {إلي قوله:} وكذلك تخرجون {أدرك ما فاته في يومه ذلك. ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته)) رواه أبو داود. [2394] .. في قوله تعالي:} فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا {علي وجه؛ لأن القول عين التعليم. قوله: ((أعلم)) فائدة تخصيص ذكره في هذا المقام الإيذان بأن هذين الوصفين أعني القدرة الكاملة والعلم الشامل، هما أساس أصول الدين، وبهما يتم إثبات الحشر والنشر، ورد الملاحدة في إنكارهم البعث وحشر أجسادهم؛ لأن الله تعالي إذا علم الجزئيات والكليات علي الإحاطة يعلم الأجزاء المتفرقة المتلاشية في أقطار الأرض، وإذا قدر علي كل المقدورات قدر علي جمعها وإحيائها لا محالة. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله:} فسبحان الله {الآية سئل ابن عباس: هل نجد ذكر الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية، ((تمسون)) صلاتا المغرب والعشاء، و ((تصبحون)) صلاة الفجر، و ((عشيا)) صلاة العصر، و ((تظهرون)) صلاة الظهر. –الكشاف-:قوله: ((وعشيا)) متصل بقوله: ((حين تمسون))،وقوله: ((وله الحمد في السموات والأرض)) اعتراض بينهما، والمعنى أن علي المميزين كلهم من أهل السموات والأرضين أن يحمدوه، تم كلامه. فإن قلت: كان من مقتضى الظاهر أن يعقب قوله: ((وله الحمد)) بقوله: ((فسبحان الله)) كما جاء ((سبحان الله، والحمد لله))،وقوله: ((وعشيا)) بقوله: ((وحين تصبحون)) فما فائدة الفصل؟ ولم خص التسبيح بظرف الزمان، والتحميد بالمكان؟ قلت- والله أعلم-:قد مر أن الحمد

2395 - وعن أبي عياش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير؛ كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحطت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي. وإن قالها إذا أمسى؛ كان له مثل ذلك حتى يصبح)) ((قال حماد بن سلمة)):فرأي رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم. فقال: يارسول الله! إن أبا عياش يحدث عنك بكذا وكذا. قال: ((صدق أبو عياش)).رواه أبو داود، وابن ماجه. [2395] 2396 - وعن الحارث بن مسلم التميمي. عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسر إليه فقال: ((إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل قبل أن تكلم أحدا: اللهم أجرني ـــــــــــــــــــــــــــــ أشمل من التسبيح، فقدم التسبيح، وعلق به الإمساء والإصباح، وأخر التحميد وعلق به ((في السموات والأرض))،وإنما أدخله بين المعطوف والمعطوف عليه، ليجمع في الحمد بين ظرفي الزمان والمكان، إذ لاقتران الشيء بالشيء تعلق معنوي وإن لم يكن لفظيا، ولو قدم الحمد لاشتركا في الظرفين، ولو أخر لخص الحمد بالمكان، ونظير هذا ما ذكره صاحب الكشاف في عطف قوله:} وأرجلكم {علي قوله:} برءوسكم {قوله: ((أدرك)) ((مظ)):أي حصل له ثواب ما فات منه من ورد وخير. الحديث السابع عن أبي عياش: عياش بالعين والياء تحته نقطتان، والشين المعجمة، كذا في سنن أبي دواد وابن ماجه وجامع الأصول، ووقع في بعض نسخ المصابيح: ابن عباس، وهو سهو من الناسخ. قوله: ((عدل رقبة)) ((نه)):العدل بالكسر والفتح، في الحديث هما بمعنى المثل، وقيل: الفتح ما عدله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل العكس. والحرز الحفظ والصون، والضم إلي الشيء. قوله: ((من ولد إسماعيل)) صفة ((رقبة)) المعنى حصل له من الثواب مثل ما لو اشترى ولدا من أولاد إسماعيل عليه السلام، وأعتقه. وإنما خصه، لأنه أشرف الناس. قوله: ((فيما يرى النائم)) وضع موضع ((النوم)) ليؤذن باعتبار هذه الرؤيا وتحققها، فإنها جزء من أجزاء النبوة، والتعريف في ((النائم)) للعهد، أي النائم الصادق الرؤيا. ولو قيل: ((في النوم)) لاحتمل أن يكون من أضغاث الأحلام. الحديث الثامن عن الحارث: قوله: ((فقال)) عطف علي ((أسر)) كما سبق في قوله: ((يعلمها

من النار سبع مرات؛ فإنك إذا قلت ذلك، ثم مت في ليلتك كتب لك جواز منها. وإذا صليت الصبح فقل كذلك؛ فإنك إذا مت في يومك كتب لك جواز منها)) رواه أبو داود. [2396] 2397 - وعن ابن عمر، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني، ودنياي، وأهلي، ومالي. اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي. اللهم احفظني من بين يديك ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي. وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) ((قال وكيع)):يعني الخسف. رواه أبو داود. [2397] ـــــــــــــــــــــــــــــ فيقول))،وإنما أسر إليه؛ ليتلقاه بشراشره، ويتمكن في قلبه تمكن السر المكنون، لا أنه صلى الله عليه وسلم ضن به عن الغير، قوله: ((كتب له)) أي قدر له خلاص من النار. الحديث التاسع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء)) أي لا يتأتى منه ذلك، ولا يليق بحاله أن يدعها- الكشاف- في قوله:} فلم يك ينفعهم إيمانهم {:فإن قلت: ما الفرق بين قوله:} فلم يك ينفعهم إيمانهم {وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟)) قلت هو من كان في نحو قوله تعالي:} ما كان الله أن يتخذ ولدا {والمعنى لم يصح ولم يستقم وارد من جهة تسليط النفي علي الكون المتضمن للفعل المنفي كأنه قيل: ((إن ينفعهم إيمانهم)))). أقول: تفسيره بـ ((لا يصح، ولا يستقيم)) وارد من جهة تسليط النفي علي الكون المتضمن للفعل المنفي، كأنه قيل: هذا الفعل من الشؤون التي عدمها راجح علي الوجود، وأنها من قبيل المحال. قوله: ((العفو والعافية)) ((تو)):العفو هو التجاوز عن الذنب ومحوه، والعافية هي دفاع الله عن العبد الأسقام والبلايا، ويندرج تحت قوله:} في الدنيا والآخرة {كل مشنوء ومكروه. و ((عورات)) ساكنة الواو، جمع عورة، وأراد كل ما يستحيي منه، ويسوء صاحبه أن يرى ذلك منه، والروعات جمع روعة، وهي الفزعة. قوله: ((من بين يدي ومن خلفي)) استوعب الجهات الست بحذافيرها؛ لأن ما يلحق الإنسان

2398 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح: اللهم أصبحنا نشهدك، ونشهد حملة عرشك وملائكتك، وجميع خلقك، أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، إلا غفر الله له ما أصابه من يومه ذلك من ذنب. وإن قالها حين يمسي غفر الله له ما أصابه في تلك الليلة من ذنب)) رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2398] 2399 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد مسلم يقول إذا أمسى وإذا أصبح ثلاثا: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا؛ إلا كان حقا علي الله أن يرضيه يوم القيامة)) رواه أحمد، والترمذي. [2399] .. من نكبة وفتنة، فإنه يحيق به، ويصل إليه من إحدى هذه الجهات، والفرق بين استعمال ((من)) مع قوله: ((من بين يدي ومن خلفي)) وحروف المجاورة مع ((عن يميني وعن شمالي)) قد مضى. وأما تخصيص جهة السفل بقوله: ((وأعوذ بعظمتك أن اغتال)) فليدمج قوله تعالي:} ولو شيءنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب)) وما أحسن موقع قوله: ((بعظمتك)) في هذا المقام! فليتدبر. قوله: ((أن أغتال)) ((غب)):الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به، يقال: غال يغوله غولا، واغتاله اغتيالا، ومنه سمي السعلاة غولا. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نشهدك)) أداء الشهادة يوم أشهدهم بها علي أنفسهم، وتجديد لها في كل صباح ومساء، وعرض من أنفسهم أنهم ليسوا عنها غافلين، والاستثناء في قوله: ((إلا غفر الله له)) مفرغ، وقد سبق أن المستثنى منه جواب الشرط المحذوف. الحديث الحادي عشر عن ثوبان: قوله: ((ما من عبد مسلم)) التنكير فيه للتعظيم، أي كامل في إسلامه، راض بقضاء ربه، وبنبوة حبيبه، وبدين الإسلام، وأظهر هذا الاعتقاد من نفسه قولا وفعلا، كان حقا علي الله أن يرضيه. ولعلو شأن هذه المرتبة التي هي الرضي من الجانبين، خص الله عز وجل كرام الصحابة بها حيث قال عز من قائل:} رضي الله عنهم وضوا عنه {.والحق بمعنى الواجب، إما بحسب الوعد أو الإخبار، وهو خبر ((كان)) واسمه ((أن يرضيه))، وهذه الجملة خبر ((ما))،والاستثناء مفرغ.

2400 - وعن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام، وضع يده تحت رأسه ثم قال: ((اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك- أو تبعث عبادك)) رواه الترمذي. [2400] 2401 - ورواه أحمد عن البراء. [2401] 2402 - وعن حفصة ((رضي الله عنها)) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده، ثم يقول: ((اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)).ثلاث مرات. رواه أبو داود. [2402] 2403 - وعن علي ((رضي الله عنه))،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند مضجعه: ((اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك)) رواه أبو داود. [2403] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر إلي الرابع عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((بوجهك الكريم)) ((قض)):وجه الله مجاز عن ذاته عز وجل، تقول العرب: أكرم الله وجهك، بمعنى أكرمك، وقال تعالي:} كل شيء هالك إلا وجه {أي ذاته. والكريم يطلق علي الشريف النافع الذي يدوم نفعه، ويسهل تناوله. و ((الكلمات التامات)) مر تفسيرها، والاستعاذة بها بعد الاستعاذ بذاته تعالي إشارة إلي أنها لا توجد نابضة حركة ولا قابضة سكون من خير أو شر إلا بأمره التابع لمشيئته، قال تعالي:} إنما أمرنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون {. ((ما أنت آخذ بناصيته)) أي ما هو في ملكك، وتحت سلطانك، وأنت متمكن من التصرف فيه ما تشاء، والأخذ بالناصية كناية عن الاستيلاء، والتمكن من التصرف في الشيء. وإنما عدل إلي هذه العبارة، ولم يقل: من شر كل شيء، إشعارا بأنه المسبب لكل ما يضر وينفع، والمرسل له لا أحد يقدر علي منعه، ولا شيء ينفع في دفعه، وإليه أشار بقوله: ((لا يهزم جندك))،فإذن لا مفر منه إلا إليه. أقول: وكنى بالأخذ بالناصية عن فظاعة شأن ما تعوذ من شره. قوله: ((المغرم والمأثم)) ((نه)):المغرم مصدر وضع موضع الاسم، ويريد به مغرم الذنوب والمعاصي، وقيل: المغرم كالغرم، وهو الدين، ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله تعالي، أو

2404 - وعن أبي سعيد، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يأوي إلي فراشه: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه ثلاث مرات؛ غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، أو عدد رمل عالج، أو عدد أوراق الشجر، أو عدد أيام الدنيا)) رواه الترمذي وقال: حديث غريب. [2404] 2405 - وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يأخذ مضجعه بقراءة سورة من كتاب الله؛ إلا وكل الله به ملكا فلا يقربه شيء يؤذيه، حتى يهب متى هب)) رواه الترمذي. [2405] ـــــــــــــــــــــــــــــ فيما يجوز، ثم عجز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه وهو قادر علي أدائه فلا يستعاذ منه. و ((المأثم)) الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه وضعا للمصدر موضع الاسم. قوله: ((ذا الجد)) ((تو)):قد فسر الجد بالغنى، وهو أكثر الأقاويل، وهو في المعنى بمعنى قوله سبحانه:} وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفي {.وقيل: المراد منه الحظ والبخت، وروى أن جمعا من المسلمين تذاكروا فيما بينهم الجدود، فقال بعضهم: جدي في النخل، وقال آخر: جدي في الإبل، وقال آخر: جدي في كذا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بدعائه هذا. فإن صح فهو الوجه لا معدل عنه. ورواه بعضهم بكسر الجيم، ورد عليهم أبو عبيد فقال: الجد الانكماش، والله تعالي دعا الناس إلي طاعته، ومدحهم بالإسراع فيها، فكيف يدعوهم إليه، ثم يقول: ((لا ينفعهم))؟ وقال ابن الأنباري: ما أظن القوم ذهبوا إلي الذي قاله أبو عبيد، بل ذهبوا إلي أن صاحب الجد إلي حيازة الدنيا الحريص عليها، لا ينفعه ذلك، وإنما ينفعه عمل الآخرة. الحديث الخامس عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((عالج)) ((نه)).وهو ما تراكم من الرمل. ودخل بعضه في بعض، والعوالج جمعه وفي حديث الدعاء وما تحتويه عوالج الرمال)) أقول: فعلي هذا لا يضاف الرمل إلي عالج؛ لأنه وصف له. وذهب المظهر إلي أن ((عالج)) موضع، فأضاف. الحديث السادس عشر عن شداد قوله: ((بقراءة سورة)) حال، أي مفتتحا بقراءة سورة. قوله: ((هب)) ((نه)):هب النائم هبا هبوبا استيقظ.

2406 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ((رضي الله عنهما))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا، ويكبره عشرا)).قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده. قال: ((فتلك خمسون ومائة في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان. وإذا أخذ مضجعه يسبحه، ويكبره، ويحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في الليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟)). قالوا: وكيف لا نحصيها؟ قال: ((يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا، حتى ينفتل فلعله لا يفعل، ويأتيه في مضجعه فلا يزال ينومه حتى ينام)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [2406] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن عبد الله: قوله: ((خلتان)) ((قض)):الخلة الخصلة، ((لا يحصيهما)) لا يأتي بهما، ولا يحافظ عليهما، لما كان المأتي به من جنس المعدودات، عبر عن الإتيان بها بالإحصاء. و ((ألا)) حرف تنبيه، وهي بالجملة المصدرة بها اعتراض أكد بها التحضيض والتحريض عليهما. وقوله: ((يسبح الله- إلي قوله- ويكبره عشرا)) بيان إحدى الخلتين، وقوله: ((فتلك خمسون ومائة)) فذلكة الكلمات المذكورة في دبر الصلوات، وجملة تعدادها في اليوم والليلة، والمحصيات خلف كل صلاة ثلاثون، وعدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس. قوله: ((وألف وخمسمائة من الميزان)) لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقوله: ((وإذا أخذ مضجعه)) إلي آخره بيان للخلة الأخرى. قوله: ((فأياكم)) ((مظ)):يعني إذا أتى بهؤلاء الكلمات خلف الصلوات، وعند الاضطجاع يحصل له ألف حسنة وخمسمائة حسنة، فيعفي عنه بعدد كل حسنة وسيئة، فأيكم يأتي في كل يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ يعني يصير غفورا. أقول: ويمكن أن يقال: إن ((الفاء)) في ((فأيكم)) جواب شرط محذوف، وفي الاستفهام نوع إنكار، يعني إذا تقرر ما ذكرت، فأيكم يأتي بألفين وخمسمائة سيئة، حتى تكون مكفرة بها، فما لكم لا تأتوت بها، وأي مانع يمنعكم؟ فينطبق علي هذا إنكار قولهم: ((كيف لا نحصيها))،إذ لا يصرفنا عن ذلك شيء؟ فأجيبوا بقوله: ((يأتي أحدكم الشيطان)) يعني يوقع الشيطان في قلوبكم الوساوس والنسيان، حتى ينصرف عن الصلاة، وينام وقد نسي الذكر. و ((الفاء)) في ((فعلعل)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان الشيطان يفعل ذلك، فعسى الرجل أن لايحصيها. وهذا الكلام رد لإنكارهم المستفاد من الاستفهام، وجزمهم علي وجوب الإحصاء، والدليل علي أن ((لعل)) بمعنى ((عسى)) إدخال ((أن)) في خبره.

وفي رواية أبي داود قال: ((خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم)).وكذا في روايته بعد قوله: ((وألف وخمسائة في الميزان)) قال: ((ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ((ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويسبح ثلاثا وثلاثين)). وفي أكثر نسخ ((المصابيح)) عن: عبد الله بن عمر. 2407 - وعن عبد الله بن غنام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته)).رواه أبو داود [2407] 2408 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كان يقول إذا أوى إلي فراشه: ((اللهم رب السموات، والأرض، ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فمنك)) الفاء جواب الشرط كما في قوله تعالي:} وما بكم من نعمة فمن الله {.ومن شرط الجزاء أن يكون مسببا عن الشرط، ولا يستقيم هذا في الآية إلا بتقدير الإخبار، والتنبيه علي الخطأ، وهو أنهم كانوا لا يقومون بشكر نعم الله تعالي بل يكفرونها بالمعاصي، فقيل لهم: إني أخبركم إنما التبس بكم من نعم الله، وأنتم لا تشكرونها سبب لأن أخبركم بأنها من الله، حتى تقوموا بشكرها، والحديث بعكسها، أي إني أقر وأعترف بأن كل النعم الحاصلة من ابتداء خلق العالم إلي انتهاء دخول الجنة، فمنك وحدك، فأوزعني أن أقوم بشكرها، ولا أشكر غيرك. وقوله: ((وحدك)) حال من المتصل في قوله: ((فمنك)) أي فحاصل منك منفردا، وقوله: ((فلك الحمد)) تقرير للمطلوب، ولذلك قدم الخبر علي المبتدأ ليفيد الحصر، يعني إذا كانت النعمة مختصة بك، فها أنا أتقدم إليك، وأخص الحمد والشكر بك قائلا: لك الحمد لا لغيرك، ولك الشكر لا لأحد سواك. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم رب السموات والأرض)) الحديث. فإن قلت: ما وجه النظم بين هذه القرائن؟ قلت: وجهه أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنه تعالي: ((رب السموات والأرض)) أي مالكهما ومدبر أمرهما، عقبه بقوله: ((فالق الحب والنوى)) ليضم معنى الخالقية مع المالكية؛ لأن قوله تعالي:} يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي {بيان لـ ((فالق الحب والنوى))،ومعناه يخرج الحيوان والنامي من النطفة، والحب

التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر ذي شر، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر)) رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، ورواه مسلم مع اختلاف يسير. [2408] 2409 - وعن أبي الأزهر الأنماري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: ((بسم الله، وضعت جنبي لله، اللهم اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطإني، وفك رهإني، واجعلني في الندى الأعلي)) رواه أبو داود. [2409] ـــــــــــــــــــــــــــــ والنوى، ويخرج الميت من الحي، أي يخرج هذه الأشياء من الحيوان والنامي، ثم عقب ذلك كله بقوله: ((منزل التوراة))؛ ليؤذن بأن لم يكن إخراج الأشياء من كتم العدم إلي فضاء الوجود، إلا بتعلم وتعبد، ولا يحصل ذلك إلا بكتاب ينزله، ورسول يبعثه، كأنه قيل: يا مالك، يا مدبر، يا خالق، يا هادي. قوله: ((فليس قبلك شيء)) تقرير للمعنى السابق، وذلك أن قوله: ((أنت الأول)) مفيد للحصر لتعريف الخبر باللام، فكأنه قيل: أنت مختص بالأولية، فليس قبلك شيء، وعلي هذا قوله: ((فليس فوقك شيء)).وقوله: ((فليس دونك شيء)) بمعنى الإحاطة بالكائنات، فينبغي أن يحمل الظاهر والباطن علي معنى تقرر الإحاطة. نعم! الظاهر والباطن لهما معان لا تنحصر لكن باقتضاء المقام. ((مح)):قال الباقلإني: تمسكت المعتزلة بقوله: ((ليس بعدك شيء)) علي أن الأجسام تفنى بعد الموت، وتذهب بالكلية، ومذهب أهل السنة بخلافه، والمراد أن الفإني هو الصفات، والأجزاء المتلاشية باقية, ولهذا يقال: آخر من بقي من بني فلان، يراد حياته، ولا يراد فناء أحيائهم وموتاهم. الحديث العشرون عن أبي الأزهر: قوله: ((واخسأ)) وهو زجر الكلب. ((نه)):يقال: خسأته فخسئ، وخسأ وانخسأ، والخاسئ المبعد. ((تو)):معنى قوله: ((واخسأ شيطإني)) اجعله مطرودا عني كالكلب المهين، وأضافه إلي نفسه؛ لأنه أراد قرينه من الجن، أو الذي يبغي غوايته. وفك الرهن تخليص ما يوضع وثيقة للدين، وأراد بالرهان ها هنا نفس الإنسان؛ لأنها مرهونة بعملها، قال الله تعالي:} كل نفس بما كسبت رهينة {.و ((الندى)) أصله المجلس؛ لأن القوم يجتمون فيه، فإذا تفرقوا لم يكن نديا، ويقال أيضا للقوم، تقول: ندوت القوم أندوهم، أي

2410 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: ((الحمد لله الذي كفإني، وآوإني، وأطعمني، وسقإني، والذي من علي فأفضل، والذي أعطإني فأجزل، الحمد لله علي كل حال، اللهم رب كل شيء ومليكه، وإله كل شيء، أعوذ بك من النار)) رواه أبو داود. [2410] 2411 - وعن بريدة، قال: شكا خالد بن الوليد إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا رسول الله! ما أنام الليل من الأرق فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أويت إلي فراشك فقل: اللهم رب السماوات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا، أن يفرط علي أحد منهم، أو أن يبغي، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، لا إله إلا أنت)). ـــــــــــــــــــــــــــــ جمعتهم، والمعنى اجعلني من القوم المجتمعين، ويريد بـ ((الأعلي)) الملأ الأعلي وهم الملائكة، ومن أهل الندي إذا أريد به المجلس، ويقال: لا يكون الندي إلا الجماعة من أهل الندي والكرم، ويروى ((في النداء الأعلي)) وهو الأكثر، والنداء مصدر ناديته، ومعناه أن ينادي به للتنويه، والرفع به، ويحتمل أن يراد به نداء أهل الجنة- وهم الأعلون رتبة ومكانا- أهل النار، كم في القرآن:} ونادلا أصحاب الجنة أصحاب النار {. أقول: قوله: ((اللهم اغفر لي)) دعاء بمنزلة الحكم الذي رتب علي الوصف المناسب، فإنه لما جعل النوم والاستراحه لله تعالي، ليتسعين بها علي طاعته ويجتنب معاصيه، طلب أن يعينه تعالي علي طلبته من فك الرهان، وخذلان من يحجره عنه من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، ثم طلب ما هو المنحة الأسنى، والمقامة الزلفي، والندي الأعلي، فأعجب بقوم هذا نومهم، فكيق يقظتهم؟ الحديث الحاي والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((من علي فأفضل)) أي أنعم فزاد، ((الفاء)) فيه لترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، فالإعطاء حسن، وكونه جزيلا أحسن، وهكذا المنون. وقدم الامتنان علي الإعطاء؛ لأنه غير مسبوق بعمل للعبد، كالإعطاء فإنه قد يكون بإزاء عمل من العبد. الحديث الثاني والعشرون عن بريدة: قوله: ((من الأرق)) ((نه)):الأرق هو السهر، ورجل أرق، إذا سهر لعلة، فإن كان السهر من عادته، قيل: أرق- بضم الهمزة والراء-،فـ ((من)) ابتدائية للتعليل، أي لأجل هذه العلة، و ((ما أقلت)) أي ما رفعته الأرضون من المخلوقات،

رواه الترمذي وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، والحكم بن ظهير الراوي قد ترك حديثه بعض أهل الحديث. [2411] الفصل الثالث 2412 - وعن أبي مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم: فتحه، ونصره، ونوره، وبركته، وهداه. وأعوذ بك من شر ما فيه، ومن شر ما بعده. ثم أمسى فليقل مثل ذلك. رواه أبو داود. [2412] 2413 - وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: قلت لأبي: يا أبت! أسمعك تقول كل غداة: ((اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت)) تكررها ثلاث حين تصبح، وثلاثا حين تمسي. فقال: يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن، فأنا أحب أن أستن بسنته. رواه أبو داود. [2413] و ((العزة)) في الأصل القوة والشدة والغلبة، يقول: عز يعز- بالكسر- إذا صار عزيزا، وعز يعز- بالفتح- إذا اشتد. قوله: ((جارك)) الجار هو المستجير، كقول الشاعر: هم المانعون كالجار حتى كأنما ... لجارهم فوق السماكين منزل والجار الأول بمعنى المجير. ((غب)):يقال: استجرت فلان، فأجارني، قال تعالي:} إني جار لكم {} وهو يجير ولا يجار عليه {. أقول: فقوله ((عز جارك)) كالتعليل لقوله: ((كن لي جارا)) فإذا حمل علي الغلبة يكون معناه: اجعلني غالبا علي من يريد شرى من خلقك حتى أدفعهم عني، وإذا حمل علي الشدة يكون معناه اجعل لي شدة لا أكون بها مغلوبا لهم. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي مالك: قوله: ((فتحه ونصره)) وما بعده بيان لقوله: ((خير هذا اليوم)) والفتح الظفر بالبلد قهرا أو صلحا؛ لأنه متعلق ما لم يظفر به، والنصرة الإعانة والإظهار علي العدو. وهذا أصل لمعناهما، ويمكن التعميم فيهما. الحديث الثاني عن عبد الرحمن رضي الله عنه: قوله: ((اللهم عافني في سمعي)) خصهما بالذكر بعد ذكر البدن؛ لأن العين تجلو آيات الله المثبتة في الآفاق، والسمع هي الآيات المنزلة، فهما جامعان لدرك الآيات العقلية والنقلية، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا)).

(7) باب الدعوات في الأوقات

2414 - وعن عبد الله بن أبي الأوفي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: ((أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، والكبرياء والعظمة لله، والخلق والأمر والليل والنهار وما سكن فيهما لله، اللهم اجعل أول هذا النهار صلاحا، وأوسطه نجاحا، وآخره فلاحا، يا أرحم الراحمين)).ذكره النووي في كتاب ((الأذكار)) برواية ابن السني. [2414] 2415 - وعن عبد الرحمن بن أبزي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: ((أصبحنا علي فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلي دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلي ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)).رواه أحمد، والدرامي. [2415] (7) باب الدعوات في الأوقات الفصل الأول 2416 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن أحدكم إذا أراد أن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((أول هذا النهار صلاحا)) أي صلاحا في ديننا، بأن يصدر منا ما ننخرط به في زمرة الصالحين من عبادك، ثم إذا اشتغلنا بقضاء ربنا في دنيانا لما هو صلاح في ديننا، فأنجحها، واجعل خاتمة أمرنا بالفوز بمباغينا ونيل مطالبنا، مما هو سبب لدخول الجنة، فتتدرج في سلك من قيل فيهم:} أولئك علي هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون {. الحديث الرابع عن عبد الرحمن رضي الله عنه: قوله: ((وما كان من المشركين)) من الأحوال المتداخلة، أتى بها تقريرا وصيانة للمعنى المراد، وتحقيقا عما يتوهم من أن يجوز أن يكون حالا منتقلة، فرد ذلك التوهم بأنه لم يزل موحدا، ومثبتة؛ لأنها حال مؤكدة. باب الدعوات في الأوقات الوقت الزمان المفروض للعمل، ولهذا لا يكاد يقلل إلا مقدرا، نحو قولهم: وقت كذا، جعلت وقتا، له قال الله تعالي:} إن الصلوة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا {. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لو أن أحدكم)) ((لو)) هذه يجوز أن

يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا)) متفق عليه. 2417 - وعنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم)) متفق عليه. 2418 - وعن سليمان بن صرد، قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس أحدهما يسب صاحبه مغضبا، قد احمر وجهه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)).فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون. متفق عليه. [2418] تكون شرطيا، وجوابها محذوفا، وأن تكون للتمني. قوله: ((إذا أراد)) يجوز أن يكون ((إذا)) ظرفا، و ((قال)) خبر ((أن)) أي قال ذلك حين أراد، وأن تكون شرطية، وجزاؤها ((قال))، والجملة خبر ((أن)). وقوله: ((في ذلك)) أي في ذلك الوقت، وإنما نكر ((شيطان)) آخرا بعد تعريفه أولا؛ لأنه أراد في الأول الجنس، وفي الآخر أفراده علي سبيل الاستغراق والعموم. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يقول عند الكرب)) ((مح)):فإن قيل: هذا ما ذكر، وليس فيه دعاء يزيل الكرب. فجوابه من وجهين: أحدهما أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء، والثاني هو كما ورد ((من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين)). الحديث الثالث عن سليمان: قوله: ((لو قال: أعوذ بالله)) ((لو قال)) ليس في نسخ المصابيح، ووجدناه في البخاري وشرح السنة هكذا، فيكون جوابه محذوفا، وهو مع جوابه بدل من قوله: ((قالها)) مع جوابه، وعليه رواية الجمع بين الصحيحين، وهي ((لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب عنه ما يجد)) قوله: ((إني لست بمجنون)) وفي رواية أخرى ((فانطلق إليه رجل، فقال له: تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: أترى بي بأس؟ أمجنون أنا؟ أذهب)) وفي رواية أبي داود ذلك الرجل

2419 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكا. وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها رأت شيطانا)).متفق عليه. 2420 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا استوى علي بعيره خارجا إلي السفر كبر ثلاثا، ثم قال: ((((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلي ربنا لمنقلبون))،اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضي، ـــــــــــــــــــــــــــــ هو معاذ. هذا أيضا نشأ من غضب، وقلة احتمال منه، وسوء أدب. والحديث من قوله تعالي:} وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله {وذلك في حق من يتق الله، ولا يسيء الأدب، لقوله تعالي:} إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون {أي تذكروا ما أمر الله به ونهي عنه، فأبصروا السداد، ودفعوا ما وسوس به إليهم. ((مح)):قول الرجل هذا، قول من لم يتفقه في دين الله تعالي، ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالجنون، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل، ويفعل المذموم، ومن ثمة قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال: أوصني، قال: ((لا تغضب))،فردد مرارا، قال: ((لا تغضب))،ولم يزد عليه في الوصية علي ((لا تغضب))، وفيه دليل علي عظم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه، ويحتمل أن يكون القائل من المنافقين، أو جفاة العرب. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا سمعتم)) الحديث، لعل المعنى أن الديك أقرب الحيوانات صوتا إلي الذاكرين الله؛ لأنها تحفظ غالبا أوقات الصلوات، وأنكر الأصوات صوت الحمير، فهو أقربها صوتا إلي من هو أبعد من رحمة الله تعالي. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((استوى علي بعيره)) أي استقر علي ظهره. قوله: ((مقرنين)) ((قض)):مقرنين مطيقين مقتدرين، من أقرن له أطاقه وقوى عليه، وهو اعتراف بعجزه، وأن تمكنه من الركوب عليه بإقدار الله تعالي وتسخيره إياه. و ((منقلبون)) راجعون إليه. وفيه تنبيه علي أن السفر الأعظم الذي بصدده، وهو الرجوع إلي الله تعالي، فهو أهم بأن يهتم به، ويشتغل بالاستعداد له قبل نزوله. قوله: ((واطو لنا بعده)) عبارة عن تيسير السير بمنح القوة له ولمركوبه، وأن لا يرى ما يزعجه ويوقعه في التعب والمشقة.

اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو لنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل ((والمال))،اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)) ,إذا رجع قالهن وزاد فيهن: ((آيبون، تائبون، عائدون، لربنا حامدون)) متفق عليه. 2421 - وعن عبد الرحمن بن سرجس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أنت الصاحب)) ((تو)):الصاحب هو الملازم، وأراد ذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ، والاستئناس بذكره، والدفاع لما ينوبه من النوائب. و ((الخليفة)) هو الذي ينوب عن المستخلف، يعني أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في سفري وفي غيبتي عن أهلي، بأن يكون معيني وحافظي، وأن يلم شعثهم ويداوي سقمهم، ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم. قوله: ((وعثاء السفر)) ((نه)):أي شدته ومشقته. ((فا)):يقال: رمل وعث، ورملة وعثاء، لما يشتد فيه السير للينه، ثم قيل: للشدة والمشقة: وعثاء علي التمثيل. قوله: ((وكآبة المنظر)) ((نه)):الكآبة تغير النفس بالانكسار من شدة الوهم والحزن، وقيل المراد منه الاستعاذة من كل منظر تعقبه الكآبة عند النظر إليه. قوله: ((وسوء المنقلب)) ((فا)):أي ينقلب إلي وطنه فيلقى ما يكئب منه من أمر أصابه في سفره، أو ما تقدم عليه، مثل أن يعود غير مقضي الحاجة، أو أصابت ماله آفة، أو يقدم علي أهله فيجدهم مرضي، أو قد فقد بعضهم. قوله: ((لربنا حامدون)) ((لربنا)) يجوز أن يعلق بقوله: ((عابدون))؛لأن عمل اسم الفاعل ضعيف فيقوى به، أو بـ ((حامدون))؛ليفيد التخصيص، أي بحمد ربنا لا بحمد غيره، وهذا أولي؛ لأنه كالخاتمة للدعاء، ومثله في التعليق قوله تعالي:} لاريب فيه هدى {يجوز أن يقف علي ((لاريب)) فيكون ((فيه هدى)) مبتدأ وخبر، فيقدر خبر ((لاريب)) مثله، ويجوز أن يعلق بـ ((لاريب)) ويقدر مبتدأ لـ ((هدى)). الحديث السادس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((الحور بعد الكور)) ((نه)):أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم، وأصله من نقض العمامة بعد لفها. ((فا)): ((من الحور بعد الكون)) بالنون، وقال فيه:

2422 - وعن خولة بنت حكيم، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)).رواه مسلم. 2423 - وعن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة. قال: ((أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر من خلق، لم تضرك)).رواه مسلم. 2424 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: ((سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا، وأفضل علينا عائذا بالله من النار)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحور الرجوع، والكون الحصول علي حالة جميلة، يريد التراجع بعد الإقبال، وهو في غير هذا لحديث بالراء من كور العمامة بعد لفها. ((تو)):وقيل: نعوذ بالله من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا في جماعة. وفيه نظر؛ لأن استعمال ((الكور)) في جماعة الإبل خاصة، وربما استعمل في البقر، والجواب: ((أن باب الاستعارة غير مسدود، فإن العطن مختص بالإبل))،فيكنون عن ضيق الخلق بضيق العطن، علي أنهم يستعملون ألفاظا غير مقيدة بقيد فيما لا قيد له، كالمرسن لأنف الإنسان، والمشفر للشفة. فإن قلت: دعوة المظلوم محترز عنها سواء كانت في السفر أو الحضر، قلت: كذلك الحور بعد الكور، لكن السفر مظنة البلايا والمصائب، والمشقة فيه أكثر، فخصت به. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((التامات)) ((مح)):قيل: معناها الكاملات التي لا يدخلها نقص ولا عيب، وقيل: النافعة الشافية، وقيل: القرآن. ((مظ)):الكلمات التامات أسماؤه وصفاته؛ لأن كل واحدة منهما تامة لا نقص فيها؛ لأنها قديمة، والنقصان إنما يكون في المحدثات، وقيل: إنما يتعوذ بالقديم لا بالمحدث. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما لقيت)) ((ما)) يحتمل أن تكون استفهامية، ومعناه أي شيء لقيت، أي لقيت وجعا شديدا، ويجوز أن تكون للتعجب، أي أمرا عظيما، وأن تكون موصولة، والخبر محذوف، أي الذي لقيت لم أصفه لشدته. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأسحر)) ((تو)):أي دخل في وقت السحر، وقيل: إذا سار إلي وقت السحر، وعلي الأول معنى الحديث؛ لأنه أعم، ثم إنه كان

يقصد بذلك الشكر علي انقضاء ليلته بالسلامة ويراقب فضيلة الوقت، فإنه من ساعات الذكر. ((قض)):كان الأولي عرفا مواظبته علي هذا القول في أسحار أسفاره. قوله: ((سمع)) ((مح)):روي بوجهين- فتح الميم وتشديدها، وكسرها مع تخفيفها- واختار القاضي عياض هنا وفي المشارق، وصاحب المطالع التشديد، وأشار إلي أن رواية أكثر رواة مسلم، ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره، وقال مثله تنبيها علي الذكر والدعاء في هذا الوقت، وضبطه الخطابي وآخرون بالكسر والتخفيف. قال الخطابي: ومعناه شهد شاهد، وهو أمر بلفظ الخبر، وحقيقته ليسمع السامع، وليشهد الشاهد علي حمدنا لله تعالي علي نعمه، وحسن بلائه. ((تو)):البلاء النقمة أو الاختبار بالخير؛ ليتبين الشكر، وبالشر؛ ليظهر الصبر. أقول: إذا روى ((سمع)) بالتشديد فالواو في ((وحسن بلائه)) للعطف، وإذا روى بالتخفيف، يكون بمعنى مع؛ لأن حسن البلاء غير مسمع، بل هو مبلغ، وكلاهما قريب من خطاب العام، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((بشر المشائين)).يعني بلغ الأمر من فخامته وعظمة شأنه بحيث لا يختص سامع دون سامع أن يكون مأمورا بتبليغ هذا البشارة إلي صاحبه، وبتبليغ هاتين الخلتين، وهما حمدنا لله تعالي، وحسن بلائه علينا. وذلك أنه تعالي أنعم علينا فشكرناه، وابتلانا بالمحن فصبرناه؛ لأن كما ل الإيمان في الإنسان أن يكون صبارا شكورا، كما قال تعالي:} إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور {فيتوجه الثناء والشكر إلي الله تعالي علي حصول كمال الإيمان فيه. فظهر من هذا التقدير أن معنى الأمر أبلغ وأفخم من معنى الخبر؛ لأنه بشارة، والمطلوب بها التبليغ. قوله: ((ربنا صاحبنا)) ((قض)):أي أعنا وحافظنا، وأفضل علينا بإدامة تلك النعمة ومزيدها، والتوفيق للقيام بحقوقها. قوله: ((عائذا)) ((قض)):هو نصب علي المصدر أي أعوذ عياذا، أقيم اسم فاعل مقام المصدر، كما في قولهم: قم قائما، وقول الشاعر: ولا خارجا من في زور كلام أو علي الحال من الضمير المرفوع في ((يقول)) أو ((أسحر)) ويكون من كلام الراوي. أقول: يريد أن ((عائذا)) إذا كان مصدرا كان من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان حالا كان من كلام الراوي. وجوز الشيخ محيي الدين أن يكون حالا، ويكون من كلام الرسول، حيث قال:

2425 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة، يكبر علي كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) متفق عليه. 2426 - وعن عبد الله بن أبي الأوفي، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب علي المشركين، فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إني أقول هذا في حال استعاذتي، واستجارتي من النار. أقول: والأرجح هذا؛ لئلا ينخرم النظم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما حمد الله تعالي علي تلك النعمة الخطيرة، وأمر بإسماعها إلي كل من يتأتي منه السماع لفخامته، وطلب الثبات والمزيد عليه، قال هضما لنفسه وتواضعا لله تعالي، وليضم الخوف مع الرجاء تعليما للأمة. الحديث العاشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((علي كل شرف)) ((تو)):أي علي المكان العالي، ووجه التكبيرات علي الأماكن العالية، وهو استحباب الذكر عند تجديد الأحوال، والتقلب في التارات، وكان صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في الزمان والمكان؛ لأن ذكر الله تعالي ينبغي أن لا ينسى في كل الأحوال. قوله: ((الأحزاب)) ((نه)):وهي الطوائف من الناس جمع حزب بالكسر، ومنه الحديث ذكر يوم الأحزاب، وهو غزوة الخندق، وحديث الأحزاب مشهور في التفاسير والمغازي. قوله: ((وحده)) أي كفي الله تعالي المؤمنين يوم الخندق قتال تلك الأحزاب المجتمعة من قبائل شتى، بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها، فهزمهم. الحديث الحادي عشر عن عبد الله: قوله: ((منزل الكتاب)) لعل تخصيص هذا الوصف بهذا المقام تلويح إلي معنى الاستنصار في قوله تعالي:} ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون {و} الله متم نوره {وأمثال ذلك. قوله: ((وزلزلهم)) ((نه)):الزلزلة في الأصل الحركة العظيمة، والإزعاج الشديد، ومنه زلزلة الأرض، وهو ها هنا كناية عن التخويف والتحذير، أي اجعل أمرهم مضطربا متقلقلا غير ثابت.

2427 - وعن عبد الله بن بسر، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أبي، فقربنا إليه طعاما ورطبة، فأكل منها، ثم أتى بتمر، فكان يأكله ويلقى النوى بين أصبعيه، ويجمع السبابة والوسطى. وفي رواية: فجعل يلقي النوى علي ظهر أصبعيه السبابة والوسطى، ثم أتى بشراب، فشربه، فقال أبي وأخذ بلجام دابته: ادع الله لنا. فقال: ((اللهم بارك لهم في رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم)).رواه مسلم. الفصل الثاني 2428 - عن طلحة بين عبيد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأي الهلال، قال: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [2428] الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن بسر: قوله: ((علي أبي)) أي نزل ضيفا عنده. قوله: ((ووطبة)) ((مح)):رواية الأكثرين بالواو وإسكان الطاء وبعدها باء موحدة، وهكذا روى النضر بن شميل هذا الحديث عن شعيب، والنضر إمام من أئمة اللغة، وفسره بأنها الحيس يجمع التمر البرني والإقط المدقوق والسمن، وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقي وأبو بكر بكر البرقإني وآخرون، وهو كذا عندنا في معظم النسخ، وفي بعضها براء مضمومة وفتح الطاء، وكذا ذكره الحميدي، وقال: هكذا جاء فيما رأيناه من نسخ مسلم قال: وه تصجيف من الراوي وإنما هو بالواو هكذا، وهذا الذي ادعاه علي نسخ مسلم هو فيما رواه هو، وإلا فأكثرها بالواو، وكذا نقله أبو مسعود والبرقإني والأكثرون علي نسخ مسلم، ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم من مسلم ((ووطئة)) بفتح الواو وكسر الطاء وبعدها همزة، وادعى أنه الصواب، وهكذا ادعاه آخرون و ((الوطئة)) بالهمزة عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر كالحيس، هذا ما ذكروه، ولا منافاة بين هذا كله، فتقبل ما صحت به الروايات، وهو صحيح في اللغة. ((تو)):قيل: الوطب سقاء اللبن خاصة، وهو تصحيف، والصواب وطئ، وهي طعام كالحيس، ويدل علي صحتها قوله: ((فأكل منها)) والوطبة لا تؤكل، وإنما يشرب منها، ويدل عليه أيضا قوله: ((فأتى بشراب فشرب منه)).أقول: ويمكن أن يقال: إن الوطبة كانت للبن فغلب الأكل علي الشرب، ويراد بالشراب الماء، ولكن التعويل علي النقل. الفصل الثاني الحديث الأول عن طلحة رضي الله عنه: قوله: ((أهله)) روى بالفك والإدغام، ((قض)):الإهلال في الأصل رفع الصوت، نقل منه إلي رؤية الهلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا

2429 - وعن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجلي رأي مبتلي، فقال: الحمد لله الذي عافني مما ابتلاك به، وفضلني علي كثير ممن خلق تفضيلا، إلا لم يصبه ذلك بلاء كائنا ما كان)).رواه الترمذي. [2429] 2430 - ورواه ابن ماجه عن ابن عمر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وعمرو بن دينار الراوي ليس بالقوي. [2430] رأوه بالإخبار عنه ولذلك سمي الهلال هلالا، ثم نقل منه إلي طلوعه، لأنه سبب لرؤيته، ومنه إلي اطلاعه، وفي الحديث بهذا المعنى، أي أطلعه علينا، وأرنا إياه مقترنا بالأمن والإيمان. قوله: ((ربي وربك الله)) ((تو)):وهو تنزيه للخالق أن يشاركه في تدبير ما خلق شيء، وفيه رد للأقاويل الداحضة في الآثار العلوية بأوجز ما يمكن، وفيه تنبيه علي أن الدعاء مستحب، لاسيما عند ظهور الآيات، وتقلب أحوال النيرات، وعلي أن التوجه فيه إلي الرب لا إلي المربوب، والالتفات في ذلك إلي صنع الصانع لا إلي المصنوع. أقول: لما قدم في الدعاء قوله: ((الأمن، والإيمان، والسلامة، والإسلام)) طلب في كل من الفرقتين دفع ما يؤذيه من المضار، وجلب ما يرفقه من المنافع، وعبربـ ((الإيمان والإسلام)) عنها دلالة علي أن نعمة الإيمان والإسلام شاملة للنعم كلها، ومحتوية علي المنافع بأسرها، فدل ذلك علي عظم شأن الهلال حيث جعله وسيلة لهذا المطلوب، فالتفت إليه قائلا: ((ربي وربك الله)) مقتديا بأبيه إبراهيم حيث قال:} لا أحب الآفلين {بعد قوله:} هذا ربي هذا أكبر {واللطف فيه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين طلب دفع المضار وجلب المنافع في ألفاظ يجمعها معنى الاشتقاق. الحديث الثاني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((مما ابتلاك ربه)) هذا الخطاب فيه إشعار بأن المبتلي لم يكن مريضا، أو ناقصا في خلقه، بل كان عاصيا متخلعا خليع العذار، ولذلك خاطبه بقوله: ((مما ابتلاك))،ولو كان المراد به المريض لم يحسن الخطاب، وينصره تعقيبه: ((وفضلني علي كثير ممن خلق تفضيلا)).قوله: ((كائنا ما كان)) هو حال من الفاعل، والعامل ((لم يصبه)) هذا هو الوجه، وذهب المظهر أنه حال من المفعول، وقال: إن في حال ثباته وبقائه ما كان، أي ما دام باقيا في الدنيا، قال المرزوقي: الحال قد يكون فيها معنى الشرط، كما أن الشرط فيه معنى الحال، فالأول لأفعلنه كائنا ما كان، أي إن كان هذا وإن كان هذا. والثاني كقول عمرو بن معد يكرب:

2431 - وعن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو علي كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتا في الجنة)).رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي ((شرح السنة)): ((من قال في سوق جامع يباع فيه)) بدل ((من دخل السوق)). [2431] ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا أي ليس جمالك بمئزر يتردي معه ((بردا)). وهذا المعنى لا يستقيم علي تأويل المظهر؛ لأن المعنى لم يصبه البلاء إن كان البلاء هذا وإن كان هذا. الحديث الثالث عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((من دخل السوق)) الحديث، إنما خص السوق بالذكر؛ لأنه مكان الاشتغال عن الله وعن ذكره بالبيع والشراء، فمن ذكر الله تعالي فيه دخل في زمرة من قيل في حقه:} رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله {. قال الشيخ العارف أو عبد الله الحكيم الترمذي: إن أهل السوق قد افترض العدو منهم حرصهم، وشحهم، فنصب كرسيه وركز رايته، وبث جنوده، ورغبهم في هذا الفإني، فصيرها عدة وسلاحا لفتنته بين مططف في كيل، وطايش في ميزان، ومنفق السلعة بالحلف الكذب، وحمل عليهم حمله، فهزمهم إلي المكاسب الردية، وإضاعة الصلاة، ومنع الحقوق؛ فما داموا في هذه الغفلة، فهم علي خطر من نزول العذاب، فالذاكر فيما بينهم يرد غضب الله، ويهزم جند الشيطان، ويتدارك بدفع ما حث عليهم بتلك الأفعال، قال الله تعالي:} ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض {فيدفع بالذاكرين عن أهل الغفلة. وفي تلك الكلمات نسخ لأفعال أهل السوق، فبقوله: ((لا إله إلا الله)) ينسخ وله قلوبهم، لأن القلوب منهم ولهت بالهوى، قال تعالي:} أفرأيت من اتخذ إله هواه {،وبقوله: ((وحده لا شريك له)) ينسخ ما تعلقت .... الخ ((وبقوله: ((له الملك)) ينسخ ما)) يرون من تداول أيدي المالكين، وبقوله: ((وله الحمد)) تنسخ ما ترون من صنع أيديهم وتصرفهم في الأمور، وبقوله: ((يحيي ويميت)) ينسخ حركاتهم وما يدخرون في أسواقهم للتبايع، فإن تلك حركات بملك واقتدار، وبقوله: ((وهو حي لا يموت)) ينفي عن الله تعالي ما ينسب إلي المخلوقين، ثم قال: ((بيده الخير)) أي أن هذه الأشياء التي يطلبونها من الخير في يده، وهو علي كل شيء قدير.

2432 - وعن معاذ بن جبل، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو يقول: ((اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال: ((أي شيء تمام النعمة))؟ قال: دعوة أرجو بها خيرا. فقال: ((إن من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار)).وسمع رجلا يقول: يا ذا الجلال والإكرام! فقال: ((قد استجيب لك فسل)).وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر. فقال: ((سألت الله البلاء، فسأله العافية)).رواه الترمذي. [2432] 2433 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، ـــــــــــــــــــــــــــــ فمثل أهل الغفلة في السوق كمثل الهمج والذبان يجتمعون علي مزبلة يتطايرون فيها علي الأقذار، فعمد هذ الذاكر إلي مكنسة عظيمة ذات شعوب وقوة، فكنس هذه المزبلة ونظفها من الأقذار، ورمى بها وجه العدو وهزمهم، وطهر الأسواق منهم، قال تعالي:} وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده {أي بالوحدإنية} ولوا علي أدبارهم نفورا {فجدير لهذا الناطق بأن يكتب له الحسنات، ويمحى عنه السيئات، ويرفع له الدرجات. والله أعلم. ((مح)):روى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك علي الصحيحين، وفيه من الزيادة قال الراوي: قدمت خرسان، فأتيت قتيبة بن مسلم، فقلت: أتيتك بهدية، فحدثته بالحديث، فكان قتيبة يركب في مركبه حتى يأتي السوق، فيقولها ثم ينصرف، ذكره في كتاب الأذكار. الحديث الرابع عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((دعوة أرجو بها خيرا)) فإن قلت: كيف طابق جوابا عن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أي شيء تمام النعمة))، وأيضا كيف طابق جوابه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من تمام النعمة دخول الجنة)) جواب الرجل؟ قلت: جواب الرجل من باب الكناية، أي أسأله دعوة مستجابة فيحصل مطلوبي منها، ولما صرح بقوله: ((خيرا)) وكان غرض الرجل المال الكثير، كما في قوله تعالي:} إن ترك خيرا {فرده صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار)) وأشار إلي قوله تعالي:} فمن زحزح عن النار، وأدخل الجنة فقد فار {.ويلمح إلي هذا المعنى قول الشاعر: تمام الحج أن تقف المطايا ... علي خرقاء واضعة اللثام الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لغطه)) ((تو)):اللغط بالتحريك

أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2433] 2434 - وعن علي: أنه أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى علي ظهرها، قال: الحمد لله، ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلي ربنا منقلبون}. ثم قال: الحمد لله ثلاثاً، والله أكبر ثلاثاً، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك. فقيل: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟! قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، ثم ضحك فقلت: من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: ((إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي يقول: يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري)). رواه أحمد والترمذي وأبو داود. [2434] 2435 - وعن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلاً، أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو يدع يد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: ((أستودع الله دينك وأمانتك وآخر عملك)). وفي رواية: ((وخواتيم عملك)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وفي روايتهما لم يذكر: ((وآخر عملك)). [2435] ـــــــــــــــــــــــــــــ الصوت، وأراد به الهراء من القول، وما لا طائل تحته من الكلام، فأحل ذلك محل الصوت العرى عن المعنى. الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: ((قوله: ((ليعجب من عبده)) قد سبق أن التعجب من الله تعالي عبارة عن استعظام الشيء، ومن ضحك من أمر إنما يضحك منه إذا استعظمه، فكأن أمير المؤمنين وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم وافق الرب تعالي فيه. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أستودع الله)) هو طلب حفظ الوديعة، وفيه نوع مشاكلة للتوديع، جعل دينه وأمانته من الودائع؛ لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقة والخوف، فيكون ذلك سبباً لإهمال بعض الدين، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمعونة والتوفيق، ولا يخلو الرجل في سفره ذلك من الاشتغال بما يحتاج فيه إلي الأخذ والإعطاء

2436 - وعن عبد الله الخطمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: ((أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم)). رواه أبو داود. [2436] 2437 - وعن أنس، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! إني أريد سفراً فزودني. فقال: ((زودك الله التقوى)). قال: زدني. قال: ((وغفر ذنبك)). قال: زدني بأبي أنت وأمي. قال: ((ويسر لك الخير حيثما كنت)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [2437] 2438 - وعن أبي هريرة، قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله! إني أريد أن أسافر فأوصني. قال: ((عليك بتقوى الله، والتكبير علي كل شرف)). قال: فلما ولي الرجل. قال: ((اللهم اطو له البعد، وهون عليه السفر)). رواه الترمذي. [2438] 2439 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل. قال: ((يا أرض! ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك وشر ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعاشرة مع الناس، فدعا له بحفظ الأمانة والاجتناب عن الخيانة، ثم إذا انقلب إلي أهله يكون مأمون العاقبة عما يسوؤه في الدين والدنيا. الحديث الثامن والتاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فزودني)) ((غب)): الزاد المدخر الزايد عما يحتاج إليه في الوقت، والتزود أخذ الزاد، قال تعالي: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} أقول: يحتمل أن الرجل طلب الزاد المتعارف، فأجابه صلوات الله عليه بما أجاب علي الأسلوب الحكيم، إي زادك أن تتقي محارم الله، وتتجنب معاصيه، ومن ثم لما طلب الزيادة قيل: ((وغفر ذنبك)) فإن الزيادة إنما تكون من جنس المزيد عليه، وربما زعم الرجل أنه يتقي الله، وفي الحقيقة لا تكون تقوى يترتب عليها المغفرة، فأشار بقوله: ((وغفر ذنبك)) أن يكون ذلك الاتقاء بحيث يترتب عليه المغفرة، ثم ترقى منه إلي قوله: ((ويسر لك الخير)) فإن التعريف في ((الخير)) للجنس، فيتناول خير الدنيا والآخرة. الحديث العاشر والحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله ((يا أرض)) ((قض)): خاطب الأرض وناداها علي الاتساع وإرادة الاختصاص، وشر الأرض الخسف، والسقوط عن الطريق، والتحير في المهامة والفيافي، وما فيها من أحناش الأرض وحشراتها، وما يعيش في

ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن والد وما ولد)). رواه أبو داود. [2439] 2440 - وعن أنس [رضي الله عنه] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: ((اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل)). رواه الترمذي، وأبو داود. [2440] ـــــــــــــــــــــــــــــ الثقب وأجوافها. قوله: ((من شرك)) أي من شر حصل من ذاتك، ((ومن شر ما فيك))، أي ما استقر فيك من الأوصاف والأحوال الخاصة بطباعك، ((وشر ما خلق فيك)) من الحيوانات وغيرها، ((وشر ما يدب عليك)) من الحيوانات، وهذا الأسلوب من عطف الكلام بعضها علي بعض إلي قوله: ((من أسد وأسود)) من باب الترقي في البيان، وفيه دليل لمن يذهب إلي التخصيص بالعطف. قوله: ((من أسد وأسود)) ((تو)): الأسود الحية العظيمة التي فيها سواد، وهي أخبث الحيات، وذكر أن من شأنها أن تعارض الركب، وتتبع الصوت، فلهذا خصها بالذكر، وجعلها جنساً آخر برأسها، ثم عطف عليها ((الحية))، و ((أسود)) ها هنا منصرف؛ لأنه اسم جنس، وليس بصفة، ولهذا يجمع علي أساود. وعن بعضهم: الوجه أن لا ينصرف؛ لأن وصفيته أصبية وإن غلب في الاسمية، وفي – الغريبين-: قال ابن الأعرابي في تفسيره: يعني جماعات، وهي جمع سواد [أي جماعة، ثم أسودة، ثم أسلود. و ((من)) في قوله: ((من الحية)) بيإنية علي تغليب ((أسود))] *. قوله ((ومن ساكن البلد)) ((قض)): هم الإنس، سماهم بذلك؛ لأنهم يسكنون البلاد غالباً، أو لأنهم بنوا البلدان واستوطنوها، وقيل: الجن، والمراد ب ((البلد)) الأرض، يقال: هذا بلدتنا، أي أرضنا. وقال تعالي: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه}. قوله: ((والد وما ولد)) ((خط)): ((والد)) إبليس، ((وما)) ولد نسله وذريته. ((تو)): حمله علي العموم أمثل، لشموله لأصناف ما ولد ووُلِد، وما يتولد منهما، تخصيصاً للعياذ والالتجاء بمن لم يلد ولم يولد، وله الخلق والأمر، واعترافاً بأن لا استحقاق لغيره في ذلك، تبارك الله رب العالمين. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((عضدي)) ((قض)): العضد كناية عما يعتمد عليه، ويثق المرء في الخيرات وغيره من القوة. ((وأحول)) من حال يحول حيله،

2441 - وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا خاف قوما. قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم)). رواه أحمد، وأبو داود. [2441] 2442 - وعن أم سلمة [رضي الله عنها] أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا خرج من بيته. قال: ((بسم الله، توكلت علي الله، اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل، أو نَظلم أو نُظلم، أو نجهل أو يُجهل علينا)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية أبي داود، وابن ماجه، قالت أم سلمة: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلي السماء، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يُجهل علي)). [2442] ـــــــــــــــــــــــــــــ والمراد كيد العدو، وقيل: أكر وأتحرك. من حال إذا تحرك، والصول الحمل علي العدو، ومنه الصائل. الحديث الثالث عشر عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((في نحورهم)) ((تو)): يقال: جعلت فلاناً في نحر العدو، أي قبالته وحذاءه، ليقاتل عنك ويحول بينك وبينه، وخص النحر بالذكر؛ لأن العدو به يستقبل عند المناهضة للقتال، أو للتفاؤل بنحرهم، أي قتلهم، والمعنى نسألك أن تصد صدورهم، وتدفع شرورهم، وتكفينا أمورهم، وتحول بيننا وبينهم. الحديث الرابع عشر عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((من أن نزل)) ((غب)): الزلة في الأصل استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجله تزل، والمزلة المكان الزلق، وقيل للذنب من غير قصد له: زلة تشبيهاً بزلة الرجل. أقول: والمناسب هنا أن يحمل علي الاسترسال إلي الذنب؛ ليزدوج مع قوله: ((أو نضل)) وتوافق الرواية الأخرى ((ضل وأضل)). قوله: ((أو نجهل)) ((مظ)): أي نفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء، وإيصال الضرر إليهم، أو يفعل الناس بنا فعل الجهال من إيصال الضرر إلينا. أقول: إن الإنسان إذا خرج من منزله، لابد أن يعاشر الناس ويزاول الأمور، فيخاف أن يعدل عن الطريق المستقيم، فإما أن يكون في أمر الدين، فلا يخلو من أن يَضل أو يُضل، وإما أن يكون في أمر الدنيا، فإما بسبب جريان المعاملة، بأن يظلم أو يُظلم، وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة، فإما أن يجهل أو يُجهل عليه؛ فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلس موجز، وروعى المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية، كقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

2443 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الرجل من بيته، فقال: بسم الله، توكلت علي الله، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ يقال له حينئذٍ: هُديت، وكُفيت، ووقيت، فيتنحى له الشيطان. ويقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي، وكُفي، ووقي)). رواه أبو داود. وروى الترمذي إلي قوله: ((الشيطان)). [2443] 2444 - وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولج الرجل بيته، فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا وعلي الله ربنا توكلنا. ثم ليسلم علي أهله)). رواه أبو داود. [2444] ـــــــــــــــــــــــــــــ ويعضد هذا التأويل الحديث الآتي. فقوله: ((هديت)) مطابق لقوله: ((أن أَضل أو أُضل)) وقوله: ((كفيت)) لقوله: ((أظلم أو أُظلم)) وقوله: ((ووقيت)) لقوله: ((أو نجهل أو يُجهل علينا)). الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بسم الله)) الحديث، فيه لف ونشر، فإن قوله: ((بسم الله، توكلت علي الله، لا حول ولا قوة إلا بالله)) لف، وقوله: ((هُديت، وكُفيت، ووقيت)) نشره، فإنه إذا استعان العبد بالله، وباسمه المبارك، فإن الله تعالي يهديه، ويرشده، ويعينه في الأمور الدينية والدنياوية، وإذا توكل علي الله وفوض أمره إليه، كفاه الله فيكون هو حسبه، {ومن يتوكل علي الله فهو حسبه}، ومن قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) وقاه الله شر الشيطان، ولا يسلط عليه. فإن قلت: ما معنى قوله: ((كيف لك برجل)) وما موقعه من قوله: ((فيتنحى له الشيطان))؟ قلت: معناه كيف يتيسر لك إغواء رجل قد هدي وكفي ووقي؟ قاله معزياً مسلياً للشيطان الذي تنحى لأجل القائل عن طريق إضلاله متحسراً آيساً، فقوله: ((لك)) متعلق بقوله: ((يتيسر)) و ((برجل)) حال من فاعله. الحديث السادس عشر عن أبي مالك: قوله: ((خير المولج)) ((تو)): يقال ولج يلج ولوجاً ولجة، قال سيبويه: إنما مصدره ولوجاُ، وهو من مصادر غير المتعدي علي معنى ولجت فيه. و ((المولج)) بكسر اللام، ومن الرواة من فتحها ولم يصب؛ لأن ما كان فاء الفعل منه واواً أو ياءً، ثم سقطتا في المستقبل، نحو يعد ويزن ويهب؛ فإن الفعل مكسور في الاسم والمصدر جميعاً، ولا يقال منصوباً كان بفعل منه، أو مكسوراً بعد أن يكون الواو من ذاهبة إلا أحرفاً جاءت نوادر، فـ ((المولج)) مكسور اللام علي أي وجه قدر، ولعل المصدر منه جاء أيضاً علي المفعل، أو أخذ به مأخذ القياس، أو روعى فيه طريق الازدواج في المخرج، وإن أريد به

2445 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان، إذا تزوج، قال: ((بارك الله لك، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2445] 2446 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا تزوج أحدكم امرأةً، أو اشترى خادماً، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جبلتها عليه. وإذا اشترى بعيراً، فليأخذ بذروة سنامه، وليقل مثل ذلك)). [2446] وفي رواية في المرأة والخادم: ((ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة)). رواه أبو داود، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاسم، فإنه يريد خير الموضع الذي يلج فيه، وعلي هذا يراد أيضاً بـ ((المخرج)) موضع الخروج، يقال: خرج مخرجاً حسناً، وهذا مخرجه. الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا رفأ)) ((إذا)) الأولي شرطية، والثانية ظرفية، وقوله: ((قال: بارك الله)) جواب الشرط. وإنما أتى بقوله: ((رفأ)) وقيده بالظرف؛ ليؤذن بأن الترفية محترز عنها، وأنها منسوخة بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. ((قض)): الترفية أن يقال للمتزوج: بالرفاء والبنين، و ((الرفاء)) بالكسر والمد الالتئام والاتفاق، من رفأت الثوب إذا أصلحته، وقيل السكون والطمإنينة من قولهم: رفوت الرجل، إذا أسكنته، ثم استعير للدعاء للمتزوج وإن لم يكن بهذا اللفظ، والمعنى أنه إذا أراد الدعاء للمتزوج دعا له بالبركة، ويدل قولهم في جاهليتهم: ((بالرفاء والبنين)) بقوله هذا؛ لأنه أتم نفعاً وأكثر عائدة، ولما في الأول من التنفير عن البنات، والباعث علي وأدها. أقول: قال: أولاً: ((بارك الله لك))؛ لأنه المدعو أصالة، أي بارك لك في هذا الأمر، ثم ترقى منه، دعا لهما، وعداه بـ ((علي)) لمعنى الدرور عليه بالذراري والنسل؛ لأنه المطلوب بالتزوج، وأخر حسن المعاشرة والموافقة والاستمتاع، تنبيهاً علي أن المطلوب الأولي هو النسل، وهذا تابع له. الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن أبي بكرة: قوله: ((فلا تكلني)) الفاء فيه مرتب علي قوله: ((ورحمتك أرجو)) فقدم المفعول ليفيد الاختصاص، والرحمة عامة فيلزم تفويض الأمور كلها إلي الله تعالي، كأنه قيل: فإذا فوضت أمري إليك، فلا تكلني إلي نفسي طرفة عين؛

2447 - وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلي نفسي طرفة عين، وأصلح لي شإني كله، لا إله إلا أنت)). رواه أبو داود. [2447] 2448 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رجل: همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسول الله! قال: ((أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟)). قال: قلت: بلي. قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عن ديني. رواه أبو داود. [2448] ـــــــــــــــــــــــــــــ لإني لا أدري ما صلاح أمري وما فساده، فربما زاولت أمراً واعتقدت أن فيه صلاح أمري، فانقلب فساداً وبالعكس، ولما فرغ من خاصة نفسه، وأراد أن ينفي تفويض أمره إلي الغير، ويثبته لله تعال، قال: ((وأصلح لي شإني)) وأكده بقوله: ((كله)) وعقبه بقوله: ((لا إله إلا أنت)). ولما اشتمل هذا الدعاء علي المعإني الجمة سماه بالدعوات. الحديث العشرون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((هموم لزمتني)) ((شف)): ((هموم)) مبتدأ وخصص بـ ((لزمتني)) و ((ديون)) عطف عليه، والخبر محذوف تقديره عليَّ هموم وديون، وحذف الخبر لدلالة ((لزمتني)) عليه. ((قض)): فرق بين الهم والحزن فإن الهم إنما يكون في الأمر المتوقع، والحزن فيما قد وقع، أو الهم هو الحزن الذي يذيب الإنسان، يقال: همني المرض بمعنى أذابني، وانهم الشحم والبرد، إذا ذابا، وسمى به ما يعتري الإنسان من شدائد الغم؛ لأنه يذيبه أبلغ وأشد من الحزن، الذي أصله الخشونة. والعجز أصله التأخر عن الشيء، مأخوذ من العجز، وهو مؤخر الشيء، وللزومه الضعف والقصور عن الإتيان بالشيء استعمل في مقابلة القدرة، واشتهر فيها. والكسل التثاقل عن الشيء مع وجود القدرة والداعية عليه. قوله: ((غلبة الدين))، وقهر الرجال)) ((تو)): غلبة الدين أن يقدحه ويثقله، وفي معناه حديث أنس ((ضلع الدين)) يعني ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله. و ((قهر الرجال)) هو الغلبة، فإن القهر يراد به السلطان، ويراد به الغلبة، وأريد به ههنا الغلبة لما في غير هذه الرواية: ((وغلبة الرجال)) كأنه يريد به هيجان النفس من شدة الشبق، وإضافته إلي المفعول أي يغلبهم

2449 - وعن علي: أنه جاءه مُكاتب فقال: إني عجزت عن كتابتي فأعني. قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل كبير ديناً أداه الله عنك. قل: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2449] وسنذكر حديث جابر: ((إذا سمعتم نباح الكلاب)) في باب ((تغطية الأوإني)) إن شاء الله تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك، إلي هذا المعنى يسبق فهمي، ولم أجد في تفسيره نقلاً، وعن بعضهم: ((قهر الرجال)) هو جور السلطان. أقول: قوله: ((هموم لزمتني)) مبتدأ وخبر، كما في قولهم: شر أهر ذا ناب، أي هموم عظيمة، لا يقدر قدرها، وعلي هذا ((ديون)) أي ديون جمة نهضتني وأثقلتني، والتنبيه علي التعظيم الاستغاثة بقوله: ((يا رسول الله)). و ((الفاء)) في ((أفلا أعلمك)) عطف علي محذوف، أي أفلا أرشدك أفلا أعلمك، فأعاد به صلوات الله عليه قوله: ((أذهب الله همك، وقضى عنك دينك)) لابتناء الدعاء علي مطلوبه من زوال الهم وقضاء الدين، فمن مستهل الدعاء إلي قوله: ((والجبن)) يتعلق بإزالة الهم، والآخر بقضاء الدين، فعلي هذا قوله: ((قهر الرجال)) إما أن يكون إضافته إلي الفاعل، أي قهر الداين إياه، وغلبتهم عليه بالتقاضي، وليس له ما يقضي دينه، أو إلي المفعول بأن لا يكون له أحد يعاونه علي قضاء ديونه من رجاله وأصحابه، ومن المسلمين من يزكى عليه. وقوله: ((قال: قلت)) الظاهر يقتضي أن يقال: ((قال: قال: بلي))؛ لأن الراوي لم يرو عن ذلك الرجل، بل كان شاهداً لتلك الحالة، اللهم إلا أن يتعسف، ويقول: إن أبا سعيد رضي الله عنه يروي عن ذلك الرجل، وليس بمشاهد لتلك الحالة، فيحتاج أول الحديث إلي تأويل أن نقول: تقديره: قال أبو سعيد: قال لي رجل: قلت لرسول الله كذا، هذا ما سبق إلي فهمنا مع قلة البضاعة. الحديث الحادي والعشرون عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ديناً)) يحتمل أن يكون تمييزاً عن اسم ((كان))؛ لما فيه من الإبهام، و ((عليك)) خبره مقدماً عليه، وأن يكون ((ديناُ)) خبر ((كان)) و ((عليك)) حالاً من المستتر في الخبر، والعامل هو معنى الفعل المقدر في الخبر. ومن جوز إعمال ((كان)) في الحال، فظاهر علي مذهبه. قوله: ((عجزت عن كتابتي)) ((مظ)): الكتابة المال الذي كاتب به السيد عبده، يعني بلغ وقت أداء مال الكتابة، وليس لي مال. أقول: طلب المكاتب المال، فعلمه رضي الله عنه الدعاء، إما لأنه لم يكن عنده شيء من المال ليعينه، فرده

الفصل الثالث 2450 - وعن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا جلس مجلساً أو صلي تكلم بكلمات، فسألته عن الكلمات فقال: ((إن تكلم بخير كان طابعاً عليهن إلي يوم القيامة، وإن تكلم بشر كان كفارة له: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)). رواه النسائي. [2450] 2451 - وعن قتادة: بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأي الهلال قال: ((هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك)) ثلاث مرات، ثم يقول: ((الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا)). رواه أبو داود. [2451] ـــــــــــــــــــــــــــــ أحسن رد، عملاً بقوله تعالي: {قول معروف ومغفرة}، أو أرشده إلي أن الأولي والأصلح له أن يستعين بالله لأدائها، ولا يتكل علي الغير، وينصر هذا الوجه قوله: ((وأغنني بفضلك عمن سواك)). الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عن الكلمات)) التعريف للعهد، والمعهود قوله: ((كلمات)) وهو يحتمل وجهين، إما أن لا يضمر شيء فتكون الكلمات هي الجملتان الشرطيتان، واسم ((كان)) فيهما مبهم، ويفسره قوله: ((سبحانك اللهم))، وإما أن يقدر: فما فائدة الكلمات؟ فعلي هذا ((الكلمات)) هي قوله: ((سبحانك اللهم)) والمضمر في ((كان)) راجع إليه، ففي الكلام تقديم وتأخير، وهذا الوجه أحسن بحسب المعنى وإن كان اللفظ يساعد الأول. وقوله: ((اللهم)) معترض؛ لأن قوله: ((وبحمدك)) متصل بقوله: ((سبحانك)) إما بالعطف، أي أسبح وأحمد، أو بالحال أي أسبح حامداً لك. الحديث الثاني عن قتادة رضي الله عنه: قوله: ((الحمد لله)) إما أن يراد بـ ((الحمد)) الثناء علي قدرته فإن مثل هذا الإذهاب العجيب وهذا المجيء لا يقدر عليه أحد إلا الله، أو يراد به الشكر، فيشكر علي ما أولي العباد بسبب الانتقال من النعم الدينية والدنيوية ما لا يحصى. وينصر هذا التأويل قوله: ((هلال خير)) أي بركة ورشد، أي هاد إلي القيام بعبادة الله تعالي من ميقات الحج والصوم وغيرهما، قال تعالي: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}.

2452 - وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كثر همه، فليقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو ألهمت عبادك، أو استأثرت به في مكنون الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وجلاء همي وغمي. ما قالها عبدٌ قط إلا أذهب الله غمه، وأبدله فرحاً)). رواه رزين. [2452] 2453 - وعن جابر، قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا. رواه البخاري. 2454 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كربه أمر يقول: ((يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وليس بمحفوظ. [2454] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه الشيخ محيي الدين عن ابن السنى عن أبي موسى الأشعري، وزاد فيه زيادات وتغييرات، وفي آخره: ((قال رجل: يا رسول الله! إن المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات، فقال: أجل، فقولوهن وعلموهن، فإن من قالهن التماس ما فيهن أذهب الله تعالي حزنه، وأطال فرحه)). قوله: ((هو لك)) مجمل، ويفصله ما يعقبه منسوقاً بـ ((أو)) التنويعية علي سبيل التقسيم الحاصر، فينبغي أن يحمل قوله: ((سميت به نفسك)) علي أنك وضعت ألفاظاً مخصوصة، وسميت بها نفسك، وألهمت عبادك بغير واسطة، فيكون من سماه الأمم المختلفة الفائتة للحصر بلغات مختلفة من هذا النوع. وقوله: ((أو أنزلته في كتابك)) علي جميع ما سمى به في الكتب المنزلة، وأفرد الكتاب، وأراد به الجنس، وقد تقرر في موضعه أنه أشمل من الجمع. وقوله: ((أو استأثرت)) به أي انفردت، محمول علي أنه انفرد به بنفسه، ولا ألهم أحداً ولا أنزل في كتاب. قوله: ((أن تجعل القرآن ربيع قلبي)) هذا هو المطلوب، والسابق وسائل إليه، فانظر أولاً غاية ذلته وصغاره، ونهاية افتقاره وعجزه، وثإنياً بين عظمة شأنه وجلالة أسمه سبحانه وتعالي بحيث لم يبق فيه بقية، وألطف في المطلوب حيث جعل المطلوب وسيلة إزالة الهم المطلوب أولاً. قوله: ((ربيع قلبي)) ((نه)): جعل القرآن ربيعاً له؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه. أقول: كما أن الربيع زمان إظهار آثار رحمة الله تعالي، وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن يظهر منه تباشير لطف الله من الإيمان والمعارف، وتزول به ظلمات الكفر والجهالة والهموم.

(8) باب الاستعاذة

2455 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله! هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: ((نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)). قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح، [و] هزَم اللهُ بالريح. رواه أحمد. [2455] 2456 - وعن بريدة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل السوق قال: ((بسم الله، اللهم إني أسألك خير هذه السوق، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها صفقةً خاسرةً)). رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2456] (8) باب الاستعاذة الفصل الأول 2457 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع إلي السادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فقد بلغت القلوب الحناجر)) كناية عن شدة الأمر وبلوغه غايته. وقوله: ((فهزم الله بالريح)) الظاهر يقتضي أن يقال: فانهزموا بها، فوضع المظهر موضع المضمر؛ ليدل به علي أن الريح كانت سبباً مستقلاً لهزمهم، كقوله تعالي: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا علي الذين ظلموا رجزاً} يدل ((عليهم)) ليشعر بأن ظلمهم كان سبباً لإنزال الرجز، وأقحم لفظة ((الله))؛ ليدل به علي قوة ذلك السبب. الحديث السابع عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((هذه السوق)) الجوهري: السوق يذكر ويؤنث. قوله: ((صفقة)) ((نه)): الصفق في الأسواق التبايع، فإن المتبايعين يضع أحدهما يده في يد الآخر، وهي المرة من التصفيق باليدين، ووصف الصفقة بالخاسرة من الإسناد المجازي؛ لأن صاحبها خاسر بالحقيقة. باب الاستعادة العوذ الالتجاء إلي الغير، والتعلق به، يقال: عاذ فلان بفلان، ومنه قوله {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}.

2458 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال)). متفق عليه. 2459 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وفتنة النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، و [من] شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من جهد البلاء)) ((حس)): جهد البلاء هي الحالة التي يمتحن بها الإنسان، ويشق عليه بحيث يتمنى فيها الموت، ويختاره عليها. قوله: ((ودرك الشقاء)) ((نه)): الدرك اللحاق والوصول إلي الشيء، يقال أدركته إدراكاً ودركاً، ومنه الحديث ((لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركاً له في حاجته)). والشماتة فرح العدو تنزل ببلية بمن يعاديه، يقال: شمت به يشمت فهو شامت، وأشمته غيره. قوله: ((وسوء القضاء)) عن بعضهم: هو ما يسوء الإنسان، ويوقعه في المكروه، علي أن لفظ السوء منصرف إلي المقضي عليه دون القضاء. ((مح)): يدخل في سوء القضاء السوء في الدين والدنيا، والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة. وأما ((درك الشقاء)) فكذلك. وأما ((جهد البلاء)) فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وضلع الدين)) في الغريبين: يعني ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء والاعتدال، والضلع الاعوجاج، وزاد في النهاية: يقال: ضلع ضلعاً –بالتحريك- وضلع –بالفتح- يضلع ضلعاً –بالتسكين- أي مال، وسبق شرح الحديث في الباب السابق. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وفتنة النار)) أي فتنة تؤدي إلي عذاب النار وإلي عذاب القبر؛ لئلا يتكرر إذا فسرنا بالعذاب. قوله: ((ومن شر فتنة الغنى)) ((قض)): فتنة الغنى البطر والطغيان، والتفاخر به، وصرف المال في المعاصي، وما أشبه ذلك، و ((فتنة الفقر)) الحسد علي الأغنياء، والطمع في أموالهم، والتذلل لهم بما يتدنس به عرضه، وينثلم به دينه، وعدم الرضا علي ما قسم الله، إلي غير ذلك مما لا تحمد عاقبته. أقول: الفتنة إن فسرت بالمحنة والمصيبة، فنشرها أن لا يصبر الرجل علي لأوائها، ويجزع منها، وإن فسرت بالامتحان

المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي كما ينقَّ الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)). متفق عليه. 2460 - وعن زيد بن أرقم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، و [من] نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والاختيار، فشرها أن لا يحمد في السراء، ولا يصبر في الضراء، وبقية الحديث قد انقضى تفسيره في باب أدعية الصلاة، لاسيما قوله: ((اغسل خطاياي بماء الثلج)). الحديث الرابع عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((اللهم آت نفسي تقواها)) ينبغي أن تفسر التقوى بما يقابل الفجور في قوله تعالي: {فألهمها فجورها وتقواها} وهي الاحتراز عن متابعة الهوى، وارتكاب الفجور والفواحش؛ لأن الحديث كالتفسير والبيان للآية، فدل قوله: ((آت)) علي أن الإلهام في الآية هو خلق الداعية الباعثة علي الاجتناب عن المذكورات، وقوله: ((زكها أنت خير من زكاها)) علي أن إسناد التزكية إلي النفس في الآية، هو نسبة الكسب إلي العبد لا خلق الفعل، كما زعمت المعتزلة؛ لأن الخيرية تقتضي المشاركة بين كسب العبد، وخلق القدرة فيه. وقوله: ((أنت وليها ومولاها)) استئناف علي بيان الموجب، وأن إيتاء التقوى وتحصيل التزكية فيها إنما كان؛ لأنه هو متولي أمرها وربها ومالكها، فالتزكية إن حملت علي تطهير النفس عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة، كانت بالنسبة إلي التقوى مظاهر ما كان ممكناً في الباطن، وإن حملت علي الإنماء والإعلاء بالتقوى، كانت تحلية بعد التخلية؛ لأن المتقي شرعاً من اجتنب النواهي، وأتى الأوامر. وعن بعض العارفين: تقوى البدن الكف عما لا يتيقن حله، وتقوى القلب عما سوى الله تعالي في الدارين، وعدم الالتفات إلي غيره. قوله: ((من علم لا ينفع)) ((مظ)): أي علم لا أعمل به ولا أعلمه، ولا يبدل أخلاقي وأقوالي وأفعالي، أو علم لا يحتاج إليه في الدين، ولا في تعلمه إذن شرعي. قوله: ((ومن نفس

2461 - وعن عبد بن عمر، قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)). رواه مسلم. 2462 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل)). رواه مسلم. 2463 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تشبع ((تو)): فيه وجهان: أحدهما أنها لا تقنع بما آتاها الله ولا تفتر عن الجمع حرصاً، والأخر أن يراد به النهمة وكثرة المال. قوله: ((لها)) الضمير عائد إلي الدعوة، و ((اللام)) زيادة، وفي جامع الأصول ((ودعوة لا تستجاب)) وليس فيه ((لها)). الحديث الخامس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وتحول عافيتك)) ((مظ)): أي من تبدل ما رزقتني من العافية إلي البلاء. فإن قلت: ما الفرق بين الزوال والتحويل؟ قلت: الزوال يقال في شيء كان ثابتاً في شيء ثم فارقه. والتحويل تغيير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير: قيل: حال الشيء يحول حولاً، وباعتبار الانفصال: قيل: حال بيني وبين كذا: وحولت الشيء فتحول: غيرته إما بالذات وأما بالحكم فمعنى زوال النعمة ذهابها من غير بدل، وتحويل العافية إبدال الصحة بالمرض، والسلام بالبلاء. [الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها] قوله: ((وشر ما لم أعمل)) ((شف)): قيل استعاذ من أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه الله، فإنه لا مأمن لأحد من مكر الله، {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}. وقيل: من أن يصير معجباً بنفسه في ترك القبائح، وسأله أن يرى ذلك من فضل ربه. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أن تضلني)) متعلق بـ ((أعوذ)) أي من أن تضلني، وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة.

الفصل الثاني 2464 - عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [2464] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وعلم لا ينفع)) أي علم لا يهذب أخلاقه الباطنة، فيسري منها إلي الأفعال الظاهرة، ويفوز بها إلي الثواب الآجل. وأنشد: يا من تقاعد عن مكارم خلقه ... ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة من لم يهذب علمه أخلاقه ... لم ينتفع بعلومه في الآخرة قال أبو طالب المكي رحمه الله: وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من نوع من العلوم، كما استعاذ من الشرك والنفاق، ومساوئ الأخلاق، والعلم الذي لم يقرن بالتقوى، فهو باب من الدنيا والهوى. وقال الشيخ أبو حامد: إن العلم من صفات الله تعالي، فكيف يكون مذموماً؟ اعلم أن العلم لا يذم لعينه، وإنما يذم لأحد أسباب ثلاثة: الأول أن يكون مؤدياً إلي ضرر إما بصاحبه، وإما بغيره، كعلم السحر والطلسمات، فإنهما لا يصلحان إلا للإضرار بالخلق، والوسيلة إلي الشر شر، والثاني أن يكون مضراً بصاحبه في ظاهر الأمر، كعلم النجوم فإنه كله مضرة وأقل المضرة فهي أنه خوض في فضول لا يعني، وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان بغير فائدة غاية الخسران، الثالث الخائض في علم لا يستقل به الخائض فيه، فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية، إذ تطلع الفلاسفة والمتكلمون عليها، ولم يستقلوا بها، ولا يستقل بها ولا بالوقوف علي طرف بعضها إلا الأنبياء والأولياء، فيجب كف الناس عنها، وردهم إلي ما نطق الشرع به. قوله: ((ومن دعاء لا يسمع)) ((نه)): أي لا يستجاب ولا يعتد به، فكأنه غير مسموع، يقال: اسمع دعائي، أي أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول. اعلم أن في كل من القرائن ما يشعر بأن وجوده مبني علي غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلم إنما هو للانتفاع بها، فإذا لم ينتفع لا يخلص منه كفافاً، بل يكون وبالاً، ولذلك استعاذ منه، وأن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه، وينشرح لذلك الصدر، ويقذف النور فيه، فإذا لم يكن

2465 - ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو. والنسائي عنهما. [2465] 2466 - وعن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر. رواه أبو داود، والنسائي. [2466] 2467 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة والذلة، وأعوذ من أن أظلم أو أظلم)) رواه أبو داود، والنسائي [2467]. ـــــــــــــــــــــــــــــ كذلك كان قاسياً، فيجب أن يستعاذ منه، قال تعال: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}، وأن النفس إنما يعتد بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلي دار الخلود، والنفس إذا كانت منهومة لا تشبع، حريصة علي الدنيا، كانت أعدى عدو المرء، فأول شيء يستعاذ منه هي، وعدم استجابة الدعاء دليل علي أن الداعي لم ينتفع بعلمه، ولم يخشع قلبه ولم تشبع نفسه. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((وفتنة الصدر)) ((شف)): قيل: هي موته وفساده، وقيل: ما ينطوي عليه الصدر من حسد، وغل، وخلق سيء، وعقيدة غير مرضية. أقول: فتنة الصدر هي الضيق المشار إليه في قوله تعالي: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد إلي السماء} وهي الإنابة إلي دار الغرور التي هي سجن المؤمن، والتجافي عن دار الخلود، التي عرضها كعرض السماء. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أعوذ بك من الفقر)) ((غب)): أصل الفقر كسر فقار الظهر، والفقر يستعمل علي أربعة أوجه: الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك علم للإنسان ما دام في دار الدنيا، بل عام للموجودات كلها، وعليه قوله تعالي: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله}. والثاني: عدم المقتنيات، وهو المذكور في قوله تعالي: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} و {إنما الصدقات للفقراء}. الثالث: فقر النفس وهو الشره، وهو المقابل بقوله: ((الغنى غنى النفس)) والمعني بقولهم: من عدم القناعة لم يفده المال غنى. الرابع: الفقر إلي الله تعالي المشار إليه بقوله: ((اللهم اغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني

2468 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق)). رواه أبو داود، والنسائي [2468]. 2469 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه [2469]. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالاستغناء عنك)) وإياه عني تعالي بقوله: {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير}، ويقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال: فقر وإن كان القياس يقتضيه. أقول: والمستعاذ منه في الحديث هو القسم الثالث. ((خط)): إنما استعاذ صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال. قال القاضي عياض: وقد تكون استعاذته من فقر المال، والمراد الفتنة من احتماله، وقلة الرضي به، ولهذا قال: ((فتنة الفقر)) ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح في فضل الفقر. قوله: ((والقلة)) ((تو)): القلة تحمل علي قلة الصبر أو قلة العدد، ولا خفاء أن المراد منها القلة في أبواب الخير وخصال الخير؛ لأنه كان يؤثر الإقلال في الدنيا، ويكره الاستكثار من الأغراض الفإنية. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من الشقاق)) –في الغريبين-: أراد بـ ((الشقاق)) الخلاف؛ لأن كل واحد منهما يكون في شق أي ناحية، والشقاق العداوة، ومنه قوله تعالي: {في عزة وشقاق}. والنفاق أن تظهر لصاحبك خلاف ما تستره وتضمره. وقوله: ((وسوء الأخلاق)) من عطف العام علي الخاص. وفيه إشعار بأن الشقاق والنفاق أعظمهما؛ لأن سريان ضررهما إلي الغير. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من الجوع)) ((قض)): الجوع الألم الذي يجده الإنسان من خلو المعدة. و ((الضجيع)) المضاجع، استعاذ منه؛ لأنه يمنع استراحة البدن، ويحلل المواد المحمودة بلا بدل، ويشوش الدماغ، ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة، ويضعف البدن عن القيام بوظائف الطاعات. و ((الخيانة)) نقيض الأمانة، و ((البطانة)) ضد الظهارة، وأصلها في الثوب، فاتسع فيما يستبطن الرجل من أمره، فيجعله بطانة حاله. أقول: خص ((الضجيع)) بـ ((الجوع))؛ لينبه علي أن المراد بالجوع الذي يلازمه ليلاً ونهاراً، ومن ثم حرم الوصال، ومثله يضعف الإنسان عن القيام بوظائف العبادات، ولاسيما بقيام التهجد، و ((البطانة))

2470 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجذام، والجنون، ومن سيئ الأسقام)). رواه أبو داود، والنسائي. [2470] 2471 - وعن قطبة بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء)). رواه الترمذي. [2471] 2472 - وعن شتير بن شكل بن حميد، عن أبيه، قال: قلت: يا نبي الله!. علمني تعويذاً أتعوذ به. قال: ((قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، وشر بصري، وشر لسإني، وشر قلبي، وشر منيي)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [2472] 2473 - وعن أبي اليسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك ـــــــــــــــــــــــــــــ بـ ((الخيانة))؛ لأنها ليست كالجوع الذي يتضرر به صاحبه فحسب، بل هي سارية إلي الغير، فهي وإن كانت بطانة لحاله، لكن يجرى سريانه إلي الغير مجرى الظهارة. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سيئ الأسقام)) الإضافة ليست بمعنى ((من)) كما في قولك: خاتم فضة، بل هي من إضافة الصفة إلي الموصوف، أي الأسقام السيئة. ((تو)): لم يستعذ بالله من سائر الأسقام؛ لأن منها ما إذا تحامل الإنسان فيه علي نفسه بالصبر خفت مئونته وعظمت مثوبته، كالحمى والصداع والرمد، وإنما استعاذ من السقم المزمن، فينتهي بصاحبه إلي حالة يفر منها الحميم ويقل دونها المؤانس والمداوى، مع ما يورث من الشين، فمنها الجنون الذي يزيل العقل فلا يأمن صاحبه القتل، ومنها البرص والجذام، وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة، وتغيير الصورة، وقد اتفقوا علي أنهما معديان إلي الغير. الحديث الثامن عن شتير: قوله: ((تعويذاُ)) أي ما تعوذ به، -الجوهري-: العوذة والمعاذة والتعويذ كلها بمعنى. قوله: ((من منيي)) ((مظ)): أي من شر غلبة منيي، حتى لا أقع في الزنى والنظر إلي المحارم. الحديث التاسع عن أبي اليسر: قوله: ((أعوذ بك من الهدم)) ((قض)): الهدم –بالسكون-

من الهدم وأعوذ بك من التردي، ومن الغرق، والحرق، والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك من أن أموت لديغاً)) رواه أبو داود، والنسائي وزاد في رواية أخرى: ((والغم)). [2473] 2474 - وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أستعيذ بالله من طمع يهدي إلي طبع)). رواه أحمد، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2474] 2475 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلي القمر، فقال: ((يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب)). رواه الترمذي. [2475] 2476 - وعن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: ((يا حصين كم تعبد اليوم إلهاً؟)) قال أبي: سبعة: ستاً في الأرض، وواحداً في السماء. قال: ((فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟)) قال: الذي في السماء. قال: ((يا حصين! أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك)) قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله! علمني الكلمتين اللتين وعدتني فقال: ((قل اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)). رواه الترمذي. [2476] ـــــــــــــــــــــــــــــ سقوط البناء ووقوعه علي الشيء، وروى بالفتح وهو اسم ما انهدم منه. و ((التردي)) السقوط من عال، كالتدهده من شاهق جبل، والسقوط في بئر. و ((الغرق)). بالتحريك مصدر غرق في الماء، و ((الحرق)) بالتحريك ((النار)) وإنما استعاذ من الهلاك بهذه الأسباب مع ما فيه من نيل الشهادة؛ لأنها مجهدة مقلقة لا يكاد الإنسان يصبر عليها ويثبت عندها، فلعل الشيطان ينتهز منه فرصة فيحمله علي ما يخل بدينه، ولأنه بعد فجأة، وهو أخذة الأسف علي ما مر في كتاب الجنائز. أقول: ولعله صلى الله عليه وسلم استعاذ منها لأنها في الظاهر مصائب ومحن وبلاء كالأمراض السابقة المستعاذ منها، وأما ترتب الثواب –ثواب الشهادة- عليها، فللتنبيه علي أن الله تعالي يثيب المؤمن علي المصائب كلها حتى الشوكة التي يشاكها، ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه أنها متمنى كل مؤمن ومطلوبه، وقد يجب عليه توخي الشهادة والتحري فيها بخلاف التردي والغرق والحرق ونحوها فإنها يجب الاحتراز عنها ولو سعى فيها عصى. قوله: ((من أن يتخبطني)) ((تو)) الأصل في التخبط أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط، والمعنى: أعوذ بك أن يمسني الشيطان عند الموت بنزغاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأحلام. قوله

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((لديغاً)) فعيل بمعنى مفعول، واللدغ يستعمل في ذوات السموم من حية وعقرب وغير ذلك. قوله ((أن أموت في سبيلك مدبراً)) عبارة عن الفرار عن الزحف حيث لا يجوز الزحف هذا وما أشبه ذلك تعليم الأمة، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له الفرار وكذا تخبط الشيطان وغير ذلك من الأمراض المزمنة المشوهة للخلق. الحديث العاشر عن معاذ رضي الله عنه: قوله (من طمع يهدي) ((قض)): الهداية: الإرشاد إلي لشيء والدلالة عليه، ثم اتسع فيه فاستعمل بمعنى الإدناء من الشيء والإيصال إليه. والطبع بالتحريك: العيب، وأصله الدنس الذي بعرض السيف، والمعنى: أعوذ بالله من طمع يسوقني إلي شين في الدين وإزراء بالمروءة. قوله: الهداية هنا بمعنى الدلالة الموصلة إلي البغية واردة علي سبيل التمثيل لأن الطبع الذي هو بمعنى الرين سبب عن كسب الآثام. قال تعالي: {كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون} فلما جعل متسببا عن الطمع الذي هو نزوع النفس إلي الشيء شهوة له جعل كالمرشد والهادي إلي مكان سحيق، فيتخذ إلهه هواه، وهو المعني بالرين، فاستعمل الهدى فيه علي سبيل الاستعارة تهكماً. الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها قوله: ((الغاسق إذا وقب)) ((قض)) الغاسق: الليل إذا غاب الشفق واعتكر ظلامه من غسق يغسق إذا أظلم، وأطلق هاهنا علي القمر لأنه يظلم إذا كسف، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده، وإنما استعاذ من كسوفه لأنه من آيات الله الدالة علي حدوث بلية، ونزول نازلة. أقول: يؤيد هذا التأويل حديث أبي موسى في الكسوف قال: فقام النبي فزعاً يخشى أن تكون الساعة، ثم قال: ((هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم من ذلك شيئاً فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره))، ولأن اسم الإشارة في الحديث كوضع اليد في التعيين، وتوسيط ضمير الفعل بينه وبين الخبر المعرف يدل علي أن المشار إليه هو القمر لا غير وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث كل الإباء؛ ولأن دخول الليل نعمة من نعم الله تعالي، ومن الله بها علي عباده في كثير من الآيات، قال تعالي: {وجعل لكم الليل لتسكنوا فيه} {فلما جن عليه الليل رأي كوكباً قال هذا ربي} وقال الشاعر: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب الحديث الثاني عشر عن عمران: قوله: ((إلهاً)) تمييز لـ ((كم)) الاستفهامية، وقد فصل بينهما ظاهراً، وأما من حيث المعنى فلا فصل؛ إذ أن رتبة المفعول هو التأخر عن الفعل.

2477 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره)) وكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه. رواه أبو داود، والترمذي، وهذا لفظه. [2477] 2478 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومن استجار من النار ثلاث مرات؛ قالت النار: اللهم أجره من النار)). رواه الترمذي، والنسائي. [2478] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ستاً من الأرض)) المذكور في التنزيل ((يغوث، ويعوق، ونسراً، واللات، والمناة، والعزى)) والله أعلم بالمراد، ومن ثم قال: ((ستاً)) لأن المميزات كلها مؤنثة، وإنما ألحق التاء بـ ((سبعة)) لاشتماله علي الإله الذي في السماء علي زعمه، فغلب جانب التذكير، ولهذا لم يقل: واحدة في السماء. قوله: ((فأيهم تعد)) ((الفاء)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان كذلك، فإذا حزبك أمر فأيهم تخصه وتلتجئ إليه إذا نابتك نائبة، وحدثت حادثة؟ قال تعالي: {وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} وهذا الأسلوب يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي، فلما أكرمه وأقر قال: ((الذي في السماء)) أتبعه بقوله: ((أما إنك لو أسلمت)) وهذا من باب إرخاء العنان والكلام المنصف؛ لأن من حق الظاهر بعد إقراره أن يقال له: أسلم ولا تعاند. وأما الإشارة إلي الاستعاذة من شر النفس، فإيذان بأن اتخاذ تلك الآلهة ليس إلا هوى النفس الأمارة بالسوء، وأن المرشد إلي الطريق الحق والدين القويم هو الله تعالي. الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قالت الجنة)) قول الجنة والنار يجوز أن يكون حقيقة ولا بعد فيه، كما في قوله تعالي: {وتقول هل من مزيد}، ويجوز أن تكون استعارة، شبه استحقاق العبد بوعد الله ووعيده الجنة والنار في تحققهما وثبوتهما بنطق الناطق، كأن الجنة مشتاقة إلي السائل داعية دخوله، والنار نافرة عنه داعية له بالبعد عنها، فأطلق الفول وأراد التحقيق والثبوت، وفي وضع ((الجنة والنار)) موضع ضمير المتكلم تجريد ونوع من الالتفات. ويجوز أن يقدر مضاف، أي قالت خزنة الجنة وخزنة النار، فالقول إذن حقيقي.

الفصل الثالث 2479 - عن القعقاع: أن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً. فقيل له: ما هن؟ قال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ. رواه مالك. [2479] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن القعقاع: قوله: ((حماراً)) لعله أراد أن اليهود سحرته، ولولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا من أن يقلبوا حقيقتي لبغضهم إياي حيث إني أسلمت، أو لتمكنوا من إذلالي وتوهيني كالحمار، فإنه مثل في الذلة، قال: ولا يقيم علي ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد قوله: ((لا يجاوزهن بر ولا فاجر)) يشعر بأن المراد بـ ((كلمات)) علم الله الذي ينفد البحر قبل نفاده في قوله: {قل لو كان البحر مداداً} الآية، لأن معنى التكرير في قوله: ((بر ولا فاجر)) وتكرير حرف التأكيد للاستيعاب، كما في قوله تعالي: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}. ولو أريد بـ ((كلمات الله التامات)) القرآن يؤول بأن البر والفاجر من المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لا يتجاوزان ما لهما وما عليهما من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وغير ذلك، يؤيده قوله تعالي: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} لأن الصدق ملائم للوعد والوعيد، والخبر من القصص، وبناء الأولين والآخرين مما سبق ومما سيأتي. والعدل موافق للأمر والنهي، والثواب والعقاب، وما أشبه ذلك. ((حس)): وفي أمثال هذا الحديث مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله، دليل علي أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بها، كما استعاذ بالله في قوله: ((أعوذ بالله)) وبصفاته في قوله: {برب الناس ملك الناس} وبعزة الله وقدرته، ولم يكن يستعيذ بمخلوق عن مخلوق. وبلغني عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه استدل بها علي أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص. قوله: ((خلق)) أي قدر أو أنشأ، و ((برأ)) أي جعل الخلقة مبرأة من التفاوت، فخلق كل عضو علي ما ينبغي كونه، و ((ذرأ)) أي بث الذراري في الأرض.

(9) باب جامع الدعاء

2480 - وعن مسلم بن أبي بكرة، قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: اللهم إن أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر. فكنت أقولهن. فقال: أي بني! عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر الصلاة. رواه النسائي، والترمذي، إلا أنه لم يذكر: في دبر الصلاة. [2480] وروى أحمد لفظ الحديث، وعنده: في دبر كل صلاة. 2481 - وعن أبي سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أعوذ بالله من الكفر والدَّين)) فقال رجل: يا رسول الله! أتعدل الكفر بالدين؟ قال: ((نعم)). وفي رواية ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)). قال رجل: ويعدلان؟ قال: ((نعم)). رواه النسائي. [2481] (9) باب جامع الدعاء الفصل الأول 2482 - عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((قال: نعم)) أي أساوي الدائن بالمنافق؛ لأن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها ((والفقير الذي لم يصبر علي فقره أسوء حالاً من الدائن)) وقد يرى ((كاد الفقر أن يكون كفراً)) والله أعلم. باب جامع الدعاء إضافة الجامع إلي الدعاء إضافة الصفة إلي الموصوف، أي الدعاء الجامع لمعان كثيرة في ألفاظ قليلة. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((كل ذلك عندي)) كالتذييل للسابق. ((مح)): أي متصف بهذه الأشياء فاغفرها لي، قالها تواضعاً وهضماً لنفسه. عن علي رضي الله عنه: عد فوات الكمال، وترك الأولي ذنوباً. وقيل: أراد ما كان عن سهو وقيل: ما كان قبل

اغفر لي جدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت به أعلم به مني. أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت علي كل شيء قدير)). متفق عليه. 2483 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر)). رواه مسلم. 2484 - وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى)). رواه مسلم. 2485 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني، وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ النبوة. وقوله: ((أنت المقدم)) أي تقدم من تشاء من خلقك بتوفيقك إلي رحمتك، وتؤخر من تشاء عن ذلك. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عصمة أمري)) هو من قوله تعالي: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} أي بعهد الله، وهو الدين، وإصلاح المعاد اللطف والتوفيق علي طاعة الله وعبادته. وطلب الراحة بالموت إشارة إلي قوله صلى الله عليه وسلم،: ((إذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون)) هذا هو الذي يقابله الزيادة في القرينة السابقة، وهذا الدعاء من الجوامع. الحديث الثالث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أسألك الهدى)) أطلق ((الهدى والتقى))؛ ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد، ومكارم الأخلاق، وكل ما يجب أن يتقي منه من الشرك والمعاصي، ورذائل الأخلاق. وطلب العفاف والغنى تخصيص بعد تعميم، وهذا أيضاً من الجوامع. الحديث الرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((اللهم اهدني)) ((قض)): أمره بأن يسأل الله تعالي الهداية والسداد، وأن يكون في ذكره مخطراً بباله أن المطلوب هداية، كهداية من ركب

2486 - وعن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، قال: كان الرجل إذا أسلم، علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني وعافني، وارزقني)). رواه مسلم. 2487 - وعن أنس، قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)) متفق عليه. الفصل الثاني 2488 - عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: ((رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، ـــــــــــــــــــــــــــــ متن الطريق، وأخذ في المنهج المستقيم، وسداد يشبه سداد السهم نحو الغرض، والمعنى أن يكون في سؤاله طالباً غاية الهدى، ونهاية السداد. أقول: وفيه معنى قوله تعالي: {فاستقم كما أمرت} {اهدنا الصراط المستقيم} أي هداية لا أميل بها إلي أحد طرفي الإفراط والتفريط. الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم)) لعله صلوات الله عليه إنما كان يكثر هذا الدعاء؛ لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والأخروية. وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم كرر الحسنة ونكرها تنويعاً، وقد تقرر في علم المعإني أن النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأول، فالمطلوب في الأولي الحسنات الدنيوية، من الاستغاثة والتوفيق والوسائل إلي اكتساب الطاعات والمبرات، بحيث تكون مقبولة عند الله تعالي، وفي الثانية ما يترتب عليها من الثواب والرضوان في العقبى. وقوله: ((وقنا عذاب النار)) تتمة، أي إن صدر منا ما يوجبها من التقصير والعصيان، فاعف عنا وقنا عذاب النار، فحق لذلك أن يكثر من هذا الدعاء. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وامكر لي)) قيل: المكر الخداع، وهو من الله تعالي إيقاع بلائه بأعدائه من حيث لا يشعرون، وقيل: هو استدراج العبد

وانصرني علي من بغى علي، رب اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أواها منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لسإني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه [2488]. 2489 - وعن أبي بكر، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم علي المنبر، ثم بكى، فقال: ((سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ إسناداً [2489]. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالطاعات، فيتوهم أنها مقبولة، وهي مردودة. قوله: ((لك شاكراً)) ((قض)): قدم الصلاة علي متعلقاتها تقديماً للأهم، وإرادة للاختصاص. ((والمخبت)) الخاشع المتواضع من الخبت وهو المطمئن إلي ذكر ربه الواثق به، قال تعالي: {وأخبتوا إلي ربهم} أي اطمأنوا، وسكنت نفوسهم إلي أمره، وأقيمت ((اللام)) مقام ((إلي)) ليفيد معنى الاختصاص. ((والأواه)) فعال بني للمبالغة من أوه، يقال: أوه تأويهاً وتأوه تأوهاً إذا قال: آه، وهو صوت الحزين المتفجع، والمعنى اجعلني لك أواها متفجعاً علي التفريط، منيباً راجعاً إليك، تائباً عما اقترفت من الذنوب. والحوبة الإثم، وكذا الحوب والحوب، وغسله كناية عن إزالته بالكلية بحيث لا يبقى منه أثر. وسداد اللسان أن لا يتحرك إلا بالحق، ولا ينطق إلا بالصدق. وسخيمة الصدر الضغينة، من السخمة وهي السواد، ومنه سخام القدر. وإضافتها إلي الصدر؛ لأن مبدأها القوة الغضبية المنبعثة من القلب الذي هو في الصدر، وسلها إخراجها، وتنقية الصدر منها، من سل السيف إذا أخرجه من الغمد. ((نه)): ((ثبت حجتي)) أي قولي وتصديقي في الدنيا، وعند جواب الملكين في القبر. أقول: فإن قلت: ما الفائدة من ترك العاطف في القرائن السابقة من قوله: ((رب اجعلني)) إلي قوله: ((منيباً)) وفي الإتيان به في القرائن اللاحقة؟ قلت: أما الترك فللتعداد والإحصاء؛ ليدل علي أن ما كان لله غير معدود، ولا داخل تحت الضبط، فينعطف بعضها علي بعض، ولهذا قدم الصلاة علي متعلقاتها. وأما الإتيان بالعاطف فيما كان للعبد، فلانضباطه وإنما اكتفي في قوله إليك ((أواهاً منيب)) بصلة واحدة لكون الإنابة لازمة للتأوه ورديفاً له))، فكأنهما شيء واحد، ومنه قوله تعالي: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}.

2490 - وعن أنس، أن رجلاً جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أي الدعاء أفضل؟ قال: ((سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة)). ثم أتاه في اليوم الثاني، فقال: يا رسول الله! أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك. ثم أتاه في اليوم الثالث، فقال له مثل ذلك، قال: ((فإذا أعطيت العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة فقد أفلحت)). رواه الترمذي، وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ إسناداً. [2490] 2491 - وعن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوةً لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً ي فيما تحب)). رواه الترمذي. [2491] 2492 - وعن ابن عمر، قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((خيراً من العافية)) فإن قلت: كيف أفرد العافية بعد جمعها؟ قلت: لأن معنى ((العفو)) محو الذنب، ومعنى ((العافية)) السلامة عن الأسقام والبلايا، فاستغنى عن ذكر العفو بها؛ لشمولها، يؤيده قوله في الحديث الثالث: ((فإذا أعطيت العافية فقد أفلحت)). ((مظ)): وبكاؤه صلى الله عليه وسلم لما علم وقوع أمته في الفتن، وغلبة الشهوة عليهم، وحرصهم علي جمع المال والجاه، أمرهم أن يلتجئوا إلي الله، ويسألوا العفو والعافية من الله تعالي. قوله: ((والمعافاة)) هي أن يعافيك الله تعالي من الناس، ويعافيهم منك، أي يغنيك عنهم ويغنيهم عنك، ويصرف أذاهم عنك وأذاك عنهم. وقيل: هي مفاعلة من العفو وهو أن يعفو عن الناس ويعفو هم عنه. وقوله: ((إسناداً)) تمييز عن ((الحسن والغريب)) معاً، كما سبق بيانه. الحديث الرابع عن عبد الله رضي الله عنه: ((قوله: ((ما زويت عني)) ((قض)): أصل الزوي الجمع والقبض، يقال: زوى فلان المال عن وارثه زوياً، وفي الحديث قال عمر رضي الله عنه: ((عجبت لما زوى الله عنك من الدنيا)) أي لما نحى عنك، المعنى اجعل ما نحيته عني من محابي عوناً لي علي شغلي بمحابك، وذلك أن الفراغ خلاف الشغل، فإذا زوى عنه الدنيا ليتفرغ لمحاب ربه، كان ذلك الفراغ عوناً له علي الاشتغال بطاعة الله تعالي. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((اللهم اقسم لنا)) ((قض)): أي اجعل لنا

معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا علي من ظلمنا، وانصرنا علي من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريب. [2492] ـــــــــــــــــــــــــــــ قسماً ونصيباً تحول به وتحجب وتمنع، من حال الشيء حيلولة، وارزقنا يقيناً بك، وبأن لا مرد لقضائك وقدرك، وأن لا يصيبنا إلا ما كتبته علينا، وأن ما قدرته لا يخلو عن حكمة، ومصلحة، واستجلاب مثوبة تهز نبه مصيبات الدنيا. و ((اجعله)) الضمير فيه للمصدر، كما في قولك: زيد أظنه منطلق، أي اجعل الجعل، و ((الوارث)) هو المفعول الأول و ((منا)) في موضع المفعول الثاني علي معنى واجعل الوارث من نسلنا، لا كلالة خارجة عنا، كما قال تعالي حكاية عن دعوة زكريا: {فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب}، وقيل: الضمير للتمتع الذي دل عليه التمتيع، ومعناه اجعل تمتعنا بها باقياً عنا، موروثاً فيمن بعدنا، أو محفوظاً لنا إلي يوم الحاجة، وهو المفعول الأول، و ((الوارث)) مفعول ثان، و ((منا)) صلة له، وقيل: الضمير لما سبق من الأسماع والأبصار والقوة، وإفراده وتذكيره علي تأويل المذكور، كما في قول رؤية: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق والمعني بوراثتها لزومها له عند موته لزوم الوارث له. واجعل ثأرنا مقصوراً علي من ظلمنا، ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره، فأخذ به غير الجإني، كما كان معهوداً في الجاهلية، أو اجعل إدراك ثأرنا علي من ظلمنا، فندرك منه ثأرنا، وأصل الثأر الحقد والغضب، من الثوران، يقال: ثار ثائره إذا هاج غضبه. قوله: ((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)) [((نه))]: ولا تصيبنا بما ينقص ديننا من أكل الحرام واعتقاد سوء، أو فترة في العبادة. قوله: ((أكبر همنا)) فيه أن قليلاً من الهم لابد منه في أمر المعاش المرخص، بل مستحب. قوله: ((لا تسلط علينا)) يعني لا تجعنا مغلوبين للكفار والظلمة، ويحتمل أن يراد لا تجعل الظالمين علينا حاكمين، فإن الظالم لا يرحم الرعية. فإن قلت: بين لي تأليف هذا النظم، وأي وجه من الوجوه المذكورة أولي، قلت: أن نجعل الضمير للتمتع، ومعنى اجعل ثأرنا مقصوراً علي من ظلمنا، ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره، ويحمل ((من لا يرحمنا)) علي ملائكة العذاب في القبر، وفي النار؛ لئلا يلزم التكرار،

2493 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، الحمد لله علي كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريبٌ إسناداً. [2493] ـــــــــــــــــــــــــــــ فنقول: وإنما خص السمع والبصر بالتمتع من الحواس؛ لأن الدلائل الموصلة إلي معرفة الله تعالي وتوحيده إنما تحصل من طريقهما؛ لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات المنزلة، وذلك بطريق السمع، أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس، وذلك بطريق البصر، فسأل التمتع بهما حذراً من الانخراط في سلك الذين ((ختم الله علي قلوبهم وعلي سمعهم، وعلي أبصارهم غشاوة)) ولما حصلت المعرفة ترتب عليها العبادة، فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه، ثم إنه أراد أن لا ينقطع هذا الفيض الإلهي عنه لكونه رحمة للعالمين، فسأل بقاءه ليستن بسنته بعده فقال: واجعل ذلك التمتع وارثاً باقياً منا. ولما كانت القرينتان أعني ((واجعل ثأرنا علي من ظلمنا وانصرنا علي من عادانا)) علي وزان قوله: ((أعوذ بك من أن أظلم وأظلم)) وجب تأويل القرينة الأولي بما سبق، والثانية ظاهرة، ولما كان مفهوم ((وانصرنا علي من عادانا)) لا تسلط علينا من ظلمنا، وجب أن يحمل ((ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)) علي ما حملنا عليه. ويلوح من قوله: ((ولا تجعل الدنيا مبلغ علمنا)) معنى قوله تعالي: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم انفعني)) إلي هذا المعنى ينظر ما ورد ((من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)) طلب أولاً النفع بما رزق من العلم، وهو العمل بمقتضاه، ثم توخي علماً زائداً عليه ليترقى منه إلي عمل زائد علي ذلك، ثم قال: ((رب زدني علماً)) ليشير إلي طلب الزيادة في السير والسلوك إلي أن يوصله إلي مخدع الوصال، وظهر من هذا أن العلم وسيلة العمل، وهما متلازمان، ومن ثم قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وما أحسن موقع الحمد في هذا المقام، ومعنى المزيد فيه {لئن شكرتم لأزيدنكم} وموقع الاستعاذة من الحال المضاف إلي النار تلميحاً إلي الفظيعة والبعد، وهذا من جامع الدعاء الذي لا مطمح وراءه.

2494 - وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه دويٌ كدوي النحل، فأنزل عليه يوماً، فمكثنا ساعةً، فسري عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: ((اللهم زدنا ولا تنقضنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا)). ثم قال: أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة)) ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم عشر آيات. رواه أحمد، والترمذي [2494]. الفصل الثالث 2495 - عن عثمان بن حنيف، قال: إن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((سمع عند وجهه)) ((قض)): أي سمع من جانب وجهه، وجهته صوت خفي، كدوي النحل كأن الوحي كان يؤثر فيهم وينكشف لهم انكشافاً غير تام، فصاروا كمن يسمع دوي صوت ولا يفهمه، أو سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم من غطيطه، وشدة تنفسه عند نزول الوحي، وقوله: ((فسري عنه)) أي كشف عنه، وزال ما اعتراه من برحاء الوحي. قوله: ((زدنا ولا تنقصنا)) عطف النواهي علي الأوامر للتأكيد، وقد حذف ثوإني المفعولات في بعض الألفاظ إرادة لإجرائها مجرى فلان يعطي ويمنع، مبالغة وتعميماً. ويلوح من صفحات هذا الدعاء تباشير البشارة والاستبشار، والفوز بالمباغي، ونيل الفلاح في الدنيا والعقبى، ولعمري إنه من مجازه ومواقعه، وذلك أن ((أولئك)) في قوله تعالي {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس} مشعر بأن وراثتهم الفردوس الأعلي إنما كان لاتصافهم بتلك الخصال الفاضلة من الخشوع في الصلاة، والإعراض عما لا يعنيهم في الدين، وإنفاقهم في سبيل الله إلي غير ذلك، قوله: ((ولا تهنا)) ((مظ)): أصله ولا تهوننا فنقلت كسرة الواو إلي الهاء، وحذفت الواو لسكونها وسكون الأولي، ثم أدغمت النون الأولي في الثانية. ((ولا تؤثر علينا)) أي ولا تختر غيرنا، فتعززه وتذللنا، يعني لا تغلب علينا أعداءنا. قوله: ((من أقامهن)) أي حافظ وداوم عليهن. الفصل الثالث الحديث الأول عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((فهو خير لي)) يشير إلي ما ورد قال تعالي:

فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: ((إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خيرٌ لك)). قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلي ربي ليقضي لي في حاجتي هذه، اللهم فشفعه في)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب [2495]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر، عوضته منهما الجنة)). قوله: ((ويدعو بهذا الدعاء)) قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت دعوت)) فأسند الدعاء إلي نفسه، وكذا طلب الرجل أن يدعو هو له، ثم أمره صلى الله عليه وسلم أن يدعو هو، كأنه لم يرض منه اختياره الدعاء لما قال: ((الصبر خير لك)) لكن في جعله شفيعاً له ووسيلة في استجابة الدعاء، ما يفهم أنه صلى الله عليه وسلم شريك فيه. قوله: ((إني توجهت بك)) بعد قوله: ((أتوجه إليك)) فيه معنى قوله تعالي: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} سأل أولاً أن يأذن الله نبيه ليشفع له، ثم أقبل علي النبي ملتمساً لأن يشفع له، ثم كر مقبلاً علي الله أن يقبل شفاعته قائلاً: ((فشفعه)). ((والباء)) في ((بنبيك)) للتعدية، وفي ((بك)) للاستعانة. قوله: ((ليقضي لي في حاجتي)) فإن قلت: ما معنى ((لي)) و ((في))؟ قلت: معنى ((لي)) كما في قوله: {رب اشرح لي صدري} أجمل أولاً، ثم فصل ليكون أوقع، ومعنى ((في)) كما في قول الشاعر. يجرح في عراقيبها نصلي أي أوقع القضاء في حاجتي، واجعلها مكاناً له. ونظير الحديث قوله تعالي: {وأصلح لي في ذريتي}. وقوله: ((فشفعه في)) أي اقبل شفاعته في حقي، و ((الفاء)) عطف علي قوله: ((أتوجه إليك بنبيك)) أي اجعله شفيعاً لي فشفعه، وقوله: ((اللهم)) معترضة. قوله: ((حسن صحيح غريب)) قد سبق أن الصحيح قد يكون غريباً، وأن الحسن يكون في طريق والصحيح في طريق آخر.

2496 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان من دعاء داود يقول: ((اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي، ومن الماء البارد)). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود يحدث عنه؛ يقول: ((كان أعبد البشر)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. 2497 - وعن عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: صلي بنا عمار بن ياسر صلاةً، فأوجز فيها. فقال له بعض القوم: لقد خففت وأوجزت الصلاة. فقال أما علي ذلك، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قام تبعه رجل من القوم -هو أبي- غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك علي الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي الدرداء: قوله: ((يقول: اللهم)) اسم ((كان حذف ((أن)) كما في قوله: احضر الوغى، وإنما قال: ((اجعل حبك أحب إلي من نفسي)) بدل اجعل نفسك، مراعاة للأدب حيث لم يرد أن يقابل بنفسه نفسه عز وجل، فإذا قيل: لعله إنما عدل؛ لأن النفس لا تطلق علي الله تعالي، قلت: بل إطلاقه صحيح، وقد ورد في التنزيل مشاكلة؛ قال تعالي: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}. وقوله: ((ومن الماء البارد)) أعاد ((من)) هنا ليدل بذلك علي استقلال الماء البارد في كونه محبوباً، وذلك في بعض الأحيان، فإنه يعدل بالروح، وعن بعض الفضلاء: ليس للماء قيمة؛ لأنه لا يباع إذا وجد، ولا يباع إذا فقد. قوله: ((يحدث)) يروى مرفوعاً جزاء للشرط؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً والجزاء مضارعاً، يسوغ فيه الوجهان، و ((يقول)) بدل من الجزاء. قوله: ((كان أعبد البشر)) يحتمل أن يراد به في عصره وزمانه، وأن يراد أنه كان أشكر الناس، قال تعالي له: {اعملوا آل داود شكراً} أي بالغ في شكري، وابذل وسعك فيه. قيل: إن داود جزأ ساعات الليل والنهار علي أهله، فلم يكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي. الحديث الثالث عن عطاء رضي الله عنه: قوله: ((أما علي ذلك)) الهمزة في ((أما)) يحتمل أن تكون للإنكار أي أنكر، وما علي ضرر من ذلك، أو للنداء؟ والمنادى بعض القوم، أي يا فلان ليس علي من ذلك ضرر، ويحتمل التنبيه أي علي بيان ذلك. قوله: ((فلما قام تبعه رجل

علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضي والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضي بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلي وجهك، والشوق إلي لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين)). رواه النسائي. [2497] ـــــــــــــــــــــــــــــ من القوم)) إلي هاهنا قول السائل، وقوله: ((هو أي)) إلي آخره قول عطاء، أي قال السائب: لما قام عمار تبعه رجل، والرجل هو السائب، كنى عن نفسه بالرجل، وهذا الرجل هو المراد من قول عطاء ((هو أبي)) وتقدير الاستثناء أنه لم يصرح السائب باسمه إلا أنه كنى عن نفسه بالرجل. وقوله: ((فسأله)) أي فسأل عماراً، ثم جاء الرجل وهو السائب، فأخبر بالدعاء القوم. قوله: ((بعلمك)) الباء للاستعطاف، أي أنشدك بحق علمك. وقوله: ((وأسألك خشيتك)) عطف علي هذا المحذوف، و ((اللهم)) معترضة. والمراد بـ ((الخشية)) في الغيب والشهادة إظهارها في السر والعلإنية، وكذلك معنى الرضي، أي في حالة رضي الخلق وغضبهم. قوله: ((قرة عين لا تنقطع)) يحتمل أنه طلب نسلاً لا ينقطع بعده، قال تعالي: {هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} أو طلب محافظة الصلوات والإدامة عليها، كما ورد ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)). قوله ((لذة النظر)) قيد ((النظر)) باللذة؛ لأن النظر إلي الله إما هيبة وجلال في عرصات القيامة، وإما نظر لطف وجمال في الجنة؛ ليؤذن بأن المطلوب هذا. قوله ((في غير ضراء مضرة)) متعلق الظرف مشكل، ولعله متصل بالقرينة الأخيرة، وهي قوله: ((والشوق إلي لقائك)) سأل شوقاً إلي الله تعالي في الدنيا بحيث يكون ضراء غير مضرة أي شوقاً لا يؤثر في سيري وسلوكي وإن ضرني مضرة ما، قال: إذا قلت: أهدي الهجر لي حلل البلاء ... تقولين: لولا الهجر لم يطلب الحب وإن قلت: كربي دائم، قلت: إنما ... يعد محباً من يدوم له كرب ويجوز أن يتصل بقوله ((أحيني ما علمت الحياة خيراً لي)). ومعنى ((ضراء مضرة)) الضر الذي لم يصبر عليه، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن -إلي قوله- إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)). قوله: ((هداة مهديين)) وصف الهداة بالمهديين؛ لأن الهادي إذا لم يكن مهتدياً في نفسه لم يصلح أن يكون هادياً لغيره؛ لأنه يوقع الخلق في الضلال من حيث لا يشعر.

2498 - وعن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر صلاة الفجر: ((اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً طيباً)). رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). 2499 - وعن أبي هريرة، قال: دعاء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: ((اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك، وأحفظ وصيتك)). رواه الترمذي. [2499] 2500 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أسألك الصحة، والعفة، والأمانة، وحسن الخلق، والرضي بالقدر)). [2500] 2501 - وعن أم معبد. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولسإني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)). رواهما البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2501] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((علماً نافعاً)) كان من الظاهر أن يقدم الرزق الحلال علي العلم؛ لأن الرزق إا لم يكن حلالاً لم يكن العلم نافعاً، والعمل إذا لم يكن من علم نافع لم يكن متقبلاً. قلت: أخره ليؤذن بأن العلم والعمل إنما يعتد بهما ويقعان موقعهما، إذا كانا مؤسسين علي الرزق الحلال، وهي المرتبة العليا والمطلوب الأسنى، ولو قدم لم يكن بذلك، كما إذا سألت عن رجل قيل لك: هو عالم عامل، فقلت: من أين معاشه؟ فقيل لك: من إدرار السلطان، استنكفت منه، ولم تعتبر علمه وعمله، وجعلتهما هباء منثوراً. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((دعاء)) مبتدأ موصوف، خبره ((لا أدعه)) وفي هذا التركيب من اللطف ما لا يخفي علي الذكي. قوله: ((اجعلني)) بمعنى صيرني، ولذلك أتى بالمفعول الثاني فعلاً؛ لأنه صار من دواخل المبتدأ والخبر، نحوه قوله تعالي: {وتركهم في ظلمات} إذا جعل ((ترك)) بمعنى صار، و ((النصح)) يجري في فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، قال تعالي: {لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} والنصح والوصية في الحديث متقاربان. الحديث السادس والسابع عن أم معبد: قوله: ((خائنة الأعين)) -الكشاف-: (الخائنة)) صفة

2502 - وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟)). قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! لا تطيقه ولا تستطيعه؛ أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟)). قال: فدعا الله به، فشفاه الله. رواه مسلم. 2503 - وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)). قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: ((يتعرض من البلاء لما لا يطيق)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [2503] ـــــــــــــــــــــــــــــ لـ ((النظرة))، أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد استراق النظر إلي مت لا يحل كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين؛ لأن قوله: ((وما تخفي الصدور)) لا يساعد عليه. أقول: يريد أنه لا يجوز أن يجعل الإضافة محضة، بل يكون إضافة محضة، بل يكون إضافة العامل إلي معموله؛ ليناسب قرينته في العمل، كأنه قيل: تعلم نظرة الأعين وخيانتها، وما تخفي الصدور. وفيه بحث؛ لأن تقلب القلب أكثر تجدداً واستمراراً من خيانة العين، فوجب الاختلاف، نحوه قوله تعالي: {الله يستهزئ بهم} رداً لقولهم: {إنما نحن مستهزؤن} حيث قوبلت الجملة الاسمية المحضة بما يشتمل علي الفعل المضارع. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قد خفت)) أي ضعف، خفت الصوت إذا ضعف وسكن. قوله: ((أو تسأله إياه)) الظاهر أن ((أو)) ليس من شك الراوي، بل هو من قوله صلى الله عليه وسلم، سأله أولاً هل دعوت الله بشيء من الأدعية التي تسأل فيها مكروه؟ أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه؟ وعلي هذا تعين عود الضمير المنصوب إلي البلاء المفهوم من قوله: ((قد خفت)) فيكون قد عم أولاً وخص ثإنياً. قوله: ((ما كنت)) ((ما)) يجوز أن تكون شرطية، و ((فجعله)) جزاؤه، أو موصولة. وقوله: ((فعجله)) خبره و ((الفاء)) لتضمنها معنى الشرط. وقوله: ((لا تطيقه)) بعد ما صار الرجل كالفرج، وبعد قوله ((كنت أقول)) لحكاية الحال الماضية المستمرة إلي الحال والاستقبال. الحديث التاسع عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((لما يطيق)) متعلق بقوله: ((يتعرض)) و ((من البلاء)) بيان ((ما)).

كتاب المناسك

2504 - وعن عمر رضي الله عنه، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قل: اللهم اجعل سريرتي خيراً من علإنيتي، واجعل علإنيتي صالحةً، اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس من الأهل والمال والولد غير الضال ولا المضل)). رواه الترمذي. [2504] كتاب المناسك الفصل الأول 2505 - عن أبي هريرة، قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس! قد فرض عليكم الحج فحجوا)) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن عمر رضي الله عنه قوله: ((قل: اللهم)) بيان لقوله: ((علمني)). قوله: ((سريرتي خيراً)) الجوهري: السر الذي يكتم، والجمع الأسرار، والسريرة مثله، طلب أولاً سريرة خيراً من العلإنية، ثم عقبه بطلب علإنية صالحة؛ لدفع توهم أن السريرة ربما تكون خيراً من علإنية غير صالحة. قوله: ((من صالح)) ((من)) زائدة علي مذهب الأخفش، و ((من)) الثانية بيان ((ما)) ويجوز أن يكون بمعنى البعض. وقوله: ((غير الضال)) مجرور بدل من كل واحد من الأهل، والمال، والولد علي سبيل البدل، والضال ها هنا يحتمل أن يكون للنسبة، أي غير ذي ضلال. والله أعلم بالصواب. كتاب المناسك النسك العبادة، والناسك العابد، واختص بأعمال الحج والمناسك مواقف النسك وأعمالها، والنسيكة مختصة بالذبيحة. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عليكم الحج)) ((قض)): الحج في اللغة القصد، وفي الشرع قصد البيت علي الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. ((فقال رجل)) يعني الأقرع بن حابس: ((أكل عام)) أي أتأمرنا أن نحج كل عام؟ وهذا يدل علي أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار، ولا المرة، وإلا لما صح الاستفهام. وإنما سكت صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثاً زجراً له عن السؤال، فإن التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منهي عنه لقوله تعالي: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث لبيان

ثلاثاً. فقال: ((لو قلتُ: نعم لوجبت ولما استطعتم)) ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما ـــــــــــــــــــــــــــــ الشرائع، وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كل سنة لبينه الرسول صلوات الله عليه لا محالة، ولا يقتصر علي الأمر به مطلقاً، سواء سئل عنه أو لم يسأل، فيكون السؤال استعجالاً ضائعاً. ثم لما رأي أنه لا ينزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح، أجاب عنه بقوله: ((ولو قلت نعم لوجبت كل عام حجة)) فأفاد به أنه لا يجب كل عام، لما في ((لو)) من الدلالة علي نتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه إنما لم يتكرر؛ لما فيه من الحرج، والكلفة الشاقة. ونبه علي أن العاقل ينبغي له أن لا يستقبل الكلف الخارجة عن سمعه، وأن لا يسأل عن شيء إن يبد له أساءه. واحتج بهذا الحديث من جوز تفويض الحكم إلي رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله له: احكم بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم لوجبت)) يدل علي أنه كان إليه إيجاب ما شاء. وهو ضعيف؛ لأن قوله: ((لو قلت)) أعم من أن يكون قولاً من تلقاء نفسه أو من وحي نازل، أو رأي يراه إن جوزنا له الاجتهاد، والدال علي الأعم لا يدل علي الأخص، لكنه يدل علي أن الأمر للوجوب؛ لأن قوله: ((لو قلت نعم لوجبت)) تقديره: لو قلت: نعم حجوا كل سنة، لوجبت كل عام حجة. وذلك إنما يصح إذا كان الأمر مقتضياً للوجوب. أقول: والاستدلال بسؤال الرجل علي أن الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد علي السؤال الذي لم يقع موقعه، ولهذا زجره، وقال: ((ذروني ما تركتكم)) فعم الخطاب يعني اقتصروا علي ما أمرتكم، فأتوا به علي قدر استطاعتكم. وكذا قوله تعالي: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} نازل في هذا الشأن، فقد علم أن الرجل لو لم يسأل لم يفد الأمر غير المرة، وأن التكرار مفتقر إلي دليل خارجي. وفي قوله ((لو قلت نعم))، أيضاً بحث؛ لأن القول إذا صرح به يجب أن يجري علي حقيقته إلا إذا منع مانع، فيجري علي المجاز. لنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيحسب أحدكم أن يكون متكئاً علي أريكته، يظن أن الله تعالي لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا إني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر)) رواه عرباض. وفي حديث مقدام ((إنما حرم رسول الله كما حرم الله)) وفي تسميته صلى الله عليه وسلم نفسه رسول الله إشعار باستقلاله في الأمر والنهي، وكذلك القسم في الحديث الأول مؤذن بالغضب الشديد علي المنكر ووصفه بالاتكاء علي الأريكة شبعان من هذا القبيل. وفي قوله: ((لما استطعتم)) إشارة إلي أن بناء الأمر علي اليسر والسهولة، لا العسر والصعوبة، كما ظن السائل. قوله ((ذروني ما تركتكم)) ((مح)): فيه دليل علي أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالي: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.

هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم علي أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)). رواه مسلم. 2506 - وعنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم،: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)). متفق عليه. 2507 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)) من أجل قواعد الإسلام، ومن جوامع الكلم؛ لما يدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإنه إذا عجز عن بعض أركانها، أو شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن غسل بعض أعضاء الوضوء أو الغسل، أو غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة، فعل ما يمكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباهها غير محصور. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أي العمل أفضل)) قد ورد كثير من أحاديث المفاضلة بين الأعمال علي منوال يشكل التوفيق بينها، والوجه في أول كتاب الصلاة. قوله: ((حج مبرور)) يقال: بره أحسن إليه، فهو مبرور، ثم قيل: بر الله عمله إذا قبله، كأنه أحسن إلي عمله بأن قبله ولم يرده، وعلامة كونه مقبولاً الإتيان بجميع أركانه وواجباته، مع إخلاص النية واجتناب ما نهي عنه. قوله: ((إيمان بالله، والجهاد، وحج مبرور)) أخبار مبتدأ محذوف، نكر الإيمان؛ ليشعر بالتعظيم والتفخيم، أي التصديق المقارن بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة. وعرف ((الجهاد)) ليدل علي الكمال، لأن الخبر المعرف باللام يدل علي الاختصاص، كما قال: ((فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) ووصف ((الحج)) بـ ((المبرور)) ليدلي بما يدلي التنكير في الإيمان، والتعريف في الجهاد. فإن قلت: لم لا يحملها علي الابتداء محذوفة الأخبار؟ قلت: يأبي التنكير في الإيمان ذلك، علي أن المقدر في الكل أفضل الأعمال، وهو أعرف من ((حج مبرور)) زمن ((إيمان بالله))، فأجرى الجهاد مجراهما مراعاة للتناسب. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلم يرفث)) ((نه)): الرفث التصريح بذكر الجماع، والإعراب به. وقال الأزهري: هو كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.

2508 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). متفق عليه. 2509 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عمرة في رمضان تعدل حجة)). متفق عليه. 2510 - وعنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء، فقال: ((من القوم؟)) قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: ((رسول الله)) فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال سعيد بن جبير في قوله تعالي: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}: الرفث إتيان النساء، والفسوق السباب، والجدال المراء، يعني مع الرفقاء والخدم والمكارين. وإنما لم يذكر الجدال في الحديث اعتماداً علي الآية. ((والفاء)) في ((فلم يرفث)) معطوف علي الشرط، وجوابه ((رجع)) أي صار، والجار والمجرور خبر، ويجوز أن يكون حالاً، أي رجع مشابهاً لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه. الحديث الرابع والخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((تعدل حجة)) ((مظ)): أي تقابل وتماثل في الثواب؛ لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت. أقول: هذا من باب المبالغة، وإلحاق الناقص بالكامل ترغيباً وبعثاً عليه، وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج؟. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ((ركباً)) ((تو)) هو جمع راكب، كصاحب وصحب، وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون الدواب، و ((الروحاء)) بفتح الراء من أعمال الفرع علي نحو من أربعين ميلاً من المدينة، وفي كتاب مسلم: أنها علي ستة وثلاثين ميلاً منها. قوله: ((ألهذا حج؟)) ((حج)) فاعل الظرف لاعتماده علي الهمزة، يعني أيحصل لهذا ثواب حج؟ وما قالت: أعلي هذا؛ لأنه لا يجب علي الأطفال. ((مظ)): هذا تصريح بصحة حج الصبي، وحصول الثواب له، ولمن حج به، فإذا بلغ ووجد الاستطاعة وجب عليه الحج، وكانت تلك الحجة نافلة. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((شيخاً)) حال. وقوله: ((لا يثبت)) يجوز أن يكون صفة بعد صفة، وأن يكون من الأحوال المتداخلة، ويجوز أن يكون ((شيخاً))

2511 - وعنه، قال: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله علي عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت علي الراحلة، أفأحج عنه، قال: ((نعم)) وذلك حجة الوداع. متفق عليه. 2512 - وعنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟)) قال: نعم قال: ((فاقض دين الله؛ فهو أحق بالقضاء)). متفق عليه. 2513 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلون رجل بامرأةٍ، ولا تسافرن ـــــــــــــــــــــــــــــ بدلاً؛ لكونه موصوفاً أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير، أو حصل له المال في هذه الحالة. والأول أوجه. قوله: ((أفأحج عنه)) الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوفة علي محذوف، أي: أيصح مني أن أكون نائبة له فأحج عنه؟ ((حس)): فيه دليل علي أن حج المرأة عن الرجل يجوز، وزعم بعضهم أنه لا يجوز؛ لأن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل، فلا يحج عنه إلا رجل مثله. وفيه دليل علي أن من مات، وفي ذمته حق الله تعالي من حج، أو كفارة، أو نذر صدقة، أو زكاة فإنه يجب قضاؤها من رأس ماله مقدماً علي الوصايا والميراث، سواء أوصى به أو لم يوص، كما يقضي عنه ديون العباد. قوله: ((وذلك في حجة الوداع)) أي جرى في حجة الوداع. ((مح)): سميت بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وكانت سنة عشرة من الهجرة. وفي صدر الحديث ((كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلي الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله)) الحديث وفيه فوائد منها، جواز الإرداف علي الدابة إذا كانت مطيقة، وجواز سماع صوت الأجنبية عند الحاجة، ومنها تحريم النظر إلي الأجنبية. ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه. الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لو كان عليها دين)) في الحديث دليل علي أن السائل ورث منها مالاً، فسأل ما سأل، فقاس رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الله تعالي علي حق العباد، وأوجب الحج عليه، والجامع علة المالية. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((اكتتبت)) ((تو)): أي أثبت اسمي

امرأة إلا ومعها محرم)). فقال رجل: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة. قال: ((اذهب فاحجج مع امرأتك)) متفق عليه. 2514 - وعن عائشة، قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: ((جهادكن الحج)). متفق عليه. 2515 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في جملة من يخرج فيها، من قولهم: اكتتب الرجل، إذا كتب نفسه في ديوان السلطان، ويستعمل أيضاً في موضع كتب. وهو في الأكثر متعارف في المختلق، ومنه قوله تعالي: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها}. وقيل: اكتتب أي أمر بأن يكتب له، كقولهم: اصطنع خاتماً، أي أمر بأن يصنع له، وفي الغريبين يقال: اكتتب فلان، أي سأل أن يكتب في جملة الزمني، ولا يندب للجهاد، وإذا أخذ الرجل من أمير جنده خطاً بزمانته ليتخلف عن الغزو، ولا زمانة به، بل فعل ذلك اعتلالاً، فقد اكتتبه. أقول: الوجه هو الأول، فإن الصحابي جاء مستفتياً سائلاً عن أحد الأمرين اللازمين عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أولي. ((مح)): في الجواب تقديم الأهم من الأمور المتعارضة؛ لأنه لما عرض له الغزو والحج رجح صلى الله عليه وسلم الحج معها؛ لأن الغزو يقوم غيره في مقامه، بخلاف الحج معها، وليس لها محرم غيره. الحديث العاشر والحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((ذو محرم)) ((مح)): حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة بها والمسافرة معها، كل من حرم نكاحها علي التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا: ((علي التأبيد)) احتراز من أخت المرأة، وعمتها، وخالتها، ونحوهن. وقولنا: ((بسبب مباح)) احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنهما محرمتان علي التأبيد وليستا محرمين؛ لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة؛ لأنه ليس بفعل المكلف. وقولنا: ((لحرمتها)) احتراز من الملاعنة؛ فإنها محرمة علي التأبيد بسبب مباح، وليست محرمة؛ لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظاً. وليس المراد من قوله: ((مسيرة يوم وليلة)) التحديد؛ لأن كل ما يسمى سفراً نهي المرأة أن تسافر فيه بغير محرم؛ لرواية ابن عباس المطلقة: ((لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم)) وإنما كان ذلك عن أمر واقع، فلا يعمل بالمفهوم. وقال: لا يشترط الأمن علي نفسها، ويشترط الأمن بزوج، أو محرم، أو نسوة ثقات، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم تلزمها، لكن يجوز لا الحج

2516 - وعن ابن عباس، قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم؛ فهن لهن، ولمن أتي عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذاك وكذاك، حتى أهل مكة يهلون منها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معها، هذا هو الصحيح. قال القاضي عياض: اتفق العلماء علي أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب؛ لأن إقامتها في دار الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدين، سواء فيما ذكرنا من الأحكام الشابة والكبيرة؛ لأن المرأة مظنة للشهوة، والطمع فيها؛ لأن لكل ساقطة لاقطة. الحديث الثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وقت)) ((قض)): الوقت في الأصل حد الشيء والتأقيت التحديد والتعيين، غير أن التركيب شاع في الزمان، وها هنا جاء علي أصله. والمعنى حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين لأهل المدينة ذا الحليفة، وهو ماء من مياه بني جثم، وحليفة تصغير حلفة كقضية، وهي بيت في الماء، وجمعها حلفاء. و ((جحفة)) موضع بين مكة والمدينة من الجانب الشامي، تحاذي ذي الحليفة، وكان اسمه مهيعة، فأجحف السيل بأهلها، فسميت جخفة، يقال: أجحف به إذا ذهب به. وسيل جُحاف -بالضم- إذا جرف الأرض وذهب به. و ((قرن)) -بسكون الراء- جبل مدور أملس، كأنه بيضة مطل علي عرفات. و ((يلملم)) جبل من جبال تهامة علي ليلتين من مكة. و ((المهل)) موضع الإهلال يريد به الموضع الذي يحرم منه؛ فيرفع في صوته بالتلبية للإحرام. وقوله: ((حتى أهل مكة يهلون منها)) يدل علي أن المكي ميقاته نفس مكة، سواء أحرم بحج أو عمرة، والمذهب أن المعتمر يخرج إلي أدنى الحل، فيعتمر منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة لما أرادت أن تعتمر بعد التحلل من الحج بأن تخرج إلي الحل فتحرم، والحديث مخصوص بالحج. قوله: ((فهن لهن)) أي هذه المواقيت لأهلهن علي حذف المضاف، يدل علي خصوصية المضاف المحذوف، قوله بعده: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)). ((مح)): وقع عند بعض رواة البخاري ومسلم ((فهن لهم))، وكذا عند أبي داو وغيره. وقوله: ((من أتى عليهن من غير أهلهن)) معناه أن الشامي مثلاً إذا مر بميقات أهل المدينة في ذهابه، لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له التأخير إلي ميقات الشام. وفي قوله: ((من أراد الحج والعمرة)) دلالة علي المذهب الصحيح أي من مر بالميقات لا يريد حجاً ولا عمرة لا يلزمه الإحرام لدخول مكة. وفيه دلالة علي أن الحج علي التراخي لا علي الفور. وقال أصحابنا: يجوز للمكي ومن ورد من الآفاق أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها، وفي الأفضل قولان، أصحهما من باب داره، والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب.

2517 - وعن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد قرن، ومهل أهل اليمن يلملم)). رواه مسلم. 2518 - وعن أنس، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته)) متفق عليه. 2519 - وعن البراء بن عازب، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. رواه البخاري. الفصل الثاني 2520 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج)). فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عسر عن جابر رضي الله: قوله: ((والطريق الآخر)) مرفوع علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي مهل الطريق الآخر الجحفة. ((تو)): ((مهل)) -بضم الميم وفتح الهاء- الموضع الذي وقت للإهلال منه، و ((ذات عرق)) موضع سمي بذلك؛ لأن هناك عرقاً، وهو الجبل الصغير، والعراق بلاد تذكر وتؤنث. قيل: إنما يقال لها: العراق؛ لوقوعها علي شاطئ دجلة والفرات، والعراق شاطئ البحر والنهر. ((مح)): اختلفوا في أن ذات العرق هل صار ميقاتاً بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو باجتهاد عمر رضي الله عنه؟ والصحيح الثاني، نص الشافعي عليه في الأم. الحديث الرابع والخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اعتمر)) ((غب)): العمرة الزيارة التي فيها عمارة الود، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص. قوله: ((من الحديبية)) ((مح)) الحديبية: فيها لغتان، تخفيف الياء وتشديدها، والتخفيف هو الصحيح المختار، وهو قول الشافعي، وأهل اللغة، وبعض المحدثين، والتشديد قول الكسائي، وابن وهب، وجماهير المحدثين. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الحج مرة)) ((مرة)) خبر المبتدأ أي واحدة، فإن زاد فهو تطوع.

((لو قلتها: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا، والحج مرة، فمن زاد فتطوع)). رواه أحمد، والنسائي، والدارمي. [2520] 2521 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلي بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرإنياً، وذلك أن الله تبارك وتعالي يقول: {ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث. [2521] 2522 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صرورة في الإسلام)). رواه أبو داود. [2522] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((تبلغه)) ((قض)): إنما وحد الضمير الذي في ((تبلغه)) والمرجع إليه شيئان؛ لأنهما في معنى الاستطاعة، والمعتبر هو المجموع. ويجوز أن يكون الضمير للراحلة، ويكون تقييدها غنية عن تقييد الزاد. وقوله: ((فلا عليه)) أي لا تفاوت عليه أن يموت يهودياً أو نصرإنياً. والمعنى: أن وفاته علي هذه الحالة، ووفاته علي اليهودية والنصرإنية سواء فيما فعله من كفران نعم الله، وترك ما أمر به والانهماك في معصيته، وهو من باب المبالغة والتشديد، والإيذان بعظمة شأن الحج. ونظيره قوله تعالي: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} فإنه وضع فيه ((ومن كفر)) موضع ((ومن لم يحج)) تعظيماً للحج، وتغليظاً علي تاركه. قوله: ((وفي إسناده مقال)) ((تو)): وقد روى أيضاً معناه عن أبي أمامة، والحديث إذا روي من غير وجه وإن كن ضعيفاً غلب علي الظنون كونه حقاً. والله أعلم. أقول: قوله: ((علي اليهودية والنصرإنية)) إشارة إلي أن ((أو)) في قوله: ((أو نصرإنياً)) بمعنى الواو، كما في قوله تعالي: {عذراً أو نذراً} فيكون التخيير واقعاً بين كونه مؤمناً، وبين كونه كافراً، ليكون علي وزان قوله تعالي: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} في التهديد والتغليظ، لأن التخيير في مثل هذا ينبغي أن يكون بين الضدين. وعلي هذا يكون أصل التركيب: فلا بأس عليه أن يموت مؤمناً أو كافراً. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا صرورة)): -بالصاد المهملة- ((نه)):

2523 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الحج فليعجل)). رواه أبو داود، والدارمي. [2523] 2524 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)). رواه الترمذي، والنسائي. [2524] 2525 - ورواه أحمد، وابن ماجه عن عمر إلي قوله: ((خبث الحديد)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو عبيدة: هو في الحديث التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج؛ لأنه ليس من أخلاق المؤمنين، وهو فعل الرهبان، والصرورة أيضاً الذي لم يحج قط، وأصله من الحبس والمنع. ((قض)): وظاهر هذا الكلام أيضاً يدل علي أن تارك الحج ليس بمسلم، والمراد منه أنه لا ينبغي أن يكون في الإسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج، فعبر عنه بهذه العبارة للتشديد والتغليظ. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((من أراد)) أي قدر علي أداء الحج؛ لأن الإرادة مبدأ الفعل، والفعل مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل، وأراد الآخر، والعلاقة هي الملابسة، لأ، معنى ((فليتعجل)) فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة من القوت والزاد والراحلة، قبل أن يمنع مانع لم يقدر عليه. وروي: ((حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه)). ((مظ)): وهذا أمر استحباب، لأن تأخير الحج جائز من وقت وجوبه إلي آخر العمر. الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ((تابعوا)) أي إذا حججتم فاعتمروا، أو إذا اعتمرتم فحجوا. وإزالته الفقر كزيادة الصدقة بالمال، {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} الآية، مثل متابعة الحج والعمرة في إزالة الذنوب بإزالة النار خبث الذهب الإبريز الذي استصحبه من معدنه؛ لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوإنية والغضبية، يحتاج إلي رياضة تزيلها عنه، هذا إذا كان معصوماً، فكيف بمن تابع هوى النفس، خليع العذار، منهمكاً في المعاصي؟ والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال، وجهد النفس بالجوع والعطش والسهر، وقطع المهامه واقتحام المهالك، ومفارقة الأوطان، ومهاجرة الإخوان والأخدان.

2526 - وعن ابن عمر، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: ((الزاد والراحلة)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [2526] 2527 - وعنه، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ فقال: ((الشعث النفل)). فقام آخر، فقال: يا رسول الله! أي الحج أفضل؟ قال: ((العج والثج)). فقام آخر، فقال: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: ((زاد وراحلة)). رواه في ((شرح السنة)). وروى ابن ماجه في ((سننه)) إلا أنه لم يذكر الفصل الأخير. [2527]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ما الحاج)) ((ما)) يسأل بها عن الجنس، أو عن الوصف، والمراد الثاني لجوابه صلى الله عليه وسلم: ((الشعث التفل)) الشعث: هو المغبر الرأس الذي لم يمتشط، و ((التفل)) أن لا يتطيب من تفل الشيء من فيه، إذا رمى به متكرهاً له. وإنما ذكر هذين الوصفين لما فيهما من المعنى البالغ في سمت المحرم وهديه، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب السائل علي ما يعرفه من حاله، ويتوسم فيه من الأمارات الدالة علي مقصده؛ فلعله أجاب بذلك بناءً علي ما تبين له من مغزاه. ((مظ)): إذا أحرم الرجل لا يمتشط رأسه ولحيته، لئلا ينتف الشعر، فإن امتشط ولم ينتف الشعر فلا بأس، وإن نتف لزمه دم بثلاث شعرات أو أكثر. وفي شعره مد أو درهم علي الخلاف، وكذا الشعرتان. وأما استعمال الطيب فحرام، ويجب فيه دم شا’. قوله ((أي الحج)) ((تو)): يعني أي أعمال الحج أفضل؟ حذف المضاف وأقام إليه مقامه، وأراد بالحج رفع الصوت بالتلبية، وبالثج سيلان دم الهدي، ويحتمل أن يكون السؤال عن الحج نفسه، ويكون قوله: ((العج والثج)) أي الذي فيه العج والثج. أقول: يمكن أن يراد بهما الاستيعاب، فابتدأ بالإحرام الذي هو الإهلال، وانتهي بالتحليل الذي هو إهراق دم الهدي، فاختصر اقتصاراً بالمبدأ والمنتهي عن سائر الأعمال، ونحوه قوله تعالي {كما أرسلنا إلي فرعون رسولاً- إلي قوله- فأخذناه أخذاً وبيلاً} فينطبق علي هذا الجواب علي السؤال، أي أفضل الحج ما استوعب فيه جميع أعماله من الأركان، والمندوبات وغيرهما. والتعريف في ((السبيل)) للعهد، والمعهود المنكر في قوله تعالي: {من استطاع إليه سبيلاً} والفصل الأخير قوله: ((فقام آخر قائلاً: ما السبيل؟)).

2528 - وعن أبي رزين العقيلي، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: ((حج عن أبيك واعتمر)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [2528] 2529 - وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: ((من شبرمة؟)) قال: أخ لي أو قريب لي. قال: ((أحججت عن نفسك؟)) قال: لا. قال: ((حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)). رواه الشافعي، وأبو داود، وابن ماجه. [2529]. 2530 - وعنه، قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق. رواه الترمذي، وأبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن أبي رزين: قوله: ((ولا الظعن)) ((تو)): ((الظعن)) - بفتح الظاء وسكون العين- الرحلة، وكذلك بالتحريك. وذكر ذلك علي وجه البيان للحال التي انتهي إليها من كبر السن، أي لا يقوى علي السير، ولا علي الركوب. أقول: يمكن أن يكنى به عن القوة، ويراد بنفي الاستطاعة عدم الزاد والراحلة، كأنه قال: ليس له زاد ولا راحلة ولا قوة، بعد أن وجب عليه الحج. ((مظ)): يحتمل أن يريد بقوله: ((لا يستطيع الحج والعمرة)) الذهاب إليهما راجلاً، وبالظعن ركوب الدابة. ((شف)): فيه دليل علي جواز النيابة في الحج، وفي الحديث الآتي دليل علي أ، النيابة إنما تجوز بعد فرض الحج. ((حس)): سئل عبد الله بن أبي أوفي عن الرجل لم يحج يستعرض الحج؟ فقال: لا. وهو قول الأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ لأن إحرام الصرورة عن غيره ينقلب عن فرض نفسه. وذهب قوم إلي أنه يجوز، وهو قول الحسن، وعطاء، ومالك، والثوري، وأصحاب أبي حنيفة. ومن تطوع أو نذر وعليه فرض الحج، فحج، يقع عن فرضه عند الشافعي رضي الله عنه، ثم بعده لو أحرم عن التطوع يقع عن النذر، وقال مالك وأصحاب أبي حنيفة: يقع عن التطوع، والفرض في ذمته، فإن حجه علي ما نوى.

2531 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود، والنسائي. [2531] 2532 - وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلي المسجد الحرام؛ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [2532] الفصل الثالث 2533 - عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر والحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ذات عرق)) ((قض)): هي موضع من شرقي مكة بينهما مرحلتان، يوازي قرن نجد، سمي بذلك؛ لأن هناك عرقاً، وهو الجبل الصغير. و ((العقيق)) موضع يقال: إنه قبيل ذات عرق، ويقال: إنه في حد ذات عرق من الطرف الأقصى، ولا اختلاف بين الحديثين، وفي صحة الحديثين مقال، والأصح عند الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لأهل المشرق ميقاتاً، وإنما حد لهم عمر رضي الله عنه حين فتح العراق، وهي بلاد من المشرق، إذ المراد منه ما يكون من شرقي مكة إلي آخر العمارات، وكان الشافعي يستحب للمشرقي عراقياً كان أو غيره أن يحرم من العقيق جمعاً بين الحديثين، وتفصياً عن الخلاف، فإن تحديد المواقيت وتعيينها للمنع عن مجاوزتها بلا إحرام لا عن الإحرام قبل ورودها. الحديث الثاني عشر عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((غفر له))؛ لأنه لا إهلال أفضل وأعلي من ذلك؛ لأنه أهل من أفضل البقاع ثم مر بالأفضل، ثم انتهي إلي الأفضل، فلا غرو أن يعامل معاملة أفضل البشر {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فلا يتزودون)) كان من الظاهر أن يقال: ((ولا يتزودون)) علي الحال، فجيء بالفاء إرادة يقصدون الحج، ويجوز أن يكون ((الفاء)) للسببية علي التعكيس، لأن قصد الحج سبب للتزود، فعكسوا كقوله تعالي: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}. قوله: {فإن خير الزاد التقوى} أي تزودوا واتقوا الاستطعام، وإبرام الناس، والتثقيل عليهم، فإن خير الزاد التقوى.

نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس. فأنزل الله تعالي: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. رواه البخاري. 2534 - وعن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله! علي النساء جهاد؟ قال: ((نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة)). رواه ابن ماجه. [2534] 2535 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس، فمات ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرإنياً)). رواه الدارمي. [2535] 2536 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الحاج والعمار وفد الله؛ إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)). رواه ابن ماجه. [2536] 2537 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)). رواه النسائي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [2537] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا قتال فيه)) صفة ((جهاد)) وهو من أسلوب الرجوع، قرر أولاً ما سألت، وهو ((الجهاد)) ثم رجع عنه بقوله: ((لا قتال فيه)) نحو قوله تعالي: {قل أذن خير لكم} في جوابهم {هو أذن} أي نعم هو أذن، لكن أذن خير لكم، لا كما تزعمونه. و ((الحج)) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو بدلاً من ((جهاد)). الحديث الثالث عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((حاجة ظاهرة)) وهي فقد الزاد والراحلة. وقوله: ((فليمت)) جواب الشرط، وبقية الحديث مضى شرحه مستقصى. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الحاج)) ((نه)): الحاج والحاجة واحد الحجاج، وربما أطلقت الحاج علي الجماعة مجازاً، وقوله: ((عماراً)) أي معتمرين، قال الزمخشري: لم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر، ولكن عمر الله إذا عبده، فيحتمل أن يكون العمار جمع عامر من عمر بمعنى اعتمر، وإن لم نسمعه، ولعل غيرنا سمعه، وأن يكون مما استعمل منه بعض التصاريف دون بعض، كما قيل: يذر ويدع، و ((الوفد)) الذين يقصدون الأمراء لزيارة، واسترفاد، وانتجاع، وغير ذلك.

(1) باب الإحرام والتلبية

2538 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لقيت الحاج فسلم عليه، وصافحه، ومره أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته، فإنه مغفور له)). رواه أحمد. [2538] 2539 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج حاجاً أو معتمراً أو غازياً ثم مات في طريقه؛ كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [2539] (1) باب الإحرام والتلبية الفصل الأول 2540 - عن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك، كإني أنظر إلي وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قبل أن يدخل بيته)) وذلك أنه وفد الله قدم إلي أهله، ولم يشتغل بخويصة نفسه. قال: تضوع أرواح نجد من ثيابهم ... عند القدوم لقرب العهد بالدار الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خرج حاجاً)) الحديث من قوله تعالي: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلي الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله}. ومن قال: إن من أجر الحج بعد أن وجب عليه، ثم قصد الحج بعد زمان فمات في الطريق فقد عصى، خالف هذا النص. والله أعلم. باب الإحرام التلبية الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولحله)) ((نه)): وفي حديث آخر ((لإحلاله، حين أحل)) يقال: حل المحرم يحل به حلالاً، وأحل يحل به إحلالاً، إذا حل له ما حرم عليه من محظورات الحج، ورجل حل من الإجرام أي حلال، ورجل حلال، أي غير محرم.

2541 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدًا يقول: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). لا يزيد علي هؤلاء الكلمات. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الوبيص)): -بالصاد المهملة- البريق، وقد وبص الشيء وبيصاً. ((خط)): وفيه من الفقه أن المحرم إذا تطيب قبل إحرامه بطيب يبقى أثره عليه بعد الإحرام وإن بقى عليه بعد الإحرام لا يضره، ولا يوجب فدية، وهو مذهب أكثر الصحابة. ((قض)): ((المفارق)) جمع مفرق، وهو وسط الرأس. وإنما ذكرت بلفظ الجمع تعميماً لجوانب الرأس التي يفرق فيها. والمراد بوبيص الطيب فيها وهو محرم، أن فتات الطيب كان يبقى عليها بعد الإحرام بحيث تلمح فيها. وفي هذا الحديث: أن التطيب للإحرام والإحلال سنة لمداومة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا كراهية، ولا فدية في التطيب قبل الإحرام عند الشافعي، وكرهه مالك، وأوجب أبو حنيفة الفدية بما يبقى من أثره بعد الإحرام قياساً علي ما لو استدام لبس المخيط، وهو ضعيف؛ لأن استدامة اللبس لبس، واستدامة الطيب ليس بتطيب، ولذلك لو حلف أن لا يلبس وعليه ثوب، فاستدام لبسه حنث، ولو حلف لا يتطيب وعليه طيب فاستدامه لم يحنث. ثم إنه إن سلم عن القدح فلا يعارض الحديث المتفق علي صحته، وتأويل الحديث بأن المعنى بالطيب الدهن المطيب، أو الطيب الذي يبقى جرمه، ولا تبقى رائحته تعسف، لا يخفي ضعفه. ((مح)): ثبت في رواية مسلم أن ذلك الطيب كان ذريرة، وهو مما يذهبه الغسل، والمراد بالطواف طواف الإفاضة، ففيه دلالة لاستحبابة الطيب بعد رمي جمرة العقبة، والحلق قبل الطواف. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ملبداً)) ((مح)): التلبيد ضفر الرأس بالصمغ، والخطمي؛ ليضم الشعر ويلزقه بعضه ببعض، لئلا يشعث، ولا يقع فيه الهوام. والتلبية مثناة للتكثير والمبالغة، أي إجابة بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك. قال سيبويه: ودليل قوله مثنى قلب الألف ياء مع المظهر، قال القاضي عياض: قيل: هذه الإجابة لقوله تعالي لإبراهيم: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً}. و ((إن الحمد)) يروى بكسر الهمزة وفتحها، وهما مشهوران عند أهل الحديث. قال الخطابي: الفتح رواية العامة. وقال: ثعلب: الكسر أجود؛ لأن معناه أن الحمد والنعمة لك علي كل حال. ومعنى الفتح لبيك؛ لذلك السبب. قال الشافعي: التلبية سنة، وليست بشرط لصحة الحج، ولا واجبة، ولو تركها لا دم، ولكن فاتته الفضيلة، وقال بعض أصحابنا: هي واجبة تجبر بالدم، وقال بعضهم: هي شرط لصحة الإحرام، وقال مالك: ليست بواجبة، ومن تركها لزمه دم. قال الشافعي ومالك: ينعقد

2542 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل رجله في الغرز، واستوت به ناقته قائمة، أهل من عند مسجد ذي الحليفة. متفق عليه. 2543 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً. رواه مسلم. 2544 - وعن أنس [رضي الله عنه]، قال: كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعاً: الحج والعمرة. رواه البخاري. 2545 - وعن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ الحج بالنية بالقلب من غير لفظ، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إلا بانضمام التلبية، أو سوق الهدي إلي النية وقال: ويجزئ عن التلبية ما في معناها. وقال أصحابنا: يستحب رفع الصوت بالتلبية بحيث لا يشق عليه إلا المرة، والإكثار منها، لاسيما عند تغير الأحوال، كإقبال الليل والنهار، والصعود والهبوط، واجتماع الرفقاء، والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات، والتوالي فيها، فلا يقطعها بكلام، وإن سلم عليه رد، ويكره السلام عليه في هذا الحال، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، وسؤال الرضوان والجنة، والاستعاذة من النار لجميع المسلمين. ويلبي إلي أن يشرع في جمرة العقبة أو في طواف الإفاضة إن قدم عليها. ويستحب للمحرم مطلقاً، سواء كان محدثاً أو جنباً أو حائضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعي ما نصنع غير أن لا تطوفي)). الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((في الغرز)) ((نه)): الغرز ركاب كور الحمل إذا كان من جلد أو خشب. وقيل: هو للكور مطلقاً مثل الركاب للسرج. قوله: ((واستوت به ناقته)) ((تو)): أي استوت ناقته قائمة ملتبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه قوله تعالي: {وإذ فرقنا بكم البحر} ((الكشاف)): ((بكم)) في موضع الحال بمعنى فرقناه ملتبساً بكم، كقوله: ((تدوس بنا الجماجم والتريبا. ((مح)): فيه دليل لمالك والشافعي علي أن الأفضل أن يهل إذا انبعث به راحلته، وأبو حنيفة: عقيب الصلاة وهو جالس، وهو قول ضعيف للشافعي. وفيه حديث ضعيف، وفيه أن التلبية لا تقدم علي الإحرام. الحديث الرابع إلي الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ومنا من أهل بالحج)) فإن

الله صلى الله عليه وسلم بالحج؛ فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: ما فائدة التعرف فيه والتنكير في قرينته؟ قلت: التعرف فيه للعهد، والمعهود هو الحج الواقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والمتعارف فيما بين الصحابة من كونه مفرداً، وهو دليل قاطع للشافعي. ((خط)) و ((تو)): في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، وفي حديث أنس أنه كان قارناً، وذلك قوله: ((وإنه ليصرخون بهما جميعاً الحج والعمرة)) وأراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهل معه بما هو به، وقد بين ذلك في حديث آخر، وهو حديث صحيح قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لبيك عمرة وحجاً معاً)). وفي الصحاح أن بكر بن عبد الله المزني- وهو الراوي عن أنس- حدث بهذا الحديث ابن عمر فقال: ((لبى بالحج وحده)) قال: فلقيت أنساً، فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما يعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لبيك عمرة وحجاً معاً)). والتوفيق بين هذه الروايات مشكل، ولابد منه، فإن ترك هذه الروايات علي حالها من الاختلاف من غير بيان جامع بينها مجلبة للشك في أخبار الصادق، وقد طعن فيها طائفة من الفئة الزائغة عن منهج الحق، فقالوا: اتفقتم أيتها الرواة علي أن نبيكم لم يحج من المدينة غير حجة واحدة، ثم رويتم أنه كان مفرداً، ورويتم أنه كان قارناً، ورويتم أنه كان متمتعاً، وصيغة هذه الأنساك متباينة، وأحكامها مختلفة، وتزعمون أن كل هذه الروايات مقبولة لصحة أسإنيدها، وعدالة رواتها. فأجاب بذلك جمع من العلماء- شكر الله سعيهم- وقد اخترنا من ذلك جواباً نقل عن الشافعي- رحمة الله عليه- وزبدته: أن من المعلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلي الأمر كجواز إضافته إلي الفاعل له، كقولك: بنى فلان داراً، إذا أمر ببنائها، وضرب الأمير فلاناً إذا أمر بضربه. ومن هذا الباب رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً، وقطع يد سارق رداء صفوان ابن أمية. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل منهم يصدر عن أمره وتعليمه، فجاز أن يضاف كل ذلك إليه. وقولاً ذكره الخطابي، فقال بعضهم: يحتمل أن يكون بعضهم سمعه يقول: ((لبيك بحجة)). وخفي عليه قوله: ((وعمرة)) فحكى أنه كان مفرداً، ولم يحك إلا ما سمع، وسمعه آخر يول: ((لبيك بحجة وعمرة)) فقال: كان قارناً، ولا ينكر الزيادات في الأخبار كما لا ينكر في الشهادات. قال النواوي في شرح مسلم: اعلم أن أحاديث هذا الباب متظاهرة علي جواز إفراد الحج عن العمرة، وجواز التمتع والقرآن، وقد أجمع العلماء علي جواز الأنواع الثلاثة، فالإفراد: أن يحرم بالحج في أشهره، يفرغ منه، ثم يعتمر. والتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ

ـــــــــــــــــــــــــــــ منها، ثم يحج من عامه. والقران: أن يحرم بهما جميعاً، وكذا لو أحرم بالعمرة، ثم أحرم بالحج قبل طوافها صح قارناً. فلو أحرم بالحج، ثم أحرم بالعمرة، فقولان للشافعي، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني يصح ويصير قارناً، بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج. واختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل؟ فقال الشافعي، ومالك، وكثيرون: أفضلها الإفراد، ثم التمتع، ثم القران. وقال أحمد، وآخرون: أفضلها التمتع. وقال أبو حنيفة، وآخرون: أفضلها القران. وأما حجة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها، هل كان مفرداً، أو متمتعاً، أو قارناً؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، فكل طائفة رجحت نوعاً، وادعت أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك. والصحيح أنه كان أولاً مفرداً، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها علي الحج، فصار قارناً. وقد اختلفت روايات الصحابة في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، هل كان قارناً، أو مفرداً، أو متمتعاً؟ وقد ذكر البخاري ومسلم روايتهم لذلك، وطريق الجمع بينها ما ذكرته أنه صلى الله عليه وسلم كان أولاً مفرداً، ثم صار قارناً. فمن روى القران اعتبر آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق، وقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهي الاقتصار علي فعل واحد، وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث فيها. وقد جمع بينها أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب صنفه في حجة الوداع خاصة، وادعى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً، وتأول باقي الأحاديث، والصحيح ما سبق، وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب بأدلته، وجمع طرق الأحاديث، وكلام العلماء المتعلق بها. واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الإفراد بأنه صح ذلك من رواية جابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع علي غيرهم؛ فأما جابر فإنه كان أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلي آخرها، فهو أضب لها من غيره. وأما ابن عمر رضي الله عنهما فصح عنه أنه كان آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج. وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف، وكذلك اطلاعها علي باطن أمره، وظاهر فعله في خلوته وعلإنيته مع كثرة فقهها وفطنتها؛ وأما ابن عباس فمحله في العلم، والفهم، والفقه في الدين معروف. ومن دلائل ترجيح الإفراد، أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج، وواظبوا علي إفراده، كذلك فعل أبو بكر، وعمر، وعثمان. واختلف فعل علي رضي الله عنه، ولو لم يكن الإفراد أفضل، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً، لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، فكيف يظن بهم المواظبة علي خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما الخلاف عن علي رضي الله عنه وغيره، فإنما فعلوه لبيان

2546 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلي الحج، بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج. متفق عليه. الفصل الثاني 2547 - عن زيد بن ثابت، أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل. رواه الترمذي، والدارمي. [2547] 2548 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالغسل. رواه أبو داود. 2549 - وعن خلاد بن السائب، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتإني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو التلبية)). رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [2549] ـــــــــــــــــــــــــــــ الجواز، وقد ثبت في الصحيحين ما يوضح ذلك. ومنها أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع وذلك لكماله، ويجب الدم في التمتع والقران، فكان الإفراد أفضل. والله أعلم. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلي الحج)) حال من ((العمرة))، أي استمتع بالعمرة منضمة إلي الحج فإن الاستمتاع بالعمرة إلي وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلي الله تعالي قبل الانتفاع بتقربه بالحج. وقيل: إذا حل من عمرته، انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلي أن يحرم بالحج. ((حس)): كان عمر وعثمان ينهيان عن التمتع نهي تنزيه، وإنما نهيا؛ لأن الإفراد أفضل. وقال علي رضي الله عنه: إنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كنا خالفين. الفصل الثاني: الحديث الأول عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((تجرد لإهلاله)) هكذا رواه الترمذي، والدارمي، وفي جميع نسخ المصابيح ((لإحرامه)) الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بالغسل)) ((نه)) الغسل- بالكسر- ما يغسل به من خطمى وغيره. الحديث الثالث عن خلاد: قوله: ((بالإهلال)) هكذا في السنن كلها. ((تو)): قد وجدنا لفظاً من هذا الحديث في كتاب المصابيح محرفاً من وجهه، وهو ((بالإحرم، والتلبية)) ولفظ الحديث

2550 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله: من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)). رواه الترمذي، وابن ماجه [2550]. 2551 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ويقول: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)). متفق عليه. ولفظه لمسلم. 2552 - وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة، واستعفاه برحمته من النار. رواه الشافعي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((بالإهلال أو التلبية)) الحديث الرابع عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((من عن يمينه)) ((تو)): لما أضاف التلبية إلي تلك الأعيان، والتلبية إنما توجد ممن يعقل، ذكرها بلفظ ((من)) دون ((ما)) ذهاباً بها من حيز المجاهدات إلي جملة ذويي العقول؛ ليكون أدل علي المعنى الذي أراده. قوله: ((تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)) ((مظ)): يعني إلي منتهي الأرض من جانب الشرق، وإلي منتهي الغرب، أي يوافقه في التلبية كل شيء في الأرض كلها. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وسعديك)) هو من الألفاظ المقرونة بلبيك، ومعناه: أي إسعاداً بعد إسعاد، والمعنى ساعدت علي طاعتك مساعدة بعد مساعدة، وهما منصوبان علي المصدر. قوله: ((والرغباء إليك)) ((مح)): قال القاضي عياض: قال المازري: يروى بفتح الراء والمد، وبضم الراء مع القصر، ونظيره العلي والعلياء، والنعمى والنعماء. وعن أبي علي: الفتح مع القصر مثل سكرى. ومعناه هنا الطلب والمسألة إلي من بيده الخير، وهو المقصود بالعمل المستحق للعبادة. أقول: يريد أن ((العمل)) عطف علي ((الرغباء))، وخبره محذوف يدل عليه المذكور، معناه العمل منتهي إليك، وأنت المقصود في العمل. وفيه معنى قوله تعالي: {إياك نعبد} كما أن ((الرغباء إليك)) معناه إياك نستعين. الحديث السادس ظاهر.

(2) باب قصة حجة الوداع

الفصل الثالث 2553 - عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الحج، أذن في الناس، فاجتمعوا، فلما أتى البيداء أحرم. رواه البخاري. 2554 - وعن ابن عباس، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلكم قد قد)) إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. رواه مسلم. (2) باب قصة حجة الوداع الفصل الأول 2555 - عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر: قوله: ((البيداء)) ((نه)): البيداء المفازة التي لا شيء فيها، وهي هنا اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة، وأكثر ما ترد يراد بها هذه. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قد قد)) هو بإسكان الدال وكسرها مع التنوين، ومعناه كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه، يعني كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فإذا انتهي كلامهم إلي ((لا شريك لك)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد قد)) أي اقتصروا عليه، ولا تجاوزوا عنه إلي ما بعده. وقوله: ((إلا شريكاً)) الظاهر فيه الرفع علي البدلية من المحل، كما في كلمة التوحيد، فاختير في كلمة السفلي اللغة السافلة، كما اختير في الكلمة العليا اللغة العالية. باب قصة الوداع ((مح)): سميت ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وعلمهم في خطبة فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع إلي من غاب. الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مكث بالمدينة)) ((مح)): هو حديث عظيم مشتمل علي جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، قال القاضي عياض: قد تكلم الناس علي ما فيه من الفقه، وأكثروا فيه، وصنف أبو بكر بن المنذر كراساً

يحج ثم أذن في الناس بالحج في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي)). فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، ـــــــــــــــــــــــــــــ كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصى لزيد علي هذا العدد. قوله: ((مكث)) ((تو)): إنما ترك الحج في الأعوام التي قبل الفتح؛ لأن الحج لم يكن فرضاً حينئذ؛ لأنه فرض سنة ست من الهجرة، ثم إنه كان معنياً بحرب أعداء الله، مأموراً بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلم يكن ليتفرغ من هذا القصد الكلي، والأمر الجامع إلي الحج الذي لم يفرض. وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم في تلك السنين؛ فلأنه لم يكن له موسم معين فيتألب الأعداء لمناوأته وصده عن البيت، والإتيان علي أفعال العمرة كان ممكناً في بعض يوم مع أنه كان عبداً مأموراً، يراقب الأمر في تصاريف أحواله، فأمر بها ولم يؤمر بالحج. وأما بعد الفتح، وهو في سنة ثمان، فإن هوازن وثقيفاً وكثيراً من العرب، كانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم متأهبين لقتاله. وقد ذهب قوم إلي أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور في كتاب الله، حتى عاد الحساب في الأشهر إلي أصله الموضوع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السموات والأرض. قوله: ((ثم أذن)) ((مح)): إنما أعلمهم بذلك؛ ليتأهبوا للحج معه، فيتعلموا المناسك والأحكام، ويشاهدوا أفعاله وأقواله، وليوصيهم بأن يبلغ الشاهد الغائب، فتشيع دعوة الإسلام، وتبليغ الرسالة القريب والبعيد. وفيه أنه يستحب للإمام بأن يأذن للناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها. قوله: ((أسماء بنت عميس)): ((مح)): فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء. والاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً وتأخذ خرقة عريضة تجعلها علي محل الدم، وتشد طرفها من قدامها ومن ورائها، في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة- بفتح الفاء-. وفيه صحة إحرام النفساء، وهو مجمع عليه. ((والقصواء)) هي بفتح القاف وبالمد، قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، وكذا الأصمعي. وقال أبو عبيدة: هي المقطوعة الأذن عرضاً. وقال محمد ابن إبراهيم التيمي التابعي: إن القصواء، والعضباء، والجذعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((أهل بالتوحيد لبيك)) إلي آخره بيان ((التوحيد))، وفيه تعريض لما كان يفعله الجاهلية من انضمام قولهم: ((إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)). قوله: ((لسنا نعرف العمرة)) تأكيد وتقرير لمعنى الحصر في قوله: ((لسنا ننوي إلا الحخ))، أي لسنا ننوي شيئاً من النيات إلا نية الحج، وكان محتملاً فأكده به. ((قض)): أي لا نرى العمرة في أشهر الحج؛ استصحاباً لما كان

حتى إذا استوت به ناقته علي البيداء، أهل بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فطاف سبعاً، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم تقدم إلي مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي}، فصلي ركعتين فجعل المقام بينه وبين البيت. وفي رواية: أنه قرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون}، ثم رجع إلي الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلي الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة ـــــــــــــــــــــــــــــ من معتقد أهل الجاهلية؛ فإنهم كانوا يرون العمرة محظورة في أشهر الحج، ويعتمرون بعد مضيها. وقيل: معناه ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا. قوله: ((استلم)) ((نه)): هو افتعل من السلام التحية، وأهل اليمن يسمون الركن الأسود ((المحيا)) أي الناس يحيونه بالسلام، قيل: هو افتعل من السلام، وهي الحجارة، واحدتها سلمة بكسر اللام، يقال: استلم الحجر إذا لمسه وتناوله، ويقال: رمل يرمل ورملاناً، إذا أسرع في المشي، وهز منكبه. قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضاء؛ ليري المشركين قوتهم، حيث قالوا: وهنتهم حمى يثرب، وهو مسنون في بعض الأطواف دون بعض. ((مح)): فيه قولان للشافعي، أصحهما طواف يعقبه سعي، ويتصور ذلك في طواف القدوم، سواء أراد السعي بعده أم لا، ويسرع في طواف العمرة؛ إذ ليس فيها إلا طواف واحد. قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي} ((مح)): هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من الطواف أن يصلي خلف المقام ركعتين للطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أو سنتان؟ وفيه أقوال، أصحها أنها سنة، وثالثها إن وجب الطواف وجبتا، وإلا فسنتان. وعلي التقادير لو تركهما لم يبطل طوافه. قوله: {قل هو الله أحد} {قل يا أيها الكافرون} كذا في صحيح مسلم، وشرح السنة في إحدى الروايتين، وكان من الظاهر أن يقدن سورة الكافرين علي سورة الإخلاص ترتيباً، كما في رواية المصابيح، ولأن البراءة عن الشرك مقدمة علي إثبات التوحيد، كما في كلمة التوحيد. ولعل السر في ذلك أن سورة الإخلاص

من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأي البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ـــــــــــــــــــــــــــــ مقدمتها مسوقة لإثبات التوحيد، وساقتها لنفي الأنداد، والأضداد، والشركاء، فقدم الإثبات علي النفي فيها للاهتمام بشأنه حينئذ، لاضمحلال الكفر واندراس آثاره يوم الفتح. والله أعلم. قوله: ((فاستلمه)) ((مح)): يستحب لمن طاف القدوم إذا فرغ من صلاته خلف المقام أن يعود إلي الحجر فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا، ولو خرج لو يلزمه دم، قوله: ((من الصفا)) ((مح)): قال أصحابنا: يستحب أن يرقى علي الصفا والمروة، حتى يرى البيت إن أمكنه، وأن يقف علي الصفا مستقبل الكعبة، ويذكر الله تعالي بهذا الدعاء ثلاث مرات. قوله: {إن الصفا والمروة} هما علمان للجبلين، و ((الشعائر)) جمع شعيرة، وهي العلامة، أي من أعلام مناسكه، ومتعبداته. ولما كان الصفا مقدماً في التنزيل علي المروة، قال: ((أبدأ بما بدأ الله به)). ((مح)): الابتداء بالصفا شرط، وعليه الجمهور، وعن بعضهم: به احتج من أوجب الترتيب في الوضوء علي أنه لو بدأ بالمروة لكان ذلك الشوط غير محسوب له. وفيه دليل علي وجوب الطواف بين الصفا والمروة، كما يجب الطواف بالبيت. وقال بعضهم: ليس بواجب، بل هو تطوع؛ لقوله تعالي: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ورفع الجناح يدل علي الإباحة، ويجب علي تاركه الدم. ورد بأن الآية إنما أنزلت في الأنصار، كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فقيل لهم: ((فلا جناح عليه أن يطوف بهما))، ودلائل الوجوب موجودة. قوله: ((وقال: لا إله إلا الله)) يحتمل أن يكون قولاً آخر غير ما سبق من التوحيد والتكبير، وأن يكون كالتفسير له والبيان، والتكبير وإن لم يكن ملفوظاً، لكن معناه مستفاد من هذا القول، و ((وحده)) حال مؤكدة من ((الله)) لقوله تعالي: {هو الحق مصدقاً} وقوله تعالي: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائماً بالقسط} في أحد الوجهين. ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً، و ((لا شريك له)) كذلك حال، أو مصدر. قوله: ((وهزم الأحزاب وحده)) ((مح)): هم الذين تحزبوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فهزمهم الله وحده من غير قتال المسلمين، ولا سبب منهم.

ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)). ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ومشى إلي المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، ثم سعى، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة، ففعل علي المروة كما فعل علي الصفا، حتى إذا كان ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثم دعا بين ذلك)) ((ثم)) تقتضي التراخي، وأن يكون الدعاء بعد الذكر، و ((بين)) تقتضي التعدد، والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله: ((علي كل شيء قدير)) ثم الدعاء، فتمحل المظهر بأن قال: لما فرغ من قوله: ((وهزم الأحزاب وحده)) دعا بما شاء، ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، حتى فعل ثلاث مرات. أقول: وهذا أنى يستتب علي التقديم والتأخير، بأن يذكر قوله: ((ثم دعا بين ذلك)) بعد قوله: ((قال مثل هذا ثلاث مرات)) و ((ثم)) تكون للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويدعو ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا، [وقال: منهم] تكرار الذكر ثلاثاً، والدعاء مرتين، والصواب الأول. قوله: ((انصبت قدماه)) ((نه)) أي انحدرت في المسعى، وهذا مجاز من قولهم: صب الماء فانصب، ((مح)): قال القاضي عياض: في هذا الحديث إسقاط لفظة لابد منها، وهي ((رمل)) بعد قوله: ((في بطن الوادي)) كما جاء في رواية مسلم، وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وفي الموطأ ((حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى خرج منه)) وهو بمعنى ((رمل)). قال الشيخ: وجدت في بعض نسخ مسلم كما في الموطأ. قوله: ((إذا صعدنا)) ((تو)): الإصعاد الذهاب في الأرض، والإبعاد، سواء ذلك في صعود أو حدور، قال تعالي: {إذ تصعدون ولا تلون علي أحد} ومعناه في الحديث ارتفاع القدمين من بطن المسيل إلي المكان العالي؛ لأنه ذكر في مقابلة الانصباب. قوله: ((إذا كان)) ((كان)) هي التامة. وقوله: ((فقال)) جواب ((إذا)). قوله: ((لو إني استقبلت)) ((نه)): أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخراً، وأمرتكم به في أول أمري، لما سقت الهدي، أي لما جعلت علي هدياً، وأشعرته، وقلدته، وسقته بين يدي؛ فإنه إذا ساق الهدي لا ينحل حتى ينحره، ولا ينحر إلا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، فمن لم يكن معه هدي لا يلتزم هذا، ويجوز له فسخ الحج. ((خط)): إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لأصحابه تطييباً لقلوبهم، وذلك أنه كان يشق عليهم أن يحلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم، ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، يتركوا الاقتداء به، فقال عند ذلك القول؛ لئلا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أن الأفضل لهم ما دعاهم

آخر طواف علي المروة، نادى وهو علي المروة والناس تحته فقال: ((لو إني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل وليجعلها عمرة)). فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه. قال: وقد يستدل بهذا من يروي أن التمتع بالعمرة إلي الحج أفضل من الإفراد والقران. أقول: وعلهم إنما شق عليهم لإفضائهم إلي النساء قبل انقضاء المناسك، كما ورد في حديث جابر قالوا: ((فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني)) وأشاروا إلي مذاكيرهم. ((قض)): إنما قال ذلك تأسيساً للتمتع، وتقريراً لجواز العمرة في أشهر الحج، وإماطة لما ألفوا من التحرج عنها. ((مح)): فيه تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعاً. قوله: ((فمن كان منكم)) ((الفاء)) فيه جواب شرط محذوف، يعني إذا تقرر ما ذكرت من إني أفردت الحج، وسقت الهدي، ولم أتمكن من الإحلال إلا بعد النحر، فمن كان منكم ليس معه إلي آخره، وفي هذا المقام كلام سيأتي في حديث عائشة، قال: ((خرجنا)) الحديث. قوله: ((ألعامنا هذا؟)) ((مح)): اختلف العلماء في معناه علي أقوال، أصحها وبه قال جمهورهم، معناه: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلي يوم القيامة، والمقصود به بيان إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج. والثاني: معناه جواز القران، وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلي يوم القيامة. والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة، قالوا: معناه سقوط العمرة، قالوا: ودخولها في الحج سقوط وجوبها، وهذا ضعيف، أو باطل، وسياق الحديث يقتضي بطلانه. والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه: جواز فسخ الحج إلي العمرة، وهذا أيضاً ضعيف. أقول: الوجه الثاني هو الوجه وإن جاز: دخل وقت أحد النسكين في وقت الآخر علي البعد؛ لأن إدخال الأصابع بعضها في بعض، وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل، يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر. ويؤيده حديث ابن عباس في آخر هذا الفصل، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلي يوم القيامة، فإن قوله: ((ألعامنا هذا)) وارد علي قوله: ((فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل)) محتمل لأن يكون مفرداً ومعتمراً وقارناً، ولم يسق الهدي في كل ذلك، فالسؤال إذن ورد علي القارن، فصح معنى التشبيك. وقوله: ((واحدة في الأخرى)) ((واحدة)) منصوب بعامل مضمر، أي جاعلاً واحدة منهما في الأخرى، والحال مؤكدة. وأما قوله: ((لا)) فهو جواب عن السؤال؛ وهو مشكل؛ لأن السؤال بـ ((أم)) المعادلة إنما يتلقى في الجواب بأحد المعتدلين المستويين علي التعيين، فالوجه أن يحمل علي التشديد، وأن يقدر: ليس لعامك هذا، بل لأبد أبد، وتكرير ((أبد)) ينصر ما ذكرنا من

الأخرى، وقال: ((دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد))، وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له: ((ماذا قلت حين فرضت الحج؟)): قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: ((فإن معي الهدي، فلا تحل)). قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية، توجهوا إلي منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم، فصلي بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما ـــــــــــــــــــــــــــــ التشديد، كما إذا سأل سائل عن الأمر الثابت بـ ((أم)) المتصلة، فيكون الرد بإيراد أم في غير موقعه، وقد سبق مثله في قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل ذلك لم يكن)) جواباً عن سؤال ذي اليدين ((أقصرت الصلاة أم نسيتها؟)). قوله: ((ببدن)) البدن جمع بدنة، سميت لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة. قوله: ((ماذا قلت حين فرضت الحج)) ((قض)): أي حين ألزمته نفسك بالإحرام، سأله عن كيفية إحرامه. وقوله: ((قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك)) يدل علي جواز الإحرام بإحرام غيره. قوله: ((فحل الناي كلهم)) ((مح)): هذا من العام الذي خص؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تحل، ولم تكن ممن ساق الهدي. والهدي بإسكان الدال وكسرها، وتشديد الياء مع الكسر، والتخفيف مع الإسكان. وأما تقصيرهم مع أن الحلق أفضل؛ فلإرادة أن يبقى لهم بقية من الشعر حتى تحلق في الحج. قوله: ((يوم التروية)) قيل: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك؛ لأن إبراهيم عليه السلام تروى فيه، أي تفكر في ذبح ولده. وقيل: لأنهم يرتوون فيه من الماء لما بعده. ((مح)): الأفضل عند الشافعي وأصحابه أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية. وفيه أن السنة أن لا يتقدم أحد إلي منى قبل يوم التروية، وقد كرهه مالك، وقيل: لا بأس به. قوله: ((وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلي بها)) أي بمنى. ((مح)): فيه أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق، وهذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك، والسنة: أن يبيت الليلة التاسعة بمنى، حتى تطلع الشمس، ولو تركه لا دم عليه. قوله: ((بنمرة)) هي بفتح النون وكسر الميم، جبل عن يمين الخارج من مأزمي عرفة، إذا أراد الموقف. وقوله: ((تضرب)) صفة لـ ((قبة)) أو حال، والتقدير: أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، فحذف المضاف، وجعل الصفة دليلاً عليه. ((مح)): فيه دليل جواز استظلال المحرم، ولا خلاف من النازل، وإنما الخلاف في الراكب، فمذهبنا جوازه، وكره مالك وأحمد.

كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلي حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا أنه واقف)) أي أنه في وقوفه، وفي الاستثناء دقة، يعني أن قريشاً لم يشكوا في أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في سائر مناسك الحج إلا الوقوف عند المشعر الحرام، فإنهم لم يشكوا في المخالفة، بل تحققوا أنه صلى الله عليه وسلم يقف عند المشعر الحرام؛ لأنه من المواقف الخمس، وأهل حرم الله. ((مح)): هو جبل في المزدلفة، يقال له: قزح، وقيل: هو كل المزدلفة، وكان سائر العرب يجاوزون المزدلفة، ويقفون بعرفات، وظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام علي عادتهم، ولا يجاوز عنه، فتجاوز إلي عرفات، لأن الله تعالي أمره بذلك في قوله تعالي: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي سائر العرب، وكانت قريش يقولون: نحن أهل حرم الله، ولا نخرج منه. وقوله: ((فأجاز)) أي جاوز المزدلفة. وقوله: ((أتى عرفة)) أي قارب عرفات؛ لقوله: ((فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها)): لأن نمرة ليست من عرفات. قوله: ((فرحلت له)) أي أمر بوضع الرحل علي القصواء، ففعل، تقول: رحلت البعير أرحله رحلاً، إذا شددت علي ظهره الرحل. قال الأعشى: رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبى عليك، فما تقول بدالها قوله: ((بطن الوادي)) ((مح)): هو عرنة- بضم العين وفتح الراء وبعدها نون- وليست من أرض عرفات عند الشافعي، ومنها عند مالك. قوله: ((إن دماءكم وأموالكم)) ((تو)): أراد أموال بعضكم علي بعض، إنما ذكره مختصراً اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل ((أموالكم)) قرينة ((دماءكم))، وإنما سبه ذلك في التحريم بيوم عرفة، وبذي الحجة، وبالبلد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال. أقول: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة، كما في قوله تعالي: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرم، ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبداً كحرمة يومكم

تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث -وكان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ وشهركم وبلدكم. ثم أتبعه بما يؤكده تعميماً من قوله: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) ((تو)): أي أبطلت ذلك وتجافيت عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدمي، قوله: ((دم ابن ربيعة)) ((مح)): الجمهور: اسمه إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، قالوا: وكان هذا الابن المقتول طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر. ((تو)): وربيعة بن الحارث صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان أسن من العباس، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه. وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها بين أهل الإسلام بأهل بيته، ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسد لأبواب الطمع في الترخيص. وقوله: ((من دمائنا)) أراد به أهل الإسلام لا ذوي القرابة منه، أي أبدأ في وضع الدماء التي يستحق أهل الإسلام ولايتها بأهل بيتي. قوله: ((فاتقوا الله في النساء)) عطف من حيث المعنى علي قوله: ((إن دماءكم وأموالكم)) يعني فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء، وهي من عطف الإنشائي علي الإخباري بالتأويل، كما عطف {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} علي قوله: {إن أصحاب الجنة اليوم} وفي رواية المصابيح: ((واتقوا)) بالواو، وكلاهما جائزان. قوله: ((بأمان الله)) أي بعهده، وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن، والشفقة عليهن. قوله: ((بكلمة الله)) ((مح)): قيل: هي قوله تعالي: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وقيل: هي الإيجاب والقبول؛ لأن الله تعالي أمر بها، وقيل: هي قوله تعالي: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وهو قول الخطابي، وقيل: كلمة التوحيد؛ إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم، والأول هو الأوجه. ((تو)): المعنى أن استحلالكم فروجهن وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه، فإن نقضتم عهده وأبطلتم حكمه انتقم منكم لهن. قوله: ((أن لا يوطئن فرشكم)) ((نه)): أي لا يأذن لأحد من الرجال أن يتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلي النساء من عادات العرب، لا يرون ذلك عيباً، ولا يعدونه ريبة، إلي أن نزلت آية

ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد ـــــــــــــــــــــــــــــ الحجاب. وليس المراد بوطء الفراش نفس الزنا؛ لأن ذلك محرم علي الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان ذلك لم يكن الضرب فيه ضرباً غير مبرح، وإنما كان فيه الحد والضرب المبرح هو الشديد. : ((مح)) النهي يتناول الرجال والنساء جميعاً، وهكذا المسألة عند الفقهاء؛ لأنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، محرم وغيرها في دخول منزل الزوج، إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن، أو عرف رضاه بالظن، أو العرف، ومتى حصل الشك في الرضا لا يحل الدخول ولا الإذن. أقول: ظاهر قوله: ((أن لا يوطئن فرشكم أحداً)) مشعر بالكناية عن الجماع، فعبر به عن عدم الإذن مطلقاً تغليظاً وتشديداً. قوله: ((غير مبرح)) هو من برح به السوق تبريحاً، إذا اشتد عليه بحيث جهده، وبرحاء الوحي شدته. ((مح)): فيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدية علي العاقلة والكفارة علة الضارب. قوله: ((لن تضلوا بعده)) أي بعد التمسك به، والعمل بما فيه، و ((كتاب)) بدل أو بيان لـ ((ما)) وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام أعني ((وقد تركت فيكم)) الكلام السابق تعميم بعد التخصيص. قوله: ((وأنتم تسألون عني)) عطف علي مقدر، أي قد بلغت ما أرسلن به إليكم جميعاً، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تسألون عن ذلك يوم القيامة، هل بلغكم محمد جميع ما أمر به أن يبلغ إليكم؟ كما قال الله تعالي: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل} أي إن لم تبلغ الجميع {فما بلغت رسالته}؛ لأنك كتمت شيئاً ما أنزل إليك، فما بلغت جميع ما أنزل إليك. و ((الفاء)) في قوله: ((فما أنتم قائلون)) يدل علي هذا المحذوف، أي إذا كان الأمر علي هذا، فبأي شيء تجيبونه؟ ومن ثم طبق جوابهم السؤال، فأتوا بالألفاظ الجامعة، أي بلغت ما أنزل إليك، وأديت ما كان عليك، وزدت علي ذلك بما نصحتنا من السنن، والآداب، وغير ذلك.

أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلي السماء وينكتها إلي الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلي الظهر، ثم أقام فصلي العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلي الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فقال)) أي أشار. وقوله: ((يرفعها إلي السماء)) حال إما من فاعل ((قال)) أو من ((السبابة)) أي رافعاً إياها، أو مرفوعة. قوله: ((وينكبها)) ((نه)): هي بالباء الموحدة من تحت، أي يميلها إليهم من نكبت الإناء نكباً ونكبتها تنكيباً، إذا أماله كبه. ((مح)): ضبطناه بالتاء المثناة من فوق. قال القاضي عياض: كذا الرواية، وقال: وهو بعيد المعنى، وقيل: صوابه بالباء الموحدة، وروينا في سنن إبن داود بالتاء المثناة من طريق ابن الأعرابي، وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار، ومعناه يردها، ويقلبها إلي الناس مشيراً إليهم. أقول: أراد بقوله: ((بعيد المعنى)) أنه غير موافق للغة. ((الجوهري)): نكت في الأرض بالقضيب، إذا ضرب في الأرض فيؤثر فيها. ((المغرب)): في الحديث ((نكتت خدرها بإصبعها)) أي نقرت وضربت، هذا إذا استعمل بفي أو بالباء، وفي الحديث مستعمل بإلي، فيكون النكت مجازاً عن الإشارة بقرينة إلي، وتقديره ما ذكر من قوله: ((يقلبها إلي الناس مشيراً إليهم)). قوله: ((ولم يصل بينهما شيئاً)) ((مح)): فيه أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك حينئذ، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل: بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحابنا: بسبب السفر، فمن كان حاضراً، أو مسافراً دون مرحلتين لم يجز له الجمع، كما لا يجوز القصر. وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولي أولاً، وأنه يؤذن للأولي، ويقيم لكل واحدة، ولا يفرق بينهما. قوله: ((إلي الصخرات)) أي جعل بطن ناقته منتهياً إلي الصخرات بحيث يكون جبل المشاة قدامها. ((نه)): الجبل المستطيل من الرمل، وقيل: الجبال في الرمل كالجبال في غير الرمل، فالمعنى جعل جبل المشاة أي طريقهم الذي يسلكون في الرمل، وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم، ومشيهم بسببها بجبل الرمل. ((مح)): في هذا الفصل مسائل وآداب للوقوف: منها أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب إلي الموقف، ومنها أن الوقوف راكباً أفضل وفيه خلاف، ومنها استحباب الوقوف عند الصخرات، وهن مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا به فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل

القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة. فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلي الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، ـــــــــــــــــــــــــــــ جزء من أرض عرفات، والفضيلة الوقوف علي موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عجز فالأقرب والأقرب، ومنها استحباب استقبال الكعبة، ومنها الوقوف عليها حتى الغروب الكامل، فلو أفاض قبل الغروب صح الوقوف، ويجبر بدم، والأصح أنه سنة. وأما وقت الوقوف فمن وقت الزوال في يوم عرفة، وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ومن فاته فاته الحج. قوله: ((حتى غاب القرص)) ((مح)): قال القاضي عياض: لعل صوابه حين غاب القرص، قال: ويحتمل أن يكون الكلام علي ظاهره، وقوله: ((حتى غاب القرص)) بياناً لقوله: ((غربت الشمس، وذهبت الصفرة)) فإن ذلك قد يطلق مجازاً علي مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله: ((حتى غاب القرص)). قوله: ((ودفع)) ((نه)): أب ابتدأ السير، ودفع نفسه ونحاها، أو دفع ناقته وحملها علي السير، و ((المزدلفة)) هي منزل بين عرفات ومنى، سمي مزدلفة؛ لأنه يتقرب فيها. ((مح)): قيل: سميت بها؛ لمجيء الناس إليها في زلف الليل، وسميت أيضاً بجمع، لاجتماع الناس فيها، والمزدلفة كلها من الحرم. وقال جمع من العلماء: حد مزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، وليس الحدان منها، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب، والجبال الداخلة في الحد المذكور. وفي هذا الفصل فوائد: منها أن السنة للداخل من عرفات أن يؤخر المغرب إلي وقت العشاء بنية الجمع، وقال أصحابنا: ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات، أو في موضع آخر، أو صلي كل واحدة في وقتها جاز، لكنه خلاف الأفضل. وللأئمة في المسألة خلاف. وأما قوله: ((فلم يسبح بينهما)) فمعناه لم يصل بينهما النافلة والنافلة تسمى سبحة، واختلفوا قي أن الموالاة بين الصلاتين شرط أم لا، لكن لم يختلفوا في اشتراطها إذا جمع بينهما في الوقت الأول. قوله: ((ثم اضطجع)) ((مح)): لم يختلفوا في أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر نسك، لكن اختلفوا هل هو واجب أم ركن أم سنة؟ والصحيح من قول الشافعي رضي الله عنه: أنه واجب ولو تركه أثم ولزمه دم، وصح حجه. وقال جماعة من أصحابنا: أنه ركن لا يصح الحج إلا به. قوله: ((أسفر)) ضمير الفاعل للفجر، و ((جداً)) حال، أي مبالغاً، أو صفة مصدر محذوف أي إسفاراً بليغاً.

فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج علي الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلي المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنةً بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بطن محسر)) ((مح)): هو بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين، سمي بذلك؛ لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي أعيى وكل. قوله: ((الطريق الوسطى)) ((مح)): هو غير الطريق الذي ذهب فيه إلي عرفات، وهذا معنى قول أصحابنا: يذهب إلي عرفات في طريق ضب، ويرجع في طريق المأزمين. قوله: ((حصى الخذف)) بدل من ((حصيات)) وهو نحو حبة الباقلاء، ينبغي أن لا تكون أصغر ولا أكبر منها. أقول: يريد أن الإضافة فيه للبيان بمعنى من. ((تو)): ((الخذف)) بالخاء والذال المعجمتين، الرمي بالأصابع، يريد أن كل حصاة كانت كالتي يجعلها الإنسان علي إصبعه فرمى بها. ((مح)): فيه أن يكون المرمي به حجراً، وفيه أن التكبير بينهما سنة، ويجب التفريق بينهما، فإن رماها رمية واحدة حسبت واحدة، ومذهبنا أن الرمي واجب وليس بركن، فإن تركه حتى فاتت أيام الرمي عصى، ولزمه دم. قوله: ((ما غبر)) أي ما بقي، والغبور البقاء والمضي، وهو من الأضداد. ((مح)): فيه استحباب ذبح هديه بنفسه، وجواز الاستنابة فيه، واستحباب تعجيل ذبح الهدايا يوم النحر وإن كانت كثيرة. وأما قوله: ((وأشركه في هديه)) فظاهره أنه شاركه في نفس الهدي. وقال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكاً حقيقياً، بل أعطاه قدراً يذبحه. و ((البضعة)) بفتح الباء، القطعة من اللحم. وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته. قوله: ((فأكلا من لحمها وشربا من مرقها)) ((مظ)): الضمير المؤنث يعود إلي القدر؛ لأنها مؤنث سماعي. أقول: ويحتمل أن يعود الضمير إلي الهدايا. ((مح)): قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الجمع بينها كلفة، جعلت في قدر ليكون الشرب مع مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة، والأكل من اللحوم المجتمعة متيسر. قوله: ((فأفاض)) أي أسرع إلي الكعبة للطواف الفرض، ((وطاف فصلي)) ففيه إضمار. ((مح)): هو ركن من أركان الحج بالإجماع، ويجوز الطواف في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة، ولا

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلي البيت، فصلي بمكة الظهر، فأتى علي بني عبد المطلب يسقون علي زمزم، فقال: ((انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس علي سقايتكم لنزعت معكم)). فناولوه دلواً فشرب منه. رواه مسلم. 2556 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من أهل بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج مع ـــــــــــــــــــــــــــــ آخر لوقته، بل يصح ما دام الإنسان حياً، وشرط أن يكون بعد الوقوف بعرفات، ولا يشترط فيه الرمل، ولا الاضطباع، إذا كان قد رمل واضطبع في طواف القدوم، ولو طاف للوداع أو التطوع، وعليه طواف الإفاضة، وضع عنه طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا بنص الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء: لا يجزئ طواف الإفاضة بنية غيره. قوله: ((انزعوا)) ((مح)): أي استقوا بالدلاء، وانزعوها بالرشاء. لولا خوفي أن يعتقد الناس أن النزع والاستقاء مناسك من الحج، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم، لاستقيت معكم لكثرة فضيلته، وفيه استحباب شرب ماء زمزم، وسميت به لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم وزموم وزمام، إذا كان كثيراً. وقيل: إنها غير مشتقة. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) عطف علي النفي علي تقدير ((ولم أسع)) وهو من باب ((علفتها تبناً وماءً بارداً))، ويجوز أن يقدر ((ولم أطف)) علي المنفي قبله علي طريق المجاز، لما سيجيء في الحديث الذي يتلوه ((فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف)). وإنما ذهبنا إلي التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً في حالة واحدة. وقوله: ((فلم أزل)) عطف علي ((حضت)) أي حضت فاستمر حيضي. قوله: ((ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى يحل بنحر يهديه)) ((مح)): هذا ظاهره الدلالة علي مذهب أبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما: أن المعتمر إذا طاف وسعى وحلق، حل وحل له كل شيء في الحال، سواء ساق هدياً أم لا، واحتجوا بالقياس علي من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء .. قالوا: إن هذه الرواية مختصرة من الرواية التي ذكرها مسلم بعدها، والتي قبلها عن عائشة قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهلل بالحج والعمر، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة وأهدى، فليهلل بالحج، ولا يحل حتى ينحر هديه. ولابد من هذا التأويل؛ لأن القضية واحدة، والراوي واحد، فيتعين الجمع بين الروايتين علي ما ذكرناه.

العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما)). وفي رواية: ((فلا يحل حتى يحل بنحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه)). قالت: فحضت، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلا بعمرةٍ، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج، وأترك العمرة، ففعلت، حتى قضيت حجي بعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً بعد أن رجعوا من منى. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. متفق عليه. 2557 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلي الحج، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ فأهل ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((واترك العمرة)) ((مظ)): أي أخرج من إحرامي العمرة، وأستبيح محذورات الإحرام، وأحرم بعد ذلك بالحج، وأتم الحج، فإذا أرغ منه أحرم بالعمرة. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس معناه أنه أمرها بترك العمرة، بل معناه أنه أمرها بترك أعمال العمرة، وأمرها أن تدخل الحج في العمرة، لتكون قارنة، وأما عمرتها بعد فراغ الحج، فكانت تطوعاً لتطيب نفسها، كيلا تظن لحوق نقصان عليها بتركها أعمال عمرتها الأولي. قوله: ((بعث)) جملة استئنافية علي تقدير السؤال كأنها لما أخبرت عن الكلام السابق سئلت: ثم ماذا حدث بعد؟ فأجابت ((بعث)) إلي آخره، وقوله: ((مكان عمرتي)) أي بدلها، وهو نصب علي المصدر. و ((من التنعيم)) متعلق بـ ((اعتمر)) وهو موضع قريب من مكة عند مسجد عائشة رضي الله عنها. قوله: ((ثم طافوا طوافاً واحداً)) ((مظ)): يعني طاف الذين أفردوا العمرة عن الحج طوافين، طوافاً للعمرة وطوافاً بعد أن رجعوا للحج في يوم النحر بعد أن رجعوا من منى إلي مكة، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنهم طافوا طوافاً واحداً يوم النحر للحج والعمرة جميعاً. الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((مح)): قال القاضي عياض: هو محمول علي التمتع اللغوي، وهو القران آخراً، معناه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارناً في آخر أمره، والقارن هو متمتع من حيث اللغة، ومن حيث المعنى؛ لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل، ويتعين هذا التأويل هنا؛ لمل قدمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك.

بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلي الحج، فكان من الناس من أهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قال للناس: ((من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رجع إلي أهله)) فطاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف، ومشى أربعاً فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي من الناس. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: ((وبدأ رسول الله صلي الله عليه ويلم، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج)) فهو محمول علي التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة، ثم أحرم بحج؛ لأنه يؤدي إلي مخالفة الأحاديث السابقة، فوجب تأويل هذا علي موافقتها. ويؤيد هذا التأويل قوله: ((فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلي الحج)) ومعلوم أن كثيراً منهم، أو أكثرهم أحرموا أولاً بالحج مفردين، وإنما فسخوه إلي العمرة آخراً فصاروا متمتعين. فقوله: ((فتمتع الناس)) يعني في آخر الأمر. وأما قوله: ((ثم ليهل بالحج)) فمعناه يحرم في وقت الخروج إلي عرفات، لا أنه يهل به عقيب تحلل العمرة، ولهذا قال: ((ثم ليهل)) فأتى بـ ((ثم)) التي هي لتراخي المهلة. وأما قوله: ((وليهد)) فالمراد به هدي التمتع وهو واجب. أقول: علي هذا التأويل معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يقارن العمرة بالحج مترفهاً بإيجاد الميقات والإحرام والفعل، فساق الهدي وبدأ فلبى لإحرام العمرة، ثم لبى في أثناء الإحرام للحج، و ((ثم)) ها هنا لتراخي مرتبة الحج من العمرة، ولابد من تقدير الإرادة لئلا يلزم التكرار. ويجوز أن لا يقدر الإرادة فتكون الفاء للتفصيل، فإن التفصيل يعقب الإجمال. وقوله: ((إلي الحج)) حال أي متوجهاً إلي الحج. و ((أول شيء)) حال من المفعول أي مبدوءاً به. قوله: ((ثم خب)) الخب ضرب من العدو، وهو المعنى بالرمل، ووضع قوله: ((فطاف بالصفا والمروة)) موضع السعي بينهما. قوله: ((فليصم ثلاثة أيام)) ((مح)): يجب صومها قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، لكن الأولي أن يصوم الثلاثة قبله، والأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه

2558 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلي يوم القيامة)). رواه مسلم. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني الفصل الثالث 2559 - عن عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناس معي قال: أهللنا- أصحاب محمد- بالحج خالصاً وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح ـــــــــــــــــــــــــــــ من العمرة، فإن صامها لذلك أجزأه علي المذهب الصحيح، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة، وقبل فراغها لم يجزئه، فإن صامها في أيام التشريق ففي صحته قولان، أشهرهما أنه لا يجوز، وأصحهما من حيث الدليل جوازه، ولو ترك صيامها حتى مضي التشريق لزمه قضاؤها عندنا. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يفوت صيامها، ويلزمه الهدي إذا استطاعه، وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع، وفي المراد بالرجوع خلاف، والصحيح عندنا أنه إذا رجع إلي أهله، وقيل: إذا رجع إلي مكة من منى، ومذهب أبي حنيفة الثاني. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((استمتعنا بها)) هذا ظاهر في أن المراد بالاستمتاع هو الترفه باتحاد الميقات والإحرام. ((مظ)): قد مر اختلاف الروايات في أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً، فمن قال بالتمتع تمسك بظاهر هذا الحديث، ومن قال بالقران ذهب إلي أن معناه استمتع من امرأته بتقديم العمرة علي الحج من أصحابي، فأضاف فعلهم إلي نفسه، لأن فعل من فعل شيئاً بأمره كفعله. أقول: هو نحو قوله تعالي: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} - الكشاف-: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم الخطاب؛ لأن النبي صلي الله علبه وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقمه، واعتباراً لترؤسه. قوله: ((الحل)) نصب علي المصدر و ((كله)) تأكيد له، أي الحل التام. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أهللنا أصحاب محمد)) ((مح)): اختلفوا في هذا، هل هذا هو خاص للصحابة تلك السنة، أم باق لهم ولغيرهم إلي بيوم القيامة، فقال أحمد

رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال: ((حلوا وأصيبوا النساء)). قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلي نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني. قال: ((قد علمتم إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدي فحلوا)) فحللنا، وسمعنا وأطعنا. قال ـــــــــــــــــــــــــــــ وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصاً، بل هو باق إلي يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويحلل بأعمالها، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها. وإنما أمروا به؛ ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج. واستدل بحديث أبي ذر ((كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة)) يعني فسخ الحج إلي العمرة، وفي كتاب النسائي عن أب بلال ((قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة))، وأما في حديث سراقة: ((ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: لأبد))، فمعناه يجوز الاعتمار في أشهر الحج والقران. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلي يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلي العمرة مختص بتلك السنة. أقول: في هذا الحديث نفسه دليل علي الاختصاص؛ لأن قول جابر: ((أهللنا أصحاب محمد)) معناه أنا معشر أصحاب محمد مخصوصون بالإهلال بالحج إلي آخره. قال في المفصل: وفي كلامهم ما هو علي طريقة النداء ويقصد به الاختصاص لا النداء، وذلك قولهم: نحن نفعل كذا أيها القوم، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، أي نحن نفعل متخصصين من بين الأقوام، واغفر لنا مخصوصين من بين العصائب. وقوله: ((في الناس معي)) حال من المفعول، أي كائناً في جملة ناس معي. و ((خالصاً)) أيضاً حال من الحج، و ((وحده)) صفة مؤكدة له، فـ ((خالصاً)) حال موطئة، كقوله تعالي: {قرآناً عربياً}. قوله: قال عطاء: ((قال: حلوا)) فسر جابر قوله: ((فأمرنا أ، نحل)) بقوله: قال، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حلوا))، ثم فسر عطاء تفسير جابر بقوله: ((ولم يعزم عليهم)) أي لم يوجب وطنهن، بدليل قوله: ((ولكن أحلهن)) أي أباح وطئهن. وقوله: ((إلا خمس)) أي خمس ليال. قوله: ((فنأي عرفة)) ليس من تمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو عطف علي مقدر، أي فتنزهنا من ذلك، وقلنا: نأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، ومن ثمة أشاروا بمذاكيرهم استهجاناً لذلك الفعل، ولذلك واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((قد علمتم إني أتقاكم لله)). وكذا قوله: ((سمعنا

(3) باب دخول مكة والطواف

عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته فقال: بم أهللت؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأهد وامكث حراماً)) قال: وأهدى له علي هدياً، فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: ((لأبد)). رواه مسلم. 2560 - وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة. أو خمس، فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار. قال: ((أو ما شعرت إني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو إني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا)). رواه مسلم. (3) باب دخول مكة والطواف الفصل الأول 2561 - عن نافع، قال: إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ وأطعنا)) بعد التحليل، ويوضحه الحديث الذي بعده. قوله: ((من سعايته)) ((نه)): أي توليه استخراج الصدقات من أربابها، وبه سمي عامل الصدقات الساعي. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من أغضبك)) ((من)) يجوز أن تكون شرطية، وجوابه ((أدخله الله))، وأن تكون استفهامية علي سبيل الإنكار. وقوله: ((أدخله الله)) علي هذا لا يكون إلا الدعاء بخلاف الأول، فإنه يحتمل الدعاء والإخبار. ((مح)): وإنما غضب صلى الله عليه وسلم لهتك حرمة الشرع، وترددهم في قبول حكمه، وتوقفهم في أمره، وقد قال الله تعالي: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. وفيه دلالة علي استحباب الغضب عند هتك حرمة الدين، وجواز الدعاء علي المخالف. ((حتى أشتريه)) هي بمعنى كي، و ((أشتريه)) منصوب به. باب دخول مكة والطواف الفصل الأول الحديث الأول عن نافع: قوله: ((بذي طوى)) اسم بئر في طريق المدينة. ((مح)): هو بفتح

يصبح ويغتسل ويصلي، فيدخل مكة نهاراً، وإذا نفر منها مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، متفق عليه. 2562 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلي مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها متفق عليه. 2563 - وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة. ثم عمر. ثم عثمان مثل ذلك. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطاء وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر، وهي موضع بقرب مكة، وتصرف، وفيه استحباب دخول مكة نهاراً ليرى البيت ويدعو، والاغتسال بذي طوى لدخولها، أو يقدر بقدرها من لم يكن في طريقها. قوله: ((فيدخل)) الرواية بالنصب، ((والفاء)) للتعقيب، ((وحتى)) بمعنى كي، أي بات بها ليجمع بين هذه الأشياء، وإنما أتى بحرف التعقيب ليؤذن بالترتيب في مدخوله. ويجوز فيه الرفع، ((والفاء)) للسببية، ((وحتى)) بمعنى إلي أن، وهذا الوجه وإن كان ظاهراً، ولكن الأول أدق معنىً لاستدعاء الحصر بـ ((ما)) و ((إلا)) تخصيص البيتوتة بذي طوى وأنه لم يكن إلا لتلك الأغراض. وفيه: أن الخصال الثلاث الأول كالمقدمات للأخيرة، ومستتبعات لها. قوله: ((ويذكر)) عطف علي خبر ((كان))، أي كان يذكر، أي كان ابن عمر يجمع بين هذه الأفعال، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((دخلها من أعلاها)) ((مح)): قيل: إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلاً وخارجاً، للفأل بتغير الحال إلي أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان، وليتبرك أهلها به. ويستحب عندنا دخول مكة من الثنية العليا، والخروج من السفلي، ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية علي طريقه كالمدني، أو لا تكون كاليمني، [وهكذا] يستحب أن يخرج من بلده من طريق ويرجع من أخرى. الحديث الثالث عن عروة رضي الله عنه: قوله: ((فأخبرتني)) الفاء فيه كالتفصيل للمجمل، فأخبر عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج، ثم فصله بإخبار عائشة رضي الله عنها، ونظيره قوله تعالي: {إن فاءوا} بعد قوله تعالي: {للذين يؤلون من نسائهم} قوله: ((إنه توضأ)) ((مح)): فيه

2564 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة. متفق عليه. 2565 - وعنه، قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلي الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ دليل إثبات الوضوء للطواف، وفد أجمعت الأمة علي شرعيته، لكن اختلفوا في أنه واجب وشرط لصحته أم لا؛ فقال الجمهور من الفقهاء: هو شرط لصحته، وقال أبو حنيفة: مستحب، وليس بشرط، واحتج الجمهور بهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا عني مناسككم))، وفي حديث ابن عباس في الترمذي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام))، ولكن الحديث في رفعه ضعف، ويحصل به الدلالة مع أنه موقوف؛ لأنه قول صحابي انتشر بلا مخالفة، فهو حجة علي الصحيح. ((مظ)): قال أبو حنيفة: إن طاف محدثاً، أو مكشوف العورة، أو متنجساً لزمه الإعادة، فإن لم يعد حتى خرج من مكة لزمه دم، وصح طوافه. قوله: ((ثم لم تكن عمرة)) ((كان)) تامة، أي ثم لم توجد بعد الطواف عمرة. ((مح)): قال القاضي عياض: في جميع النسخ ((لم يكن غيره)) بالغين المعجمة والياء، وهو تصحيف، وصوابه ((لم تكن عمرة))، كأن هذا رد لمن يأل عن فسخ الحج إلي العمرة، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع، فأعلمه أن البي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. قلت: وفي قوله: ((تصحيف)) نظر، بل هو صحيح رواية ومعنى؛ لأن الكلام إذا كان رداً، ورد العام بتناول الخاص، يعني ثم لم يكن بعد الطواف غيره، أي لم يغير الحج ولم ينقله ويفسخه إلي غيره، لا عمرة ولا قران- انتهي كلامه. فظهر من هذا أن قوله: ((ثم لم تكن عمرة)) إلي آخره من كلام عروة بن الزبير. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إذا طاف)) ((إذا)) شرطية خبر ((كان))، وجزاؤه ((سعى)) و ((أول)) ظرف سعى قدم عليه، و ((ثلاثة)) منصوب صفة لمصدر محذوف، وقوله: ((ثم يطوف)) أتى بالفعل المضارع استحضاراً لتلك الحالة، المعنى أنه صلى الله عليه وسلم إذا طاف سعى أول قدومه ثلاث أطواف. وقوله: ((ثم سجد سجدتين)) أي صلي ركعتين. ((شف)): فيه دلالة علي استحباب الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، والهينة في الأربعة الأخيرة.

2566 - وعن جابر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى علي يمينه، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً. رواه مسلم. 2567 - وعن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر. فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. رواه البخاري. 2568 - وعن ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمإنيين. متفق عليه. 2569 - وعن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع علي بعير، يستلم الركن بمحجن. متفق عليه. 2570 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت علي بعير، كلما أتى علي الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلي السابع عن الزبير رضي الله عنه: قوله: ((يستلمه ويقبله)) ((فا)): هو افتعل من السلمة بكسر اللام، وهي الحجر، وهو أن يتناوله بلمس أو تقبيل، أو إدراك بعصا. أقول: فقوله: ((يقبله)) قرينة دالة علي حصول هذا النوع من الاستلام، أو جمع بين النوعين منه. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلا الركنين اليمإنيين)) ((مح)): واللغة الفصيحة المشهورة تخفيف الياء، وفيه لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف قال: هذه نسبة إلي اليمن، والألف عوض من إحدى يائي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شددت لجمع بين العوض والمعوض، والركنان اليمإنيان هما الركن الأسود والركن اليمإني، وإنما قيل لهما: اليمإنيان للتغليب، كما قيل: الأبوان، والعمران، والقمران، والركنان الآخران يقال لهما: الشاميان، والركنان الأسود واليمإني فيهما فضيلتان، إحداهما: كونهما من بناء إبراهيم، والثانية: كون الحجر في أحدهما، وليس في الآخرين ذلك، فلا يقبلان ولا يستلمان. والقادر علي تقبيل الحجر الأسود لا يقتصر علي تقبيل اليد، وإذا عجز جاز الاقتصار، ويستحب عندنا أن يستلمه ثم يقبله، ثم يضع جبهته عليه، وبه قال الجمهور من الصحابة والتابعين، وانفرد مالك، فقال: السجود عليه بدعة. ((شف)): وإنما لم يستلم النبي صلى الله عليه وسلم من الأركان الأربعة إلا الركنين اليمإنيين؛ لأنهما بقيا إلي الآن علي بناء إبراهيم عليه السلام، دون الشاميين، فإنهما ما بقيا علي بنائه عليه السلام، وكذا عن المظهر. الحديث التاسع إلي الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بمحجن)) ((نه)):

2571 - وعن أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن. رواه مسلم. 2572 - وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج. فلما كنا بسرف طمثت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ((لعلك نفست؟)) قلت: نعم. قال: ((فإن ذلك شيء كتبه الله علي بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو عصا معقفة الرأس كالصولجان، والميم زائدة. ((قض)) فيه دليل علي جواز الطواف راكباً، والمشي فيه أفضل، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ لأن الناس غشوه، وازدحموا عليه، فركب ليشرف لهم ويراه القريب والبعيد، وأن الطائف إذا عسر عليه الاستلام باليد، فله الاستلام بسوط ونحوه. ((تو)): لما كان من حق الملوك علي من ينتابهم من الوفود، أن يقبلوا أيمانهم، وكان الحجر للبيت بمثابة اليد اليمنى، شرع التقبيل للوافدين إليه إقامة لشرط التعظيم، فإن منع مانع فالسنة فيه أن يشير إليه بيده، ثم يقبل يده، والمعنى: إني رمت التقبيل فحجزني عنه حاجز، فها أنا أقبل اليد التي تشرفت بالإشارة إليك مكان ما قد فاتني، وقد وجد في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم المحجن من التعظيم ما لا يوجد في تقبيل اليد نفسها؛ لأنه أبلغ في بيان القصد. الحديث الثاني عشر عن عائشة: قوله: ((لا نذكر)) أي لم يخطر ببالنا غير الحج. وقوله: ((غير أن لا تطوفي)) استثناء من المفعول به، و ((لا)) زائدة لتأكيد النفي. قوله: ((بسرف)) ((مح)): هو- بفتح السين المهملة وكسر الراء- ما بين مكة والمدينة بقرب مكة علي أميال منها، قيل: ستة أميا أو أكثر إلي اثني عشر ميلاً، وقوله: ((طمثت)) هو بفتح الطاء وكسر الميم، أي حضت و ((نفست))، أي حضت- بفتح النون وضمها- والفتح أفصح، وأما الولادة فيقال فيه: نفست بالضم لا غير. وقوله: ((هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم)) تسلية لها وتخفيف، أي ليست مختصة به، بل كل بنات آدم مبتلاة به. وفي قوله: ((فافعلي ما يفعل الحاج)) دليل علي أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج، وأقواله وهيئاته، إلا الطواف. واختلفوا في علة المنع من الطواف، فمن شرط الطهارة للطواف، كمالك والشافعي وأحمد، قال: العلة في بطلان طواف الحائض عدم الطهارة، ومن لم يشترطها كأبي حنيفة قال: العلة فيه كونها ممنوعة من اللبث في المسجد.

2573 - وعن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط، أمره أن يؤذن في الناس: ((ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان)). متفق عليه. الفصل الثاني 2574 - عن المهاجر المكي، قال: سئل جابر عن الرجل يرى البيت يرفع يديه. فقال قد حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. رواه الترمذي، وأبو داود. 2575 - وعن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، فأقبل إلي الحجر، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعلاه حتى ينظر إلي البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو. رواه أبو داود. [2575] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أمره أن يؤذن)) الضمير راجع إلي الرهط باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة علي الالتفات. قوله: ((يوم النحر)) فيه دليل علي أن المراد بالحج الأكبر في قوله تعالي: {وأذان من الله ورسوله إلي الناس يوم الحج الأكبر} يوم النحر؛ لأن فيه معظم المناسك. قوله: ((ألا لا يحج بعد العام مشرك)) ((مح)): هو من قوله تعالي: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} والمراد بالمسجد الحرام حرم الله، فلا يمكن مشرك من دخوله ولو جاء في رسالة، أو أمر مهم، بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومات، نبش وأخرج من الحرم. وإنما منع طواف العريان لما كانت الجاهلية عليه، وعن طاوس: كان أحدهم يطوف بالبيت عرياناً، وإن طاف وهي عليه ضرب، وانتزعت منه؛ لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها. وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب، كما تعروا من الثياب. الفصل الثاني الحديث الأول عن المهاجر: قوله: ((عن الرجل)) أي عن حال الرجل، و ((يرى البيت)) حال من ((الرجل)))) ويرفع)) حال أخرى إما مترادفة، أو متداخلة. ((مظ)): وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلي هذا، وقال أحمد وسفيان الثوري: يرفع اليدين من رأي البيت ويدعو.

2576 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطواف حول البيت مثل الصلاة؛ إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير)). رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي، وذكر الترمذي جماعة وقفوه علي ابن عباس [2576]. 2577 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [2577] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إلا أنكم)) يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي الطواف كالصلاة، في الشرائط من الطهارة وستر العورة ونحوهما إلا في التكلم ويجوز أن يكون منقطعاً أي الطواف مثل الصلاة لكن رخص لكم التكلم فيه؛ لأن عادتكم التكلم. ودليل الترخيص قوله صلى الله عليه وسلم: ((فلا يتكلمن إلا بخير)) أي إذا كان لابد من الكلام، فلا يتكلمن إلا بخير. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الحجر الأسود)) ((قض)): لعل هذا الحديث جار مجرى التمثيل، والمبالغة في تعظيم شأن الحجر، وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة، وما فيه من اليمن والبركة، يشارك جواهر الجنة، فكأنه نزل منها، وإن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد، فتجعل المبيض منها مسوداً، فكيف بقلوبهم؟ أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا، محاء للذنوب، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يزاحم علي الركنين، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مسحهما كفارة للخطايا))، كأنه من الجنة، ومن كثرة تحمله أوزار بني آدم، صار كأنه كان ذا بياض شديد فسودته الخطايا. هذا، واحتمال إرادة الظاهر غير مدفوع عقلاً، ولا سمعاً. والله أعلم بالحقائق. ((مظ)): في الحديث فوائد، منها امتحان إيمان الرجل، فإن كان كامل الإيمان يقبل هذا فلا يتردد، وضعيف الإيمان يتردد، والكافر ينكر، ومنها التخويف، فإن الرجل إذا علم أن الذنوب تسود مسح الحجر يحترز من الذنب، كيلا يسود بدنه بشؤمه. ومنها التحريض علي التوبة، ومنها الترغيب في مسح الحجر لينالوا بركته، فتنتقل ذنوبهم من أبدانهم إليه. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ليبعثنه الله)) ((قض)): شبه خلق

2578 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد علي من استلمه بحق)). رواه الترمذي، وابن ماجه والدارمي. [2578] 2579 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب)). رواه الترمذي [2579] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحياة والنطق فيه بعد أن كان جماداً لا حياة فيه، بنشر الموتى وبعثها، وذلك لا امتناع فيه، فإن الأجسام متساوية في الجسمية، وقبول الأعراض التي منها الحياة والنطق، والله سبحانه قادر علي جميع الممكنات، لكن الأغلب علي الظن أن المراد منه تحقيق ثواب المستلم، وأن سعيه لا يضيع، وأن أجره لا يفوت عنه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أذن وارفع صوتك؛ فإنه لا يسمع صوتك حجر ولا مدر إلا شهد ل كبه يوم القيامة)). والمراد من المستلم الحق، من استلم اقتفاء لأثره وامتثالاً لأمره. أقول: يشهد للوجه الأول شهادة لا ترد تصدير الكلام بالقسم، وتأكيد الجواب بالنون، لئلا يظن خلاف الظاهر. و ((علي)) في ((يشهد علي من استلمه)) مثلها في قوله تعالي: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي رقيباً حفيظاً عليكم، يزكيكم في شهادتكم علي الناس؛ فالمعنى يحفظ علي من استلم أحواله شاهداً ومزكياً له، ويجوز أن يتعلق بقوله: ((يشهد)) أي يشهد بحق علي من استلمه بغير حق، كالكافر والمستهزئ، ويكون خصمه يوم القيامة، ويشهد بحق لمن استلمه بحق كالمؤمن المعظم حرمته. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ياقوتتان)) ((مظ)): لما كان الياقوت من أشرف الأحجار، ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفإنية وياقوت الجنة أكثر ما بين الياقوت وغيره من الأحجار، أعلمنا أنهما من ياقوت الجنة؛ لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة، والخاصية المجعولة بينهما، كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار. وذلك مما لا يدرك بالقياس. أقول: قد سبق مراراً أن هذا النوع من الكلام ليس بتشبيه، ولا استعارة، وإنما هو من وادي قولهم: القلم أحد اللسإنين، فـ ((من)) في ((من ياقوت الجنة)) بيإنية، فإذن الياقوت نوعان:

2580 - وعن عبيد بن عمير: أن ابن عمر كان يزاحم علي الركنين زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه. قال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مسحهما كفارة للخطايا)) وسمعته يقول: ((من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة)). وسمعته يقول: ((لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة)). رواه الترمذي [2580]. 2581 - وعن عبد الله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بين الركنين: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) رواه أبو داود. [2581] 2582 - وعن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، ننظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي وسمعته يقول: ((اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي)). رواه في ((شرح السنة)) ورواه أحمد مع اختلاف. ـــــــــــــــــــــــــــــ متعارف وغير متعارف، وهذا من غير المتعارف، ولذلك أثبت له ما ليس للمتعارف، من إضاءة ما بين المشرق والمغرب. وبهذا ظهر أن قول من قال: إن الحجر الأسود ليس من الجنة ضعيف. قوله: ((طمس الله نورهما)) ((مظ)): أي أذهب الله نورهما؛ ليكون إيمان الناس بكونهما حقاً ومعظماً عند الله إيماناً بالغيب، ولو لم يطمس نزرهما، لكان الإيمان بهما إيماناً بالشهادة، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب. الحديث السابع عن عبيد الله بن عمير. قوله: ((يزاحم علي الركنين)) عدى بـ ((علي)) تضميناً لمعنى الغلبة، أي كان يغالب الناس علي الركنين زحاماً عظيماً. قوله: ((إن أفعل فإني سمعت)) قال معتذراً، أي إنكاركم علي سبب إخباري إياكم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل علي الإنكار قوله: ((ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه)). قوله: ((فأحصاه)) أي من طاف بهذا البيت حق طوافه، بأن يوفي سننه، وآدابه، وواجباته، من الطهارة، وستر العورة، والصلاة، ويستمر عليه أسبوعاً، أي سبع مرات كان كذا. الحديث الثامن والتاسع عن صفية: قوله: ((كتب عليكم السعي)) أي فرض عليكم السعى،

2583 - وعن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة علي بعير، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. رواه في ((شرح السنة)). [2583] 2584 - وعن يعلي بن أمية، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعاً ببرد أخضر. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [2584] 2585 - وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها علي عواتقهم اليسرى. رواه أبو داود. [2585] ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن لم يسع لم يصح حجه عند الشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو تطوع. الكشاف: اختلف في السعي، فمن قائل: هو تطوع بدليل رفح الجناح، ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير، وعن أبي حنيفة أنه واجب، وليس بركن، وعلي تاركه دم، وعند مالك والشافعي هو ركن لهذا الحديث. الحديث العاشر عن قدامة: قوله: ((لا ضرب)) أي لا ضرب هناك، ولا طرد، ولا قول ((إليك إليك))، كما هو من عادة الملوك والجبابرة، و ((إليك)) هنا من أسماء الأفعال، معناه تنح عني. أقول: في هذا الكلام رائحة تعريض بمن كان يفعل بين يديه هذه الأفعال، وإلا كان الراوي مستغنياً عن هذا الإخبار، لأنه كان من المعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من هذا. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن يعلي: قوله: ((مضطبعاً)) ((نه)): الضبع بسكون الباء وسط العضد، وقيل: هو ما تحت الإبط، والاضطباع أن يأخذ الإزار أو البرد، فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويلقي طرفيه علي كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، وسمي بذلك، لإبداء الضبعين ويقال: للإبط الضبع للمجاورة. قيل: إنما فعل ذلك إظهاراً للتشجيع كالرمل في الطواف.

الفصل الثالث 2586 - عن ابن عمر، قال: ما تركنا استلام هذين الركنين: اليمإني والحجر في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما. متفق عليه. 2587 - وفي رواية لهما: قال نافع: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. 2588 - وعن أم سلمة، قالت: شكوت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشتكي. فقال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلي جنب البيت يقرأ بـ {والطور وكتاب مسطور} متفق عليه. 2589 - وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ما قبلتك. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((إني أشتكي)) مفعول شكوت أي شكوت مرضي. ((نه)): الشكو، والشكوى، والشكاة، والشكاية المرض. قوله: ((يصلي إلي جنب البيت)) أي مستقبلاً إلي جنبه. ((مح)): كانت هذه الصلاة صلاة الصبح. الحديث الثالث عن عابس: قوله: ((إنك حجر)) اعلم أتهم ينزلون نوعاً من أنواع الجنس بمنزلة جنس آخر باعتبار اتصافه بصفة مختصة به؛ لأن تغاير الصفات بمنزلة التغاير في الذات، فقوله: ((أعلم أنك حجر)) شهادة له بأنه من هذا الجنس، وقوله: ((ما تنفع ولا تضر)) تقرير وتأكيد بأنه حجر كسائر الأحجار. وقوله: ((لولا إني رأيت)) إلي آخره إخراج له من الجنس باعتبار تقبيله صلى الله عليه وسلم. ((مح)): إنما قال ذلك؛ لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها، ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله فيفتتن به، فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، وإنما كان امتثال ما شرع فيه ينفع باعتبار الجزاء والثواب، وليشيع في الموسم فيشتهر في البلدان المختلفة. وفيه الحث علي الاقتداء

(4) باب الوقوف بعرفة

2590 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكل به سبعون ملكاً)) يعني الركن اليمإني ((فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا: آمين)). رواه ابن ماجه [2590]. 2591 - وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طاف بالبيت سبعاً ولا يتكلم إلا بـ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ محيت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات ورفع له عشر درجات. ومن طاف فتكلم وهو في تلك الحال؛ خاض في الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه)). رواه ابن ماجه. [2591] (4) باب الوقوف بعرفة الفصل الأول 2592 - عن محمد بن أبي بكر الثقفي، أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان ـــــــــــــــــــــــــــــ برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله، ونبه أنه لولا الاقتداء لما فعله، وقد سبق سنن بيان الاستلام والتقبيل وآدابهما. الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومن تكلم)) أي بتلك الكلمات وهو في حالة الطواف، وإنما كرر ((طاف)) ليناط به غير ما نيط به أولاً، وليبرز المعنى المعقول في صورة المشاهد المحسوس، فشبه الرحمة المعني بها الثواب بالماء، وسعيه في حالة الذكر بالخائض فيه، فترك المشبه به وهو الماء، وجعل القرينة الدالة عليه كلمة ((خاض))، ثم شبه هذا التمثيل بما يزيد التصوير من قوله: ((كخائض الماء برجليه)). باب الوقوف بعرفة ((غب)): هو اسم لبقعة مخصوصة، وقيل: سميت بذلك لوقوع المعرفة فيها بين آدم وحواء، وقيل: بل لتعرف العباد إلي الله تعالي بالعبادات والأدعية.

من منى إلي عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه. متفق عليه. 2593 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم. ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف. ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف)). رواه مسلم. 2594 - وعن عائشة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار؛ من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن محمد: قوله: ((ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه)) ((مظ)): هذا رخصة يعني لا حرج في التكبير، بل يجوز كسائر الأذكار، ولكن ليس التكبير في يوم عرفة سنة للحاج، بل السنة التلبية إلي رمي جمرة العقبة يوم النحر؛ وأما لغير الحاج في سائر البلاد، فالتكبير يوم عرفة سنة عقيب الصلوات من صبح يوم عرفة إلي صلاة العصر من آخر أيام التشريق. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ومنى كلها منحر)) حال، وبيان أن منحره صلى الله عليه وسلم حينئذ غير مختص بالمنحر، بل منى كلها منحر، قوله: ((نحرت هاهنا)) أولاً إشارة إلي منى، وثإنياً ((ووقفت هاهنا)) إشارة إلي عرفة. فإن قلت: إنما يشار بـ ((هاهنا)) إلي المكان القريب الذي يكون المشير حالة الإشارة فيه، فكيف تصح هاتان الإشارتان في حالة واحدة، إذ لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذ ذاك في ذينك المكإنين؟ قلت: الجواب من وجهين، أحدهما: أنه يجوز أن يكون كل من الإشارتين صدرت عنه في الموضع المشار إليه، والآخر: أ، يكون مستحضراً لصورة المكان الذي لم يكن فيه في خيال المخاطب، فأشار بذلك الاعتبار. قوله: ((وجمع)) ((نه)): هو علم للمزدلفة، وسمي به لاجتماع آدم وحواء عليهما السلام فيه، كذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما من يوم أكثر)) ((ما)) بمعنى ليس، واسمه ((يوم)) و ((من)) زائدة و ((أكثر)) خبره و ((من)) الثانية أيضاً زائدة، و ((من يوم عرفة)) متعلق بـ ((أكثر)) أي ليس يوم أكثر إعتاقاً فيه من يوم عرفة. قوله: ((ليدنو)) ((قض)): لما كان الحج عرفة، والحج يهدم ما قبله، كان ما في يوم عرفة من الخلاص عن العذاب، والعتق من النار

الفصل الثاني 2595 - عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن خال له يقال له يزيد بن شيبان، قال: كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو من موقف الإمام جداً، فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: ((قفوا علي مشاعركم، فإنكم علي إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه [2595] ـــــــــــــــــــــــــــــ أكثر ما يكون في سائر الأيام، ولما كان الناس يتقربون إلي الله تعالي في ذلك اليوم بأعظم القربات، والله سبحانه أبر بهم، وألطف منه في سائر الأيام عبر عن هذا المعنى بالدنو منهم في الموقف، أي ليدنوا منهم بفضله ورحمته. ((ثم يباهي بهم)) أي يفاخر، والمعنى أنه يحلهم من قربه وكرامته محل الشيء المباهي به. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو: قوله: ((كنا في موقف لنا)) ((تو)) و ((قض)): أي في موقف كان لنا في قديم الزمان يقف أسلافنا فيه قبل الإسلام. قوله: ((يباعده عمرو)) أي يجعله بعيداً بوصفه إياه بالبعد، و ((جداً)) نصب علي المصدر، أي يجد في التبعيد جداً، والتباعد يجيء في كلامهم بمعنى التبعيد، وبه ورد التنزيل {ربنا باعد بين أسفارنا} وقوله: ((فأتانا ابن مربع)) بكسر الميم، يريد زيد بن مربع الأنصاري من بني حارثة، والمشاعر جمع مشعر، يريد بها مواضع النسك، سميت بذلك، لأنها معالم العبادات. وقوله: ((فإنكم علي إرث من إرث أبيكم)) علة للأمر بالاستقرار والتثبيت علي الوقوف في مواقفهم القديمة، علل ذلك بأن موقفهم موقف إبراهيم، متبع لطريقته وإن بعد موقفه عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم. أراد بذلك إعلامهم أن عرفة كله موقف حتى لا يتوهموا أن الموقف ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولا يتنازعوا في المواقف، ولا يتشاجروا عليها. أقول: إنما قيل: ((علي إرث من إرث أبيكم)) وقطع من الإضافة ابتداء، ولم يقل: ((علي إرث أبيكم)) فنكر ثم بين، ليفيد ضرباً من التفخيم والتعظيم، كأنهم حقروا شأن موقفهم، لبعده من موقف انبي الله صلى الله عليه وسلم فعظمه صلى الله عليه وسلم ذلك التعظيم، ونسبه إلي خليل الله عليه السلام تسلية لقلوبهم، واغتباطاً بما كانوا عليه.

2596 - وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل عرفة موقف وكل منى منحر. وكل المزدلفة موقف. وكل فجاج مكة طريق ومنحر)). رواه أبو داود والدارمي. [2596] 2597 - وعن خالد بن هوذة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة علي بعير قائما في الركابين. رواه أبو داود. [2597] 2598 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير)). رواه الترمذي. [2598] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وكل فجاج مكة)) ((نه)) الفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع. ((مظ)): يعني من أي طريق مكة يدخ الرجل مكة جاز، وفي أي موضع من حوالي مكة ينحر الهدي جاز، لأنها من أرض الحرم. أقول: أراد به التوسعة، ونفي الحرج، وأنشد في المعنى: خذا بطن هرشي أو قفاها فإنما ... كلا جانبي هرشي لهن طريق الحديث الثالث والرابع عن عمرو: قوله: ((دعاء يوم عرفة)) الإضافة فيه يجوز أن تكون بمعنى اللام، أي دعاء خص بذلك اليوم. وقوله: ((وخير ما قلت)) بمعنى خير ما دعوت، بيان له، فالدعاء له قوله: ((لا إله إلا الله)) إلي آخره. فإن قيل: هو ذكر وليس دعاء؟ أجيب بوجهين، أحدهما أنه علي سبيل التعريض تجنباً عن التصريح مراعاة للأدب، وقد قيل لسفيان بن سعيد الثوري: هذا هو الثناء، فأين الدعاء؟ فأنشد قول أمية بن الصلت في ابن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفإني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء وثإنيهما: الاشتغال بخدمة المولي، والإعراض عن الطلب اعتماداً علي كرمه، فإنه لا يضيع أجر المحسنين. قال: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)). فالفرق

2599 - وروى مالك عن طلحة بن عبيد الله إلي قوله: ((لا شريك له)). 2600 - وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر)) فقيل: ما رئي يوم بدر؟ قال: ((فإنه قد رأي جبريل يزع الملائكة)) رواه مالك مرسلاً وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)). [2600] 2601 - وعن جابر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم عرفة، إن الله ينزل إلي السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلي عبادي، أتوني شعثاً غبراً ضاجين من كل فج عميق، أشهدكم إني قد غفرت لهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ بين الوجهين أن الذاكر في الأول وإن لم يصرح بالطلبة فهو طالب بما هو أبلغ من التصريح بخلاف الثاني، قال: وكلت إلي المحبوب أمري كله ... فإن شاء أحيإني وإن شاء أتلفا وأن تكون بمعنى ((في)) فعلي هذا يعم الدعاء بأي شيء دعا، فيكون قوله: ((خير ما قلت)) عطفاً علي قوله: ((خير الدعاء)) لا علي البيان، بلي يجري علي المغايرة، والعموم في القول، فيتناول الذكر والدعاء. الحديث الخامس عن طلحة رضي الله عنه: قوله: ((ولا أدحر)) ((فا)): الدحر الدفع بعنف علي سبيل الإهانة والإذلال. ((يزع الملائكة)) أي يتقدمهم فيكف ريعانهم من قوله تعالي: {فهم يوزعون} ((نه)): أي يرتبهم ويسويهم، ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن الانتشار. وأفعل التفضيل في ((أدحر)) كما في أشهر وأجن من شهر وجن. قوله: ((هو فيه أصغر)) الجملة صفة ((يوما)) و ((منه)) متعلق بأفعل، والضمير للشيطان، أي الشيطان في يوم عرفة أبعد من مراده من نفسه في سائر الأيام. وقوله: ((إلا ما رئي يوم بدر)) مستثنى من هذه الجملة. وقوله: ((إلا لما يرى)) مستثنى من قوله: ((وما ذاك)) وهذه الجملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه، مؤكدة لمضمون الجملة، وليست مختصة بالسابقة. و ((كريز)) بفتح وكسر الراء. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((بهم)) إما ضمير مبهم فسر بما بعده من قوله: ((عبادي)) أو راجع إلي المفهوم من قوله: ((إذا كان يوم عرفة)) لما يعرف منه اجتماع العباد فيها. قوله: ((ضاجين)) أي رافعين أصواتهم بالتلبية. قوله: ((يرهق) 9 ((تو)): أي يتهم بسوء، والهاء مشددة،

فيقول الملائكة: يا رب! فلان كان يرهق، وفلان، وفلانة، قال: يقول الله عز وجل: قد غفرت لهم)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)). رواه في شرح السنة. [2601] الفصل الثالث 2602 - عن عائشة قالت: كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، فكان سائر العرب يقفون بعرفة. فلما جاء الإسلام أمر الله تعالي نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله عز وجل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقال: فيه رهق أي غشيان للمحارم، ويقال للفاعل: المرهق بتشديد الهاء، وتخفيفها أيضاً، وبلي مفتوحة في الصيغتين. وقول الملائكة هذا علي سبيل الاستعلام، ليعلموا: هل دخل ذلك المرهق في جملتهم ببركة ذلك اليوم أم لا؟ وسألوه عن طريق التعجب- انتهي كلامه-. قالوه تعجباً منهم؛ لعظم الجريمة، ولم يعرفوا أن الحج يهدم ما كان قبله من الذنوب. ((قض)): في تعبيرهم الفواحش بالترهيق أدب من آداب أرباب الكمال بأن لا يصرحوا بمعايب أرباب العيوب، ولا يبثوا بفجور أصحاب الذنوب وإن كانوا واقفين مطلعين عليها. قوله: ((فما من يوم)) الفاء جواب شرط محذوف، و ((أكثر)) خبر ((ما))، والضمير المستتر عائد إلي ((يوم))، و ((عتيقاً)) تمييز، إما بمعنى الفاعل أو المفعول علي الإسناد المجازي؛ لأن العتق واقع فيه مبالغة في تعظيم اليوم كما في قوله تعالي: {يوماً يجعل الولدان شيباً}. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ومن دان دينها)) ((نه)): أي اتبعهم في دينهم، ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له ديناً وعبادة. و ((الحمس)) جمع أحمس وهو قريش، وأصلها الشجاعة والشدة. والإفاضة الزحف، والدفع في السير بكثرة، ولا يكون إلا عن تفرق وجمع، وأصلها الصب، فاستعيرت للدفع في السير، وأصله أفاض نفسه وراحلته، فرفضوا ذكر المفعول حتى أسبه غير المتعدى. قوله: ((فذلك)) الفاء تعقيب للتفصيل بالمجمل، أي المذكور تفصيل وتفسير لقوله تعالي: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي فلتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس، ولا تكن من المزدلفة، بل عرفة.

2603 - وعن عباس بن مرداس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: ((إني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ للمظلوم منه)). قال: ((أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم)) فلم يجب عشيته. فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلي ما سأل قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال تبسم - فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟ قال: ((إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي، وغفر لأمتي. أخذ التراب، فجعل يحثوه علي رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه)). رواه ابن ماجه، وروى البيهقي في ((كتاب البعث والنشور)) نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عباس بن مرداس: قوله: ((فأجيب إلي ما سأل)) أي لما سأل، وقد سبق أن الأغراض نهاية المطالب، و ((إلي)) للغاية، فيلتقيان في معنى واحد. قوله: ((يحثوه علي رأسه)) يلمح إلي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رئي الشيطان يوماًً هو فيه أصغر ولا أدحر)). قوله: ((ويدعو بالويل)) أي يقول: يا ويلاه يا ثبوراه! ((نه)): الويل الحزن والهلاك، والمشقة من العذاب، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه، يا حزني يا هلاكي يا عذابي احضر، فهذا وقتك وأوانك، فكأنه نادى الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع، والثبور الهلاك، ونداؤه كنداء الويل. قال الإمام أحمد البيهقي رحمه الله: يحتمل أن تكون الإجابة إلي المغفرة بعد أن يذيقهم شيئاً من العذاب دون الاستحقاق، فيكون الخبر خاصاً في وقت دون وقت، ويحتمل أن تكون الإجابة إلي المغفرة ليعضهم، فيكون الخبر خاصاً في قوم دون قوم، ثم من لا يغفر له يذيقه من العذاب بما كسب وافياً، ويحتمل أن يكون عاماً، ونص الكتاب يدل علي أنه مفوض إلي مشيئة الله تعالي حيث قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا ينبغي لمسلم أن [يغر] نفسه، فإن المعصية شؤم، وخلاف الجبار في أوامره ونهيه عظيم، وأحدنا لا يصبر علي حمى يوم، أو وجع ساعة، فكيف يصبر علي عذاب أليم، وعقاب شديد، لا يعلم وقت نهايته إلا الله تعالي، وإن كان قد ورد خبر الصادق بنهايته دون بيان وقته، متى ما كان مؤمناً، وبالله التوفيق.

(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة

(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة الفصل الأول 2604 - عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سئل أسامة بن زيد: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. متفق عليه. 2605 - وعن ابن عباس، أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً، وضرباً للإبل، فأشار بسوطه إليهم وقال: ((يا أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع)). رواه البخاري. 2606 - وعنه، أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلي المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلي منى؛ فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه. 2607 - وعن ابن عمر، قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا علي إثر كل واحدة منهما. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الدفع من عرفة الفصل الأول الحديث الأول عن هشام رضي الله عنه: قوله: ((حين دفع)) ((قض)):أي انصرف من عرفة إلي مزدلفة، سمى ذلك دفعاً لازدحامهم إذا انصرفوا، فيدفع بعضهم بعضاً، أو لأنهم كانوا يدفعون به أنفسهم إلي مزدلفة، و ((العنق)) السير السريع، وانتصابه علي المصدر انتصاب القهقرى في قولهم: رجع القهقرى، أو التقدير يسير السير العنق. و ((الفجوة)) الفرجة يريد بها المكان الخالي عن المارة. و ((النص)) السير الشديد، وأصله الاستقصاء والبلوغ غاية الشيء. وقيل: النص فوق العنق. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فإن البر ليس بالإيضاع)) ((تو)): أي ليس البر في الحج، وهو أن يوفق صاحبه في قضاء نسكه بالإصابة، واجتناب الرفث والفسوق، ويتداركه الله بالقبول بالإيضاع، وهو حمل الدابة علي إسراعها في السير، يقال: وضع البعير وغيره، أي أسرع في سيره، وأوضعه راكبه. الحديث الثالث والرابع مضى شرحه في باب حجة الوداع مستقصى.

2608 - وعن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلي الفجر يومئذ قبل ميقاتها. متفق عليه. 2609 - وعن ابن عباس، قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. متفق عليه. 2610 - وعن الفضل بن عباس، وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: ((عليكم بالسكينة)) وهو كاف ناقته حتى دخل محسراً، وهو من منى، قال: ((عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة)). وقال لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة. رواه مسلم. 2611 - وعن جابر قال: أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من جمع وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة وأوضع في وادي محسر، وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف. وقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إلا لميقاتها))، كقوله تعالي: {لا يجليها إلا لوقتها} ((مح)): معناه أنه صلى الله عليه وسلم صلي المغرب في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة، وصلي الفجر يومئذ قبل ميقاتها المعتاد، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر؛ لأن ذلك ليس جائز بإجماع المسلمين، فيتعين تأويله علي ما ذكرته، وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث في بعض رواياته أن ابن مسعود: صلي الفجر حين طلع الفجر بالمزدلفة، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي الفجر هذه الساعة. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أنا ممن قدم)) الراجع إلي الموصول محذوف، أي ممن قدمه. قوله: ((في ضعفة)) أي بعثني في زمرة ضعفاء أهله من النساء والصبيان، فيه دليل علي استحباب تقديم الضعفة حتى لا يتخلفوا، ولا يتأذوا بالاستعجال والازدحام. الجديث السابع والثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: (0بمثل حصى الخذف)) أي صغاراً ((نه)): الخذف هو رميك حصاة أو نواة، تأخذها بين سبابتيك، وترمي بها. قوله: ((لعلي لا أراكم)) (0لعل)) كلمة الترجي، لكن من مثله صلى الله عليه وسلم وارد علي التحقيق. ((مح)) فيه إشارة إلي

((لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)). لم أجد هذا الحديث في الصحيحين إلا في ((جامع الترمذي)) مع تقديم وتأخير. [2611] الفصل الثاني 2612 - وعن محمد بن قيس بن مخرمة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم. وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، هدينا مخالف لهدي عبدة الأوثان والشرك)). [رواه البيهقي في شعب الإيمان وقال فيه: خطبنا وساقه بنحوه]. [2612] 2613 - وعن ابن عباس، قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب علي حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: ((أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [2613] ـــــــــــــــــــــــــــــ توديعه وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحثهم علي الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، ولهذا سميت حجة الوداع. الفصل الثاني الحديث الأول عن محمد بن قيس: قوله: ((كأنها عمائم الرجال)) (0قض)) شبه ما يقع من الضوء علي الوجه طرفي النهار حينما دنت الشمس من الأفق بالعمامة، لأنه يلمع في وجهه لمعان بياض العمامة، والناظر إذا نظر إليه يجد الضوء في وجهه كنور العمامة فوق الجبين، والمعنى: إنا نخالف الجاهليين بتأخير الدفع من عرفة، وتقديمه من مزدلفة، لأن هدينا أي طريقتنا مخالف لطريقتهم، فأخرج العلة مخرج الاستئناف للمبالغة، ووضع المظهر موضوع المضمر للدلالة علي ما هو المقتضى للمخالفة، والداعي إليها – انتهي كلامه-. والإضافة في ((عمائم الرجال)) لمزيد التوضيح، وكذا قوله: ((قبل أن تغرب)) في المرة الثانية زيادة للبيان، والمعنى بوضع المظهر موضوع المضمر قوله: ((عبدة الأوثان)) مقام هديهم، لما يبق من قوله: ((إن أهل الجاهلية)).

2614 - وعن عائشة، قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها. رواه أبو داود. [2614] 2615 - وعن ابن عباس، قال: يلبي المقيم أو المعتمر حتى يستلم الحجر. رواه أبوداود وقال: وروي موقوفاً علي ابن عباس. [2615] الفصل الثالث 2616 - عن يعقوب بن عاصم بن عروة، أنه سمع الشريد يقول: أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعاً. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أغيلمة)) بدل من الضمير في ((قدمنا)) أو تفسير له. ((فا)): الأغيلمة تصغير لغلمة قياساًن ولم يجيئ كما أن أصبية تصغير صبية، ولم يستعمل، وإنما المستعمل صبية وغليمة. قوله: ((علي حمرات)) هي جمع حمار، ويجمع الحمار علي حمير، وحمر، وحمرات، واحمرة. وهي حال من المفعول، أي راكبين علي حمرات. قوله: ((يلطح)) هو بالحاء المهملة، الضرب بالكف ليس بالشديد. قوله: ((أبيني)) ((نه)): قد اختلف في صيغتها ومعناها، فقيل: إنه تصغير ابني، كأعمى وأعيمي، وهو اسم مفرد يدل علي الجمع، وقيل: إن ابناً يجمع علي أبناء مقصوراً، وممدوداً، وقيل: هو تصغير ابن، وفيه نظر. وقال أبو عبيد: هو تصغير بني جمع ابن مضافاً إلي النفس، فهذا يوجب أن تكون صيغة اللفظ في الحديث أبيني بوزن شريحي، وهذه التقديرات علي اختلاف الروايات. ((حس)): فيه دليل علي أنه يجوز للنسوان والصبيان أن يدفعوا من المزدلفة إلي منى قبل طلوع الفجر يوم النحر بعد انتصاف الليل. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فرمت الجمرة)) ((خط)): اختلفوا في رمي الجمرة قبل طلوع الفجر، فأجازه الشافعي ما دام بعد نصف الليل الأول، واحتج بحديث أم سلمة، وقال غيره: إنما هذه رخصة خاصة لها، فلا يجوز أن يرمى بعد الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يجوز قبل ذلك. ((خط)): الأفضل أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، كما جاء في حديث ابن عباس. وقوله: ((فأفاضت)) أي مضت لطواف الإفاضة. الحديث الرابع ظاهر. الفصل الثالث الحديث الأول عن يعقوب: قوله: ((فما مست قدماه الأرض)) عبارة عن الركوب من عرفة إلي الجمع.

(6) باب رمي الجمار

2617 - وعن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير، سأل عبد الله: كيف نصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. فقال عبد الله بن عمر: صدقن إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سالم: وهل يتبعون في ذلك إلا سنته؟! رواه البخاري. (6) باب رمي الجمار الفصل الأول 2618 - عن جابر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي علي راحلته يوم النحر، ويقول: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن شهاب: قوله: ((نزل)) أي بارز، وقاتل ابن الزبير، و ((سأل عبد الله))، أراد به عبد الله بن عمر، وهو أبو سالم الراوي. قوله: ((فهجر بالصلاة)) أي صلها وقت الهجير. ((نه)) الهجير والهاجرة اشتداد الحر نصف النهار، والتهجر، والتهجير، والإهجار السير في الهاجرة. قوله: ((في السنة)) حال من فاعل ((يجمعون)) أي متوغلين في السنة، ومتمسكين بها بضرس قاطع، قاله تعريضاً بالحجاج، ومن ثم قال سالم: ((وهل يتبعون في ذلك إلا سنته)) علي سبيل الحصر بعد الاستفهام، أي ما يتبعون التهجير والجمع، لشيء من الأشياء إلا لسنته، فـ (0سنته)) منصوبة بنزع الخافض، ويجوز أن يكون التقدير لا يتبعون في ذلك إلا سنته. باب رمي الجمار الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لتأخذوا)) ((مح)): هذه اللام هي لام الأمر، ومعناه خذوا مناسككم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال، والهيئات هي أمور الحج، وهي مناسككم، فخذوا عني واقبلوها، واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس. وفيه دلالة علي ما قاله الشافعي وموافقوه: إنه يستحب لمن وصل منى راكباً أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، ولو رماها ماشياً جاز، وأما من وصلها ماشياً، فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النحر، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق، فالسنة أن يرمي فيها جميع الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً. وقال أحمد وإسحاق: يستحب يوم النحر أن يرمي ماشياً.

2619 - وعنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بمثل حصى الخذف. رواه مسلم. 2620 - وعنه، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس. متفق عليه. 2621 - وعن عبد الله بن مسعود: أنه انتهي إلي الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة. متفق عليه. 2622 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، والطواف تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: أدخل اللام علي أمر المخاطب كما في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فبذلك فلتفرحوا} – الكشاف-: ((فلتفرحوا)) بالتاء هو الأصل والقياس. وقال: إنما آثر القراءة بالأصل؛ لأنه أدل علي الأمر بالفرح، وأشد تصريحاً به إيذاناً بأن الفرح بفضل الله وبرحمته بليغ التوصية به، وإلي هذا المعنى أشار الشيخ محي الدين بقوله: ((فخذوا عني واقبلوها، واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس)). قال ابن جني: أصل الأمر أن يكون بحرفه، وهو اللام، فأصل ((اضرب)) لتضرب، كما هو الغالب، لكن لما كثر أمر الحاضر حذفوه تخفيفاً، والذي حسن التاء هاهنا علي الأصل، أنه أمر للحاضرين بالفرح، لأن النفس تقبل الفرح، فذهب به إلي قوة الخطاب، ولا تقل قياساً علي ذلك ((فبذلك فلتحزنوا))؛ لأن الحزن لا تقبله النفس إلا أن براد بها التهكم والصغار. ويجوز أن تكون اللام للتعليل والمعلل محذوف، و ((لعلي)) مستأنف، أي لا أدري ما يفعل بي، أي أظن إني لا أحج، ويحتمل أن يكون للتحقيق، كما يقع في كلام الله تعالي كثيراً. الحديث الثاني إلي الرابع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((سورة البقرة)) ((حس)): إنما ذكر سورة البقرة؛ لأن معظم المناسك مذكور فيها. أقول: عدوله من التسمية، والوصف برسول الله ونحوه إلي الموصول وصلته، لزيادة التقرير، والاعتناء بشأن الفعل، كما في قوله تعالي: {وراودته التي هو في بيتها}.

الفصل الثاني 2623 - عن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر علي ناقة صهباء، ليس ضرب ولا طرد، وليس قيل: إليك إليك. رواه الشافعي، والترمذي، والنسائي. وابن ماجه والدارمي. [2623] 2624 - وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله)). رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [2624] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الاستجمار تو)) ((مح)): التو- بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو- الوتر، والمراد بـ ((الاستجمار)) الاستنجاء. قال القاضي عياض: قوله في آخر الحديث: ((وإذا استجمر أحدكم فليستجمر)) ليس بتكرير، بل المراد بالأول الفعل، وبالثاني عدد الأحجار. والمراد ((بالتو)) في الجمار سبع، وفي الطواف والسعي سبع سبع، وفي الاستنجاء ثلاث. الفصل الثاني الحديث الأول عن قدامة: قوله ((صهباء)) ((نه)): الأصهب الذي يعلو لونه صهبة، وهي كالشقرة. و ((إليك إليك)) أي تنح وابعد، وهذا كما يقال: الطريق الطريق، وتكريره للتأكيد، المعنى لا ضرب هناك، ولا قول: إليك إليك. ((قض)): أي ضم إليك ثوبك، وتنح عن الطريق. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إنما جعل رمي الجمار)) ((فا)): في الحديث أن آدم عليه السلام رمى إبليس بمنى، فأجمر بين يديه، فسميت الجمار به الجمار، أي أسرع. أقول: قد مر أن ((إنما)) وضعت للحصر، وإثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما سواه، فدل الحديث علي أن شرعية السعي والرمي ليست إلا لإقامة ذكر الله لا غير، فالعاقل الفطن إذا تفكر في السعي والرمي يتحير، ولم يفهم منهما شيئاً إلا التعبد المحض، ويرى عقله وفطنته معزولين مضمحلين عند تلك الحركات، فلا يرى غير الله، ولا يذكر سواه، فيتقرر عند ذلك معنى قوله تعالي: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} فإذا كان القصد في مثل تلك الحركات، هو ذكر الله تعالي، فما بال غيرها من الحركات المناسبة له؟ والله أعلم.

(7) باب الهدي

2625 - وعنها، قالت: قلنا: يا رسول الله! ألا نبني لك بناء يظلك بمنى؟ قال: ((لا، منى مناخ من سبق)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [2625] الفصل الثالث 2626 - عن نافع، قال: إن ابن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا يكبر الله، ويسبحه، ويحمده، ويدعو الله، ولا يقف عند جمرة العقبة. رواه مالك. [2626] (7) باب الهدي الفصل الأول 2627 - عن ابن عباس، قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به علي البيداء أهل بالحج. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عناه: قوله: ((منى مناخ من سبق)) ((مظ)): المناخ موضع إناخة الإبل، يعني أفتأذن أن نبني لك بيتاً في منى لتسكن فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا)) لأن منى ليس مختصاً بأحد، إنما هو موضع العبادة من الرمي، وذبح الهدي، والحلق، ونحوها، فلو أجيز البناء فيها، لكثرت الأبنية ويضيق المكان، وهذا مثل الشوارع، ومقاعد الأسواق. وعند أبي حنيفة: أرض الحرم موقوفة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قهراً، وجعل أرض الحرم موقوفة، فلا يجوز أن يتملكها أحد. ((خط)): إنما لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البناء لنفسه والمهاجرين بمنى، لأنها دار هاجروا منها لله، فلم يختاروا أن يعودوا إليها، أو يقيموا فيها. أقول: قوله: ((منى مناخ من سبق)) جملة مستأنفة لبيان موجب عدم البناء، والمناسب للتعليل قول أبي حنيفة والخطابي. الفصل الثالث: ظاهر. باب الهدي الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ثم دعا بناقته)) ((تو)): أراد ناقته التي

2628 - وعن عائشة [رضي الله عنها ي قالت: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة إلي البيت غنماً فقلدها. متفق عليه. 2628 - وعن جابر، قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر. رواه مسلم. 2630 - وعنه، قال: نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في حجته. رواه مسلم. 2631 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: فتلت قلائد بدون النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها وأشعرها، وأهداها، فما حرم عليه شيء كان أحل له. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أراد أن يجعلها في هداياه، فاختصر الكلام، أو كانت هذه الناقة من جملة رواحله، فأضافها إليه. وأشعر الهدي إذا طعن في سنامه الأيمن، حتى يسيل منه دم، ليعلم أنه هدي، من قولهم: شعرت كذا، أي علمت. قوله: ((وسلت الدم)) أي أماطه. ((فا)): سلت مسح، وأصل السلت القطع، والقشر، وسلت القصعة لحستها، وسلتت المرأة خضابها، إذا أزالته. ((قض]]: كان من عادة أهل الجاهلية إشعار الهدي، وتقليده بنعل أو عروة، أو لحاء شجرة، أو غير ذلك؛ ليشعر بأنه هدي خارج عن ملك المهدي، فلا يتعرض له السراق، وأصحاب الغارات، فلما جاء الإسلام ورأي غرضهم في ذلك معنى صحيحا، قرر ذلك. ((مح)): إشعار الهدي لكونه علامة له مستحب، ليعلم أنه هدي، فإن ضل رد، وإن اختلط تميز، ولأن فيه إظهار شعار، وفيه تنبيه علي فعل مثل فعله. ((وصفحة السنام)) جانبه، هي مؤنثة، فتذكير الأيمن متأول بأنه وصف للمعنى لا للفظ، فكأنه قيل: جانبها الأيمن، وفيه استحباب الإشعار والتقليد في الهدايا من الإبل، وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف. وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعة، لأنه مثله، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة المشهورة في الإشعار. وأما قولهم: إنه مثله، فليس كذلك، بل هذا كالقصد، والحجامة، والختان، والكي، والوسم. والسنة أن يشعر في الصفحة اليمنى، وقال مالك: في الصفحة اليسرى، والحديث يرده. واتفقوا علي أن الغنم لا تشعر لضعفها، ولأنه يستر بالصوف، وأما تقليده فسنة خلافاً لمالك، والبقر يستحب عند الشافعي وموافقيه الجمع فيها بين الإشعار والتقليم. الحديث الثاني والثالث والرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه)) و ((عن)) مثلها في قوله تعالي:} وما فعلته عن أمري {أي نحر من جهتهن صلى الله عليه وسلم ولأجلهن. ((مح)): هذا محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم استأذنهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا تجوز إلا بإذنه.

2632 - وعنها، قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي، ثم بعث بها مع أبي. متفق عليه. 2633 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يسوق بدنة، فقال: ((اركبها)). فقال: إنها بدنة. قال: ((اركبها)). فقال: إنها بدنة. قال: ((اركبها ويلك)) في الثانية أو الثالثة. متفق عليه. 2634 - وعن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي. فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من عهن)) ((نه)): العهن الصوف الملون، الواحدة عهنة. ((مح)): في الحديث دليل علي استحباب الهدي إلي الحرم- وإن لم يذهب إليه- واستحباب تقليده وإشعاره، وأن الباعث لا يصير محرماً، فلا يحرم عليه شيء مما يحرم علي المحرم. وهذا مذهب الجمهور إلا ما حكي عن ابن عبار، وابن عمر، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وحكي الخطابي أيضاً عن أهل الرأي: أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرما، والصحيح ما قاله الجمهور؛ للأحاديث الصحيحة. قوله: ((ثم بعث بها مع أبي)) ((قض)): تريد بالبدن البدن التي أهداها، وبعث بها مع أبي بكر في العام السابق علي العام الذي حج فيه بنفسه، وقولها: ((فما حرم عليه شيء)) إنما قالته ردا لما بلغها من فتيا ابن عباس فيمن بعث هدايا إلي مكة أنه يحرم عليه ما يحرم علي المحرم، حتى يبلغ الهدي محله وينحر. الحديث السابع والثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((سئل)) حال عن ((جابر)) وأصل الكلام: سمعت سؤال سائل عن جابر، ونظيره قوله تعالي:} سمعنا مناديا ينادي {، والأصل سمعت نداء مناد، فأوقع الفعل علي المنادي، وجعل المسموع حالا. قوله: ((اركبها)) ((حس)): فيه دليل علي أن من ساق بدنة هديا جاز له ركوبها غير مضر بها، وله الحمل عليها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وذهب قوم إلي أنه لا يركبها إلا أن يضطر إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها)). ويجوز شرب لبنها بعد الفضل عن ري الولد، أقول:

2635 - وعن ابن عباس [رضي الله عنهما]، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر بدنة مع رجل وأمره فيها. فقال: يارسول الله كيف أصنع بما أبدع علي منها؟ قال: ((انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعلها علي صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك)) رواه مسلم. ((حتى تجد)) غاية، ومتعلقها جواب الشرط المحذوف الدال عليه قوله: ((اركبها بالمعروف)). ويجوز أن تكون ((إذا)) ظرفا، والحديث الأول مطلق، والثاني مقيد، والمطلق محمول علي المقيد. ((مح)): مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج، ولا يركبها من عير حاجة، وإنما يركبها بالمعروف من غير إضرار، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة، وهو رواية عن مالك، وقال عروة بن الزبير ومالك في الرواية الأخرى وأحمد وإسحاق: له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضر بها، وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا. وأما قوله: ((ويلك اركبها)) فهي كلمة تقال فيمن وقع في هلكة، وقيل: هي كلمة تجري علي اللسان من غير قصد إلي ما وضعت له أولا من الدعاء عليه، كقولهم: لا أبا له، وتربت يداه، وما أشبه ذلك. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله ((ستة عشر بدنة)) وفي المصابح ((ستة عشرة)) وجاز الأمران؛ لأن البدنة يستوي فيها الذكر والأنثى. قوله: ((مع رجل)) (قض) قيل: إنه ناجية بن جندب الأسلمي، ((وأمره فيها)) أي جعله أميرا فيها، ((بما أبدع علي)) أي عطب، من قولهم: أبدعت الراحلة، إذا انقطعت عن السير بكلال أو ضلع، كأنها بانقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير أمرا خارجا عما اعتيد منها وألف، وحذف الراجع إلي الموصول الذي هو فاعل ((أبدع)) وبنى الفعل للمفعول، وأسند إلي الجار والمجرور الأول، كما أسند في نحو سير بزيد. وإنما جاز وقوع هذه الجملة صلة، وهي خالية عن الراجع؛ لأنها في معنى عطب المتضمن له، وقد جاءت الرواية به، ونظيرة: هذا حلو حامض، فإن كل واحد منهما حال عن الراجع، لعدم استقلاله، وإنما صح وقوع المجموع خبراً؛ لأنه في معنى [المر] * المتضمن له. وإنما قال: ((علي)) والمستعمل أبدع لي؛ لأن عطب كل عليه، وللفرق بين انقطاع الراحلة وانقطاع ما يسوقه. وقوله: ((اصبغ نعليها)) وقد ضمن معنى اغمس، وعداه بـ ((في)) أي اغمس النعلين المقلد بهما، ونهي السائق ورفقته عن الأكل منها، قطعا ُ لأطماعهم حتى لا يحملهم القرم** علي اللحم علي الاستعجال في النحر، ودفعاً للتهمة عنهم، ولهذا إذا أبدع علي المالك في الطريق ويذبحه ليس له، ولا لأحد من أهل رفقته أن يأكلوا منه، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، إذا كان هدياً أوجبه علي نفسه، فإن كان تطوعاً فله أن يتموله ويأكل منه ولا شيء عليه.

2636 - وعن جابر، قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم. 2637 - وعن ابن عمر: أنه أتى علي رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مذهب الشافعي وغيره من أهل العلم؛ فإن مجرد التقليد لا يخرجه عن ملكه وتصرفه إلي أن ينحر. وعن بعض المالكية أن التقليد كالإيجاب، فيذبحه ولا يحل له ولا لرفقته أكل شيء منه، إن أكله هو أو واحد من رفقته حيث لم يجز له لزمه الغرم. ((مح)) المراد من الرفقة جميع القافلة؛ لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيهم إياه. فإن قيل: إذا لم يجز للرفقة أكله وترك في البادية، كان طعمة للسباع، وهو إضاعة المال. قلنا: ليس كذلك؛ لأن العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتبعون منازل الحجيج ومسالكهم؛ لالتقاط ساقط ونحوه، وقد تأتي قافلة في إثر قافلة فيحل لهم أكله. الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((البدنة)) ((مح)): البدنة تطلع علي البعير والبقرة والشاة، لكن غالب استعمالها في البعير، وفي دليل علي جواز الاشتراك في الهدي، وفيه اختلاف، فمذهب الشافعي جواز الاشتراك، سواء كان تطوعاً أو واجباً، وسواء تقربوا كلهم، أو بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم، وبهذا قال أحمد وجمهور العلماء. وقال داود وبعض المالكية: يجوز الاشتراك في التطوع دون الواجب، وقال مالك: لا يجوز مطلقاً. وقال أبو حنيفة: يجوز إن كانوا كلهم متقربين وإلا فلا. وأجمعوا علي أنه لا يجوز الاشتراك في الغنم. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قياما ً)) ((قض)) قياماً بمعنى قائمة، وقد صحت الرواية بها أيضاً، وانتصابه علي الحال، والعامل فعل محذوف دل عليه قرينة الحال، أي انحرها قائمة مقيدة. و ((سنة)) نصب بمعامل مضمر علي أنه مفعول به، والتقدير فاعلا بها أو مقتفيا ً في نحرها سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مصدر دل علي فعله مضمون الجملة السابقة. ((تو)) ولا يصح أن يجعل العامل في ((قياماً)) ((ابعثها))؛ لأن البعث إنما يكون قبل القيام، واجتماع الأمرين في حالة واحدة غير ممكن. أقول: يحتمل أن يكون حالا مقدرة، فيجوز تأخره عن العامل، كما في التنزيل:} فبشرناه بإحساق نبيا من الصالحين {، أي ابعثها مقدراً قيامها وتقييدها ثم انحرها. ((مح)): يستحب أن تنحر الإبل وهي قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم مضطجعة علي جنبها الأيسر، وتترك رجلها.

2638 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم علي بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها قال: ((نحن نعطيه من عندنا)) متفق عليه. 2639 - وعن جابر، قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كلوا وتزودوا))، فأكلنا وتزودنا. متفق عليه. الفصل الثاني 2640 - عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، في رأسه برة من فضة- وفي رواية: من ذهب_ يعيظ بذلك المشركين رواه أبو داود. [2640] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أمرني)) ((مح)): في الحديث فوائد كثيرة: منها: استحباب سوق الهدي، وجواز النيابة في نحره وتفرقته، وأنه يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وأنها تجلل، ويستحب أن يكون جلالها حسنة، وأنه لا يعطى الجزار منها؛ لأن عطيته عوض عن عمله، فيكون في معنى بيع جزء منها، وذلك لا يجوز، وفيه جواز الاستئجار علي النحر ونحوه. ومذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والأضحية، ولا شيء من أجزائها، ولكن إذا كان تطوعا ً فله الانتفاع بالجلد وغيره باللبس. وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأحمد وإسحاق: أنه لا بأس ببيع جلد هدية والتصدق بثمنه. وقال. النخعي والأوزاعي: لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها. ((حس)): إذا أعطى الجزاء من اللحظ للأجرة لم يجز، وإما إذا تصدق عليه بشيء منه فلا بأس به. وقال الحسن البصري: لا بأس أن يعطى الجزار الجلد. الحديث الثالث عشر عن جبار رضي الله عنه: قوله: ((فوق ثلاث)) ((مظ)): نهي أولا أن يؤكل من لحم الهدي والأضحية فوق ثلاثة أيام، ثم رخص لهم أن يأكلوا من التطوع، وأما الواجب بالشرع من الهدي كدم التمتع والقران والواجب بإفساد الحج وفواته، وجزاء الصيد، فلا يجوز للمهدي أن يأكل منها شيئاً، بل عليه التصدق عند بعض أهل العلم، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((عام الحديبية)) ((قض)): هي السنة السادسة من الهجرة، توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة للعمرة؛ فأحصره المشركون بالحديبية،

2641 - وعن ناجية الخزاعي، قال: قلت: يا رسول الله! كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: ((انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلونها)) رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه. [2641] 2642 - ورواه أبو داود، والدرامي، عن ناجية الأسلمي. [2642] 2643 - وعن عبد الله بن قرط [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)). قال ثور: وهو اليوم الثاني. قال: وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه، بأيتهن يبدأ قال: فلما وجبت جنوبها. قال: فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها. فقلت: ما قال؟ قال: ((من شاء اقتطع)). رواه أبو داود. [2643] وذكر حديثاً ابن عباس، وجابر في ((باب الأضحية)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وهي من أطراف الحل. و ((جملا)) نصب بـ ((أهدى))، و ((في هدايا)) صلة له، وكان حقه أن يقول: في هداياه، فوضع المظهر موضع المضمر، وكان ذلك مع أبي جهل يوم بدر، فاغتنم. ((وفي رأسه برة فضة)) أي في أنفه حلقة فضة، فإن البرة هي الحلقة التي تجعل في أنف البعير، لكن لما كان الأنف من الرأس، قال: ((في رأسه)) علي الاتساع. قوله: ((برة)) ((نه)): هي حلقة تجعل في لحم الأنف، وربما كانت من شعر، وأصلها بروة كفروة، ويجمع علي برى وبرات وبرين بضم الباء. أقول: لعل قوله: ((في هدايا رسول الله)) حال من جملا أي ((جملا)) كائنا في جملة هداياه، قدم اهتماماً، ولذلك وضع المظهر موضع المضمر تعظيما للهدايا وتفخيما لشأنها، وأن المهدي من هو رسول الله وحبيبه من الله تعالي بمكان، والمقام اقتضى ذلك لغيظ الكفار، وتصديقاً لوعد الله من الفتح والظفر في العام القابل، قال تعالي:} ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل – إلي قوله- فاستغلظ فاستوى علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعدالله الذين آمنوا {. الحديث الثاني عن ناجية: قوله: ((بين الناس)) التعريف فيه للعهد، والمراد بهم الذين يتبعون القافلة ويلتمسون الساقطة، أو جماعة غيرهم من قافلة أخرى. قوله: ((فيأكلونها)) الظاهر إسقاط النون بإضمار ((أن)) في جواب الأمر لكن التقدير: فهم يأكلونها علي المبتدأ أو الخبر. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر)) ((تو)): فإن قيل: قد ورد من الأحاديث الصحاح في فضل يوم عرفة ما قد دل علي أنه أفضل الأيام؛ فكيف التوفيق

الفصل الثالث 2644 - عن سلمة بن الأكوع، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ضحى منكم، فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء)). فلما كان العام المقبل قالوا: يارسول الله! نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: ((كلوا، وأطعموا، وادخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيهم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بينهما؟ قلنا: إنا قد وجدنا في الحديث الصحيح ما قد دل علي أن الأيام العشر أفضل الأيام؛ لأنها أحب الأيام إلي الله، فيكون معنى قوله: ((أفضل الأيام يوم النحر)) أي من أفضل الأيام. كما يقال: فلان أعقل الناس وأعلمهم أي من أعقل الناس وأعلمهم. قوله: ((يوم القر)) ((نه)): هو الغد من يوم النحر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون ويقيمون. ((حس)): سمي به لأن أهل الموسم يوم التروية وعرفة والنحر في تعب من الحج؛ فإذا كان الغد من يوم النحر قروا بمنى. ((قال ثور)) هو أحد من الرواة. قوله: ((يزدلفن)) أي يقربن منه يفتعلن من القرب، فأبدلت التاء دالا لأجل الزاي. ((مظ)): أي تسعى كل واحدة من تلك البدن إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينحرها قيل: استلذاذاً واعتداداً ببركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((بأيتهن يبدأ)) الباء في ((بأيتهن)) صلة ((يبدأ)) والاستفهام متأول بجوابه أي تتوخى كل واحدة قربه لي الله عليه وسلم وأنه بأشرفها وأكملها أو بأتوقها إلي إزهاق نفسها، وأنزعها إلي الفداء يبدأ، والجملة حال مؤكدة من ((يزدلفن)) أي يزدلفن متقربات به. قوله: ((فلما وجبت)) ((تو)): الوجوب السقوط، من وجب الحائط إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة، إذا غربت، وهو مقتبس من قوله تعالي:} فإذا وجبت جنوبها {وفيه من البلاغة ما لا يخفي، وذلك أنه تعالي ذكر البدن وعظم شأنها، ثم أشار بمقتضى اللفظ إلي أنها تنحر قياما، فإن وجوب الجنوب منها إنما يتصور إذا كانت قائمة، وتلك السنة فيها. قوله: ((فتكلم)) عطف علي ((وجبت))، و" قال " كلام الراوي. وقوله: ((فقلت: ما قال)) أي قال الراوي: سألت الذي يليه: ما قال؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((من شاء اقتطع)) أي هدى المهدي – للمحتاجين، ((ومن شاء اقتطع)) ((حس)): فيه دليل علي جواز هبة المشاع؛ وعلي جواز أخذ النثار في عقد الأملاك؛ وأنه ليس من النهب الذي نهي عنه. وكرهه بعض العلماء خوفاً من أن يدخل فيما نهي عنه من النهبى. الفصل الثالث الحديث الأول عن سلمة: قوله: ((جهد)) ((نه)): بالضم الوسع والطاقة، وبالفتح المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة؛ فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير. قوله: ((أن تعينوا فيهم)) أي تعينوهم؛ فجعل المتعدي منزلة اللازم، وعداه بقي مبالغة، أي أردت أن توقعوا الإعانة فيهم، وتجعلوهم مكانا لها لشدة احتياجهم وافتقارهم، نحو قوله

(8) باب الحلق

2645 - وعن نبيشة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم. جاء الله بالسعة، فكلوا، وادخروا، وأتجروا. ألا وإن هذه الأيام، أيام أكل وشرب، وذكر الله)). رواه أبو داود. [2645] (8) باب الحلق الفصل الأول 2646 - عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي:} وأصلح لي في ذريتي {. ولعل هذا ليس بنسخ؛ لإمكان الجميع بين الأمرين، فيكون الثاني رخصة. الحديث الثاني عن نبيشة: قوله: ((أن تأكلوها)) بدل اشتمال من ((لحومها)). قوله: ((لكي تسعكم)) ((نه)): وسعه الشيء يسعه سعة فهو واسع، والوسع والسعة الجدة والطاقة، ومنه الحديث ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)) أي لا تتسع أموالكم لعطائهم فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم. أقول: فالضمير المرفوع في ((تسعكم)) للحوم، أي نهيتكم عن أكلها ليتسع عليكم فتؤتوها المحتاجين، يدل عليه قوله: ((جاء الله بالسعة)) أي علي المحتاجين، فوافق هذا التأويل معنى الحديث السابق. قوله: ((وأتجروا)) أمر من الأجر، أي اطلبوا به الأجر والثواب، ولو كان من التجارة لكان بتشديد التاء، والتجارة في الضحايا لا تصح؛ لأن بيعها فاسد، إنما تؤكل ويتصدق منها. قوله: ((أيام أكل وشرب وذكر الله)) التنكير فيهما للنوع، أي سعة وإباحة فيهما، ثم أتبعهما بذكر الله صيانة عن التلهي والتشهي كالبهائم، بل يكونان إعانة علي ذكر الله وطاعته، والله أعلم بالصواب. باب الحلق الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قصرت من رأس النبي صلى الله عليه وسلم)) ((قض)): كان هذا في عمرة؛ لأن الحاج يحلق بمنى، فلا يعارض ما روى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع، ولعل ذلك كان في عمرة الجعرانة، اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح

2647 - وعن ابن عباس، قال: قال لي معاوية: إني قصرت من رأس النبي صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص. متفق عليه 2648 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في حجة الوداع: ((اللهم ارحم المحلقين)). قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: ((اللهم ارحم المحلقين)). قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: ((والمقصرين)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مكة، وأراد الرجوع منها في السنة الثامنة من الهجرة، أو عمرة القضاء، إن صح ما روى عنه: إنى أسلمت عام القضية، والأصح أنه أسلم عام الفتح. قوله: ((المشقص)) ((نه)): المشقص نصل طويل ليس بالعريض، وقيل: هو سهم له نصل عريض وقيل: أراد هاهنا به الحلم، وهو الذي يجز به الشعر والصوف، وهو أشبه بهذا الحديث. ((مح)): يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج؛ ليقع الحلق في أكمل العبادتين. الحديث الثاني والثالث والرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قالوا: والمقصرين)) هو من العطف التلقيني، يعني يا رسول الله! ضم المقصرين إليهم، وقل اللهم ارحم المحلقين والمقصرين، نحو قوله تعالي:} إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي {((الكشاف)): ((ومن ذريتي)) عطف علي الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك: سأكرمك فتقول: وزيداً. ((نه)): إنما خص المحلقين أولاً بالدعاء دون المقصرين، وهم الذين أخذوا من أطراف شعورهم ولم يحلقوا-؛ لأن أكثر من أحرم مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم هدى؛- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدى، ومن معه هدى فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ليس معه هدى أن يحلق ويحل، ووجدوا في أنفسهم من ذلك، وأحبوا أن يأذن لهم في المقام علي إحرامهم حتى يكملوا الحج،- وكانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولي بهم-، فلما لم يكن لهم بد من الإحلال كان التقصير في نفوسهم أخف من الحلق، فمال أكثرهم، وكان فيهم من بادر إلي الطاعة، وحلق ولم يراجع؛ فلذلك قدم المحلقين وأخر المقصرين. ((مح)): هذا في حجة الوداع، وهو الصحيح المشهور، وحكى القاضي عياض عن بعضهم: أن هذا كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق، فلم يفعلوا طمعاً دخول مكة يومئذ. وعن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء. قيل:

2649 - وعن يحى بن الحصين، عن جدته، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة. رواه مسلم. 2650 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق، وناول الحالق شقه الأيمن، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناول الشق الأيسر، فقال: ((احلق)) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: ((اقسمه بين الناس)). متفق علية. ـــــــــــــــــــــــــــــ يا رسول الله! ما بال المحلقين، ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: ((لأنهم لم يشكوا)). ووجه فضيلة الحلق علي التقصير أن المقصر مبق علي نفسه الزينة من الشعر، والحاج مأمور بترك الزينة؛ ولأنه أدل علي صدق النية في التذلل لله تعالي. والمذهب المشهور أن الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة، وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما إلا به، وعليه اتفقت الجمهور. وللشافعي قول شاذ ضعيف: أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك، والصواب الأول، والمشروع في حق النساء التقصير، وأقله ثلاث شعرات، ويكره لهن الحلق والأفضل في الحلق والتقصير أن يكون بعد رمي جمرة العقبة، وقد ذبح الهدي عن كان معه سواء كان قارناً أو مفرداً. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نحر نسكه)) ((تو)): نسك جميع نسيكة، وقيل: مصدر، والمصادر تقام مقام الأسماء المشتقة منها، فتطلق علي الواحد والجمع، وأكثر ما نجده في الحديث بتخفيف السين، وفي الحديث يجوز أن يحمل علي الواحد؛ لأنه كان ينحر الواحد بعد الواحد، ويجوز أن يحمل علي الجمع؛ لأنه تحر يومئذ بيده ثلاثاً وستين بدنة، وكأنه راعي بهذه العدة سني عمره صلى الله عليه وسلم. وإنما قسم الشعر في أصحابه؛ ليكون بركة باقية بين أظهرهم وتذكره لهم، وكأنه أشار بذلك إلي اقتراب الأجل وانقضاء زمان الصحبة، وأرى أنه خص أبا طلحة بالقسمة التفاتاً إلي هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن. ((مح)): اختلفوا في اسم الحلاق، والصحيح المشهور أنه معمر بن عبد الله العدوى. وقيل: اسمه فراس بن أمية بن ربيعة الكلبي بضم الكاف. وفيه استحباب بدئه الحلق بالجانب الأيمن، وقال أبو حنيفة: يبدأ بالجانب الأيسر. وفيه أن شعر الآدمي طاهر، وهو الصحيح. وفيه جواز التبرك بشعره واقتنائه، ومواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم من عطائه. قوله: ((شقه الأيمن [فحلقة] *)) أي قال: احلق فحلقه، تدل علي المحذوف القرينة الآتية. فإن قلت: لم حذف في الأولي وذكر في الثانية؟ قلت: ليدل علي سرعة امتثال الحالق،

(9) باب [في التحلل ونقلهم بعض الأعمال علي بعض]

2651 - وعن عائشة [رضي الله عنها))، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. متفق عليه. 2652 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر. ثم رجع، فصلي الظهر بمنى. رواه مسلم. الفصل الثاني 2653 - عن علي وعائشة [رضي الله عنهما]. قالا: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها. رواه الترمذي. [2653] 2654 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس علي النساء الحلق؛ إنما علي النساء التقصير)) رواه أبو داود، والدرامي. [2654] (9) باب [في التحلل ونقلهم بعض الأعمال علي بعض] الفصل الأول 2655 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل، فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأنه كما أمر امتثل، نحوه قوله تعالي:} قلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت {كأنه طمع أن يعطى المحلوق، فلما آثر عليه أبا طلحة تقاعد عن سرعة الامتثال في المرة الثانية، والله أعلم. والحديث السادس إلي آخر الفصل الثاني غنى عن الشرح. باب الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((يسألونه)) يحتمل أن يكون حالا ً من فاعل ((وقف)) أي وقف صلى الله عليه وسلم، مسئولا، وأن يكون من ((الناس)) أي وقف لهم سائلين عنه، ويجوز أن يكون استئنافاً بياناً لعله الوقوف، وينصره الرواية الأخرى لمسلم: ((وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي راحلته

فقال: ((اذبح ولا حرج)). فجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال: ((ارم ولا حرج)). فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: أتاه رجل، فقال: حلقت قبل أن أرمي. قال: ((أرم ولا حرج)). وأتاه آخر، فلقال: أفضت إلي البيت قبل أن أرمي. قال: ((أرم ولا حرج)). 2656 - وعن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: ((لا حرج))، فسأله رجل، فقال: رمين بعد ما أمسيت. فقال: ((لا حرج)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فطفق ناس يسألونه)). قوله: ((لم أشعر فحلقت)) الفاء سببية، جعل الحلق مسبباً عن عدم شعوره، كأنه يعتذر لتقصيره. ((مح)): قد تقرر أن أفعال يوم النحر أربعة: رمى جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة؛ فإن السنة أن تكون مرتبة علي هذا النسق، فلو خولفت وقدم بعضها علي بعض جاز، ولا فدية عليه لهذه الأحاديث، وبهذا قال جماعة من السلف، وهو مذهبنا، وللشافعي قول ضعيف: أنه إذا قدم الحلق علي الرمى والطواف لزمه دم. ((قض)): اختلف في أنه سنة لا شيء في تركه أو واجب يتعلق الدم بتركه؟ وعلي الأول ذهب أكثر علماء الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق؛ لهذا الحديث وأمثاله، وإلي الثاني مال ابن جبير، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وأولوا قوله: ((ولا حرج)) علي رفع الإثم لجهله دون الفدية. ويدل علي هذا أن ابن عباس رضي اله عنهما روى مثل هذا الحديث، وأوجب الدم، فلولا أنه فهم ذلك وعلم أنه المراد لما أمر بخلافه. قوله: ((قدم ولا أخر)) لابد من تقدير لا في الأول؛ لأن الكلام الفصيح قلما تقع لا الداخلة علي الماضي فيه إلا مكررة، وشاع ذلك لأن الكلام في سياق النفي، ونظيره قوله تعالي:} ما أدري ما يفعل بي ولا بكم {. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((كان يسأل يوم النحر)) أي لم يزل يسأل، يدل عليه قوله في الحديث السابق: ((فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج)). قوله: ((بعدما أمسيت)) أي بعد العصر. ((مظ)): آخر وقت الرمى يوم النحر

(10) باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق والتوديع

الفصل الثاني 2657 - عن علي، قال: أتاه رجل، فقال: يا رسول الله! إني أفضت قبل أن أحلق: فقال: ((احلق أو قصر ولا حرج)). وجاء آخر، فقال: ذبحت قبل أن أرمي قال: ((ارم ولا حرج)) رواه الترمذي. [2657] الفصل الثالث 2658 - عن أسامة بن شريك، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، أو أخرت شيئاً أو قدمت شيئاً، فكان يقول: ((لا حرج إلا علي رجل اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك)) رواه أبو داود. [2658] (10) باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق والتوديع ـــــــــــــــــــــــــــــ غروب الشمس من يومه، فإذا غربت فات، ولزمه دم في قول، وأول وقت رمي هذا اليوم بعد نصف ليلة النحر عند الشافعي، وبعد طلوع فجر يوم النحر عند أبي حنيفة ومالك وأحمد. الفصل الثاني والفصل الثالث الحديث الأول عن أسامة: قوله: ((فكان الناس)) الفاء تقتضي مقتدرات شتى، أي خرجت حاجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كيت وكيت، وقضينا مناسكنا فكان الناس يأتونه فيسألونه، فالفاء في ((فمن قائل)) تفصيلية، والأولي فصيحة، و ((من)) تبعيضيه. قوله: ((إلا علي رجل)) استثناء منقطع بمعنى لكن. قوله: ((اقترض)) ((نه)): أي نال منه وقطعه بالغيبة، وهو افتعال من القرض القطع. أقول: انظر أيها المتأمل في تشديد أمر الغيبة واختصاصه في هذا المقام دون سائر الآثام. وتقييده بقوله: ((وهو ظالم)) إشارة إلي ما أبيح فيه من الذنب بالجرح، عما روى من الأحاديث ومن الشهادات في القضايا وغير ذلك. وقوله: ((وهو ظالم)) يحتمل وجهين أن يكون حالا مؤكدة، وأن تكون مستقلة. وذلك علي تقدير أن يكون بعض المقترضين غير ظالم، مثل جرح غير المعدلين، و ((فذلك)) فذلكة للتفصيل السابق. باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق، والتوديع قوله: ((التوديع)) عطف علي التشريق، أي أيام النفر التي تستتبع طواف الوداع وأنشد:

الفصل الأول 2659 - عن أبي بكرة [رضي الله عنه] قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)). وقال: ((أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فلما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح أخدنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح الفصل الأول الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((خطبنا)) ((غب)): الخطب والمخاطبة والتخاطب، المراجعة في الكلام، ومنه الخطبة والخطبة، لكن الخطبة مختصة بالموعظة، والخطبة بطلب المرأة. ((تو)): والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره، وأراد به هاهنا السنة- انتهي كلامه. وذلك أن قوله: ((السنة اثنا عشر شهرا ً)) إلي آخرة جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولي، فالمعنى: أن الزمان في انقسامه إلي الأعوام، والأعوام إلي الأشعر عاد إلي أصل الحساب والوضع. الذي اختاره الله ووضعه يوم خلق السموات والأرض. والهيئة صورة الشيء وشكله وحالته، والكاف صفة مصدر محذوف، أي استدار استدارة مثل حالته يوم خلق الله. ((نه)): يقال: دار يدور واستدار يستدير، بمعنى إذا طاف حول الشيء، وإذا عاد إلي الموضع الذي ابتدأ منه. ومعنى الحديث أن العرب كانوا يؤخرون المحرم إلي صفر، وهو النسيء المذكور في القرآن في قوله تعالي:} إنما النسيء زيادة في الكفر {ليقاتلوا فيه، ويفعلون ذلك كل سنة بعد سنة، فينتقل المحرم من شهر إلي شهر حتى جعلوه في جميع شهور السنة، فلما كانت تلك السنة قد عاد إلي زمنه المخصوص به قبل، ودارت السنة كهيئتها الأولي. ((حس)): قال بعضهم: إنما أخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج مع الإمكان ليوافق أهل الحساب، فحج معه حجة الوداع. قوله: ((ثلاث متواليات)) إنما حذف التاء من العدد باعتبار أن الشهر الذي هو واحد الأشهر بمعنى الليالي، فاعتبر لذلك تإنيثه. قوله: ((ووجب مضر)) عطف علي قوله ((ثلاث)) ((حس)): إنما أضافه إلي مضر؛ لأنها كانت تحافظ علي تحريمه أسد من محافظة سائر العرب، ولم يكن يستحله أحد من العرب. وقوله: ((الذي بين جمادى وشعبان)) ذكره تأكيداً وإزاحة للريب الحادث فيه من النسيء، وهذا معنى كلام الخطابي. قوله: ((أي شهر هذا)) ((قض)): يريد به تذكارهم حرمة الشهر وتقريرها في نفوسهم ليبنى

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلي. قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فكست حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلي! قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلي. قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه ما أراد تقريره، وقولهم في الجواب: ((الله ورسوله أعلم)) مراعاة للأدب وتحرزاً عن التقدم بين يدي الله ورسوله، وتوقفاً فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه. أقول: في قولهم: ((سيسميه)) إشارة إلي تفويق الأمور بالكلية إلي الشارع، وعزل لما ألفوه من المتعارف المشهور. قوله: ((أليس ذا الحجة؟)) بالنصب، وفي أصل المالكي بالرفع، وقال: الأصل أليسه ذو الحجة؟، ومن حذف الضمير المتصل خبرا لكان وأخواته قول الشاعر: فأطعنا من لحمها وسديفها شواء وخير الخير ما كان عاجله أراد خير الخير الذي كأنه عاجله وقال: شهدت دلائل جمة لم أحصها أن المفضل لن يزال عتيق أراد لن يزاله. ((مح)): في هذا التمثيل دليل علي استحباب ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياساً. وفي قوله: ((فليبلع الشاهد الغائب)) تصريح بوجوب نقل العلم وإشاعة السنن والأحكام. ((تو)): وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء؛ لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء وانتهاك حرمتها بحال. قوله: ((البلدة)) ((تو)): وجه تسميتها بالبلدة- وهي تقع علي سائر البلدان- أنها البلدة الجامعة للخير المستحقة أن تسمى بهذا الاسم؛ لتفوقها سائر مسميات أجناسها تفوق الكعبة في تسميتها بالبيت سائر مسميات أجناسها، حتى كأنها هي المحل المستحق للإقامة بها. قال ابن جنى: من عادة العرب أن يوقعوا علي الشيء الذي يختصونه بالمدح اسم الجنس، ألا تراهم كيف سموا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب! قوله: ((وأعراضكم)) ((تو)): أي أنفسكم وأحسابكم، فإن العرض يقال للنفس وللحسب، يقال: فلان نقى العرض، أي بريء أن يشتم أو يعاب. والعرض رائحة الجسد وغيره طيبة كانت أو خبيثة. ((حس)): لو كان المراد من الأعراض النفوس لكان تكراراً، لأن ذكر الدماء كاف، إذ المراد به النفوس. أقول: الظاهر أن يراد بالأعراض الأخلاق النفسإنية، والكلام فيه يحتاج إلي فضل تأمل، فالمراد بالعرض هنا الخلق، كما سبق، وفي قول الحماسي: إذا المرء

بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم. فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألاهل بلغت؟)) قالوا: نعم. قال: ((اللهم اشهد؛ فليبلع الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامح)) متفق عليه. 2660 - وعن وبرة، قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة. فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري. 2661 - وعن سالم، عن ابن عمر: أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات، ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يدنس من اللوم عرضه*. وفي قول أبي ضمضم: اللهم إني تصدقت بعرضي علي عبادك، ما يرجع عليه عيبه. والتحقيق ما ذكره صاحب النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه، ولما كان موضع العرض النفس قال من قال: العرض النفس إطلاقاً للمحل علي الحال، وحين كان المدح نسبة الشخص إلي الأخلاق الحميدة، والذم نسبته إلي الذميمة، سواء كانت فيه أو لا، قال من قال: العرض الخلق؛ إطلاقاً لاسم اللازم علي الملزوم. قوله: ((ضلالا)) ((حس)): ويروى ((كفاراً)) أي لا تكن أفعالكم شبيهة أعمال الكفار في ضرب رقاب المسلمين. ((مظ)): يعني إذا فارقت الدنيا، فاثبتوا بعدي علي ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تظلموا أحداً، ولا تحاربوا المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل؛ فإن هذه الأفعال من الضلالة والعدول من الحق إلي الباطل. قال النمالكى: ((رجع)) هنا استعمل كصار معنى وعملا، أي لا تصيروا بعدي كفارا ومنه قول الشاعر: قد يرجع المرء بعد المقت ذا مقة بالحلم فادرأ به بغضا ذا ** إحن ويجوز في ((يضرب)) الرفع والجزم. أقول: علي الرفع جملة مستأنفة مبينة لقوله: ((فلا ترجعوا بعدي ضلالا)) فينبغي أن يحمل علي العموم، وأن يقال: لا يظلم بعضكم بعضا ً فلا تسفكوا دماءكم ولا تهتكوا أعراضكم ولا تستبيحوا أموالكم، ونحوه – أي في إطلاق الخاص وإرادة العموم – قوله تعالي:} الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما {. الحديث الثاني عن وبرة: قوله: ((إذا رمى إمامك)) أي اقتد في الرمي بمن هو أعلم منك بوقت الرمي. و ((نتحين)) أي نطلب الوقت، أي ننتظر دخول وقت الرمي.

يكبر علي إثر كل حصاة، ثم. يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلاً، ويدعوا، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم يأخذ بذات الشمال فيهل ويقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمى جمرة ذات العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه البخاري. 2662 - وعن ابن عمر، قال استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن سالم: قوله: ((جمرة الدنيا)) أ] جمرة العقبة الدنيا، ووصفها بالدنيا؛ لدنوها من منازل النازلين عند مسجد الخيف. قوله: ((حتى يسهل)) ((نه)): أسهل يسهل إذا صار إلي السهل من الأرض وهو ضد الحزن، أراد أنه صار إلي بطن الوادي. [((حس))] *: ((مستقبل القبلة)) حال و ((طويلا)) صفة مصدر محذوف، أي قياماً طويلا. ((حس)): علي الحاج أن يبين بمنى الليلة الأولي والثانية من ليالي أيام التشريف ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة بسبع حصيات علي الترتيب، أخرها جمرة العقبة. فمن رمى اليوم الثاني وأراد أن ينفر قبل غروب الشمس ويترك بيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها، فله ذلك، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس، فعليه أن يبيت ويرمى اليوم الثالث بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، ومن ترك مبيت هذه الليالي ممن لم يرخص له فيه فعلية دم، ومن ترك مبيت ليلة فعلية ثلث دم وفي ليلتين ثلثا دم، علي أقيس قولي الشافعي رضي الله عنه. ولو ترك رمى يوم من أيام التشريق قضاه في اليوم الثاني والثالث أي وقت شاء من ليل أو نهار، فإن لم يقض حتى مضت أيام التشريق فلا قضاء عليه، وعليه لرمى كل يوم دم. وكذا من ترك ثلاث حصيات فعلية دم، وفي حصاة ثلث وفي حصاتين ثلثان. ((مح)): وفي قدر الواجب من هذا المبيت قولان للشافعي، أصحهما الواجب معظم الليل، والثانية ساعة. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((من أجل سقايته)) أي بسبب ذلك وبعلية. وقيل: أصله ((من أجل شرا)) إذا جناه يأجله أجلا، كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أي من جررته بمعنى جنيته. ((مح)): يجوز لأهل السقاية أن يتركوا المبيت ويذهبوا إلي مكة ليستسقوا بالليل الماء، ويجعلوه في الحياة مسلاً للسائرين وغيرهم ولا يختص ذلك عند الشافعي بآل عباس، بل كل من تولي السقاية كان له هذا، وكذا لو نشأ سقاية أخرى كان للقائم بشأنها ترك المبين. واعلم أن السقاية حق لآل عباس، وكانت للعباس في الجاهلية؛ فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له وهي لآل العباس أبداً.

2663 - وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء إلي السقاية فاستسقى. فقال العباس: يافضل! اذهب إلي أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها. فقال: ((اسقني)) فقال يارسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: ((اسقني)). فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها. فقال: ((اعملوا فإنكم علي عمل صالح)). ثم قال ((لولا أن تغلبوا؛ لنزلت حتى أضح الحبل علي هذه)). وأشار إلي عاتقه. رواه البخاري. 2664 - وعن أنس [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلي البيت، فطاف به. رواه البخاري. 2665 - وعن عبد العزيز بن ريع، قال: سألت أنس بن مالك. قلت: أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين صلي الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. قلت: فأين ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يسقون ويعملون)) أي يسعون ويكدحون فيه. قوله: ((لولا أن تغلبوا)) ((تو)): أعلمهم أن الذي يكدحون فيه بمكان من العمل الصالح، يحب نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يشاركهم فيه، غير أنه لا يأمن عليهم إن فعل ذلك غائلة الولاة، وتنافسهم وتنازعهم فيه حرصا علي حيازة هذه المأثرة، فيغلبوا عليها وينتزعوا [عنهم]. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالمحصب)) بفتح الصاد والتشديد، وقد تنازع فيه الفعلان، أي ((صل)) و ((رقد)). والمحصب في الأصل كل موضع كثر حصباؤه، والمراد به الشعب الذي أحد طرفه منى ويتصل الآخر بالأبطح. قيل: فعبر به عن المحصب المعروف إطلاقا لاسم المجاور علي المجاور. ((حس)): التحصيب هو أنه إذا نفر من منى إلي مكة للتوديع بعد الفراغ من الرمي، أن يقيم بالشعب الذي يخرج به إلي الأبطح حتى يرقد ساعة من الليل ثم دخل مكة. وكان ابن عمر يراه سنة/ وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ينزلون بالأبطح. وقال ابن عباس: التحصيب ليس بشيء، وإنما هو منزل نزله النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((ليس بشيء)) يريد به ليس بنسك من مناسك الحج؛ إنما نزله للاستراحة. الحديث السابع عن عبد العزيز: قوله: ((عقلته)) أي علمته وحفظته. قوله ((افعل كما يفعل أمراؤك)) يريد إنما ذكرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بنسك من المناسك وجب عليك فعله؛ فافعل ما يفعله أمراؤك.

صلي العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح. ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك. متفق عليه. 2666 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: ((نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج)). متفق عليه. 2667 - وعنها، قالت: ((أحرمت من التنعيم بعمرة، فدخلت فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح حتى فرغت، فأمر الناس بالرحيل، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلي المدينة)). هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين، بل برواية أبي داود مع اختلاف يسير في آخره. [2667]. 2668 - وعن ابن عباس، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفرن أحدكم، حتى يكون آخر عهده بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض)). متفق عليه. 2669 - وعن عائشة، قالت: حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أرإني إلا حابستكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عقرى حلقى، أطافت يوم النحر؟)) قيل: نعم. قال ((فانفري)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أسمح)) أي أسهل [((حس))] *: معناه أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل بالأبطح فيترك به ثقله ومتاعه، ثم يدخل مكة؛ ليكون خروجه منها إلي المدينة أسهل. الحديث التاسع والعاشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((آخر عهده بالبيت ** هذا عبارة عن وجوب طواف الوداع. ((حس)): الطواف ثلاث: طواف القدوم، وهو سنة لا شيء علي تاركه. وطواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة، وهو من أركان الحج لا يحصل التحلل دونه ولا يقوم الدم مقامه. وطواف الوداع، ولا رخصة في تركه لمن أراد مفارقة مكة إلي مسافة القصر مكيا كان أو آفاقيا، حج أو لم يحج، فإن خرج ولم يطف عاد إن كان قريبا، ومن مضى ولم يرجع فلا دم عليه عند مالك. وقال الشافعي: من ترك فعلية دم إلا الحائض والنفساء، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم. والاستثناء فيه منقطع، أي لكنه خفف. الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ليلة النفر)) أي ليلة يوم النفر؛ لأن

الفصل الثاني 2670 - عن عمرو بن الأحوص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ((أي يوم هذا؟)) قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمه يومكم هذا في بلدكم هذا، إلا لا يجني جان علي ـــــــــــــــــــــــــــــ النفر لم يشرع في تلك الليلة. قوله: ((ما أرإني إلا حابستكم)) ((فا)): مفعولا ((أرى)) الضمير والمستثنى و ((إلا)) لغو. ((شف)): يحكى علي أن لا يجعل الاستثناء لغواً، والمعنى ما أرإني علي حالة أو صفة كوني حابستكم. أقول: لم يرد باللغو أن ((إلا)) زائدة، بل أن المستثنى معمول الفعل المذكور؛ ولذلك سمى مفرغاً. ((قض)): ظنت صفية أن طواف الوداع كطواف الزيارة في تمام الحج، وأنه لا يجوز تركها بالأعذار، فقالت: ((ما أرإني)) أي ما أظنني (إلا حابستكم)) أي عن الرحلة إلي المدينة، فتوهم رسول الله، أنها قالت قولها؛ لأنها قصرت فلم تطف للزيارة، ولذلك دعا عليا، فسأل أنها هل طافت يوم النحر؟ فلما علم أنها طافت للزيارة أمرها بالنفار. ((شف)): عدل عن خطابها إلي غيرها، فقال: ((أطافت)) فلما: ((فأنفرى)). قوله: ((عقري حلقي)) ((خط)): هكذا روي علي وزن فعلي بفتح الفاء مقصور الألف، وحقها أن يكون منوناً، ليكون مصدراً، أي عقرها الله عقراً، وحلقها حلقاً، ومعنى العقر التجريح والقتل، وقطع عقب الرجل، والحلق إصابة وجع في الحلق، أو ضرب شيئ علي الحلق. وهذا دعاء لا يراد وقوعه، بل عادة العرب التكلم بمثل هذا في سبيل التلطف. ((فا)): هما صفتان للمرأة إذا وصفت بالشؤم، يعني أنها تحلق قومها وتقرهم أي تستأصلهم من شؤمها عليهم، ومحلها رفع أي هي عقري حلقي. قال أبو عبيدة: الصواب ((عقري حلقي)) أي عقر جسدها وأصيبت بداء في حلقها. قال سيبويه: عقرته إذا قلت له عقراً، وهذا نحو فديته. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو بن الأحوص: قوله: ((ألا لا يجني جان إلا علي نفسه)) ((قض)): ((لا يجني)) خبر في معنى النهي، وفيه مزيد تأكيد؛ لأنه كأنه نهاه فقصد أن ينتهي فأخبر عنه، وهو الداعي إلي العدول عن صيغة النهي إلي صيغة الخبر. ونظيره إطلاق لفظ الماضي في الدعاء، ولمزيد التأكيد والحث علي الانتهاء، أضاف الجناية إلي نفسه، والمراد به الجناية علي الغير، بيانه أن الجناية علي الغير لما كانت سبباً للجناية عليه اقتصاصاً ومجازاة، كانت كالجناية علي نفلسه، فأبرزها علي ذلك ليكون أدعى إلي الكف وأمكن في النفس؛ لتضمنه ما يدل علي المعنى الموجب للنهي. ودليل هذا التأويل: أنه روى في بعض طرق هذا الحديث: ((ألا لا يجني جان إلا علي نفسه)). أقول: يمكن أن ينزل علي حقيقته من الإخبار؛ كأنه صلى الله عليه وسلم

نفسه، ولا يجني جان علي ولده، ولا مولود علي والده، ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضي به)). رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. [2670] بعد ما قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام)) مخاطباً لسائر الأمة، وله مزيد اختصاص بالأئمة والولاة والحكام، أتبع قوله: ((ألا لا يجني جان إلا علي نفسه)) فأتى بنكرة في سياق النفي؛ ليفيد العموم، يعني من ارتكب هذا المحظور وجنى علي الغير بتمزيق عرضه وأخذ ماله وسفك دمه من حق ذلك أن لا يتجاوز بالاقتصاص إلي الغير، ولا يؤخذ غيره بتلك الجريمة كفعل الجاهلية، نحو قوله تعالي:} الزإني لا ينكح إلا زإنية {((الكشاف)): يجوز أن يكون خبراً محضاً علي معنى أن عادتهم جارية علي ذلك، وعلي المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها، وقال أيضاً في قوله تعالي:} ولكم في القصاص حيوة {: وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة. قوله: ((ولا مولود علي والده)) ((قض)): يحتمل أن يكون المراد النهي عن الجناية عليهما، وإنما أوردهما بالتصريح، والتنصيص لاختصاص الجناية عليهما بمزيد قبح وشناعة، وأن يكون المراد به تأكيد قوله: ((لا يجني جان علي نفسه))؛ فإن العرب في جاهليتهم بأخذون بالجناية من يجدونه من الجإني وأقاربه الأقرب فالأقرب، ولعلهم سنوا القتل فيهم، فالمعنى علي هذا لا يجنى أحد علي غيره فيؤخذ به هو ووالده وولده، ويكون في الحقيقة جنايته علي الغير جنايته علي نفسه ووالده وولده. قوله: ((أن يعبد في بلادكم)))) يعنى أنتم أيها العرب لن تعبدوا الطاغوت وغير الله من الأصنام بعد هذا، ولكن ستكون للشيطان طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، وما يتجهن في خواطركم، وما تتفوهون به من هناتكم وصغائر ذنوبكم، فيؤدي ذلك إلي الفتن وهيج الحروب والفساد في الأرض من إهلاك الحرث والنسل، كما قال نصر بن سيار: فإن النار بالعودين تزكى وإن الحرب أولها كلام هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون في جزيزة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أي إيقاع الفتنة والعداوة والخصومة والقتل. وقوله: ((أبداً)) إذا كان بمعنى خالداً يكون ظرفا ً لـ ((أيس))، وإذا كان بمعنى قط يكون الكلام راجعاً إلي النفي، أي لا يعبد قط.

2671 - وعن رافع بن عمرو المزني، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى علي بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود. [2671] 2672 - وعن عائشة وابن عباس [رضي الله عنهم] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة يوم النحر إلي الليل. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. 2673 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه. رواه أبو داود، وابن ماجه. 2674 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رمي أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء]] رواه في ((شرح السنة)) وقال: إسناده ضعيف. [2674] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن رافع: قوله: ((شهباء)) ((نه)): الشهبة البياض، وفي حديث حليمة: ((خرجت في سنة شهباء)) أي ذات قحط وجدب، والشهباء الأرض التي لا خضرة فيها، لقلة المطر، فسميت سنة الجدب بها. ((تو)): الشهباء البيضاء التي تخالط لون سواد. قوله: ((يعبر عنه)) ((غب)): أصل العبر التجاوز من حال إلي حال، عبر القوم إذا ماتوا، كأنهم عبروا قنطرة الدنيا، وأما العبارة فهي مختصة بالكلام العابر للهواء من لسان المتكلم إلي سمع السامع. ((تو)): عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه، واللسان يعبر عما في الضمير، والصحيح في الحديث أن يحمل علي معنى التبليغ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الموسم بين أمة من الناس وجم غفير منهم بحيث لا يسعهم المكان، فمنهم قيام ومنهم قعود لا [يسمعهم] * الداعي؛ فأقيم له في كل جانب مبلغ يسمع صوته فيؤديه إلي من ع دمنه، ويحتمل أن يكون علي رضي الله عنه وقف موقفاً يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فهم الخطاب عبره لأخريات الناس بزيادة بيان., قوله: ((يخط)) و ((علي بغلة)) و ((علي رضي الله عنه)) و ((الناس)) أحوال متداخلات. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((طواف الزيارة)) أي الإفاضة. [أقول] **: أول وقته عند الشافعي بعد نصف ليلة العيد، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد بعد طلوع الفجر. وأما آخره فأي وقت طاف جاز. الحديث الرابع والخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حين صلي الظهر)) لابد من تقدير؛ ليستقيم معنى قوله: ((من آخر يومه)) فالمعنى، حين صلي الظهر والعصر معاً في يوم عرفة، ووقف ثم أفاض من آخر يومه، يدل عليه حديث حجة الوداع كما سبق.

(11) باب ما يجتنبه المحرم

2675 - وفي رواية أحمد، والنسائي عن ابن عباس قال: ((إذا رمي الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء)). [2675] 2676 - وعنها، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلي الظهر، ثم رجع إلي منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويفق عند الأولي والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها. رواه أبو داود. [2676] 2677 - وعن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة: أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما. رواه مالك، والترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.2677] (11) باب ما يجتنبه المحرم الفصل الأول 2678 - عن عبد الله بن عمر: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: ((لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي البداح: قوله: ((رخص)) ((مظ)): رخص لهم أن يتركوا المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق لاشتغالهم بالرعي، يعنى رخص لهم أن يرموا يوم النحر جمرة العقبة، ثم لم يرموا اليوم الأول من أيام التشريق، ثم يرموا في الثاني منها رمي يوم القضاء والأداء. وإن قدموا رمي اليوم الثاني إلي الأول هل يجوز أم لا؟ فلا يجوزه الشافعي ومالك؛ لأن ما لم يجب لم يجز، لأنه لا يجوز أداء الفرض قبل وجوبه، وأجازه بعضهم. باب ما يجتنبه المحرم الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((سأل)) يتعدى بنفسه إلي المفعول الأول، وبعن إلي الثاني، وقد يجوز تعديته إلي الأول بعن وإلي الثاني بنفسه، فيكون تقديره: سأل رسول الله عن هذه المسألة أو عنه إياها، و ((ما)) استفهامية، وكونه مفعولا علي التأويل. ويجوز أن لا تكون استفهامية أي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي يلبسه المحرم.

ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين ولقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه زعفران ولا ورس)) متفق عليه. وزاد البخاري في رواية ((ولا تنتقب المرأة المحرمة، وال تلبس القفازين)). قوله: ((فقال: لا تلبسوا)) ((قض)): سأل الرجل عما يجوز لبسه، فأجاب عنه بعد ما لا يجوز له لبسه؛ ليدل بالالتزام من طريق المفهوم علي ما يجوز. وإنما عدل عن الجواب المطابق إلي هذا الجواب؛ لأنه أخصر وأحضر؛ فإن ما يحرم أقل وأضبط مما يحل؛ أو لأنه لو قال: يلبس كذا وكذا، فربما أوهم أن لبس شيء مما عدده من المناسك، وليس كذلك؛ فعدل إلي ما لا يوهم ذلك؛ أو لأن السؤال كان من حقه أن يكون عما لا يلبس؛ لأن الحكم العارض المحتاج إلي البيان هو الحرمة، وأما جواز ما يلبس فئابت بالأصل معلوم بالاستصحاب؛ فلذلك أتى بالجواب علي وفقه تنبيها علي ذلك. وفي عطف البرانس علي العمامة دليل علي أن المحرم ينبغي أن لا يغطي رأسه بمعتاد اللباس وغيره. وحاصل الحديث أنه يحرم علي الرجل المحرم لبس المخيط والمطيب وستر الرأس بالعمائم ونحوها. والدليل علي اختصاص الحكم بالرجال توجيه الخطاب نحوهم، فإن واو الضمير وإن استعمل متناولا للقبيلين علي التغليب، فإن الظاهر فيه اختصاصه بالمذكرين. وعطف قوله: ((ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)) عليه. ((نه)): البرنس كل ثوب رأسه منه يلتزق من ذراعه أو جبة. وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساء يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البرس- بكسر الباء- القطن، والنون زائدة، و ((الورس)) نبت أصفر يصبغ به. و ((القفاز)) - بالضم والتشديد- شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن؛ يغطي الأصابع والكف والساعد من البرد. ويكون فيه قطن محشو. ((مح)): الجواب من بديع الكلام وجزيله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبسه المحرم فقال: لا يلبس كذا وكذا، وكان التصريح بما لا يلبس أولي؛ لأنه منحصر، ودليله أنه نبه بالقميص والسراويل علي جميع ما في معناهما، وهو ما كان مخيطاً أو معمولا علي قدر البدن أو العضو كالجوشن والران والبتان وغيرها. ونبه صلي الله عليه والسلام بالعمائم والبرإنيس علي كل ساتر للرأس مخيطاً كان أو غيره، حتى العصابة فإنها حرام. ونبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف علي كل سائر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها. وهذا كله حكم الرجال. وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر إلا وجهها؛ فإنه حرام. وفي ستر يديها بالقفازين خلاف، والأصح عند الشافعي تحريمه. ونبه، بالورس والزعفران علي ما في معناهما مما يقصد به الطيب فهو حرام علي القبيلين، فيكره للمحرم لبس الثواب المصبوغ بغير طيب. وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالشيح

2679 - وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: ((إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزاراً لبس سراويل)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والقيصوم ونحوهما فليس بحرام. ولا يجوز أكل طعام فيه طيب، فإن فعل فعليه فدية، وللمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية. والاكتحال للزينة مكروه، ومنه أحمد وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان. واعلم أن محرمات الإحرام ستة: اللباس بالتفصيل، والطيب، وإزالة الشعر والظفر، وحلق الرأس، وعقد النكاح، والجماع وسائر الاستمتاع، والسابع إتلاف الصيد. وإذا تطيب أو لبس ما نهي عنه وجبت الفدية، إن كان عامداً بالإجماع، وإن كان ناسياً فلا يلزمه عند الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة ومالك. والحكمة في تحريم اللباس المذكور وإباحة الإزار والرداء هي أن يبعد عن الترفيه ويتصف بصفة الخاشع الذليل؛ وليكون علي ذكره دائماً أنه محرم؛ فيكثر من الدعاء ولا يفتر عن الأذكار، ويصون نفسه عن ارتكاب المحظورات؛ وليتذكر به الموت ولبس الأكفان والبعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلي الداعي. والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن التنعم وزينة الدنيا وملاذها؛ ولأنه ينافي تذلل الحاج؛ فإن حقه أن يكون أشعث أغبر وأن يجمع همه لمقاصد الآخرة. والحكمة في تحريم الصيد تعظيم بيت الله وحرمه من قتل صيده وقطع شجره. واختلف العلماء في هذا الحديث والحديث الآتي. فقال أحمد: يجوز لبس الخفين بحالهما ولا يجب قطعهما لحديث ابن عباس، وكان أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرح بقطعهما، وزعموا أن قطعهما إضاعة مال. وقال جماهير العلماء: لا يجوز لبسهما إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين؛ لحديث ابن عمر. قالوا: وحديث ابن عباس مطلق وحديث ابن عمر مقيد، والمطلق محمول علي المقيد، والزيادة من الثقة مقبولة. وولهم: إنه إضاعة مال لبس بشيء؛ لأن الإضاعة إنما تكون فيما نهي عنه، وأما ما أمر به فليس بإضاعة بل حق يجب الإذعان له. ثم اختلفوا في لابس الخفين لعدم النعلين هل يجب عليه فدية أم لا؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجب فدية بينها صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلي حلق الرأس يحلقه ويفدي، والله أعلم. الحديث الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لأبس سراويل)) ((حس)): لا يجوز للحرم لبس السراويل مع وجود الإزار، فإن فعل فعليه الفدية، فإن لم يجد الإزار جاز له لبس السراويل عند أكثرهم ولا فدية عليه. وهو قول الشافعي وأحمد؛ لأن مطلق الإذن في السراويل بوجب الإباحة بلا فدية. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس له لبس السراويل، ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يفتقه ويزر به، ورد بأن مطلق السراويل محمول علي اللباس المعهود.

2680 - وعن يعلي بن أمية، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، إذا جاءه رجل أعرابي عليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بالعمرة، وهذه علي. فقال: ((أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)). متفق عليه. 2681 - وعن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينكح المحرم ولا ينكح، ولا يخطب)). رواه مسلم. 2682 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن يعلي: قوله: ((متضمخ)) التضمح التلطخ بالطيب والإكثار منه حتى يكاد يقطر. و ((الخلوق)) ضرب من الطيب يتخذونه من الزعفران وغيره. ((حس)): فيه دليل علي أن من أحرم في قميص أو جبة لا يمزق عليه، كما يقول الشعبي، بل إن نزعه في الحال فلا شيء عليه، وعلي أن المحرم إذا لبس أو تطيب ناسيا أو جاهلا فلا فديه عليه؛ لأن السائل كان قريب العهد بالإسلام، ولم يأمره بالفدية، والناسي في معنى الجاهل، وبه قال الشافعي. وأما ما كان من باب الإتلافات من محظورات الإحرام كالحلق والقلم وقتل الصيد، فلا فرق فيها بين العامد والناسي والجاهل في لزوم الفدية. وقد احتج بهذا الحديث من لم يجوز للمحرم أن يتطيب قبل إحرامه بما يبقى أثره بعد الإحرام؛ لأنه أمره بغسل الطيب ثلاث مرات للمبالغة. وأجيب عنه بأنه إنما أمره بالغسل؛ لأن التضمخ بالزعفران ونحوه مما له صبغ حرام علي الرجال حالتي إحرامه وحله. قوله: ((ثم اصنع في عمرك)) ((مح)): أي اصنع فيها ما تصنع في الحج من اجتناب المحرمات، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد مع ذلك الطواف والسعي والحلق بصفاتها وهيأتها، وإظهار التلبية وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة. ويخص بعمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج، كالوقوف والرمي والمبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك. وفي الحديث إشعار بأن الرجل كان عالما بصفة الحج دون العمرة. الحديث الرابع إلي السادس عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((لا ينكح)) ((تو)): يروى من وجهين علي صيغة الخبر وتكون ((لا)) للنفي، وعلي صيغة النهي و ((لا)) هي الجازمة، والكلمات الثلاثة مجزومة بها، وذكر الخطابي أنها علي صيغة النهي أصح. قلت: قد أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى وأبو عبد الرحمن في كتبهم،

2683 - وعن يزيد بن الأصم، ابن أخت ميمونة، عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. رواه المسلم. قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله: والأكثرون علي أنه تزوجها حلالاً. وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة. ـــــــــــــــــــــــــــــ والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من روايات الأثبات هو الرفع في تلك الكلمات، وقد ذهب الأكثرون من فقهاء الأمصار لاسيما من أصحاب الحديث إلي أن المراد منه النهي، وإن روى علي صيغة الخبر. ((مح)): اختلف العلماء لحديث عثمان رضي الله عنه هذا وحديث ابن عباس الذي يليه في نكاح المحرم، فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم، واعتمدوا علي أحاديث, وقال أبو حنيفة والكوفيون: يصح نكاحه، لحديث ميمونة. ((تو)): وأصحاب أبي حنيفة رأوا حديث ابن عباس أقوى الحديثين؛ لما بين راويية أعنى ابن عباس ويزيد بن الأصم من الفضل والعلم. ثم إن القوم يرون حديث عثمان رضي الله عنه محتملا للتأويل، لاسيما وقد روي علي صيغة الإخبار؛ فيكون المراد منه أن النكاح والإنكاح ليسا من شأن المحرم؛ فإنه في شغل شاغل عن ذلك، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كف المحرم، وتقتير رغبته عن النكاح والإنكاح والخطبة؛ لكونها مدعاة إلي هيجان الشهوة، ولم يقصد تحريمه، وعلي هذا الوجه يخرج أيضاً معناه في صيغة النهي. وإذ قد بينا أن حديث يزيد ابن الأصم لا يقاوم حديث ابن عباس؛ لتفاوت ما بين الراويين من الفضل والعلم، فنقول: إن الصحة بل يزيد عليه، ثم إن حديث ابن عباس ليس للتأويل فيه مجال، وحديث عثمان محتمل للتأويل علي ما ذكرنا؛ فليس لنا أن نعدل عن التوفيق بين الحديثين إلي غير ذلك. ولسنا نسعى في نصرة المذهب والقيام بحكم العصبية، بل نجتهد في نفي التضاد عن سنن الرسول ما أمكننا؛ فإن التوفيق بين المختلف أحق وأولي من أن يرد أحدهما بالآخر، والذي ذكرناه من أحسن ما يتوصل به إلي ذلك، والله أعلم. أقول: كما أنه- رحمه الله- رجع حديث ابن عباس علي حديث يزيد؛ لفضله عليه، كذلك نرجع عثمان رضي الله عنه علي ابن عباس؛ لما لا ينكر تفضيله عليه، وكما رجع حديث ابن عباس، وقال: لأنه لا يقصر عنه في درجة الصحة، كذلك نرجح حديث عثمان لاعتضاده بحديث يزيد وبحديث أبي رافع في آخر الفصل الثالث، وحسنه الترمذي. وأما قوله: حديث عثمان محتمل للتأويل، فتقول به لكن علي غير ما أوله؛ لأن استعمال

2684 - وعن أبي أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يغسل رأسه وهو محرم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإخباري في موضع الإنشائي إنما يكون للمبالغة والتأكيد، فيكون المعنى: لا يصح ولا يستقيم نكاح المحرم ولا إنكاحه؛ لأنه مناف لحال المحرم الذي من حقه الاتصاف بصفة الذلة والخشوع والتجانف عن الملاذ وقضاء الشهوات، بل شأنه بذكر الموت ولبس الأكفان والوقوف بالمحشر بين يدي الملك الديان، فإني يليق بحالة التزوج والتزويج! ومن ثم كرر صل الله عليه وسلم المنهيات بقول: ((لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب)). وأما قوله: حديث ابن عباس ليس للتأويل فيه مجال؛ فليس بذاك. ((مح)): فيه وجوه: أحدهما: أنه مر أن جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم قالوا: لا يصح نكاح المحرم؛ فيكون قد رأوا أنه صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها حلالا وهم أعرف بالقضية لتعلقهم بها، وثإنيها: أن قوله: ((وهو محرم)) محمول علي أنه في الحرم وهو حلال، وهي لغة شائعة، ومنه البيت المشهور: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً. أي في حرم المدينة. وثالثها: أنه إذا تعارض القول والفعل، فالصحيح عن الأصوليين ترجيح القول؛ لأنه يتعدى إلي الغير والفعل قد يكون مقصورا عليه، يريد أن عثمان رضي لله عنه ينقل قول الرسول وابن عباس يبين حاله، ويستدل بالفعل علي ما يدعيه، والقول راجح. ورابعها: قول أصحابنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة، وهذا أصح الوجوه. أقول: ويمكن وجه آخر وهو أن يقال إن قوله: ((وهو محرم)) حال يجوز حمله علي الحال المقدرة، أي تزوج وهو مقدر الإحرام، وعليه ينزل قول الأكثرين، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، كما في المتن. والله أعلم. قوله: ((لا ينكح)) ((مح)) معناه [لا يتزوج] امرأة بولاية ولا وكالة، قال العلماء: سببه أنه لما منع في مدة الإحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة؛ فلا يعقد لغيره. وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب والأخ، أو عامة كالسلطان والقاضي ونائبه، هذا هو الصحيح عندنا. وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يزوج المحرم بالولاية العامة؛ لأنها يستفاد بها ما لايستفاد بالخاصة. واعلم أن النهي عن النكاح والإنكاح للمحرم نهي تحريم، فلو فعل لم ينعقد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا يخطب)) فهو نهي تنزيه. وكذا لا يكره للمحرم أن يكون شاهدا في نكاح عقد الحلال. وقال بعض أصحابنا: لا ينقعد بشهادته، لأن الشاهد ركن في عقد النكاح كالولي. الحديث السابع عن أبي أيوب: قوله: ((يغسل رأسه)) ((مح)): يجوز للمحرم غسل رأسه، وإمرار اليد علي شعره بحيث لا ينتف شعراً، واتفق العلماء علي جواز غسل المحرم رأسه وحده.

2685 - وعن ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم. متفق عليه. 2686 - وعن عثمان، حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر. رواه مسلم 2687 - وعن أم الحصين، قالت: رأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. رواه مسلم. 2688 - وعن كعب بن عجرة [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة، وهو محرم، وهو يوقد تحت قدري، والقمل تتهافت ـــــــــــــــــــــــــــــ وعن الجنابة واجب عليه، وأما غسله تبرداً فمذهبنا جوازه بلا كراهة. ويجوز عندنا غسل رأسه بالسدر و [الخطمى]، ولا فدية عليه مالم ينتف شعراً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرام، فوجب الفدية. الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((احتجم)) ((حس)): قد رخص عامة العلماء في الحجامة للمحرم من غير أن يقطع شعراً، فإن قطع فعليه دم، ولا بأس بأن [ينفط] الجروح ويفقاً الدمل ويقطع العروق إذا احتجا إليه. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن المحرم، أيحك جسده؟ قالت: ((ليحك وليسدد)). الحديث التاسع عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((في الرجل)) أي في حق الرجل أو في فتيا الرجل. وقوله: ((إذ اشتكى)) شرط ((وضمدها)) جوابه، وهو المحدث به، يعني إذا اشتكى الرجل من عينيه ضمد. قوله: ((ضمدها)) ((نه)): أصل الضمد الشد، يقال: ضمد رأسه وجرحه، إذا شدهما بالضماء، وهي خرقة يشد بها العضو [المؤوف]، ثم قيل لوضع الدواء علي الجرح وغيره وإن لم يشد. الحديث العاشر عن أم الحصين: قوله: ((رافع ثوبه يستره)) ((حس)): فيه دليل علي أنه لا بأس للمحرم أن يستظل، وهو قول عامة أهل العلم، وكرهه مالك وأحمد. الحديث الحادي عشر عن كعب: قوله: ((تتهافت)) ((حس)): أي يتساقط من الهفت، وهو السقوط قطعة قطعة، وأكثر ما يستعمل التهافت في الشر. و ((الفرق)) بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهو اثنا عشر مداً، وهي ثلاثة أصوع. وقيلأ: الفرق خمسة أقساط، والقط نصف صاع. قوله: ((ثلاث آصع)) كذا في صحيح مسلم وكتاب الحميدى وجامع الأصوال وشرح السنة،

علي وجهه، فقال: ((أتؤذيك هوامك؟)) قال: نعم. قال: ((فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين)) والفرق: ثلاثة آصع ((أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة)). متفق عليه. الفصل الثاني 2689 - عن ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب ومامس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف. رواه أبو داود. [2689] ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي نسخ المصابيح: ((أصوع)). ((مح)): الأصوع جمع صاع يذكر ويؤنث، وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثاً بالبغدادي. وقد ثبت استعمال الآصع في الحديث الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. وأما ما ذكره ابن المكي في كتابة المسمى بـ ((تثقيف اللسان)) أن هذا الجمع لحن وهو من خطأ العوام، وصوابه أصوع. فغلط منه؛ لأنه من باب المقلوب، قالوا: يجوز في جمع صاع آصع وفي دار آدر؛ لأن فاء آصع صاد وعينها واو قلبت الواو همزة ونقلت إلي موضع الفاء، ثم قلبت الهمزة ألفاً فصار آصعاً، ووزنه أعفل. قوله: ((نسيكه)) ((مح)): هي شاة تجزئ في الأضحية، ((حس)): أراد بالهوام القمل، وسماها هوام؛ لأنها تهم في الرأس وتدب. وفيه دليل علي أن فدية الأذى بتخيير الرجل بين الهدى والإطعام والصيام علي ما نطق به القرآن، ولا فرق في التخيير بين أن يحلق رأسه بعذر أو بغير عذر عند أكثر أهل العلم. وذهب قوم إلي أنه حلق بغير عذر فعليه دم إن قدر عليه لا غير، وفي أنه إذا اختار الإطعام يطعم كل مسكين نصف صاع/ سواء أطعم حنطة أو شعيراً أو تمراً أو زبيباً. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ولتلبس)) أمر عطف علي قوله: ((نهي)) من حيث المعنى، كأنه قيل: لا تلبس المرأة القفازين، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت. والأوجه أن يؤول الثاني بأن يقال: نهي عن كذا وأمر بكذا؛ لأن ((ينهي)) حال من مفعول ((سمع)). والمراد من ألوان الثياب أصنافها، لا اللون المعروف، لأن ((معصفر)) أو ما عطف عليه بيان للألوان. قوله: ((أوحلي)) جعل الحلي من جنس الثياب تغليباً، وفسره المظهر بالحلل، وقال: هي جمع حلة وهي إزار أو رداء من قطن.

2790 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها علي وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أبو داود، ولابن ماجه معناه [2690]. 2691 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتت يعني غير المطيب. رواه الترمذي. [2691] الفصل الثالث 2692 - عن نافع، أن ابن عمر وجد القر، فقال: ألف علي ثوباً يا نافع! فألقيت عليه برنسا. فقال: تلقي علي هذا وقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم؟. رواه أبو داود [2692]. 2693 - وعن عبد الله بن مالك بن بحينة، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحي جمل. من طريق مكة في وسط رأسه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فإذا جاوزوا بنا سدلت)) وبعده ((فإذا جاوزونا كشفناه)). وقال المؤلف: هذا لفظ أبي داود وكذا في جامع الأصول عنه، وفي المصابيح ((فإذا حاذونا سدلت)) وليس عند ابن ماجه بهذا اللفظ ولا بلفظ أبي داود. أقول قوله: ((محرمات)) خبر بعد خبر، أي نحن مصاحبات محرمات، والفاء في ((فإذا جاوزوا بنا)) تفصيل لقوله: ((الركبان يمرون بنا)) فالأولي أن يكون التفصيل مطابقاً للمفصل، فمعنى قوله: ((إذا جازوا بنا)) جاوزوا مارين بنا. ((حس)): ممن قال بالسدل مالك والشافعي وأحمد. فلو وضع المحرم يده علي رأسه أو المحرمة علي وجهها لاشيء عليهما؛ إذ لا بد لهما منه في الوضوء. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((غير المقتت)) بالقاف والتائين المنقوطتين من فوق بنقطتين. ((نه)): المقتت هو ما يطبخ فيه الرياحين حتى يطيب ريحه. الفصل الثالث الحديث الأول عن نافع: قوله: ((وجد القر)) أي البرد. ((نه)): يقال: قر يومنا يقر قرة ويوم قر بالفتح أي بارد، وليلة قرة. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((بلحي جمل)) ((نه)): هو- بفتح اللام- موضع بين مكة

(12) باب المحرم يجتنب الصيد

2694 - وعن أنس [رضي الله عنه] قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم علي ظهر القدم من وجع كان به. رواه أبو داود، والنسائي. [2694] 2695 - وعن أبي رافع، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن. [2695] (12) باب المحرم يجتنب الصيد الفصل الأول 2696 - عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان، فرد عليه، فلما رأي ما في وجهه قال: ((إنا لم نره عليك إلا أنا حرم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمدينة، وقيل: عقبة، وقيل: ماء. قوله: ((في وسط رأسه)) ((مح)): بفتح السين قال أهل اللغة: كل ما كان مبينا بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة وحلقة الناس ونحو ذلك، فهو وسط بالإسكان، وما كان منضما غير مبين بعضه من بعض كالدار والساحة فهو وسط بفتح السين. وهذا محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم كان معذوراً؛ لأنه لا ينفك عن قطع شعر. والمحرم إذا أراد الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قلع شعر فهي حرام، وإن لم تتضمن بأن كان في موضع لا شيء فيه فهي جائزة، ولا فدية فيها، وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري فيها الفدية. باب المحرم يجتنب الصيد الفصل الأول الحديث الأول عن الصعب: قوله: ((بالأبواء)) ((مح)):- بفتح الهمزة والمد- و ((ودان)) - بفتح الواو وتشديد الدال المهملة- مكانان بين مكة والمدينة. ((نه)): ودان قرية جامعة قريبة من الجحفة. قوله: ((أنا حرم)) ((مح)) هو بفتح الهمزة و ((حرم)) بضم الحاء والراء، أي محرمون، أقول: لام التعليل محذوف والمستثنى منه مقدر، أي إنا لا نرده لعلة منا لعلل إلا لأنا حرم. ((قض)) بهذا تشبث من رأي تحريم لحم الصيد علي المحرم مطلقاً، سواء صيد له أو لغيره، كابن عباس وطاووس والثوري. وأوله من فرق بين ما صاده أو صيد له حلال، لا له وهم أكثر علماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة- بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رده عليه؛ لما ظن أنه صيد من أجله، ويدل عليه ما رواه في الحسان عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لحم الصيد لكم في الإحرام

2697 - وعن أبي قتادة، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف مع بعض أصحابه وهم محرمون، وهو غير محرم، فرأوا حماراً وحشياً قبل أن يراه، فلما رأوه تركوه حتى رآه أبو قتادة فركب فرساً له، فسألهم أن يناولوه سوطه، فأبوا، فتناوله فحمل عليه، فعقرة، ثم أكل فأكلوا، فندموا، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه. قال: ((هل معكم منه شيء؟)) قالوا: معنا رجله. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها. متفق عليه. وفي رواية لهما: فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها؟ أو أشار إليها؟)) قالوا: لا. قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها)). ـــــــــــــــــــــــــــــ حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم))، وحديث أبي قتادة التالي لهذا الحديث نحن فيه. لا يقال: إنه منسوخ بهذا؛ لأن حديث أبي قتادة كان عام الحديبية، وحديث الصعب كان في حجة الوداع؛ لأن النسخ إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع، كيف والحديث المتأخر محتمل، لا دلالة له علي الحرمة العامة صريحاً ولا ظاهراً حتى يعارض الأول فينسخه؟. قوله: ((أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً)) ((مح)) لابد في قوله: ((أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً)) من تقدير مضاف؛ لأنه جاء في رواية لمسلم ((لحم حمار وحش)) وفي أخرى ((رجل حمار وحش)) وأخرى ((عجز حمار وحش)) وأخرى ((شق حمار وحش)) وفي أخرى ((عضو من لحم صيد)) فهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه إنما أهدى بعض لحم صيد ليأكله. وفيه جواز قبول الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة. وفيه أنه يستحب لمن أمتنح من قبول الهدية، أن يعتذر بذلك إلي المهدي تطييباً لقلبه، والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي قتادة: قوله: ((وهم محرمون)) حال وذو الحال ((بعض أصحابه)) وقوله: ((وهو غير محرم)) يجوز أن يكون عطفاً علي ((وهم محرمون))، وأن يكون حالا من الضمير في ((محرمون)) فيكون حالا متداخلة. وفي أصل المالكي ((أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم)). قال: ((أبو قتادة)) مبتدأ و ((لم يحرم)) خبره و ((إلا)) بمعنى لكن، ونظيره من كتاب الله تعالي قراءة ابن كثير وأبي عمرو:} ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم {. فـ ((امرأتك)) مبتدأ والجملة بعده خبره، ولا يصح أن يجعل ((امرأتك)) بدلا من ((أحد))؛ لأنها لم تسر معه فيتضمنها ضمير المخاطبين. ودل علي أنها لم تسر معه قراءة النصب؛ فإنها أخرجتها من أهله الذين أمر أن يسري بهم. وإذا لم تكن في الذين سرى بهم لم يصح أن تبدل من فاعل ((يلتفت))؛ لأنه بعض

2698 - وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس لاجناح علي من قتلهن في الحرم والإحرام: الفأرة، والغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور)). متفق عليه. 2699 - وعن عائشة، عن النبي صل الله عليه وسلم، قال: ((خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما دل عليه الضمير المجرور بـ ((من)). وتكلف بعض النحويين الإجابة عن هذا، بأن قال: لم يسر بها، ولكن شعرت بالعذاب فتبعتهم، ثم التفتت وهلكت. وعلي تقدير صحة هذا فلا يوجب ذلك دخولها في المخاطبين، بقوله: {لا يلتفت منكم أحد} وهذا والحمد لله بين، والاعتراف بصحته متعين. ويجوز أن يحذف في هذا النوع من الاستثناء خبر المبتدأ، كما ورد: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرون))، أي لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون. ومنه قوله تعالي: {فشربوا منه إلا قليل منهم} أي لكن قليل منهم لم يشربوا. الحديث لثإني عن أبي قتادة: قوله: ((فعقره)) أي فقتله، وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. الحديث الثالث والرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((خمس)) ((مح)): روى بالتنوين وبالإضافة. أقول: إن روى منونا و ((فواسق)) مرفوعاً يكون مبتدأ موصوفاً و ((يقتلن)) خبره، وإن روى منصوباً يكون ((خمس)) صفة موصوف محذوف، و ((يقتلن)) خبره، و ((فواسق)) معترضة نصباً علي الذم. ((نه)): أصل الفسوق الخروج عن الاستقامة والجور، وبه سمى العاصي فاسقاً، وإنما سميت فواسق علي الاستعارة؛ لخبثهن، وقيل: لخروجهن من الحرمة في الحل والحرم، أي لا حرمة لهن بحال. و ((الأبقع)) ما خالط بياضه لون آخر، و ((العقور)) من أبنية المبالغة، وهو كل سبع يعقر أي يجرح ويقتل ويفترس كالأسد والنمر والذئب، سماها كلباً لاشتراكها في السبعية، و ((الحديا)) هي تصغير الحدأة واحد الحدأ، وهو الطائر المعروف من الجوارح. ((مح)): اتفق العلماء علي أنه يجوز للمحرم قتلهن وما في معناهن، ثم اختلفوا فيما يكون في معناهن، فقال الشافعي: المعنى في جواز قتلهن كونهن مؤذيات، فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا، ويجوز أن يقتل في الحرم كل من وجب عليه قتل بقصاص، أو رجم بالزنا أو قتل بالمحاربة، ويجوز إقامة كل الحدود فيه، سواء [أحرم في الحج] أو خارجه ثم ألجئ إليه، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ما ارتكبه في الحرم يقام عليه، وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم، بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع، حتى يضطر إلي الخروج منه، وما كان دون النفس يقام فيه.

الفصل الثاني 2700 - عن جابر [رضي الله عنه]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لحم الصيد لكم في الإحرام حلال، مالم تصيدوه أو يصاد لكم)). رواه أبو داود، والترمذي والنسائي. [2700] 2701 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجراد من صيد البحر)) رواه أبو داود، والترمذي. [2701] 2702 - وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يقتل المحرم السبع العادي)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2702] 2703 - وعن عبد الرحمن بن أبي عمار، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي؟ فقال: نعم. فقلت: أيؤكل؟ فقال: نعم. فقلت: سمعته من ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): قاس الشافعي رضي الله عنه عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه فقال: لا فدية علي من قتلها في الإحرام والحرم؛ لأن الحديث يشتمل علي أعيان، بعضها سباع ضارية وبضعها هوام قاتلة، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام، وإنما هي حيوان مستخبث اللحم، وتحريم الأكل يجمع الكل، فاعتبره ورتب الحكم عليه، إلا المتولد من المأكول من الصيد، وغير المأكول لا يحل أكله ويجب الجزاء بقتله؛ لأن فيه جزاء من المأكول. الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أو يصاد لكم)) بعد قوله ((ما لم تصيدوه)) فيه إشكال؛ لأن الظاهر يقتضي الجزم. وغاية ما يتكلف فيه أن يقال: إنه عطف علي المعنى؛ فإنه لو قيل: ما لا تصيدونه أو يصاد لكم لكان ظاهراً، فيقدر هذا المعنى. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الجراد من صيد البحر)) ((قض)): إنما عده من صيد البحر؛ إما لأنه يشبه صيد البحر من حيث إنه تحل ميتته ولا يفتقر إلي التذكية؛ أو لما قيل من أن الجراد متولد من الحيتان كالديدان. الحديث الثالث والرابع: عن عبد الرحمن: قوله: ((عن الضبع)) ((حس)): اختلفوا في إباحة لحم الضبع، فروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه كان يأكله، وروى عن ابن عباس إباحته. وذهب إليه الشافعي وأحمد، وكرهه جماعة، منهم مالك وأصحاب أبي حنيفة، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم نهي عن أكل كل ذي ناب من السباع. قلنا: هو عام خصصه حديث جابر. ورووا حديثاً في كراهة لحم الضبع. قلنا: إسناده ليس بالقوى.

(13) باب الإحصار وفوت الحج

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الترمذي، والنسائي، والشافعي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 2704 - وعن جابر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع، قال: ((هو صيد، ويجعل فيه كبشاً إذا أصابه المحرم)). رواه أبو داود، وابن ماجه، والدرامي. [2704] 2705 - وعن خزيمة بن جزي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع. قال: ((أو يأكل الضبع أحد؟)). وسألته عن أكل الذئب. قال: ((أو يأكل الذئب أحد فيه خير؟)). رواه الترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوى. [2705] الفصل الثالث 2706 - عن عبد الرحمن بن عثمان التيمى، قال: كنا مع طلحة بن عبيد لله ونحن حرم، فأهدى له طير وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع، فلما استيقظ طلحة وافق من أكله، قال: فأكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. (13) باب الإحصار وفوت الحج الفصل الأول 2707 - وعن ابن عباس، قال: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه، حتى اعتمر عاماً قابلاً. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن خزيمة: قوله: ((فيه خير؟)) همزة الإنكار فيه محذوفة، يعني أفي الذئب خير، وهو من الضواري والسباع؟. الفصل الثالث عن عبد الرحمن: قوله: ((طير)) نكره للشيوع، وقد علم أنه مما لا يصاد لهم، وفي قوله: ((وافق من أكله)) إشعار بأنه صوبهم، والله أعلم. باب الإحصار وفوات الحج ((نه)): الإحصار المنع والحبس عن الوجه الذي يقصده. يقال: ((أحصره المرض أو السلطان إذا منعه عن مقصده فهو محصر، وحصره إذا حبسه فهو محصور. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ونحر هديه)) ((حس)): اتفقوا علي أن

2708 - وعن عبد الله بن عمر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه وحلق، وقصر أصحابه. رواه البخاري. 2709 - وعن المسور بن مخرمة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك. رواه البخاري. 2710 - وعن ابن عمر، أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إن لم يجد هدياً. رواه البخاري. 2711 - وعن عائشة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ضباعة بنت الزبير، ـــــــــــــــــــــــــــــ المحرم إذا أحصر عن الحج بعدو أنه يتحلل وعليه هدى، وهو دم شاة يذبحه حيث أحصر، ثم يحلق كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. والهدايا كلها يختص ذبحها بالحرم إلا هدي المحصر؛ فإن محل ذبحه حيث أحصر. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يراق أيضاً إلا في الحرم. ثم المحصر إن كان حجة فرضا قد استقر عليه فهو في ذمته، وإن كان تطوعا أو كان هذا أول [سنة الوجوب]، فهل يجب عليه القضاء؟ اختلفوا فيه، فذهب جماعة إلي أنه لا قضاء عليه، وهو قول مالك والشافعي، وذهب قوم إلي أن عليه القضاء، وبه قال أصحاب أبي حنيفة. قوله: ((حتى اعتمر)) غاية المجموع من قوله: ((فحلق وجامع ونحر)) أي تحلل صلى الله عليه وسلم حتى اعتمر عاما قابلاً. الحديث الثاني إلي الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أليس حسبكم؟)) أي محسبكم وكافيكم. ((حس)) حبس المحرم بالحج إذا حبسه مرض أو عذر غير حبس العدو، فهل له التجلل؟ اختلفوا فيه، فذهب جماعة إلي أنه لا يباح له التحلل، بل يقيم علي إحرامه، فإن زال العذر- وقد فاته الحج- يتحلل بعمل العمرة. وهو قول ابن عباس؛ قال: لا حصر إلا حصر العدو، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد. وذهب قوم إلي أن له التحلل، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل)). وضعف هذا الحديث؛ لما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((والله ما أجدني إلا وجعة)) أي أجد في نفس ضعفا من المرض، ولا أدري أأقدر علي إتمام الحج أم لا؟ والمحل – بفتح الميم وكسر

فقال لها: ((لعلك أردت الحج؟)) قال: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: ((حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني). متفق عليه. الفصل الثاني 2712 - عن ابن عباس [رضي الله عنهما]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. رواه [أبو داود. وفيه قصة، وفي سنده محمد بن إسحاق]. [2712] 2713 - وعن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاء- زمان أو مكان، من حل إذا خرج من الإحرام. فإن قلت: كيف طابق قولها: ((والله)) جوابا عن قوله صلى الله عليه وسلم ((لعلك أردت))؟ قلت: تضمن في ((لعل)) معنى الاستقصار علي سبيل التلطف؛ ومن ثمة أظهرت العذر وأقسمت عليه. ((مح)): هي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم. ((حس)): اختلفوا في الاشتراط في الحج، فذهب بعضهم إلي الرخصة فيه وأنه ينعقد إحرامه لظاهر الحديث، وله الخروج بالعذر الذي سمي، وهو قول أحمد وأحد قولي الشافعي، قالا: لا يباح له التحلل بعذر سوى الإحصار من عدو من غير شرط؛ لأن التحلل لو كان مباحا من غير شرط لما احتاجت ضباعة إلي الشرط. وذهب آخرون إلي أن إحرامه منعقد، ولا يباح له التحلل بالشرط، كمن أحرم مطلقاً، وجعلوا ذلك رخصة خاصة لضباعة كما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في رفض الحج، وليس ذلك لغيرهم. وفي قوله: ((محلي حيث حبستني)) دليل علي أن المحصر يحل حيث يحبس من حل أو حرم. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أن يبدلوا)) أي يذبحوا مكان ما ذبحوه هديا أحر. ((حس)): يحتج بهذا من يوجب القضاء علي المحصر، ومن يذهب إلي أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم، ويقول: إنما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإبدال الهدى؛ لأنهم نحروا هداياهم عام الحديبية خارج الحرم، والله تعالي يقول: {هدايا بالغ الكعبة} فلم تقع تلك الهدايا محسوبة؛ فأمرهم بالإبدال. الحديث الثاني عن الحجاج: قوله: ((من كسر)) ((حس)): يحتج بهذا الحديث من يرى

كسر، أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدرامي. وزاد أبو داود في رواية أخرى: ((أو مرض)). وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي ((المصابيح)): ضعيف. [2713] 2714 - وعن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألحج عرفة، من أدرك عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. أيام منى ـــــــــــــــــــــــــــــ القضاء علي المحصر، ومن ضعف هذا الحديث؛ لما ثبت عن ابن عباس أنه قال: ((لا حصر إلا حصد العدو)). وتأوله بعضهم علي أنه إنما يحل بالكسر والعرج، إذا كان قد شرط ذلك عند الإحرام علي معنى حديث ضباعة، إذ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((حجي واشترطي)). ((قض)): وفيهما نظر، أما الأول: فلأن قول ابن عباس لا يعارض الحديث المرفوع، فكيف يوجب وهنه؟ اللهم إلا إذا ثبت رفعه فيرجع بفضل الراوي وشهرته وأما الثاني: فلأنه تقييد لا دليل. أقول: ولئن سلم أن حديث ابن عباس يكون موقوفا عليه، فإذا كان تفسيراً لقوله تعالي: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}، والمخاطبون بقوله: {فإن أحصرتم} هم الصحابة يوم الحديبية، ولم يكن ذلك الإحصار إلا عن عدو؛ فتقييده بالمرض تقييد بلا دليل. وقوله: وأما الثاني فلأنه تقييد بلا دليل، فتقييده بحديث ضباعة كاف، فعلي هذا نكون قد عملنا بمقتضى النصوص الظاهرة كلها. وإذا تعرجنا عن ذلك بطل حديث ضباعة. وأما تضعيف الحديث فقد رده المؤلف بقوله: وقال الترمذي: هذا حديث حسن. الحديث الثالث عن عبد الرحمن: قوله: ((الحج عرفة)) ((قض)): مبتدأ وخبر علي تقدير حذف المضاف من الطرفين، أي ملاك الحج أو معظم أركانه وقوف عرفة؛ لأن الحج لا يفوت بفوات غيره. أقول: التعريف في ((الحج)) للجنس، وخبره معرفة؛ فيفيد الحصر، كقوله تعالي: {ذلك الكتاب}، وقولهم: حاتم الجود. ((تو)): وذلك مثل قولهم: المال الإبل، وإنما كان ذلك ملاكه وأصله؛ لأنه يفوت بفواته، ويفوت الوقوف لا إلي بدل. قوله: ((فقد أدرك الحج)). [((قض))]: اتفق أهل العلم علي أن الحاج إذا فاته الوقوف بعرفة في وقته فاته الحج، ووقته ما بين زوال يوم عرفة إلي أن يطلع الفجر من يوم النحر؛ فمن فاته الوقوف في هذا الوقت يجب عليه التحلل بعمل العمرة، من غير أن يكون [محسوبا] عن العمرة، وعليه قضاء الحج من قابل، وعليه دم شاة، فإن لم يجد فصوم ثلاثة أيام في الحجة وسبعة إذا رجع كالمتمتع.

(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالي

ثلاثة [أيام]، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدرامي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [2714] [وهذا الباب خال عن الفصل الثالث]. (14) باب حرم مكة حرسها الله تعالي الفصل الأول 2715 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((لا هجرة؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فمن تعجل)) ((قض)): ((تعجل)) جاء لازما ومتعديا، فإن عديته فمفعوله محذوف، والمعنى فمن تعجل النفر في يومين، أي في آخر اليومين الأولين من أيام التشريق، فلا إثم عليه ولا حرج، ومن تأخر إلي اليوم الثالث فلا إثم عليه، أي التقديم والتأخير سواء في الجواز وعدم الحرج، ليس في التعجيل ترك واجب، ولا في التوقف والتأخير ارتكاب بدعة وزيادة علي المشروع، مع أن التأخير أفضل. ((تو)): ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين: إحداهما: ترى المتعجل آثما، والأخرى: ترى المتأخر آثما؛ فورد التنزيل بنفي الحجر عنهما. باب حرم مكة حرسها الله تعالي الحرم الممنوع نه: إما بتسخير إلهي، وإما بمنع شرعي، وإما بمنع من جهة العقل، وإما من جهة من يرتسم أمره. والحرم سمي حرما لتحريم الله تعالي فيه كثيرا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع، وكذلك الشهر الحرام. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا هجرة)) ((تو)): كانت الهجرة إلي المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضا علي المؤمن المستطيع؛ ليكون في سعة من أمر دينه فلا يمنعه عنه مانع، ولينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فينحاز إلي حزب الحق وأنصار دعوته، ويفارق الفريق الباطل؛ فلا يكثر سوادهم، إلي غير ذلك من المعإني الموجبة لكمال الدين. فلما فتح مكة وأظهره الله علي الدين كله، أعلمهم بأن الهجرة المفروضة قد انقطعت، وأن السابقة بالهجرة بعد الفتح قد انتهت، وأن ليس لأحد بعد ذلك أن ينال فضيلة الهجرة إليه، ولا أن ينازع المهاجرين في مراتبهم وحقوقهم. وقوله: ((لا هجرة)) أي لم تبق هجرة، ولكن بقي الجهاد، فينالون بذلك الأجر والفضل

ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)). وقال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم القيامة، وإنها لم يحل ـــــــــــــــــــــــــــــ والغنيمة. وفيه تنبيه علي أنهم إذا حرصوا علي الجهاد وأحسنوا النية، أدركوا الكثير مما فاتهم بفوات الهجرة. وفي قوله: ((لا هجرة)) تنبيه علي الرخصة في ترك الهجرة، يعني إلي المدينة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما الهجرة التي تكون من المسلم لصلاح دينه فإنها باقية مدى الدهر. ((مح)): فيه إظهار معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مكة تبقى دار الإسلام بعد الفتح، لا يتصور منها الهجرة. وقال أصحابنا: معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً، انقطعت [بفتحه] * ومضت؛ لأن الإسلام قوي وعز عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله، لكن لكم طريق إلي تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء. أقول: قوله: ((ولكن جهاد ونية)) عطف علي محل مدخول ((لا)) والمعنى أن الهجرة من الأوطان إما هجرة إلي المدينة للفرار من الكفار ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما إلي الجهاد في سبيل الله، وإما إلي غير ذلك من تحصيل الفضائل، كطلب العلم وابتغاء فضل الله من التجارة وما شاكلهما؛ فانقطعت الأولي وبقيت الأخريان، فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، فإذا استنفرتم فانفروا. ((نه)): الجهاد محاربة الكفار، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع من قول أو فعل. يقال: جهد الرجل في الشيء، إذا جد فيه وبالغ، وجاهد في الحرب مجاهدة وجهادا. والاستنفار الاستنجاد والاستنصار، أي طلب منكم النصرة فأجيبوا وانصروا خارجين إلي الإعانة. قوله: ((حرمه الله يوم خلق السموات)) ((قض)): معناه أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة، ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه. ويحتمل أن يراد به التأقيت، أي إنما خلف هذه الأرض حين خلقها محرمة، والتوفيق بينه وبين ما أورده في الباب التالي له عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبراهيم حرم مكنة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراما ًما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف)) أن يقال: إسناد التحريم إلي إبراهيم عليه السلام من حيث إنه مبلغه ومنهيه؛ فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالي، والأنبياء يبلغونها، ثم إنها كما تضاف إلي الله تعالي من حيث إنه الحاكم بها، تضاف إلي الرسل؛ لأنها تسمع منهم وتبين علي لسانهم. فلعله لما رفع البيت المعمور إلي السماء وقت الطوفان، أو انطمست العمارة التي بناها آدم عليه السلام، والكعبة الآن في محلها علي اختلاف الروايات اندرست حرمتها وصارت شريعة متروكة منسية إلي أن أحياها إبراهيم عليه السلام، فرفع قواعد البيت ودعا الناس إلي الحج، وحد الحرم وبين حرمته. ((مح)): قيل: معناه أنه تعالي كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات الأرض، أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالي.

القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بحرمة الله)) ((نه)): أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحق بالحق المانع من تحليله. أقول: الفاء في قوله: ((فهو)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان الله كتب في اللوح المحفوظ تحريمه، ثم أمر إبراهيم عليه السلام بتبليغه وإنهائه؛ فأنا أيضا أبلغ ذلك وأنهيه إليكم، وأقول: فهو حرام بحرمة الله. وقول: فهو حرام بحرمة الله. قوله: ((ولم يحل لي إلا ساعة)) ((حس)): أراد به ساعة الفتح، أبيحت له إراقة الدم فيها دون الصيد وقطع الشجر ونحوهما. ويحتج به من ذهب إلي أن مكة فتحت عنوة لاصلحا، وهم أصحاب أبي حنيفة. وتأوله غيرهم علي معنى أنه أبيح له أن يدخلها من غير إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وعليه عمامة سوداء. وقال أيضاً: لا يجوز أن يباح له إراقة دم حرام في تلك الساعة، بل إنما أبيح له إراقة دم كان مباحاً خارج الحرم، فحرمه دخول الحرم، فصار الحرم في حقه بمنزلة الحل في تلك الساعة. واختلفوا فيمن ارتكب خارج الحرم ما يوجب القتل عليه، ثم دخل الحرم، هل يحل قتله فيه؟ فذهب جماعة إلي أنه يحل ذلك. قالوا: إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارا بدم ولا فارا بسرقة. ((قص)): قوله ((لم يحل القتال فيه لأحد قبلي)) لا يدل علي أنه قاتل فيه وأخذه عنوة؛ فإن حل الشيء لا يستلزم وقوعه؛ فلا حجة للأوزاعي وأصحاب أبي حنيفة. أقول: والحاصل أن الفتح عنوة يقتضي نصب الحرب عليهم والقتال بالرمي بالمنجنيق والسهم، والطعن بالرمح وضرب السيف، ولم يقع ذلك، وإن كان حلالا؛ وأما قتل من استحق القتل خارج الحرم في الحرم، فليس من معنى العنوة في شيء. ((مظ)): وفائدة الخلاف أن من قال: فتحت عنوة، أنه لا يجوز بيع دور مكة ولا إجارتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وقفاً ما أخذه من الكفار من العقار. ومن قال: فتح صلحاً جوز بيعها وإجارتها؛ لأنها مملوكة لأصحابها. أقول: وكرر قوله: ((فهو حرام بحرمة الله))؛ لينيط به غير ما أناط به أولا من قوله: ((لا يعضد شوكه)) إلي آخره. ((نه)): ((لا يعضد)) لا يقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده أي قطعت. والعضد بالتحريك المعضود. وذكر الشوك دال علي منع قطع سائر الأشجار بالطريق الأولي. ((حس)): المؤذي من الشوك كالعوسج؛ فلا بأس بقطعه كالحيوان المؤذي. وظاهر الحديث يوجب تحريم قطع أشجار الحرم علي العموم، سواء غرسها الآدميون أو نبتت من غير غرس، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وإذا قطع شيئاً منها فعلية الجزاء عند أكثرهم، وإن كان القاطع حلالا، وإليه ذهب الشافعي، فعلية في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاة. ((مح)): يجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلا الحرم. وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد: لا يجوز.

القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاها. فقال العباس: يارسول الله! إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم؟ فقال: ((إلا الإذخر)) متفق عليه. 2716 - وفي رواية لأبي هريرة: ((لا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولا ينفر صيده)) ((نه)): يقال نفر ينفر نفوراً ونفاراً إذا فر وذهب. ((مح)): هذا تصريح بتحريم الإزعاج وتنحيه الصيد من موضعه؛ فإن نفره عصى سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل السكون ضمن. ونبه بالتنفير علي الإتلاف ونحوه؛ لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولي. قوله: ((ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها)) ((حس)): اللقطة- بفتح القاف، والعامة تسكنها- ما يلتقط. اختلفوا في لقطة الحرم، فذهب قوم إلي أنه ليس لواجدها غير التعريف أبدا، ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها. بخلاف لقطة سائر البقاع، وهو أظهر قولي الشافعي. وذهب الأكثرون إلي أنه لا فرق بين لقطتي الحل والحرم، وقالوا: معنى قوله: ((إلا من عرفها)) عرفها كما يعرفها في سائر البقاع حولا كاملا، حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا نادى عليها وقت الموسم، فلم يظهر مالكها جاز له أن يتملكها. ((تو)): الوجه هو الأول؛ لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها وحصد خلاها. وإذا سوى بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد، وجدنا ذكر حكم اللقطة في هذا الحديث خالياً عن الفائدة. قوله: ((ولا يختلي خلاها)) ((نه)) الخلا- مقصوراً- النبات الرقيق ما دام رطبا ً واختلاؤه قطعة، وأخلت الأرض كثر خلاها، وإذا يبس فهو حشيش. ((فا)): حقه أن يكتب بالياء ويثنى خليان. ((حس)): ولا بأس بقطع الحشيش والشجر اليابسين كالصيد الميت [يقطه]. ويكره علي مذهب الشافعي نقل تراب الحرم وإخراج الحجارة عنه لتعلق حرمة الحرم بها، ولا يكره نقل ماء زمزم للتبرك. قوله: ((إلا الإذخر)) ((نه)): هو بكسر الهمزة حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها فوق الخشب، وهمزته زائدة. ((مح)): هذا محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في الحال باستثناء الإذخر وتخصيصه من العموم، أو أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فاستثن، أو أنه اجتهد في الجميع. قوله: ((لقينهم)) ((نه)): القين واحد القيون وهو الحداد والضائغ. قوله: ((إلا منشد)) ((نه)): المنشد هو المعرف، وأما طالبها فهو ناشد، وأصل النشد والإنشاد رفع الصوت.

2717 - وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لأحدكم أن يحمل بكمة السلاح)) رواه مسلم. 2718 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلي رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل وقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: ((اقتله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا يحل)). ((مح)): قال القاضي عياض: هذا محمول عند أهل العلم علي حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإذا احتيج إليه جاز. وهو مذهب مالك والشافعي وعطاء. وكرهه الحسن البصري تمسكا بظاهر الحديث. وحجه الجمهور دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب، ودخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح متأهبا للقتال. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((المغفر)) في الغريبين: المغفر والغفارة وقاية للرأس ينتفع بها المتسلح، وأصل الغفر التغطية. قوله: ((جاء رجل)) ((تو)): هو فضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي. قوله: ((إن ابن خطل)) ((مح)): قالوا: إنما أمر بقتله؛ لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل ملسما كان يخدمه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه، وكان له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين. فإن قيل: وفي حديث آخر ((من دخل المسجد فهو آمن)) فكيف قتله وهو متعلق بأستار الكعبة؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم استثناه وابن أبي سرح. وفي هذا الحديث حجة لمالك والشافعي وموافقيهما في جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وتأول هذا الحديث بأنه قتله في الساعة التي أبيحت له. وأجاب أصحابنا بأنها إنما أبيحت ساعة الدخول، حتى استولي عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك. وقيل: اسم ابن خطل عبد العزيز، وقيل: عبد الله، وقيل: غالب. قال أهل السير: قتله سعيد بن حريب. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عمامة سوداء)) ((مح)): قال القاضي عياض: وجه الجميع بين هذا الحديث والحديث السابق ((وعلي رأسه المغفر)) أنه صلى الله عليه وسلم دخل أولا وعلي رأسه المغفر، ثم بعد إزالة المغفر وضع العمامة، يدل عليه قوله: ((خطب للناس وعليه عمامة سوداء))، لأن الخطبة كانت عند باب الكعبة. وفي قوله: ((بغير إحرام)) دليل لمن يجوز الدخول

2720 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((] غزوا جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وأخرهم)). قلت: يا رسول الله! وكيف يخسف بأولهم وأخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وأخرهم، ثم يبعثون علي نياتهم)) متفق عليه. 2721 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)) متفق عليه. 2722 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كإني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بغير إحرام إذا لم يرد نسكا، سواء كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطاب والسقاء والصياد وغيرهم، أم لا كالتاجر والزائر وغيرهما. وهذا أصح القولين للشافعي. وفيه جواز لباس الثياب السود في الخطبة، وإن كان البيض أفضل. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فإذا كانوا ببيداء)) ((نه)): البيداء المفازة التي لا شيء فيها، وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. قوله: ((أسواقهم)) ((نه)): السوقة من الناس الرعية، ومن دون الملك، وكثير من الناس يظنون أن السوقة أهل الأسواق. ((مظ)): الأسواق إن كان جمع سوق فتقديره: فيهم أهل أسواقهم، وإن كان جمع سوقه فلا حاجة إلي التقدير. ((ومن ليس منهم)) أي من ليس ممن يقصد تخريب الكعبة، بل هم الضعفاء والأسارى. أقول: فالعطف في ((ومن ليس منهم)) للتفسير والبيان. قوله: ((ثم يبعثون علي نياتهم)) أي يخسف الكل بشؤم الأشرار، ثم إنه تعالي يعامل مع كل منهم في المحشر بحسب نيته وقصده، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذو السويقتين)) ((نه)): السويقة تصغير الساق، وهي مؤنثة؛ فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها، وإنما صغر الساقين؛ لأن الغالب علي سوق الحبشة الدقة [والحموشة]، أي يخربها رجل من الحبشة له ساقان دقيقتان. أقول: لعل السر في التصغير أن مثل هذه الكعبة المعظمة المحرمة، يهتك حرمتها مثل هذا الحقير الدميم الضعيف الخلقة. ينصر هذا التأويل الحديث الذي يتلوه ((كإني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا))؛ لأنه استحضار لتلك الحالة العجيبة الغريبة في الذهن تعجباً وتعجيبا للغير، نحوه قوله تعالي: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم} في وجه.

الفصل الثاني 2723 - عن يعلي بن أمية، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)) رواه أبو داود. [2723] 2724 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: ((ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. [2724] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أسود أفحج)) ((نه)) الفحج تباعد ما بين الفخذين، وهو بتقديم الحاء علي الجيم، وفي إعرابه وجوه. ((تو)): حالان عن خبر ((كأن)) وإن لم يكن بفعل فإنه مشبه به، وإذا قيد منصوبة أو مرفوعة بالحال، كان تقييدا باعتبار معناه الذي أشبه الفعل أقول: وفيه نظر؛ لأنهما إذا كان حالين من خبر كأن وذو الحال إما المستقر المرفوع أو المجرور، ولا يجوز الأول لأن المعنى يأباه كل الإباء؛ فتعين الثاني، فالعامل هو متعلق الخبر. ((مظ)): هما بدلان من الضمير المجرور، وفتحا؛ لأنهما غير منصرفين، وعلي التقديرين يلزم إضمار قبل الذكر، اللهم إلا أن يقال: إن الضمير المجرور راجع إلي المذكور في حديث أبي هريرة. والأولي أن يقال: إنه ضمير مبهم يفسره ما بعده كقولك: ربه رجل. وقوله تعالي: {فقضاهن سبع سموات} - الكشاف-: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بـ ((سبع سموات))، ونصبه علي التمييز. و ((حجرا حجرا)) حال، كقولهم: بوبته بابا بابا. الفصل الثاني الحديث الأول عن يعلي: قوله: ((احتكار الطعام)) هو اشتراء القوت في حالة الغلاء؛ ليبيع إذا اشتد غلاؤه، فهو في سائر البلاد حرام، وفي مكة أشد تحريماً. و ((الإلحاد)) الميل عن الحق إلي الباطل. قال الله تعالي: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وإنما سماه ظلما؛ لأنه واد غير ذي زرع؛ فالواجب علي الناس أن يجلبوا إليها الأرزاق؛ لتتسع عليهم، كما قال الله تعالي: {وارزقهم من الثمرات}، فمن اجتهد في تضييقهم بالاحتكار فقد ظلمهم، ووضع الشيء في غير موضعه.

2725 - وعن عبد الله بن عدي بن حمراء [رضي الله عنه]، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً علي الحزورة. فقال: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي الله، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت)). رواه الترمذي وابن ماجه. [2725] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن عبد الله: قوله: ((الحزورة)) ((نه)): هو موضع بمكة عند باب الحناطين، وهو بوزن قسورة، قال الشافعي: الناس يشددون الحزورة والحديبية وهما مخففتان. ((تو)): في مجمع الأمثال للميدإني أن وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد – وكان ولي أمر البيت بعد جرهم- بني صرحاً بأسفل مكة، وجعل فيه سلما يرقى فيه، ويزعم أنه يناجي الله فوق الصرح، وكان علماء العرب يرون أنه صديق من الصديقين. وكان قد جعل في صرحه ذلك أمة يقال لها: حزورة، وبها سمين حزورة مكة. أقول: قال في الحديث السابق: ((وأحبك إلي)) وفي هذا ((أحب أرض الله إلي الله)) نسب المحبة إلي نفسه أولا؛ لأنه مسقط رأسه، وموضع حل تمائمه. قال الأسدي: أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها حل الشباب تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها ومن ثم من الله تعالي عليه بقوله: {إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلي معاد}. قيل: نزلت عليه صلى الله عليه وسلم حين بلغ الجحفة في مهاجرته، وقد اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل، فقال له: أتشتاق إلي مكة؟ قال: ((نعم))، فأوحاها إليه. وأما نسبته إلي الله تعالي ثإنيا؛ فلأنه حرم الله تعالي المعظم {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً}. قوله: ((ما سكنت غيرك)) ((مظ)): قاله يوم فتح مكة. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: فلما عاد صلى الله عليه وسلم إلي مكة استقبل الكعبة وقال: ((إنك لخير أرض الله- الحديث)) وقيل: أراد بقوله: {لرآدك إلي معاد} رده إليها يوم فتح مكة. ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعاً له اعتداد؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.

الفصل الثالث 2726 - عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلي مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولاً به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به: حمد لله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماُ، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي شريح: قوله: ((يبعث البعوث)) وهي جمع بعث بمعني مبعوث الجماعة من الجند الذي يرسله الأمير إلي قتال وفتح بلاد. قوله: ((قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم)) صفة للمصدر الذي هو بمعنى التحديث، و ((قام)) بمعنى القول، وإنما يقال: قام به إذا كان لذلك القول شأن وتفخيم. ((غب)): كثير من الأفعال التي حث الله علي توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة كقوله تعالي: {يقيمون الصلاة}، {ولو أنهم أقاموا التوراة} {وأقيموا الوزن بالقسط} وكذا قوله: ((سمعته أذناي)) صفة أخرى. ((مح)): أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه. أقول: وإنما يقال هذا في أمر يعظم مناله ويعثر الوصول إليه. فيؤكد السمع بالأذن والحفظ بالقلب والإبصار بالعين؛ ليؤذن بنيله وتحققه. و ((حمد لله)) بيان لقوله: ((تكلم)). قوله: ((ولم يحرمها الناس)) ((مح)): أي إن تحريمها بوحي الله، لاباصطلاح الناس عليه بغير أمر الله. أقول: إنما وصف قوله: ((لامرئ)) بالإيمان؛ ليشعر بالعلية، يعني من شأن المؤمن بالله أن لا يخالف أمر الله، ولا يحل ما حرمه الله. قوله: ((فإن أحد ترخص)) ((ترخص)) مفسر لرافع ((أحد))، كقوله تعالي: {وإن أحد من المشركين استجارك}. وقوله: ((فقولوا)) جواب الشرط، والجملة من الجواب العتيد الذي هيئ قبل مساس الحاجة إليه، فهو أقطع للخصم وأرد لشغبة؛ ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا السالم عن معارضة كذا، فيسلقون دار المعارض قبل الخصم له، فلما سمع عمرو ذلك، رده بقوله: أنا أعلم بذلك منك، يعني صح سماعك وحفظك، وإيرادك المعارضة علي الخصم، لكن ما فهمت المعنى المراد من المقاتلة، فإن ذلك

الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب)) فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح! إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة. متفق عليه، وفي البخاري: الخربة: الجناية. 2727 - وعن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا)) رواه ابن ماجه. [2727] ـــــــــــــــــــــــــــــ الترخص كان بسبب الفتح عنوة، وليس بسبب قتل من استحقه خارج الحرم، والذي أنا بصدده من القبيل الثاني لا من الأول، فكيف تنكر علي؟ فهو من القول بالموجب. ((مح)): كان ذلك البعث من عمرو بن سعيد إلي مكة لقتال ابن الزبير، وفيه دلالة لمن يقول: فتحت مكة عنوة، وتأويله عند من قول: فتحت صلحا، أنه صلى الله عليه وسلم دخلها متهيئاً للقتال لو احتاج إليه. وقد سبق بيانه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. و ((الخربة)) تروى بفتح الخاء وإسكان الراء، هذا هو المشهور. ويقال: بالضم، وأصلها سرقة الإبل، وتطلق علي كل جناية. وفي صحيح البخاري أنها البلية. وقال الخليل: هي الفساد في الدين، من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض. وقيل: هي العيب انتهي كلامه. فإن قلت: قوله: ((لي)) علي التكلم في قوله: ((وإنما أذن لي)) بعد قوله: ((بقتال رسول الله)) هل يسمى التفاتا؟ قلت: لا؛ لأن السياق في قوله: ((بقتال رسول الله)) حكاية قول المترخص، وسياق هذا البيان الأول الذي تضمنه جواب المترخص، وقضية الالتفات والانتقال من صيغة إلي أخرى تقتضي اتحاد السياق. ويجوز أن يكون التفاتا إذا قدر: فإن ترخص أحد بقتالي، فوضع ((رسول الله)) موضعه تجريدا. الحديث الثاني عن عياش: قوله: ((هذه الحرمة)) إن كان المشار إليه قد سبق من ذكر حرم الله تعالي، إما بقرينة المقام أو الكلام فلا مقال فيه، وإن كان ما في ذهن المتكلم، فيجب بيانه بعد ذلك، كما في قوله تعالي: {هذا فراق بيني وبينك} وقولك: هذا أخوك. اللهم إلا أن يقال: إن الحرمة المعظمة المعهودة عند العرب قاطبة هي حرمة بيت الله وبلده الحرام؛ ولذلك جعل مقيسا عليه ومشبها به، كما مر مراراً.

(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالي

(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالي الفصل الأول 2728 - عن علي رضي الله عنه، قال: ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المدينة حرام ما بين عير إلي ثور فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب حرم المدينة حرسها الله تعالي الفصل الأول الحديث الأول عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ما كتبنا عن رسول الله إلا القرآن وما في هذه الصحيفة)) فإن قلت: قد تقرر عند علماء المعإني أن ما وإلا يفيدان الحصر، وهما أصل في الباب؛ فيفيد التركيب أن عليًا رضي الله عنه ما كتب شيئًا غير القرآن وما في هذه الصحيفة. وقد يوهم خلاف ذلك الجواب ما روينا في مسند الإمام أحمد عن أبي حسان، أن عليًا كان يأمر بالأمر فيؤتى، فيقال: قد فعلنا كذا وكذا، فيقول: صدق الله ورسوله، قال: فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول قد [تفشغ] في الناس، أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا خاصة دون الناس، إلا شيء، سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي. قال: فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة؛ فإذا فيها ((من أحدث حدثًا)). الحديث ((مح)): هذا تصريح منه رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الشيعة ويفترونه من قولهم: إن عليًا رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين، وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم. فهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة، لا أصل لها. ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا. وفيه دليل علي جواز كتابة العلم. ومعنى تفشغ بالتا، المثناة من فوق والفاء والشين والغين المعجمتين - الظهور والانتشار، كذا في النهاية. قوله: ((ما بين عير إلي ثور)) ((نه)): هما جبلان، أما عير فجبل معروف بالمدينة، وأما ثور فالمعروف أنه بمكة، وفيه الغار الذي بات به النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر. وفي رواية قليلة ((بل بين عير واحدًا)) وأحد بالمدينة، فيكون ((ثور)) غلطًا من الراوي، وإن كان هو الأشهر في الرواية والأكثر. وقيل: إن عيرًا جبل بمكة، ويكون المراد منه أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة، وحرم المدينة تحريمًا مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة، علي حذف المضاف، ووصف المصدر المحذوف. و ((الحدث)) الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة. وقوله: ((محدثًا)) بكسر الدال وفتحها علي الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر من نصر جإنيا

لا يقبل منه صرف ولا عدل، ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ومن والي قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)). متفق عليه. وفي رواية لهما: همن ادعى إلي غير أبيه، أو تولي غير مواليه؛ فعلمه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قول: ((ذمة المسلمين)) ((قض)): الذمة العهد، سمي بها؛ لأنها تذم متعاطيها علي إضاعتها، ((يسعى بها)) يتولاها ويذهب بها، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة، سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمته، لم يكن لأحد نقضه. ((لا يقبل منه صرف ولا عدل)) أي شفاعة ولا فدية؛ لأنها تعادل المفدي. وقيل: توبة ولا فدية، وقيل: فريضة ولا نافلة. وقوله: ((من والي قومًا بغير إذن مواليه)) قيل: أراد به ولاء الموالاة لا ولاء العتق، والظاهر أنه أراد به ولاء العتق؛ لعطفه علي قوله: ((من ادعى إلي غير أبيه)) والجمع بينهما بالوعيد في الرواية الأخرى، فإن العتق من حيث إن له لحمة كلحمة النسب، فإذا نسب إلي غير من هو له، كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه، وألحق نفسه بغيره، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة. وقوله: ((بغير إذن مواليه)) ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما هو للتنبيه علي ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه والإهانة بهم، وإيراد الكلام علي ما هو الغالب. ((حس)): إذا أعطى واحد من المسلمين أمان أهل الحرب، فإن أمانه ماضٍ، وإن كان المجير عبدًا أو امرأة، وهو أدناهم وأقلهم، وإن لم يكن العبد مأذونًا من القتال ولم يجوز أبو حنيفة. وإنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحدًا أو اثنين، فأما عقد الأمان لأهل ناحية فلا يصح إلا من الإمام. قوله: ((فمن أخفر)) ((نه)): خفرت الرجل أجرته وحفظته، وخفرته إذا كنت له خفيرًا، أي حاميًا وكفيلًا، وتخفرت به إذا استجرت به، والخفارة بالكسر والضم الذمام، وأخفرت الرجل إذا انقضت عهد وذمامه، والهمزة فيه للإزالة، أي أزلت خفارته، كأشكيته إذا أزلت شكواه. والدعوة في النسب بالكسر، هو أن ينتسب الإنسان إلي غير أبيه وعشيرته، وقد كانوا يفعلونه

2729 - وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة: أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها)). وقال: ((المدينة خيرٌ لهم لوكانوا يعلمون، لايدعها أحدٌ رغبةٌ عنها إلا أبدل الله فيها من هو خيرٌ منه، ولا يثبت أحد علي لأوائها، وجهدها إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فنهي عنه. وقوله: ((ومن وإلي قومًا بغير إذن مواليه)) أي اتخذهم أولياء له، ظاهره يوهم أنه شرط وليس شرطًا؛ لأنه لايجوز له إذا أذنوا له أن يوالي غيرهم، إنما هو بمعنى التوكيد؛ لتحريمه والتنبيه علي بطلانه، والإرشاد إلي السبب فيه؛ لأنه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم منعوه، والمعنى إن سولت له نفسه ذلك فليستأذنهم؛ فإنهم يمنعونه. الحديث الثاني عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أن يقطع عضاهها)) هو بدل اشتمال من ((ما بين لابتي المدينة)). وأنث الضمير في ((عضاهها)) بتأويل الأمكنة. ((نه)): اللابة الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب، مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو. ((فا)): اللابة الحرة وجمعها لاب ولوب. والإبل إذا اجتمعت وكانت سوداء سميت لابة، وهي من اللوبان وهي شدة الحر كما أن الحرة من الحر. قوله: ((وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) ((لو)) إن كانت امتناعية فجوابها محذوف دل عليه ما قبله، هذا إذا كان يجري ((يعلمون)) مجرى اللازم، أي لو كانوا من أهل العلم والمعرفة لعرفوا ذلك وما فارقوا المدينة. وإذا قدر مفعوله، كان المعنى: لو علموا ذلك لما فارقوا المدينة. وإن كانت بمعنى ليت فلا جواب لها. وعلي التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها عليها؛ لتفويته علي نفسه خيرًا عظيمًا؛ ولذلك قال: ((إلا أبدل الله فيها من هو خير منه)) كما قال تعالي: {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} أي يخلق قومًا سواكم علي خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى غير متولين عنهما. قوله: ((عضاهها)) ((نه)): العضاه شجر أم غيلان، وهو شجر عظيم له شوك، الواحد عضة بالتاء وأصلها عضهة، وقيل: واحدتها عضاهة. قوله: ((شفيعًا أو شهيدًا)) ((مح)): قيل: ((أو)) للشك، والأظهر أنها للتقسيم؛ لأن الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وغيرهم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاقهم علي الشك، فمعناه يكون شهيدًا للمطيعين منهم وشفيعًا للعاصين، أو شهيدًا لمن مات في حياته وشفيعًا لمن مات بعده. قال القاضي

2730 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لايصبر علي لأواء المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة)) رواه مسلم. 2731 - وعنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه قال: ((اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه)). ثم قال: يدعو أصغر وليدٍ له، فيعطيه ذلك الثمر. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عياض: وهذه خصوصية زائدة علي الشفاعة للمذنبين، وللعاملين في القيامة، وعلي شهادته علي جميع الأمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: ((أنا شهيد علي هؤلاء)) فيكون تخصيصهم بذلك مزية ورفعة منزلة وحظوة. قوله: ((إلا أبدل الله)) ((مح)): قال القاضي: اختلفوا في هذا فقيل: هو مختص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: هو عام أبدًا. واللاواء بالمد الشدة والجوع. والجهد - بالفتح - المشقة، و- بالضم- الوسع والطاقة. الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جاءوا به إلي النبي صلى الله عليه وسلم)) ((تو)): إنما كانوا يؤثرونه بذلك علي أنفسهم حبًا له وكرامة لوجهه المكرم؛ وطلبًا للبركة فيما جدد الله عليهم من نعمة، ويرونه أولي الناس بما سيق إليهم من رزق ربهم. وأما إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أصغر وليد يراه، فإنه من تمام المناسبة الواقعة بين الولدان وبين الباكورة، وذلك حدتان عهدهما بالإبداع، فخص به أصغر وليد يراه. أقول: قول الشيخ: أصغر وليد يراه، يؤذن بأن الوليد مطلق، وعليه الرواية الأخرى لمسلم، ((ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان)) وهذه الرواية وهي قوله: ((ثم يدعو أصغر وليد له)) صريحة بأنه مقيد بأن الوليد له. فإما أن يتأول هذه الرواية وهو الأنسب، أو يحمل المطلق علي المقيد. ((مح)): في إعطائه الوليد الثمر، بيان مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وكمال الشفقة والرحمة وملاطفة الكبار والصغار. وخص به الصغير؛ لكونه أرغب وأكتر تطلعًا إليه وحرصًا عليه. ((شف)): وفي ايثاره علي الغير قمع الشره الموجب لتناوله، وكسر الشهوة المقتضية لذوقه، ومن أن النفوس الزكية لا تركن إلي تناول شيء من أنواع الباكورة، إلا بعد ما عم وجوده، فيقدر كل علي أكله. وإنما لم يذكر الخلة لنفسه - مع أنه أيضًا خليل الله تعالي، علي ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في باب مناقب أبي بكر رضي الله عنه: ((وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا)) - رعاية للأدب في ترك

المساواة بين نفسه وبين آبائه وأجداده الكرام. أقول: لو صرح به لقيل: عبدك وحبيبك، وفي عدم تصريحه به مع رعاية الأدب تنبيه علي تنويهه وجلالة شأنه، وأنه أرفع درجة وأعظم قدرًا. ونحوه قوله تعالي: {تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض- إلي قوله – درجات} الكشاف: الظاهر أنه أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي؛ لما فيه من الشهادة علي أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرًا والنابغة، تم قال: ولو شئت لذكرت التالت، أراد نفسه، ولو صرح به لم يفخم أمره. قوله: ((بارك لنا في مدينتنا)): ((مح)): قال القاضي عياض: البركة تكون بمعنى النماء والزيادة، وبمعنى الثبات واللزوم، ويحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما يتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالي في الزكوات والكفارات، فتكون بمعنى الثبات والبقاء لها لبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وإثباتها، وأن تكون دنيوية من تكثير المكيال والقدر بها، حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلي التصرف بها في التجارة وأرباحها وإلي كثرة ما يكال بها من غلاتها وأثمارها، أو لا تساع عيش أهلها بعد ضيقه، لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم؛ بتمليك البلاد الخصب والريف بالتام والعراق وغيرهما، حتى كثر الحمل إلي المدينة ووسع عيشهم. وفي هذه كلها ظهور إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم وقبولها. قال الشيخ محيي الدين: والظاهر من هذا كله أن المراد البركة في نفس المكيل بالمدينة بحيت يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها. أقول: ولعل الظاهر هو قوله: أو لاتساع عيش أهلها – إلي آخره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة))، ودعاء إبراهيم عليه السلام هو قوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}، يعني وارزقهم من الثمرات بأن تجلب إليهم من البلاد؛ لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب، ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء. لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته، فجعله حرمًا آمنًا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه. ولعمري! إن دعاء حبيب الله صلى الله عليه وسلم استجيب لها، وضاعف خيرها علي خيرها، بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم من

2732 - وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال، ولا تخبط فيها شجرةٌ إلا لعلف)). رواه مسلم. 2733 - وعن عامر بن سعيد: أن سعدًا ركب إلي قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا، أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعدٌ جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد علي غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم. فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي أن يرد عليهم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشارق الأرض ومغاربها، من كنوز كسرى وقيصر وخاقان ما لا يحصى ولا يحصر. وفي آخر الأمر بادر الدين إليها من أقاصي الأرض وشاسع البلاد، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثله معه))، وينصر هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذا ((أمرت بقرية تأكل القرى)) ومكة أيضًا من مأكولها كما سنقرر. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((حرمت المدينة)) ((تو)): أراد بذلك تحريم التعظيم دون ما عداه من الأحكام المتعلقة بالحرم. ومن الدليل عليه قوله في هذا الحديث: ((لا يخبط شجرها إلا لعلف))، وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال وصيدها، وإن رأي تحريمه نفر يسير من الصحابة؛ فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطيور بالمدينة. ولم يبلغنا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي من طريق يعتمد عليه. وقد قال لأبي عمير: ((ما فعل النغير؟))، ولو كان حرامًا لم يسكت عنه في موضع الحاجة. و ((حرامًا)) نصب علي المصدر، أي حرمت المدينة فحرمت حرامًا، كقوله تعالي: {أنبتكم من الأرض نباتًا}. و ((مأزميها)) بدل من ((المدينة))، ويحتمل آن يكون ((حراما)) مفعول فعل محذوف، أي جعلت حرامًا ما بين مأزميها، و ((ما بين مأزميها)) مفعولًا ثإنيا. والمأزم كل طريق بين جبلين. وقوله: ((أن لا يهراق فيها دم)) وقع موقع التفسير لما حرم، كأنه قال: وذلك أن لا يهراق فيها دم، وليس من المفعولية في شيء، ولو كان مفعولًا به لقيل: إني حرمت أن يهراق بها دم، والمراد من النهي عن إراقة الدم هو النهي عن القتال فيها. وذلك أن إراقة الدم الحرام ممنوع عنها علي الإطلاق، والمباح منه لم نجد فيه اختلافًا يعتد به إلا في حرم مكة. ((مح)): في الأحاديت الصحيحة حجة ظاهرة للشافعى ومالك وموافقيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها. وأباح أبو حنيفة ذلك، [واحتج عليه] بحديت أبي عمير، وأجاب أصحابنا

2734 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلالٌ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها، ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنه يحتمل أن حديت النغير كان قبل تحريم المدينة، أو أنه صاده من الحل لا من الحرم. وهذا الجواب لا يلزمهم علي أصولهم؛ لأن مذهبهم أن صيد الحل إذا أدخله الحلال إلي الحرم ثبت له حكم ما بالحرم. ولكن أصلهم هذا ضعيف؛ فرد عليهم. والمشهور من مذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا ضمان في صيد المدينة وقطع شجرها، بل حرام بلا ضمان، وقال بعض العلماء: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وللشافعي فيه قول قديم: إنه يسلب القاتل؛ لحديت سعد بن أبي وقاص، وقد ذكر مسلم في صحيحه تحريمها مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم، فلا يلتفت إلي ما خالف هذه الأحاديت الصحيحة. وقال الشيخ: ولا يضر الشافعي مخالفة أئمة الأمصار في قوله القديم، إذا كانت السنة معه وعمل الصحابة به، ولم يثبت له دفع، فعلي هذا في كيفية الضمان وجهان أحدهما: يضمن كما يضمن في حرم مكة، وأصحهما أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ، وفي السلب وجهان أحدهما: ثيابه فقط، وأصحهما ثيابه وفرسه وسلاحه وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل. وفي مصرفه أقوال: أحدها: أنه لمساكين الحرم أو لبيت المال أو للسالب، وهو الأصح لحديث سعد. و ((العلف)) - بإسكان اللام - مصدر علفت علفًا، وبالفتح اسم للحشيش والتبن والشعير ونحوها، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف. قوله: و ((لا تخبط)) ((نه)): الخبط ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط - بالتحريك - فعل بمعنى مفعول، وهو من علف الإبل. ((مظ)): ((نفلنيه)) بالتشديد أي جعله لي نفلًا أي غنيمة. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وعك)) ((نه)): الوعك الحمى، وقيل: ألمها وقد وعكه المرض وعكًا فهو موعوك. قوله: ((حبب إلينا المدينة)) سببه أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت عائشة: دخلت عليهما، فقلت: يأبت! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى، يقول: كل امريء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته، فيقول:

2735 - وعن عبد الله بن عمر في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: ((رأيت امرأة سوداء، ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها: أن وباء المدينة نقل إلي مهيعة وهي الجحفة)) رواه البخاري. 2736 - وعن سفيان بن أبي زهير [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لوكانوا يعلمون. ويفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لوكانوا يعلمون .. ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وعندي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة وله يبدون لي شامة وطفيل فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة)). قوله: ((فاجعلها بالجحفة)) ((مح)): قال الخطابي وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت يهودًا. وفيه دليل علي جواز الدعاء علي الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك، والدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم، وفيه إظهار معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الجحفة من يومئذ محمةٌ، فمن شرب من مائها حم. الحديث الثامن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم)) أي قال لي حديث رؤيا النبي في شان المدينة ((رأيت امرأة سوداء)) فيكون قوله: ((رأيت امرأة سوداء)) حكاية حكاها ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((مهيعة)) ((تو)): مهيعة هي الجحفة، وأرض مهيعة أي مبسوطة، وبها كانت تعرف، فلما ذهب السيل بأهلها سميت جحفة. والوباء مرض عام، وأرض موبوءة إذا كثر مرضها، والوباء يمد ويقصر، وكانت الجحفة بعد رؤياه هذه أكثر أرض الله وباء، ومنها غدير خم أو خم البلاد ماء وهواء، وقد ذكر عن الأصمعي أنه قال: لم يولد بغديرخم أحد فعاش إلي أن يحتلم إلا أن يتحول منها. ((مح)): الوباء الموت الذريع، ويطلق أيضًا علي الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض، لا سيما للغرباء. فإن قيل: كيف قدموا علي الوباء، وفي الحديث الصحيح النهي عن القدوم إلي الوباء؟ أجاب القاضي أن هذا القدوم كان قبل النهي، أو أن النهي عنه إنما هو في القدوم علي الوباء الذريع والطاعون، وما كان في المدينة إنما هو من القبيل الثاني، يدل عليه قوله: ((وانقل حماها)) في الحديث السابق. الحديث التاسع عن سفيان: قوله: ((يبسون)) ((نه)): يقال: بست الناقة وأبستها، إذا سقتها

6737 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وزجرتها، وقلت لها: بس بكسر الباء وفتحها. ((تو)) و ((قض)): المعنى أنه يفتح اليمن فأعجب قومًا بلادها وبلهنية أهلها، فيحملهم علي المهاجرة إليها بأنفسهم وأموالهم حتى يخرجوا منها، والحال أن المدينة خير لهم؛ لأنها حرم الرسول صلى الله عليه وسلم وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما فيها والإقامة بها من الفوائد الدينية والعواتد الأخروية، التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفإنية العاجلة بسبب المهاجرة عنها والإقامة في غيرها. ((مظ)): أخبر صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة إلي المدينة بأن سيفتح اليمن فيأتي من اليمن قوم إلي المدينة، حتى يكثر أهل المدينة، والمدينة خير لهم من غيرها. أقول: الوجه هو الأول؛ لأن تنكير ((قوم)) ووصفه بقوله: ((يبسون)) ثم توكيده بقوله: ((لوكانوا يعلمون)) لا يساعد الثاني. بيانه أن تنكير ((قوم)) لتحقيرهم وتوهين أمرهم، ثم الوصف بـ ((يبسون)) - وهو سوق الدواب - يشعر بركاكة عقولهم، وأنهم ممن ركنوا إلي الحظوظ البهيمية، وحطام الدنيا الفإنية العاجلة، وأعرضوا عن الإقامة في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي ومنزل البركات؛ ولذلك كرر قومًا ووصفه في كل قرينة بـ ((يبسون)) استحضارًا لتلك الهيئة القبيحة. ومعنى ((لو كانو يعلمون)) قد سبق في الحديث الثالث، والذي يقتضي هذا المقام أن ينزل ((يعلمون)) منزلة اللازم؛ لينتفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلي معنى التمني لكان أبلغ؛ لأن معنى التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظًا وتشديدًا. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بقرية)) ((تو)) و ((قض)): أي بنزولها واستيطانها، ((تأكل القرى)) أي تغلبها وتظهر عليها، بمعنى أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها، يقال: أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم؛ فإن الغالب المستولي علي الشيء كالمغني له إفناء الأكل إياه، و ((يثرب)) من أسماء المدينة، سميت باسم واحد من العمالقة نزل بها، وكانت تدعى به قبل الإسلام، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم كره ذلك؛ لما فيه من إيهام معنى التثريب أو غيره، فبدله بطابة والمدينة؛ ولذلك قال: يقولون ذلك، والاسم الحقيق بأن تدعى به هي المدينة، وهي فعيلة من مدن بالمكان إذا قام به، وإنما قلنا: إنه الحقيق بأن يدعى بها؛ لأن التركيب يدل علي التفخيم، كقول الشاعر: هم القوم كل القوم يا أم خالد! أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة. ((مح)):حكي عن عيسى بن دينار: أن من سماها يثرب

2738 - وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله سمى المدينة طابة)). رواه مسلم. 2739 - وعن جابر بن عبد الله: أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا محمد! أقلني بيعتي، فأبي رسول الله صلي الله عليه، ثم جاءه فقال: أقلني يعتي، فأبي، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبي، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتبت عليه خطيئة، وذلك لأن التثريب هو التوبيخ والملامة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره القبيح، وأما تسميتها في القرآن بيثرب، فهي حكاية قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض. أقول: وتحقيق ذلك إنما يتبين ببيان النظم؛ فنقول - وبالله التوفيق -: إن الله تعالي سمى المدينة؛ لكونها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، في قوله: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستيطان والإقامة بها في هذا الحديث، ووصفها بأنها تأكل القرى، بمعنى أن الذين تبوءوها دارًا وإيمانًا من الأنصار ينصرون رسول الله ونبيه صلى الله عليه وسلم علي أعدائه، ويفتحون سائر ما حولها من القرى والمدن حتى مشارق الأرض ومغاربها ثم استأنف قول الحساد من اليهود والمنافقين، بأنهم يقولون: إنها يثرب توبيخًا وتعييرًا، وأنها ليست موضع إقامة واستيطان للمؤمنين، والحال بخلافه؛ إذ هي موضع استقرار واستيطان لمثلي ومثل أنصار ديني، لكي نجلي مثل أولئك الخبثة الأشرار من اليهود إلي أقاصى الشام، ونستأصل شأفة المنافقين من أصلها، كما ينفي الكير خبث الحديد. فظهو من هذا أن من يحقر شأن ما عظمها، ومن وصف ما سماه الله تعالي بالإيمان بما لايليق به، يستحق أن يسمى عاصيًا بل هو كافر. والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((طابة)) ((نه)): إنه صلى الله عليه وسلم أمر أن تسمى بها، وسماها طيبة وطابة، وهما تإنيث طيب، وطاب بمعنى الطيب، وقيل: هو من الطيب الطاهر؛ لخلوصها من الشرك وتطهيرها منه. الحديث الثاني عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((مح)) قالوا: إن هذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم علي المقام معه في المدينة، وقيل: يحتمل أن

2740 - وعن أي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تفي المدينة شرارها كما ينفي الكير حبث الحديد)). رواه مسلم. 2741 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علي أنقاب المدينة ملائكةٌ، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تكون بيعته بعد فتح مكة وسقوط الهجرة، وإنما بايع للإسلام، والصحيح الأول. وقالوا: إنما لم تقبل بيعته؛ لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلي النبي صلى الله عليه وسلم للمقام عنده أن يترك الإقامة معه ويذهب إلي وطنه. وقوله: ((تنصع)) بفتح التاء والصاد المهملة، أي تصفو وتخلص وتميز، والناصع الصافي الخالص، ولفظ جامع الأصول ((تصنع)) بالصاد المهملة والنون، وقال: هكذا هو الرواية. قوله: ((كالكير)) ((تو)): كير الحداد هو المبني من الطين، وقيل: الكير الزق، والكور ما بني من الطين، وأصل الكلمة من الكور الزيادة، وضموا الكاف علي الأصل في أحدهما، وكسروها في الآخر؛ للفرق بين البنائين. و ((خبثها)) - مفتوحة الخاء والباء - ما تبرزه النار من الجواهر المعدنية فيخلصها بما يميزه عنها من ذلك، وتروى مضمومة الخاء ساكنة الباء، أي الشيء الخبيث، والأول أشبه لمناسبته الكير، وأنت ضمير الخبث؛ لأنه نزل المدينة بمنزلة الكير، فأعاد الضمير إليها، ويروى ((طيبها)) - بكسر الطاء وضم الباء - ويروى بفتح الطاء وكسر الياء المشددة، وهي الرواية الصحيحة، وهو أقوم معنى؛ لأنه ذكر في مقابلة الخبيث، وأية مناسبة بين الكير والطيب! شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد والبلاء بالكير، وما يوقد عليه في النار، فيميز به الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب فيه أزكى ما كان وأخلص، وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والوصب والجوع، وتطهر خيارهم وتزكيهم. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى تنفي المدينة شرارها)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعثته من أشراط الساعة وعلاماتها، وثإنيهما: أن يكون في آخر الزمان وخروج الدجال، وذلك أنه يقصد المدينة فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق. ((مح)): يحتمل أن يكون مختصًا بزمن الدجال، وأن يكون في أزمنة متفرقة. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((علي أنقاب المدينة)) ((نه)): هي جمع قلة للنقب، وهو الطريق بين الجبلين. قوله: ((لا يدخلها)) جملة مستأنفة بيان لموجب استقرار الملائكة علي الأنقاب، واستقرارهم عليها إما علي التمثيل، يعني أن الله تعالي منعها أن يصيب أهلها، أو الحقيقة فيكون منع الطاعون عن دخول الأنقاب علي سبيل التغليب.

2742 - وعن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقبٌ من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة فتربحف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق) متفق عليه. 2743 - وعن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلا انماع كما ينماع الملح في الماء)) متفق عليه. 2744 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من سفرٍ فنظر إلي جدرات المدينة، أوضع راحلته، وإن كان علي دابة حركها من حبها. رواه البخاري. الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا سيطؤه الدجال)) خبر ((ليس))، أي ليس بلد من البلاد يسكن الناس فيه وله شأن، إلا سيدخله الدجال، وقوله: ((إلا مكة)) مستثنى من المستثنى. قوله: ((السبخة)) ((نه)): هي الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر، وجمعها السباخ. قوله: ((بأهلها)) الباء يحتمل أن تكون سببية، أي تتزلزل وتضطرب بسبب أهلها؛ لينفض إلي الدجال الكافر والمنافق، وأن يكون حالًا، أي ترجف ملتبسة بأهلها. ((مظ)): ((ترجف المدينة بأهلها)) أي تحركهم وتلقي ميل الدجال في قلب من ليس بمؤمن خالص، فعلي هذا الباء صلة الفعل. الحديث السادس عشر عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((كما ينماع)) ((نه)): أي يذوب ويجري، ماع الشيء يميع وإنما ينماع إذا ذاب وسال. أقول: وفيه معنى قوله تعالي: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} شبه أهل المدينة مع وفور علمهم وصفاء قريحتهم بالماء، وشبه من يريد المكيد بهم بالملح؛ لأن نكاية كيدهم لما كانت راجعة إليهم شبهوا بالملح الذي يريد إفساد الماء، فيذوب هو بنفسه. فإذ قلت: يلزم علي هذا كدورة أهل المدينة بسبب فنائهم. قلت: المراد مجرد الإفناء، ولا يلزم في وجه التشبيه أن يكون شاملًا لجميع أوصاف المشبه به، نحو قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام. ((مح)): يعني من أراد المكر بهم لا يمهله الله تعالي، ولم يمكن له سلطانًا بل يذهبه عن قريب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة؛ فإنه هلك في منصرفه عنها، ثم هلال بن يزيد بن معاوية وغيرهما ممن صنع صنيعهما. وقيل: المراد من كادها اغتيالًا وطلبًا لغرتها في غفلة، فلايتم له أمر، بخلاف من أتاها جهارًا.

2745 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلع له أحدٌ، فقال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لا بتيها)) متفق عليه. 2746 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحد جبلٌ يحبنا ونحبه)) رواه البخاري. الفصل الثاني 2747 - عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلًا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلبه ثيابه، فجاء مواليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حركها)) خص الحركة بالدابة نحو الفرس والبغل والحمار، والوضع بالراحلة أي البعير؛ لأن الوضع مختص به. ((نه)): يقال: وضع البعير يضع وضعًا وأوضعه راكبه إيضاعًا، إذا حمله علي سرعة السير. أقول: قوله: ((من حبها)) تنازع فيه ((أوضع)) و ((حرك)) وأنشد في معناه: إذا دنت المنازل زاد شوقي ولا سيما إذا بدت الخيام فلمح العين دون الحي شهر ورجع الطرف دون السير عام الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) ((نه)): هذا محمول علي المجاز، أراد أنه جبل يحبنا أهله ونحب أهله وهم الأنصار، ويجوز أن يكون من باب المجاز الصريح، أي إننا نحب الجبل بأهله؛ لأنه في أرض من نحب. ((مظ)): أراد به المدينة وسكانها، كما قال تعالي: {وسئل القرية} أي أهلها. ((حس)): الأولي إجراؤه علي ظاهره، ولا ننكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة، كما حنت الإسطوانة علي مفارقته، حتى سمع القوم حنينها إلي أن سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أخبر صلى الله عليه وسلم أن حجرًا كان يسلم عليه قبل الوحي، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة كانت تحبه، وتحن إلي لقائه حال مفارقته. أقول: هذا هو المختار الذي لا محيد عنه؛ وإن كان ما قاله الشيخ التوربشتى، ولعله أراد بالجبل أرض المدينة كلها؛ وإنما خص الجبل بالذكر؛ لأنه أول ما يبدو من أعلامها؛ له وجه مناسبة بالحال؛ لقوله في الحايث أولًا: ((طلع له أحد)) وثإنيا: ((اللهم إن إبراهيم حرم مكة)) إلي آخره. وإلي المعنى الأول تلميح قول بلال: وهل يبدون لي شامة وطفيل؟ وليس المتمني ظهور هذين الجبلين، بل لأنهما من أعلام مكة. الفصل الثاني الحايث الأول عن سليمان: قوله: ((ثيابه)) بدل اشتمال من الضمير في ((سلبه)) وتكريره

فكلموه فيه. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: ((من أخذ أحدًا يصيد فيه فليسلبه)) فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه. رواه أبو داود. [2747] 2848 - وعن صالح مولي لسعد، أن سعدًا وجد عبيدًا من عبيد المدينة يقطعون من شجر المدينة، فأخذ متاعهم وقال- يعني لمواليهم-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي أن يقطع من شجر المدينة شيءٌ، وقال: ((من قطع منه شيئًا فلمن أخذه سلبه)) رواه أبو داود. [2748]. 2749 - وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صيد وج وعضاهه حرمٌ محرمٌ لله)) رواه أبو داود. وقال محيي السنة: ((وج)) ذكروا أنها من ناحية الطائف وقال الخطأبي: ((نه)) بدل ((أنها)). [2749] 2750 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع أن يموت ـــــــــــــــــــــــــــــ وصف الحرم تارة بقوله: ((في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وتارة بقوله: ((حرم هذا الحرم)) دليل علي أنه اعتقد أن تحريمها كتحريم مكة. قوله: ((دفعت إليكم)) ((مظ)): دفع الثمن إليهم تبرع منه عليهم؛ لأن السلب لو لم يكن جاظزًا للزمه أن يرد ما أخذه، وإذا لم يلزمه رد ما أخذ لم يلزمه قيمته أيضًا. الحديث الثاني والثالث عن الزبير: قوله: ((إن صيد وج)) قيل: إنها من ناحية الطائف. ((خط)): لست أعلم لتحريمه صلى الله عليه وسلم وجا معنى إلا أن يكون علي سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن يكون ذلك التحريم في وقت معلوم وفي مدة محصورة، ثم نسخ كسائر بلاد الحل. ذكر الشافعي أنه لا يصاد فيه، ولا يعضد شجره، ولم يذكر فيه ضمانًا، وفي هذا المعنى النقيع. ((حس)): حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرًا لعامة المسلمين لإبل الصدقة ونعم الجزية، فيجوز الاصطياد فيه؛ لأن المقصود منه منع الكلأ من العامة، ولا يجوز بيع النقيع، ولا بيع شيء من أشجاره كالموقوف. قوله: ((حرم)) أي حرام، وهما لغتان كحل وحلال، و ((محرم)) جيء به علي وجه التأكيد لقوله: ((حرم)) وقوله: ((لله)) متعلق بالتحريم، أي حرم الله ذلك. قوله: وقال الخطابي: ((أنه)) التإنيث بحسب البقعة، والتذكير بحسب البلد. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فليمت بها)) أمر له بالموت بها، وليس ذلك من استطاعته بل هو إلي الله تعالي، لكنه أمر بلزومها والإقامة بها بحيث لا يفارقها،

بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيحٌ، غريبٌ، إسنادًا. [2750] 2751 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة)). رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ محسنٌ غريبٌ. 2752 - وعن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أوحى إلي: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك المدينة، أو البحرين، أو قنسرين)). رواه الترمذي. [2752] الفصل الثالث 2753 - عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، علي كل باب ملكان)) رواه البخاري. 2754 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيكون ذلك سببًا لأن يموت فيها، فأطلق المسبب وأراد السبب، كقوله تعالي: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المدينة)) لأنها دار الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبها أقام وفيها دفن. الحديث السادس عن جرير رضي الله عنه: قوله: ((أي هؤلاء)) ((شف)): ((أي)) ظرف لـ ((نزلت)) مقدم عليه للاستفهام، و ((القنسرين)) بلد بالشام و ((البحرين)) جزيرة ببحر عمان. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((رعب المسيح)) مبالغة؛ لأن خوفه إذا لم يكن يدخلها فهي بالطريق الأولي أن لا يدخلها المخذول، ويغتالها، نحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)). قوله: ((ضعفي ما جعلت بمكة)) معناه ما سبق في الحديث الثالث من الفصل الأول في قوله: ((بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه)).

2755 - وعن رجل من آل الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من زارني متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، ومن سكن المدينة وصبر علي بلائها كنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة)). [2755]. 2756 - وعن ابن عمر مرفوعًا: ((من حج، فزار قبري بعد موتي؛ كان كمن زارني في حياتي)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)) [2756]. 2757 - وعن يحيى بن سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا وقبرٌ يحفر بالمدينة، فاطلع رجلٌ في القبر، فقال: بئس مضجع المؤمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بئس ما قلت!)) قال الرجل: إني لم أرد هذا، إنما أردت القتل في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا مثل القتل في سبيل الله، ما علي الأرض بقعةٌ أحب إلي أن يكون قبري بها منها)) ثلاث مرات. رواه مالك مرسلًا [2757]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن رجل: قوله: ((من زارني متعمدًا)) فيه وجهان: أحدهما: أن لا يقصد غيرها، وسمعت أن بعض العارفين حين قصد حجة الإسلام، لم يزر النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له في ذلك، فقال: أتجرد للزيارة نية أخرى فأزوره. وثإنيهما: أن يقعدهما معًا، وينوي الحجة والزيارة بحيث لا تشوبه شائبة من أغراض الدنيا، ولو قصد مكة فحسب، فهجم علي الزيارة اتفاقًا لا يكون متعمدًا. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فزار)) الفاء ليست للتعقيب؛ لأن من لم يعقب الزيارة بالحج لا يخرج من هذا الوعد، بل هو للتفاوت في رتبتها كقولك: خذ الأفضل فالأفضل واعمل الأحسن فالأجمل. وهذا التفسير يؤيد الوجه الثاني في الحديث السابق. الحديث الخامس عن يحيى: قوله: ((وقبر يحفر)) حال من الضمير في ((جالسًا)) لا من اسم ((كان))؛ لأنه مختلف فيه، والمخصوص بالذم في قوله: ((بئس مضجع المؤمن)) محذوف، أي هذا، وقوله: ((لم أرد هذا)) يعني ما أردت أن القبر بئس مضجع المؤمن مطلقًا، بل أردت أن

2758 - وعن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: ((أتإني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجة)). وفي رواية: ((قل: عمرةٌ وحجةٌ)) رواه البخاري. موت المؤمن في الغربة شهيدًا خير من موته في فراشه وبلده، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا مثل القتل)) أي ليس الموت بالمدينة مثل القتل في سبيل الله أي في الغربة بل هو أفضل وأكمل فوضع قوله: ((ما علي الأرض بقعة)) إلي آخره موضع قوله: ((بل هو أفضل وكمل)) فإذن ((لا)) بمعنى ((ليس)) واسمه محذوف، و ((مثل القتل)) خبره. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وقل: عمرة في حجة)) أي احسب صلاتك في هذا الوادي المبارك واعتدها بعمرة داخلة في حجة، ((نه)): العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وقد سبق بحثه. والله أعلم بالصواب.

كتاب البيوع

كتاب البيوع (1) باب الكسب وطلب الحلال الفصل الأول 2759 - عن المقداد بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يديه)). رواه البخاري. 2760 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة علي خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين. كتاب البيوع قال الأزهري: تقول العرب: بعت بمعنى بعت ما كنت ملكته، وبعت بمعنى اشتريت، قال: وكذلك شريت بالمعنيين؛ لأن الثمن والمثمن كل منهما مبيع، ويقال: بعته أبيعه وهو مبيع ومبيوع. قال الخليل: المحذوف من ((مبيع)) واو مفعول؛ لأنها زائدة فهي أولي بالحذف، وقال الأخفش: المحذوف عين الكلمة، قال المازرى: كلاهما حسن، وقول الأخفش أقيس. باب الكسب وطلب الحلال الفصل الأول الحديث الأول عن المقداد: قوله: ((ما أكل أحد)) ((مظ)): فيه تحريض علي الكسب الحلال، فإنه متضمن فوائد كثيرة، منها: إيصال النفع إلي المكتسب بأخذ الأجرة إن كان العمل لغيره، وبحصول الزيادة علي رأس المال إن كان العمل تجارة. ومنها: إيصال النفع إلي الناس بتهيئة أسبابهم، من نحو ثيابهم وخياطتهم ونحوهما مما يحصل بالسعي، كغرس الأشجار وزرع الأقوات والثمار. ومنها: أن يشتغل الكاتب به فيسلم عن البطالة واللهو. ومنها: كسر النفس به، فيقتل طغيانها ومرحها. ومنها: أن يتعفف عن ذلة السؤال والاحتياج إلي الغير. وشرط المكتسب أن لا يعتقد الرزق من الكسب، بل من الله الكريم الرزاق ذي القوة المتين. ثم قوله: ((إن نبي الله داود)) إلي آخره توكيد للتحريض وتقرير له، يعني الاكتساب من سننن الأنبياء؛ فإن نبي الله داود كان يعمل السرد ويبيعه لقوته، فاستنوا به. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يقبل إلا طيبًا)) ((قض)): الطيب ضد

طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا}، وقال: {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلي السماء: يارب! يارب ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فإني يستجاب لذلك؟!. رواه مسلم. الخبيث، فإذا وصف به الله تعالي أراد به أنه منزه عن النقائص، مقدس عن الآفات والعيوب، وإذا وصف به العبد مطلقًا أريد به أنه المتعري عن رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال والمتحلي بأضداد ذلك، وإذا وصف به الأموال أريد به كونه حلالًا من خيار المال. ومعنى الحديث أنه تعالي منزه عن العيوب فلا يقبل ولا ينبغي أن يتقرب إليه إلا بما يناسبه في هذا المعنى، وهو خيار أموالكم الحلال كما قال تعالي: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. قوله: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر)) ((شف)): ((يطيل)) محله نصب صفة لـ ((الرجل))؛ لأن الجنس المعروف بمنزلة النكرة، كقوله: ولقد أمر علي اللثيم يسبني أقول: قوله: ((ثم ذكر الرجل)) يريد الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب كلامه بذكر الرجل الموصوف، استبعادًا أن الله تعالي يقبل دعاء آكل الحرام لبغضه الحرام، وبعد مناسبته عن جنابه الأقدس، فأوقع فعله علي ((الرجل)) ونصبه، ولو حكى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع ((الرجل)) بالابتداء، والخبر ((يطيل)) نحوه أنشد في الكشاف: وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخيل بالركض المعار فإن قوله: أحق الخيل إن رفع كان علي الحكاية، وإن نصب كان مفعولًا لـ ((وجد)). وقوله: ((أشعث وأغبر)) حالان مترادفان من فاعل ((يطيل)) وما يتلوهما من الأحوال كلها متداخلات، فقوله: ((يمد يديه)) حال من ضمير ((أشعث))، وقوله: ((يارب)) حال من فاعل ((يمد)) أي يمد يديه قائلًا: يارب، وقوله: ((مطعمه وملبسه وغذى)) حال من فاعل ((قائلًا))، وكل هذه الحالات دالة علي غاية الاستحقاق الداعي للإجابة، ودلت تلك الخيبة علي أن الصارف قوي والحاجز مانع شديد. ((تو)): أراد بالرجل الحاج الذي أثر فيه السفر وأخذ منه الجهد، وأصابه الشعث وعلاه

2761 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي علي الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)). رواه البخاري. الغبر، فطفق يدعو الله علي هذه الحالة، وعنده أنها من مظان الإجابة، فلا يستجاب له ولا يعبأ ببؤسه وشقائه؛ لأنه ملتبس بالحرام، صارف النفقة من غير حلها. أقول: فإذا كان حال الحاج الذي هو في سبيل الله هذا فما بال غيره؟ وفي معناه أمر المجاهد في سبيل الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه)). قوله: ((وغذى)) ((مح)): هو بضم الغين وكسر الذال المعجمة المخففة، وفي نسخ المصابيح وقعت مقيدة بالتشديد. ((شف)): ذكر قوله: ((وغذى بالحرام)) بعد قوله: ((ومطعمه حرام)) إما لأنه لا يلزم من كون المطعم حرامًا التغذية بها، وإما تنبيهًا به علي استواء حاليه، أعني كونه منفقًا في حال كبره، ومنفقًا عليه في حال صغره في وصول الحرام إلي باطنه، فأشار بقوله: ((ومطعمه حرام)) إلي حال كبره، وبقوله: ((وغذى بالحرام)) إلي حال صغره، وهذا دال علي أن لا ترتيب في الواو، وذهب المظهر إلي الوجه الثاني. أقول: ولعل العكس أولي؛ لأن قوله: ((وغذى)) وقع حالًا، وهو فعل ماض؛ فلابد من تقدير ((قد)) ليقرب التعدية إلي قول المقدر في ((يا رب)) كما سبق. وكذا قوله: ((ومطعمه وملبسه)) حالان منه، وهما جملتان اسميتان تدلان علي الثبوت والاستمرار، كأنه قيل: يقول: يارب! وقد قرب قوله ذاك بتغذيته بالحرام، وكذا حاله أنه دائم الطعم واللبس من الحرام. وخص من الأزمنة المستمرة زمان حال الدعاء، ومن المذكورين الطعم دون اللبس؛ لأن الطعم أبلغ من اللبس، وفي هذا الزمان أشنع، وإنما قلنا: إنه أبلغ؛ لأنه يصير جزء المغتذي؛ ولذلك عدل عن الطعم إلي التغذية. قوله: ((ولذلك)) يجوز أن تكون الإشارة إلي الرجل، قال الله تعالي: {فاستجبنا له} وأن يكون إلي كون مطعمه ومشربه وملبسه وغذائه حرامًا. ((شف)): فيه إيذان بأن حل المطعم والمشرب مما يتوقف عليه إجابة الدعاء؛ ولهذا قيل: إن للدعاء جناحين، أكل الحلال وصدق المقال. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما أخذ منه)) ((ما)) يجوز أن تكون موصوفة أو موصولة، والضمير المجرور راجع إليها و ((من)) زائدة علي مذهب الأخفش، و ((ما)) منصوب علي نزع الخافض أي لا يبالي بما أخذ من المال. و ((أم)) متصلة. ومتعلق ((من)) محذوف، والهمزة قد سلب عنها معنى الاستفهام وجردت لمعنى الاستواء، فقوله: ((أمن الحلال أخذ أم من الحرام)) في موضع الابتداء، و ((لا يبالي)) خبر مقدم، يعنى الأخذ ومن الحلال ومن

2762 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بينٌ، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات الحرام مستو عنده، لا يبالي بأيهما أخذ، ولا يلتفت إلي الفرق بين الحلال والحرام، كقوله تعالي: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أي سواء عليهم إنذارك وعدمه. الحديث الرابع عن النعمان: قوله: ((الحلال بين)) ((مح)): اتفق العلماء علي عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده؛ فإنه أحد الأحاديت التي عليها مدار الإسلام، قيل: هي ثلاثة: أحاديث ((الأعمال بالنية))، وحديث ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، وهذا الحديث، وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه علي صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأن يكون حلالًا، وأرشد إلي معرفة الحلال بأن أوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، وأتم ذلك ببيان منبع الصلاح والفساد ومعدنهما. فقوله: ((الحلال بين والحرام بين)) معناه أن الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بين واضح لا يخفي حله كالخبز والفواكه وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام والنظر والنكاح والمشي وغير ذلك من التصرفات، وحرام بين، كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلي الأمرد وإلي الأجنبية وأشباه ذلك، والمتشابه هو الذي يحتمل الأمرين، فاشتبه علي الناظر بأيهما يلحق، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) وفيه أنه يعلمها قليل من العلماء الراسخين بنص أو قياس أو استصحاب وغير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص أو إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالًا أو حرامًا، فإذا فقد هذه الدلائل فالورع تركه؛ لأنه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه)). وللعلماء في هذا ثلاثة مذاهب، والظاهر أنه مخرجٌ علي الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، والأصح أنه لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع. والثاني أن حكمه التحريم، والثالث الإباحة. ((نه)): جملة الشبهة العارضة في الأمور قسمان: أحدهما ما لا يعرف له أصلٌ في تحليل ولا تحريم، فالورع تركه، والثاني: أن يكون له أصل في التحليل والتحريم، فعليه التمسك بالاصل ولا يترك عنه إلا بيقين وعلم. ((قض)): إن الله تعالي بين الحلال والحرام، بأن مهد لكل منهما أصلًا، يتمكن الناظر المتأمل فيه من استخراج أحكام ما يعن له من الجزئيات، ويعرف أحوالها، لكن قد يقع في الجزئيات ما يقع فيه الاشتباه، لوقوعه بين الأصلين ومشاركته لأفراد كل منهما من وجه، فينبغي أن لا

استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول ـــــــــــــــــــــــــــــ يجتريء المكلف علي تعاطيه، بل يتوقفه ريثما يتأمل فيه، فيظهر له أنه من أي القبيلين هو، فإن اجتهد ولم يظهر له أثر الرجحان، بل رجع طرف الذهن عن إدراكه حسيرًا تركه في حيز التعارض أسيرًا، وأعرض عما يريبه إلي ما لا يريبه، استبراء لدينه أن يختل بالوقوع في المحارم، وصيانة لعرضه عن أن يتهم بعدم المبالاة بالمعاصي والبعد عن الورع، فإن من هجم علي الشبهات وتخطي خططها، ولم يتوقفه دونها وقع في الحرام؛ إذ الغالب أن ما وقع فيه من الشبهات لا يخلو عن المحارم، كما أن الراعي إذا رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. و ((ألا)) مركبة من همزة الاستفهام، وحرف النفي؛ لإعطاء معنى التنبيه علي تحقق ما بعدها و ((الحمى)) هو المرعى الذي حماه الإمام، ومنع من أن يرعى فيه، شبه المحارم من حيث أنها ممنوعة التبسط فيها والتخطي لحدودها، واجبة التجنب عن جوانبها وأطرافها بحمى السلطان، وكما يحتاط الراعي ويتحرز عن مقاربة الحمى حذرًا عن أن تتخطاه ماشيته، فيتعرض لسخط، ويستوجب تأديبه، ينبغي أن يتورع المكلف عن الشبهات، ويتجنب عن مقارنتها، كيلا يقع في المحارم ويستحق به السخط العظيم والعذاب الأليم. ولما كان التورع والتهتك مما يتبع ميلان القلب إلي الصلاح والفجور، نبه علي ذلك بقوله: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)) ليقبل المكلف عليه فيصلحه ويمنعه عن الانهماك في الشهوات، والإسراع إلي تحصيل المشتهيات، حتى لا يتبادر إلي الشبهات، ولا يستعمل جوارحه في اقتراف المحرمات. قوله: ((استبرأ)) أي احتاط لنفسه وطلب البراءة. ((مح)): أي حصل البراءة لدينه من الذم الشرعي وصان عرضه من كلام الطاعن. ((حس)) فيه دليل علي جواز الجرح والتعديل، وأن من لم يتوق الشبه في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن. قوله: ((ومن وقع في الشبهات)) ((مح)): يحتمل وجهين: أحدهما: أن من يكثر تعاطي الشبهات يصادف الحرام وإن لم يعمده، وقد يأثم بذلك إذا قصر في التحري. والثاني أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه، ويجسر علي شبهة ثم شبهة أغلظ منها ثم أخرى، وهلم جرا إلي أن يقع في الحرام عمدًا، وهذا معنى قولهم: المعاصي تسوق إلي الكفر. ((حس)): هذا الحديث أصل في الورع، وهو أن ما اشتبه علي الرجل أمره في التحليل والتحريم، ولا يعرف له أصل متقدم، فالورع أن يتركه ويجتنبه؛ فإنه إذا لم يتركه واستمر عليه واعتاده، جره ذلك إلي الوقوع في الحرام. ولو وجد في بيته شيئًا، لا يدري هل هو له أو لغيره، فالورع أن يجتنبه، ولا عليه تناوله، لأنه في يده. ويدخل في هذا الباب معاملة من في ماله شبهة أو خالطه ربًا، فالأولي أن يحترز عنها ويتركها، ولا يحكم بفسادها ما لم يتيقن أن عينه حرام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه من يهودي بشعير أخذه لقوت أهله، مع أنهم يربون في معاملاتهم ويستحلون أثمان الخمور. روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تسأل السلطان،

الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل مللك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن أعطوك من غير مسألة فأقبل منهم؛ فإنهم يصيبون من الحلال أكثر مما يعطونك. وروي عن ابن سيرين أن ابن عمر كان يأخذ جوائز السلطان، وكان القاسم بن محمد وابن سيرين وسعيد بن المسيب لم يقبلوا جوائز السلطان، فقيل لابن المسيب في ذلك، قال: قد ردها من هو خير مني علي من هو خير منه. قال أبو حامد الغزالي: إن السلاطين في رماننا هذا ظلمة، قلما يأخذون شيئًا علي وجهه بحقه؛ فلا تحل معاملتهم ولا معاملة من يتعلق بهم حتى القاضي، ولا التجارة في الأسواق التي بنوها بغير حق. والورع اجتناب الربط والمدارس والقناطير التي بنوها بالأموال المغصوبة التي لا يعلم مالكها. وروى ابن الأثير في كتاب المناقب عن أبي شهاب قال: كنت ليلة مع سفيان الثوري، فرأي نارًا من بعيد، فقال: ما هذا؟ فقلت: نار صاحب الشرطة، فقال: اذهب بنا في طريق آخر لا نستضىء بنارهم. قوله: ((وقع في الحرام)) ((تو)): الوقوع في الشيء السقوط فيه، وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك، وإنما قال: ((وقع في الحرام)) تحقيقًا لمداناته الوقوع، كما يقال: من أتبع نفسه هواها فقد هلك. ((شف)): إنما قال: ((وقع في الحرام)) ولم يقل: يوشك أن يقع تحقيقًا لمداناة الوقوع، كما يقال من أتبع نفسه هواها فقد هلك. أقول: ولعل السر فيه أن حمى الأملاك حدوده محسوسة، يدركها كل ذي بصر، فيحترز أن يقع فيه اللهم إلا أن يغفل أو تغلبه الدابة الجموح، وأما حمى ملك الأملاك وهو محارمه، فمعقول صرف، لا يدركه إلا الألباء من ذوي البصائر، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) يحسب أحد منهم أنه يرتع حول الحمى، يعني الشبهات، إذ هو في وسط محارمه، ومن ثمة ورد النهي في التنزيل عن القربان منها في قوله: {تلك حدود الله فلا تقربوها} لأن قربانها هو الوقوع فيها. والله أعلم. قوله: ((مضغة)) ((نه)): المضغة القطعة من اللحم قدر ما يمضغ، وجمعها مضغ، وسمي القلب بها؛ لأنه قطعة من الجسد. ((مح)): قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلي باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان لها. أقول: إنما سماه مضغة؛ لأن فيها معنى التحقير، والتكبير فيها أيضًا للتحقير تعظيمًا لشأنها، نحو قولهم: المرء بأصغريه، قال الميدإني: يعني بهما القلب واللسان، وقيل لهما الأصغران ذهابًا إلي أنهما أكتر ما في الإنسان معنى وفضلًا، كما قيل: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. والجالب للباء معنى القيام، كأنه قال: المرء يقوم معإنيه بهما ويكمل بهما، وأنشد لزهير:

2763 - وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث)). رواه مسلم. 2764 - وعن أبي مسعود الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم ببن إلا صورة اللحم والدم أقول: إعادة حرف التنبيه في قوله: ((ألا وهي القلب)) بعد الإبهام في قوله: ((ألا وإن في الجسد مضغة)) تنبيه علي فخامة شأنها وعظم موقعها، فمنزلة حرفه التنبيه في الحديث منزلة الباء في المثل، وكذا تكررها كل مرة بين الكلاميين المتصلين إشعار بفخامة مدخولها. نبه أولا أن لكل ملك من ملوك الدنيا حمى يحميه من الأغيار، ونبه ثإنياً أن الله تعالي حمى يحميه من أن يقرب منه عباده، ونبه ثالثاً أن قلب كل ملك وأن جسده حماه، فهو يحميه من إفساد الشيطان والنفس الأمارة، وكما أن صلاح الجسد بصلاحه وفساده بفساده، كذلك العكس، وصلاح الجسد إنما هو بأن يتغذى بالحلال فيصفو ويتأثر القلب بصفائه ويتنور، فينعكس نوره إلي الجسد فيصدر منه الأعمال الصالحة، وهو المعني بصلاحهما، وإذا تغذى بالحرام يصير مرتعاً للشيطان والنفس، فيتكدر ويتكدر القلب فيظلم، وتنعكس ظلمته إلي البدن فلا يصدر منه إلا المعاصي، وهو المراد بفسادهما. ثم إذا ساس القلب الجسد وهداه رشده استحق أن يكون وارث الأنبياء وخليفة الله في حماه علي عباده، يسوسهم ويكمل الناقصين منهم، ويوصلهم إلي جناب الله الأقدس، فحينئذ ترى الحديث بحراً لا ساحل له. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس عن رافع: قوله: ((ثمن الكلب خبيث)) ((قض)): الخبيث في الأصل ما يكره لرداءته وخسته، ويستعمل للحرام من حيث كرهه الشارع فاسترذله، كما يستعمل الطيب للحلال، قال تعالي: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} أي الحرام بالحلال، ولما كان مهر الزإنية - وهو ما تأخذه عوضاً للزنا-- حراماً كان الخبيث المسند إليه بمعنى الحرام. وكسب الحجام لما لم يكن حراماً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره كان المراد من المسند إليه هو الثاني. وأما نهي بيع الكلب، فمن صححه كالحنفية، فسره بالدناءة، ومن لم يصححه كأصحابنا فسره بأنه حرام. ((نه)): بغت المرأة تبغي بغاء - بالكسر- إذا زنت فهي بغي، جعلوا البغاء علي زنة العيوب كالجران والشراد؛ لأن الزنا عيب. ((فا)): بغى فعول بمعنى فاعلة. قوله: ((وحلوان الكاهن)) ((مح)): هو ما يعطاه علي كهانته، يقال: حلوته حلوانا إذا أعطيته، قال الهروى: أصله من الحلاوة، شبه المعطى بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة

2765 - وعن لأبي حجيفة، أن النبي نهي صلى الله عليه وسلم [عن] ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا، وموكله، والواشمة، والمستوشمة، والمصور. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومشقة. والكاهن هو الذي يتعاطى الأخبار الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعى معرفة الأسرار. وكانت في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرا من الأمور الكائنة، ويزعمون أن لهم تابعة من الجن تلقى إليهم الأخبار، ومنهم من يدعى انه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، ومنهم من زعم انه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها علي مواقعها كالشيء، يسرق فيعرف المظنون به السرقة فيهم، وتتهم المرأة بالزنية فيعرف من صاحبها ونحو ذلك. ومنهم من يسمى المنجم كاهنا، وحديت النهي عن إتيان الكهان يشتمل علي النهي عن هؤلاء إتيان كلهم، وعلي النهي عن تصديقهم والرجوع إلي قولهم. قال الماوردي من أصحابنا في الأحكام السلطإنية: يمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة، ويؤدب الآخذ والمعطي. وأما النهي عن ثمن الكلب، فقال جماهير العلماء: إنه محمول علي تحريم ثمنه وبطلان بيعه، وأن لا قيمة علي متلفه، سواء كان معلماً أو لا، وسواء كان يجوز اقتناؤه أم لا، وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة علي متلفها. وعن مالك روايات، إحداها: أنه لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة علي متلفه، وثإنيتها: كقول أبي حنيفة، وثالثتها: كقول الجماهير. الحديث السابع عن أبي حجيفة: قوله: ((عن ثمن الدم)) ((حس)): بيع الدم لا يجوز؛ لأنه نجس، وحمل بعضهم نهيه عن تمن الدم علي أجرة الحجام، وجعله نهي تنزيه. قوله: ((آكل الربا)) آخذه ((وموكله)) معطيه. ((حس)) الأنهما اشتركا في الفعل، وإن كان أحدهما مغتبطا والأخر مهتضما. قوله: ((والواشمة)) ((نه)): الوشم أن يغرز الجلد بإبرة تم يحشي بكحل أو نيل، فيزرق أو يخضر، وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة. ((والمستوشمة)) هي التي تفعل ذلك بها. ((مظ)): إنما نهي عنه؛ لأنه من فعل الفساق والجهال، ولأنه تغيير خلق الله. ((مح)): قال في الروضة: لو شق موضعاً من بدنه، وجعل فيه دماً، أو وشم يده أو غيرها، فإنه ينجس عند الغرز. وفي تعليق الفراء أنه يزال الوشم بالعلاج، فإن لم يمكن إلا بالجراح لا يجرح ولا إثم عليه بعد التوبة. قوله: ((والمصور)) ((حس)): أراد به الذي يصور الحيوان دون من يصور صور الأشجار

2766 - وعن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكة: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام)). فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه تطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، يستصبح [بها] الناس؟ فقال: ((لا، هو حرام)). ثم قال عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها أجملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والنبات؛ لأن الأصنام التي كانت تعبد كانت علي صور الحيوانات. ((مظ)): يدخل في النهي كل صورة مصورة في رق أو قرطاس مما يكون المقصود منه الصورة وكان الرق تبعاً له، فأما الصور المصورة في الأوإني والقصاع فإنها تبع لتلك الظروف، بمنزلة الصور المصورة علي جدر البيوت والسقوف وفي الأنماط والستور، فبيعها صحيح. الحديث الثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وهو بمكة)). بعد قوله: ((يوم الفتح)) نحو قولهم: رأيته بعيني وأخذته بيدي، والمقصود منهما تحقيق السماع وتقريره كما مر. وذكر الله تعالي قبل ذكر رسول صلى الله عليه وسلم توطئة لذكره إيذانا بأن تحريم الرسول بيع المذكورات كتحريم الله تعالي. لأنه رسوله وخليفته. قوله: ((ويستصبح بها)) المغرب: استصبح بالمصباح، واستصبح بالدهن، ومنه قوله: ويستصبح به أي ينور به المصباح. قوله: ((فقال: لا، هو حرام)) الضمير المرفوع راجع إلي مقدر بعد كلمة الاستخبار، وكلمة ((لا)) رد لذلك المقدر، وهو يحتمل أمرين: أحدهما: أخبرني، أحل انتفاع شحوم الميتة؟ وثإنيهما: أحل بيعها؟ والثاني هو المراد. ((مح)): معنى قوله: ((لا، هو حرام)) لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرام، فالضمير في ((هو)) يعود إلي البيع لا إلي الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه، وعند الجمهور لا يجوز الانتفاع به في شيء من ذلك أصلاً؛ لعموم النهي إلا ما خص، وهو الجلد المدبوغ، فالصحيح من مذهبنا جواز الانتفاع بالأدهان المتنجسة من الخارج، كالزيت والسمن وغيرهما بالاستصباح ونحوه، بأن يجعل الزيت صابونا، أو يطعم العسل المتنجس النحل، والميتة الكلاب، والطعام الدواب. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه بيع الزيت النجس، إذا بينه. قال العلماء: وفي عموم تحريم بيع الميتة أنه يحرم بيع جثة الكافر المقتول وفي الحديث أن نوفلا المخزومي قتل يوم الخندق، فبذل الكفار في جسده عشرة آلاف درهم، فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أصحابنا: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة، فيتعدى إلي كل نجاسة، والعلة في منع بيع الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة. فإن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها، ففي صحة بيعها خلاف مشهور لأصحابنا، منهم من منعه لظاهر النهي، ومنهم من جوزه اعتماداً علي الانتفاع برضاضها، وتأول الحديث علي مالا ينتفع برضاضه، أو علي كراهة التنزيه في الأصنام خاصة.

2767 - وعن عمر [رضي الله عنه]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها)). متفق عليه. 2768 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن ثمن الكلب والسنور. رواه مسلم. 2769 - وعن أنس [رضي الله عنه]، قال: حجم أبو طيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بصاعٍ من تمرٍ، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): في الحديث دليل علي أن من أراق خمر النصرإني، أو قتل خنزيراً له، أنه لا غرامة عليه؛ لأنه لا ثمن لها في حق الدين، وفي تحريم بيع الخمر والميتة، دليل علي تحريم بيع الأعيان النجسة، وإن كانت منتفعاً بها في الضرورة، كالسرقين، وفي تحريم بيع الأصنام، دليل علي تحريم بيع جميع الصور المتخذة من الخشب والحديد وغيرهما، وعلي تحريم بيع جميع آلات اللهو كالطنبور والمزمار والمعازف، فإذا طمست الصور وغيرت آلات اللهو عن حالتها يجوز بيع جواهرها وأصولها. قوله: ((قاتل الله اليهود)) ((قض)): أي عاداهم، وقيل: قتلهم فأخرج في صورة المغالبة للمبالغة، أو عبر عنه بما هو مسبب عنه؛ فإنهم بما اخترعوا من الحيلة، انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته، ومن قاتله قتله. قوله: ((أجملوه)) الضمير راجع إلي الشحوم علي تأويل المذكور، وأنشد ابن جنى: كالفراخ نتفت حواصله ويجوز أن يرجع إلي ما هو في معنى الشحوم وهو الشحم، إذ لو قيل: حرم شحمها لم يخل بالمعنى، فهو نحو قوله تعالي: ((فأصدق وأكن)). ((نه)): جملت الشحم وأجملته، إذا أذبته واستخرجت دهنه، وجملت أفصح من أجملت. ((حس)): فيه دليل علي بطلان كل حيلة تحتال للتوصل إلي محرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغيير هيئته وتبديل اسمه. الحديث التاسع والعاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((والسنور)) ((حس)): هذا محمول علي مالا ينفع، أو علي أنه نهي تنزيه، لكن يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به، كما هو الغالب، فإن كان نافعاً وباعه، صح البيع وكان ثمنه حلالاً، هذا مذهب الجمهور، إلا ما حكي عن أبي هريرة وجماعة من التابعين واحتجوا بالحديث. وأما ما ذكره الخطأبي، وابن عبد البر أن الحديث ضعيف فليس كما قالا، بل هو صحيح، رواه مسلم وغيره وقول ابن عبد البر: إنه لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة غلط؛ لأن مسلماً قد رواه في صحيحه عن معقل بن عبد الله عن أبي الزبير وهما ثقتان. الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أن يخففوا)) ((مح)): في الحديث جواز

الفصل الثاني 2770 - عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)). رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة. وفي رواية أبي داود، والدارمي: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)). [2770]. 2771 - وعن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يكسب عبدٌ مال حرامٍ، فيتصدق منه فيقبل منه؛ ولا ينفق منه، فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره ـــــــــــــــــــــــــــــ مخارجة العبد برضاه، وحقيقتها أن يقول السيد لعبده: اكتسب، وأعطني من كسبك كل يوم كذا والباقي لك، فيقول العبد: رضيت به، وفيه إباحة نفس الحجامة، وأنها من أفضل الأدوية، وإباحة التداوي، وإباحة الأجرة علي المعالجة للطبيب. وفيه جواز الشفاعة بالتخفيف إلي أصحاب الحقوق والديون. وأبو طيبه - بهاء مهملة مفتوحة- عبد لبنى بياضة اسمه نافع، وقيل غيره. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنه: قوله: ((وإن أولادكم من كسبكم)) ((فا)): إنما جعل الولد كسباً؛ لأن الوالد طلبه وسعى في تحصيله، والكسب الطلب والسعي في طلب الرزق والمعيشة، ونفقة الوالدين علي الولد واجبة، إذا كانا محتاجين عاجزين عن السعي عند الشافعي، وغيره لا يشترط ذلك، أقول: قوله: ((من كسبكم)) خبر ((إن)) و ((من)) ابتدائية، يعنى إن أطيب أكلكم أكلكم مبتدأ مما كسبتموه بغير واسطة أو بواسطة من كسب أولادكم، وتسمية الولد بالكسب مجاز. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((فيتصدق منه)) عطف علي ((يكسب)) وقوله: ((فيقبل)) مرفوع عطفًا علي ((فيتصدق)) يعنى لا يوجد الكسب الحرام المستعقب للتصدق والقبول، ويحتمل النصب جوابًا للنفي، علي تقدير ((أن)) أي فلا يكون اجتماع الكسب والتصدق سببًا للقبول، وقوله: ((ولا ينفق منه)) عطف علي قوله: ((فيتصدق)) علي تقدير المعطوف لا الانسحاب، و ((فيبارك)) نصب علي الجواب، وكذا قوله: ((ولا يتركه)) عطف علي ((فيتصدق)) والحديث من التقسيم الحاصر؛ لأن من اكتسب المال، إما أن يدخر للآخرة فيتصدق منه أو

إلا كان زاده إلي النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ؛ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)). رواه أحمد، وكذا في ((شرح السنة)) [2771]. 2772 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت. وكل لحم نبت من السحت كانت النار أولي به)). رواه أحمد، والدارمي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) [2772]. ـــــــــــــــــــــــــــــ لا، والثاني إما أن ينفق علي نفسه وعياله أو لا، والثاني هو ما أدخره لدنياه وأخذه كنزًا لنفسه، فبين أن الحرام لا يجديه ولا ينفعه فيما قصده. وإنما عدل في القرينة الأخيرة علي ما هو عليه القرينتان؛ ليلوح إلي معنى قوله تعالي: ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله- إلي قوله- يوم يحمى عليها في نار جهنم)) وأخرجه مخرج الحصر لا التعليل؛ ليقرره علي سبيل التأكيد، وهو أقوى من التعليل؛ لأن من تصدق من الحرام يمدحه الناس، وإن لم يكن مقبولاً عند الله، وكذا من أنفق فينفعه ظاهرًا، وإن لم يبارك في العاقبة، لكن من مات وترك الحرام لم يكن له إلا النار، وهذا معنى قوله: ((إلا كان زاده إلي النار)) أي كان ذلك الكسب الحرام زوادته منتهية إلي النار)). وقوله: ((إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ)) جملة مستأنفة لتعليل عدم القبول، وهو مقدمة وتوطئة لقوله: ((إن الخبيث لا يمحو الخبيث)) أي المال الحرام لا يجدي ألبتة، عبر عن عدم النفع بالخبيث. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((من السحت)) ((نه)) ((السحت)) الحرام الذي لا يحل كسبه؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها، والسحت الرشوة في الحكم. أقول: أسند عدم دخول الجنة إلي اللحم لا إلي صاحبه، إشعارًا بالعلية، وأنه خبيث لا يصلح أن يدخل الطيب؛ ولذلك أتبعه بقوله: ((النار أولي به)) لأن الخبيث للخبيث. وفيه أن من تاب في الدنيا، وبدل الخبيث بالطيب يدخل الجنة، هذا علي ظاهر الاستحقاق، أما إذا تاب الله عليه أو غفر له من غير توبة، وأرضي خصمه أو نالته شفاعة شفيع، فهو خارج من هذا الوعيد.

2773 - وعن الحسن بن علي [رضي الله عنهما]، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلي مالا يريبك، فإن الصدق طمإنينة، وإن الكذب ريبة)). رواه أحمد، والترمذي. والنسائي. وروى الدارمي الفصل الأول [2773]. 2774 - وعن وابصة بن معبد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا وابصة! جئت تسأل عن البر والإثم؟)) قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه، فضرب صدره، وقال: ((استفت نفسك. استفت قلبك)) ثلاثًا ((البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: قوله: ((دع مايريبك)) ((تو)): أي دع ما اعترض لك الشك فيه منقلبًا عنه إلي مالا شك فيه، يقال: دع ذلك أي استبدله به. ((نه)): الريب الشك، وقيل: هو الشك مع التهمة، يقال: رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني وأوهمني الريبة فيه، فإذا استيقنته، قلت: ربني بغير ألف، ويروى هذا الحديث بفتح الياء وضمها، والفتح أشهر ((غب)): الريب أن يتوهم في الشيء أمرٌ ما، ثم ينكشف عما يوهم فيه، والإرابة أن يتوهمه، فينكشف خلاف ما توهم، ولذلك قيل: القرآن فيه إرابة وليس فيه ريب. قوله: ((فإن الصدق طمإنينة)) ((تو)): جاء هذا القول ممهدًا لما تقدمه من الكلام، ومعناه إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإن نفس المؤمن تطمئن إلي الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك في الشيء منبئ عن كونه باطلا، أو مظنة للباطل فاحذره. واطمئنانك إلي الشيء مشعر بكونه حقًا، فاستمسك به. والصدق والكذب يستعملان في المقال والفعال، وما يحق أو يبطل من الاعتقاد، وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة من أوضار الذنوب وأوساخ الآثام. الحديث الخامس عن وابصة: قوله: ((عن البر والإثم)) ((نه)): ((البر)) بالكسر الإحسان، يقال بر يبر فهو بار وبر، وجمع البار بررة، وفي الغريبين ((البر)) اسم جامع للخير كله، ومنه قوله تعالي: ((ولكن البر من اتقى)) والبر الزيادة في الإحسان والاتساع فيه، وسميت البرية برية؛ لاتساعها، ((والإثم)) هو الذنب؛ وقد أثم الرجل بالكسر إثمًا ومأثمًا إذا وقع في الذنب. قوله: ((ما حاك)) ((نه)): أي أثر فيها ورسخ، يقال: ما يحيك كلامك في فلان، أي ما يؤثر، والإثم ماحاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، أي أثر في قلبك وأوهمك أنه ذنب وخطيئة.

والإثم ماحك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس)). رواه أحمد، والدارمي [2774]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): هذا الحديث من دلائل النبوة ومعجزات الرسول؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر عما في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به، والمعنى أن الشيء إذا أشكل عليك والتبس ولم تتبين أنه من أي القبيلين هو؟ فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد، وليسأل المجتهدين إن كان من المقلدين، فإن وجد ما تسكن إليه نفسه ويطمئن به قلبه وينشرح به صدره، فليأخذ به وليختر لنفسه، وإلا فليدعه، وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة، هذا طريقة الورع والاحتياط، وحاصله راجع إلي حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، ولعله إنما عطف اطمئنان القلب علي اطمئنان النفس؛ للتقرير والتأكيد؛ فإن النفس إذا ترددت في أمر وتحيرت فيه وزال عنها القرار، استتبع ذلك العلاقة التي بينها وبين القلب، الذي هو المتعلق الأول لها، فتنقل العلاقة إليه من تلك الهيئة أثرًا فيحدث فيه خفقان واضطراب، ثم ربما يسري هذا الأثر إلي سائر القوى، فيحسن بها الحلال والحرام، فإذا زال ذلك عن النفس، وحدث لها قرار وطمإنينة، انعكس الأثر، وتبدلت الحال علي مالها من الفروع والأعضاء. وقيل: المعني بهذا الأمر أرباب البصائر من أهل النظر والفكرة المستقيمة، وأصحاب الفراسات من ذوي النفوس المرتاضة والقلوب السليمة؛ فإن نفوسهم بالطبع تصبو إلي الخير وتنبو عن الشر، فإن الشيء ينجذب إلي ما يلائمه وينفر عما يخالفه؛ ويكون ملهمة للصواب في أكتر الأحوال. ((تو)): وهذا القول وإن كان غير مستبعد؛ فإن القول يحمله علي العموم فيمن تجمعهم كلمة التقوى، وتحيطهم دائرة الدين أحق وأهدى. أقول: ولعل هذا الوجه أرجح؛ لأن المراد من النفس هو القلب علي الاستعارة؛ لأن الإنسان كما يتقوم بالنفس كذلك يتقوم بالقلب، ودل تكرير ((استفت استفت)) علي اتحادهما، ثم إذا كرر ثلاث مرات زاد التأكيد أضعافًا، فإذا حصل ذلك بعد ضرب جمع الكف علي صدر وابصة مخاطبًا له ((بنفسك)) وأنه خطاب لمثل وابصة، ومن هو علي صفته من شرف النفس وكرم الخلق، دل علي أنه لا ينبغي له أن يتجاوز نفسه إلي الغير، ولا يستفتى إلا عن نفسه؛ ولذلك جاء بقوله: ((وإن أفتاك الناس)) فإنها شرط قطع عن الجزاء، تتميمًا للكلام السابق وتقريرًا له علي سبيل المبالغة. وقيل: الضمير في ((صدره)) يعود إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوهمه قوله: ((قال)) ويجوز أن يكون من كلام الراوي غير وابصة، وهو أولي بسياق المعنى كما مر. فإن قلت: سياق الحديث الأول في الصدق والكذب، وهذا في البر والإثم، فكيف وردا في باب الكسب؟ وأي مناسبة بينهما؟ قلت: قوله: ((طمإنينة)) كالبيان والتفسير للصدق، فلا يراد به المتعارف بل أعم، فهو حينئذ من باب عموم المجاز، ويشتمل علي الصدق في المقال والفعال، ومن الفعال طلب كسب الحلال، والكذب يقابله الكذب في المعنى.

2775 - وعن عطية السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرًا لما به بأس)). رواه الترمذي، وابن ماجه [2775]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((غب)): الصدق والكذب أصلهما في القول، وقد يستعملان في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو صدق ظنى وكذب، وفي أفعال الجوارح، فيقال: صدق في القتال إذا أوفي حقه، وكذب في القتال إذا كان بخلاف ذلك، قال تعالي: {والذي جاء بالصدق وصدق به} أي حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا، ويعبر عن كل فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق - انتهي كلامه- فقس علي هذا قوله: ((البر ما اطمأنت إليه النفس)) فإن ((ما اطمأنت)) تعريف لـ ((البر))، فلا يراد به الإحسان المطلق، بل ما اشتمل عليه وعلي غيره كما مر في الصدق. الحديث السادس عن عطية: قوله: ((أن يكون من المتقين)) ظرف ((يبلغ)) علي تقدير مضاف أي بلغ درجة المتقين، يقال: بلغت المكان وصلت إليه، والتركيب من باب قوله تعالي: {إني لعملكم من القالين} يعنى ممن له مساهمة مع المتقين في هذه الصفة، وأن الوصف كاللقب المشهود له، وإنما جعل المتقى من يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس؛ لآن المتقى في اللغة اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، ومنه فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهي تقي حافرها أن يصيبها أدنى شيء يؤلمه، وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. وقيل: التقوى علي ثلاث مراتب: الأولي: التوقي عن عذاب الخلد بالتبرؤ عن الشرك، كقوله تعالي: {وألزمهم كلمة التقوى}. والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف بالتقوى في الشرع، والمعني بقوله: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق، ويتبتل بشراشره إلي الله، وهو التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله: {اتقوا الله حق تقاته} والحديث وإن استشهد به للمرتبة الثانية، فإنه يجوز أن ينزل علي المرتبة الثالثة. والله أعلم. واللام في ((لما به بأس)) بيان لـ ((حذرًا)) لا صلة؛ لأن صلته ((من)) ونحوه قوله تعالي: {هيت لك} وقوله: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} كأنه قيل: حذرًا لماذا؟ فقيل: لما به بأس. وهذا الحديث أبلغ وأجمع من الحديثين السابقين عليه.

2776 - وعن أنسٍ، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرةً: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له. رواه الترمذي، وابن ماجه [2776]. 2777 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [2777] 2778 - وعن محيصة، أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجرة الحجام، فنهاه، فلم يزل يستأذنه، حتى قال: ((اعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك)). رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2778] 2779 - وعن أبي هريرة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وكسب الزمارة. رواه في ((شرح السنة)). [2779] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ومعتصرها)) الجوهري: عصرت العنب واعتصرته وانعصر، وقد اعتصرت عصيرًا أي اتخذته. ((شف)): العاصر قد يكون عصره لغيره، والمعتصر الذي يعصر الخمر لنفسه، كقولك: كال واكتال وقصد واقتصد. أقول: قوله: ((لعن في الخمر)) معناه في شأنها وبسببها، لعن من سعى فيها سعيًا ما علي ما عدد من العاصر والمعتصر وما أردفهما، وإنما أطنب فيه ليستوعب من زاولها مزاولة بأي وجه كان، ومن باع العنب من العاصر وأخذ ثمنه، فهو أحق باللعن، وهؤلاء لما حرمت عليهم الخمر، وباعوا ما هو أصل لها ممن علموا أنه يتخذها خمرًا، لا يبعد أن يكونوا ممن قيل فيه: ((قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها)). الحديث التاسع عن محيصة: قوله: ((ناضحك)) الناضح الجمل الذي يستقى به الماء قوله: ((فنهاه)) ((مح)): هذا نهي تنزيه للارتفاع عن دني الاكتساب، وللحث علي مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا لم يفرق بين الحر والعبد؛ فإنه لا يجوز للسيد أن يطعم عبده ما لا يحل. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الزمارة)) قال أبو عبيد: تفسيره في الحديث أنها الزإنية ولم أسمع هذا الحرف إلا فيه، ولا أدري من أي شيء أخذ، وقد نقل

2780 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، وثمنهن حرام، وفي مثل هذا نزلت: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث})). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وعلي بن يزيد الراوي يضعف في الحديث. [2780] وسنذكر حديث جابر: نهي عن أكل الهر في باب ((ما يحل أكله)) إن شاء الله تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الهروي عن الأزهري أنه قال: يحتمل أن يكون نهي عن كسب المرأة المغنية، يقال: غناء زمير أي حسن، ويقال: زمر إذا غنى، وزمر الرجل إذا ضرب المزمار فهو زمار، ويقال للمرأة: زامرة قيل: ويحتمل أن يكون تسمية الزامرة زمارة؛ لأن الغالب علي الزوإني اللاتي اشتهرن بذلك العمل الفاحش واتخذنه حرفة، كونهن مغنيات، وذهب بعضهم إلي أن الصواب فيه تقديم الراء علي الزاي، وهي التي تومئ بشفتيها وعينيها، والزاوني يفعلن ذلك، قال الشاعر: رمزت إلي مخافة من بعلها من غير أن يبدو هناك كلام الحديث الحادي عشر عن أبي أمامة: قوله: ((القينات)) الجوهري: القينة الأمة مغنية كانت أو غيرها من التقيين وهو التزيين، وسميت بذلك لأنها تصلح البيت وتزينه. ((تو)): وفي الحديث يراد بها المغنية؛ لأنها إذا لم تكن مغنية، فلا وجه للنهي عن بيعها وشرائها. ((قض)): النهي مقصور علي البيع والشرى لأجل التغني، وحرمة ثمنها دليل علي فساد بيعها، والجمهور صححوا بيعها، والحديث مع ما فيه من الضعف للطعن في رواية مؤول بأن أخذ الثمن عليهن حرام، كأخذ ثمن العنب من النباذ؛ لأنه إعانة وتوسل إلي حصول محرم، لا لأن البيع غير صحيح. قوله: ((لهو الحديث)) الإضافة فيه بمعنى ((من)) للبيان، نحو جبة خز، وباب ساج، أي يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، والمراد بـ ((لحديث)) الحديث المنكر، فيدخل فيه نحو التسمر بالأساطير، والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك والغناء وتعلم الموسيقى وما أشبه ذلك، نزلت في النضر بن الحارث كان يشترى المغنيات ليضل عن سبيل الله.

الفصل الثالث 2781 - عن عبد الله [بن مسعود]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [2781]. 2782 - وعن ابن عباس [رضي الله عنهما]، أنه سئل عن أجرة كتابة المصحف. فقال: لا بأس، إنما هم مصورون، وإنهم إنما يأكلون من عمل أيديهم. رواه رزين. 2783 - وعن رافع بن خديجٍ، قال: قيل: يا رسول الله! أي الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرورٍ)) رواه أحمد. [2787] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((فريضة بعد الفريضة)) يحتمل معنيين: أحدهما: بعد الفريضة المعلومة عند أهل الشرع، وثإنيهما: فريضة متعاقبة بعضها يتلو البعض، أي لا غاية لها؛ لأن طلب كسب الحلال أصل الورع وأساس التقوى. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((مصورون)) الصورة الهيئة والنقش، والمراد هاهنا النقش، وفي ((إنما)) إشعار بالمجموع، لأنه أثبت النقش ونفي المنقوش، والقرآن لما كان عبارة عن المجموع من القراءة والمقروء، والكتابة، والمكتوب، فالمقروء، والمكتوب هو القديم، والكتابة والقراءة ليستا من القديم؛ لأنهما من أفعال القارئ والكاتب، فلما نظر السائل إلي معنى المقروء والمكتوب، وأنهما من صفات القديم، عظم شأنه بأن يأخذ الأجرة، وحبث نظر ابن عباس رضي الله عنهما إلي الكتابة والقراءة، وأنهما من صفات الإنسان جوزها. ((حس)): قال الله تعالي: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} يريد ذكر القرآن لهم وتلاوته عليهم، وعلمهم به كل ذلك محدث، والمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله محدث، والمذكور غير محدث. وروى عن ابن عباس في قوله عز وجل: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج} قال: غير مخلوق. الحديث الثالث عن رافع: قوله: ((مبرور)) أي مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسدًا، أو عند الله بأن يكون مثابًا به.

2784 - وعن أبي بكر بن أبي مريم، قال: كانت لمقدام [بن] معدي كرب جاريةٌ تبيع اللبن. ويقبض المقدام ثمنه، فقيل له: سبحان الله! أتبيع اللبن؟ وتقبض الثمن؟ فقال: نعم! وما بأسٌ بذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليأتين علي الناس زمانٌ لاينفع فيه إلا الدينار والدرهم)) رواه أحمد. [2784] 2785 - وعن نافعٍ، قال: كنت أجهز إلي الشام، وإلي مصر، فجهزت إلي العراق، فأتيت إلي أم المؤمنين عائشة، فقلت لها: يا أم المؤمنين! كنت أجهز إلي الشام فجهزت إلي العراق. فقالت: لاتفعل! مالك ولمتجرك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سبب الله لأحدكم رزقًا من وجهٍ فلا يدعه حتى يتغير له، أو يتنكر له)) رواه أحمد، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((أتبيع اللبن)) يجوز أن يكون ((تبيع)) مسندًا إلي الجارية علي الحقيقة، أنكر بيع الجارية اللبن وقبض المقدام ثمنه، فالإنكار متوجه إلي معنى الدناءة، أي أترضي بفعل الجارية الدنيئة شيئًا دنيئًا فتقبضه؟ وأن يكون مسندًا إلي المقدام علي المجاز، فالإنكار متوجه إلي البيع والقبض معًا، وقوله: ((نعم)) جواب عن معنى الإنكار، أي أترضي بهذا الفعل الدنىء؟ فقال: ((نعم))، وتنزيل الجواب علي الوجه الأول أولي، ويؤيده تأكيده بقوله: ((وما بأس بذلك)) و ((ما)) في قوله: ((ما بأس)) بمعنى ((ليس)) وهو يقتضى أن يكون ((بأس)) مرفوعًا به، ولم تجىء ((ما)) بمعنى ((لا)) التي لنفي الجنس، اللهم إلا علي الاستعارة؛ فإنها غير متوقفة علي السماع. قوله: ((لا ينفع فيه إلا الدينار والدرهم)) معناه لا ينفع الناس شيء، إلا الكسب، إذ لو تركوه لوقعوا في الحرام، كما روي عن بعضهم، وقيل له: إن التكسب يدنيك من الدنيا، قال: لئن أدنانى من الدنيا لقد صانني عنها، وكان السلف يقولون: اتجروا واكتسبوا؛ فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وروى عن سفيان وكانت له بضاعة يقلبها: لولاها لتمندل بى بنو العباس، أي لجعلوني كالمنديل يمسحون بى أوساخهم. الحديث الخامس عن نافع: قوله: ((أجهز)) ((نه)): في الحديث ((من لم يغز ولم يجهز غازيًا)) تجهيز الغازى تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في الغزو - انتهي كلامه- وفي هذا الحديث مفعوله محذوف، أي كنت أجهز وكلائي ببضاعتي ومتاعي إلي الشام. قوله: ((ولمتجرك)) عطف تفسيري لقوله: ((لك)) علي طريقة قوله: أعجبنى زيد وكرمه، والمعنى ما تصنع بمتجرك الذي تركته وكانت البركة فيه. و ((أو)) في قوله: ((أو يتنكر)) يجوز أن يكون من شك الراوى أو

2786 - وعن عائشة، قالت: كان لأبي بكر [رضي الله عنه] غلامٌ يخرج له الخراج، فكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيٍء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ماهذا؟ فقال أبو بكر: وماهو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أنى خدعته، فلقينى فأعطإني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. قالت: فأدخل أبو بكرٍ يده، فقاء كل شيء في بطنه. رواه البخاري. 2787 - وعن أبي بكر [رضي الله عنه]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [2787] 2788 - [وعن زيد بن أسلم، أنه قال: شرب عمر بن الخطاب لبنًا، وأعجبه، وقال للذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد علي ماءٍ قد سماه، فإذا نعم من نعمِ الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لي من ألبانها، فجعلته في سقائي، وهو هذا. فأدخل عمر يده فاستقاءه. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [2788] 2789 - وعن ابن عمر، قال: من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيه درهمٌ حرامٌ، لم يقبل الله له صلاةً مادام عليه، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: صمتا إن ـــــــــــــــــــــــــــــ للتنويع، والمراد بالتغيير حينئذ عدم الربح، وبالتنكير خسران رأس المال بسبب الحوادث، وفيه أن من أصاب من أمر مباح خيرًا، وجب عليه ملازمته، ولا يعدل منه إلي غيره إلا لصارف قوى، لأن كلا ميسر لما خلق له. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الخراج)) علي تقدير مضاف، أي يكسب له مال الخراج، والخراج هو الضريبة علي العبد بما يكسبه، فيجعل لسيده شطرًا من ذلك، والاستثناء في قوله: ((إلا إني خدعته)) منقطع، يعنى لم أكن أجيد الكهانة، لكني خدعته، وإنما قاء أبو بكر رضي الله عنه؛ لكونه حلوانا للكاهن لا للخادع. الحديث السابع والثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لم يقبل الله تعالي له صلاة)) كان الظاهر أن يقال: منه، لكن المعنى لم يكتب الله له صلاة مقبولة، مع كونها مجزئة مسقطة للقضاء كالصلاة في الدار المغصوبة. قوله: ((صمتا)) الأظهر أن تكون مفتوحة الصاد، وإذا صح ضمها، فعلي معنى سد تا من قولهم: صممت القارورة أي سددتها، وهو دعاء علي أذنيه تأكيدًا وتقريرًا لإثبات السماع علي منوال قولهم: سمعته بأذني، واسم ((كان)) النبي صلي الله وخبره

(2) باب المساهلة في المعاملات

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقوله. رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: إسناده ضعيف. [2789] (2) باب المساهلة في المعاملات الفصل الأول 2790 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) رواه البخاري. 2791 - وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلاً كان فيمن قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظر. قال: ما أعلم شيئًا، غير إني كنت أبايع الناس ئي الدنيا وأجازيهم فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر؛ فأدخله الله الجنة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((سمعته)) نحو زيد ضربته، وزيد انطلق أبوه، وهو من الإسناد السيء؛ لأن الخبر مسند إلي متعلق المبتدأ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، وهو قوله: ((صمتا)) وهو أبلغ من لو قيل: إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. قال ابن جني: قالوا: زيد ضربته أبلغ من ضربت زيدا؛ فإنهم قدموا المفعول؛ لأن الغرض هنا ليس ذكر الفاعل، وإنما هو ذكر المفعول فقدم عناية بذكره، ثم لم يقنع بذلك حتى أزالوه عن لفظ الفضلة، وجعلوه رب الجملة لفظًا، فرفعوه بالابتداء، وصار قوله: ضربته ذيلاً له وفضلة ملحقة به- انتهي كلامه - وكذلك في الحديث القصد صدور هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المهتم بشأنه، وسماعه منه تابع له، وعلي عكس هذا لو قيل: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. باب المساهلة في المعاملة الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((سمحًا)) أي سهلاً، وهو صفة مشبهة تدل علي الثبوث؛ فلذلك كرر أحوال البيع والشرى والتقاضي. الجوهري: سمح به أي جاد به، وسمح بالضم فهو سمح وامرأة سمحة، والمسامحة المساهلة. ((قض)): رتب الدعاء عليه؛ ليدل علي أن السهولة والتسامح في المعاملة سبب لاستحقاق الدعاء؛ ولكونه أهلا للرحمة. و ((الاقتضاء)) التقاضي وهو طلب قضاء الحق. الحديث الثاني عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((فقيل له)) ((مظ)): هذا السؤال منه كان في القبر. أقول: يحتمل أن يكون ((فقيل)) مسنداً إلي الله تعالي، وأن يكون في القيامة لقوله بعد

1791 - وفي رواية لمسلم نحوه عن عقبة بن عامرٍ وأبي مسعودٍ الأنصاري ((فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي)). 2793 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق)) رواه مسلم. 2794 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك: ((أبايع الناس في الدنيا)). وقوله: ((فأدخله الله الجنة)) والفاء في ((فقيل)) عاطفة علي مقدر، أي أتاه الملك ليقبض فقبضه فبعثه الله تعالي، فقال له فأجابه، فأدخله الله الجنة. وعلي التقدير الأول فقبض وأدخل القبر، فتنازع ملائكة الرحمة والعذاب فيه، فقيل له ذلك، وينصر هذا الوجه الرواية الأخرى ((تجاوزوا عن عبدي)). قوله: ((وأجازيهم)) الجوهري: جزي عني هذا الأمر أي قضى، وتجازيت ديني علي فلان إذا تقاضيته، والمتجازي المتقاضي. ((مح)): فيه فضل إنظار المعسر والوضع عنه قليلاً أو كثيراً، وفضل المسامحة في الاقتضاء من الموسر، وفيه عدم احتقار أفعال الخير، فلعله يكون سبباً للسعادة والرحمة. الحديث الثالث عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((إياكم وكثرة الحلف)) ((إياكم)) منصوب علي التحذير أي اتقوا أنفسكم عن إكثار الحلف، وإيثار الحلف عن أنفسكم، كرره للتأكيد والتنفير، والنهي عن كثرة الحلف فيه لا يقتضي جواز قلتها؛ لأن النهي وارد علي أهل السوق، وعادتهم كثرة الحلف، كقوله تعالي: {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة}. و ((ثم)) في ((يمحق)) يجوز أن تكون للتراخي في الزمان، يعني وأن أنفق اليمين السلعة حالاً فإنه يذهب بالبركة مآلا، كقول ابن مسعود: الربا وإن كثر إلي قل، وأن تكون للتراخي في الرتبة، يعني أن محقه البركة حينئذ أبلغ من الإنفاق، والمراد من محق البركة عدم انتفاعه به ديناً ودنيا. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((منفقة للسلعة ممحقة)) ((مح)): بفتح أولهما وثالثهما، وتسكين ثإنيهما. ((نه)): ((منفقة للسلعة)) أي مظنة لنفاقها وموضع له، والمحق النقص والمحو والإبطال، ((وممحقة)) مفعلة منه أي مظنة له أو مجزاة به.

2795 - وعن أبي ذر [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم؟ يا رسول الله! قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم. الفصل الثاني 2796 - عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي، والدارقطني. [2796] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((المسبل)) هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلي الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبراً واختيالا. قوله: ((والمنان)) ((نه)): ((المنان)) يؤول علي وجهين، أحدهما: من المنة التي هي الاعتداد بالصنيعة، وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن وقعت في المعروف كدرت الصنيعة، وقيل: هو من المن وهو النقص، يريد النقص من الحق والخيانة، ومنه قوله تعالي: {وإن لك لأجراً غير ممنون} أي غير منقوص، ومنه سمى الموت منونا؛ لأنه ينقص الأعداد، والمنفق بالتخفيف. أقول: إنما جمع الثلاثة في قرن واحد؛ لان مسبل الإزار وهو المتكبر الذي يترفع بنفسه علي الناس، ويحط من منزلتهم ويحقر شأنهم، والمنان إنما يمن بعطائه السائل لما رأي من فضله وعلوه علي المعطى له، والحالف البائع يراعى غبطة نفسه، والهضم من حق صاحبه، والحاصل من المجموع عدم المبالاة بالغير وإيثار نفسه عليه، ولذلك يجازيه الله تعالي بعدم المبالاة والالتفات إليه، كنما لوح صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)) إلي آخره. فإن قلت: مرتبة الجزاء أن يؤخر عن الفعل، فلم قدم ذكره في الحديث؟ قلت: ليفخم شأنه ويهول أمر مرتكبيه في خلد السامع، فيذهب بنفسه كل مذهب، ومن ثم قال أبو ذر: ((خابوا وخسروا من هم))، ولو قيل: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف لا يكلمهم الله، لم يقع هذا الموقع، ونظيره قول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((مع النبيين والصديقين)) بعد قوله:

2797 - ورواه ابن ماجه عن ابن عمر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب [2797]. 2798 - وعن قيس بن أبي غرزة، قال: كنا نسمى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم السماصرة، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: ((يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة))، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [2798]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((التاجر الصدوق الأمين)) حكم مرتب علي الوصف المناسب، وهو من قوله تعالي: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وذلك أن اسم الإشارة يشعر أن ما بعده جدير بمن قبله؛ لاتصافه بصفة إطاعة الله ورسوله. وإنما قلنا: إن الوصف مناسب للحكم؛ لأن ((الصدوق)) بناء مبالغة من الصدق كالصديق، وإنما يستحق التاجر هذا الوصف إذا كثر تعاطيه الصدق قولاً وفعلاً، وهذا أخص أوصاف النبيين، وكذلك ((الأمين)) بناء مبالغة فحكمه حكم الصدوق؛ لأن الأنبياء ليسوا غير أمناء الله علي عباده، فلا غرو ولا عجب لمن اتصف بهذين الوصفين أن ينخرط في زمرة النبيين والصديقين والشهداء، وقليل ما هم، وقد سبق فضل الكسب الحلال ونفعه لصاحبه، وسرايته إلي عموم الخلق في أول باب الكسب. الحديث الثاني عن قيس: قوله: ((السماسرة)) ((نه)): هي جمع سمسار وهو القيم بالأمر الحافظ له، وهو في البيع اسم للذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع، والسمسرة البيع والشرى، قوله: ((باسم هو أحسن)) وذلك أن التجارة عبارة عن التصرف في رأس المال طلبًا للربح، والسمسار كذلك، لكن الله تعالي ذكر التجارة في كتابه غير مرة علي سبيل المدح، كما قال تعالي: {هل أدلكم علي تجارة تنجيكم من عذاب} وقوله: {تجارة لن تبور} و {تجارة عن تراض}. قوله: ((اللغو)) هو من الكلام مالا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى [اللغا]، وهو صوت العصافير. قوله: ((فشوبوه)) ((نه)):

2799 - وعن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى وبر وصدق)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [2799] 2800 - وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) عن البراء. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [2800]. [وهذا الباب خالد من الفصل الثالث] ـــــــــــــــــــــــــــــ في الحديث ((لا شوب ولا روب)) أي لا غش ولا تخليط في شرى أو بيع، وأصل الشوب الخلط، والروب من اللبن الرائب لخلطه بالماء، أقول: ربما يحصل من الكلام الساقط وكثرة الحلف كدورة في النفس، فيحتاج إلي إزالتها وصفائها، أمر بالصدقة ليزيل تلك الكدورة ويصفيها، وفيه أشار بكثرة الصدق؛ فإن الماء القليل الصافي لا يكتسب من الكدر إلا كدورة. وقيل: إن اللغو والحلف يوجبان سخط الله تعالي، والصدقة تطفئ غضب الرب، ولفظ الشوب لا يساعد علي هذا المعنى. الحديث الثالث عن عبيد: قوله: ((التجار)) ((قض)): لما كان من ديدن التجار التدليس في المعاملات، والتهالك علي ترويج السلع بما تيسير لهم من الإيمان الكاذبة ونحوها، حكم عليهم بالفجور، واستثنى منهم إلا من اتقى المحارم وبر في يمينه وصدق في حديثه، وإلي هذا ذهب الشارحون، وحملوا هذا الحديث علي ما قبله، وعللوا الفجور باللغو والحلف، فهلا حملوه علي حديث أبي سعيد ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين)) لأن الفجار قوبل بالأبرار في قوله تعالي: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} وقوله: {إن كتاب الفجار لفي سجين} وقوله: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} فمن تحرى الصدق والأمانة في تجارته، كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين، ومن توخي خلافهما، كان في قرن الفجار من الفسقة والعاصين. ((غب)): أصل الفجر شق الشيء، شقاً واسعًا، قال تعالي: {وفجرنا خلالهما نهراً} والفجور شق ستر الديانة، يقال: فجر فجوراً فهو فاجر وجمعه فجار وفجرة.

(3) باب الخيار

(3) باب الخيار الفصل الأول 2801 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار علي صاحبه مالم يتفرقا إلا بيع الخيار)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((إذا تبايع المتبايعان فكل واحدٍ منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيارٍ، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب)). ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الخيار الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بالخيار)) خبر لقوله: ((كل واحد)) أي محكوم بالخيار، والجملة خبر لقوله: ((المتبايعان)). ((نه)): هو الاسم من الاختيار، وهو طلب خير الأمرين إما إمضاء البيع أو فسخه. ((تو)): اختلف العلماء في معنى قوله: ((ما لم يتفرقا)) فذهب جمع إلي أن معناه التفرق بالأبدان، فأثبتوا لهما خيار المجلس، وقالوا: سماهما المتبايعين وهما المتعاقدان؛ لأن البيع من الأسماء المشتقة من أفعال الفاعلين، وهي لا تقع في الحقيقة إلا بعد حصول الفعل منهم، وليس بعد العقد تفريق إلا التميز بالأبدان. وذهب آخرون إلي أنهما إذا تعاقدا صح البيع، ولا خيار لهما إلا أن يشترطا، وقالوا: المراد من التفرق هو التفرق بالأقوال، ونظيره قوله تعالي: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سمعته} وأما تسميتهما بالمتبايعين، فيصح أن يكون بمعنى المتساومين، وهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه أو يقرب منه. ((قض)): المفهوم من التفرق هو التفرق بالأبدان وعليه إطباق أهل اللغة. وإنما سمي الطلاق تفرقًا في قوله تعالي: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} لأنه يوجب تفرقهما بالأبدان. ومن نفي خيار المجلس، أول التفرق بالتفرق بالأقوال، وهو الفراغ من العقد، وحمل المتبايعين علي المتساومين؛ لأنهما علي صدد البيع، فارتكب مخالفة الظاهر من وجهين بلا مانع يعوق عنه، مع أن هذا الحديث [رواي] البخاري وغيره من أئمة الحديث، وأوردوه بعبارة تأبي قبول هذا التأويل، ومن ذلك ما أورده في الحسان ((وإلا بيع الخيار)) استثناء عن مفهوم الغاية، والمعنى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا سقط الخيار ولزم العقد إلا بيع الخيار أي بيعًا شرط فيه الخيار، فإن الخيار بعد باق إلي أن يمضي الأمد المضروب للخيار

وفي رواية للترمذي: ((البيعان بالخيار مالم يتفرقا أو يختارا)) وفي المتفق عليه: ((أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) بدل ((أو يختارا)). 2802 - وعن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار)) ـــــــــــــــــــــــــــــ المشروط. وقيل: الاستثناء من أصل الحكم؛ والمعنى أنهما بالخيار إلا في بيع إسقاط الخيار ونفيه، أي في بيع شرط فيه نفي الخيار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومن هذين الوجهين نشأ الخلاف في صحة شرط نفي خيار المجلس فيما بين القائلين به، والأول أظهر لقلة الإضمار وإيلاء الاستثناء بالمتعلق به. وقيل: معناه إلا بيعًا جرى التخاير فيه، وهو أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيقول: اخترت، فإن العقد يلزم به ويسقط الخيار فيه وإن لم يتفرقا بعد. أقول: وظهر من هذا أن ((أو)) في قوله: ((أو يختارا)) مثلها في قولك: لزمتك أو تعطيني حقي إلا أن تختار. ((تو)): قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا بيع الخيار)) المراد منه عند من لا يرى خيار المجلس خيار الشرط، وقد أنكر الخطأبي علي هذا التأويل، وصرح القول بفساده، وقال: الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار، فلا يجوز أن يكون ما استثني عنه إثباتًا مثله. وكأن هذا القول صدر منه من غير روية؛ لأن في قوله: ((ما لم يتفرقا)) دليلاً ظاهراً علي نفي الخيار بعد وجوب البيع، فوقع الاستثناء عن المعنى المنفي. أقول: أجاب القاضي عنه للخطابي، وبين المستثنى منه المثبت بقوله: ولزم العقد، وهو المعني بقوله: ((إلا بيع الخيار)) استثناء عن مفهوم الغاية، وهو الحق؛ لأن الكلام إنما يتم بآخره. هذا من حيت الاجتهاد، وأما النص فلا يساعد إلا وجوب البيع، ونفي الاختيار إما بالشرط أو بلفظ اختر؛ لأن الروايات التالية بيان له، ولا يجوز العدول عن بيان الرسول لمراده من كلامه إلي الاحتمال. ((مح)): اتفق أصحابنا علي أن المراد من الحديث التخيير بعد تمام العقد قبل مفارقة المجلس، وتقديره: يثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا في المجلس ويختارا إمضاء البيع، فيلزم البيع بنفس التخاير، ولا يدوم إلي المفارقة، وهو المنصوص للشافعي ونقلوه عنه، وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قائله، وممن رجحه من المحدثين البيهقي، تم بسط دلائله وبين ضعف ما يعارضها. والله أعلم. الحديث الثاني عن حكيم: قوله: ((فإن صدقا وبينا)) ((مح)) و ((مظ)): يعني فإن صدق البائع في صفة المبيع، وبين ما فيه من عيب ونقص، وكذا المشتري فيما يعطي في عوض المبيع ((بورك)) أي كثر نفع البائع من الثمن ونفع المشتري في المبيع، ((وإن كتما)) عيب متاعهما وكذا

ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) متفق عليه. 2803 - وعن ابن عمر، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أخدع في البيوع. فقال: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة)) فكان الرجل يقوله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في صفات ذلك، ((محقت)) أي نفيت وأزيلت بركة بيعهما. أقول: قوله: ((فإن صدقا)) هذا القيد فيه إشعار بأن علة شرعية خيار المجلس تحري المتبايعين في المبيع من الوقوف علي عيبه، أو أن له غرضًا ما فيه، أو أنه يغبن فيه ولا يعلم، وليس له في المبيع ما قصده من الغرض، فعلي كل من المتبايعين نصح صاحبه من بيان العيب، وعدم حصول الغرض منه، فإن كتم ذلك ولم يبين خانه، ومن نفي خيار المجلس أبطل هذا الغرض. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إني أخدع في البيوع)) ((قض)): ذلك الرجل حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني، وقد صرح به في بعض الروايات و ((الخلابة)) الخداع، يقال: خلبت الرجل خلابة إذا خدعته، والحديث يدل علي أن الغبن لا يفسد البيع ولا يثبت الخيار؛ لأنه لو أفسد البيع أو أثبت الخيار لنبه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه ولم يأمره بالشرط، وقال مالك: إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة فله الخيار، وقال أبو ثور: إذا كان الغبن فاحشًا لا يتغابن الناس بمثله فسد البيع، وأنه إذا ذكرت هذه الكلمة في العقد، ثم ظهرت فيه غبينة كان له الخيار، وكأنه شرط أن يكون الثمن غير زائد عن ثمن المثل، فيضاهي ما إذا شرط وصفاً مقصوداً في المبيع فبان خلافه، وهو قول أحمد. وذهب أكثر العلماء، إلي أن مجرد هذا اللفظ لا يوجب الخيار بالغبن، فمنهم من خصص الحديث بحبان، ومنهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم أمره بشرط الخيار وتصدير الشرط بهذه الكلمة، تحريضًا للمعامل علي حفظ الأمانة والتحرز عن الخلابة، فإنه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: له: ((قل لا خلابة، واشترط الخيار ثلاثة أيام)) وعلي هذا لم يختص الخيار بظهور الغبن، بل للشارط فسخه في المدة المضروبة، سواء كان فيه غبن أولم يكن، وليس له الفسخ بعد مضيها وإن ظهر الغبن. ((تو)): لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول؛ ليتلفظ به عند البيع، فيطلع به صاحبه علي أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها، فيمتنع بذلك عن مظان الغبن، ويرى له كما يرى لنفسه، وكان الناس في ذلك الزمان أحقاء بأن يعينوا أخاهم المسلم، وينظروا له أكثر مما ينظرون لأنفسهم. أقول: هذا هو الوجه، لما مر في الحديث السابق من قوله: ((إن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما)) وتفسيرنا له: فعلي كل من المتبايعين نصح صاحبه، وكان ذلك من توارد الخواطر: و ((لا)) في ((لا خلابة)) لنفي الجنس، وخبره محذوف علي الحجازي، أي لا خداع في الدين؛ لأن الدين النصيحة.

الفصل الثاني 2804 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنيائي. [2804] 2805 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتفرقن اثنان إلا عن تراضٍ)) رواه أبو داود. [2805] الفصل الثالث 2806 - عن جابر [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أعرابياً بعد البيع. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو: قوله: ((صفقة خيار)) أي بيعة خيار، والإضافة للبيان؛ لأن الصفقة يجوز أن تكون للبيع أو للعهد. ((نه)): هو أن يعطي الرجل الرجل عهده وميثاقه، ويضع أحدهما يده في يد الأخر، كما يفعل المتبايعان، وهي المرة من التصقيق باليدين، والمعنى أن المتبايعين ينقطع خيارهما بالتفرق، إلا أن يكون البيع بيعًا شرط فيه الخيار كما مر. قوله: ((خشية أن يستقيله)) مفعول له. ((مظ)): الإقالة إبطال البيع بعد انعقاده أي الفسخ، والمستعمل في الإقالة أن يرفع العاقدان البيع بعد لزومه بتراضيهما، والفسخ يستعمل في رفع العقد في زمان الخيار، أو لا ينبغي للمتقي أن يقوم من المجلس بعد العقد، ويخرج من خوف أن يفسخ العاقد الآخر البيع بخيار المجلس؛ لأن هذا يشبه الخديعة، وروي أن ابن عمر كان إذا بايع رجلا، فأراد أن لا يقيله قام يمشي هنيهة. هذا يدل علي أن المفارقة بالأبدان هو المعتبر. الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((عن تراض)) صفة مصدر محذوف، والاستثناء متصل، أي لا يتفرقن اثنان إلا تفرقًا صادرًا عن تراض. ((شف)): فيه دليل علي أنه لا يجوز التفريق بين العاقدين لا نقاطع خيار المجلس إلا برضاهما، وفيه دليل علي ثبوت خيار المجلس لهما، وإلا فلا معنى لهذا القول حينئذ. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((خير)) ظاهره يدل علي مذهب أبي حنيفة؛ لأنه لو كان خيار المجلس ثابتًا بالعقد كان التخيير عبثاً، والجواب أن هذا مطلق يحمل علي المقيد، كما سبق في الحديث الأول من الباب.

(4) باب الربا

(4) باب الربا الفصل الأول 2807 - عن جابر [رضي الله عنه]، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: ((هم سواءٌ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الربا الربا الزيادة علي رأس المال، لكن خص في الشريعة بالزيادة علي وجه دون وجه، وباعتبار الزيادة قال: {وما ءاتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عنه الله} ونبه بقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} علي أن الزيادة المعقولة المعبر عنها بالبركة مرتفعة عن الربا. ((مح)): الربا مقصور، وهو من ربا يربو فيكتب بالألف، وتثنيته بالواو، وأجاز الكوفيون كتابته وتثنيته بالياء لكسر أوله، قال العلماء: كتبوه في المصحف بالواو، وقال الفراء: لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربوا، فعملوا صورة الخط علي لغتهم، قال: وكذا قرأها أبو سليمان العدوي، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة لكسرة الراء، والباقون بالتفخيم لفتحة الباء. وقال: فيجوز كتابته بالألف والواو والياء. ((حس)): قال عبد الله بن سلام: للربا اثنان وسبعون حوبًا، أصغرها حوبًا كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية، قال: ويأذن الله بالقيام للبر والفاجر يوم القيامة إلا لآكل الربا؛ فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((آكل الربا)) أي الآخذ، وإنما خص بالأكل؛ لأنه أعظم الانتفاع، كما قال تعالي: {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}. ((شف)): سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين آكل الربا وموكله؛ [إذا] كان لا يتوصل إلي أكله إلا بمعاونته ومشاركته إياه، فهما شريكان في الإثم كما كانا شريكين في الفعل، وإن كان أحدهما مغتبطاً بفعله لما يستفضله من التبع، والآخر منهما لما يلحقه من النقص، ولله عز وجل حدود، فلا تتجاوز في وقت الوجود من الربح والعدم، وعند العسر واليسر، والضرورة لا تلحقه بوجه في أن يؤكله الربا؛ لأنه قد يجد السبيل إلي أن يتوصل إلي حاجته بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة ونحوها. أقول: لعل هذا الإضرار إنما يلحق بالمؤكل، فينبغي أن يتحرز عن صريح الربا، فيتشبث

2808 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ 00000000000 بوجه من وجوه المبايعة نحو العينة؛ لقوله تعالي: {وأحل الله البيع وحرم الربا} لكن مع وجلٍ وخوفٍ شديد، عسى الله أن يتجاوز عنه، ولا كذلك الآكل. والله أعلم. ((مح)): فيه تصريح بتحريم كتابة المتبايعين المترابيين والشهادة عليهما، وبتحريم الإعانة علي الباطل كناية. الحديث الثاني عن عبادة رضي الله عنه: قوله: ((الذهب بالذهب)) ((شف)): هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب، عد النبي صلى الله عليه وسلم أصولاً، وصرح بأحكامها وشروطها التي تعتبر في بيع بعضها ببعضها جنسًا واحداً أو أجناسًا، وبين ما هو العلة في كل واحد منها ليتوصل المجتهد بالشاهد إلي الغائب، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر النقدين والمطعومات الأربع؛ إيذانًا بأن علة الربا هي النقدية أو الطعم، وإشعاراً بأن الربا إنما يكون في النوعين المذكورين، وهما النقد أو المطعوم، وذكر من المطعومات الحبوب وهي البر والشعير والتمر والثمار وهو الثمر، وما يقصد مطعومًا لنفسه وهو البر والشعير والتمر، أو لغيره وهو الملح؛ ليعلم أن الكل سواء في هذا الحكم. وقسم التعامل في أموال الربا علي ثلاثة أقسام، أحدها: أن يباع شيء منها بجنسه المشارك له في علة الربا كبيع الحنطة بالحنطة، فشرط صلى الله عليه وسلم في هذا القسم ثلاثة أشياء، الأول: التماثل في القدر بقوله: ((مثلاً بمثل)) وأكده بقوله: ((سواء بسواء)) لأن المماثلة أعم من أن تكون في القدر بخلاف المساواة، الثاني والثالث: الحلول والتقابض، بقوله صلى الله عليه وسلم ((يداً بيد)) فإنه دال علي الشرطين جميعاً. وثإنيها: أن يباع شيء منها بما ليس من جنسه، لكن يشاركه في العلة كبيع الحنطة بالشعير، فجوز صلى الله عليه وسلم في هذا القسم التفاضل، بقوله: ((فإذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم)) وشرط في هذا النوع أيضاً الشرطين الآخرين بقوله: ((إذا كان يداً بيد)). وثالثها: أن يباع شيء منها بما ليس من جنسه، ولا يشرك العوضان في علة الربا كبيع البر بالذهب أو الفضة، وصرح صلى الله عليه وسلم بالقسمين؛ لأنهما المقصود بالبيان لمخالفتهما سائر العقود في الشروط الثلاثة المذكورة، وسكت صلى الله عليه وسلم عن النوع الثالث؛ إما لأنه جار علي قياس سائر البياعات، فلا حاجة إلي البيان، وإما لأن أمره مدلول عليه علي طريق المفهوم، فإن تقييد اعتبار الحلول والتقابض بالمشاركة في علة الربا بين العوضين، وسواء كان مع اتحاد الجنس أو مع عدم اتحاده، بقوله:

2809 - وعن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، يداً بيدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواءٌ)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((إذا كان يداً بيد)) وتقييد اعتبار المماثلة مع الشرطين المذكورين بالمشاركة في علة الربا مع اتحاد الجنس بقوله: ((مثلاً بمثل يداً بيد)) يدل علي عدم اعتبار شيء من الشرائط الثلاثة فيما ليس كذلك. وانتصاب ((مثلاً بمثل، يداً بيد)) علي الحال، والعامل متعلق الجار الذي هو قوله: ((بالذهب)) وصاحبها الضمير المستكن فيه، أي الذهب يباع بالذهب متماثلين مقبوضين يداً بيد، ونظيره مررت بزيد راكبين، هذا توضيح كلام القاضي. ((مح)): اختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة، قال الشافعي: العلة في الذهب والفضة كونهما جنسا الأثمان، فلا يتعدى الربا منهما إلي غيرهما من الموزونات، كالحديد والنحاس وغيرهما؛ لعدم المشاركة في المعنى، والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة، فيتعدى الربا منها إلي كل مطعوم سواء كان قوتاً أو تفكها أو تداويا، كالإهليلج والسقمونيا وغيرهما، وما أكل وحده أو مع غيره، فيجري الربا في الزعفران علي الأصح. وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي، وفي الأربعة العلة فيها كونها تدخر للقوت، فعداه إلي الزبيب لأنه كالتمر، وإلي [السلت] لأنها كالبر والشعير، وأما أبو حنيفة فقال: العلة في الذهب والفضة الوزن، فيتعدى إلي كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما، وفي الأربعة الكيل، فيتعدى إلي كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما. قال أحمد والشافعي في القديم: العلة في الأربعة الطعم والوزن أو الكيل، فعلي هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوهما. أقول: ويؤيد قول الشافعي رضي الله عنه: أن العلة الطعم فحسب، ما روي في الحديث الخامس عن معمر. قوله: ((هذه الأصناف)) ((تو)): وجدنا في كثير من نسخ المصابيح قد ضرب علي ((الأصناف))، وأثبت مكانها ((االأجناس))، والحديث أخرجه مسلم، ولفظه ((الأصناف)) لا غير، وأرى ذلك تصرفا عن ظن منه أن الصواب هو ((الأجناس))؛ لأن كل واحد من الأشياء المذكورة علي حدته جنس، والصنف أخص منه، ولم يدر أن ((الأصناف)) أقوم في هذا الموضع؛ لأنه أراد بيان الجنس الذي يجري فيه الربا، فعد أصنافه مع أن العرب تستعمل بعض الألفاظ المتقاربة في المعنى مكان بعضها. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فقد أربى)) ((تو)): أي أتى الربا

2810 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثلٍ، ولا تشفوا بعضها علي بعضٍ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها علي بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)). متفق عليه. وفي رواية: ((لا تبيعوا الذهب [بالذهب]، ولا الورق بالورق، إلا وزنًا بوزنٍ)). 2811 - وعن معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الطعام بالطعام مثلاً بمثل)) رواه مسلم. 2812 - وعن عمر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والورق بالورق رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعاطاه، ومعنى اللفظ أخذ أكثر مما أعطى، من ربا الشيء يربو إذا زاد. أقول: لعل الوجه أن يقال: أتى الفعل المحرم، لأن من اشترى الفضة عشرة مثاقيل بمثقال من ذهب فالمشتري آخذ الزيادة وليس بربا. الحديث الرابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا تشفوا)) ((تو)): أي لا تفضلوا، والشف بالكسر الفضل والربح، والشف أيضاً النقصان، وكلمة ((علي)) هي الفارقة في هذا الحديث بين الزيادة والنقصان. ((حس)): قوله: ((بعضها)) الضمير للذهب، الجوهري: الذهب معروف، وربما أنث. ((حس)): في الحديث دليل علي أنه لو باع حلياً من ذهب بذهب، لا يجوز إلا متساويين في الوزن، ولا يجوز طلب الفضل للصنعة؛ لأنه يكون بيع ذهب بذهب مع الفضل. قوله: ((بناجز)) ((نه)): أي بحاضر، يقال: نجز ينجز نجزاً إذا حضر وحصل، وأنجز الوعد أحضره. الحديث الخامس والسادس عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((إلا هاء وهاء)) ((فا)): ((هاء)) صوت بمعنى خذ، ومنه قوله تعالي: {هاؤم اقرءوا كتأبيه} أي كل واحد من متولي عقد الصرف يقول لصاحبه: هاء، فيتقابضان قبل التفرق عن المجلس. ((مح)): فيه لغتان، المد والقصر، والأول أفصح وأشهر، وأصله هاك فأبدلت من الكاف، ومعناه خذ هذا، فيقول صاحبه مثله، والهمزة مفتوحة، ويقال بالكسر، ومعناه التقابض. قال المالكي: وحق ((هاء)) أن لا تقع بعد إلا، كما لا يقع بعدها ((خذ)) وبعد أن وقع يجب تقدير قول قبله يكون به محكيا، فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من المتبايعين هاء وهاء. أقول: فإذن محله

2813 - وعن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً علي خيبر، فجاءه بتمرٍ جنيبٍ، فقال: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاث فقال: ((لا تفعل! بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) وقال: ((في الميزان مثل ذلك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ النصب علي الحال، المستثنى منه مقدر، يعني بيع الذهب بالذهب ربا في جميع الحالات إلا حال الحضور والتقابض، فكني عن التقابض بـ ((هاء)) لأنه لازمه. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((جنيب)) ((نه)): الجنيب نوع جيد معروف من أنواع التمر، وكل نوع من التمر لا يعرف اسمه فهو جمع، وقيل: الجمع تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوبا فيه، وما يختلط إلا لرداءته. ((حس)): اتفقوا علي أن من أراد أن يبدل شيئاً من مال الربا بجنسه ويأخذ فضلاً فلا يجوز حتى يغير جنسه ويقبض ما اشتراه تم يبيعه منه بأكثر مما دفعه إليه. قال الشافعي: لا بأس أن يبيع الرجل السلعة إلي أجل، ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعوض إلي أجل. ((مح)): احتج أصحابنا بهذا الحديث، أن الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا إلي مقصود الربا ليس بحرام؛ وذلك أن من أراد أن يعطي صاحبه مائة درهم بمائتين، فيبيعه ثوباً بمائتين ثم يشتريه منه بمائة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((بع هذا، واشتر بثمنه من هذا)) وهو ليس بحرام عند الشافعي، وقال مالك وأحمد: هو حرام. أقول: وينصره ما رواه رزين في كتابه، عن أم يونس أنها قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم إلي عائشة رضي الله عنها، فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلي العطاء، ثم اشتريتها منه قبل حلول الأجل بستمائة، وكنت شرطت عليه إنك إن بعتها فأنا أشتريها منك. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب منه. قالت: فما نصنع؟ قالت: فتلت عائشة رضي الله عنها: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهي فله ما سلف وأمره إلي الله} الآية. فلم ينكر أحد علي عائشة، والصحابة متوفرون. ((حس)): قال الشافعي: لو كان هذا ثابتًا، فقد تكون عائشة عابت البيع إلي العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم، ثم قال: وزيد صحابي، وإذا اختلفوا فمذهبنا القياس، وهو مع زيد، ويمكن أن يمنع تجهيل الأجل؛ فإن العطاء هو ما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين، وأكثر ما يكون في أجل مسمى يدل عليه قولها في هذا الحديث: ((قبل حلول الأجل)) وما وضع عمر رضي الله عنه التاريخ إلا لهذا، وأما ترجيح فعل زيد بالقياس فمشكل لبعد الجامع، مع أن قول عائشة راجح علي فعله.

2814 - وعن أبي سعيد، قال: جاء بلال إلي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أين هذا؟)) قال: كان عندنا تمرٌ رديءٌ، فبعت منه صاعين بصاعٍ. فقال: ((أوه، عين الربا، عين الربا، لا تفعل؛ ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولما روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تبايعتم العينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلي دينكم)). [و ((العينة)) -بفتح العين] المهملة وبسكون الياء تحتها نقطتان وفتح النون- هو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلي أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها، فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم، وقبضها ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن، فهذه أيضًا عينة، وهي أهون من الأولي، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنما يشتري ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة، كذا في النهاية. وفي المغرب: العينة السلف، ويقال: باعه بعينة أي بنسيئة من عين الميزان وهي ميله كذا من الخليل لأنها زيادة، وقيل: لأنها بيع العين بالربح، وقيل: هي شراء ما باع بأقل مما باع. وما تجاسرنا علي ما أوردناه إلا بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا صح حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فاعملوا بالحديث ودعوا قولي، وهو مذهبي، ذكره الشيخ محي الدين في شرح صحيح مسلم، وأمثاله كثيرة. قوله: ((مثل ذلك)) مبتدأ، و ((في الميزان)) خبره، ويحتمل النصب علي المصدر، أي قال في شأن الميزان قولاً مثل ما قال في شأن الصاع أي المكيال. ((مح)): يستدل به الحنفية علي مذهبهم؛ لأنه ذكر في هذا الحديث الكيل والميزان. أقول: توجيه استدلالهم أن علة الربا في الأصناف المذكورة في حديث عبادة الكيل والوزن لا الطعم والنقد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين حكم التمر وهو المكيل، ألحق به حكم الميزان، ولو كانت العلة النقدية والمطعومية لقال في النقد مثل ذلك. والجواب أن هذا إرشاد لمن ضل السبيل ووقع في الربا، فهداه إلي التخلص منه بطريق العمل، فالمفهوم فيه مسدود وفاقاً، وذلك الحديث أصل تؤسس عليه الفروع. الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((برني)) هو من أجود التمر، قوله: ((أوه)) ((نه)): هي كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع، وهي ساكنة الواو مكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفاً، فقالوا: آه من كذا، وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء، وبعضهم بفتح الواو والتشديد، فقالوا: آوه. وقوله: ((عين الربا)) أي هذا حقيقة الربا المحرم.

~ 2815 - وعن جابر، قال: جاء عبدٌ فبايع النبي صلى الله عليه وسلم علي الهجرة، ولم يشعر أنه عبدٌ، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعنيه)). فاشتراه بعبدين أسودين، ولم يبايع أحداً بعده حتى يسأله أعبدٌ هو أو حرٌ. رواه مسلم. 2816 - وعنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيالتها بالكيل المسمى من التمر. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فبايع النبي صلى الله عليه وسلم علي الهجرة)) ضمن بايع معنى عاهد، وعداه بعلي. ((نه)). في الحديث ((ألا تبايعوني علي الإسلام)) هو عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة. قوله: ((فاشتراه بعبدين أسودين)) ((مح)): فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والإحسان العام؛ فإنه كره أن يرد العبد خائباً مما قصد من الهجرة وملازمة الصحبة. ((حس)): العمل علي هذا عند أهل العلم كلهم، أنه يجوز بيع حيوان بحيوإنين نقداً، سواء كان الجنس واحداً أو مختلفاً. اشترى رافع بن خديج بعيراً ببعيرين، فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غدا إن شاء الله. وعند سعيد بن المسيب: إن كانا مأكولي اللحم لا يجوز إذا كان الشراء للذبح، وإن كان الجنس مختلفا. واختلفوا في بيع الحيوان بالحيوان أو بالحيوإنين نسيئة، فمنعه جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روي فيه عن ابن عباس وهو قول عطاء بن أبي رباح وأصحاب أبي حنيفة؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم ((نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة). قال الخطابي: وجهه عندي أنه إنما نهي عما كان نسيئة في الطرفين، فيكون من باب الكالئ بالكالئ، بدليل قول عبد الله بن عمرو بن العاص الذي في آخر الباب، وهذا يبين لك أن النهي عن بيع الحيوان نسيئة، إنما هو أن يكون نساء في الطرفين جمعًا بين الحديثين. ورخص فيه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عمر، وهو قول الشافعي، واحتجوا بما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ علي قلائص الصدقة، وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلي إبل الصدقة)) وفيه دليل علي جواز السلم في الحيوان. قوله: ((أو حر)) هذه الزيادة ليست في نسخ مسلم والحميدي وجامع الأصول، لكن في شرح السنة ((او حر)) وفي بعض نسخ المصابيح ((أم حر). أقول: و ((أو)) هنا أوقع؛ لأن ((أم)) يؤتى بها إذا ثبت أحد الأمرين، فيحصل التردد في التعيين، و ((أو)) سؤال عن نفس الثبوت، يعني عبديته ثابتة أو حريته. الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عن بيع الصبرة)) ((نه)): الصبرة الطعام المجتمع كالكومة، وجمعها صبر. أقول: قوله: ((المسمى)) أي المعلوم وهو صفة الكيل، و ((من التمر)) حال منه، أي نهي عن بيع الصبرة. المجهولة مكيلتها بالصبرة المعلومة مكيلتها من جنس ~م م ي

2817 - وعن فضالة بن أبي عبيد، قال: اشتريت يوم خيبر قلادة بأثني عشر ديناراً، فيها ذهبٌ وخرزٌ، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تباع حتى تفصل)). رواه مسلم. الفصل الثاني 2818 - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليأتين علي الناس زمانٌ لا يبقى أحدٌ إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره))، ويروى: ((من غباره)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [2818] ـــــــــــــــــــــــــــــ واحد. ((حس)): لا يجوز بيع مال الربا بجنسه جزافا للجهل بالتماثل حالة العقد، فلو قال بعتك صبرتي هذه من الحنطة بما يقابلها من صبرتك، أو ديناري بما يوازيه من دينارك، جاز إذا تقابضا في المجلس، والفضل من الدينار الكبير والصبرة الكبيرة لبائعها، فإذا اختلف الجنس يجوز بيع بعضه ببعض جزافاً؛ لأن الفضل بينهما غير حرام. الحديث الحادي عشر عن فضالة: قوله: ((لا تباع حتى تفصل)) ((حس)): ويروى ((حتى تميز)) أراد به التمييز بين الخرز والذهب في العقد لا تمييز عين المبيع بعضه عن بعض، وفيه دليل علي أنه لو باع مال الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء أخر، مثل أن باع درهماً وثوباً بدرهمين أو بدينارين، أو باع درهماً وثوباً بدرهمين وثوب، لا يجوز؛ لأن اختلاف الجنس في أحد شقي الصفقة يوجب توزيع ما في مقابلتهما عليهما باعتبار القيمة، والتقويم تقدير وجهل لا يفيد معرفة في الربا- انتهي كلامه. وذهب مالك إلي جواز بيع الدرهم بنصفه أو فلوس أو طعام للضرورة، ومنع ما فوق ذلك. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإن لم يأكله أصابه من بخاره)) ((قض)): أي يحيق به ويصل إليه من أثره، بأن يكون مؤكله أو متوسطاً فيه أو كاتباً أو شهيدًا، أو يعامل المربي أو من عامل معه وخلط ماله بماله. قوله: ((إلا أكل)) المستثنى صفة لـ ((أحد)) والمستثنى منه أعم عام الأوصاف، نفي جميع الأوصاف إلا الأكل، ونحن نرى كثيرًا من الناس لم يأكله حقيقة، فينبغي أن يجري علي عموم المجاز، فيشمل الحقيقة والمجاز، ولذلك أتبعه بالفاء التفصيلية بقوله: ((فان لم يأكله)) أي فإن لم يأكله حقيقة يأكله مجازا، فالبخار أو الغبار مستعاران مما شبه الربا به من النار أو التراب.

2819 - وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا سواءً بسواءٍ، عيناً بعينٍ، يداً بيدٍ؛ ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح،،والملح بالتمر، يداً بيدٍ، كيف شئتم)). رواه الشافعي. [2819] 2820 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب. فقال: ((أينقص الرطب إذا يبس؟)) فقال: نعم، فنهاه عن ذلك. رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. [2820] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبادة رضي الله عنه: قوله: ((لكن بيعوا)) ((لكن)) حقه أن يقع بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا، أي لا تبيعوا النقدين ولا المطعومات إذا كانا متفقين، ولكن بيعوهما إذا اختلفا، والاستثناء في قوله: ((إلا سواء بسواء)) كالاستطراد لبيان الترخيص، وقوله: ((يداً بيد)) تأكيد لقوله: ((عينا بعين)) من حيث المعنى، كما كان ((سواء بسواء))، تأكيداً لـ ((مثلا بمثل)) في الحديث السابق. الحديث الثالث عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أينقص الرطب؟)) ((قض)): ليس المراد من الاستفهام استعلام القضية؛ فإنها جلية مستغنية عن الاستكشاف، بل التنبيه علي أن الشرط تحقق المماثلة حال اليبوسة، فلا يكفي تماثل الرطب والتمر علي رطوبته، ولا علي فرض اليبوسة؛ لأنه تخمين وخرص لا تعيين فيه، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر، وبه قال كثر أهل العلم، وجوز أبو حنيفة بيع الرطب بالتمر إذا تساويا كيلا، وحمل الحديث علي البيع نسيئة؛ لما روي عن هذا الراوي أنه صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، هكذا ذكره بعض الشارحين. وضعفه بين؛ لأن النهي عن بيعه نسيئة، لا يستدعي الإذن في بيعه يداً بيد إلا من طريق المفهوم، وهو عنده غير منظور إليه، فضلاً من أن يسلط علي المنطوق ليبطل إطلاقه، ثم إن هذا التقييد يفسد السؤال والجواب وترتيب النهي ويلغيها بالكلية، فإن بيع الرطب بالتمر نسيئة غير صحيح؟ لأنه جرى نسيئة لا لأن الرطب ينقص بالجفاف ولا ينقص. والضمير المستكن في ((فقال)) والبارز في ((نهاه)) للسائل المدلول عليه بقوله: ((سألت)). ((حس)): هذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرطب بالقديد، وهو قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما.

2821 - وعن سعيد بن المسيب مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع اللحم بالحيوان. قال سعيدٌ: كان من ميسر أهل الجاهلية. رواه في ((شرح السنة)). [2821] 2822 - وعن سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الحيوان بالحيون نسيئةً. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. والدارمي. [2822] 2827 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ علي قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلي إبل الصدقة. رواه أبو داود. [2833] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بهذا الخبر، وعالماً بلازمه؛ لأن المخاطب أيضًا عالم، فإن فائدة الاستخبار راجعة إلي أمر آخر، وهو إلزام السائل بما هو ثابت عنده ومقرر لديه، إفحاماً وتبكيتاً، فينبغي أن يكون مقرراً عنده أن الزيادة في الربويات إذا كانت من جنس واحد غير جائز مطلقاً، ولذلك أجاب بقوله: ((نعم)) ثم رتب النهي عليه بالفاء، أي إذا أذعنت واعترفت فلا تفعل، فإن لا وجه لتقيده بالنسيئة. الحديث الرابع عن سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من ميسر)) الميسر القمار، مصدر من يسر، كالموعد والمرجع من فعلهما، يقال: يسرته إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر؛ لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار؛ لأنه سلب يساره، قالوا: فيه دليل علي حرمة بيع اللحم بالحيوان، سواء كان ذلك اللحم من جنس ذلك الحيوان أو من غير جنسه، وسواء كان الحيوان مما يؤكل لحمه أو مما لايؤكل لحمه، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه. الحديث الخامس عن سمرة: مضى شرحه في الحديث التاسع من الفصل الأول. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((أن يأخذ علي قلائص)) أي يأخذ من ليس له ظهر إبلا دينًا علي قلائص الصدقة مؤجلاً إلي أوان حصول قلائص الصدقة، والقلائص جمع قلوص، وهو الفتي من الإبل. وفيه إشكالان: أحدهما: بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وثإنيهما: عدم توقيت الأجل المسمى، وفيه اختلاف سبق في حديث جابر.

الفصل الثالث 2824 - عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الربا في النسيئة)). وفي رواية قال: ((لا ربًا فيما كان يدًا بيد)). متفق عليه. 2825 - وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم؛ أشد من ستةٍ وثلاثين زنيةً)). رواه أحمد، والدارقطني. [2825] وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) عن ابن عباس وزاد: وقال: ((من نبت لحمه من السحت فالنار أولي به)). [2825] 2826 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الربا سبعون جزءًا؛ أيسرها أن ينكح الرجل أمه)). [2826] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((الربا)) التعريف فيه للعهد، أي الربا الذي عرف من كونه في النقدين والمطعوم، أو المكيل والموزون علي اختلاف ثابت في النسيئة. وقوله: ((لا ربا فيما كان يدًا بيد)) يعني بشرط المساواة في المتفق، واختلاف الجنسين في التفاضل. الحديث الثاني عن عبد الله: ((قوله: ((غسيل الملائكة)) فعيل بمعنى مفعول قد مضت قصته، وإنما كان الربا أشد من الزنا؛ لأن من ارتكب أكل الربا، فقد حاول مخالفة الله ورسوله ومحاربتهما بعقله الزائغ، قال الله تعالي: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} أي بحرب عظمى، فتحريمه محض تعبد، ولذلك رد قولهم: {إنما البيع مثل الربا} بقوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأما قبح الربا فظاهر شرعًا وعقلا، وله روادع وزواجر سوى الشرع، فآكل الربا يهتك حرمة الله تعالي، والزإني يخرق جلباب الحياء عن نفسه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الربا)) أي إثم الربا، ولابد من هذا التقدير؛ ليطابق قوله: ((أن ينكح الرجل أمه)).

2827 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلي قلٍ: رواهما ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان))، وروى أحمد الأخير. 2828 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيت ليلة أسري بي علي قوم، بطونهم كالبيوت، فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء آكلة الربا)). رواه أحمد، وابن ماجه. [2828] 2829 - وعن علي [رضي الله عنه]، أنه سمع رسول الله، لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، ومانع الصدقة، وكان ينهي عن النوح. رواه النسائي. [2829] 2830 - وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] إن آخر ما نزلت آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة. رواه ابن ماجه، والدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن مسعود: قوله: ((إلي قل)) ((فا)) القل والقلة كالذل والذلة، يعني أنه ممحوق البركة. أقول: أوقع قوله: ممحوق البركة موضع الشرط والجزاء، فيكون من باب سد الجملة الشرطية مسد الخبر، فيلزم أن يؤول المبتدأ بالمصدر، ولاشك أن الكثرة والقلة صفتان للمال لا للربا، فيجب أن يقدر: مال الربا ممحوق؛ لأن مال الربا ربًا، وأنشد ابن مالك: خير اقترابي من المولي حليف رضي ... وشر بعدي منه وهو غضبان وقال: لأن خير الاقتراب اقتراب. ولابد من هذا التمحل؛ لأن الواو مانع من حمله علي الخبر، ولولاه كانت الجملة الشرطية خبراً لا محالة. الحديث الخامس والسادس والسابع عن عمر بن الخطاب: قوله: ((آية الربا)) أي الآية التي نزلت في تحريم الربا، وهو قوله تعالي: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس - إلي قوله - وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} ثابتة غير منسوخة، صريحة غير مشتبهة، فلذلك لم يفسرها النبي صلى الله عليه وسلم فأجروها

2831 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه، أو حمله علي الدابة، فلا يركبه ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)). رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [2831] 2832 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقرض الرجل الرجل فلا يأخذ هدية)). رواه البخاري في ((تاريخه)) هكذا في ((المنتقى)). 2833 - وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله ابن سلامٍ، فقال: إنك بأرضٍ فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك علي رجلٍ حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعيرٍ، أو حبل قت فلا تأخذه فإنه رباً. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي ماهي عليه، فلا ترتابوا فيها، واتركوا الحيلة في حلها، وهو المراد من قوله: ((فدعوا الربا والريبة)). الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قرضًا)) هو اسم للمصدر، والمصدر في الحقيقة الإقراض، ويجوز أن يكون هاهنا بمعنى المقروض، فيكون مفعولا ثإنيا: لـ ((أقرض)) والأول مقدر كقوله تعالي: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنا} والضمير الفاعل في ((فأهدى)) عائد إلي المفعول المقدر، والضمير في ((لا يقبلها)) راجع إلي مصدر ((أهدى)) وقوله: ((فأهدى)) عطف علي الشرط، وجوابه ((فلا يركبه)). قوله: ((إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)) قال مالك: لا تقبل هدية المديون ما لم يكن مثلها قبل، أو حدث موجب لها. الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في المنتقى)) هو بالميم والنون والتاء المنقوطة من فوق بنقطتين والقاف، كتاب ألفه بعض أصحاب أحمد في الأحاديث علي ترتيب الفقه. الحديث العاشر عن أبي بردة: قوله: ((أو حبل قت)) فعل بمعنى مفعول، أي مشدود بالحبل، ((الحبل)) - بالتحريك - مصدر يسمى به المحمول، كما سمى بالحمل، وألقت الرطبة من علف الدواب، وإنما خص الهدية بما يعلف الدواب مبالغة في الامتناع من قبول الهدية، لما يجوز أن تعلف الدواب بالحرام.

(5) باب المنهي عنها من البيوع

(5) باب المنهي عنها من البيوع الفصل الأول 2834 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيبٍ كيلاً، أو كان - وعند مسلمٍ وإن كان - زرعًا، أن يبيعه بكيل طعامٍ، نهي عن ذلك كله. متفق عليه. وفي رواية لهما: نهي عن المزابنة، قال: ((والمزابنة: أن يباع ما رءوس النخل بتمرٍ بكيلٍ مسمى، إن زاد فلي، وإن نقص فعلي)). 2835 - وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، والمحاقلة، ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المنهي عنها من البيوع الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((عن المزابنة)) ((حس)): المزابنة بيع الثمر علي الشجر بجنسه موضوعًا علي الأرض، من الزبن وهو الدفع، وذلك لأن أحد المتبايعين إذا وقف علي غبن فيما اشتراه أراد فسخ العقد وأراد الآخر إمضاءه، فتزابنا أي تدافعا، وكل واحد يدفع صاحبه عن حقه. وخص بيع التمر علي رءوس النخل بجنسه بهذا الاسم؛ لأن المساواة بينهما شرط، وما علي الشجر لا يحصر بكيل ولا وزن، وإنما يكون مقدراً بالخرص، وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت. [((نه))]: بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب جائز عند أبي حنيفة، ولا يجوز عند الشافعي ومالك وأحمد لا بالكيل ولا بالوزن، إذا لم يكن الرطب علي رأس النخلة، أما إذا كان الرطب علي رأس النخل، ويبيعه بالتمر فهو العرايا، ويأتي بحثه - انتهي كلامه. قوله: ((أن يبيع)) بدل أو بيان لقوله: ((عن المزابنة)) والشروط كلها تفصيل للبيان، ويقدر جزاء الشرط الثاني ((نهي)) لقرينة السياق؛ لعدم استقامة المذكور أن يكون جزاء، وكذا في الشرط الأول يقدر ((نهي أن يبيعه)) لقرينة الشرط الثاني. وقوله: ((مسمى)) صفة لـ ((كيل)) و ((إن زاد فلي)) حال بتقدير القول من البائع الذي يفهم من ((يباع)) أي يبيع قائلاً: إن زاد فلي وإن نقص فعلي. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عن المخابرة)) ((حس)) و ((نه)): قيل: هي المزارعة علي نصيب معين كالثلث والربع، وقيل: إن أصل المخابرة من خيبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم

والمزابنة. والمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع التمر في رءوس النخل بمائة فرقٍ، والمخابرة: كراء الأرض بالثلث والربع. رواه مسلم. 2836 - وعنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقرها في أيدي أهلها علي النصف من محصولها فقيل: خابرهم أي عاملهم في خيبر، وقيل: من الخبار وهي الأرض اللينة. قوله: ((والمحاقلة)) ((فا)): الحقل القراح من الأرض، وهي الطيبة التربة الخالصة من شائب السبخ الصالحة للزرع، ومنه حقل يحقل إذا زرع، والمحاقلة مفاعلة من ذلك. قوله: ((بمائة فرق)) ((نه)): الفرق - بالتحريك - مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مدًا وثلاثة أصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفرق خمسة أقسط، والقسط نصف صاع، فأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلاً. ((تو)): لا أدري من المفسر غير أن قوله: ((بمائة فرق حنطة)) كلام ساقط، وكذلك في بقية التفسير، وكان من حق البلاغة أن يأتي بالمثال من غير تعيين في العدد؛ فإن قوله: ((بمائة فرق)) موهم بأنه إذا زاد أو نقص عن المقدار المنصوص عليه، لم يكن ذلك محاقلة. أقول: ربما يأتون في المثال بما يصوره عند السامع زيادة توضيح، نعم، لو قال: ((بمائة)) مثلا لم يكن فيه مقال، وهذا القدر مما لا بأس به عند البلغاء. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((والمعاومة)) ((نه)): هي بيع ثمر النخل أو الشجر سنتين أو ثلاثا فصاعداً، يقال: عاومت النخلة إذا حملت سنة ولم تحمل أخرى، وهي مفاعلة من العام: السنة. قوله: ((وعن الثنيا)) المغرب: يقال: ثناه عن وجهه إذا كفه وصرفه، ومنه استثنيت الشيء إذا زويته لنفسي، والاسم الثنيا بوزن الدنيا، وفي الحديث ((من استثنى فله ثنياه)) أي ما استثناه، وفي اصطلاح النحويين إخراج الشيء مما دخل فيه غيره؛ لأن فيه كفا وردا عن الدخول. ((قض)): المقتضي للنهي فيه إفضاؤه إلي جهالة قدر المبيع، ولهذا قال الفقهاء: لو قال: بعت منك هذه الصبرة إلا صاعًا، وكانت مجهولة الصيعان، فسد العقد؛ لأنه خرج المبيع عن كونه معلوم القدر عياناً وتقديرا، أما لو باعها واستثنى [شيئًا] شائعًا معينًا كالثلث أو الربع صح؛ لحصول العلم بقدره علي الإشاعة. قوله: ((في العرايا)) ((فا)): العرية النخلة التي يعريها الرجل محتاجًا، أي يجعل له ثمرتها، فرخص للمعرى أن يبتاع ثمرتها لموضع حاجته من المعري، سميت عرية؛ لأنه إذا ذهب ثمرها، فكأنه جردها من الثمرة وعراها منها، ثم اشتق منها الاعراء. ((مح)): العرية أن يخرص الخارص نخلات، فيقول: هذا الرطب إذا يبس يحصل منه ثلاثة أوسق من التمر مثلا، فيبيعه لقيره بثلاثة أوسق تمرًا ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر ويسلم البائع النخل، وهذا فيما دون خمسة أوسق، ولا يجوز فيما زاد عليه، وفي جوازه في خمسة أوسق قولان

2837 - وعن سهل بن أبي حثمة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر؛ إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها تمراً، يأكلها أهلها رطبًا. متفق عليه. 2838 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسقٍ. شك داود بن الحصين. متفق عليه. 2839 - وعن عبد الله بن عمر: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهي البائع والمشتري. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للشافعي، أصحهما لايجوز؛ لأن الأصل تحريم بيع التمر بالرطب، وجاء في العرايا رخصة، والأصح جوازه للأغنياء والفقراء، وأنه لا يجوز في غير الرطب والعنب من الثمار، وفي قول ضعيف أنه مختص بالفقراء. الحديث الرابع عن سهل: قوله: ((إلا أنه رخص في العرية)) هذا يشعر بأن العرايا مستثناة من المزابنة؛ لأن قوله: ((بيع التمر بالتمر)) هو المزابنة. ((قض)): العرية فعلية بمعنى مفعولة، والتاء فيها لنقل اللفظ من الوصفية إلي الاسمية، فنقل منها إلي العقد الوارد عليها المتضمن لإعرائها. ((حس)): سميت عرية؛ لأنها عريت من جملة التحريم، أي خرجت فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل: لأنها عريت من جملة الحائط بالخرص والبيع فعريت عنها أي خرجت. وسببها أن رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها، من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبًا. قوله: ((بخرصها تمراً)) يحتمل أن يكون تمييزًا، ويجوز أن يكون حالاً مقدرة، ويؤيده قوله: ((يأكلها أهلها رطباً)) فإن ((رطبًا)) حال، وهذا ينصر مذهب من قال: الحال يجب أن يكون مشتقًا، إما حقيقة أو مؤولاً؛ لأن المطلوب هنا هو الوصف لا الذات، وإلا كان الإبدال عبثاً. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من التمر)) ((من)) متعلق بـ ((بيع العرايا)) والباء في ((بخرصها)) للسببية، أي أرخص في بيع رطبها من التمر بواسطة خرصها. قوله: ((أوسق)) جمع وسق، بفتح الواو وهو ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. قوله: ((أو في خمسة أوسق)) ((مح)): شك من الراوي فوجب الأخذ بالأقل، وهو دون خمسة أوسق فتبقى الخمسة علي التحريم احتياطًا كما سبق. الحديث السادس والسابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى يبدو صلاحها)) ((حس)):

وفي رواية لمسلم: نهي عن بيع النخل حتى تزهو. وعن السنبل حتى يبيض. ويأمن العاهة. 2840 - وعن أنسٍ، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تزهي. قيل: وما تزهي؟ قال: ((حتى تحمر))، وقال: ((أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العمل علي هذا عند أهل العلم أن بيع الثمرة علي الشجرة قبل بدو الصلاح مطلقاً لا يجوز، يروى عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعائشة، وهو قول الشافعي رضي الله عنهم؛ لأنه لا يؤمن من هلاك الثمار بورود العاهة عليها؛ لصغرها وضعفها، وإذا تلفت لا يبقى للمشتري في مقابلة ما دفع من الثمن شيء، وهذا معنى قوله: ((نهي عن بيع النخل حتى تزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة)) ومعنى قوله: ((حتى يحمر ويصفر)). وإنما نهي المشتري من أجل هذه المخاطرة المذكورة والتغرير بماله، ونهي البائع لئلا يكون أخذ مال المشتري لا بمقابلة شىء، سلم له، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم؟)) أي أخبرني إذا منع الله الثمرة وفي الحديث ((حتى يحمر وحتى يسود)) وفي رواية ابن عمر ((حتى يبيض)) دليل علي أن الاعتبار بحدوث هذه الصفة في الثمرة، لا بإتيان الوقت الذي يكون فيه بدو الصلاح في الثمار غالباً. وذهب بعض أهل العلم إلي أن الاعتبار بالزمان، فإذا جاء ذلك الوقت جاز بيعه. قوله: ((حتى تزهو)) ((مح)): قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وأزهي يزهي إذا احمر أو اصفر. وقال الأصمعي: لا يقال في النخل: أزهي، وإنما يقال: زها، وحكاهما أبوزيد لغتين. وذلك علامة الصلاح فيها ودليل خلاصها من الآفة. قوله: ((قيل: وما تزهي)) يجوز أن يكون ((تزهي)) حكاية قول الرسول صلى الله عليه وسلم، أي ما معنى قولك: تزهي؟ أو وضع الفعل موضع المصدر، أي قيل: ما الزهو؟ نحوه قول الشاعر: وقالوا: ما تشاء؟ فقلت: ألهو ... إلا الإصباح آثر ذي أثير أي قلت: أريد اللهو، وفي المثل: تسمع بالمعيدي خيراً من أن تراه، أي سماعك خير من رؤيته. وقوله: ((بم يأخذ))؟ مثل قولهم: فيم وعلام وختام في حذف الألف عند دخول حرف الجر علي ((ما)) الاستفهامية، ولما كانت ((ما)) الاستفهامية متضمنة للهمزة ولها صدر الكلام، ينبغي أن يقدر أبم تأخذ؟ والهمزة للإنكار، فالمعنى: لا ينبغي أن يأخذ أحدكم مال أخيه عفواً.

2841 - وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين، وامر بوضع الجوائح. رواه مسلم. 2842 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بيع السنين)) يريد به بيع ثمارها وهي المعاومة، وقد سبق الكلام فيها. ((والجوائح)) جمع جائحة، وهي الآفة التي تصيب الثمرة من الجوح وهو الاستئصال، ووضعها أن يحط البائع من الثمن ما يوازي نقصان الجائحة بعد القبض، والأمر به أمر استحباب لا وجوب؛ لأن المبيع قد خرج عن عهدة البائع بالتسليم إلي المشتري، فلا يلزمه ضمان ما يعتريه بعده؛ ولما روى أبو سعيد الخدري: أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا عليه)) ولو كانت الجوائح موضوعة لم يصر مديونًا بسببها، ولما أمر بالتصدق عليه لأدائه. ومنهم من قال: إنه للوجوب، والبيع ينفسخ فيما يتلف بالجائحة، كما لو تلف قبل القبض؛ لأن التسليم لم يتم بالتخلية، ولذلك يجب علي البائع سقيها إلي أن تدرك، ويدل عليه قوله في حديث جابر المذكور عقيب هذا: ((فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) وهو مذهب أحمد وقول قديم للشافعي رضي الله عنهما. ومنهم من خصص الحديثين بما إذا كان المبيع لم يقبض بعد. ومنهم من قال: إن ذلك في الأراضي الخراجية التي أمرها إلي الإمام، أمره بوضع الخراج عنها إذا أصابتها الجوائح. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فلا يحل)) وقع جواب ((لو)) فإما أن يتمحل، ويقال: إن ((لو)) بمعنى ((إن))، وإما أن يقدر الجواب، و ((فلا يحل)) عطف عليه، أي لو بعت من أخيك ثمرًا فهلك لا تأخذ منه شيئًا فلا يحل لك، والتكرار للتقرير، كما في قوله تعالي: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا}. ولما كان هذا النهي نهي تنزيه لا تحريم، حث البائع علي أن يسلك مع المشتري طريق المروعة وتخصيص ذكر ((أخيك)) للتعطف والرحمة عليه، كما في قوله تعالي: {فمن عفي له من أخيه شيء}. ((مظ)): إن كان التلف قبل تسليم الثمار إلي المشتري يكون من ضمان البائع، فلا يحل له أن يأخذ الثمن بلا خلاف، وإن كان بعد التسليم فالكلام محمول علي التهديد عند الشافعي وأحمد، أو معناه فلا يحل لك في الورع والتقوى أن تأخذ الثمن إذا تلف الثمار.

2843 - وعن ابن عمر، قال: كانوا يبتاعون الطعام في أعلي السوق، فيبيعونه في مكانه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه في مكانه حتى ينقلوه. رواه أبو داود، ولم أجده في ((الصحيحين)). 2844 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)). 2845 - وفي رواية ابن عباس: ((حتى يكتاله)). متفق عليه. 2846 - وعن ابن عباس، قال: أما الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. متفق عليه. 2847 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الركبان لبيع، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فيبيعونه في مكانه)) الفاء للتعقيب، فدل علي أنهم يعقبون البيع الابتياع بلا مهلة، فيفيد أنهم يبيعونه قبل النقل؛ لأن القبض في مثله عبارة عن النقل، فلذلك نهوا عن ذلك، ويدل علي هذا التأويل الحديث الآتي. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ولا أحسب كل شىء)) أي لا أظن كل شىء إلا مثل الطعام، في أنه لا يجوز للمشتري أن يبيعه حتى يقبضه من البائع الذي اشتراه منه. ((مح)): اختلفوا في بيع المبيع قبل القبض، فقال الشافعي: لا يصح سواء كان طعامًا أو عقارًا، أو منقولا غير الطعام أو نقدًا. وقال عثمان البتي: يجوز في كل بيع. وقال أبو حنيفة: يجوز في العقار. وقال مالك: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تلقوا الركبان)) ((قض)): نهي عن استقبال الركبان لابتياع ما يحملونه إلي البلد قبل أن يقدموا الأسواق ويعرفوا الأسعار، لما يتوقع فيه من التغرير وارتفاع الأسعار. قوله: ((ولا يبع بعضكم علي بيع بعض)) ضمن البيع معنى الغلبة والاستعلاء، وعداه بعلي، قال في المغرب: باع عليه إذا كان علي كره منه، وباع له الشيء إذا اشتراه له، ومنه الحديث ((لا يبع بعضكم علي بيع أخيه)) أي لا يشتر بدليل رواية البخاري ((لا يبتاع الرجل علي بيع أخيه)). ((حس)): وهو أن يشتري رجل شيئاً، وهما في مجلس العقد وخيارهما باق، فيأتي الرجل ويعرض علي المشتري سلعة مثل ما اشتراه أو أجود بمثل ثمنها أو أرخص، أو إلي البائع فيطلب ما باعه بأكثر من ثمنه الذي باعه في الأول، حتى يندم فيفسخ العقد فيكون البيع بمعنى الاشتراء، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يخطب الرجل علي خطبة أخيه))، والمراد منه ما طلبه أخوه، كذلك هذا، ثم هذا الطالب إن كان قصده رد عقدهما، ولا يريد شراه يكون عاصيًا، سواء كان عالمًا بالحديث أو لم يكن، وإن قصد غبطة أحدهما فلا يعصي إلا أن يكون عالمًا بالحديث.

يبع بعضكم علي بيع بعضٍ، ولا تناجشوا. ولا يبع حاضر لبادٍ، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولا تناجشوا)) [((نه))]: النجش الإثارة يقال: نجش الصيد أثاره. ((قض)): هو تفاعل من النجش، وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ليغتر به الراغب فيشتري بما ذكره، وأصله الإغراء والتحريض، وإنما نهي عنه لما فيه من التغرير، وإنما ذكر بصيغة التفاعل؛ لأن التجار يتعارضون في ذلك، فيفعل هذا لصاحبه علي أن يكافئه بمثله. وعن بيع الحاضر للبادي: وهو أن يأخذ البلدي من البدوي ما حمله إلي البلد؛ ليبيعه بسعر اليوم حتى يبيع له علي التدريج بثمن أرفع، والعلة فيه تفويت الربح وتضييق الرزق علي الناس، فعلي هذا لو كان المتاع كاسداً في البلد، إما لكثرته أو لندور الحاجة إليه لم يحرم ذلك لفقد المعنى، فإن الحكم المنصوص كما يعم بعموم العلة يخص بخصوصها. وعن التصرية: وهي أن تشد أخلاف اللبون، ويترك حلابها أياماً؛ ليجتمع اللبن في ضرعها، فيتخيل المشتري غزارة لبنه، من قولهم: صريت الماء في الحوض إذا جمعته وحبسته، وأصل الصر الجمع ومنه الصرة، وأثبت بها الخيار للمشتري إذا اطلع عليها بقوله: ((فهو بخير النظرين)). وقال أبو حنيفة: لا خيار له بسبب التصرية، ولا الرد بعيب آخر بعدما حلبها، وفي الحديث حجة عليه في المسألتين. ولا يختص ثبوت الخيار بما بعد الحلب، بل لو اطلع عليها قبله كان له الرد. وإنما قيد به لأن الغالب أنه لا يحصل العلم بها إلا بعد حلبها، وإنما أوجب رد صاع تمر معها بدلاً عن الحليب الموجود في الضرع حالة العقد، وكان القياس رد عينه لو مثله، لكنه لما تعذر اختلاط ما حدت بعد البيع في ملك المشتري بالموجود حال العقد وإفضاؤه إلي الجهل بقدره، عين الشارع له بدلاً يناسبه قطعًا للخصومة، ودفعاً للتنازع في القدر الموجود عند العقد، وهذا الخيار كسائر خيار النقيصة علي الفور عند الأكثر. وما روى أنه قال: ((من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام لا سمراء)) إنما قاله بناءً علي الغالب؛ لأن الوقوف عليها قلما يكون في أقل من ثلاثة أيام، فأنه لا يظهر قبله نقصان بين؛ ولأن الذي يجده المشتري في المدة لعله يحمله علي اختلاف اليد وتبدل المحل، لا أن الخيار يمتد ثلاثة أيام، وإن اطلع عليه المشتري. قوله: ((لا سمراء)) أي لا حنطة، قيل: أراد به أن التمر متعين للبدلية، ولا يجوز أن يعطي غيره إلا برضي البائع، فإن غالب طعام العرب التمر فيكون المراد منه إذا أطلق. وقيل: أراد به أن يرد مع المصراة صاعًا من الطعام أي طعام كان، وأن الحنطة غير واجبة علي التعيين، بل

وفي رواية لمسلم: ((من اشترى شاة مصراةً، فهو بالخيار ثلاثة أيام: فإن ردها رد معها صاعًا من طعامٍ لا سمراء)). 2848 - وعنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لو رد معها صاعًا من تمر أو شعير أو غيرهما جاز، ولذلك اختلف العلماء في تعيين التمر، ولعل الأظهر تعيينه للتنصيص به فيما رواه الشيخان، وغيرهما من الأئمة رحمهم الله تعالي. قال في المغرب: الطعام اسم لما يؤكل ثم غلب علي البر، ومنه حديث أبي سعيد ((كنا نخرج في صدقة الفطر علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير)). أقول: لما قال صلى الله عليه وسلم: ((صاعا من طعام)) تبادر الذهن إلي ما غلب عليه اسم الطعام من البر، ولما لم يكن المراد بينة بقوله: ((لا سمراء)) لإزالة ذلك التوهم، فتعين أن يقيد بما نص عليه في الرواية الأولي. و ((صاعا من تمر)). ((مح)): الواجب أن يرد مع المصراة بعد أن حلبها صاعا من تمر سواء كان اللبن قليلاً أو كثيراً، والمصراة ناقة أو شاة أو بقرة، به قال الشافعي ومالك والليث وابن أبي ليلي وأبو يوسف، ووافقهم المحدثون، وقال بعض أصحابنا: يرد صاعا من قوت البلد ولا يختص بالتمر، وقال أبو حنيفة وطائفة من أهل العراق ومالك في رواية أخرى: يردها ولا يرد صاعا من تمر، لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئًا لغيره، رد مثله إذا كان مثليا، والا فقيمته، وأما جنس آخر من العروض فخلاف الأصول. وأجاب الجمهور بأن السنة إذا وردت لا يعترض عليها بالمعقول، ونظيره الدية، فإنها مائة بعير، ولا تختلف باختلاف حال القتيل قطعا للنزاع، والغرة في الجناية علي الجنين، سواء كان ذكرا أو أنثى تام الخلقة أو ناقصها جميلاً أو قبيحاً وغير ذلك. ((حس)): في حديث المصراة دليل علي أنه لا يجور بيع شاة لبون بلبن شاة ولا بشاة لبون في ضرعها لبن؛ لأن الشرع جعل اللبن في الضرع قسطا من الثمن، فهو كبيع مال الربا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما شيء آخر، بخلاف ما لوباع السمسم بالسمسم يجوز، وإن أمكن استخراج الدهن من كل واحد منهما؛ لأن عين الدهن غير موجود فيهما، واللبن هاهنا موجود في الضرع، حتى لو حلب اللبن ثم باعها في الحال قبل اجتماع اللبن في ضرعها باللبن يجوز. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تلقوا الجلب)) جلب الشيء، جاء به من بلد إلي بلد للتجارة جلبا، والجلب المجلوب وعبد جليب، جلب إلي دار الإسلام، كذا في المغرب. وذكر السيد إما لتغليب الإنسان المجلوب علي غيره من السلع، أو استعار للمالك السيد مبالغة في استحقاقة للمجلوب. قوله: ((فهو بالخيار)) ((مح)): قال أصحابنا: لا خيار

2849 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلي السوق)). متفق عليه. 2850 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع الرجل علي بيع أخيه، ولا يخطب علي خطبة أخيه إلا أن يأذن له)). رواه مسلم. 2851 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يسم الرجل علي سوم أخيه المسلم)). رواه مسلم. 2152 - وعن جابر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لايبع حاضر لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضٍ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ للبائع قبل أن يقدم ويعلم السعر، فإذا قدم، فإن كان سعره أرخص من سعر البلد ثبت له الخيار، سواء أخبر المشتري بالسعر كاذباً أم لم يخبر، وإن كان السعر أغلي أو كسعر البلد فوجهان: الأصح لا خيار له لعدم الغبن، والثاني: ثبوته لإطلاق الحديث. الحديث الخامس عشر إلي السابع عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا يبع)) ((مح)): الرواية برفعه، ورفع ((يخطب)) علي سبيل الخبر الذي يراد به النهي فإنه أبلغ. قوله: ((علي خطبة أخيه)) ((نه)): هو أن يخطب الرجل المرأة، يقال منه: خطب يخطب خطبة - بالكسر فهو خاطب، فتركن إليه، ويتفقا علي صداق معلوم ويتراضيا، ولم يبق إلا العقد، فأما إذا لم يتراضيا ولم يتفقا ولم يركن أحدهما إلي الآخر، فلا منع من خطبتهما وهو خارج عن النهي. ((حس)): عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم خطبإني، فقال: ((انكحي أسامة)). الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((علي سوم أخيه)) ((نه)): المساومة المحادثة بين البائع والمشتري علي السلعة وفصل ثمنها، يقال: سام يسوم سومًا وساوم واستام، والمنهي عنه أن يتساوم المتبايعان في السلعة ويتقارب الانعقاد فيجىء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة، ويخرجها من يد المشتري الأول بزيادة علي ما استقر الأمر عليه، ورضيا به قبل الانعقاد. ولعل تخصيص ذكر الأخ ووصفه بالمسلم للتعطف والإيذان بأنه لا يليق بحال المسلم أن يستأثر نفسه علي أخيه المسلم. الحديث التاسع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((حاضر)) جنس، ومن ثمة أعاد ضمير الجمع في ((دعوا)) إليه، وفيه التفات، وفائدة الالتفات هنا الزجر والتوبيخ، كما إذا قلت

2853 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين: نهي عن الملامسة والمنابذة في البيع. والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار، ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلي الرجل ـــــــــــــــــــــــــــــ لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إن فلانا من قصته كيت وكيت، ثم عدلت إلي الثالث مخاطبا: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، فكذا نهي السمسار أن يقول لأهل البادية: احفظ متاعك حتى أبيعه قليلاً قليلاً بزيادة تمنه، ولاشك أن أهل السوق ينتظرون الجالب ليشتروا منه، فيبيعوا من أهل البلد قليلاً قليلاً فيرزقوا من فضل الله، فإذا فعل السمسار هذا فقد قطع رزقهم، فيستحق الزجر والتوبيخ لذلك. والله أعلم. الحديث العشرون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((لبستين)) الجوهري: اللباس ما يلبس، وكذلك الملبس، واللبس بالكسر مثله. ((مظ)): أي نهي عن أن يلبس الرجل علي صورة الصماء، وعلي صورة الاحتباء، ونهي أن يبيع علي صورة الملامسة وعلي صورة المنابذة. ((حس)): معناه أن يجعلا لمس الشيء أو النبذ إليه بيعاً بينهما من غير رؤية وتأمل، ثم لا يكون فيه خيار، وكان ذلك من بيوع الجاهلية، فنهي عنه صلى الله عليه وسلم. ((نه)): ((الملامسة)) هي أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب، ولا ينظر إليه تم يوقع البيع عليه. نهي عنه؛ لأنه غرر، ولأنه تعليق أو عدول عن الصيغة الشرعية. وقيل: معناه أن يجعل اللمس بالليل قاطعًا للخيار، ويرجع ذلك إلي تعلق اللزوم وهو غير نافذ. و ((المنابذة)) في البيع هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، فيكون البيع معاطاة من غير عقد، ولا يصح أن يقال: نبذت الشيء أنبذه نبذًا فهو منبوذ، إذا رميته أو أبعدته. قوله: ((لا يقلبه إلا بذلك)) ((مظ)): يعني لا يلمس ذلك المتاع إلا للبيع، أي لم ير المشتري ذلك المتاع، ولم يجر بينهما إيجاب وقبول. أقول: جعل الملامسة قلباً وليس بذلك، وجعل المشار إليه البيع، ولم يسبق له ذكر. قال في المغرب: قلب الشيء حوله عن وجهه، وروي عن سنن أبي داود: الملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره ولا يقلبه، الوجه أن يكون المشار إليه ((بذلك)) اللمس، والاستثناء، من باب قول الشاعر: وبلدة ليس بها إنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وكان يجب عليه أن يقلب الثوب ظهراً لبطن، وينظر فيه ويتأمل فما فعل غير اللمس، وفي الحديث لف ونشر بغير ترتيب.

بثوبه، وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظرٍ ولا تراضٍ. واللبستين: اشتمال الصماء. والصماء: أن يجعل ثوبه علي أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوبٌ. واللبسة الأخرى: احتباؤه بثوبه، وهو جالسٌ ليس علي فرجه منه شيءٌ. متفق عليه. 2854 - وعن أبي هريرة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): لأصحابنا في تفسير حديث الملامسة ثلاثة أوجه، أحدها: ما قال الشافعي رضي الله عنه: هو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. والثاني: أن يجعل نفس اللمس بيعًا، فيقول: إذا لمسته فهو مبيع لك. والثالث: أن يبيعه شيئًا علي أنه متى يمسه انقطع خيار المجلس وغيره، وهو باطل علي التأويلات. ومعنى قوله: ((عن غير نظر ولا تراض)) أي بلا تأمل ورضي بعد التأمل. قوله: ((واللبستين)) كذا في الجمع بين الصحيحين، وشرح السنة، ونسخ المصابيح، علي الحكاية من قوله: ((نهي عن لبستين)) وفي جامح الأصول ((اللبستان))، علي الظاهر. قوله: ((الصماء)) ((نه)) هو أن يتجلل الرجل بثوبه ولا يرفع منه جانبًا، وإنما قيل له صماء؛ لأنه يسد علي يديه ورجليه المنافذ كلها، كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع، والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من جانبيه فيضعه علي منكبيه فتكشف عورته، و ((الاحتباء)) هو أن يضم الإنسان رجليه إلي بطنه بثوب، ويجمعهما مع ظهره ويشده عليهما، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب، وإنما نهي عنه؛ لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد، ربما تحرك أو زال فتبدو عورته. الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن بيح الحصاة)) ((قض)): بيع الحصاة من البياعات التي كان يفعلها أهل الجاهلية؛ واختلف في تفسيره، فقيل: هو أن يقول البائع للمشتري في العقد: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، والخلل فيه إثبات الخيار وشرطه إلي أمد مجهول، وقيل: هو أن يعقد بأن يرمي بحصاة في قطع غنم، فأي شاة أصابتها كانت المبيعة، والخلل فيه جهالة المعقود عليه. وقيل: هو أن يجعل الرمي بيعًا، والخلل في نفس العقد وصورته، والغرر ما خفي عليك أمره من الغرور، وبيع الغرر كل بيع كان المعقود عليه فيه مجهولاً أو معجوزًا عنه، ومن ذلك بيع ما لم تره، وبيع تراب المعدن، وتراب الصاغة؛ لأن المقصود بالعقد ما فيه من النقد وهو مجهول.

2855 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلي أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع المعدوم والمجهول، وما لا يقدر علي التسليم، وما لم يتم ملك البائع عليه، وأشباه ذلك مما يلزم منه الغرر من غير حاجة. وقد يحتمل بعض الغرر بيعًا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار [وكما إذا باع الشاة] مع حملها، ومع اللبن في ضرعها؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، والحمل واللبن تابعان للشاة، والحاجة تدعو إليه. وأجمعوا علي جواز غررٍ حقيرٍ كالجبة المحشوة بالقطن، ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا أيضًا علي جواز إجارة الدار والدابة والثوب، ونحو ذلك شهرًا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين يوماً، وعلي جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في صب الماء وفي قدر مكثهم، وعلي جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين، وتحريره أن مدار البطلان بسبب الغرر بغير حاجة، وإن دعت حاجة إلي ارتكابه، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، أو كان الغرر حقيراً جاز البيع. وأعلم أن بيع الملامسة والمنابذة، وحبل الحبلة، والحصاة، وعسب الفحل، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص داخلة في الغرر، ولكن أفردت بالذكر لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة .. والله أعلم. الحديث الثاني والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((حبل الحبلة)) ((فا)): الحبلة مصدر سمي به المحمول، كما سمى بالحمل وإنما أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة؛ لأن معناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة، وقال ابن الأنباري: هو نتاج النتاج، فالحبل يراد به ما في بطون النوق، أدخلت فيها الهاء للمبالغة. ((مح)): ((حبل الحبلة)) بفتح الحاء والباء فيهما، قيل: الحبلة جمع حابل كظالم وظلمة، وفاجر وفجرة، قال الأخفش: حبلت المرأة فهي حابل والجمع حبلة، وقيل: الحبل مختص بالإنسان، والحمل بغيره، قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان: حبل، إلا ما جاء في هذا الحديث. واختلفوا في المراد بالنهي في هذا الحديث، فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلي أن تلد الناقة ويلد ولدها، وقد ذكر مسلم هذا التفسير عن ابن عمر في هذا الحديث، وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم، وقال آخرون: هو بيع ولد ولد الناقة في الحال، وهذا تفسير أهل اللغة، وبه قال أحمد وإسحاق بن راهويه، وهذا أقرب إلي اللغة، لكن الراوي وهو ابن عمر قد

2856 - وعنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم مية عن عسب الفحل. رواه البخاري. 2857 - وعن جابرٍ: قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل، وعن بيع الماء والأرض لتحرث. رواه مسلم. 2858 - وعنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فسره بالتفسير الأول وهو أعرف، ومذهب الشافعي ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالفه الظاهر. اقول: فإن قلت: تفسيره مخالف لظاهر الحديث، فكيف يقال إذا لم يخالف الظاهر؟ قلت: لعل المراد بالظاهر الواقع، فإن هذا البيع في الجاهلية كان لضرب الأجل وتعيينه، وابن عمر كان أعرف بهذا من غيره، كأنه قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع المخصوص، ثم فسره بما فسره، وليس التفسير حل اللفظ بل بيان للواقع. الحديت الثالث والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((عن عسب الفحل)) ((نه)): عسب الفحل ماؤه، فرسًا كان أو بعيرًا أو غيرهما، وعسبه أيضًا ضرابه، يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبًا، ولم ينه عن واحد منهما، وإنما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه؛ فإن إعارة الفحل مندوب إليها، وقد جاء في الحديث ((ومن حقها إطراق فحلها)) ووجه الحديث أنه نهي عن كراء عسب الفحل، فحذف المضاف. وقيل: يقال لكراء الفحل: عسب، وعسب فحله يعسبه، أي أكراه، وعسبت الرجل إذا أعطيته كراء ضراب فحله، فلا يحتاج إلي حذف مضاف، وإنما نهي عنه للجهالة التي فيه، ولابد في الإجارة من تعيين العمل ومعرفة مقداره. ((حس)): فيه أنه لا يجوز استئجار الفحل للإنزاء؛ لما فيه من الغرر؛ لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح، وذهب إلي تحريمه أكثر الصحابة والفقهاء، ورخص فيه جماعة لكراهة انقطاع النسل، وشبهوه بالاستئجار للإرضاع وتأبير النخل، وما نهت السنة عنه فلا يجوز المصير إليه بطريق القياس، وأما إعارة الفحل للإنزاء فلا بأس به، تم لو أكرمه المستعير بشيء، يجوز له قبول كرامته. أقول: قد سبق عن الشيخ محي الدين جواز الغرر فيما تمس الحاجة إليه، ولما كان بقاء النسل مطلوبا بالذات رخص في العسب. الحديث الرابع والخامس والسادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ضراب الجمل)) ((قض)): ضرب الفحل الناقة ضرابا نزا عليها، وبيع ضرابه أن يأخذ به مالا ويقرر عليه. قوله: ((وعن بيع الماء والأرض لتحرث)) هو محمول علي المخابرة كما مر، قوله: ((لا يباع فضل الماء)) ((قض)): اختلفت الروايات في هذا الحديث، فروى البخاري رحمه الله

2859 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلأ)) ومعناه: من كان له بئر في موات من الأرض، لا يمنع ماشية غيره أن ترد فضل مائه الذي زاد علي ما احتاجت إليه ماشيته ليمنعها بذلك عن فضل الكلأ، فإنه إذا منعهم عن فضل مائه في أرض لا ماء بها سواه، لم يكن لهم الرعي بها فيصير الكلأ ممنوعًا بمنع الماء، وروى السجستإني ((لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ)) والمعنى: لا يباع فضل الماء ليصير الكلأ ممنوعًا بسبب الضنة علي الماء والمضايقة عليه، وفي المصابيح ((لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ)) والمعنى: لا يباع فضل الماء ليصير البائع له كالبائع للكلأ، فإن من أراد الرعي في حومات مائه وحواليه، إذا منعه من الورود علي مائه إلا بعوض اضطر إلي شرائه، فيكون بيعه للماء بيعًا للكلأ. واختلف العلماء في أن هذا النهي للتحريم أو للتنزيه، وبنوا ذلك علي أن الماء يملك أم لا؟، والأولي حمله علي الكراهة. ((تو)): الكلأ في موضعه هذا من فصيح الكلام الذي تهتز له أعطاف البليغ، لأن العشب يستعمل في الرطب من النبات، والحشيش في اليابس منه، والكلأ يعم النوعين. أقول: التركيب من باب نهي الفعل المعلل، فيلزم بالمفهوم جواز بيع الماء لا لتلك العلة، كما يبيع فضل الماء لسقي زرع الغير. ((مح)): لا يجب علي صاحب البئر بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره فيما يملكه من الماء، ويجب بذله للماشية، وللوجوب شروط: أحدها: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحا، والثاني: أن يكون البذل لحاجة الماشية، والثالث: أن يكون هناك مرعى، وأن يكون الماء في مستقره، فالماء الموجود في إناء لا يجب بذل فضله علي الصحيح، ثم عابرو السبيل يبذل لهم ولمواشيهم، وفيمن أراد الإقامة في الموضع وجهان؛ لأنه لا ضرورة إلي الإقامة، والأصح الوجوب، وإذا أوجبنا البذل، هل يجوز أن تأخذ عليه عوضًا كإطعام المضطر؟ فيه وجهان، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع فضل الماء. اعلم أن البئر يتصور حفرها علي أوجه: أحدها: الحفر في المنازل للمارة، والثاني: في الموات علي قصد الارتفاق، كمن ينزل في الموات فيحفر للشرب وسقي الدواب، والثالث: الحفر بنية الملك، فالمحفورة للمار ماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، والمحفورة للارتفاق الحافر أولي بمائها إلي أن يرتحل، لكن ليس له منع ما فضل منه للشرب لا الزرع، فإذا ارتحل صارت البئر كالمحفورة للمارة، فإن عاد فهو كغيره، وأما المحفورة للتملك فهل يكون ماؤها ملكًا؟ فيه وجهان: أصحهما نعم، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم. ويجري الخلاف فيما إذا انفجرت عين في ملكه، فإن قلنا: لا يملك فنبع وخرج منه ملكه من أخذه، وإن قلنا بالأصح لا يملكه الآخذ، أقول: بعض هذه المسائل ملحق بالتعليل، وبعضها بالمعلل في المنع وعدم المنع.

2860 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر علي صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً. فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غش فليس مني)). رواه مسلم. الفصل الثاني 2861 - عن جابر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الثنيا إلا أن يعلم. رواه الترمذي. [2861] 2862 - وعن أنس [رضي الله عنه]، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد. هكذا رواه الترمذي، وأبو داود، عن أنس. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أصابته السماء)) أي المطر؛ لأنها مكانه، وهو نازل منها، قال: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا قوله: ((من غش فليس مني)) ((من)) اتصالية، كقوله تعالي: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}. ((حس)): الغش نقيض النصح مأخوذ من الغشش، وهو المشرب الكدر، ولم يرد به نفيه عن دين الإسلام، إنما أراد أنه ترك متابعتنا، هذا كما يقول الرجل لصاحبه: أنا منك، يريد به الموافقة والمتابعة، قال الله تعالي إخبارا عن إبراهيم عليه السلام: {فمن تبعني فإنه مني}. الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه قوله: ((عن الثنيا إلا أن يعلم)) قد سبق في الحديث الثالث من الفصل الأول معناه. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نهي عن بيع النخل حتى يزهو)) أي عن بيع ثمر النخل حتى يزهو، فلما حذف المضاف أسند الفعل إلي المضاف إليه، فأنث و ((حتى)) غاية للنهي المخصوص.

والزيادة التي في ((المصابيح)) وهو قوله: نهي عن بيع التمر حتى تزهو؛ إنما ثبت في روايتهما: عن ابن عمر، قال: نهي عن بيع النخل حتى تزهو، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [2862] 2863 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الكالئ بالكالئ. رواه الدارقطني. [2863] 2864 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان. رواه مالك، وأبو داود، وابن ماجه. [2864] 2865 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((عن بيع الكالئ بالكالئ)) ((فا)): كلأ الدين كلاء إذا تأخر، ومنه بلغ الله بك أكلأ العمر أي أطوله وأشده تأخرا. قال ابن الأعرابي: تعففت عنها في القرون التي خلت ... فكيف النسا في بعد ما كلأ العمر وكلأته أنسأته، وكلأت الطعام أسلفت، وهو أن يكون لك علي رجل دين، فإذا حل أجله استباعك ما عليه إلي أجل [وارد عليه في النهاية، والمراد به بيع النسيئة بالنسيئة: وذلك أن يشتري الرجل شيئاً إلي أجل]، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي، فيقول: بعنيه إلي أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه ولا يجري بينهما تقابض، وبعض الرواة لا يهمز ((الكالئ)) تخفيفا. الحديث الرابع عن عمرو: قوله: ((عن بيع العربان)) أي عن البيع الذي يكون فيه عربان. ((نه)): هو أن يشتري السلعة ويدفع إلي صاحبها شيئاً، علي أنه إن أمضى البيع حسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة، ولم يرجعه المشتري. يقال: أعرب في كذا وعرب وعربن وهو عربان وعربون، وعربون كحمدون، قيل: سمي بذلك لأن فيه إعرابا لعقد البيع أي إصلاحا وإزالة فساد؛ لئلا يملكه غيره باشترائه، وهو بيع باطل عند الفقهاء؛ لما فيه من الشرط والغرر، وأجازه أحمد، وروي عن ابن عمر إجازته، وحديث النهي منقطع. الحديث الخامس عن علي رضي الله عه: قوله: ((عن بيع المضطر)) ((نه)): هذا يكون من وجهين، أحدهما: أن يضطر إلي العقد من طريق الإكراه، وهذا بيع فاسد لا ينعقد،

المضطر، وعن بيع الغرر، وعن بيع الثمرة قبل أن تدرك. رواه أبو داود. [2865] 2866 - وعن أنس: أن رجلاً من كلاب، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل، فنهاه، فقال: يا رسول الله! إنا نطرق الفحل فنكرم. فرخص له في الكرامة. رواه الترمذي. [2866] 2867 - وعن حكيم بن حزام، قال: نهإني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي. رواه الترمذي في رواية له، ولأبي داود، والنسائي: قال: قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل فيريد مني البيع وليس عندي، فأبتاع له من السوق. قال: ((لا تبع ما ليس عندك)). [2867] ـــــــــــــــــــــــــــــ والثاني: أن يضطر إلي البيع لدين ركبه، أو مؤونة ترهقه فيبيع ما في يديه بالوكس للضرورة، وهذا سبيله في حق الدين فالمروءة أن لا يباع علي هذا الوجه، ولكن يعار ويقرض إلي الميسرة، أو يشتري إلي الميسرة، أو يشتري السلعة بقيمتها، فإن عقد البيع مع الضرورة علي هذا الوجه، صح مع كراهة أهل العلم له. ومعنى البيع هاهنا الشرى أو المبايعة أو قبول البيع. والمضطر مفتعل من الضر، وأصله مضترر، فأدغمت الراء وقلبت التاء طاءً؛ لأجل الضاد. والغرر هو ما كان له ظاهر يغري المشتري وباطن مجهول، وقال الأزهري: الغرر ما كان علي غير عهدة وثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول. الحديث السادس عن أنس: قوله: ((إنا نطرق الفحل)) ((نه)): وفي الحديث ((ومن حقها إطراق فحلها)) أي إعارته للضراب، فاستطراق الفحل استعارته لذلك، وكل ناقة طروقة فحلها، وكل امرأة طروقة زوجها، والطرق في الأصل ماء الفحل. وقيل: هو الضراب ثم سمي به الماء. ((شف)): فيه دليل علي أنه لو أعاره الفحل للإنزاء، فأكرمه المستعير بشيء جاز، وله قبوله، وإن لم يجز أخذ الكراء. الحديث السابع عن حكيم: قوله: ((فيزيد مني البيع)) أي المبيع كالصيد بمعنى المصيد؛ لقوله تعالي: {أحل لكم صيد البحر} أي مصيدة، وقوله: ((ليس عندي)) حال منه، وفي شرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح ثبت بالواو. ((حس)): هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات، فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز، وإن لم

2868 - وعن أبي هريرة، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. رواه مالك، والترمذي، والنسائي. [2868] 2869 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في صفقة واحدة. رواه في ((شرح السنة)). [2869] 2870 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. [2870] ـــــــــــــــــــــــــــــ يكن في ملكه حالة العقد، وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع العبد الآبق، وبيع المبيع قبل القبض، وفي معناه بيع مال غيره بغير إذنه؛ لأنه لا يدري هل يجيز مالكه أم لا، وبيع المبيع قبل القبض، وفي معناه بيع مال غيره بغير إذنه؛ لأنه لا يدري هل يجيز مالكه أم لا، وبه قال الشافعي. وقال جماعة: يكون العقد موقوفاً علي إجازة المالك، وهو قول مالك وأصحاب أبي حنيفة وأحمد. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن بيعتين)) ((حس)) و ((مظ)): فسروا البيعتين في بيعة علي وجهين، أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة إلي شهر، فهو فاسد عند أكثر أهل العلم؛ لأنه لا يدري أيهما الثمن حين يوجب البيع، وجهالة الثمن تمنع صحة البيع. وثإنيهما: أن يقول: بعتك عبدي بعشرة علي أن تبيعني جارية بكذا، فهو فاسد؛ لأنه جعل ثمن العبد عشرة دنإنير، وشرط بيع الجارية وذلك شرط لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن، فيصير ما يبقى من المبيع في مقابلة الثاني مجهولاً. الحديث التاسع والعاشر عن عمرو: قوله: ((لا يحل سلف وبيع)) ((قض)): السلف يطلق علي السلم والقرض، والمراد به هاهنا شرط القرض علي حذف المضاف، أي لا يحل بيع مع شرط سلف، مثل أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة علي أن تقرضني عشرة، نفي الحل اللازم للصحة؛ ليدل علي الفساد من طريق الملازمة، والعلة فيه وفي كل عقد تضمن شرطاً لا يثبت ويتعلق به غرض ما مر في حديث السالف. وقيل: هو أ، يقرضه قرضاً ويبيع منه شيئاً بأكثر من قيمته، فإنه حرام لأن قرضه روج متاعه بهذا الثمن، وكل قرض جر نفعاً فهو حرام. وقوله: ((ولا شرطان في بيع)) فسر بالمعنى الذي ذكرناه أولا للبيعتين في بيعة، وقيل: معناه

2871 - وعن ابن عمر، قال: كنت أبيع الإبل بالنقيع بالدنإنير، فآخذ مكانها الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ مكانها الدنإنير، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [2871] ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يبيع شيئاً بشرطين، مثل أن يقول: بعت منك هذا الثوب بكذا علي أن أقصره وأخيطه، وإليه ذهب أحمد، وبنى علي مفهومه جواز الشرط الواحد وهو ضعيف؛ إذ لا فرق بين الشرط الواحد والشرطين في المعنى؛ ولأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهي عن بيع وشرط)) ولعل تخصيص الشرطين للعادة التي كانت لهم. ((وربح ما لم يضمن)) يريد به الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه، وينتقل من ضمان البائع إلي ضمانه، فإن بيعه فاسد، وقول القاضي: وقيل: هو أن يقرضه قرضاً ويبيع منه شيئاً بأكثر من قيمته ثمناً، وأحمد علي ما في شرح السنة. وقال أحمد: هو أن يقرضه قرضاً ثم يبايعه عليه بيعاً يزداد عليه، وقال الخطابي: وهذا فاسد؛ لأن كل قرض جر منفعة فهو ربا. ((حس)): قيل: معناه أن الربح في الشيء إنما يحل إن كان الخسران عليه، فإن لم يكن الخسران عليه، كالمبيع قبل القبض إذا تلف، فإن ضمانه علي البائع، فلا يحل للمشتري أن يسترد منافعه التي انتفع بها البائع قبل القبض؛ لأن المبيع لم يدخل بالقبض في ضمان المشتري، فلا يحل له ربح المبيع قبل القبض. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عهما: قوله: ((بالنقيع)) ((نه)) ز ((تو)): هو بالنون موضع قريب من المدينة كان يستنقع فيه الماء أي يجتمع. قوله: ((أن تأخذها)) الضمير المنصوب راجع إلي أحد النقدين من الدراهم والدنإنير علي البدلية، ((وشيء)) عبارة عن التقابض، وإنما نكره وأبهمه للعلم بالمراد، فإن تقابض النقدين في المجلس مما هو مشهور ولا يلتبس علي كل أحد، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس)) في الجواب ثم تقييده بقوله: ((أن تأخذها)) إلي آخره من باب القول بالموجب، كأنه قال: لا بأس أن تأخذ بدل الدنإنير الدراهم وبالعكس، بشرط التقابض في المجلس، والتقييد بقوله: ((بسعر اليوم)) علي طريقة الاستحباب عند الشافعي. ((حس)): يشترط قبض ما يستدل في المجلس، سواء استبدل عنه ما يوافقه في علة الربا أو غيره، وكذلك في القرض وبدل الإتلاف؛ لقوله: ((ما لم تتفرقا وبينكما شيء)). وقيل: لا يشترط ذلك إلا إذا كانا موافقين في علة الربا، وإنما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما- أعني الدراهم والدنإنير- مما يوافقان في علة الربا، والتقابض في أحد النقدين بالآخر شرط، ولو استبدل عن الدين شيئاً مؤجلاً لا يجوز؛ لأنه بيع كالئ بكالئ، وقد نهي عنه.

2872 - وعن العداء بن خالد بن هوذة، أخرج كتابا: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم المسلم. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [2872] 2873 - وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا، فقال: ((من يشتري هذا الحلس والقدح؟)) فقال رجل: آخذهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يزيد علي درهم؟)) فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2873] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن العداء قوله: العداء ((قض)): هذا العداء من بني ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة من أعراب البصرة. و ((عبدا أو أمة)) شك بعض الرواة، والمراد بالداء العيب الموجب للخيار، وبالغائلة ما فيه اغتيال مال المشتري، مثل أن يكون العبد سارقاً أو آبقا، وبالخبثة أن يكون خبيث الأصل، لا يطيب للملاك، أو محرماً كالمسبي من أولاد المعاهدين ومن لا يجوز سبيهم، فعبر عن الحرمة بالخبث، كما عبر عن الحل بالطيب. ((بيع المسلم المسلم)) نصب علي المصدر أي باعه بيع المسلم من المسلم، وأضاف إلي الفاعل ونصب به المفعول. ((تو)): ليس في ذلك ما يدل علي أن المسلم إذا بايع غير أهل ملته، جاز له أن يعامله بما يتضمن غبنا أو غشا، وإنما قال ذلك علي سبيل المبالغة في النظر له، فإن المسلم إذا بايع المسلم يرى له من النصح أكثر مما يرى لغيره، أو أراد بذلك بيان حال المسلمين إذا تعاقدا، فإن من حق الدين وواجب النصيحة أن يصدق كل واحد منهما صاحبه، ويبين له ما خفي عليه، ويكون التقدير باعه بيع المسلم المسلم، واشتراه شرى المسلم المسلم، فاكتفي بذكر أحد طرفي العقد عن الآخر. الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((باع)) أي أراد أن يبيع، كقوله تعالي: {وإذا قرأت القرآن}. قوله: ((حلساً)) ((نه)): الحلس الكساء الذي علي ظهر البعير تحت القتب لا يفارقه. قوله: ((من يزيد علي درهم)) ((مح)): هذا ليس بسوم؛ لأن السوم هو أن يتفق الراغب والبائع علي البيع ولم يعقداه، فيقول الآخر للبائع: أنا أشتريه، وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس حرام. أقول: في قوله: ((فأعطاه)) أي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: ((فباعهما)) إيهام أن المعاطاة كافية.

(6) باب

الفصل الثالث 2874 - عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من باع عيبا لم ينبه، لم يزل في مقت الله، أو لم تزل الملائكة تلعنه)). رواه ابن ماجه. [2874] (6) باب الفصل الأول 2875 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع)). رواه مسلم. وروى البخاري المعنى الأول وحده. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن واثلة: قوله: ((عيبا)) أي معيبا، وقد تقرر في علم المعإني أن المصدر إذا وضع موضع الفاعل أو المفعول كان للمبالغة، نحو رجل عدل أي هو مجسم من العدل، وجعل المعيب نفس العيب دلالة علي شناعة هذا البيع، وأنه عين العيب، وذلك ليس من شيم المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من غش فليس مني)) أو يقدر ذا عيب، والتنكير للتقليل. والله أعلم. وفي قوله: ((في مقت الله)) مبالغتان، فإن المقت أشد الغضب، وجعله ظرفاً له. باب الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بعد أن تؤبر)) ((قض)): التأبير تلقيح النخل، وهو أن يوضع شيء من طلع فحل النخل في طلع الأنثى إذا انشق، والمعنى أن من باع نخلا مثمرا قد أبرت، فثمرتها تبقى له إلا إذا شرط دخولها في العقد، وعليه أكثر أهل العلم، وكذا إن انشق ولم تؤبر بعد؛ لأن الموجب للأفراد هو الظهور المماثل لانفصال الجنين، ولعله عبر عن الظهور بالتأبير؛ لأنه لا يخلو عنه غالباً، أما لو باع قبل أوان الظهور تبع الأصل، وانتقل إلي المشتري، قياسا علي الجنين وأخذا من مفهوم الحديث، وقال أبو حنيفة: تبقى الثمرة للبائع بكل حال، وقال أبي ليلي: الثمرة تتبع الأصل وتنتقل إلي المشتري بكل حال. قوله: ((وله مال)) ((حس)): فيه بيان أن العبد لا ملك له بحال، فإن السيد لو ملكه لا يملك لأنه مملوك، فلا يجوز أن يكون مالكا كالبهائم. قوله: ((وله مال)) إضافة مجاز لا إضافة ملك، كما يضاف السرج إلي الفرس، والإكاف إلي الحمار، والغنم إلي الراعي، يدل عليه أنه

2876 - وعن جابر: أنه كان يسير علي جمل له قد أعيي، فمر النبي صلى الله عليه وسلم به، فضربه، فسار سيرا ليس يسير مثله، ثم قال: ((بعنيه بوقية)) قال: فبعته، فاستثنيت حملانه إلي أهلي، فلما قدمت المدينة أتيته بالجمل ونقدني ثمنه وفي رواية: فأعطإني ثمنه ورده علي. متفق عليه. وفي رواية للبخاري أنه قال لبلال: ((اقضه وزده)) فأعطاه، وزاده قيراطا. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: ((فماله للبائع))، أضاف الملك إليه وإلي البائع في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الشيء الواحد كله ملكاً لاثنين في حالة واحدة، فثبت إضافة المال إلي العبد مجاز، أي للاختصاص وإلي المولي حقيقة، أي للملك. ((مح)): مذهب مالك والشافعي في القديم أن العبد إذا ملكه سيده مالا ملكه، لكنه إذا باعه بعد ذلك كان ماله للبائع، إلا أن يشترط لظاهر الحديث. وقال الشافعي: إن كان المال دراهم لم يجز بيع العبد، وتلك الدراهم بدراهم، وكذا إن كان الدنإنير أو الحنطة لم يجز بيعهما بذهب أو حنطة. وقال مالك: يجوز إن اشترطه المشتري، وإن كان دراهم والثمن دراهم، ولإطلاق الحديث. وفي الحديث دليل علي أن ثياب العبد التي عليه تدخل في البيع، إلا أن يشترطها؛ لأنه مال في الجملة. وقال بعض أصحابنا: تدخل. وقال بعضهم: ساتر العورة فحسب، والأصح أنه لا يدخل شيء؛ لظاهر الحديث، ولأن اسم العبد لا يتناول الثياب. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((قد أعيي)) أعيي أي أصابه العياء وصار ذا عياء. قوله: ((بوقية)) ((نه)): هي بغير ألف لغة عامرية، وغير العامرية أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء، وهي أربعون درهما، ووزنها أفعولة، والألف زائدة، والجمع الأواقي مشدداً وقد يخفف. و ((الحملان)) مصدر حمل يحمل حملانا. ((مح)): احتج به أحمد ومن وافقه علي جواز بيع دابة، يشترط البائع لنفسه ركوبها. وقال مالك: يجوز ذلك إذا كانت المسافة ريبة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء بعدت المسافة أو قربت، واحتجوا بالحديث السابق في النهي عن بيع الثنيا، وبالحديث في النهي عن بيع وشرط. وأجابوا عن حديث جابر بأنها قضية تتطرق إليها احتمالات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع، ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، وإنما يضر الشرط إذا كان في نفس العقد، فلعل الشرط كان سابقاً فلم يؤثر، ثم تبرع صلى الله عليه وسلم بإركابه، وفيه أنه لا بأس بطلب البيع من مالك السلعة وإن لم يعرضها للبيع. قوله: ((وزده)) ((مح)): فيه دليل علي جواز الوكالة في قضاء الدين وأداء الحقوق، واستحباب أداء الدين وإرجاح الوزن. ((حس)): فيه جواز هبة المشاع؛ لأن زيادة القيراط هبة غير متميزة من جملة الثمن. أقول: وفيه بحث؛ لأن قوله: ((فأعطاه وزاده قيراطاً)) لا يساعد عليه. وكذا ما روي

2877 - وعن عائشة، قالت: جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت علي تسع أواق، في كل عام وقية، فأعينيني فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة، واحدة وأعتقك؛ فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلي أهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذيها وأعتقيها)) ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله ـــــــــــــــــــــــــــــ عن جابر أنه قال: قلت: هذا القيراط الذي زادني رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقني أبدا فجعلته في كيس، فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرة فأخذوه فيما أخذوا. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((قالت: جاءت بريرة)) ((قض)): ظاهر مقدمة هذا الحديث يدل علي جواز بيع رقبة المكاتب، وإليه ذهب النخعي ومالك وأحمد، وقالوا: يصح بيعه، ولكن لا تنفسخ كتابته، حتى لو أدى النجوم إلي المشتري عتق، وولاؤه للبائع الذي كاتبه. وأول الشافعي الحديث بأنه جرى برضاها، وكان ذلك فسخاً للكتابة منها، ويحتمل أن يقال: إنها كانت عاجزة عن الأداء، فلعل السادة عجزوها وباعوها. واختلف في جواز بيع نجوم الكتابة فمنعه أبو حنيفة والشافعي، وجوزه مالك وأول قوم حديث بريرة عليه، بقول عائشة رضي الله عنها: ((أعدها لهم)) والضمير لـ ((تسع أواق)) التي وقعت عليها الكتابة، وبما جاء في بعض الروايات ((فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك)) ويرده عتق عائشة إياها، وما روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ابتاعي وأعتقي)) وفي رواية أخرى أنه قال: ((اشتريها وأعتقيها)) وأما ما احتجوا به فدليل عليهم؛ لأن مشتري النجوم لا يعدها ولا يؤديها، وإنما يعطى بدلها. وأما مشتري الرقبة إذا اشتراها بمثل ما انعقدت به الكتابة فإنه يعده، وفحوى الحديث يدل علي جواز بيع الرقبة بشرط العتق؛ لأنه يدل علي أنهم شرطوا الولاء لأنفسهم، وشرط الولاء لا يتصور إلا بشرط العتق، وأن النبي صلي الله عليه وسلن أذن لعائشة في إجابتهم بالشرى بهذا الشرط، ولو كان العقد فاسداً لم يأذن فيه ولم يقرر العقد، وإليه ذهب النخعي والشافعي وابن أبي ليلي وأبو ثور، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي فساده. والقائلون بصحة العقد اختلفوا في الشرط، فمنهم من صححه، وبه قال الشافعي في الجديد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أذن فيه؛ ولأنه لو فسد لأفسد العقد؛ لأنه شرط يتعلق به غرض ولم يثبت، ففسد العقد للنص والمعنى المذكورين قبل، ومنهم من ألغاه كابن أبي ليلي وأبي ثور. ويدل أيضا علي صحة البيع بشرط الولاء وفساد الشرط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرر العقد وأنفذه وحكم ببطلان الشرط، وقال: ((إنما الولاء لمن أعتق)) وبه قال ابن أبي ليلي وأبو ثور والشافعي في القديم. والأكثرون علي فساد العقد لما سبق من النص والمعنى، وقالوا: ما جرى الشرط في بيع بريرة، ولكن القوم ذكروا ذلك طمعاً في ولائها جاهلين بأن الولاء لا يكون إلا للمعتق. وما روى هشام بن عروة

وأثنى عليه. ثم قال: ((أما أبعد، فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله. ـــــــــــــــــــــــــــــ عن أبيه عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((خذيها واشترطيها)) زيادة تفرد بها، والتاركون لها كابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة والقاسم بن محمد عنها أكثر عدداً وأشد اعتباراً فلا يسمع؛ لأن السهو علي واحد أجوز منه علي جماعة. قال الشافعي رضي الله عنه: كيف يجوز في صفة الرسول ومكانه من الله أن ينكر علي الناس شرطا باطلا، ويأمر أهله بإجابتهم إلي الباطل، وهو علي أهله في الله أشد وأغلظ. أقول: وعلي هذا التقدير والاحتمال ينهدم ما ذكرنا من الاستدلال، ولا يكون فيه ما يدل علي جواز شرط العتق في العقد وصحته. قوله: ((ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟)) كذا في البخاري بلا فاء، قال المالكي: ((أما)) حرف قائم مقام أداة الشرط والفعل الذي يليها؛ فلذلك يقدرها النحويون بمهما يكن من شيء، وحق المتصل بالمتصل بها أن تصحبه الفاء، نحو قوله تعالي: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض} ولا تحذف هذه الفاء غالبا إلا في شعر أو مع قول أغنى عنه مقوله، نحو {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} أي فيقال لهم: أكفرتم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أما موسى كإني أنظر إليه)) وقول عائشة رضي الله عنها: ((وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافاً واحداً)) وقد خولفت القاعدة في هذه الأحاديث، فعلم بالتحقيق عدم التضييق، وأن من خصه بالشعر أو بالصورة المعينة من النثر مقصر في فتواه وعاجز عن نصرة دعواه- انتهي كلامه. أراد صلى الله عليه وسلم بما قال أن هذه الشروط ليست في حكم الله، أو ليست علي مقتضى حكم كتاب الله، ولم يرد أنها منصوصة في كتاب الله؛ فإن كون الولاء للمعتق أيضا غير منصوص في القرآن، ولكن الكتاب أمر بطاعة الرسول واتباع حكمه، وهو قد حكم بأن الولاء لمن أعتق، وغلي هذا يكون قوله: ((وإنما الولاء لمن أعتق)) حالا من قوله: ((يشترطون)) مقررة لجهة الإشكال كقوله تعالي: {ونحن نسبح بحمدك} حيث وقعت مقررة لإنكار ما سبق من قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}. ((مح)): وفي هذا الشرط إشكال؛ لأنه يفسد البيع، وكيف وهو متضمن للخداع والتغرير؟ أم كيف أذن لأهله ما لا يصح؟ ولهذا الإشكال أنكر بعض العلماء هذا الحديث بجملته، وما في معناه في الرواية الأخرى من قوله: ((واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق)) وقال الجمهور: هذه اللفظة صحيحة، واختلفوا في تأويلها، قيل ((لهم)) بمعنى ((عليهم)) كما قال تعالي: {ولهم اللعنة} أي عليهم {وإن أسأتم فلها} أي فعليها وهو ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم

ما كان من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط. فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)). متفق عليه. 2878 - وعن ابن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الاشتراط، ولو كان كما قال القائل لم ينكره، وقد يجاب عنه أنه صلى الله عليه وسلم إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر، والأصح في تأويله ما قاله أصحابنا في كتب الفقه: إن هذا الشرط خاص في قضية عائشة رضي الله عنها، واحتمل هذا الإذن وإبطاله هذه القضية الخاصة، وهي قضية عين لا عموم لها، قالوا: والحكمة في إذنه ثم إبطاله المبالغة في قطع عادتهم في ذلك وزجرهم علي مثله، كما أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الإحرام بالحج، ثم أمرهم بفسخه وجعله عمرة؛ ليكون أبلغ في زجرهم وقطعهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج، وقد يحتمل المفسدة اليسيرة لتحصيل مصلحة عظيمة. قال العلماء: الشرط في البيع ونحوه أقسام: منها: شرط يقتضيه إطلاق العقد بأن شرط تسليمه إلي المشتري، أو تبقية الثمرة علي الشجرة إلي أوان الجذاذ. ومنها: شرط فيه مصلحة وتدعو إليه الحاجة، كاشتراط الرهن والتضمين والخيار ونحو ذلك، فهذان الشرطان جائزان، ولا يؤثران في صحة العقد بلا خلاف. ومنها: اشتراط العتق في العبد أو الأمة ترغيباً في العتق لقوته وسرايته- انتهي كلامه. قوله: ((فأبوا إلا أن يكون)) الاستثناء مفرغ؛ لأن في ((أبي)) معنى النفي، الكشاف في قوله تعالي: {ويأبي الله إلا أن يتم نوره}: قد أجرى ((أبي)) مجرى لم يرد، ألا ترى كيف قوبل {يريدون أن يطفئوا نور الله} بقوله: {ويأبي الله} وأوقعه موقع لم يرد! وقوله: ((ما كان من شرط)) ((ما)) شرطية و ((من)) زائدة؛ لأن الكلام غير موجب، ومعنى ((وإن كان مائة شرط)) هو أنه لو شرطه مائة مرة وهو من الشرط الذي يتبع به الكلام السابق بلا جزاء مبالغة وتقريرا. وقوله: ((فقضاء الله)) الفاء فيه جواب شرط محذوف، ولفظ القضاء يؤذن بأن المراد من ((كتاب الله)) في قوله: ((ليست في كتاب الله)) قضاؤه وحكمه. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((عن بيع الولاء)) ((مح)): بيع الولاء وهبته لا يصحان، وأنه لا ينتقل الولاء عن مستحقه؛ فإن لحمه كلحمة النسب، وعليه جمهور العلماء من السلف والخلف، وأجاز بعض السلف نقله، ولعلهم لم يبلغهم الحديث.

الفصل الثاني 2879 - عن مخلد بن خفاف، قال: ابتعت غلاما فاستغللته، ثم ظهرت منه علي عيب، فخاصمت فيه إلي عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته. فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا: أن الخراج بالضمان. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. رواه في ((شرح السنة)). [2879] 2880 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اختلف البيعان؛ فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار)). رواه الترمذي. وفي رواية ابن ماجه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن مخلد: قوله: ((فاستغللته)) ((نه)): الغلة الدخل الذي يحصل من الزرع والثمر واللبن والإجارة والنتاج ونحو ذلك، والمراد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدا كان أو أمة أو ملكا، وذلك أن يشتريه فيستغله زمانا، ثم يعثر منه علي عيب قديم، لم يطلعه البائع عليه أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو تلف في يده لكان من ضمانه ولم يكن له علي البائع شيء. والباء في ((بالضمان)) متعلقة بمحذوف، تقديره الخراج مستحق بالضمان أي بسببه. وقيل: الباء للمقابلة، والمضاف محذوف، أي منافع المبيع بعد القبض تبقى للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بتلف المبيع، ومنه قولهم: من عليه غرمه فله غنمه. ((حس)): قال الشافعي: فيما يحدث في يد المشتري من نتاج الدابة وولد الأمة ولبن الماشية وصوفها وثمرة الشجرة، أن الكل يبقى للمشتري، وله رد الأصل بالعيب. وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي أن حدوث الولد والثمرة في يدي المشتري يمنع رد الأصل بالعيب، بل يرجع [بالأرش]. وقال مالك: يرد الولد مع الأصل ولا يرد الصوف، ولو اشترى جارية فوطئت في يد المشتري بالشبهة أو وطئها، ثم وجد بها عيباً، فإن كانت ثيبا ردها والمهر للمشتري، ولا شيء عليه إن كان هو الواطئ، وإن كانت بكرا فافتضت فلا رد له؛ لأن زوال البكارة نقص حدث في يده، بل يسترد من الثمن بقدر ما نقص العيب من قيمتها. وهو قول مالك والشافعي. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((إذا اختلف البيعان)) ((مظ)): يعني إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن أو في شرط الخيار أو الأجل أو غيرها من الشروط، فمذهب

والدارمي قال: ((البيعان إذا اختلفا والمبيع قائم بعينه، وليس بينهما بينة؛ فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع)). [2880] 2881 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلما أقاله الله عثرته يوم القيامة)). رواه أبو داود، وابن ماجه. وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)) عن شريح الشامي مرسلاً. [2881] الفصل الثالث 2882 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل ممن كان ـــــــــــــــــــــــــــــ الشافعي أن البائع يحلف، أي ما بعته بكذا بل بكذا، ثم المشتري يتخير بين أن يرضي بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف إني ما اشتريت إلا بكذا، فإذا تحالفا فإن رضي أحدهما بقول الآخر فهو المراد، وإن لم يرضيا فسخ القاضي بينهما العقد سواء كان المبيع باقيا أو لم يكن. وعند مالك وأبي حنيفة لا يتحالفان عند هلاك المبيع، بل القول قول المشتري مع يمينه، وقوله في الرواية الأخرى: ((والمبيع قائم)) أي باق، فالقول قول البائع بحلف، فإذا حلف فالمشتري مخير كما سبق، وإن لم يكن باقيا عند النزاع، فالقول قول المشتري مع يمينه، ولم يحلف البائع، وإلي هذا ذهب أبو حنيفة ومالك. قوله: ((وفي شرح السنة- إلي قوله- مرسلا)) فيه أن المصنف ترك الأولي حيث ذكر المرسل ولم يذكر المتصل. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من أقال مسلما)) ((حس)): الإقالة في البيع والسلم جائزة قبل القبض وبعده، وهي فسخ للبيع. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اشترى رجل)) ((مح)): العقار هو الأرض وما يتصل بها، وحقيقته الأصل، وعقر الدار- بالضم والفتح- أصله، وفي الحديث دليل علي فضل الإصلاح بين المتبايعين، وأن القاضي يستحب له الإصلاح بينهما كما يستحب لغيره. أقول: قوله: ((الذي اشترى العقار)) في الموضعين مظهر في موضع المضمر.

(7) باب السلم والرهن

قبلكم عقارا من رجل، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك عني إنما اشتريت العقار ولم ابتع منك الذهب، فقال بائع الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلي رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية. فقال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا عليهما منه، وتصدقوا)) متفق عليه. (7) باب السلم والرهن الفصل الأول 2883 - عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلي أجل معلوم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب السلم والرهن ((نه)): السلم هو أن تعطي ذهبا أو فضة في سلعة معلومة إلي أمد معلوم، فكأنك قد أسلمت الثمن إلي صاحب السلعة وسلمته إليه. ((غب)): الرهن ما يوضع وثيقة للدين، والرهان مثله، لكن يختص بما يوضع في الخطار، وأصلهما مصدر يقال: رهنت الرهن وأرهنته رهانا فهو رهين ومرهون، ويقال في جمع الرهن: رهان ورهن ورهون، وارتهنت أخذت الرهن. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((السنة)) منصوب إما علي نزع الخافض أي إلي السنة، وإما علي نصب المصدر إي إسلاف السنة. ((مح)): معنى الحديث أنه إن أسلم في مكيل فليكن كيله معلوما، وإن كان في موزون فليكن وزنه معلوما، وإن كان ثوبا فليكن ذرعه معلوما، وإن كان مؤجلا فليكن أجله معلوما. ولا يلزم من هذا اشتراط كون السلم مؤجلا بل يجوز حالا؛ لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجواز الحال أولي؛ لأنه أبعد من الغرر، وليس ذكر الأجل في الحديث لاشتراط الأجل، بل معناه إن كان مؤجلا فليكن معلوما، كما أن الكيل ليس بشرط بل يجوز السلم في غيره كما سبق، وإنما ذكر الكيل تمثيلا، بمعنى أنه إن أسلم في مكيل فليكن كيلا معلوما، واختلفوا في جواز السلم حالا، فجوزه الشافعي وآخرون، ومنعه مالك وأبو حنيفة وآخرون، وأجمعوا علي اشتراط وصفه بما يضبط به.

2884 - وعن عائشة، قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي إلي أجل، ورهنه درعا له من حديد. متفق عليه. 2885 - وعنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير. رواه البخاري. 2886 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الذر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلي الذي يركب ويشرب النفقة)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ورهنه درعا)) ((حس)): فيه دليل علي جواز الشرى بالنسيئة، وعلي جواز الرهن بالديون، وعلي جواز الرهن في الحضر، وإن كان الكتاب قيده بالسفر، وعلي جواز المعاملة مع أهل الذمة، وإن كان مالهم لا يخلو من الربا وثمن الخمر. ((مح)): فيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا وملازمة الفقر، وفيه جواز رهن آلة الحرب عند أهل الذمة، والحكم بثبوت أملاكهم علي ما في أيديهم، وأن قوله تعالي: {وإن كنتم علي سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} مبين بهذا الحديث، وأن دليل خطابه متروك به. وأما معاملته مع اليهودي ورهنه عنده دون الصحابة، فقيل: فعله بيانا لجواز ذلك، وقيل: لأنه لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه إلا عنده، وقيل: لأن الصحابة لا يأخذون رهنه، ولا يتقاضونه الثمن، فعدل إلي اليهودي لئلا يضيق علي أصحابه، وقد أجمع المسلمون علي جواز معاملة أهل الذمة، والكفار إذا لم يتحقق تحريم ما معهم، لكن لا يجوز للمسلم بيع السلاح وما يستعينون به في إقامة دينهم، ولا بيع المصحف، ولا عبد مسلم لكافر مطلقا. الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الظهر يركب)) ((قض)): ((الظهر)) يريد به ظهر الدابة، وقيل: ((الظهر)) الإبل القوي، يستوي فيه الواحد والجمع، ولعله سمى بذلك؛ لأنه يقصد لركوب الظهر. وظاهر الحديث أن المرهون لا يهمل ومنافعه لا تعطل، بل ينبغي أن ينتفع به وينفق عليه، وليس فيه دلالة علي أن من له غنمه عليه غرمه، واختلفوا في ذلك، فذهب الأكثرون إلي أن منفعة الرهن للراهن مطلقا ونفقته عليه؛ ولأنه روى ابن المسيب عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه)) وقال أحمد وإسحاق: للمرتهن أن ينتفع من المرهون بحلب وركوب دون غيرهما، يقدر بقدر النفقة، واحتجا بهذا الحديث.

الفصل الثاني 2887 - عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه)). رواه الشافعي مرسلاً. [2887] ـــــــــــــــــــــــــــــ ووجه التمسك به أن يقال: دل الحديث بمنطوقه علي إباحة الانتفاع في مقابلة الإنفاق، وانتفاع الراهن ليس كذلك؛ لأن إباحته مستفادة له من تملك الرقبة لا من الإنفاق، وبمفهومه علي أن جواز الانتفاع مقصور علي هذين النوعين من المنفعة، وجواز انتفاع الراهن غير مقصور عليهما، فإذن المراد به أن للمرتهن أن ينتفع بالركوب والحلب من المرهون بالنفقة، وأنه إذا فعل ذلك لزمه النفقة. وأجيب عن ذلك بأنه منسوخ بآية الربا، فإنه يؤدي إلي انتفاع المرتهن بمنافع المرهون بدينه، وكل قرض جر نفعا فهو ربا، والأولي أن يجاب بأن الباء في ((بنفقته)) ليست للبدلية بل للمعية، والمعنى: أن الظهر يركب وينفق عليه، فلا يمنع الرهن الراهن من الانتفاع بالمرهون، ولا يسقط عنه الإنفاق كما صرح به في الحديث الآخر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يغلق)) بفتح الياء واللام، والرهن الأول مصدر والثاني مفعول، في الغريبين: أي لا يستحقه مرتهنه إذا لم يؤد الراهن ما رهنه به. ((فا)): يقال: غلق الرهن غلوقا، إذا بقى في يد المرتهن لا يقدر علي تخليصه. قال زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا وكان من أفاعيل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المؤقت ملك المرتهن الرهن. وعن إبراهيم النخعي أنه سئل عن غلق الرهن، فقال: يقول: إن لم أفتكه إلي غد فهو لك. وزاد في النهاية قال الأزهري: يقال: غلق الباب وانغلق واستغلق، إذا عسر فتحه، والغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه، وقد أغلقت الرهن فغلق، أي أوجبته فوجب للمرتهن.

2888 - وروي مثله أو مثل معناه، لا يخالف عنه عن أبي هريرة متصلا. 2889 - وعن ابن عمر، ن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة)). رواه أبو داود، والنسائي. [2889] 2890 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: ((إنكم قد وليتم أمرين، هلكت فيهما الأمم السابقة قبلكم)). رواه الترمذي. [2890] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((له غنمه)) قال الشافعي: غنمه زيادته وغرمه هلاكه ونقصه. ((حس)): فيه دليل علي أن الزوائد التي تحصل منه تكون للراهن، وعلي أنه إذا هلك في يد المرتهن يكون من ضمان الراهن، ولا يسقط بهلاكه شيء من حق المرتهن، وإذا دل الحديث علي أن منافع الرهن للراهن، ففيه دليل علي أن دوام القبض ليس بشرط في الرهن؛ لأن الراهن لا يركبها إلا وهي خارجة عن قبض المرتهن. قال في المغرب: قال أبو عبيدة: معنى الحديث أنه يرجع الرهن إلي ربه فيكون غنمه له، ويرجع رب الحق عليه بحقه فيكون غرمه عليه. قوله: ((من صاحبه)) ((حس)): قيل: أراد لصاحبه، وقيل: من ضمان صاحبه. أقول: ويمكن أن يقال: إنه ضمن غلق معنى منع، أي لا يمنع الرهن المرهون من تصرف مالكه، ثم جيء بما بعده بيانا لذلك، وقدم الخبر علي المبتدأ تخصيصا، يعني لا يمنع من تصرفه فله نفعه لا لغيره، وعليه غرمه لا علي غيره وفيه أن ليس للمرتهن من الرهن إلا توثقة دينه، وإن نقص وهلك فله الرجوع إلي الراهن. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مكيال أهل المدينة)) ((قض)): أي المكيال المعتبر مكيال أهل المدينة؛ لأنهم أصحاب زراعات، فهم أعلم بأحوال المكاييل، والميزان المعتبر ميزان أهل مكة؛ لأنهم أهل تجارات فعهدهم للموازين وعلمهم بالأوزان أكثر ((حس)): الحديث فيما يتعلق بالكيل والوزن من حقوق الله تعالي كالزكوات والكفارات ونحوها، حتى لا تجب الزكاة في الدراهم، حتى تبلغ مائتي درهم بوزن مكة، والصاع في صدقة الفطر صاع أهل المدينة، كل صاع خمسة أرطال وثلث. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قد وليتم أمرين)) أي جعلتم حكاما

(8) باب الاحتكار

الفصل الثالث 2891 - عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلف في شيء فلا يصرفه إلي غيره قبل أن يقبضه)). رواه أبو داود وابن ماجه. [2891] (8) باب الاحتكار الفصل الأول 2892 - عن معمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر، فهو خاطئ)). رواه مسلم. وسنذكر حديث عمر رضي الله عنه ((كانت أموال بني النضير)) في باب الفيء إن شاء الله تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أمرين، وإنما قال: ((أمرين)) أبهمه ونكره؛ ليدل علي التفخيم، ومن ثمة قيل في حقهم: {ويل للمطففين} والمراد ((بمن قبلكم)) قوم شعيب. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((إلي غيره)) يجوز أن يرجع الضمير إلي ((من)) في قوله: ((من أسلف)) يعني لا يبعه من غيره قبل القبض، أو إلي ((شيء)) أي لا تبدل المبيع قبل القبض بشيء آخر. باب الاحتكار الفصل الأول الحديث الأول عن معمر: قوله: ((من احتكر)) ((مح)): الاحتكار المحرم هو في الأقوات خاصة، بأن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو، فأما إذا جاء من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، وباعه في وقت الغلاء، فليس باحتكار ولا تحريم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال ((والخاطئ)) بالهمز هو العاصي الآثم.

الفصل الثاني 2893 - عن عمر [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)). رواه ابن ماجه، والدارمي. [2893] 2894 - وعن أنس، قال: غلا السعر علي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! سعر لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبنني بمظلة بدم ولا مال)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [2894] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((الجالب مرزوق)) قوبل الملعون بالمرزوق؛ والمقابل الحقيقي مرحوم أو محروم ليعم؛ فالتقدير التاجر مرحوم ومرزوق لتوسعته علي الناس، والمحتكر محروم ملعون لتضييقه عليهم. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((غلا السعر)) ((قض)): السعر القيمة التي يشيع البيع بها في الأسواق، قيل: سميت بذلك؛ لأنها ترتفع والتركيب لما له ارتفاع، والتسعير تقديرها. وقوله: ((إني لأرجو)) إلي آخره، إشارة إلي أن المانع له من التسعير مخافة أن يظلم في أموالهم؛ فإن التسعير تصرف فيها بغير إذن أهلها فيكون ظلما. ومن مفاسد التسعير تحريك الرغبات، والحمل علي الامتناع من البيع، وكثيرا ما يؤدي إلي القحط. أقول: قوله: ((إن الله هو المسعر)) جواب علي سبيل التعليل للامتناع عن التسعير، جيء بـ ((إن)) وضمير الفصل بين اسم ((إن)) والخبر معرفا باللام؛ ليدل علي التوكيد والتخصيص، ثم رتب هذا الحكم علي الأخبار الثلاثة المتوالية ترتب الحكم علي الوصف المناسب. وكونه قابضا علة لغلاء السعر، وكونه باسطا لرخصه، وكونه رازقا يقتر الرزق علي العباد ويوسعه، فمن حاول التسعير فقد عارض الله ونازعه فيما يريده، ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله تعالي في الغلاء والرخص، وإلي المعنى الأخير أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإني لأرجو)) إلي آخره. قوله: ((بمظلمة)) الجوهري: الظلامة والظليمة والمظلمة ما يطلبه عند المظالم، وهو اسم ما أخذ منك. وفي المغرب: المظلمة الظلم، وقول محمد: في هذا مظلمة للمسلمين اسم

الفصل الثالث 2895 - عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من احتكر علي المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس)). رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان))، ورزين في ((كتابه)). [2895] 2896 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)). رواه رزين. [2896] ـــــــــــــــــــــــــــــ للمأخوذ، في قولهم: عند فلان مظلمتي وظلامتي أي حقي الذي أخذ مني ظلما- انتهي كلامه. عطف قوله: ((ولا مال)) وجيء بـ ((لا)) النافية للتوكيد من غير تكرير؛ لأن المعطوف عليه في سياق النفي، المراد بالمال هذا التسعير؛ لأنه غير مأخوذ من المظلوم، وهو كأرش جنابة، وإنما أتى بمظلمة توطئة له. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((طعامهم)) أضاف إليهم، وإن كان ملكا للمحتكر؛ إيذانا بأنه قوتهم وما به معاشهم، وبقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} أضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، وقوله: ((ضربه الله)) أي ألصقه الله وألزمه بعذاب الجذام وهو تشقق الجلد وتقطع اللحم وتساقطه، والفعل منه جذم، وفيه أن من أراد أدنى مضرة للمسلمين ابتلاه الله في ماله ونفسه، ومن أراد نفعهم أصابه الله في ماله ونفسه بركة وخيراً. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أربعين يوما)) لم يرد بـ ((أربعين)) التوقيت والتحديد، بل بأن يجعل الاحتكار حرفته، يريد به نفع نفسه وضر غيره، وهو المراد بقوله: ((يريد به الغلاء)) لأن أقل ما يتمرن المرء في حرفة هذه المدة. وقوله: ((فقد برئ من الله)) أي نقض ميثاق الله وعهده، وإنما قدم براءته علي براءة الله تعالي؛ لأن إبقاء عهده مقدم علي إبقاء الله تعالي عهده، كقوله تعالي: {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وهذا تشديد عظيم في الاحتكار.

(9) باب الإفلاس والإنظار

2897 - وعن معاذ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس العبد المحتكر: إن أرخص الله الأسعار حزن؛ وإن أغلاها فرح)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان))، ورزين في ((كتابه)). [2897] 2898 - وعن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتكر طعاماً أربعين يوما ثم تصدق به، لم يكن له كفارة)). رواه رزين. [2898] (9) باب الإفلاس والإنظار الفصل الأول 2899 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل أفلس، فأدرك رجل ماله بعينه؛ فهو أحق به من غيره)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((ثم تصدق به)) الضمير راجع إلي الطعام، والطعام المحتكر [به] لا يتصدق، فوجب أن تقدر الإرادة فيفيد مبالغة، وأن من نوى الاحتكار هذا شأنه، فكيف بمن فعله؟ وقوله: ((لم يكن له كفارة)) اسم ((لم يكن)) ضمير التصدق، و ((كفارة)) خبر له، و ((له)) ظرف لغوه. باب الإفلاس والإنظار ((نه)): أفلس الرجل إذا لم يبق له مال، ومعناه صارت دراهمه فلوسا، وقيل: صار إلي حال يقال: ليس معه فلس، والإنظار التأخير والإمهال. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فهو أحق به من غيره)) ((حس)): العمل علي هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إذا أفلس المشتري بالثمن ووجد البائع عين ماله، فله أن يفسخ البيع ويأخذ عين ماله، وإن كان قد أخذ بعض الثمن وأفلس بالباقي، أخذ من عين ماله بقدر ما بقى من الثمن، قضى به عثمان، وروي عن علي رضي الله عنهما، ولا نعلم لهما مخالفاً من الصحابة، وبه قال مالك والشافعي.

2900 - وعن أبي سعيد، قال: أصيب رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا عليه))، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: ((خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)). رواه مسلم. 2901 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان رجل يدائن الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا تجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه)). متفق عليه. 2902 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أصيب رجل)) ((مظ)): أي أصابت جائحة ثمرة اشتراها ولم يقبض ثمن تلك الثمرة- صاحبها- فطالبه وليس له مال يؤديه. وقوله: ((وليس لكم إلا ذلك)) أي ليس لكم زجره وحبسه؛ لأنه ظهر إفلاسه، وإذا ثبت إفلاس الرجل لا يجوز حبسه بالدين، بل يخلي ويمهل إلي أن يحصل له مال فيأخذ الغرماء، وليس معناه أنه ليس لكم إلا ما وجدتم، وبطل ما بقي لكم من ديونكم، قال الله تعالي: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلي ميسرة}. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لفتاه)) ((مح)): أي غلامه، كما صرح به في الرواية الأخرى. والتجاوز والتجوز، المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير. وفي الحديث فضل إنظار المعسر، والوضع عنه إما كل الدين أو بعضه، وفضل المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء سواء عن الموسر والمعسر، ولا يحتقر شيء من أفعال الخير، فلعله سبب للسعادة، وفيه جواز توكيل العبيد والإذن لهم في التصرف، وهذا قول من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا- انتهي كلامه-. و ((لعل)) هاهنا بمعنى عسى؛ ولذلك أتى بـ ((أن)) أي عسى الله أن يتجاوز عنا؛ لأنه لا يقال: لعل الله أن يتجاوز بل يتجاوز. فإن قلت: كيف قال: ((أن يتجاوز عنا)) ثم قال: ((فتجاوز عنه))؟ قلت: أراد القائل نفسه، ولكن جمع الضمير إرادة أن يتجاوز عمن فعل مثل هذا الفعل؛ ليدخل فيه دخولا أوليا، وكذلك استحب للداعي أن يعم في الدعاء ولا يختص نفسه لعل الله تعالي ببركتهم يستجيب دعاءه. الحديث الرابع عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((فلينفس)) ((نه)): أي فليؤخر مطالبته.

2903 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنظر معسرا أو وضع عنه؛ أنجاه الله من كرب يوم القيامة)). رواه مسلم. 2904 - وعن أبي اليسر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنظر معسرا أو وضع عنه؛ أظله الله في ظله)). رواه مسلم. 2905 - وعن أبي رافع، قال: استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا، فجاءته إبل من الصدقة. قال: أبو رافع فأمرني أن أقضي الرجل بكره. فقلت: لا أجد إلا جملا خيارا رباعيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأزهري: نفس ينفس تنفيسا ونفسا، كما يقال: فرج يفرج تفريجا وفرجا، وهو مستعار من نفس الهواء الذي يرده التنفس إلي الجوف، فيبرد من حرارته ويعدلها، أو من نفس الريح الذي ينسمه فيستروح إليه، أو من نفس الروضة وهو طيب روائحها فينفرج به عنه. الحديث الخامس والسادس عن أبي اليسر: قوله: ((أظله الله في ظله)) أي وقاه الله من حر يوم القيامة علي سبيل الكناية، أو وقفه الله في ظل عرشه علي الحقيقة. الحديث السابع عن أبي رافع: قوله: ((استسلف)) استقرض. ((نه)): ((البكر)) - بالفتح- الفتي من الإبل بمنزلة الغلام من الإنسان، والرباعي من الإبل هو الذي أتت عليه ست سنين، ودخل في السنة السابعة، فإذا طلعت رباعيته قيل للذكر: رباع وللأنثى: رباعية- خفيفة الياء-. قوله: ((إلا جملا خيارا)) ((حس)): يقال: جمل خيار وناقة خيارة أي مختارة، وفيه من الفقه جواز استسلاف الإمام للفقراء، إذا رأي بهم خلة وحاجة، ثم يؤديه من مال الصدقة إن كان قد أوصل إلي المساكين. وفيه دليل علي جواز استقراض الحيوان وثبوته في الذمة، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وفي الحديث دليل علي أن من استقرض شيئا يرد مثل ما استقرض، سواء كان ذلك من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال؛ لأن الحيوان من ذوات القيم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد المثل. وفيه دليل علي أن من استقرض شيئا فرد أحسن أو أكثر منه من غير شرط، كان محسنا ويحل ذلك للمقرض. ((مح)): فيه جواز إقراض الحيوان، وهو مذهب مالك، والشافعي، وجماهير العلماء من الخلف والسلف، إلا الجارية لمن يملك وطأها، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز، والأحاديث الصحيحة ترد عليه، ولا تقبل دعواهم النسخ بغير دليل.

2906 - وعن أبي هريرة، أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهم أصحابه، فقال: ((دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالا، واشتروا له بعيرا، فأعطوه إياه)) قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه. قال: ((اشتروه فأعطوه إياه؛ فإن خيركم أحسنكم قضاء)). متفق عليه. 2907 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم علي مليء فليتبع)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث أن رد الأجود في القرض، أو الدين من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطا في عقد القرض، كذا في شرح مسلم وزاد في الروضة: لا فرق في الرد بين الربوي وغيره، ولا بين الرجل المشهور برد الزيادة أو غيره علي الصحيح، وقال في التتمة: لو قصد إقراض المشهور بالزيادة للزيادة، ففي كراهته وجهان، وقال في الشرح: يجوز للمقرض أخذ الزيادة، سواء زاد في الصفة أو العدد. ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهي عنها، وحجة أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن خير الناس أحسنهم قضاء)). وفي الحديث إشكال، وهو أن يقال: كيف قضى من إبل الصدقة أجود من الذي يستحقه الغريم مع أن الناظر في الصدقات لا يجوز تبرعه منها؟ والجواب عنه أنه صلى الله عليه وسلم اقترض لنفسه، ثم اشترى في القضاء من إبل الصدقة بعيرا وأداه، ويدل عليه حديث أبي هريرة: ((اشتروا له بعيرا فأعطوه إياه)). وقيل: إن المقترض كان بعض المحتاجين، اقترض لنفسه فأعطاه من الصدقة حين جاءت، وأمره بالقضاء. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أغلظ له)) قال في المغرب: أي عنف به. قوله: ((فإن لصاحب الحق مقالا)) ((مح)) فيه أنه يحتمل من صاحب الدين الكلام في المطالبة، والإغلاظ المذكور محمول علي تشدد في المطالبة، ويجوز ذلك من غير كلام فيه قدح، أو غيره مما يقتضي الكفر، ويحتمل أن القائل كان كافرا من اليهود أو غيرهم. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قول: ((مطل الغنى ظلم)) ((مح)): المطل منع قضاء ما استحق أداؤه، وهو حرام من المتمكن، ولو كان غنيا لكنه ليس متمكنا جاز له التأخير إلي الإمكان، وقد اختلفوا في أن الماطل المتمكن هل يفسق وترد شهادته بمرة واحدة أم لا؟، حتى يتكرر ذلك منه ويصير عادته، ومقتضى مذهبنا اشتراط التكرر و ((أتبع)) و ((فليتبع)) بإسكان التاء فيهما هذا هو المشهور. ونقل عن بعض المحدثين التشديد في الثانية، ومعناه إذا أحيل بالدين له علي موسر

2908 - وعن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك قال: ((يا كعب)) قال: لبيك يا رسول الله! فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله؛ قال: ((قم فاقضه)). متفق عليه. 2909 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها. فقال: ((هل عليه دين؟)) قالوا: لا. فصلي عليها. ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: ((هل عليه دين؟)) قالوا: نعم. فقال: ((فهل ترك شيئا؟)) قالوا: ثلاثة دنإنير. فصلي عليها: ثم أتي بالثالثة، فقال: ((هل عليه دين؟)) قالوا: ثلاثة دنإنير. قال: ((هل ترك شيئا؟)) قالوا: لا. قال: ((صلوا علي صاحبكم)). قال أبو قتادة: صلي عليه يا رسول الله! وعلي دينه. فصلي عليه. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فليحتل، يقال: تبعت الرجل بحقي أتبعه تباعة إذا طالبته به، قال الله تعالي: {ثم لا تجدوا لكم به علينا تبيعا} ومذهب أصحابنا والجمهور أن هذا الأمر للندب، وقيل: للإباحة، وقيل: للوجوب. ((نه)): المليء بالهمزة الثقة الغني فهو مليء من الملأ والملاءة بالمد، وقد أولع الناس فيه بترك الهمزة وتشديد الياء. الحديث العاشر عن كعب: قوله: ((تقاضى)) ((مح)): تقاضى أي طالبه به وأراد قضاء دينه، وفيه جواز المطالبة بالدين في المسجد، والشفاعة إلي صاحب الحق، والإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم، وقبول الشفاعة إلي صاحب الحق، وجواز الاعتماد علي الإشارة وإقامتها مقام القول؛ لقوله: ((فأشار بيده أن ضع الشطر)) فـ ((أن)) في الحديث مفسرة؛ لأن في الإشارة معنى القول، و ((السجف)) - بكسر السين وفتحها وإسكان الجيم- لغتان، ((نه)): لعله صلى الله عليه وسلم امتنع عن الصلاة علي المديون الذي لم يدع وفاء، تحذيرا عن الدين وزجرا عن المماطلة والتقصير في الأداء؛ أو كراهة أن يقف دعاؤه ويعلق عن الإجابة، بسبب ما عليه من حقوق الناس ومظالمهم. ((حس)): في الحديث دليل علي جواز الضمان عن الميت، سواء ترك وفاء أو لم يترك، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح الضمان عن ميت لم يخلف

2910 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه. ومن أخذ يريد إتلافها؛ أتلفه الله عليه)). رواه البخاري. 2911 - وعن أبي قتادة، قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، يكفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)). فلما أدبر ناداه، فقال: ((نعم، إلا الدين؛ كذلك قال جبريل)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفاء. وبالاتفاق [لو ضمن حر عن معسر دينا]، ثم مات من عليه الدين، كان الضمان بحاله، فلما لم يناف موت المعسر دوام الضمان لا ينافي ابتداءه. أقول: والتمسك بالحديث أولي من هذا القياس. وفي قوله: ((فصلي عليها)) في الكرة الثانية- إيذان بأن الله تعالي ألهمه صلى الله عليه وسلم، بأن ما ترك الميت وهو ثلاثة دنإنير مما يفي بقرضه أو يزيد علي القرض. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يريد أداءها)) ((مظ)): يعني من استقرض احتياجا وهو يقصد أداءه ويجتهد فيه، أعانه الله علي أدائه، وإن مات ولم يتيسر له أداؤه، فالمرجو من الله الكريم أن يرضي خصمه. ومن استقرض من غير احتياج، ولم يقصد أداءه، لم يعنه ولم يوسع رزقه، بل يتلف ماله؛ لأنه قصد إتلاف إتلاف مال مسلم. الحديث الثالث عشر عن أبي قتادة: قوله: ((غير مدبر)) حال مؤكدة مقررة لما يرادفها، نحوه في الصفة قولك: أمس الدابر لا يعود. و ((إلا الدين)) مستثنى مما يقرره ((نعم)) وهو قوله: ((يكفر الله عني خطاياي)) أي نعم يكفر الله خطاياك إلا الدين، والدين ليس من جنس الخطايا، فكيف يستثنى منه؟ والجواب أنه منقطع، أي لكن الدين لا يكفر؛ لأنه من حقوق الآدميين، فإذا أدى أو أرضي الخصم خرج عن العهدة، ويحتمل أن يكون متصلا علي تقدير حذف المضاف أي خطيئة الدين، أو يجعل من باب قوله تعالي: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} فيذهب إلي أن أفراد جنس الخطيئة قسمان: متعارف وغير متعارف، فيخرج بالاستثناء أحد قسميه مبالغة في التحذير عن الدين، والزجر عن المماطلة والتقصير في الأداء. ((شف)): وفيه دليل علي أن حقوق الله تعالي علي المساهلة، وحقوق العباد علي المضايقة، وعلي أن جبريل عليه السلام يلقنه أشياء سوى القرآن.

2912 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)). رواه مسلم. 2913 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين، فيسأل: ((هل ترك لدينه قضاء؟)) فإن حدث أنه ترك وفاء صلي، وإلا قال للمسلمين: ((صلوا علي صاحبكم)). فلما فتح الله عليه الفتوح قام فقال: ((أنا أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا، فعلي قضاؤه، ومن ترك فهو لورثته)) متفق عليه. الفصل الثاني 2914 - عن أبي خلدة الزرقي، قال: جئنا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه)). رواه الشافعي، وابن ماجه. [2914] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر والخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا أولي بالمؤمنين من أنفسهم)) أي النبي صلى الله عليه وسلم أولي بالمؤمنين في كل شيء من أمور الدين والدنيا من أنفسهم؛ ولهذا أطلق ولم يقيد، فيجب، عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وكذلك شفقته صلى الله عليه وسلم عليهم أحق وأحرى من شفقتهم علي أنفسهم، فإذا حصلت له الغنيمة يكون هو أولي بقضاء دينهم لهم. فقوله: ((فمن توفي)) مسبب عما قبله، والمعنى من ترك دينا وليس له مال، فعلي قضاء دينه، ومن ترك مالا فلورثته بعد قضاء دينه. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي خلدة: قوله: ((هذا الذي قضى فيه)) ((شف)): لم يرد أنه قضى فيه بعينه، إنما أراد قضى فيمن هو في مثل حاله من الإفلاس. أقول: يمكن أن يكون المشار به الأمر والشأن، ويؤيده قوله: ((أيما رجل)) إلي آخره؛ لأنه بيان للأمر المبهم علي سبيل الاستئناف، ويعضده أيضا قوله: ((جئنا في صاحب لنا)) أي في شأن صاحب لنا، وليس قوله: ((بعينه)) ثإني مفعولي ((وجد)) أي علم، فيكون حالا أي وجده حاضرا بعينه.

2915 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)). رواه الشافعي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2915] 2916 - وعن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صاحب الدين مأسور بدينه، يشكو إلي ربه الوحدة يوم القيامة)). رواه في ((شرح السنة)). [2916] 2917 - وروي أن معاذا كان يدان، فأتى غرماؤه إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فباع النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله في دينه، حتى قام معاذ بغير شيء. مرسل. هذا لفظ ((المصابيح)). ولم أجده في الأصول إلا في ((المنتقى)). [2917] 2918 - وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله: ((معلقة بدينه)) أي لا يظفر بمقصوده من دخول الجنة أو في زمرة عباد الله الصالحين، ويؤيد المعنى الثاني الحديث الآتي ((يشكو إلي ربه الوحدة يوم القيامة)). الحديث الثالث عن البراء: قوله: ((مأسور)) ((تو)): المأسور من يشد بالإسار أي [القد]، وكانوا يشدونه به، فسمي كل [أخيذ] أسيرا وإن لم يشد بالقد، يقال أسرت الرجل أسرا وإسارا فهو أسير ومأسور. الحديث الرابع عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((وعن عبد الرحمن بن كعب)) حكاية لفظ ما في كتاب المنتقى لابن [التيمي]، أورده ليبين أن هذا الحديث وإن لم يكن في السنن التي طالعها، لكن هو موجود في المنتقى، فلو لم يكن في بعض الأصول لم يورده صاحب المنتقى في كتابه. قوله: ((يدان)) ((تو)): هو بتشديد الدال افتعل من دان فلان يدين دينا، إذا استقرض وصار عليه دين فهو دائن. قال الشاعر: ندين ويقضي الله عنا وقد نرى ... مصارع قوم لا يدينون ضيعا

النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء. رواه سعيد في سننه مرسلا. [2918] 2919 - وعن الشريد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له. وعقوبته: يحبس له. رواه أبو داود، والنسائي. [2919] 2920 - وعن أبي سعيد الخدري قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها فقال: ((هل علي صاحبكم دين؟)) قالوا: نعم. قال: ((هل ترك له من وفاء؟)) قالوا: لا. قال: ((صلوا علي صاحبكم)). قال علي بن أبي طالب: علي دينه يا رسول الله فتقدم فصلي عليه. وفي رواية معناه وقال: ((فك الله رهانك من النار كما فككت ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا الحديث مع ما فيه من الإرسال غير مستقيم المعنى؛ لم فيه من ذكر بيع النبي صلى الله عليه وسلم مال معاذ، من غير أن حبسه أو كلفه ذلك أو طالبه بالأداء فامتنع، وكان حقه أن يحبس بها حتى يبيع ماله فيها. وليس للحاكم أن يبيع شيئاً من ماله بغير إذنه، وأجاب القاضي عنه: أن الحديث وإن كان مرسلاً لا احتجاج به عندنا، لكنه ملزم به، لأنه يقبل المراسيل. وفيه دليل علي أن للقاضي أن يبيع مال المفلس بعد الحجر عليه بطلب الغرماء. قوله: ((فلو تركوا لأحد)) الفاء فيه مرتب علي محذوف، أي كلم النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه لأن يتركوا له فلم يتركوا، ولو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ؛ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب شفاعة لا طلب إيجاب، إذ لو كان طلب إيجاب لم يسعهم إلا الترك. الحديث الخامس عن الشريد: قوله ((ليُّ الواجد)) ((تو)): اللي المطل من قولك: لويت حقه إذا دفعته، و ((الواجد)) الغني من قولهم: وجد المال وجداً، - بفتح الواو وكسرها وضمها وسكون الجيم- وجدة أي استغنى. قوله: ((يغلظ له)) أي القول. ((تو)): أي يلام وينسب إلي الظلم، ويعير بأكل أموال الناس بالباطل. قوله: ((يحبس له)) الضمير المرفوع لـ ((الواجد)) والمجرور ((للي))، يعني عقوبة الواجد حبسه لمطله. الحديث السادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ليصلي عليها)) الضمير للجنازة إذا أريد بها الميت. ((نه)): هي – بالفتح والكسر- الميت بسريره، وقيل: بالكسر السرير، وبالفتح الميت، و ((هل ترك له من وفاء)) ((من)) زائدة؛ لأنها في سياق الاستفهام، أي هل ترك ما يوفي به دينه ..

رهان أخيك المسلم. ليس من عبد مسلم يقضي عن أخيه دينه إلا فك الله رهانه يوم القيامة)). رواه في شرح السنة)). [2920] 2921 - وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [2921] 2922 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهي الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء)). رواه أحمد، وأبو داود. [2922] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فك الله رهانك)) ((تو)): فك الرهن تخليصه، وفك الإنسان نفسه أن يسعى فيما يعتقها من عذاب الله، والرهان جمع رهن، يريد أن نفس المديون مرهونة بعد الموت بدينه، كما هي في الدنيا محبوسة، والإنسان مرهونة بعمله، قال الله تعالي: {كل نفس بما كسبت رهينة} أي مقيم في جزاء ما قدم من عمله، فلما سعى في تخليص أخيه المؤمن عما كان مأسوراً به من الدين، دعا له بتخليص الله نفسه عما تكون مرهونة به من الأعمال، ولعله ذكر الرهان بلفظ الجمع، تنبيهاً علي أن كل جزء من الإنسان رهين بما كسب، أو لأنه اجترح الآثام شيئاً بعد شيء، فرهن بها نفسه رهناً بعد رهن. الحديث السابع عن ثوبان: قوله ((والغلول)) ((تو)): هي الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة، وسميت غلولاً؛ لأن الأيدي فيها مغلولة، أي ممنوعة مجعول فيها غل، ضم الدين مع أقبح الجنايات وأشنع الأخلاق؛ دلالة علي أنه منهما، وهو دين لزمه باختياره ولم ينو أداءه. والله أعلم. الحديث الثامن والتاسع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((أن يلقاه)) خبر ((إن)) و ((أن يموت)) بدل منه؛ لأنك إذا قلت: إن أعظم الذنوب عند الله موت الرجل وعليه دين استقام؛ ولأن لقاء العبد ربه إنما هو بعد الموت، و ((رجل)) مظهر أقيم مقام ضمير العبد، وفائدة ذكر العبد أولاً استبعاد ملاقاته مالكه وربه بهذا الشين، ثم إعادته بلفظ ((رجل))، وتنككيره تحقيراً لشأنه وتوهيناً لأمره. فإن قلت: قد سبق أن حقوق الله مبناها علي المساهلة، وليس كذلك

2923 - وعن عمرو بن عوف المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً، والمسلمون علي شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وأبو داود. وانتهت روايته عند قوله: ((شروطهم)). [2923] الفصل الثالث 2924 - عن سويد بن قيس، قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزاً من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا بسراويل، فبعناه، وثم رجل يزن بالأجر، فقال له رسول الله: ((زن وأرجح)). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [2924] ـــــــــــــــــــــــــــــ حقوق الآدميين في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) وهاهنا جعله دون الكبائر، فما وجه التوفيق؟ قلت: قد وجهناه أنه علي سبيل المبالغة، تحذيراً وتوقياً عن الدين، وهذا مجرى علي ظاهره. ((مظ)): فعل الكبائر عصيان الله تعالي، وأخذ الدين ليس بعصيان، بل الاقتراض والتزام الديون جائز، وإنما شدد صلى الله عليه وسلم علي من مات وعليه دين، ولم يترك ما يقضي دينه؛ كيلا تضيع حقوق الناس- انتهي كلامه. يريد أن نفس الدين ليس بمنهي عنه، بل هو مندوب إليه، كما ورد في بعض الأحاديث، وإنما هو سبب عارض من تضييع حقوق الناس، بخلاف الكبائر فإنها منهية لذاتها. الفصل الثالث الحديث الأول عن سويد: قوله: ((بزا)) الجوهري: البز من الثياب أمتعة البزاز. وقوله: ((يمشي)) حال أي جاءنا ماشياً، وفيه بيان تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث جاء إليهم ماشياً لا راكباً، وساومهم في مثل السراويل، وبيان خلقه وكرمه، حيث زاد علي القيمة، وفيه جواز أجرة الوزان علي وزنه.

2925 - وعن جابر، قال: كان لي علي النبي صلى الله عليه وسلم دين، فقضإني، وزادني. رواه أبو داود. [2925] 2926 - وعن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفا، فجاء مال، فدفعه إلي، وقال: ((بارك الله تعالي في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء)). رواه النسائي. [2926] 2927 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان له علي رجل حق، فمن أخره كان له بكل يوم صدقة)). رواه أحمد. [2927] 2928 - وعن سعد بن الأطول قال: مات أخي وترك ثلاثمائة دينار، وترك ولداً صغاراً، فأردت أن أنفق عليهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخلك محبوس بدينه، فاقض عنه)). قال: فذهبت فقضيت عنه، ولم تبق إلا امرأة تدعي دينارين، وليست لها بينة. قال: ((أعطها فإنها صدقة)). رواه أحمد. [2928] 2929 - وعن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: كنا جلوساً بفناء المسجد حيث يوضع الجنائز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهرينا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن عبد الله: قوله: ((إنما جزاء السلف)) فإن قلت: هذا يوهم أن الزيادة علي الدين غير جائزة؛ لأن ((إنما)) تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما سواه قلت: هو علي سبيل الوجوب؛ لأن شكر المنعم وأداء حقه واجبان، والزيادة فضل. الحديث الرابع والخامس عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((ولداً صغاراً)): الولد قد يكون واحداً وجمعاً، وكذلك الولد بالضم. قوله: ((أعطها)) هذا إما أن يكون معلوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وحي، فأمره بالإعطاء؛ لأنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه، وأن يكون بوحي فهو من خواصه. وقوله: ((ولم تبق)) عطف من حيث المعنى علي قوله: ((قضيت)) أي قضيت ديون من كانت له بينة، ولم أقض لهذه المرأة، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل ((قضيت)).

(10) باب الشركة والوكالة

قبل السماء، فنظر ثم طأطأ بصره، ووضع يده علي جبهته، قال: ((سبحان الله! سبحان الله! ما نزل من التشديد؟)) قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نر إلا خيراً حتى أصبحنا. قال محمد: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما التشديد الذي نزل؟ قال: ((في الدين؛ والذي نفس محمد بيده، لو أن رجلاً قتل في سبيل الله، ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله، ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله، ثم عاش وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى دينه)). رواه أحمد، وفي ((شرح السنة)) نحوه. [2929] (10) باب الشركة والوكالة الفصل الأول 2930 - عن زهرة بن معبد: أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن محمد: قوله: ((فلم نر إلا خيراً)) دل هذا علي أن سكوتهم ذلك لم يكن إلا عن تيقنهم أن النازل هو العذاب. وقوله: ((حتى أصبحنا)) يحتمل أن يكون غاية ((سكتنا))، وأن يكون غاية ((لم نر)). قوله: ((ما التشديد؟)) تقرير السؤال ما التشديد النازل أهو عذاب؟ وقد انتظرنا ولم نر شيئاً، أم هو وحي ففيم نزل؟ فأجاب: ((في الدين)) أي: في شأن الدين، ولعمري، لم نجد نصاً أشد وأغلظ من هذا في باب الدين. قوله: ((حتى يقضي دينه)) يجوز أن يكون علي بناء المفعول وعلي بناء الفاعل؛ وحينئذ يحتمل أن يراد يقضي ورثته، فحذف المضاف وأسند الفعل إلي المضاف إليه، وأن المراد يقضي المديون يوم الحساب دينه. باب الشراكة والوكالة ((حس)): الشركة علي وجوه: شركة في العين والمنفعة جميعاً، بأن ورث جماعة مالاً أو ملكوه بشراء، أو اتهاب أو وصية، أو خلطوا مالاً لا يتميز، وشركة في الأعيان دون المنافع، بأن أوصى لرجل منفعة داره والعين للورثة، والمنفعة للموصى له، وعكسه بأن استأجر جماعة داراً أو وقف [شيئاً] علي جماعة، فالمنفعة لهم دون العين. وشركة في الحقوق في الأبدان، كحد القذف والقصاص يرثه جماعة، وشركة في حقوق الأموال كالشفعة تثبت للجماعة. وأما الشركة بحسب الاختلاط، فإذا أذن كل واحد لصاحبه في التصرف، فما حصل من الربح يكون بينهما علي قدر المالين، فسمى شركة العنان. الفصل الأول الحديث الأول عن زهرة: قوله: ((أصاب الراحلة)) ((نه)): الراحلة من الإبل البعير القوي علي

السوق، فيشتري الطعام، فيلقاه ابن عمر وابن الزبير، فيقولان له: أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي، فيبعث بها إلي المنزل، وكان عبد الله بن هشام ذهبت به أمه إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسه ودعا له بالبركة. رواه البخاري. 2931 - وعن أبي هريرة، قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: ((لا، تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة)). قالوا: سمعنا وأطعنا. رواه البخاري. 2932 - وعن عروة بن أبي الجعد البارقي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه. أقول: وهذا يحتمل أن يراد به المحمول من الطعام يصيبه ربحاً، كما يقال للبعير: الخفض بالحاء المهملة والضاد المعجمة، وهو أثاث البيت؛ لأنه حامله، وأن يراد به الحامل، والأول أولي؛ لأن سياق الكلام وارد في الطعام، وقد ذهب المظهر إلي المجموع في قوله، يعني ربما يجد دابة مع متاع علي ظهرها فيشتريها من الربح ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اقسم بيننا)) ((قض)): لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون المدينة، بوأهم الأنصار في دورهم وشركوهم في ضياعهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم النخيل بينهم وبين إخوانهم يعني المهاجرين، فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك استبقاء عليهم رقبة نخيلهم التي عليها قوام أمرهم، وأخرج الكلام علي وجه يخيل لهم أنه يريد به التخفيف عن نفسه وأصحابه، لا الشفقة والإرفاق بهم تلطفاً وكرماً وحسن مخالقة، واختار التشريك في الثمار؛ لأنه أيسر وأرفق بالقبيلين. قوله: ((تكفوننا)) خبر في معنى الأمر، و ((المؤونة)) فعولة، ويدل عليه قوله: مأنتهم أمأنهم، مأناً إذا احتملت مؤونتهم وقيل: مفعلة بالضم من الأين وهو التعب والشدة. وقيل: من الأون وهو الحرج؛ لأنه ثقل علي الإنسان؛ والمعنى: اكفونا تعب القيام بتأبير النخل وسقيها، وما يتوقف عليه صلاحها. أقول: تكفوننا استئناف في غاية الجزالة؛ حيث رد ما التمسوه بقوله ((لا)) ثم جبر ذلك بأن لم يخرجه مخرج الأمر؛ ليفيد الوجوب، وأتى بصيغة الإخبار ليقابل التماسهم ذلك، وإن كان في صيغة الأمر لارتفاع منزلته صلى الله عليه وسلم عليهم مع رعاية غبطتهم؛ لئلا ينخلعوا عن أموالهم، وإذا قضى المهاجرون أوطارهم ووسع الله عليهم بما وسع، يكون لهم الأصل والثمر. الحديث الثالث عن عروة رضي الله عنه: قوله: ((أعطاه ديناراً)) ((حس)): في هذا الحديث دليل

ليشتري به شاة، فاشترى له شاتين، فباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة بالبركة، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه. رواه البخاري. الفصل الثاني 2933 - عن أبي هريرة، رفعه، قال: ((إن الله عز وجل يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما)). رواه أبو داود، وزاد رزين: ((وجاء الشيطان)). [2933] 2934 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أد الأمانة إلي من ائتمنك، ولا تخن من خانك)). رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [2934] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي جواز التوكيل في المعاملات، وفي كل ما تجري فيه النيابة. واختلفوا في تأويله، وفي بيع عروة الشاة من غير إذن له في البيع، فذهب بعض أهل العلم إلي أن من باع مال الغير دون إذنه، يكون العقد موقوفاً علي إجازة المالك، فإن أجاز صح ويحتج بهذا الحديث. ومنهم من لم يجوزه، ويؤول الحديث علي أن وكالته كانت وكالة تفويض وإطلاق. والوكيل المطلق يملك البيع والشرى، ويكون تصرفه صادراً عن إذن المالك. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا ثالث الشريكين)) الشركة عبارة عن اختلاط أموال بعضهم ببعض بحيث لا تتميز، وشركة الله تعالي إياهم علي الاستعارة، وكأنه تعالي جعل البركة والفضل والربح بمنزلة المال المخلوط، فسمى ذاته تعالي ثالثاً لهما، وجعل خيانة الشيطان ومحقه البركة بمنزلة المال المخلوط وجعله ثالثاً لهما. وقوله: ((خرجت من بينهما)) ترشيح للاستعارة. وفيه استحباب الشركة، وأن البركة منصبة من الله تعالي فيها بخلاف ما إذا كان منفرداً؛ لأن كل واحد من الشريكين يسعى في غبطة صاحبه؛ فإن الله تعالي في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا تخن من خانك)) ((قض)): أي لا تعامل الخائن بمعاملته، ولا تقابل خيانته بالخيانة فتكون مثله. ولا يدخل فيه أن يأخذ

2535 - وعن جابر، قال: أردت الخروج إلي خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، وقلت: إني أردت الخروج إلي خيبر. فقال: ((إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك علي ترقوته)). رواه أبو داود. [2935] الفصل الثالث 2936 - عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلي أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)). رواه ابن ماجه. [2936] 2937 - وعن حكيم بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار ليشتري له به أضحية، فاشترى كبشاً بدينار، وباعه بدينارين، فرجع فاشترى أضحية بدينار، فجاء بها وبالدينار الذي استفضل من الأخرى، فتصدق رسول الله صلي بالدينار، فدعا له أن يبارك له في تجارته. رواه الترمذي. [2937] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل مثل حقه من مال الجاحد؛ وأنه استيفاء وليس بعدوان والخيانة عدوان. أقول: الأولي أن ينزل هذا الحديث علي معنى قوله تعالي: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} يعني إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان ذاك حسناً، بل قابله بالأحسن الذي هو عدم المكافأة والإحسان إليه. ويجوز أن يكون من باب الكناية، أي لا تعامل من خانك فتجازيه. الفصل الثالث الحديث الأول عن صهيب: قوله: ((المقارضة)) قطع الرجل من أمواله دافعاً إلي الغير ليعامل فيه ويقسم الربح، وفي الخلال الثلاث هضم من حقه. والأولان منهما يسري نفعهما إلي الغير، وفي الثالث إلي نفسه قمعاً لشهوته. الحديث الثاني عن حكيم: قوله: ((بدينار)) الباء زائدة في المفعول، قوله تعالي: {ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة}.

(11) باب الغصب والعارية

(11) باب الغصب والعارية الفصل الأول 2938 - عن سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً؛ فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين)). متفق عليه. 2939 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير أذنه؛ أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه؟ وإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الغصب والعارية ((مح)): هي بتشديد الياء، وقال الخطابي في الغريب: وقد يخفف. ((تو)): قيل: إنها منسوبة إلي العار؛ لأنهم رأوا طلبها عاراً وعيباً، قال الشاعر: إنما أنفسنا عارية ... والعواري قصارها أن ترد والعارة مثل العارية، وقيل: إنها من التعاور وهو التداول ولم يبعد. الفصل الأول الحديث الأول عن سعيد رضي الله عنه: قوله: ((سبع أرضين)) ((مح)): قال العلماء: هذا تصريح بأن الأرض سبع طباق، وهو موافق لقوله تعالي: {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} وقول من قال: إن المراد بالسبع الأقاليم خلاف للظاهر؛ إذ لم يطوق من غصب شبراً من الأرض شبراً من كل إقليم، بخلاف طبقات الأرض فإنها تابعة لهذا الشبر في الملك. أقول: ويعضده الحديث الثالث من الفصل الثالث: ((كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين. ((حس)): ومعنى التطويق أن يخسف الله به الأرض فتصير البقعة المغصوبة منها في عنقه كالطوق. وقيل: هو أن يطوق حملها يوم القيامة، أي يكلف فيكون في طوق التكليف لا من طوق التقليد؛ لما روي عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه، خسف به يوم القيامة إلي سبع أرضين)) الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مشربته)) ((نه)): المشربة- بضم الراء

2940 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتحها- كالغرفة يوضع فيها المتاع. أقول: بولغ في الممثل به مبالغات حيث جعل الحرز غرفة ليصعب الصعود إليها، وجعل فيها خزانة مستوثقة بالأقفال، فلا يظفر بما فيها إلا بالكسر تصويراً لحالة المشبه في الاشتياق. و ((إنما)) عطف علي مقدر وتقدير الكلام: أيحب أحدكم كذا؟ يقال: لا. ثم يجاب فإذن لا تفعلوا. وإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم. قوله: ((فينتقل)) وفي شرح السنة والنهاية ((فينثل)) - بالياء المنقوطة تحتها نقطتان والنون والثاء المثلثة-، أي يستخرج ويؤخذ. ((حس)): العمل علي هذا عند أكثر أهل العلم أنه لا يجوز أن يحلب ماشية الغير بغير إذنه، إلا إذا اضطر في مخمصة ويضمن. وقيل: لا ضمان عليه؛ لأن الشرع أباحه له، وذهب أحمد وإسحاق وغيرهما إلي إباحته لغير المضطر، إذا لم يكن المالك حاضراً؛ فإن أبا بكر رضي الله عنه حلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً من غنم رجل من قريش، يرعاها عبد له وصاحبها غائب في هجرته إلي المدينة؛ ولما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتى أحدكم علي ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن أجابه أحد فليستأذنه، وإن لم يجب أحد فليحلب وليشرب ولا يحمل)). وقد رخص بعضهم لابن السبيل في أكل ثمار الغير؛ لما روي عن ابن عمر بإسناد غريب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل حائطاً فليأكل غير متخذ خينة فلا شيء عليه)). وعند أكثرهم لا يباح إلا بإذن المالك إلا لضرورة مجاعة كما سبق. ((تو)): وحمل بعضهم هذه الأحاديث علي المجاعة والضرورة؛ لأنها لا تقاوم النصوص التي وردت في تحريم مال المسلمين. ((مح)): غير المضطر إذا كان له إدلال علي صاحب الطعام بحيث يعلم أو يظن أن نفسه تطيب بأكله منه بغير إذنه فله الأكل. والمضطر إن وجد ميتة وطعاماً لغيره فيه خلاف، والأصح عندنا أنه يأكل الميتة. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بعض نسائه)) ((تو)): قد تبين لنا من غير هذا الطريق أن التي ضربت يد الخادم هي عائشة- رضي الله عنها- انتهي كلامه. وقيل: صاحبة القصعة زينب بنت جحش، وقيل: أم سلمة، وقيل: صفية. أقول: إنما أبهم في قوله: ((عند بعض نسائه)) وأراد بها عائشة رضي الله عنها تفخيماً لشأنها، وأنه مما لا يخفي ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما تهدى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيت عائشة. وإنما وصفت المرسلة بأم المؤمنين إيذاناَ بشفقتها وكسرها وغيرتها وهواها، حيث أهدت إلي بيت ضرتها بالقصعة. والخطاب بقوله: ((غارت أمكم)) عام لكل من سمع بهذه

فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: ((غارت أمكم)) ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلي التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت. رواه البخاري. 2941 - وعن عبد الله بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهي عن النهبة والمثلة. رواه البخاري. 2942 - وعن جابر، قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلي بالناس ست ركعات بأربع سجدات، فانصرف وقد آضت الشمس، وقال: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء ـــــــــــــــــــــــــــــ القضية من المؤمنين؛ اعتذاراً منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحملوا صنيعها علي ما يذم بل يجري علي عادة الضرائر من الغيرة؛ فإنها مركبة في نفس البشر بحيث لا تقدر أن تدفعها عن نفسها. وقيل: هو خطاب لمن حضر من المؤمنين. ((تو)): وهذا الحديث لا تعلق له بالغصب ولا بالعارية، وإنما كان من حقه أن يورد في باب ضمان المتلفات. ((قض)) ووجه إيراد هذا الحديث في هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم غرم الضاربة ببدل الصحفة؛ لأنها انكسرت بسبب ضربها يد الخادم عدواناً. ومن أنواع الغصب إتلاف مال الغير مباشرة، أو بسبب علي وجه العدوان. ((نه)): الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها، وجمعها صحاف. والفلق بالسكون الشق، وفلق الصحفة [كسرها]. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((عن النهبة)) ((حس)): يؤول النهي في هذا الحديث علي الجماعة ينتهبون من الغنيمة ولا يدخلونها في القسمة، وعلي القوم يقدم إليهم الطعام وينتهبونه ونحو ذلك، وإلا فنهب أموال المسلمين حرام علي كل أحد. قوله: ((والمثلة)) ((نه)): يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوهت به. وقيل: المراد بها تشويه الخلق بقطع الأنوف والآذان وفقء العيون. الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((آضت)) ((مح)): هو- بهمزة ممدودة- هكذا ضبطه جميع الرواة ببلادنا، أي عادت إلي حالها الأولي ورجعت، ومنه قولهم: أيضاء وهو مصدر من آض يئيض. قوله: ((من لفحها)) ((نه)): لفح النار- بالفاء والحاء- حرها ووهجها. والمحجن عصا في رأسها اعوجاج كالصولجان، والميم زائدة، ويجمع علي محاجن. والقصب المعى وجمعه أقصاب. وقيل: القصب اسم للأمعاء كلها. وقيل: هو كل ما أسفل البطن من الأمعاء. والخشاش- بالخاء المعجمة- هوامها وحشراتها. ((مح)): ست ركعات يعني كان يصلي ركعتين في كل ركعة يركع ثلاثاً ويسجد سجدتين.

بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار. وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجتي، وإن غفل عنه ذهب به. وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرتها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)). رواه مسلم. 2943 - وعن قتادة، قال: سمعت أنساً يقول: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركب، فلما رجع قال: ((ما رأينا من شيء. وإن وجدناه لبحراً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال العلماء: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رأي الجنة والنار رؤية عين، كشف الله تعالي عنهما وأزال الحجب بينه وبينهما كما فرج له عن المسجد الأقصى، وأن تكون رؤية علم ووحي علي سبيل التفصيل، وتعريف لم يعرفه قبل ذلك فحصلت له من ذلك خشية لم تسبقها. والتأويل الأول أولي وأشبه بألفاظ الحديث؛ لما فيه من الأمور الدالة علي رؤية العين من تأخره؛ لئلا يصيبه لفحها وتقدمه لقطف العنقود. وصاحب المحجن هو عمرو بن لحي- بضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء. وقوله: ((يسرق الحاج)) أي متاع الحاج. وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وأن ثمارها أعيان كثمار الدنيا. وهو مذهب أهل السنة، وأن التأخر عن مواضع الهلاك والعذاب سنة، وأن العمل القليل لا يبطل الصلاة؛ وأن بعض الناس معذب في نفس جهنم اليوم، وفي تعذيب تلك المرأة بالنار بسبب ربط الهرة، دلالة علي أ، فعلها كان كبيرة؛ لأن ربطها وإصرارها عليه، حتى ماتت إصرار علي الصغيرة، والإصرار عليها يجعلها كبيرة. قوله: ((ثم بدا لي)) ((نه)): البداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم. أقول: لعل الاستصواب في أن لا يظهر لهم ثمرتها لئلا ينقلب الإيمان الغيبي إلي الشهودي، أو لو أراهم ثمار الجنة لزم أن يريهم لفح النار أيضاً. وحينئذ يغلب الخوف علي الرجاء فتبطل أمور معاشهم، ومن ثمة قال: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً)) والله أعلم. الحديث السادس عن قتادة رضي الله عنه: قوله: ((المندوب)) ((نه))؛ أي المطلوب وهو من الندب: الرهن الذي يجعل في السباق. وقيل: سمي به لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح. قوله: ((وإن وجدناه لبحراً)) ((إن)) هي المخففة من الثقيلة، والضمير في ((وجدناه)) للفرس المستعار.

الفصل الثاني 2944 - عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من أحيى أرضاً ميتةً فهي له، وليس لعرق ظالم حق)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [2944] 2945 - ورواه مالك، عن عروة مرسلاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لبحرا)) أي واسع الجري تشبيهاً له بالبحر في سعته. ((مظ)): ((إن)) هاهنا بمعنى ما النافية واللام بمعنى ((إلا)) أي ما وجدناه إلا بحرا. والعرب تقول: إن زيداً لعاقل: يريد ما زيد إلا عاقل. فيه إباحة التوسيع في الكلام وتشبيه الشيء بالشيء بمعنى من معإنيه، وإن لم يستوف جميع أوصافه. وفيه إباحة تسمية الدواب وكانت تلك عادتهم. وكذا أداة الحرب ليحضر سريعاً إذا طلب. ((مح)): فيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك، واستحباب تبشير الناس بعد الخوف إذا ذهب، وجواز العارية والغزو علي الفرس المستعار، وفيه إظهار شجاعته وشدة جأشه صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن سعيد: قوله: ((أرضاً ميتة)) ((قض)): الأرض الميتة: الخراب الذي لا عمارة به، وإحياؤها عمارتها، شبهت عمارة الأرض بحياة الأبدان، وتعطلها وخلوها عن العمارة بفقد الحياة وزوالها عنها، وترتيب الملك علي مجرد الإحياء كاف في التملك، ولا يشترط فيه إذن السلطان. وقال أبو حنيفة: لابد منه. قوله: ((وليس لعرق ظالم)) روي بالإضافة والوصف، والمعنى أن من غرس أرض غيره أو زرعه بغير إذنه، فليس لغرسه وزرعه حق إبقاء، بل لمالك الأرض أن يقلعه مجاناً. وقيل: معناه أن من غرس أرضاً أحياها غيره أو زرعها لم يستحق به الأرض، وهو أوفق للحكم السابق. و ((ظالم)) إن أضيف إليه فالمراد به الغارس سماه ظالما؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإن وصف به فالمغروس سمي به؛ لأنه الظالم أو لأن الظلم حصل به علي الإسناد المجازي. قوله: ((رواه مالك عن عروة مرسلاً)) يدل علي أن الحديث متصل من وجه ومرسل من وجه. ((قض)): والعجب أن الحديث في المصابيح مسند إلي سعيد بن زيد وهو من العشرة، وجعله مرسلاً ولعله وقع من الناسخ. وأن الشيخ أثبت إحدى الروايتين من المتصل والإرسال

2946 - وعن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تظلموا، ألا لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان))، والدارقطني في ((المجتبى)). [2946] 2947 - وعن عمران ابن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام، ومن انتهب نهبة فليس منا)). رواه الترمذي. [2947] 2948 - وعن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعباً جاداً، فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه)). رواه الترمذي، وأبو داود وروايته إلي قوله: ((جادا)). [2948] ـــــــــــــــــــــــــــــ في المتن، وأثبت غيره الأخرى في الحاشية فالتبس علي الناسخ، وظن أنهما من المتن فأثبتهما فيه. أقول: يجوز أن يروي الصحابي الحديث مرسلاً بأن يكون قد سمع من صحابي آخر، ولم يسند إليه لكن هذا الحديث ليس منه؛ لقول الترمذي: هذا حديث حسن غريب. الحديث الثاني والثالث عن عمران: قوله: ((لا جلب)) ((قض)): ((الجلب)) في السباق أن يتبع فرسه رجلاً يجلب عليه ويزجره، و ((الجنب)) أن يجنب إلي فرسه فرساً عرياناً، فإذا فتر المركوب تحول إليه. والجلب والجنب في الصدقة قد مر تفسيرهما في كتاب الزكاة. و ((الشغار)) أن يشاغر الرجل، وهو أن تزوجه أختك علي أن يزوجك أخته، ولا مهر إلا هذا، من شغر البلد إذا خلا من الناس؛ لأنه عقد خال من المهر، أو من شغرت بني فلان من البلد إذا أخرجتهم وفرقتهم. وقولهم: تفرقوا شغر بغر؛ لأنهما إذا تبادلا بأختيهما، فقد أخرج كل منهما أخته إلي صاحبه وفارق بها إليه. والحديث يدل علي فساد هذا العقد؛ لأنه لو صح لكان في الإسلام، وهو قول أكثر أهل العلم، والمقتضى لفساده الاشتراك في البضع بجعله صداقاً. وقال أبو حنيفة والثوري: يصح العقد ولكل منهما مهر المثل. الحديث الرابع عن السائب: قوله: ((لاعبا وجاداً)) حالان من فاعل ((يأخذ)) وإن ذهب إلي أنهما مترادفان تناقضتا، وإن ذهب إلي التداخل صح. ((خط)): معناه أن يأخذ علي وجه الهزل وسبيل المزاح ثم يحبسها عنه، ولا يردها فيصير ذلك جداً. أقول: دل ((ثم)) في قوله أن الحال الثانية من المتداخلة المقدرة. ((حس)): عن أبي عبيد: هو أن بأخذ متاعه لا يريد سرقته إنما يريد

2949 - وعن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [2949] 2950 - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((علي اليد ما أخذت حتى تؤدي)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2950] 2951 - وعن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً، فأفسدت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علي أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن علي أهلها. رواه مالك، وأبو داود، وابن ماجه. [2951] ـــــــــــــــــــــــــــــ إدخال الغيظ [عليه فهو لاعب في السرقة، جاد في إدخال الغيظ] والروع والأذى عليه. ((تو)): وإنما ضرب المثل بالعصا؛ لأنه من الأشياء التافهة التي لا يكون لها كثير خطر عند صاحبها؛ ليعلم أن ما كان فوقه فهو بهذا المعنى أحق وأجدر. الحديث الخامس عن سمرة رضي الله عنه: قوله: ((من وجد عين ماله)) ((تو)): المراد منه ما غصب أو سرق أو ضاع من الأموال، والبيع بالتشديد مشتري الغصب أو المسروق أو المال الضائع. الحديث السادس عن سمرة رضي الله عنه قوله: ((علي اليد ما أخذت)) ما موصولة مبتدأ و ((علي اليد)) خبره، والراجع محذوف، أي ما أخذته اليد ضمان علي صاحبها، والإسناد إلي اليد علي المبالغة؛ لأنها هي المتصرفة. ((مظ)): يعني من أخذ مال أحد بغصب أو عارية أو وديعة لزمه رده. الحديث السابع عن حرام: قوله: ((ضامن علي أهلها)) ((حس)): ذهب أهل العلم إلي أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان علي أهلها، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها؛ لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي بالليل، فمن خالف هذه العادة كان خارجاً عن رسوم الحفظ، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفه، سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها، أو كانت واقفة، سواء أتلفت بيدها أو رجلها أو بفمها، وإلي هذا ذهب مالك والشافعي، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي أن المالك إن لم يكن معها، فلا ضمان عليه ليلاً كان أو نهاراً.

2952 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرجل جبار، والنار جبار)). رواه أبو داود. [2952] 2953 - وعن الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتى أحدكم علي ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن أجابه أحد فليستأذنه، وإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل)). رواه أبو داود. [2953] 2954 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل حائطاً فليأكل ولا يتخذ خبنة)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2954] 2955 - وعن أمية بن صفوان، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعه يوم حنين. فقال: أغصباً يا محمد؟! قال: ((بل عارية مضمونة)). رواه أبو داود. [2955] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الرجل جبار)) الجبار الهدر، يقال: ذهب دمه جباراً أي هدراً، وهو من تسمية المسبب باسم سببه، أي ما تطؤه الدابة وتضربه برجلها في الطريق، وما أحرقه النار فهو هدر لا ضمان. ((حس)): النار التي يوقدها الرجل في ملكه فيطير بها الريح إلي مال غيره، من حيث لا يمكنه ردها فهو هدر، هذا إذا أوقدها في وقت سكون الريح ثم هبت الريح. الحديث التاسع عن الحسن: قوله: ((إذا أتى أحدكم علي ماشية)) ((أتى)) متعد بنفسه وعداه بعلي لتضمينه معنى نزل، وجعل الماشية بمنزلة المضيف. وفيه معنى حسن التعليل، هذا إذا كان النازل والضيف مضطراً كما سبق. الحديث العاشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((غير متخذ خبنة)) ((نه)): الخبنة معطف الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه، يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئاً في خبنة ثوبه أو سراويله، وسبق تفسيره في الحديث الثاني من الفصل الأول. الحديث الحادي عشر عن أمية: قوله: ((أغصباً يا محمد؟!)) قيل: هذا النداء لا يصدر عن

2956 - وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)). رواه الترمذي، وأبو داود. [2956] ـــــــــــــــــــــــــــــ مؤمن، قال الله تعالي: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} ((تو)): إنه كان يومئذ مشركاً، وقد أخذ بمجامع قلبه الحمية الجاهلية. أقول: قوله: ((غصباً)) معمول مدخول الهمزة، أي أتأخذها غصباً لا تردها علي، فأجاب صلى الله عليه وسلم بل أستعيرها وأردها، [فوضع الرد: الضمان مبالغة في الرد أي كيف لا أرضها] وإنها مضمونة علي، فمن قال: إنها غير مضمونة نظر إلي ظاهر الكلام. ومن قال: إنها مضمونة نظر إلي هذه الدقيقة. ((قض)): هذا الحديث دليل علي أن العارية مضمونة علي المستعير، فلو تلفت في يده لزمه الضمان، وبه قال ابن عباس وأبو هريرة، وإليه ذهب عطاء والشافعي وأحمد. وذهب شريح والحسن والنخعي وأبو حنيفة والثوري إلي أنها أمانة في يده لا تضمن إلا بالتعدي. وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأول قوله: ((مضمونة)) بضمان الرد وهو ضعيف؛ لأنها لا تستعمل فيه، ألا ترى أنه يقال: الوديعة مردودة علي ولا يقال: إنها مضمونة وإن صح استعماله فيه، فحمل اللفظ هاهنا عليه عدول عن الظاهر بلا دليل. وقال مالك: إن خفي تلفه أي لم تقم له بينة علي تلفه ضمن وإلا فلا. الحديث الثاني عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((مؤداة)) ((تو)): أي تؤدى إلي أصحابها، واختلفوا في تأويله علي حسب اختلافهم في الضمان، فالقائل بالضمان يقول: يؤدي عيناً حال القيام، وقيمة عند التلف. وفائدة التأدية عند من يرى خلافه إلزام المستعير مؤنة ردها إلي مالكها، و ((المنحة)) ما يمنحه الرجل صاحبه من ذات در؛ ليشرب درها، أو شجرة ليأكل ثمرها، أو أرض ليزرعها، وقد سبق تفسيرها. وفي قوله: ((مردودة)) إعلام بأنها تتضمن تمليك المنفعة لا تمليك الرقبة. و ((الزعيم غارم)) أي الكفيل ملزم نفسه ما ضمنه، و ((الغرم)) أداء شيء يلزمه. أقول: وجه هذا التقسيم أن يقال: من يجب عليه حق لغيره شرعا غالبا، إما أن يكون علي سبيل الأداء بأن يؤديه العين مع ما يتصل به فهو العارية، أو علي سبيل الرد من غير ما يتصل به فهو المنحة، أو علي سبيل القضاء بأن يؤديه من غير عينه فهو الدين. وإما أن يكون علي سبيل الغرامة، وهو التزام الإنسان ما لم يأخذه فهو الكفالة، فظهر من هذا أن الواجب في الاستعارة الرد بعينه أو بدله.

2957 - وعن رافع بن عمرو الغفاري، قال: كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار، فأتي بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا غلام! لم ترمي النخل؟)) قلت: آكل. قال: ((فلا ترم، وكل مما سقط في أسفلها)) ثم مسح رأسه فقال: ((اللهم أشبع بطنه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [2957] وسنذكر حديث عمرو بن شعيب في ((باب اللقطة)) إن شاء الله تعالي. الفصل الثالث 2958 - عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه، خسف به يوم القيامة إلي سبع أرضين)). رواه البخاري. 2959 - وعن يعلي بن مرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ أرضاً بغير حقها كلف أن يحمل ترابها المحشر)). رواه أحمد. [2959] 2960 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه إلي يوم القيامة حتى يقضى بين الناس)). رواه أحمد. [2960] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن نافع: قوله: ((كل مما سقط)) ((مظ)): إنما أجاز له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل مما سقط للاضطرار، وإلا لم يجز له أن يأكل السقط أيضاً؛ لأنه مال الغير كالرطب علي رأس النخل. أقول: لو كان مضطرا لجاز له أن يأكل ما رماه، وإن لم يكن علي الأرض شيء. وقوله: ((اللهم أشبع بطنه)) يدل علي أنه لم يكن مضطرا. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني والثالث عن يعلي بن مرة: قوله: ((ظلم شبرا)) المفعول به محذوف و ((شبرا)) يجوز أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا فيه، أي مقدار شبر أو ظلم شبر. فإن قلت: كيف التوفيق بين قوله: ((ثم يطوقه إلي يوم القيامة)) وقوله: ((حتى يقضى بين الناس)) فإن ((إلي)) دل علي أن انتهاء التطويق يوم القيامة، و ((حتى)) علي القضاء بين الناس فيه. قلت: ((إلي)) تفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل،

(12) باب الشفاعة

(12) باب الشفاعة الفصل الأول 2961 - عن جابر، قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فما فيه دليل علي الخروج قوله تعالي: {فنظرة إلي ميسرة} لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة. وما فيه دليل علي الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلي آخره؛ لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. كذا في الكشاف، وكذا ما نحن فيه الغاية يوم القيامة. وهو داخل في الحكم إلي قضاء الحق بين الناس، فيكون ((حتى يقضي)) كالبيان للغاية. باب الشفعة المغرب: الشفعة اسم للملك المشفوع بملكك من قولهم: كان وترا فشفعته بأخر، أي جعلته زوجاً له، ونظيرها الأكلة واللقمة، في أن كل واحدة منهما فعلة بمعنى مفعول، هذا أصلها، ثم جعلت عبارة عن تملك مخصوص. وقد جمعهما الشعبي في قوله: من بيعت شفعته وهو حاضر فلم يطلب ذلك فلا شفعة له. الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق)) قال المالكي: معنى ((صرفت الطرق)) أي خلصت وبينت، واشتقاقه من الصرف وهو الخالص من كل شيء فقيل منه صرف وتصرف كما قيل من المحض محض وتمحض. ((تو)): هذا الحديث أخرجه البخاري بهذا اللفظ ولم يخرجه مسلم، وإنما أخرج حديثه الآخر الذي يتلو هذا الحديث. وكان علي مؤلف المصابيح لم أورد الحديث في القسم الذي هو مما أخرجه الشيخان، أو أحدهما أن لا يعدل في اللفظ عن كتاب البخاري؛ فإن بين الصيغتين بوناً بعيداً، ولا يكاد يتسامح فيه ذو عناية بعلم الحديث. وقد روي هذا الحديث أيضاً في غير الكتابين عن أبي هريرة علي نحو ما رواه البخاري عن جابر. ((قض)): هذا الحديث مذكور في مسند الإمام أبي عبد الله محمد الشافعي رضي الله عنه كذا ((الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة))، وفي صحيح البخاري كذا: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة)) إلي آخره. فاختار الشيخ عبارته إلا أنه بدل قوله: ((قضى بالشفعة فيما لم

2962 - وعنه، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة، أو حائط: ((لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقسم)) بقوله: ((قال: الشفعة فيما لم يقسم)) لما لم يجد بينهما مزيد تفاوت في المعنى، وقد صحت الرواية بهذه العبارة، وبه اندفع اعتراض من شنع عليه. فإن قلت كيف سويت بين العبارتين؟ وما ذكره الشيخ يقتضي الحصر عرفاً، وما أورده البخاري لا يقتضيه؛ لجواز أن يكون حكاية حال واقعة، وقضاء في قضية مخصوصة. قلت: كفي لدفع هذا الاحتمال ما ذكر عقيبه، ورتب عليه بحرف التعقيب، ولا يصح أن يقال: إنه ليس من الحديث بل شيء زاده الراوي فأوصله بما حكاه؛ لأن ذلك يكون تلبيساً وتدليساً. ومنصب هذا الراوي والأئمة الذين دنوه وساقوا الرواية بهذه العبارة إليه، أعلي من أن يتصور في شأنهم أمثال ذلك. والحديث كما ترى يدل بمنطوقه صريحاً علي أن الشفعة في مشترك مشاع لم يقسم بعد، فإذا قسم وتميزت الحقوق ووقعت الحدود وصرفت الطرق، بأن تعددت وحصل نصيب لكل طريق مخصوص لم يبق للشفعة مجال، فعلي هذا تكون الشفعة للشريك دون الجار. وهو مذهب أكثر أهل العلم كعمر وعثمان وابن المسيب وسلمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن من التابعين، والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ممن بعدهم. وقوم نزر من الصحابة ومن بعدهم مالوا إلي ثبوتها للجار، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب أبي حنيفة، غير أنهم قالوا: الشريك أولي وأقدم علي الجار، واحتجوا بما روى البخاري عن أبي رافع. أقول: قوله: ((لما لم يجد بينهما مزيد تفاوت في المعنى)) إلي آخره، لا يرفع الإنكار؛ لأن أهل هذه الصنعة صرحوا بأن القائل إذا قال: رواه البخاري أو مسلم مثلا، جاز له الرواية بالمعنى، وأما إذا قال: في كتاب فلان كذا وكذا، لم يجز له أن يعدل عن صريح لفظه. وقد ذكر الشيخ في خطبة المصابيح: وأعني بالصحاح ما أورده الشيخان في جامعيهما أو أحدهما. وأما قوله: ((كفي لدفع هذا الاحتمال)) إلي آخره، ففيه بحث؛ لأن الحصر هاهنا ليس بالأداة والتقديم وتعريف الخبر، بل بحسب المفهوم. وقوله: ((الشفعة فيما لم يقسم)) مفهومه لا شفعة فيما قسم، فيكون ما بعده بيانا له وتقريراً، ومفهوم قوله: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما لم يقسم)) لم يقض فيما قسم، فبينهما بون. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ربعة أو حائط)) ((مح)): الربع والربعة- بفتح الراء وإسكان الباء- المسكن والدار وطلق الأرض، وأصله المنزل الذي كانوا يربعون فيه.

2963 - وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجار أحق بسقبه)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: الحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عن الشريك، وخصت بالعقار؛ لأنه أكثر الأنواع ضرراً. واتفقوا علي أن لا شفعة في غير العقار من الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقولات. واستدل أصحابنا بهذا الحديث علي أن الشفعة لا تثبت إلا في عقار محتمل للقسمة، بخلاف الحمام الصغير والرحى ونحو ذلك، والشركة لا تختص بالمسلم بل تعم المسلم والذمي، وبه قال الجمهور. وقال الشعبي والحسن وأحمد: لا شفعة للذمي علي المسلم. وقوله: ((لا يحل له أن يبيع)) محمول عند أصحابنا علي الندب، وكراهة بيعه قبل إعلامه، فإن نفي الحل يصدق علي المكروه؛ لأنه ليس بحلال، أو يكون الحلال بمعنى المباح، وهو مستوي الطرفين، والمكروه ليس بمباح مستوي الطرفين بلا هو راجح تركه. واختلفوا فيما لو أعلم الشريك بالبيع فأذن فيه فباع، ثم أراد الشريك أن يأخذ بالشفعة، فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابهم وغيرهم: له أيأخذ بالشفعة. وقال الحاكم والثوري وطائفة من أهل الحديث: ليس له الأخذ. وعن أحمد روايتان كالمذهبين. والله أعلم. الحديث الثالث عن أبي رافع: قوله: ((بسقبه)) المغرب: السقب القرب، وبالصاد لغة، وهما مصدر أسقبت الدار وصقبت والصاقب القريب. والمعنى الجار أحق بالشفعة إذا كان جاراً ملاصقاً، والباء من صلة ((أحق)) لا للتسبب، وأريد بالسقب الساقب علي معنى ذو سقب من داره أي قريبة. ويروى في حديث عمرو بن الشريد أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك، قيل: وما سقبه؟ قال: شفعته. ((خط)): يحتمل أن يراد به البر والمعونة وما في معناهما. ((تو)): ويرحم الله أبا سليمان فإنه لم يكن جديراً بهذا التعسف، وقد علم أن الحديث قد روي عن الصحابي في قصة صار البيان مقترناً به؛ ولهذا أورده علماء النقل في كتب الأحكام في باب الشفعة، وأولهم وأفضلهم البخاري ذكره بقصته عن عمرو بن الشريد إلي آخره. أقول: الواجب علي الناظر أن لا يسلك طريق التعصب، ويأخذ المنهج القويم، ثم النظر إلي نفس التركيب من غير اعتبار أمر خارجي يوجب التأويل، فالسقب حقيقة هو القرب، وإذا ذهب إلي المجاز فالبر والإحسان أقرب لوجود العلاقة المعتبرة، والقرينة الصارفة إليهما من نفس التركيب، ومثله ما روي عن عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلي أيهما أهدي؟ قال: ((إلي أقربهما منك باباً))، وإذا ذهب إلي الشفعة كانت العلاقة بعيدة، والقرينة خفية فيصير بمنزلة التعمية والإلغاز، فيفتقر إلي الاستفسار كما رواه صاحب المغرب،

2964 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو من أئمة اللغة؛ ولأن ((أحق)) يقتضي شركة في نفس الشفعة، ومن له حق الشفعة الشريك والجار علي زعمكم، فكيف يرجح الجار عليه مع ورود تلك النصوص الصريحة الصحيحة؟. وأما إيراد الإمام محمد بن إسماعيل في باب الشفعة مع اقتران البيان به، فليس بحجة علي الإمام الشافعي ولا علي أبي سليمان، علي أن محيي السنة فعل كذلك في كتاب المصابيح، وبين ما قصدته في شرح السنة حيث قال: وإن كان المراد منه الشفعة فيحمل الجار علي الشريك جمعا بين الخبرين. واسم الجار قد يقع علي الشريك؛ لأنه يجاور شريكه بأكثر من مجاورة الجار؛ فإن الجار لا يساكنه والشريك يساكنه في الدار المشتركة، ويدل علي أنه قال: ((أحق)) وهذه اللفظة تستعمل فيمن لا يكون غيره أحق منه. والشريك بهذه الصفة أحق من غيره وليس غيره أحق منه. وذكر أيضا الوجه الذي ذكره الخطابي؛ لاحتماله، وإن كان الأول هو الوجه؛ لما سيرد في حديث جابر: ((الجار أحق بشفعته إذا كان طريقهما واحدا)) لأنه تفسير للمبهم وتقييد للمطلق. وكم ترى من كلمة في التنزيل لها محتملات مختلفة بل متضادة ذكرها المفسرون، وأكثروا فيها القول، ولم يكن ذلكم مغمزاً فيهم ومطعناً للمخالف. وإذا كان الأمر علي هذا؛ فلا وجه للتشنيع علي الإمام القدوة المحدث أبي سليمان الذي لان له الحديث، كما لان لسليمان الحديد. الحديث الرابع ع أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يمنع جار)) ((مح)): اختلفوا في معنى هذا الحديث، هل هو علي الندب إلي تمكين الجار من وضع الخشب علي جدار جاره أم علي الإيجاب؟ وفيه قولان للشافعي ولأصحاب مالك، أصحهما الندب. وبه قال أبو حنيفة، والثاني: الإيجاب وبه قال أحمد وأصحاب الحديث، وهو الظاهر لقول أبي هريرة بعد روايته: ((مالي أراكم عنها معرضين: والله لأرمين بها بين أكتافكم)) وذلك أنهم توقفوا عن العمل به. وفي رواية أبي داود: ((فنكسوا رءوسهم فقال: مالي أراكم أعرضتم)) أي عن هذه السنة أو الخصلة أو الموعظة أو الكلمات. ومعنى قوله: ((لأرمين بها بين أكتافكم)) أقضي بها وأصرحها وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه. وأجاب الأولون بأن إعراضهم إنما كان لأنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب. ولو كان واجبا لما أطبقوا علي الإعراض عنه. أقول: يجوز أن يرجع الضمير في قوله: ((لأرمين بها)) إلي ((الخشبة))، ويكون كناية عن إلزامهم بالحجة القاطعة علي ما ادعاه، أي لا أقول: إن الخشبة ترمى علي الجدار بل بين أكتافكم؛ لما وصى صلى الله عليه وسلم بالبر والإحسان في حق الجار وحمل أثقاله.

2965 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع)) رواه مسلم. الفصل الثاني 2966 - عن سعيد بن حريث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من باع منكم داراً أو عقاراً، قمن أن لا يبارك له إلا أن يجعله في مثله)) رواه ابن ماجه، والدارمي. [2966] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سبعة أذرع)) ((مح)): في أكثر النسخ سبع أذرع، والروايتان صحيحتان؛ لأن الذراع يذكر ويؤنث. وأما قدر الطريق فإن جعل الرجل بعض أرضه المملوكة طريقاً مسبلة للمارين، فقدرها إلي خيرته والأفضل توسيعها، وليست هذه الصورة مرادة بالحديث، فإن كان الطريق بين أرض لقوم أرادوا عمارتها، فإن اتفقوا علي شيء فذاك، وإن اختلفوا في قدره جعل سبعة أذرع هذا مراد الحديث. أما إذا وجدنا طريقاً مسلوكاً وهو أكثر من سبعة أذرع فلا يجوز لأحد أن يتسلي علي شيء منه، لكن له عمارة ما حواليه من الموات، وتملكه بالإحياء بحيث لا يضر المارين. ((حس)): هذا علي معنى الإرفاق، فإن كانت السكة غير نافذة فهي مملوكة لأهلها، فلا يبنى فيها ولا تضيق ولا يفتح إليها باب إلا بإذن جماعتهم. وإن كانت نافذة فحق الممر فيها لعامة المسلمين. ويشبه أن يكون معناه إذا بني أو قعد للبيع في النافذ بحيث يبقى للمارة من عرض الطريق فلا يمنع، لأن هذا القدر يزيل ضرر المارة. وكذا في أرضي القرى التي تنزع إذا خرجوا من حدود أراضيهم إلي ساحتها، لم يمنعوا إذا تركوا للمارة سبعة أذرع. أما الطريق إلي البيوت التي يقسمونها في دار يكون منها مدخلهم، فيتقدر بمقدار لا يضيق عن مآربهم، التي لا بد لهم منها كممر السقاء والحمال ومسلك الجنازة ونحوها. أقول: معنى ظاهر الشرط أن يقال: إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوا، فعدل إلي قوله: ((جعل)) دلالة علي التنبيه والإخبار، أي إذا اختلفتم في الطريق فاعلموا أن حكمه عند الشارع كذا فأذعنوا له. وذلك أن الجزاء مسبب علي الشرط. وهاهنا الجعل والقضاء مقدم علي الاختلاف، فوجب التأويل بالإخبار. وإلي هذا أشار الشيخ محيي الدين بقوله: وإن اختلفوا في قدره جعل سبعة أذرع، هذا مراد الحديث. الفصل الثاني: الحديث الأول عن سعيد: قوله: ((قمن أن لا يبارك)) ((مظ)): ((قمن)) أي حقيق، يعني بيع الأراضي والدور وصرف ثمنها إلي المنقولات غير مستحب؛ لأنها كثيرة المنافع قلية الآفة

2967 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجار أحق بشفعته، ينتظر لها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدرامي. [2967] 2968 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء)) رواه الترمذي، قال: [2968] 2969 - وقد روي عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهو أصح. [2969] ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يسرقها سارق، ولا يحلقها غارة بخلاف المنقولات، فالأولي أن لا تباع، وإن باعهما فالأولي صرف ثمنهما إلي أرض أو دار. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الجار أحق بشفعته)) ((حس)): هذا حديث لم يروه أحد غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وتكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث. وقال الشافعي: نخاف أن لا يكون محفوظاً. وقال الشيخ: احتج من يثبت الشفعة في المقسوم إذا كان الطريق مشتركاً بهذا، وبقوله: ((فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق)). والمراد منه الطريق في المشاع؛ فإن الطريق فيه يكون شائعاً بين الشركاء، وكل واحد يدخل من حيث يشاء، فإذا قسم العقار بينهم منع كل واحد منهم أن يتطرق شيئاً من حق صاحبه، فتصير الطريق في القسمة مصروفة. ((قض)): هذا الحديث وإن سلم عن الطعن فلا يعارض ما ذكرنا فضلا أن يرجح، ومع هذا فهؤلاء لا يقولون بما هو مقتضى هذا الحديث كما سبق. قوله: ((وإن كان غائباً)) بإثبات الواو في الترمذي وأبي داود وابن ماجه والدارمي وجامع الأصول وشرح السنة، وبإسقاطها في نسخ المصابيح والأول أوجه. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الشريك شفيع)) مضى بحثه في الحديث الثاني من الفصل الأول.

(13) باب المساقاة والمزارعة

2970 - وعن عبد الله بن حبيش، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار)). رواه أبو داود وقال: هذا الحديث مختصر يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم غشماً وظلماً بغير حق يكو له فيها، صوب الله رأسه في النار. [2970] الفصل الثالث 2971 – (11) عن عثمان بن عفان [رضي الله عنه]، قال: إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها. ولا شفعة في بئر ولا فحل النخل. رواه مالك. [2971] (13) باب المساقاة والمزارعة الفصل الأول 2972 - عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلي يهود خيبر نخل ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((صوب الله)) أي أنكسه. والغشم الظلم والحرب غشوم؛ لأنها تنال غير الجإني، وجميع بن الظلم والغشم تأكيداً، وقوله: ((يكون له فيها)) صفة ((حق)) والمراد بالحق النفع؛ لأنه ربما يظلم أحد ظلما ويكون له فيه نفع، وهذا بخلافه كما قال تعالي: {يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ}. الفصل الثالث الحديث الأول عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((لا شفعة في بئر ولا فحل النخل)) لما سبق أن الشفعة لا تثبت إلا في عقار محتمل للقسمة. ((نه)): ((فحل النخل)) ذكرها تلقح منه النخل، وإنما لم تثبت فيه الشفعة؛ لأن القوم كانت لهم نخيل في حائط فيتوارثونها ويقتسمونها. ولهم فحل يلحقون منه نخيلهم، فإذا باع أحدهم نصيبه المقسوم من ذلك الحائط بحقوقه من الفحال وغيره، فلا شفعة للشركاء في الفحال لأنه لا يمكن قسمته. باب المساقاة والمزارعة الفصل الأول: المساقاة: هي أن يعامل إنسان علي شجرة ليتعهدها بالسقي والتربية، علي أن ما رزق الله تعالي من الثمرة يكون بينهما بجزء معين، وكذا المرزعة في الأراضي.

خيبر وأرضها علي أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها. رواه مسلم. وفي رواية البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((دفع إلي يهود خيبر)) ((قض)): لم أر أحداً من أهل العلم منع عن المساقاة مطلقاً غير أبي حنيفة. والدليل علي جوازها في الجملة أنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم وشاع منه، حتى تواتر أو كاد أن يتواتر أنه ساقى أهل خيبر بنخليها علي الشطر، كما دل عليه الحديث. وتأويله بأنه صلى الله عليه وسلم إنما استعملهم في ذلك بدل الجزية، وأن الشطر الذي دفع إليهم كان منحة منه صلى الله عليه وسلم، ومعونة لهم علي ما كلفهم به من العمل، بعيد كما ترى. وأما المزارعة فهي أن تسلم الأرض إلي زارع ليزرعه ببذر المالك، علي أن يكو الربع بينهما مساهمة، وهي عندنا جائزة تبعاً للمساقاة إذا كان البياض خلال النخيل بحيث لا يمكن، أو يعسر إفرادها بالعمل كما في خيبر، لهذا الحديث. ولا يجوز إفرادها لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عنها. ومنع عنها مالك وأبو حنيفة مطلقاً. وذهب أكثر أهل العلم من الصحابة كعمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وسعد بن مالك رضي الله عنهم، ومن التابعين كابن المسيب والقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين وطاووس، وغيرهم كالزهري وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلي وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد بن الحسن إلي جوازها مطلقاً؛ لظاهر هذا الحديث. ويؤيده القياس علي المساقاة والمضاربة. ((مح)): في الأحاديث جواز المساقاة، وعليه جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء إلا أبا حنيفة، وتأول الأحاديث بأن خيبر فتحت عنوة، فكان أهلها عبيداً له صلى الله عليه وسلم فما أخذه فهو له. واحتج الجمهور بقوله: ((علي أن يعتملوها من أموالهم)) وبقوله: ((أقركم ما أقركم الله عليه)) وهذا صريح في أنهم لم يكونوا عبيداً. وقد اختلفوا في خيبر هل فتحت عنوة أو صلحاً أو بجلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحاً وبعضها عنوة وبعضها بجلاء أهلها وبعضها عنوة، وهذا أصح الأقوال. وقال: ذهب الشافعي وموافقوه إلي جواز المزارعة إذا كانت تبعاً للمساقاة، ولا يجوز إذا كانت منفردة كما جرى في خيبر. وقال مالك: لا تجوز المزارعة منفردة ولا تبعاً إلا ما كان من الأرض بين الشجر.

2973 - وعنه، قال: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى زعم رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عنها فتركناها من أجل ذلك. رواه مسلم. 2974 - وعن حنظلة بن قيس، عن رافع بن خديج، قال: أخبرني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض علي عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت علي الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف هي بالدراهم والدنإنير؟ فقال: ليس بها بأس، وكأن الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وذهب أبو حنيفة وزفر إلي أن المزارعة والمساقاة فاسدتان مطلقاً، وذهب أكثرهم إلي جواز المساقاة والمزارعة مجتمعتين ومنفردتين. قال الشيخ محيي الدين: هذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر، ولا تقبل دعوى كون المزارعة في خيبر إنما جاءت تبعاً للمساقاة، بل جاءت مستقلة، ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة، وقياساً علي القراض فإنه جائز بالإجماع، وهو كالمزارعة في كل شيء؛ ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون علي العمل بالمزارعة. وأما الأحاديث السابقة في النهي عن المخابرة فأجيب عنها، وأنها محمولة علي ما إذا اشترطا لكل واحد قطعة معينة من الأرض. وقد صنف ابن خزيمة كتاباً في جواز المزارعة واستقصى فيه وأجاد، وأجاب عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. انتهي كلامه. والظاهر من كلام محيي السنة في شرح السنة أنه مائل إلي جواز المزارعة مطلقاً. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((كنا نخابر)) ((حس)): لا تجوز المخابرة لأنها ليست في معنى المساقاة؛ لأن البذر في المخابرة يكون من جهة العامل، فالمزارعة اكتراء العامل ببعض ما يخرج من الأرض، والمخابرة اكتراء العامل الأرض ببعض ما يخرج منها. وذهب الأكثرون إلي جواز المزارعة كما سبق. الحديث الثالث عن حنظلة: قوله: ((علي الأربعاء)) الأربعاء جمع ربيع وهو النهر الصغير الذي يسقي المزارع، يقال: ربيع وأربعاء وأربعة كنصيب وأنصباء وأنصبه. ((قض)): معنى الحديث أنهم كانوا يكرون الأرض علي أن يزرعه العامل ببذره، ويكون ما ينبت علي أطراف الجداول والسواقي للمكري أجرة لأرضه، وما عدا ذلك يكون للمكتري في مقابلة بذره وعمله، أو ما ينبت في هذه القطعة بعينها فهو للمكري، وما ينبت في غيرها فهو للمكتري، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعل المقتضى للنهي ما فيه من الخطر والغرر؛ إذا ربما تنبت القطعة المسماة

2975 - وعن رافع بن خديج، قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي، وهذه لك. فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. 2976 - وعن عمرو، قال: قلت لطاووس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عنه. قال: أي عمرو! إني أعطيهم وأعينهم، وإن أعلمهم أخبرني ـــــــــــــــــــــــــــــ لأحدهما دون الأخرى، فيفوز صاحبها بكل ما حصل ويضيع حق الآخر بالكلية، فيكون كما لو شرط ثمار بعض النخيل لنفسه وبعضها للعامل في المساقاة. وإلي هذا أشير بما ذكر في آخر الحديث، وهو قوله: ((وكأن الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه؛ لما فيه من المخاطرة))، والظاهر من سياق الكلام أنه من كلام رافع. ((تو)): هذه زيادة علي حديث رافع بن خديج أدرجت في حديثه؛ وعلي هذا السياق رواه البخاري، ولم يتبين لي أنها من قول بعض الرواة أم من قول البخاري. أقول: اسم ((كأن)) الموصول مع الصلة، وخبره الموصول الثاني، والواو حال من خبر ((ليس))، فإن رافعاً لما استفتى عن الاكتراء بالدراهم ولم يكن له نص فيه، ولم ير العلة فيها جامعة ليقاس بها بين بقوله: وكان الذي نهي إلي آخره، ولو ذهب إلي أنه من كلام البخاري لم يرتبط؛ ومن ثمة قال القاضي: والظاهر من سياق الكلام أنه من كلام رافع، ويؤيده الحديث الثاني: ((فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم)). قوله: ((ذوو الفهم)) الرواية بواو واحدة كذا في نسخ المصابيح. وقال الشيخ التوربشتي: ((ذوو الفهم)) ذوو بواوين أريد بها الجمع. أقول: والذي حمله علي ذلك قوله: لم يجيزوه. ويمكن أن يقال: إن ((ذو الفهم)) باعتبار الجنسية فيه عموم فيجوز جمع الضمير في ((لم يجيزوه)). الحديث الرابع عن رافع: قوله: ((حقلاًً)) المغرب: الحقل الزرع وقد أحقل إذا طلع رأسه وبنت، والمحاقلة بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: اشتراء الزرع بالحنطة. وقيل: المزارعة بالثلث والربع وغيرهما. وقيل: كراء الأرض بالحنطة. قوله: ((ذه)) إشارة إلي القطعة من الأرض، وهي من الأسماء المبهمة التي يشار بها إلي المؤنث، يقال: ذي وذه، والهاء ساكنة؛ لأنها للوقف، هذا قول رافع بياناً لعدم الجواز؛ لحصول المخاطرة المنهي عنها، يعني فربما تخرج هذه القطعة المستثناة، ولم يخرج سواها أو بالعكس، فيفوز صاحب هذه بكل ما حصل ويضيع حق الآخر بالكلية. الحديث الخامس عن عمرو: قوله: ((نهي عنه)) الضمير راجع إلي المخابرة علي تأويل الزرع

- يعني ابن عباس – أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه؛ ولكن قال: ((أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجاً معلوماً)) متفق عليه. 2977 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، فإن أبي فليمسك أرضه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في أرض غيره، وفي ((أعلمهم)) إلي ما يرجع إليه الضمير في ((يزعمون)) وهم جماعة ذهبوا إلي خلاف ما ذهب إليه طاووس من فعل المخابرة؛ ولذلك أتى بلفظ الزعم، و ((لو)) يجوز أن تكون امتناعية، وجوابها محذوف أي لكان خيراً، وأن تكون للتمني. ((تو)): أحاديث المزارعة التي أوردها المؤلف وما ثبت منها في كتب الحديث في ظواهرها تباين واختلاف، وجملة القول في الوجه الجامع بينها أن يقال: إن رافع بن خديج سمع أحاديث في النهي وعللها متنوعة، فنظم سائرها في سلك واحد؛ ولهذا مرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة يقول: حدثني عمومتي، وأخرى: أخبرني عماي. والعلة في بعض تلك الأحاديث أنهم كانوا يشترطون فيها شروطاً فاسدة، ويتعاملون علي أجرة غير معلومة فنهوا عنها، وفي البعض أنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض حتى أفضى بهم إلي التقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) وقد بين ذلك زيد بن ثابت في حديثه، وفي البعض أنه كره أن يأخذ المسلم خرجاً معلوماً من أخيه علي الأرض، ثم تمسك السماء قطرها أو تخلف ريعها، فيذهب ماله بغير شيء، فيتولد منه التنافر والبغضاء. وقد تبين لنا ذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ولكن قال .. الحديث إلي آخره. ومن حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها)) الحديث. وذلك من طريق المروءة والمواساة، وفي البعض أنه كره لهم الافتنان بالحراثة والحرص عليها والتفرغ لها، فتقعد بهم عن الجهاد في سبيل الله ويفوتهم الحظ علي الغنيمة والفيء، ويدل عليه حديث أبي أمامة. أقول: وعلي هذا المعنى يجب أن يحمل الاضطراب المروي في شرح السنة عن الإمام أحمد أنه قال: لما في حديث رافع بن خديج من الاضطراب، مرة يقول: سمعت رسول الله، ومرة يقول: حدثني عمومتي، لا علي الاضطراب المصطلح عند أهل الحديث؛ فإنه نوع من أنواع الضعف، وجل جناب الشيخين أن يوردا في كتابيهما من هذا النوع شيئاً. الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فليزرعها)) ((مظ)): يعني ينبغي أن يحصل للإنسان نفع من ماله، فمن كانت له أرض فليزرعها حتى يحصل له نفع منه، أو ليعطها أخاه ليحصل له ثواب، فإن لم يفعل هذين الشيئين فليمسك أرضه، وهذا توبيخ لمن له مال ولم

2978 - وعن أبي أمامة، ورأي سكة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل)) رواه البخاري. الفصل الثاني 2979 - عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته)) رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [2979] ـــــــــــــــــــــــــــــ يحصل له منه نفع. أقول: بل هو توبيخ علي العدول عن هذين الأمرين إلي الثالث من المخابرة والمزارعة ونحوهما. ((مح)): إن الشافعي رضي الله عنه وموافقيه جوزوا الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما، وتأولوا أحاديث النهي تأويلين، أحدهما: إجارتها بما يزرع علي الماذيانات والماذيانات – بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناة تحت، ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم تاء مثناة فوق – هي مسايل الماء. وقيل: ما ينبت علي حافتي المسيل والسواقي وهي معربة. الحديث السابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((ورأي سكة)) ((تو)): السكة الحديدة التي تحرث بها الأرض، وإنما جعل آلة الحرث مظنة للذل؛ لأن أصحابها يختارون ذلك، إما لجبن في النفس، أو قصور في الهمة، ثم إن أكثرهم ملزمون بالحقوق السلطإنية في أرض الخراج، ولو آثروا الجهاد لدرت عليهم الأرزاق، واتسعت عليهم المذاهب، وجبى لهم الأموال مكان ما يجبى عنهم. قيل: وقريب من المعنى قوله: ((العز في نواصي الخيل، والذل في أذناب البقر)). الفصل الثاني الحديث الأول عن رافع: قوله: ((وله نفقته)) ((مظ)): أي ما حصل من الزرع يكون لصاحب الأرض، وليس لصاحب البذر إلا بذره؛ وبهذا قال أحمد، وأما غيره فقال: ما حصل من الزرع فهو لصاحب البذر وعليه أجرة الأرض من يوم غضبها إلي يوم التفريغ. ((حس)): وهذا حديث ضعفه بعض أهل العلم، ويحكى عن أحمد أنه قال: زاد أبو إسحاق: ((بغير إذنهم))، ولم يذكر غيره هذا الحرف، وأبو إسحاق هو الذي رواه عن رافع بن خديج، وقال أحمد: إذا زرع الزرع فهو لصاحب الأرض وللزارع الأجرة.

(14) باب الإجارة

الفصل الثالث 2980 - عن قيس بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون علي الثلث والربع. وزارع علي، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين. وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس علي: إن جاء عمر بالبذر من عنده؛ فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر؛ فلهم كذا. رواه البخاري. (14) باب الإجارة الفصل الأول 2981 – * عن عبد الله بن مغفل، قال: زعم ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة، وقال: ((لا بأس بها)) رواه مسلم. 2982 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، فأعطى الحجام أجره واستعط. متفق عليه. الفصل الثالث الحديث الأول عن قيس: قوله: ((ما بالمدينة أهل بيت هجرة)) الحديث شرحه مضى في الحديث الأول من الباب، واختاره الشيخ محيي الدين وذكر الترجيح. وقوله: ((علي: إن جاء)) حال من فاعل عامل، والجملة الشرطية مجرورة المحل علي الحكاية، أي عاملهم بناء علي هذا الشرط. باب الإجارة المغرب: الإجارة تمليك المنافع بعوض شرعاً، وفي اللغة اسم للأجرة وهي كراء الأجير، وقد آجره إذا أعطاه أجرته. الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((نهي عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة)) التعريف فيهما للعهد، فالمعني بالمزارعة ما علم عدم جوازه، وبالمؤاجرة عكس ذلك. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((واستعط)) السعوط – بالفتح – الدواء

2983 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)). فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعى علي قراريط لأهل مكة)) رواه البخاري. 2984 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالي: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ يصب في الأنف، يقال: أسعطت الرجل واستعط هو بنفسه، ولا يقال: استعط مبنياً علي المفعول، وفيه صحة الاستئجار وجواز المداواة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أرعى علي قراريط)) ((تو)): القيراط قد ذكر في باب الجنائز، وإنما ذكر هنا القراريط لأنه أراد بها قسط الشهر من أجرة الرعية، والظاهر أن ذلك لم يكن يبلغ الدينار، أو لم ير أن يذكر مقدارها استهانة بالحظوظ العاجلة؛ أو لأنه نسى الكمية فيها، وعلي الأحوال فإنه قال هذا القول تواضعاً لله تعالي، وتصريحاً بمنته عليه. ((مظ)): علة رعيهم الغنم، أنهم إذا خالطوا الغنم زاد لهم الحلم والشفقة، فإنهم إذا صبروا علي مشقة الرعي، ودفعوا عنها السبع الضارية واليد الخاطفة، وعلموا اختلاف طباعها. وعلي جمعها بعد تفرقها في المرعى والمشرب، وعرفوا ضعفها واحتياجها إلي النقل من مرعى إلي مرعى ومن مسرح إلي مراح، وعرفوا أن مخالطة الناس مع اختلاف أصنافهم وطباعهم، وقلة عقول بعضهم ورزانتها فصبروا علي لحوق المشقة من الأمة إليهم، فلا تنفر طباعهم ولا تمل نفوسهم من دعوتهم إلي الدين؛ لاعتيادهم الضرر والمشقة، وعلي هذا شأن السلطان مع الرعية. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا خصمهم)) ((قض)): الخصم مصدر خصمته أخصمه، نعت به للمبالغة. كالعدل والصوم. وقوله: ((أعطى بي)) أي عهد باسمي وحلف بي، أو أعطى الأمان باسمي أو بما شرعته من ديني. وقوله: ((فاستوفي منه)) أي عمله وما استأجره لأجله. أقول: قوله: ((أعطى)) يقتضى مفعولا به، وقوله: ((غدر)) قرينة لخصوصيته بالعهد، وقوله: ((بي)) حال أي موثقاً بي؛ لأن العهد مما يوثق بالإيمان بالله، قال الله تعالي: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ

2985 - وعن ابن عباس: أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء، فيهم لديغ – أو سليم – فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء لديغاً – أو سليماً – فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب علي شاء فبرئ، فجاء بالشاء إلي أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت علي كتاب الله أجراً؛ حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله! أخذ علي كتاب الله أجراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)). رواه البخاري. وفي رواية: ((أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهماً)). ـــــــــــــــــــــــــــــ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}. وقوله: ((فأكل ثمنه))، وكذا قوله: ((فاستوفي منه)) أي فاستوفي منه ما أراد من العمل لم يؤت بهما إلا لمزيد التوبيخ والتقريع وتهجيناً للأمر. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((مروا بماء)) ((قض)): يريد بالماء أهل الماء يعني الحي النازلين عليه، والضمير للمضاف المحذوف، واللديغ الملدوغ، وأكثر ما يستعمل فيمن لدغه العقرب، والسليم فيمن لسعته الحية تفاؤلاً. والمقصود من الحديث في هذا الباب، أنهم قرأوا الفاتحة علي شاء، فإنه يدل علي جواز الاستئجار لقراءة القرآن والرقية به، وجواز أخذ الأجرة عليه، ومنه يعلم إباحة أجرة الطبيب والمعالج. وقوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) دليل علي جواز أخذ الأجرة علي تعليم القرآن. وذهب قوم إلي تحريمه، وهو قول الزهري وأبي حنيفة وإسحاق، واحتجوا بما روي عن عبادة بن الصامت أنه قال: قلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، فأرمى عليها في سبيل الله؟ قال: ((إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها)) وأول بأنه كان متبرعاً بالتعليم ناوياً للاحتساب فيه، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضيع أجره ويبطل حسنته بما يأخذه هدية فحذره منه، وذلك لا يمنع أن يقصد به الأجرة ابتداء ويشترط عليه، كما أن من مرد ضالة إنسان احتساباً، لم يكن له أن يأخذ عليه أجراً، ولو شرط عليه أول الأمر أجراً جاز. قوله: ((حتى قدموا المدينة)) متعلق بقوله: ((قالوا: أخذت علي كتاب الله)) معناه لم يزالوا ينكرون عليه في الطريق حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، فالغاية أيضاً داخلة في المغيا؛ كما في مسألة السمكة. ((حس)): في الحديث دليل علي جواز الرقية بالقرآن وبذكر الله، وأخذ الأجرة عليه؛ لأن القراءة والنفث من الأفعال المباحة، وبه تمسك من رخص بيع

الفصل الثاني 2986 - عن خارجة بن الصلت، عن عمه، قال: أقبلنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتينا علي حي من العرب. فقالوا: إنا أنبئنا أنكم قد جئتم من عند هذا الرجل بخير، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فإن عندنا معتوهاً في القيود. فقلنا: نعم. فجاءوا بمعتوه في القيود، فقرأت عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بزاقي ثم أتفل. قال: فكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جعلاً، فقلت: لا، حتى أسال النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: ((كل، فلعمري؛ لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق)). رواه أحمد وأبو داود. [2986] ـــــــــــــــــــــــــــــ المصاحف وشراءها، وأخذ الأجرة علي كتابتها، وبه قال الحسن والشعبي وعكرمة، وإليه ذهب سفيان ومالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة. قوله: ((واضربوا لي معكم)) أي اجعلوا لي نصيباً منها، ((مح)): هو من باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق، وإلا فجميع الشاة ملك للراقي، قاله تطيباً لقلوبهم، ومبالغة في تعريفهم أنه حلال مباح لا شبهة فيه. الفصل الثاني الحديث الأول عن خارجة قوله: ((معتوها)) ((المغرب)): هو الناقص العقل. وقيل: المدهوش من غير جنون، وقد عته عتهاً وعتاهة وعتاهية. ((نه)): هو المجنون المصاب بعقله. قوله: ((فكأنما أنشط)) ((تو)): أي أحل، يقال: نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته، وأنشطته أي حللته، وهذا القول أعنى ((أنشط من عقال)) يستعملونه في خلاص الموثوق وزوال المكروه في أدنى ساعة. أقول: الكلام فيه التشبيه، شبه سرعة برئه من الجنون بواسطة قراءة الفاتحة، وتفله بجمل معقول حل من عقاله، فتراه سريع النهوض. قوله: ((فلعمري)) ((مظ)): هو – بفتح العين وضمها – أي حياتي، واللام فيه للتأكيد، ولا يستعمل في القسم إلا مفتوح العين، واللام في ((لمن أكل)) جواب القسم، يعني من الناس من يرقي رقية باطل ويأخذ عليها عوضاً، أما أنت فقد رقيت رقية حق. فإن قيل: كيف أقسم بغير اسم الله وصفاته؟ قلنا: ليس المراد به القسم، بل جرى هذا اللفظ في كلامه علي رسمهم. أقول: لعله صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً بهذا الإقسام، وأنه من خصائصه؛ لقوله تعالي: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ

2987 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) رواه ابن ماجه. [2987] 2988 - وعن الحسين بن علي، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للسائل حق وإن جاء علي فرس)) رواه أحمد، وأبو داود. وفي ((المصابيح)): مرسل. [2988] ـــــــــــــــــــــــــــــ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} قيل: أقسم الله تعالي بحياته، وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له، و ((من)) في ((لمن أكل)) شرطية واللام موطئة للقسم، والثانية جواب للقسم ساد مسد الجزاء، أي لعمري لئن كان ناس يأكلون برقية باطل؛ لإنكم أكلتم برقية حق، والفاء في قوله: ((فقال)) عطف علي محذوف، أي ذهبت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر وسألته، فقال: ((كل)) وإنما أتى بالماضي في قوله: ((أكلت)) بعد قوله: ((كل)) دلالة علي استحقاقه له، وأنه حق ثابت وأجرة صحيحة. الحديث الثاني والثالث عن الحسين بن علي رضي الله عنهما: قوله: ((وإن جاء علي فرس)) ((قض)): لا ترد السائل وإن جاءك علي حال يدل علي غناه، وأحسب أنه لو لم يكن له خلة دعته إلي السؤال لما بذل لك وجهه. وقيل؛ معناه لا ترده وإن جاءك علي فرس يلتمس منك طعامه، وعلف دابته. قوله: و ((في المصابيح مرسل)) ((تو)): وصف هذا الحديث في المصابيح بالإرسال، فلا أدري أثبت ذلك في الأصل أم هو شيء ألحق به، وقد وجدته مسنداً إلي ابن عمر رضي الله عنه، وقد أورد بقية الحديث بمعناه أبو داود في كتابه بإسناد له عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للسائل حق)). أقول: الخبط لازم؛ لأن كلا من الحديثين متصل مستقل وقد جعلهما في المصابيح حديثاً واحداً مرسلاً، وعلي استقلالهما لا يدخل الحديث الثاني في الباب، ويمكن أن يقال علي طريق التنزل وثبوت الإرسال من صاحب المصابيح أن يروى علي طريق آخر مرسلاً علي أنهما حديث واحد.

الفصل الثالث 2989 – عن عتبة بن المنذر، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ: (طسم) حتى بلغ قصة موسى، قال: ((إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثمان سنين، أو عشراً علي عفة فرجه وطعام بطنه)) رواه أحمد، وابن ماجه. [2989] 2990 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً، ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، فأرمي عليها في سبيل الله؟ قال: ((إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [2990] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عتبة: قوله: ((عفة فرجه)) كنى به عن النكاح تأديباً، وأنه مما ينبغي أن يعد مالا لاكتساب العفة به، وفيه خلاف، قال أصحاب أبي حنيفة: لا يجوز تزويج امرأة بأن يخدمها سنة، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، وقالوا: لعل ذلك كان جائزاً في تلك الشريعة. ويجوز أن يكون المهر شيئاً آخر، وإنما أراد أن يكون راعى غنمة هذه المدة. وأما الشافعي فقد جوز التزوج علي الإجارة لبعض الأعمال والخدمة، إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمراً معلوماً. الحديث الثاني عن عبادة: قوله: ((وليست بمال)) حال، ولا يجوز أن يكون من ((قوساً))؛ لأنها نكرة صرفة فيكون حالا من فاعل ((أهدى))، أو من ضمير المتكلم، يريد أن القوس لم يعهد في المتعارف أن تعد من الأجرة، أو ليست بمال أقتنيه للبيع، بل هي عدة أرمي عليها في سبيل الله، ووجهه أن عبادة لم ير أخذ الأجرة لتعليم القرآن فاستفتى، أي هذا الذي أفعله أهو من أخذ الأجرة لأنتهي عنه، أو أنه مما لا بأس به فآخذه؟. فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليس من الأجرة في شيء لتأخذه حقا لك، بل هو مما يبطل إخلاصك الذي نويته في التعليم فأنته عنه، وقد سبق تمام تقريره في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وجوابه صلى الله عليه وسلم نوع من الأسلوب الحكيم؛ لأنه تحليل ما حرمه عبادة، وتحريم ما حلله.

(15) باب إحياء الموات والشرب

(15) باب إحياء الموات والشرب الفصل الأول 2991 - عن عائشة [رضي الله عنها]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من عمر أرضاً ليست لأحد؛ فهو أحق)). قال عروة: قضى به عمر في خلافته. رواه البخاري. 2992 - وعن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ورسوله)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب إحياء الموات والشرب المغرب: الموات الأرض الخراب، وخلافه العامر، وعن الطحاوي: هو ما ليس بملك لأحد، ولا هي من مرافق البلد، وكانت خارجة البلد سواء قربت منه أو بعدت. والشرب بالكسر النصيب من الماء، وفي الشريعة عبارة عن نوبة الانتفاع بالماء سقياً للمزارع أو الدواب. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من عمر)) ((تو)): وفي بعض نسخ المصابيح ((أعمر)) بزيادة الألف وليس بشيء. ((قض)): وقد زيف ما في المصابيح بأن أعمرت الأرض معناه وجدتها عامرة، وما جاء بمعنى عمر، وجوابه أنه قد جاء أعمر الله بك منزلك، بمعنى عمر، وذلك كاف في جواز استعمال أعمرت الأرض بمعنى عمرتها؛ إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة، وفي الحقائق أطرادها، ((شف)): ليس كما قال، فإن الجوهري بعد أن ذكر أعمر الله بك منزلك، وعمر الله بك، ذكر أنه لا يقال: أعمر الرجل منزله بالألف راويا عن أبي زيد. ((قض)): منطوق الحديث يدل علي أن العمارة كافية في التمليك لا تفتقر إلي إذن السلطان، ومفهومه دليل علي أن مجرد التحجر والإعلام لا يملك بل لابد من العمارة، وهي تختلف باختلاف المقاصد. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا حمى إلا الله)) ((قض)): كانت رؤساء الأحياء في الجاهلية يحمون المكان الخصيب لخيلهم وإبلهم وسائر مواشيهم، فأبطله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يحمى إلا لله ولرسوله، ((حس)): كان ذلك جائزاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخاصة نفسه، لكنه لم يفعله، وإنما حمى البقيع لمصالح المسلمين، وللخيل المعدة في سبيل الله. قال الشافعي: وإنما لم يجز في بلد لم يكن واسعاً فيضيق علي أهل المواشي، ولا يجوز لأحد من الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم أن يحمي لخاصة نفسه. واختلفوا في أنه هل يحمي للمصالح؟. منهم من لم يجوز للحديث، ومنهم من جوزه علي نحو ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصالح المسلمين بحيث لا يتبين ضرره.

2993 - وعن عروة، قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج من الحرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اسق يا زبير! ثم أرسل الماء إلي جارك)). فقال الأنصاري: أن كل ابن عمتك؟ فتلون وجهه، ثم قال: ((اسق يا زبير! ثم احبس الماء حتى يرجع إلي الجدر، ثم أرسل الماء إلي جارك)). فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عروة: قوله: ((في شراج من الحرة)) ((مح)): هو – بكسر الشين المعجمة وبالجيم – مسايل الماء، واحدها شرجة. والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود. و ((أن كان ابن عمتك)) بفتح الهمزة. ((قض)): وهو مقدر بأن أو لأن، وحرف الجر يحذف معها للتخفيف كثيراً، فإن ((أن)) فيها مع صلتها طولا. ومعناه: هذا التقديم والترجيح، لأنه ابن عمتك أو بسببه، نحوه قوله تعالي: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ} أي لا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال. ولهذا المقال نسب الرجل إلي النفاق. ((تو)): وقد اجترأ جمع من المفسرين بنسبة الرجل تارة إلي النفاق، وأخرى إلي اليهودية، وكلا القولين زائغ عن الحق؛ إذ قد صح أنه كان أنصارياً، ولم يكن الأنصار من جملة اليهود، ولو كان مغموصا عليه في دينه لم يصفوه بهذا الوصف، فإنه وصف مدح، والأنصار وإن وجد فيهم من يرمي بالنفاق، فإن القرن الأول والسلف بعدهم تحرجوا واحترزوا أن يطلقوا علي من ذكر بالنفاق واشتهر به الأنصاري، والأولي بالشحيح بدينه أن يقول: هذا قول أزله الشيطان فيه بتمكنه عند الغضب، وغير مستبدع من الصفات البشرية الابتلاء بأمثال ذلك. ((مح)): قال القاضي عياض: حكي الداودي أن هذا الرجل كان منافقاً. وقوله في الحديث: ((إنه أنصاري)) لا يخالف هذا؛ لأن يكون من قبيلتهم لا من الأنصار المسلمين. وأما قوله في آخر الحديث: ((فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية. فلهذا قالت طائفة في سبب نزولها قال الشيخ محيي الدين: قالوا: لو صدر مثل هذا الكلام من إنسان كان كافراً جرت علي قائله أحكام المرتدين من القتل. وأجابوا إنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويدفع بالتي هي أحسن، ويصبر علي أذى المنافقين، ويقول: ((لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)). قوله: ((تلون وجهه)) أي تغير من الغضب لانتهاك النبوة وقبح كلام هذا الإنسان، والجدر – بفتح الجيم وكسرها، وبالدال المهملة – الجدار، والمراد بالجدر أصل الحائط، وقدره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبلغ كعب رجل الإنسان.

2994 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا فضل الماء، لتمنعوا به فضل الكلأ)) متفق عليه. 2995 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف علي سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف علي يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء. فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ماء لم تعمل يداك)) متفق عليه. وذكر حديث جابر في ((باب المنهي عنها من البيوع)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): قوله صلى الله عليه وسلم أولا ((اسق يا زبير ثم أرسل إلي جارك)) كان أمراً للزبير بالمعروف، وأخذاً بالمسامحة وحسن الجوار بترك بعض حقه، دون أن يكون حكما منه، فلما رأي الأنصاري يجهل موضع حقه أمر صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء تمام حقه. وفيه دليل علي أنه يجوز العفو عن التعزير، حيث لم يعزر الأنصاري الذي تكلم بما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان قوله الآخر عقوبة في ماله، وكانت العقوبة إذ ذاك يقع بعضها في الأموال، والأول أصح. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم حكم علي الأنصاري في حال غضبه مع نهيه الحاكم أن يحكم وهو غضبان. وذلك لأنه كان معصوماً من أن يقول في السخط والرضا إلا حقا. وفي الحديث أن مياه الأودية والعيون التي لا تملك منابعها ومجاريها علي الإباحة، والناس فيها شرع وسواء، وأن من سبق إلي شيء منها كان أحق به من غيره، وأن أهل الشرب الأعلي مقدمون علي من أسفل منهم، لسبقهم إليه، وليس له حبسه ممن هو أسفل منه بعد ما أخذ منه حاجته. وقوله: ((فاستوعى)) أي استوفاه، مأخوذ من الوعاء الذي تجمع فيه الأشياء كأنه جمعه في وعائه. قوله: ((حين أحفظه)) ((تو)): أي أغضبه، يقال: أحفظته فاحتفظ أي أغضبته فغضب، والحفيظة الغضب والحمية، وكذلك الحفظة بالكسر. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تمنعوا)) مضى شرحه في الفصل الأول من الباب المنهي عنه في البيوع. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لقد أعطى بها أكثر مما أعطى)) كلا الفعلين علي بناء المفعول، هذا معنى ما حلف به الرجل، ولو حكى قوله لقيل: لقد أعطيت بها أكثر مما أعطيته، علي أن الأول بناء للمفعول والثاني للفاعل، أي طلب مني هذا المتاع قبيل هذا بأزيد مما طلبته. وقوله: ((بعد العصر)) إنما خص به لأن الإيمان المغلظة تقع فيه. وقوله: ((لم تعمل يداك)) صفة ((ماء)) والراجع محذوف أي فيه. ((مظ)) ((لم تعمل يداك)) أي خرج بقدرتي لا بسعيك، ومجاز قوله: ((لا يكلمهم الله)) سبق بيانه.

الفصل الثاني 2996 – * عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أحاط حائطاً علي الأرض فهو له)) رواه أبو داود. [2996] 2997 - وعن أسماء بنت أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع للزبير نخيلاً. رواه أبو داود. [2997] 2998 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع للزبير حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: ((أعطوه من حيث بلغ السوط)) رواه أبو داود. [2998] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن الحسن: قوله: ((فهو له)) ((تو)): يستدل به من يرى التمليك بالتحجير. ولا يقوم به حجة؛ لأن التمليك إنما هو بالإحياء، وتحجير الأرض وإحاطته بالحائط ليس من الإحياء في شيء. ثم إن قوله: ((علي أرض)) مفتقر إلي البيان، إذ ليس كل أرض تملك بالإحياء. أقول: كفي به بيانا قوله: ((أحاط)) فإنه يدل علي أنه بنى حائطاً مانعاً محيطاً بما يتوسطه من الأشياء نحو أن يبنى حائطاً لحظيرة غنم أو زريبة للدواب. ((مح)): إذا أراد زريبة للدواب أو حظيرة يجفف فيها الثمار أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش اشترط التحويط، ولا يكفي نصب سعف أو أحجار من غير بناء. الحديث الثاني عن أسماء: قوله: ((نخيلاً)) ((خط)): النخل مال ظاهر العين حاضر النفع كالمعادن الظاهرة، فيشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي سهمه، وأن يكون من الموات الذي لم يملكه أحد، فيتملك بالإحياء. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((قوله)): ((أقطع للزبير)) ((قض)): الإقطاع تعيين قطعة من الأرض لغيره، يقال أقطعته قطيعة أي طائفة من أرض الخراج، و ((الحضر)) العدو، يقال: أحضر الفرس إحضاراً إذا عدا، ونصب ((حضر)) علي حذف المضاف، أي قدر ما يعدو عدوة واحدة. ((مح)): في هذا دليل لجواز لجواز اقتطاع الإمام. والأرض المملوكة لبيت المال لا يملكها أحد إلا بإقطاع الإمام، ثم تارة يقطع رقبتها ويملكها الإنسان بما يرى فيه مصلحة، فيجوز تمليكها كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنإنير وغيرها، وتارة يقطعها منفعتها فيستحق

2999 - وعن علقمة بن وائل، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضر موت، قال: فأرسل معي معاوية، قال: ((أعطها إياه)) رواه الترمذي، والدارمي. [2999] 3000 - وعن أبيض بن حمال المأربي: أنه وفد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطعه الملح الذي بمأرب، فأقطعه إياه، فلما ولي، قال رجل: يا رسول الله! إنما أقطعت له الماء العد قال: فرجعه منه. قال: وسأله: ماذا يحمي من الأراك؟ قال: ((ما لم تنله أخفاف الإبل)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [3000] ـــــــــــــــــــــــــــــ الانتفاع بها مدة الإقطاع. وأما الموات فيجوز لكل أحد إحياؤه، ولا يفتقر إلي إذن الإمام. هذا مذهب مالك والشافعي والجمهور. ((حس)): الإقطاع نوعان بحسب محله: إقطاع تملك وهو الذي يملك فيه المحل بالإحياء كما مر، وإقطاع إرفاق: وهو الذي لا يمكن تملك ذلك المحل بحال، كإقطاع الإمام مقعداً من مقاعد السوق أحداً ليقعد للمعاملة ونحوها، وكان إقطاع الزبير من القسم الأول. الحديث الرابع والخامس عن أبيض: قوله: ((فاستقطعه)) ((قض)): ((المأرب)) بالهمز موضع باليمن، نسب إليه أبيض لنزوله به، ويقال: إن أزدى، وكان اسمه أسود، فبدل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، وهذا الموضع مملحة يقال له ملح سبأ. ((فاستقطعه)) أي سأله أن يقطعه إياه. فأسعف إلي ملتمسه ظناً بأن القطيعة معدن يحصل منه الملح بعمل وكد، ثم لما تبين له أنه مثل الماء العد أي الدائم الذي لا ينقطع – والعد المهيأ – رجع فيه. ومن ذلك علم أن إقطاع المعادن إنما يجوز إذا كانت باطنة لا ينال منها شيء إلا بتعب ومؤنة. وما كانت ظاهرة يحصل المقصود منها من غير كد وصنعة لا يجوز إقطاعها بل الناس فيها شرع، كالكلأ ومياه الأودية، وأن الحاكم إذا حكم ثم ظهر أن الحق في خلافه ينقض حكمه ويرجع عنه، والرجل الذي قال: ((إنما أقطعت له الماء العد)) هو الأقرع بن حابس التميمي. وقوله: ((ماذا يحمي من الأراك؟)) علي البناء للمفعول، وإسناده إلي ما استكن فيه من الضمير العائد إلي ((ذا)). وقوله: ((ما لم تنله أخفاف الإبل)) معناه ما كان بمعزل من المراعي والعمارات. وقيل: يحتمل أن يكون المراد به أنه لا يحمي منه شيء؛ لأنه لا يحمي ما تناله الأخفاف، ولا شيء منها إلا وتناله الأخفاف. ((مظ)): أراد بالحمى هنا الإحياء لا الحمى؛ لما تقرر أن الحمى لا يجوز لأحد أن يخصه. وفيه دليل علي أن الإحياء لا يجوز بقرب العمارة لاحتياج أهل البلد إليه لمرعى مواشيهم، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما لم تنله أخفاف الإبل)) أي ليكن الإحياء في موضع بعيد. ((فا)): قيل:

3001 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [3001] 3002 - وعن أسمر بن مضرس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته. فقال: ((من سبق إلي ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له)) رواه أبو داود. [3002] 3003 - وعن طاووس، مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيى مواتاً من الأرض فهو له، وعادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني)) رواه الشافعي. [3003] 3004 - وروي في ((شرح السنة)): أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لعبد الله بن مسعود ـــــــــــــــــــــــــــــ الأخفاف مسان الإبل. قال الأصمعي: الخف الجمل المسن، والمعنى أن ما قرب من المرعى لا يحمى، بل يترك لمسان الإبل؛ وما في معناها من الضعاف التي لا تقوى علي الإمعان في طلب المرعى. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في ثلاث)) ((قض)): لما كانت الأسماء الثلاثة في معنى الجمع أنثها بهذا الاعتبار وقال: ((في ثلاث)) والمراد بالماء المياه التي لم تحدث باستنباط أحد وسعيه، كماء القني والآبار ولم يحرز في إناء أو بركة أو جدول مأخوذ من النهر. وبالكلأ ما ينبت في الموات، والمراد من الاشتراك في النار، أنه لا يمنع من الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها، لكن للمستوقد أن يمنع أخذ جذوة منها، لأنه ينقصها ويؤدي إلي إطفائها. وقيل: المراد بالنار الحجارة التي توري النار، لا يمنع أخذ شيء منها إذا كانت في موات. الحديث السابع والثامن عن طاووس: قوله: ((وعادي الأرض)) ((قض)): المراد بـ ((عادي الأرض)) الأبنية والضياع القديمة التي لا يعرف لها مالك، نسبت إلي عاد قوم هود عليه السلام لتقادم زمانهم للمبالغة. وقوله: ((لله ورسوله)) معناه أنه فيء يتصرف فيه الرسول علي ما يراه ويستصوبه. أقول: قوله: ((هي لكم مني)) بعد قوله: ((لله ورسوله)) إشعار بأن ذكر الله تميهد لذكر رسوله تعظيماً لشأنه وأن حكمه صلى الله عليه وسلم حكم الله، ولذلك عدل من ((لي)) إلي ((رسوله)) وفيه التفات. الحديث التاسع عن شرح السنة: قوله: ((الدور بالمدينة)) ((قض)): يريد بالدور المنازل والعرصة التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم له ليبني فيها، وقد جاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم أقطع

الدور بالمدينة، وهي بين ظهرإني عمارة الأنصار من المنازل والنخل، فقال بنو عبد بن زهرة: نكب عنا ابن أم عبد. فقال لهم رسول الله: ((فلم ابتعثني الله أذاً؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه)). 3005 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلي علي الأسفل. رواه أبو داود، وابن ماجه. [3005] ـــــــــــــــــــــــــــــ المهاجرين الدور بالمدينة، ويؤول بهذا. والعرب تسمى المنزل داراً وإن لم يبن فيه بعد. وقيل: معناه أنه أقطعها له عارية، وكذا إقطاعه صلى الله عليه وسلم لسائر المهاجرين دورهم وهو ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يورث دور المهاجرين نساءهم، وأن زينب زوجة ابن مسعود ورثته داره بالمدينة ولم يكن له دار سواها، والعارية لا تورث. وقوله: ((وهي بين ظهرإني عمارة الأنصار)) أي بينها ووسطها. وفيه دليل علي أن الموات المحفوفة بالعمارات يجوز إقطاعها للإحياء. وقوله: ((نكب عنا)) معناه أصرفه واعدل به عنا، قال تعالي: {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي عادلون عن القصد. وبنو عبد بن زهرة حي من قريش كانت منهم أم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((فلم ابتعثني الله إذا)) أي إنما بعثني الله لإقامة العدل والتسوية بين القوى والضعيف، فإذا كان قومي يذبون الضعيف عن حقه ويمنعونه فما الفائدة في ابتعاثي؟ وقوله: ((لا يقدس أمة)) أي لا يطهرها ولا يزكيها. الحديث العاشر عن عمرو: قوله: ((في السيل المهزور)) ((نه)): المهزور بتقديم الزاي المعجمة علي الراء غير المعجمة واد في بنى قريظة بالحجاز، فأما بتقديم الراء علي الزاي فموضع سوق المدينة، تصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم علي المسلمين، كذا في الفائق مع زيادة قوله: وأما مهزول – باللام – فواد إلي أصل جبل يثرب. ((تو)): هذا اللفظ في المصابيح وجدناه مصروفاً عن وجهه، ففي بعض النسخ ((في السيل المهزول)) وهو الأكثر، وفي بعضها ((في سيل المهزور)) بالإضافة، وكلاهما خطأ، وصوابه بغير ألف ولام فيهما بصيغة الإضافة إلي علم. ((قض)): لما كان ((المهزور)) علماً منقولاً من صفة مشتقة من هزره إذا [غمزه] جاز إدخال اللام فيه تارة وتجريده عنه أخرى، والمقصود من الحديث أن النهر الجاري بنفسه من غير عمل ومؤنة يسقي منه الأعلي إلي الكعبين ثم يرسله إلي من هو أسفل منه، نص عليه مطلقاً أو في صورة معينة وقع النزاع فيه ليقاس عليه أمثاله.

3006 - وعن سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة يدخل عليه، فيتأذى به، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليبيعه، فأبي، فطلب أن يناقله، فأبي، قال: ((فهبه له ولك كذا)) أمراً رغبة فيه، فأبي، فقال: ((أنت مضار)) فقال للأنصاري: ((اذهب فاقطع نخله)). رواه أبو داود. [3006] وذكر حديث جابر: ((من أحيى أرضاً)) في ((باب الغصب)) برواية سعيد بن زيد. وسنذكر حديث أبي صرمة: ((من ضار أضر الله به)) في ((باب ما ينهي من التهاجر)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن سمرة: قوله: ((عضد من نخل)) ((فا)): قالوا للطريقة من النخل عضد لأنها متناظرة في جهة، وروي عضيد قال الأصمعي: إذا صار للنخلة جذع تتناول منه فهي العضيد، والجمع عضدان. وقيل: هي الجبارة البالغة غاية الطول. ((تو)): لفظ الحديث يدل علي أنه كان فرد نخل لتعاقب الضمير بلفظ التذكير في قوله: ((ليبيعه، ويناقله، وفهبه له)). وأيضاً لو كانت طريقة من النخل لم يأمره بقطعها، لدخول الضرر عليه أكثر ما يدخل علي صاحبه من دخوله، وقد ذكر أن صوابه عضيد. ((قض)): إفراد الضمير فيها لإفراد اللفظ. ومعنى ((أن يناقله)) أن يبادله بنخيل من موضع آخر، ولعله إنما أمر الأنصاري بقطع نخله لما بين له أن سمرة يضاره، لما علم أن غرسها كان بالعارية. ((شف)): ((ولك كذا أمراً)) أي في الجنة. ((رغبة فيه)) أي في ذلك الأمر. قوله: ((أنت مضار)) ((مظ)): أي إذا لم تقبل هذه الأشياء فلست تريد إلا إضرار الناس، ومن يريد إضرار الناس جاز دفع ضرره، ودفع ضررك أن تقطع شجرك. أقول: ذكر الأهل والنادي دالان علي تضرر الأنصاري من مروره، وكذا تعدية ((طلب)) بـ ((إلي)) تشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنهي إليه طلب البيع شافعاً، وعلي هذا قوله: ((طلب أن يناقله)) وكذا قوله: ((أمراً رغبه فيه)) يدل علي أن الأمر في قوله: ((فهبه له)) كان أمراً علي طريق الشفاعة، فحق من يأبي من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا التشفيع أن يزجر ويوبخ، فقوله: ((أمراً)) نصب علي الاختصاص والتفسير لقوله: ((فهبه له)) يعني هو أمر علي سبيل الترغيب والاستشفاع، ويجوز أن يكون حالا من فاعل ((قال)) أي قال أمراً مرغباً فيه، وأن يكون نصباً علي المصدر؛ لأن الأمر فيه معنى القول أي قال قولاً مرغباً فيه. وهذه الوجوه جارية في قوله تعالي: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}. قيل: الأنصاري من بني النجار، وقيل: اسمه مالك بن قيس، وقيل: لبابة بن قيس، وقيل: مالك بن أسعد، وكان شاعراً.

(16) باب العطايا

الفصل الثالث 3007 - عن عائشة، أنها قالت: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: ((الماء والملح والنار)) قالت: قلت: يا رسول الله! هذا الماء قد عرفناه، فما بال الملح والنار؟ قال: ((يا حميراء! من أعطى ناراً؛ فكأنما تصدق بجميع ما أنضجت تلك النار، ومن أعطى ملحاً؛ فكأنما تصدق بجميع ما طيبت تلك الملح، ومن سقى مسلماً شربة من ماء حيث يوجد الماء؛ فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلماً شربة من ماء حيث لا يوجد الماء؛ فكأنما أحياها)). رواه ابن ماجه. [3007] (16) باب العطايا الفصل الأول 3008 - عن ابن عمر [رضي الله عنهما]، أن عمر أصاب أرضاً بخيبر، فأتى ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((قد عرفناه)) حال وعامله ما في هذا من معنى الإشارة، وفي صاحبها خلاف، قيل: المقدر في اسم الإشارة وهو المجرور، وقيل: الخبر يعني قد عرفنا حال الماء واحتياج الناس والدواب إليه وتضررها عن المنع، وليس كذلك أمر الملح والنار، فأجابها صلى الله عليه وسلم بما أجاب مبنياً علي الأسلوب الحكيم، أي دعى عنك هذا وانظري إلي من يفوت علي نفسه هذا الثواب الجزيل عند المنع من هذا الأمر الحقير الذي لا يؤبه به، ومن ثمة أنث ضمير الملح في قوله: ((طيبت)) ((وتلك)) مراداً بها القلة والنزرة والضمير في قوله: ((أحياها)) راجع إلي المسلم علي تأويل النفس أو النسمة، وهو من قوله تعالي: {ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وإنما أتى بالماء في الجواب علي أنه غير مسئول عنه رداً لها ولادعائها العرفان بشأنه، يعني إنك لست تعرفينه بهذا الوجه مفصلاً، ولهذا أخره أيضاً في الذكر. باب العطايا الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله ((أنفس)) ((مح)): أي وجود وقد نفس -

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح علي من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم غير متمول. قال ابن سيرين: غير متأثل مالاً. متفق عليه. 3009 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((العمري جائزة)) متفق عليه. 3010 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن العمري ميراث لأهلها)) رواه مسلم. 3011 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلي الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بضم الفاء – نفاسة، واسم هذا المال ((ثمغ)) – بالثاء المثلثة وسكون الميم والغين المعجمة -. و ((غير متأثل)) أي غير جامع، وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل فهو مؤثل، ومنه مجد مؤثل أي قديم، وأثلة الشيء أصله. وفيه دليل علي صحة أهل الوقف، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية، وقد أجمع المسلمون علي ذلك. وفيه أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، إنما ينتفع فيه بشرط الواقف. وفيه صحة شروط الواقف. وفيه فضيلة الوقف، وهي الصدقة الجارية، وفضيلة الإنفاق مما يجب، وفضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، وفضيلة مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير. وفيه أن خيبر فتحت عنوة، وأن الغانمين ملكوها واقتسموها، واستقرت أملاكهم علي حصصهم. وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم. ((حس)): فيه دليل علي أن من وقف شيئاً ولم ينصب له قيماً معيناً جاز، لأنه قال: ((لا جناح علي من وليها أن يأكل منها)) ولم يعين له قيما. فيه دليل علي أنه يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أباح الأكل لمن وليه وقد يليه الواقف؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال للذي ساق الهدى: ((اركبها)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين؟)) فاشتراها عمر رضي الله عنه، ووقف أنس داراً، وكان إذا قدمها نزلها. الحديث الثاني إلي آخر الفصل عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((العمرى جائزة)) ((مح)): العمرى قول القائل: أعمرتك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك أو حياتك أو ما عشت، أو

3012 - وعنه، قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقول: هي لك ولعقبك؛ فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلي صاحبها. متفق عليه. الفصل الثاني 3013 - عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا ترقبوا، أو لا تعمروا، فمن أرقب شيئاً، أو أعمر؛ فهي لورثته)) رواه أبو داود. [3013] ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يفيد هذا المعنى. قال أصحابنا: للعمرى ثلاثة أحوال، إحداها أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مت فهي لورثتك أو لعقبك. فيصح بلا خلاف، ويملك رقبة الدار وهي هبة، فإذا مات فالدار لورثته، وإلا فلبيت المال، ولا تعود إلي الواهب بحال. وثإنيتها: أن يقتصر علي قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ففي صحته قولان للشافعي أصحهما – وهو الجديد – صحته، وله حكم الحال الأولي. وثالثتها أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مت عادت إلي أو إلي ورثتي، ففي صحته خلاف، والأصح عندنا صحته، فيكون له حكم الحال الأولي، واعتمدوا علي الأحاديث المطلقة، وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة. وقال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة، وقال مالك: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلاً، ولا يملك فيها رقبتها بحال. ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا. ((قض)): العمرى جائزة باتفاق، مملكة بالقبض كسائر الهبات، ويورث المعمر من المعمر له كسائر أمواله، سواء أطلق أو أردف بأنه لعقبك أو ورثتك بعدك، وهو مذهب أكثر أهل العلم؛ لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العمرى ميراث لأهلها)) أي للمعمر له، فإنه أطلق ولم يقيد. وذهب جمع إلي أنه لو أطلق ولم يقل: هو لعقبك من بعدك لم يورث منه، بل تعود بموته إلي المعمر، ويكون تمليكاً للمنفعة له. وهو قول الزهري، ومالك. واحتجوا بما روي ثابتاً عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل أعمر)) الحديث، فإن مفهوم الشرط الذي تضمنه ((أيما)) والتعليل يدل علي أن من لم يعمر له كذلك لم يورث منه العمرى، بل ترجع إلي المعطي. وبما روي عنه ثالثاً أنه قال: ((إنما العمرى التي أجاز)) إلي آخره. والجواب عن الأول أنه مبني علي المفهوم، والقول بعمومه، وجواز تخصيص المنطوق، والخلاف ماض في الكل. وعن الثاني أنه تأويل، وقول صدر عن رأي جابر واجتهاده، فلا احتجاج فيه. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فمن أرقب شيئاً أو أعمر)) كانوا في الجاهلية يفعلون ذلك فأبطل الشرع ذلك وأعلمهم أن من أعمر شيئاً أو أرقبه في حياته فهو

(17) باب

3014 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها)) رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [3014] الفصل الثالث 3015 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسكوا أموالكم عليكم، لا تفسدوها؛ فإنه من أعمر حيا وميتاً ولعقبه)) رواه مسلم. (17) باب الفصل الأول 3016 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عرض عليه ريحان ـــــــــــــــــــــــــــــ لورثته من بعده، وقد تعاضدت الروايات علي ذلك. والفقهاء فيها مختلفون، فمنهم من يعمل بظاهر الحديث ويجعلونها تمليكاً، ومنهم من يجعلها كالعارية ويتأول الحديث. والرقبى فعلي من المراقبة، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، لأنه قال: فإن مت قبلي عاد إلي وإن مت قبلك استقر لك. أقول: الضمير في ((لورثته)) للمعمر له. وكذلك المراد بـ ((أهلها)) والفاء في ((فمن أرقب)) تسبيب للنهي وتعليل له، يعني: لا تراقبوا ولا تعمروا ظنا منكم واغتراراً أن كلا منهما ليس يتمليك للمعمر له، فيرجع إليكم بعد موته، وليس كذلك؛ فإن من أرقب شيئاً أو أعمر فهو لورثة المعمر له. فعلي هذا يتحقق إصابة ما ذهب إليه الجمهور في أن العمرى للمعمر له، وأنه يملكها ملكاً تاماً يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وتكون لورثته بعده وينصر هذا التأويل الحديث الذي يليه في الفصل الثالث. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا تفسدوها)) هذا النهي تأكيد للأمر. ((مح)): أعلمهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا تعود إلي الواهب أبداً، وإذا علموا ذلك فمن شاء أعمر ودخل فيها علي بصيرة، ومن شاء تركها لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية يرجع فيها وهذا دليل الشافعي وموافقيه. باب الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ريحان)) ((نه)): هو كل نبت طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الريح)) رواه مسلم. 3017 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب. رواه البخاري. 3018 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، ليس لنا مثل السوء)). رواه البخاري. 3019 - وعن النعمان بن بشير، أن أباه أتى به إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ـــــــــــــــــــــــــــــ

الريح من أنواع المشموم. قوله: ((فإنه خفيف المحمل)) أي قليل المنة، طيب الريح علة للنهي عن رد الهدية، يعني أن الهدية إذا كانت قليلة وتتضمن نفعاً تاماً فلا تردوها، لئلا يتأذى المهدي. الحديث الثاني والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ليس لنا مثل السوء)) ((قض)): أي لا ينبغي لنا – يريد به نفسه والمؤمنين – أن نتصف بصفة ذميمة يساهمنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها. وقد يطلق المثل في الصفة الغريبة العجيبة الشأن، سواء كان صفة مدح أو ذم، قال الله تعالي: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلي} واستدل به علي عدم جواز الرجوع في الموهب بعد ما أقبض المتهب. ((مح)): هذا المثل ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول علي هبة الأجنبي إلا ما وهب لولده أو ولد ولده كما صرح به في حديث النعمان، هذا مذهب الشافعي ومالك والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب إلا الوالد وكل ذي رحم محرم. ((تو)): محمل هذا المثل عند من يرى الرجوع في الهبة عن الأجنبي أنه علي التنزيه وكراهة الرجوع لا علي التحريم، ويستدل بحديث عمر رضي الله عنه حين أراد شراء فرس علي حمل عليه في سبيل الله، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تبعته وإن أعطاكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته [كالكلب يعود] في قيئه)). قال: فلما لم يكن هذا القول موجباً حرمة ابتياع ما تصدق به، فكذلك هذا الحديث لم يكن موجباً حرمة الرجوع في الهبة. أقول: والعجب أن ما يدل علي تشديد الشيء والمبالغة في النهي عن رجوع الهبة كيف يجعل ذريعة إلي جوازه، وذلك أتى بقوله: ((لا تبتعه)) يريد: احترز عن ذلك السوء كل الاحتراز، ولا تبتع الموهوب بأي طريق كان ولو بعقد شرعي. والله أعلم.

نحلت ابني هذا غلاماً. فقال: ((أكل ولدك نحلت مثله؟)) قال: لا. قال: ((فأرجعه)). وفي رواية: أنه قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟)) قال: بلي. قال: ((فلا إذن)). وفي رواية أنه قال: أعطإني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله! قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟)) قال: لا. قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)). قال: فرجع فرد عطيته. وفي رواية: أنه قال: ((لا أشهد علي جور)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن النعمان: قوله: ((إني نحلت)) ((نه)): النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. يقال: نحله ينحله نحلا – بالضم – والنحلة – بالكسر – العطية. ((مح)): فيه استحباب التسوية بين الأولاد في الهبة فلا يفضل بعضهم علي بعض، سواء كانوا ذكورا أو إناثاً. قال بعض أصحابنا: ينبغي أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، والصحيح الأول؛ لظاهر الحديث. فلو وهب بعضهم دون بعض فمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة أنه مكروه وليس بحرام والهبة صحيحة. قال أحمد والثوري وإسحاق وغيرهم: هو حرام، واحتجوا بقوله: ((لا أشهد علي جور)) وبقوله: ((واعدلوا بين أولادكم)). واحتج الأولون بما جاء في رواية ((فأشهد علي هذا غيري)) ولو كان حراماً أو باطلا لما قال هذا، وبقوله: ((فأرجعه)) ولو لم يكن نافذاً لما احتاج إلي الرجوع. فإن قيل: قال تهديداً. قلنا: الأصل خلافه، ويحمل هذا الإطلاق صيغة أفعل علي الوجوب أو الندب، وإن تعذر ذلك فعلي الإباحة. وأما معنى الجور فليس فيه أنه حرام؛ لأنه هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواء كان حراماً أو مكروهاً. وفيه جواز رجوع الوالد في هبته عن الولد. أقول: وبقوله: ((فلا إذن)) لأن ((إذن)) جواب وجزاء، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ((أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)). أي: يكونوا بارين محسنين إليك لا عاقين، فقال: بلي. فأجابه: ((فلا إذن)) أي إذا كان كذلك فلا تفعل إذن، ولفظ السرور صريح في الاستحباب. ((حس)): في الحديث استحباب التسوية بين الأولاد في النحل وفي غيرها من أنواع البر حتى في القبل، ولو فعل خلاف ذلك نفذ. وقد فضل أبو بكر عائشة رضي الله عنهما بجذاذ عشرين وسقا، نحلها إياها دون سائر أولاده؛ وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاصما بشيء أعطاه وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم. ((قض)): وقرر ذلك ولم ينكر عليهم، فيكون إجماعا.

الفصل الثاني 3020 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرجع أحد في هبته، إلا الوالد من ولده)). رواه النسائي، وابن ماجه. [3020] 3021 - وعن ابن عمر، وابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يحل للرجل أن يعطي عطية، ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده. ومثل الذي يعطي العطية، ثم يرجع فيها، كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وصححه الترمذي. [3021] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا يحل للرجل)) ((قض)): الحديث – كما ترى – نص صريح علي أن جواز الرجوع مقصور علي ما وهب الوالد من ولده، وإليه ذهب الشافعي، وعكس الثوري وأصحاب أبي حنيفة، وقالوا: لا رجوع للواهب فيما وهب لولده أو لأحد من محارمه، ولا لأحد الزوجين فيما وهب للآخر، وله الرجوع فيما وهب للأجانب. وجوز مالك الرجوع مطلقاً، إلا في هبة أحد الزوجين من الآخر. وأول بعض الحنفية هذا الحديث بأن قوله: ((لا يحل)) معناه التحذير عن الرجوع، لا نفي الجواز عنه، كما في قولك: لا يحل للواجد رد السائل، وقوله: ((إلا الوالد لولده)) معناه أن له أن يأخذ ما وهب لولده، ويصرف في نفقته، وسائر ما يجب له عليه وقت حاجته كسائر أمواله، استيفاء لحقه من ماله، لا استرجاعا لما وهب ونقضا للهبة، وهو مع بعده عدول عن الظاهر بلا دليل. وما تمسكوا به قول عمر رضي الله عنه: ((من وهب هبة لذي رحم جازت، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها مالم يثب منها))، مع أنه ليس بدليل أمثل تأويلاً، وأولي بأن يأول. مع أن الظاهر منه بيان الفرق بين الهبة من المحارم والأجانب في اقتضاء الثواب، وأن من وهب لأجنبي طمعاً في ثواب فلم يثبه كان له الرجوع، وقد روي ذلك عنه صريحا وللشافعي قول قديم يقرب منه. وأبو حنيفة لا يرى لزوم الثواب أصلا، فكيف يحتج به. أقول: لما تقرر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرجوع عن الهبة مذموم، وأنه لا يصح ولا يستقيم للمؤمنين أن يتصفوا بهذا المثل السوء، وسبق أن حديث عمر رضي الله عنه: جاء مؤكدا له كان ينبغي أن لا يرجع في الأولاد أيضاً. وإنما جوز لأنه في الحقيقة ليس

3022 - وعن أبي هريرة: أن أعرابياً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة، فعوضه منها ست بكرات، فتسخط، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن فلانا أهدى إلي ناقة، فعوضته منها ست بكرات، فظل ساخطاً، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3022] 3023 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أعطي عطاء فوجد فليجز به، ـــــــــــــــــــــــــــــ برجوع، لأن الولد منه وماله له؛ يدل عليه قوله تعالي: {وعَلي المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} أي الذي ولد له، وكأنه مملوكه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم)). وربما تقتضي المصلحة الرجوع تأديباً وسياسة للولد لما يرى منه ما لا يرضاه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بكرة)) ((نه)): البكر بالفتح الفتي من الإبل بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى بكرة. قوله: ((لقد هممت أن لا أقبل)) ((تو)): كره قبول الهدية ممن كان الباعث له عليها طلب الاستكثار، وإنما خص المذكورين فيه بهذه الفضيلة لما عرف منهم من سخاوة النفس وعلو الهمة وقطع النظر عن الأعواض – انتهي كلامه. اعلم أن هذه الخصلة من رذائل الأخلاق وأخبثها، ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبائل بحسن أخلاقها، أن قبيلة هذا الأعرابي علي خلافها، ونهي الله سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم عنها في قوله تعالي: {ولا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}. ((الكشاف)): أي ولا تعط طالباً للتكثير، نهي عن الاستغزار، وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعرض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز، ومنه: ((المستغزر يثاب من هبته)). وهذا النهي إما نهي تحريم، فهو يختص برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نهي تنزيه له ولأمته. ((حس)): اختلفوا في الهبة المطلقة التي لا يشترط فيها الثواب، فذهب قوم من الفقهاء أنها تقتضي الثواب لهذا الحديث، ومنهم من جعل الناس في الهدايا علي ثلاث طبقات: هبة الرجل لمن هو دونه، فهو إكرام وإلطاف لا يتقضى الثواب. وكذلك هبة النظير من النظير. وأما هبة الأدنى من الأعلي فتقتضي الثواب؛ لأن المعطي يقصد بها الرفد والثواب. ثم قدر الثواب علي العرف والعادة، وقيل: قدر قيمة الموهوب، وقيل: حتى يرضي الواهب. وظاهر مذهب الشافعي أن الهبة المطلقة لا تقتضي الثواب، سواء وهب لنظيره، أو لمن دونه أو فوقه. وكل من أوجب الثواب فإذا لم يثب كان للواهب الرجوع في هبته. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فوجد)) أي من أعطي شيئاً، فليكن عارفاً حقه، فإن وجد مالا فليجز به، ومن لم يجد فليشكر، ولا يجوز له كتمان نعمته، ومن كفر فكتم

ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلي بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور)). رواه الترمذي، وأبو داود. [3023] 3024 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً؛ فقد أبلغ في الثناء)). رواه الترمذي. [3024] 3025 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)). رواه أحمد، والترمذي. [3025] ـــــــــــــــــــــــــــــ نعمته. وفيه من الحمد معنى قوله: ((الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمد الله)). والفاء في ((فوجد)) عاطفة علي الشرط وفي ((فليجز)) جوابه. فإن قلت: كان من حق الظاهر العطف بالواو؛ ليفيد أن الجمع بين الإعطاء والوجدان سبب للجزاء، فما معنى الترتيب؟ قلت: هذا الترتيب لا يمنع الجمع، وفائدته أن من أعطى فلا يؤخر الجزاء عن العطاء ريثما وجد اليسار، فيعلم أن من وجد لا ينبغي له التأخير بالطريق الأولي. قوله: و ((من تحلي بما لم يعط)) ((نه)): الحلي اسم لكل ما يتزين به. قال: أبو عبيدة: هو المرائي يلبس الزهاد ويري أنه زاهد. وقال غيره: هو أن يلبس قميصا، يصل بكميه كمين آخرين، يري أنه لابس قميصين، فكأنه يسخر من نفسه. ومعناه أنه بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن. وقيل: إنما شبه بالثوبين؛ لأن المتحلي كذب كذبين، فوصف نفسه بصفة ليست فيه، ووصف غيره بأنه خصة بصلة، فجمع بهذا القول بين كذبين. ((خط)): كان في العرب رجل يلبس ثوبين كثياب المعاريف؛ ليظنه الناس أنه رجل معروف محترم؛ لأن المعاريف لا يكذبون؛ فإذا رآه الناس علي هذه الهيئة، يعتمدون علي قوله وشهادته بالزور؛ لأجل تشبيهه نفسه بالصادقين. أقول: إنما أتبع الجازي والمثني بالمتحلي؛ لأنهما أظهرا حق ما وجب عليهما؛ لئلا يكفرا المنعم. وهذا إنما يظهر ما يلبس به الناس ويتلبس عليهم ليجز منهم، وإليه أشار أبو عبيدة بقوله: هو المرائي يلبس ثياب الزاهد ويري أنه زاهد. الحديث الخامس عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((فقد أبلغ في الثناء)) وذلك أنه اعترف بالتقصير وأنه ممن عجز عن جزائه وثنائه، ففوض جزاءه إلي الله ليجزيه الجزاء الأوفي. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يشكر الله)) ((قض)): هذا لأن

3026 - وعن أنس، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله! ما رأينا قوماً أبذل من كثير، ولا أحسن مواساة من قليل؛ من قوم نزلنا بين أظهرهم: لقد كفونا المؤونة. وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال: ((لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم)). رواه الترمذي وصححه. [3026] 3027 - وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((تهادوا؛ فإن الهدية تذهب الضغائن)). رواه. [3027] ـــــــــــــــــــــــــــــ شكره تعالي إنما يتم بمطاوعته وامتثال أمره، وإن مما أمر به شكر الناس الذين هم وسائط في إيصال نعم الله إليه، فمن لم يطاوعه فيه، لم يكون مؤديا شكر أنعمه، أو لأن من أخل بشكر من أسدى إليه نعمة من الناس – مع ما يرى من حرصه علي حب الثناء والشكر علي النعماء، وتأذيه بالإعراض والكفران – كان أولي بأن يتهاون في شكر من يستوي عنه الشكر والكفران. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من كثير)) الجاران أعنى قوله ((من كثير، ومن قليل)) متعلقان بالبذل والمواساة، وقوله: ((من قوم)) صلة لأبذل وأحسن علي سبيل التنازع، وقوم هو المفضل. والمراد بالقوم الأنصار، وإنما عدل عنه إليه؛ ليدل التنكير علي التفخيم، فيتمكن من إجراء الأوصاف التالية عليه بعد الإبهام؛ ليكون أوقع؛ لأن التبيين بعد الإبهام أوقع في النفس وأبلغ. قوله: ((في المهنأ)) هو ما يقوم بكفاية الرجل وإصلاح معاشه. ((قض)): يريد به ما أشركوهم فيه من زروعهم وثمارهم، من قولهم: هنأ في الطعام يهنإني – بالضم والكسر – أي أعطإنيه، والاسم منه الهنوء – بالكسر – وهو العطاء. قوله: ((بالأجر كله)) يعني إذا حملوا المشقة والتعب علي أنفسهم، وأشركونا في الراحة والمهنأ، فقد أحرزوا المثوبات، فكيف نجازيهم؟. فأجاب: لا. أي ليس الأمر كما زعمتم؛ فإنكم إذا أثنيتم عليهم شكراً لصنيعهم ودمتم عليه، فقد جازيتموهم. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تذهب الضغائن)) ((نه)): الضغن الحقد والعداوة والبغضاء، وكذلك الضغينة وجمعها الضغائن. أقول: وذلك لأن السخط جالب للضغينة والحقد، والهدية جالبة للرضا، فإذا جاء سبب الرضا ذهب سبب السخط.

3028 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وحر الصدر. ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فرسن شاة)). رواه الترمذي. [3028] 3029 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا ترد؛ الوسائد والدهن، واللبن)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. قيل: أراد بالدهن الطيب. [3029] 3030 - وعن أبي عثمان النهدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده؛ فإنه خرج من الجنة)). رواه الترمذي مرسلاً. [3030] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وحر الصدر)) ((نه)): وحر الصدر بالتحريك غشه ووساوسه. وقيل: الحقد والغضب. وقيل: العداوة. وقيل: أشد الغضب. ((قض)): الفرسن من الشاة والبعير بمنزلة الحافر من الدابة، والمعنى لا تحقرن جارة هدية جارتها ولو كانت فرسن شاة، وقد جاء في بعض الروايات ((ولو بشق فرسن شاة)) بزيادة حرف الجر فالتقدير: لو أن تبعث إليها أو تتفقدها ونحو ذلك. أقول: الحديث من رواية الترمذي بغير باء، وكذا في جامع الأصول. قوله: ((لجارتها)) متعلق بمحذوف، وهو مفعول ((تحقرن)) أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها، وهو تتميم للكلام السابق، كقول الشاعر: نظرت إليك بعين جارية حوراء حإنية علي طفل أرشد صلى الله عليه وسلم الناس إلي أن التهادي يزيل الضغائن، ثم بالغ فيه حتى ذكر أحقر الأشياء بين أبغض البغيضين، إذا حمل الجارة علي الضرة، وهو الظاهر لمعنى التتميم. ((نه)): الجارة الضرة من المجاورة بينهما. ومنه حديث أم زرع. ((وغيظ جارتها)) أي أنها ترى حسنها فيغيظها ذلك. الحديث العاشر والحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((الوسائد)) يريد أن يكرم الضيف بالوسادة والطيب واللبن هدية قليلة المنة، فلا ينبغي أن ترد.

(18) باب اللقطة

الفصل الثالث 3031 - عن جابر، قال: قالت امرأة بعشير: أنحل ابني غلامك، وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، وقالت: أشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أله إخوة؟)) قال: نعم. قال: ((أفكلهم أعطيتهم مثل ما أعطيته؟)) قال: لا. قال: ((فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا علي حق)). رواه مسلم. 3032 - وعن أبي هريرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي ببا كورة الفاكهة، وضعها علي عينيه وعلي شفتيه، وقال: ((اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره)). ثم يعطيها من يكون عنده من الصبيان. رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). (18) باب اللقطة الفصل الأول 3033 - عن زيد بن خالد، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقطة. فقال: ((اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها، وإلا ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ابني غلامك)) مفعول لـ ((انحل)). الجوهري: يقال: نحلت المرأة مهرها عن طيب نفس من غير مطالبة أنحلها، وسبق فقه الحديث في الحديث الرابع من الفصل الأول. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بباكورة)) ((نه)): ((أول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفواكه. أقول: إنما ناول باكورة الثمار الصبيان لمناسبة بينهما، من أن الصبي ثمرة الفؤاد وباكورة الإنسان. والله أعلم. باب اللقطة المغرب: اللقطة الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه. قال: الأزهري: ولم أسمع اللقطة بالسكون لغير الليث. الفصل الأول الحديث الأول عن زيد: قوله: ((اعرف عفاصها)) ((فا)): العفاص الوعاء الذي تكون فيه

فشأنك بها)). قال: فضالة الغنم؟ قال: ((هي لك، أو لأخيك، أو للذنب)). قال: فضالة الإبل؟ قال: ((مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: فقال: ((عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه)). ـــــــــــــــــــــــــــــ اللقطة، من جلد أو خرقة أو غير ذلك، يقال: عفاص القارورة لغلافها من العفص وهو الثني والعطف؛ لأن الوعاء ينثني علي ما فيه وينعطف. قوله: ((ووكاءها)) ((نه)): هو الذي تشد فه الصرة والكيس ونحوهما. ((شف)): قوله: ((فإن جاء صاحبها)) شرط حذف جزاؤه للعلم به، أي فردها إليه، أو فبها ونعمت. وقوله: ((فضالة الإبل)) مبتدأ وخبره محذوف أي ما حكمها. وقوله: ((فشأنك)) قيل: هو منصوب علي المصدر شأنت شأنه أي قصدت قصده، وأشأن شأنك أي اعمل ما تحسنه. وقوله: ((معها سقاؤها)) إلي آخره علي تقدير الحال، أي مالك وأخذها؟ والحال أنها مستقلة بأسباب تعيشها. ((حس)): اختلفوا في تأويل قوله: ((اعرف عفاصها)) في أنه لو جاء رجل وادعى اللقطة وأعرف عفاصها ووكائها، هل يجب الدفع إليه أم لا؟ فذهب مالك وأحمد إلي أنه يجب الدفع إليه من غير بينة، إذ هو المقصود من معرفة العفاص والوكاء. وقال الشافعي وأصحاب أبي حنيفة: إذا عرف الرجل العفاص، والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق فله أن يعطيه وإلا فبينة؛ لأنه قد يصيب في الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها، فعلي هذا تأويل قوله: ((اعرف عفاصها ووكاءها))؛ لئلا تختلط بماله اختلاطاً لا يمكن التمييز إذا جاء مالكها. وأراد بالسقاء أنها إذا وردت الماء شربت ما يكون فيه ريها لظمئها، وهي من أطول البهائم ظمأ. وقيل: أراد به أنها ترد عند احتياجها إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صبرها علي الماء، أو ورودها إليه بمثابة سقائها، وبالحذاء خفافها، وأنها تقوى بها علي السير وقطع البلاد الشاسعة، وورود المياه النائية، شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بمن كان معه حذاء وسقاء في سفره. وإنما أضاف الرب إليها؛ لأن البهائم غير متعبدة ولا مخاطبة، فهي بمنزلة الأموال التي تجوز إضافة مالكها إليها وجعلهم أرباباً لها. ((قض)): فيه دليل علي أن من التقط لقطة وعرفها سنة ولم يظهر صاحبها كان له تملكها، سواء كان غنياً أو فقيراً. وإليه ذهب كثير من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((يتصدق بها الغني ولا ينتفع بها، ولا يملكها)) وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب أبي حنيفة. ويؤيد الأول ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: ((وجدت صرة – إلي قوله – فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)) وكان أبي بن كعب من مياسير الأنصار.

3034 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)). رواه مسلم. 3035 - وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن لقطة الحاج. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((هي لك)) أي إن أخذتها وعرفتها ولم تجد صاحبها، فإن لك أن تملكها. ((أو لأخيك)) يريد به صاحبها. والمعنى: إن أخذتها فظهر مالك فهو له، أو تركتها فاتفق أن صادفها فهو أيضاً له. وقيل: معناه إن لم تلتقطها يلتقط غيرك. ((أو للذئب)) أي إن تركتها ولم يتفق أن يأخذه غيرك يأكله الذئب غالباً. نبه بذلك علي جواز التقاطها وتملكها، وعلي ما هو العلة لها، وهي كونها معرضة للضياع؛ ليدل علي اطراد هذا الحكم في كل حيوان يعجز عن الرعية بغير راع، والتحفظ عن صغار السباع. وأشار بالتقييد بقوله: ((معها سقاؤها)) أن المانع من التقاطها، والفارق بينها وبين الغنم ونحوها استقلالها بالتعيش، وذلك إنما يتحقق فيما يوجد في الصحراء، فأما ما يوجد في القرى والأمصار فيجوز التقاطها لعدم المانع ووجود الموجب، وهو كونها معرضة للتلف، مطمحة للأطماع. وذهب قوم إلي أنه لا فرق في الإبل ونحوها من الحيوان الكبار بين أن يوجد في صحراء أو عمران؛ لإطلاق المنع. الحديث الثاني عن زيد: قوله: ((فهو ضال)) أي الواجد غير راشد إن لم يعرفها، أو ما وجد ضال كما كان. ((مح)): يجوز أن يراد بـ ((ضال)) ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز التقاطها للتملك، بل إنما يلتقط للحفظ، ((فهو ضال)) إن حفظها ولم يعرفها. الحديث الثالث عن عبد الرحمن: قوله: ((نهي عن لقطة الحاج)) ((قض)): هذا الحديث يحتمل أن يكون المراد به النهي عن أخذ لقطتهم في الحرم، وقد جاء في الحديث ما يدل علي الفرق بين لقطة الحرم وغيره، وأن يكون المراد النهي عن أخذها مطلقاً؛ لتترك مكانها وتعرف بالنداء عليها؛ لأن ذلك أقرب طريقاً إلي ظهور صاحبها؛ لأن الحاج لا يلبثون مجتمعين إلا أياما معدودة، ثم يتفرقون ويصدرون مصادر شتى، فلا يكون للتعريف بعد تفرقهم جدوى. ((مظ)): لا يجوز التقاط لقطة حرم مكة للتملك، فلو التقطها لا يمتلكها بعد التعريف، بل يلزمه أن يحفظها أبدا لمكالها ثمة.

الفصل الثاني 3036 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الثمر المعلق. فقال: ((من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع)) وذكر في ضالة الإبل والغنم كما ذكره غيره. قال: وسئل عن اللقطة فقال ((ما كان منها في الطريق الميتاء والقرية الجامعة فعرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهو لك، وما كان في الخراب العادي ففيه وفي الركاز الخمس)). رواه النسائي. وروى أبو داود عنه من قوله: وسئل عن اللقطة إلي آخره. [3036] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو: مقدمة الحديث سبق شرحها في باب الغضب. قوله: ((أن يؤويه الجرين)) [نه] أوى وآوى بمعنى واحد، والمقصور منهما لازم ومتعد، ومن المتعدي هذا الحديث، والمعنى يضمه البيدر ويجمعه. ((والجرين)) موضع تجفيف التمر، وهو له كالبيدر للحنطة، ويجمع علي جرن بضمتين. قوله: ((في الطريق الميتاء)) كذا في جامع الأصول، وقد وقع في نسخ المصابيح ((بطريق الميتاء)) بالإضافة. ((تو)): الطريق الميتاء الطريق العام، ومجتمع الطريق أيضاً ميتاء، والجادة التي تسلكها السابلة، وهو مفعال من الإتيان أي يأتيه الناس ويسلكه. قوله: ((فعليه غرامة مثليه والعقوبة)) ((قض)): هذا إيجاب للغرامة والتعزير فيما يخرجه؛ لأنه ليس من باب الضرورة المرخص فيها؛ ولأن الملاك لا يتسامحون بذلك، بخلاف القدر اليسير الذي يؤكل. ولعل تضعيف الغرامة للمبالغة في الزجر؛ أو لأنه كان كذلك تغليظاً في أوائل الإسلام ثم نسخ، وإنما لم يوجب القطع فيه، وأوجب فيما يوجد مما جمع في البيدر؛ لأن مواضع النخل بالمدينة لم تكن محوطة محروزة. والمراد بـ ((ثمن المجن)) ثلاثة دراهم، ويشهد له ما روى ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم)) والجرين للثمار كالمراح للشياه، فإن حرز الأشياء علي حسب العادة، وجعل ما يوجد في العمران وما يأتيه الناس غالباً من المسالك لقطة يجب تعريفها؛ إذ الغالب أنه ملك مسلم. وأعطى ما يوجد في برية والأراضي العادية التي لم تجر عليها عمارة إسلامية، ولم تدخل في ملك مسلم حكم الركاز؛ إذ الظاهر أنه لا مالك له.

3037 - وعن أبي سعيد الخدري: أن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] وجد ديناراً، فأتى به فاطمة [رضي الله عنها]، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا رزق الله)). فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل علي وفاطمة [رضي الله عنهما]. فلما كان بعد ذلك أتت امرأة تنشد الدينار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي! أد الدينار)). رواه أبو داود. [3037] 3038 - وعن الجارود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضالة المسلم حرق النار)). رواه الدارمي. [3038] 3039 - وعن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وجد لقطة فليشهد ذا عدل- أو ذي عدل – ولا يكتم ولا يغيب؛ فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)). رواه أحمد، وأبو داود، والدارمي. [3039] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((وجد ديناراً)) [((شف))]: فيه دليل علي أن القليل لا يعرف. ((شف)): فيه دليل علي أن الغني له التملك كالفقير، وعلي أن اللقطة تحل علي من لا تحل عليه الصدقة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً بما أفاء الله عليه، وكان هو وعلي وفاطمة ممن لا تحل عليهم الصدقة، وعلي وجوب بذل البدل علي الملتقط إلي مالكها متى ظهر. الحديث الثالث عن الجارود: قوله: ((ضالة المسلم)) ((نه)): هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره، يقال: ضل الشيء إذا ضاع، وهي في الأصل فاعلة، ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة، وتقع علي الذكر والأنثى، والاثنين والجمع، وتجمع علي ضوال. ((حرق النار)) – بالتحريك – لهبها، وقد يسكن، والمعنى أن ضالة المؤمن إذا أخذها إنسان يتملكها، ولم يراع فيها الأحكام التي شرعت فيها من التعريف وغير ذلك عن أخذها أدته إلي النار. الحديث الرابع عن عياض: قوله: ((فليشهد)) ((حس)): هذا أمر تأديب وإرشاد وذلك لمعنيين، أحدهما: أن لا يؤمن من أن يحمله الشيطان علي إمساكها وترك أداء الأمانة فيها. والثاني: الأمن من أن يحوزها ورثته في جملة التركة عند اخترام المنية إياه. وقد قيل بوجوب الإشهاد لظاهر هذا الحديث. قوله: ((وإلا فهو مال الله)) وقال في الحديث السابق ((رزق الله)) وهما عبارتان عن الحلال، وليس للمعتزلة أن يتمسكوا به بأن الحرام ليس برزق؛ لأن المقام مقام مدح اللقطة لإباحتها، لا بيان الحلال والحرام، والفاء في قوله: ((فهو مال الله)) جواب للشرط، ويجوز إسقاطها كما في رواية البخاري، ((وإلا استمتع بها)) قال المالكي: حذف الفاء والمبتدأ في الحديث معا من جواب الشرط.

كتاب الفرائض والوصايا

3040 - وعن جابر، قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل، وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. رواه أبو داود. [3040] وذكر حديث المقدام بن معدي كرب: ((ألا لا يحل)) في ((باب الاعتصام)). [كتاب الفرائض والوصايا] الفصل الأول 3041 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أنا أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء؛ فعلي قضاؤه. ومن ترك مالاً فلورثته)). وفي رواية: ((من ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه)). وفي رواية: ((من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((في العصا والسوط)) ((حس)): فيه دليل علي أن القليل لا يعرف، ثم منهم من قال: ما دون عشرة دراهم قليل، وقال بعضهم: الدينار فما دونه قليل لحديث علي رضي الله عنه، وقال قوم: ينتفع بالقليل التافه من غير تعريف، كالنعل والسوط والجراب ونحوها. باب الفرائض ((حس)): الفرض أصله القطع، يقال: فرضت لفلان إذا قطعت له من المال شيئاً. ((المغرب)): الفريضة اسم ما يفرض علي المكلف، وقد يسمى بها كل مقدر. فقيل لأنصباء المواريث: فرائض، لأنها مقدرة لأصحابها، ثم قيل للعلم بمسائل الميراث: علي الفرائض. وللعالم به: فرضي وفارض وفراض. وفي الحديث ((أفرضكم زيد)) أي أعلمكم بهذا النوع. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من ترك مالا)) منه أخذ التركة. ((فا)): التركة اسم للمتروك، كما أن الطلبة اسم للمطلوب، ومنه تركة الميت. ((أو ضياعا)) ((قض)): ضياعا بالفتح يريد به العيال العالة، مصدر أطلق مقام اسم الفاعل للمبالغة كالعدل والصوم، وروي بالكسر علي أنه جمع ضايع، كجياع في جمع جائع، و ((الكل)) هو الثقل، قال تعالي: {وهُوَ كَلٌّ عَلي مَوْلاهُ} وجمعه كلول، وهو يشمل الدين والعيال. قوله: ((فإلينا)) أي فإلينا مرجعه ومأواه. ((حس)): الضباع اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار، والزمني الذين لا يقومون بكل أنفسهم ومن يدخل في معناهم.

3042 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولي رجل ذكر)). متفق عليه. 3043 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: الفاء في قوله: ((فمن مات)) تفسيرية مفصلة لما أجمل من قوله: ((أنا أولي بالمؤمنين)) ومعنى الأولوية النصرة والتولية، أي أنا أتولي أمورهم بعد وفاتهم، وأنصرهم فوق ما كان منهم لو عاشوا، فإن تركوا شيئاً من المال فأذب المستأكلة من الظلمة، أن يحرموا حوله فيخلص لورثتهم، وإن لم يتركوا وتركوا ضياعا وكلا من الأولاد فأنا كافلهم، وإلينا ملجؤهم ومأواهم، وإن تركوا دينا فعلي أدواؤه؛ ولهذا وصفه الله تعالي في قوله عز من قائل: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وقوله: {النَّبِيُّ أَوْلي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}. وهكذا ينبغي أن تفسر الآية أيضاً؛ ولأن قوله: {وأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} إنما يلتئم إذا قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم كالأب المشفق، بل هو أرأف وأرحم بهم. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فهو لأولي رجل ذكر)) ((مح)): قال العلماء المراد بـ ((الأولي)) الأقرب، مأخوذ من [الولي] وهو القرب. ووصف الرجل بالذكر تنبيهاً علي سبب استحقاقه، وهي الذكورة التي هي سبب العصوبة وسبب الترجيح في الإرث؛ ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة في القيام بالعيال، والضيفان، وإرفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات وغير ذلك والله أعلم. أقول: أوقع الموصوف مع الصفة موقع العصبة كأنه قيل: فما بقى فهو لأقرب عصبة وسموا عصبة؛ لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم، أي يحيطون به ويشتد بهم، والعصبة أقارب من جهة الأب، ((مح)): قد أجمعوا علي أن ما بقي بعد الفرائض فهو للعصبات، يقدم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، وجملة عصبات النسب الابن والأب ومن يدلي بهما، ويقدم منهم الأبناء ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب ثم الجد، ثم الإخوة للأبوين أو للأب، وهم في درجة. ((حس)): فيه دليل أن بعض الورثة يحجب البعض، والحجب نوعان: حجب نقصان، وحجب حرمان. الحديث الثالث عن أسامة. قوله: ((لا يرث المسلم الكافر)) ((مح)): أجمع المسلمون علي أن الكافر لا يرث المسلم، وأما المسلم من الكافر ففيه خلاف، فالجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم علي أنه لا يرث أيضاً. وذهب معاذ بن جبل ومعاوية وسعيد بن المسيب ومسروق

3044 - وعن أنس [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مولي القوم من أنفسهم)). رواه البخاري. 3045 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابن أخت القوم منهم)). متفق عليه. وذكر حديث عائشة: ((إنما الولاء)) في باب قبل ((باب السلم)). وسنذكر حديث البراء: ((الخالة بمنزلة الأم)) في باب: ((بلوغ الصغير وحضانته)) إن شاء الله تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيرهم إلي أنه يرث من الكافر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام يعلو ولا يعلي عليه)) وحجة الجمهور هذا الحديث. والمراد من حديث الإسلام فضل الإسلام علي غيره وليس فيه تعرض للميراث فلا يترك النص الصريح. وأما المرتد فلا يرث المسلم بالإجماع، وأما المسلم من المرتد ففيه أيضاً الخلاف، فعند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلي وغيرهم أن المسلم لا يرث منه. وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق: إنه يرثه وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما اكتسبه في ردته فهو لبيت المال. وما اكتسبه في الإسلام فهو لورثته المسلمين. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((مولي القوم)) ((مظ)): المولي يقع في اللغة علي المعتق وعلي العتيق، وفسر العلماء المولي هنا بالمعتق، أي يرث من العتيق إذا لم يكن له أحد من عصباته النسبية، ولا يرث العتيق إلا عند طاووس. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ابن أخت القوم منهم)) ((مظ)): ابن الأخت من ذوي الأرحام، ولا يرث ذوو الأرحام إلا عند أبي حنيفة وأحمد، وإنما يرث ذوو الأرحام إذا لم يكن للميت عصبة ولا ذو فرض، وذوو الأرحام عشرة أصناف. ولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخ، وبنت العم، والخال، والخالة، وأبو الأم، والعم للأم، والعمة، وولد الأخ من الأم ومن أدلي بهم، وأولادهم أولاد البنت، ثم أولاد الأخت، وبنات الأخ، ثم العم للأم والعمات، والأخوال والخالات، وإذا استوى اثنان منهم في درجة فأولاهم بالميراث من هو أقرب إلي صاحب فرض أو عصبة، وأبو الأم أولي من ولد الأخ من الأم من بنات الأخ وأولاد الأخت. أقول: ((من)) في ((منهم)) اتصالية، أي ابن الأخت متصل بأقربائه في جميع ما يجب أن يتصل به من القول والنصرة والتوريث وما أشبه ذلك، وهو نحو قوله تعالي: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ

الفصل الثاني 3046 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: ((لا يتوارث أهل ملتين شتى)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [3046] 3047 - ورواه الترمذي عن جابر. [3047] 3048 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القاتل لا يرث)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3048] ـــــــــــــــــــــــــــــ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في أحكامه وفرائضه، والكتاب كثيراً ما يجيء بمعنى الفريضة، واستدل به أصحاب أبي حنيفة علي توريث ذوي الأرحام، وينصره حديث المقدام في الفصل الثاني: ((والخال وارث من لا وارث له)). الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((شتى)) حال من فاعل ((يتوارث)) أي مختلفين. ويجوز أن يكون صفة ((لملتين)) أي ملتين متفرقتين، قد سبق بيان تورث المسلم من الكافر وعكسه. وأما توريث الكفار بعضهم من بعض، كاليهودي من النصرإني وعكسه، والمجوسي منهما وهما منه، فقال بن الشافعي، لكن لا يرث حربي من ذمي ولا ذمي من حربي. وكذا لو كانا حربيين في بلدتين متحاربتين قال أصحابنا: لم يتوارثا، كذا في شرح مسلم. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((القاتل لا يرث)) ((مظ)) العمل علي هذا الحديث عند العلماء، سواء كان القتل عمداً أو خطأ، من صبي أو مجنون أو غيرهما. وقال مالك: إذا كان القتل خطأ لا يمنع الميراث. وقال أبو حنيفة: قتل الصبي لا يمنع. أقول: إذا جعل العلة نفس القتل المنصوص عليه فيعم، وإذا ذهب إلي المعنى وما يعطيه من قطع الوصلة فلا. فالتعريف في ((القاتل)) علي الأول للجنس، وعلي الثاني للعهد، وعليه يتفرع ما ذكره الشيخ محيي الدين في الروضة إذا قتل الإمام مورثه حداً ففي منع التوريث أوجه. ثالثها: إن ثبت بالبينة منع، وإن ثبت بالإقرار فلا؛ لعدم التهمة، والأصح المنع مطلقاً؛ لأنه قاتل.

3049 - وعن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم. رواه أبو داود. [3049] 3050 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استهل الصبي، صلي عليه، وورث)). رواه ابن ماجه، والدارمي. [3050] 3051 - وعن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مولي القوم منهم، وحليف القوم منهم، وابن أخت القوم منهم)). رواه الدارمي. [3051] 3052 - وعن المقدام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولي بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً أو ضيعة فإلينا. ومن ترك مالاً فلورثته. وأنا مولي من لا مولي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن بريدة: قوله: ((دونها أم)) ((دون)) هنا بمعنى قدام، لأن الحاجب كالحاجز بين الوارث والميراث، وأنشد في الكشاف: [تريك القذى دونه وهي دونها] أي قدامه. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إذا استهل)) ((حس)): لو مات إنسان ووارثه حمل في البطن يوقف له الميراث، فإن خرج حياً كان له، وإن خرج ميتا فلا يورث منه، بل لسائر ورثته الأول، فإن خرج حياً ثم مات يورث منه، سواء استهل أولم يستهل بعد أن وجدت فيه أمارة الحياة من عطاس، أو تنفس، أو حركة دالة علي الحياة سوى اختلاج الخارج عن المضيق. وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وذهب قوم إلي أنه لا يورث منه ما لم يستهل، واحتجوا بهذا الحديث، والاستهلال رفع الصوت، والمراد منه عند الآخرين وجود أمارة الحياة، وعبر عنها بالاستهلال؛ لأنه يستهل حالة الانفصال في الأغلب وبه تعرف حياته. وقال الزهري: أرى العطاس استهلالا. الحديث الخامس عن كثير: قوله: ((مولي القوم منهم)) سبق شرحه، وكذا شرح ((ابن أخت القوم))، وأما الحليف فإنهم كانوا يتحالفون ويقولون: دمي دمك وهدمي هدمك، وسلمي سلمك، وحربي حربك، أرث منك وترث مني، فنسخ بآية المواريث. الحديث السادس عن المقدام: قوله: ((أرث ماله)) ((قض)): يريد به صرف ماله إلي بيت مال المسلمين، فإنه لله ولرسوله. وقوله ((أعقل له)) أي أعطي له وأقضي عنه، ما يلزمه بسبب

له، أرث ماله. وأفك عانه. والخال وارث من لا وارث له، يرث ماله، ويفك عانه)). وفي رواية: ((وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه، وأرثه. والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه، ويرثه)). رواه أبو داود. [3052] 3053 - وعن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عنه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3053] 3054 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل عاهر بحرة أو أمة، فالولد ولد زنى لا يرث ولا يورث)). رواه الترمذي. [3054] 3055 - وعن عائشة: أن مولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مات وترك شيئاً، ولم يدع ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنايات التي سبيلها أن يتحملها العاقلة. ((وأفك عانه)) أي عإنيه بحذف الياء تخفيفا، كما حذفها في يد، أي أخلص أسيره بالفداء عنه. وقوله: ((والخال وارث من لا وارث له، يرث ماله)) يستدل به علي إرث ذوي الأرحام، وأول من لم يورثهم قوله: ((الخال وارث من لا وارث له)) بمثل قولهم: الجوع زاد من لا زاد له. وحملوا قوله: ((يرث ماله)) علي أنه أولي بأن يصرف إليه ما خلفه علي بيت المال من سائر المسلمين. أقول: لا ارتياب أن قوله: ((يرث ماله)) كالتقرير لقوله: ((الخال وارث)) والتكرير إنما يؤتى به لرفع ما عسى أن يتوهم في المعنى السابق التجوز، فكيف يجعل تقريراً للتجوز؟ رحم الله من أذعن للحق وأنصف. الحديث السابع عن واثلة: قوله: ((تحور المرأة)) ((حس)): هذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل، واتفق أهل العلم علي أنها تأخذ ميراث عتيقها، وأما الولد الذي نفاه الرجل باللعان فلا خلاف أن أحدهما لا يرث الآخر؛ لأن التوارث بسبب النسب، وقد انتفي النسب باللعان، أما نسبه من جهة الأم فثابت ويتوارثان. ((قض)): حيازة المتلقطة ميراث لقطتها محمولة علي أنها أولي بأن يصرف إليها ما خلفه من غيرها، صرف مال بيت المال إلي آحاد المسلمين، فإن تركته لهم، لا أنها ترثه وراثة المعتقة من معتقها، وأما حكم ولد الزنا فحكم المنفي بلا فرق. الحديث الثامن عن عمرو: قوله: ((عاهر)) ((نه)): العاهر الزإني، وقد عهر يعهر عهوراً وعهراً إذا أتى المرأة ليلا للفجور بها، ثم غلب علي الزنا مطلقا. الحديث التاسع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حميما)) حميم الرجل قريبه الذي يهتم لأمره. ((قض)): إنما أمر أن يعطى رجلا من قريته تصدقا منه أو ترفعا، أو لأنه كان لبيت المال

حميماً ولا ولداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته)). رواه أبو داود، والترمذي. [3055] 3056 - وعن بريدة، قال: مات رجل من خزاعة، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه، فقال: ((التمسوا له وارثاً أو ذا رحم)) فلم يجدوا له وارثاً ولا ذا رحم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه الكبر من خزاعة)). رواه أبو داود وفي رواية له: قال: ((انظروا أكبر رجل من خزاعة)). [3056] 3057 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: إنكم تقرءون هذه الآية: {مِّنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثوان دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وفي رواية الدرامي: قال: الإخوة من الأم يتوارثون دون بني العلات ...)) إلي آخره. [3057] ـــــــــــــــــــــــــــــ ومصرفه مصالح المسلمين وسد حاجاتهم، فوضعه فيهم لما رأي من المصلحة، فإن الأنبياء كما لا يورث عنهم لا يرثون عن غيرهم. ((تو)) الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعيهن لا يرثون ولا يورث عنهم؛ لارتفاع قدرهم عن التلبس بالدنيا الدنية، وانقطاع أسبابهم عنها. وقوله في الحديث الذي تقدم: ((أنا مولي من لا مولي له، أرث ماله)) فإنه لم يرد به حقيقة الميراث، وإنما أراد أن الأمر فيه إلي في التصدق به، أو صرفه في مصالح المسلمين، أو تمليك غيره. الحديث العاشر عن بريدة: قوله: ((الكبر من خزاعة)) ((نه)): يقال: فلان كبر قومه بالضم إذا كان أبعدهم في النسب، وهو أن ينتسب إلي جده الأكبر بآباء أقل عدداً من باقي عشيرته. وقوله: ((أكبر رجل)) أي كبيرهم، وهو أقربهم إلي الجد الأعلي. الحديث الحادي عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وأن أعيان بني الأم)) ((فا)): الأعيان الإخوة لأب واحد وأم واحدة، مأخوذ من عين الشيء وهو النفس منه. وبنو العلات الإخوة لأب واحد وأمهات شتى، فإن كانوا لأم واحدة وآباء شتى فهم الأخياف. ((قض)): سموا علات؛ لأن الزوج قد عل من المتأخرة بعد ما نهل من الأولي، وقد يسمى الأخوة أيضاً علات علي حذف المضاف، والمعنى أن إخوة الأب والأم إذا اجتمعوا مع إخوة الأب فالميراث للذين من الأبوين؛ لقوة القرابة وازدواج الوصلة.

3058 - وعن جابر، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد بن الربيع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال. قال: ((يقضي الله في ذلك)) فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي عمهما فقال: ((أعط لابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [3058] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله: ((إنكم تقرءون)) إخبار فيه معنى الاستفهام، يعني إنكم تقرءون هذه الآية، هل تدرون معناها؟ فالوصية مقدمة علي الدين في القراءة مؤخرة عنه في القضاء، والإخوة فيها مطلق يوهم التسوية، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم الدين عليها، وقضى في الإخوة بالفرق. وقوله ((وأن أعيان)) بالفتح علي حذف الجار عطف علي ((بالدين)) بدليل رواية المصابيح ((قضى رسول صلى الله عليه وسلم أن أعيان بني الأم)). وقوله: ((الرجل يرث)) استئناف كالبيان والتفسير لما قبله. فإن قلت: إذا كان الدين مقدماً علي الوصية فلم قدمت عليه في التنزيل؟ قلت: اهتماماً لشأنها. الكشاف: لما كانت الوصية مشبهة بالميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق علي الورثة ويتعاظم، ولا تطيب أنفسهم بها، وكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلي أدائه؛ فلذلك قدمت علي الدين بعثاً علي وجوبها، والمسارعة إلي إخراجها مع الدين؛ ولذلك جيء بكلمة ((أو)) للتسوية بينهما في الوجوب. الحديث الثاني عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((قتل أبوهما معك)) لا يجوز ((معك)) أن يتعلق بـ ((قتل)). الكشاف في قوله تعالي: {ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ}. ((مح)) يدل علي معنى الصحبة واستحداثها، تقول خرجت مع الأمير تريد مصاحباً له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له، وفي قوله تعالي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} لا يصح تعلق ((معه)) بـ ((بلغ))؛ لاقتضائه بلوغهما معاً فهو بيان، كأنه لم قيل: فلما بلغ معه السعي، أي الحد الذي يقدر فيه علي السعي، قيل: مع من؟ قيل: مع أبيه، وكذلك التقدير، فلما قيل: قتل يوم أحد، قيل: يوم أحد مع من؟ قيل: معك، و ((شهيداً)) تمييز، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة؛ لأن السابق في معنى الشهادة.

3059 - وعن هزيل بن شرحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة، وبنت ابن، وأخت. فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود، فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى. فقال: لقد ضللت إذن، وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: ((للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت)). فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود. فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. رواه البخاري. 3060 - وعن عمران بن حصين، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ قال: ((لك السدس)) فلما ولي دعاه قال: ((لك سدس آخر)) فلما ولي دعاه قال: ((إن السدس الآخر طعمة)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [3060] 3061 - وعن قبيصة بن ذؤيب، قال: جاءت الجدة إلي أبي بكر [رضي الله عنه] تسأله ميراثها. فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر [رضي الله عنه]: هل معك غيرك؟ فقال محمد ابن مسلمة مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر [رضي الله عنه]. ثم جاءت الجدة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن هزيل: قوله: ((تكملة الثلثين)) إما مصدر مؤكد؛ لأنك إذا أضفت السدس إلي النصف فقد كلمته ثلثين، ويجوز أن يكون حالا مؤكدة. الحديث الرابع عشر عن عمران: قوله: ((إن ابن ابني مات)) ((مظ)) صورة هذه المسألة أنه ترك الميت بنتين وهذا السائل، فلهما الثلثان وبقي الثلث، فدفع صلى الله عليه وسلم إلي السائل سدساً بالفرض؛ لأنه جد الميت، وتركه حتى ذهب، فدعاه ودفع إليه السدس الآخر؛ كيلا يظن أن فرضه الثلث. ومعنى ((الطعمة)) هنا التعصيب، يعني رزق لك وليس بفرض. وإنما قال في السدس الآخر طعمة دون الأول؛ لأنه فرض، والفرض لا يتغير بخلاف التعصيب، فلما لم يكن التعصيب شيئاً مستقراً ثابتاً سماه طعمة. الحديث الخامس عشر عن قبيصة: قوله: ((فأنفذه)) أي الحكم بالسدس للجدة. وقوله: ((ثم جاءت الجدة الأخرى)) أي لهذا الميت، إما من جهة الأب إذا كانت الأولي من

الأخرى إلي عمر [رضي الله عنه] تسأله ميراثها. فقال: هو ذلك السدس، فإن اسجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها. رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبو داود، والدارمي، وابن ماجه. 3062 - وعن ابن مسعود، قال في الجدة مع ابنها: إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدساً مع ابنها، وابنها حي. رواه الترمذي، والدارمي، والترمذي ضعفه. [3062] 3063 - وعن الضحاك بن سفيان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: ((أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها)). رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [3063] 3064 - وعن تميم الداري، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم علي يدي رجل من المسلمين؟ فقال: ((هو أولي الناس بمحياه ومماته)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [3064] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأم وبالعكس، وقوله: ((هو ذلك السدس)) أي ميراثك ذلك السدس بعينه تقتسمان بينكما، وقوله: ((فإن اجتمعتما)) إلي آخره، بيان للمسألة، والخطاب في ((فإن اجتمعتما وأيتكما)) للجنس لا يختص بهاتين الجدتين، فالصديق إنما حكم بالسدس لها؛ لأنه ما وقف علي الشركة، والفاروق لما وقف علي الاجتماع حكم بالاشتراك. والله أعلم. الحديث السادس عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إنها أول جدة)) مقول القول، والضمير راجع إلي الجدة المذكورة في المسألة، أي قال بن مسعود في مسألة الجدة مع الابن هذا القول. ((مظ)): يعني أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أبي الميت سدساً مع وجود أبي الميت، مع أنه لا ميراث لها معه. ((حس)): قال ابن مسعود: ((الجدات ليس لهن ميراث، إنما طعمة أطعمنها، أقربهن وأبعدهن سواء)). الحديث السابع عشر عن الضحاك: قوله: ((من دية زوجها)) ((حس)): فيه دليل علي أن الدية تجب للمقتول أولا ثم تنتقل منه إلي ورثته كسائر أملاكه، وهذا قول أكثر أهل العلم. وروى عن علي رضي الله عنه: أنه كان لا يورث الإخوة من الأم، ولا الزوج والمرأة من الدية شيئاً. الحديث الثامن عشر عن تميم: قوله: ((ما السنة)) ((مظ)): أي ما حكم الشرع في شأن الرجل

3065 - وعن ابن عباس: أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلا غلاماً كان أعتقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل له أحد؟)) قالوا: لا؛ إلا غلام له كان أعتقه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه له. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [3065] 3066 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يرث الولاء من يرث المال)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث إسناده ليس بالقوي. [3066] الفصل الثالث 3067 - وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما كان من ميراث قسم في الجاهلية فهو علي قسمة الجاهلية، وما كان من ميراث أدركه الإسلام فهو علي قسمة الإسلام)). رواه ابن ماجه. [3067] ـــــــــــــــــــــــــــــ أسلم علي يد غيره، أيصير مولي له أم لا؟ فعند أبي حنيفة والشافعي ومالك والثوري لا يصير مولي له، ويصير مولي عند عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وعمرو بن الليث لهذا الحديث. دليل الشافعي وأتباعه قوله صلى الله عليه وسلم ((الولاء لمن أعتق)). وحديث تميم الداري يحتمل أنه كان في بدء الإسلام؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالإسلام والنصرة ثم نسخ ذلك. ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: ((هو أولي الناس بمحياه ومماته)) يعني بالنصرة في حال الحياة، وبالصلاة بعد الموت فلا يكون حجة. الحديث التاسع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه له)) هذا الجعل مثل ما سبق في حديث عائشة: ((أعطوا ميراثه رجلا من أهل قريته)). ((مظ)): قال شريح وطاووس: يرث العتيق من المعتق، كما يرث المعتق من العتيق. الحديث العشرون عن عمرو بن شعيب: قوله: ((من يرث المال)) ((مظ)): هذا مخصوص أي كل عصبة ترث مال الميت، ينتقل إليها ولاء العتيق، ولا ينتقل إلي بيت المال، وإن كانت ترث المال؛ لأنها ليست بعصبة بل العصبة الذكور دون الإناث، ولا ترث النساء بالولاء إلا إذا أعتقن، أو أعتق عتيقهن أحداً. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن محمد بن أبي بكر بن حزم: قوله: ((عجباً)) هذا التعجب من

(1) باب الوصايا

3068 - وعن محمد بن أبي بكر بن حزم، أنه سمع أباه كثيراً يقول: كان عمر ابن الخطاب يقول عجباً للعمة تورث ولا ترث. رواه مالك. [3068] 3069 - وعن عمر [رضي الله عنه]، قال: تعلموا الفرائض، وزاد ابن مسعود: والطلاق والحج. قالا: فإنه من دينكم. رواه الدارمي. [3069] (1) باب الوصايا الفصل الأول 3070 - عن ابن عمر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حيث القياس ورأي العقل، وإذا نظر إلي التعبد، وأن الحكمة في ذلك إلي الله تعالي فلا عجب. الحديث الثالث عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فإنه من دينكم)) ومنه ما روي: ((تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنه نصف العلم)) وإنما سماه نصف العلم؛ إما توسعاً في الكلام، أو استكثاراً للبعض، أو اعتباراً لحالتي الحياة والممات. باب الوصايا المغرب: الوصية والوصاة اسمان في معنى المصدر. قال الأزهري: هي مشتقة من وصيت الشيء إذا وصلته، وسميت وصية؛ لأنه وصل ما كان في حياته بما بعده، ويقال: وصى وأوصى أيضاً. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ما حق امرئ مسلم)) ((ما)) بمعنى ليس، وقوله: ((يبيت ليلتين)) صفة ثالثة لـ ((امرئ)) و ((يوصي فيه)) صفة ((شيء)) والمستثنى خبر. ((مظ)) قيد ((ليلتين)) تأكيد وليس بتحديد، يعني لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة. أقول: في تخصيص ((ليلتين)) تسامح في إدارة المبالغة، أي لا ينبغي أن يبيت ليلة وقد سامحناه في هذا المقدار فلا ينبغي أن يتجاوز عنه. ((مح)): فيه حث علي الوصية، ومذهب الجمهور أنها مندوبة. وقال الشافعي: معناه ما الحزم والاحتياط لمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده. وقال داود وغيره من أهل الظاهر: هي

3071 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: مرضت عام الفتح مرضاً أشفيت علي الموت، فأتإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسول الله: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كله؟ قال: ((لا)) قلت: فثلثي مالي؟ قال: ((لا)) قلت: فالشطر؟ قال: ((لا)) قلت: فالثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة ترفعها إلي في امرأتك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ واجبة بهذا الحديث. ولا دلالة لهم فيه علي الوجوب، لكن إن كان علي الإنسان دين أو وديعة لزمه الإيصاء بذلك، ويستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحيفة ويشهد عليه فيها، وإن تجدد له أمر يحتاج إلي الوصية به ألحقه بها، وإنما قلنا: يشهد عليه فيها؛ لأنه لم تنفعه الوصية إذا لم يشهد عليها. الحديث الثاني عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أشفيت)) ((نه)): [يقال: أشفي عليه، ولا يكاد يقال إلا في الشر]. ((فا)): تكفف السائل واستكف إذا بسط كفه للسؤال أو سأل الناس كفا من طعام أو ما يكف الجوعة. قوله: ((إلا ابنتي)). ((خط)): معناه ليس لي وارث من أصحاب الفروض إلا ابنتي، وليس المراد منه أنه لا وارث له غير ابنته، بل كان له عصبة كثيرة. أقول: يؤيد هذا التأويل، قوله: ((أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون)). ولعل تخصيص البنت بالذكر لعجزها، المعنى ليس يرثني ممن أخاف عليه إلا ابنتي. قوله: ((الثلث والثلث كثير)) ((مح)): يجوز نصب الثلث الأول ورفعه، فالنصب علي الإغراء، أو علي تقدير أعط الثلث، وأما الرفع فعلي أنه فاعل، أي يكفيك الثلث، أو علي أنه مبتدأ محذوف الخبر أو عكسه. وقوله: ((أن تذر)) بفتح الهمزة وكسرها روايتان صحيحتان. ((فا)): ((أن تذر)) مرفوع المحل علي الابتداء، أي تركك أولادك أغنياء خير، والجملة بأسرها خبر إن. ((شف)): لا يجوز أن يجعل ((أن)) حرف الشرط؛ لأنه يبقى الشرط حينئذ بلا جزاء، فإنه لا يجوز جعل قوله ((خير)) جزاء له، وكثيراً ما يصحف فيه أهل الزمان. أقول: إذا صحت الرواية فلا التفات إلي من لم يجوز حذف الفاء من الجملة إذا كانت اسمية، بل هو دليل عليه، ثم إني وجدت بعد برهة من الزمان نقلا من جانب الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي، في كتاب شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح أنه أتى في الحديث بالشرط وقال: الأصل ((إن تركت ورثتك أغنياء فهو خير)) فحذف الفاء والمبتدأ، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها)).

الفصل الثاني 3072 - عن سعد بن أبي وقاص، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقال: ((أوصيت؟)) قلت: نعم. قال: ((بكم؟)) قلت: بمالي كله في سبيل الله. قال: ((فما تركت لولدك؟)) قلت: هم أغنياء بخير. فقال: أوص بالعشر)) فما زلت أناقصه، حتى قال: ((أوص بالثلث، والثلث كثير)) رواه الترمذي. [3072] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله لهلال بن أمية: ((البينة، وإلا حد في ظهرك)). وذلك مما زعم النحويون أنه مخصوص بالضرورة، وليس مخصوصاً بل يكثر استعماله في الشعر ويقل في غيره، ومن خص هذا الحذف بالشعر حاد عن التحقيق وضيق حيث لا تضييق. قوله: ((وإنك لن تنفق)) عطف علي قوله: ((إنك أن تذر)) وهو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل لأنك إن مت وتذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم فقراء، وإن عشت تصدقت بما بقي من الثلث، وأنفقت علي عيالك يكن خيراً لك. ((مح)): فيه جواز ذكر المريض ما يجده من الوجع لغرض صحيح من مداواة أو دعاء أو وصية ونحو ذلك. وإنما يكره من ذلك ما كان علي سبيل السخط، فإنه قادح في أخر مرضه. ودليل علي إباحة جمع المال، ومراعاة العدل بين الورثة والوصية. وأجمعوا علي أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة علي الثلث إلا بإجازته، وعلي نفوذها بإجازته في جميع المال. وأما من لا وارث له فمذهب الجمهور لا تصح وصيته فيما زاد علي الثلث، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وفيه الحث علي صلة الأرحام، والإحسان إلي الأقارب والشفقة علي الورثة، فإن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد. وفيه استحباب الإنفاق في وجوه الخير، وأنه إنما يثاب علي عمله بنيته، وأن الإنفاق علي العيال يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالي، وأن المباح إذا قصد به وجه الله تعالي صار طاعة؛ فإن زوجة الإنسان من أحظ حظوظه الدنيوية وشهواتها وملاذها المباحة، ووضع اللقمة في فيها إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة وهي أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة. ومع هذا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد به وجه الله تعالي حصل له الأجر، فغير هذه الحالة أولي بحصول الأجر. الفصل الثاني الحديث الأول عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((بخير)) إما خبر بعد خبر، أو صفة ((أغنياء)) أي ملتبسون بخير. قوله: ((فما زلت أناقصه)) من المناقصة وهي مفاعلة من نقص أي لم أزل

3073 - وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)). رواه أبو داود، وابن ماجه، وزاد الترمذي: ((الولد للفراش والعاهر الحجر، وحسابهم علي الله)). [3073] ـــــــــــــــــــــــــــــ أراجعه في النقصان، أي أعد ما ذكر ناقصا حتى قال بالثلث، ولو روي بالضاد المعجمة لكان من المناقضة. ((نه)) في حديث صوم التطوع ((فناقضني وناقضته)) أي ينقض قولي وأنقض قوله من نقض البناء، وأراد به المراجعة والمرادة. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((أعطى كل ذي حق حقه)) ((مظ)): كانت الوصية للأقارب فرضاً قبل نزول آية الميراث، فلما نزلت بطلت الوصية، فإن أوصى وأجاز باقي الورثة صحت. قوله: ((للفراش)) ((نه)): سميت المرأة فراشاً؛ لأن الرجل يفترشها. أي الولد منسوب إلي صاحب الفراش، سواء كان زوجاً، أو سيداً، أو واطئ شبهة. ليس للزإني في نسبه حظ، وإنما الذي حصل له من فعله استحقاق الحد وهو قوله: ((وللعاهر الحجر))، ((تو)): ((وللعاهر الحجر)) يريد أن له الخيبة فلا حظ له في نسب الوالد، وهو كقولك: له التراب، والذي ذهب فيه إلي الرجم فقد أخطأ؛ لأن الرجم لم يشرع في سائر الزناة، وإنما شرع في المحصن دون البكر. أقول: كلا التأويلين حسن، والأول أحسن؛ فإن قوله: ((قد أعطى كل ذي حق حقه)) يدل علي أن لا نصيب لأحد بعد ما بين الله الأنصباء إلا للأجنبي إذا أوصى في حقه، فإن الناس إما منسوب إلي الميت أو لا، والأول إما حقيقة أو ادعاء، فلا حظ للأول فكيف بالثاني، فكان من حق الظاهر أن يقال: لا حق للعاهر ثم له التراث، فوضع الحجر موضعه ليدل بإشارة النص علي الحد، وبعبارته علي الخيبة، وكان أجمع من أن لو قيل: التراب. قوله: ((وحسابهم علي الله)) ((مظ)): يعني نحن نقيم الحد علي الزناة وحسابهم علي الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عاقبهم، هذا مفهوم الحديث. وقد جاء أن من أقيم عليه الحد في الدنيا لا يعذب بذلك الذنب في القيامة؛ فإن الله تعالي أكرم من أن يثني العقوبة علي من أقيم عليه الحد. ويحتمل أن يراد به أن من زنى أو أذنب ذنباً آخر ولم يقم عليه الحد فحسابه علي الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. أقول: الضمير في ((حسابهم)) إذا رجع إلي العاهر بحسب الجنسية جاز، إذا أريد بالحجر

3074 – * ويروى عن ابن عباس [رضي الله عنهما] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة)) منقطع. هذا لفظ ((المصابيح)). وفي رواية الدارقطني: قال: ((لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة)). [3074] 3075 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار)) ثم قرأ أبو هريرة {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} إلي قوله {وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}. رواه أحمد، والترمذي، أبو داود، وابن ماجه. [3075] الفصل الثالث 3076 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات علي وصية مات علي سبيل وسنة، ومات علي تقى وشهادة، ومات مغفوراً له)) رواه ابن ماجه. [3076] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحد، وإذا أريد مجرد الحرمان فلا ويمكن أن يقال: إنه راجع إلي ما يفهم من الحديث من الورثة والعاهر، كأن المعنى أن الله تعالي هو الذي قسم أنصباء الورثة بنفسه، فأعطى بعضا الكثير وبعضا القليل، وحجب البعض وحرم البعض، ولا يعرف حساب ذلك وحكمته إلا هو، فلا تبدلوا النص بالوصية للوارث وللعاهر، فعلي هذا قوله: ((وحسابهم علي الله)) حال من مفعول ((أعطى))، وعلي الأول من الضمير المستقر في الخبر في قوله: ((وللعاهر الحجر)). الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنها: قوله: ((منقطع)) المنقطع هو الإسناد الذي فيه قبل الوصول إلي التابعي راو لم يسمع من الذي فوقه، والساقط بينهما غير مذكور، ومنه الإسناد الذي ذكر فيه بعض الرواة بلفظ مبهم، نحو رجل أو شيخ أو غيرهما. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيضاران)) المضارة إيصال الضرر إلي شخص، ومعناها في الوصية أن لا يمضي، أو ينقص بعضها، أو يوصي لغير أهلها ونحو ذلك. الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((علي وصية)) مضى المراد منها في الحديث الأول من الباب، ونكر ((سبيل)) وأبهمه ليدل علي ضرب بليغ من الفخامة، ثم فسره بقوله: ((وسنة)) والتنكير للتكثير، ولكونه تفسيراً لم يعد الجارة، ثم كرر ((الموت)) وأعاد ليفيد استقلال

3037 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن العاص بن وائل أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون رقبة، أفأعتق عنه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه، بلغه ذلك)) رواه أبو داود. [3077] 3078 – * وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قطع ميراث وارثه؛ قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة)). رواه ابن ماجه. [3078] 3079 - ورواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) عن أبي هريرة [رضي الله عنه]. [3079] ـــــــــــــــــــــــــــــ صفة التقوى والشهادة، ثم ثلث بـ ((الغفران)) ترقياً، لأن الغفران غاية المطلب ونهاية المقصد، ومن ثم أمر الله تعالي رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار قبل إتمام النعمة في قوله: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ}. وإنما لم يعد ((الجارة)) في القرينة الثالثة؛ لأن الحالات السابقة هيآت صادرة عن العبد، والأخيرة عن الله تعالي، وهو الوجه في الفرق بينهما. والله أعلم. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ميراثه من الجنة)) ((غب)): الوراثة انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد، ولا ما يجري مجراه، وسمي بذلك المنتقل عن الميت، ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: وقد ورث كذا. ويقال لمن خول شيئاً مهنأ: أورث. قال تعالي: {تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}. أقول: وتخصيص ذكر يوم القيامة وقطعه ميراث الجنة؛ للدلالة علي مزيد الخيبة والخسرة، ووجه المناسبة أن الوارث كما انتظر وترقب وصول الميراث من مورثه، فخاب في العاقبة لقطعه، كذلك يخيب الله تعالي آماله عند الوصول إليها والفوز بها. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

كتاب النكاح

كتاب النكاح الفصل الأول 3080 - عن عبد الله بن مسعود، قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب النكاح ((مح)): هو في اللغة الضم، ويطلق علي العقد وعلي الوطء. نقل الواحدي عن الزجاج هذا، وقال: وتركيب ((ن ك ح)) علي هذا الترتيب لزوم الشيء بالشيء راكباً عليه. قال: قال أبو علي الفارسي: فرقت العرب بينهما فرقاً لطيفاً، فإذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان أو أخته أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا إلا الوطء. حكى القاضي حسين من أصحابنا: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وصححه القاضي أبو الطيب، وقطع به المتولي وغيره. وقيل بالعكس، وبه قال أبو حنيفة. وقيل للتزويج: نكاح؛ لأنه سبب الوطء، وقيل: حقيقة فيهما بالاشتراك؛ ويتعين المقصود بالقرينة كما سبق عن علي رضي الله عنه. ((غب)): أصل النكاح العقد، ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد؛ لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستقبحونه لما يستحسنونه. قال الله تعالي: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ} {فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ} إلي غير ذلك من الآيات. الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((يا معشر الشباب)) ((مح)): المعشر هم الطائفة الذين يشملهم وصف، كالشباب والشيخوخة والبنوة، والشباب جمع شاب، ويجمع علي شبان وشببة، وهو عند أصحابنا من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة. وأما ((الباءة)) فالفصيحة المشهورة بالمد والهاء، وقيل: بلا مد، وقيل: بالمد ولا هاء، وقيل: بالهائين ولا مد، وهي الجماع مشتقة من المباءة المنزل، ثم قيل لعقد النكاح باءة؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، واختلفوا في المراد بها في الحديث علي وجهين: أرجحهما: أن المراد هو الجماع، والمضاف محذوف، أي أسبابه ومؤنته، فتقديره: من استطاع منكم أسباب الجماع ومؤنته فليتزوج. الثاني: أن المراد

3081 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي عثمان بن معظون التبتل ولو أذن له لاختصينا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بها مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها. ولا بد من أحد التأويلين؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن لم يستطع)) عطف علي قوله: ((من استطاع)) ولو حمل ((الباءة)) علي الجماع لم يستقم قوله: ((فإن الصوم له وجاء))؛ لأنه لا يقال للعاجز هذا، وإنما يستقيم إذا قيل: أيها القادر المتمكن من الشهوة! إن حصلت لك مؤن النكاح فتزوج وإلا فصم، ولهذا خص النداء بـ ((الشباب)). والوجاء – بكسر الواو والمد – رض الخصيتين، أي الصوم يقطع الشهوة وشر المني، كما يفعل الوجاء، كان من الظاهر أن يقول: ومن لم يستطع فعليه بالجوع، وقلة ما يزيد في الشهوة وطغيان الماء من الطعام، فعدل إلي الصوم إدماجاً لمعنى عبادة هي برأسها مطلوبة، وليؤذن أن المطلوب من نفس الصوم الجوع وكسر الشهوة، وكم من صائم يمتلئ معي قال أبو عبيدة: ((فعليه بالصوم)) إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد. تقول: عليك زيداً ودونك عمراً، ولا تقول: عليه زيداً، إلا في هذا الحديث – انتهي كلامه. ولما كان الضمير الغائب راجعاً إلي لفظة ((من)) وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: ((يا معشر الشباب)) وبين بقوله: ((منكم)) جاز؛ لأنه بمنزلة الخطاب، وفي عكسه قول القائل: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. ((مح)): فيه الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، فهو عندنا علي سبيل الندب؛ فلا يلزمه التزويج ولا التسري سواء خاف العنت أم لا، وأوجبه داود من وافقه من أهل الظاهر رواية عن أحمد. قال الإمام المازري: حجة الجمهور قوله تعالي: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ - إلي قوله - أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالي خيره بين النكاح والتسري؛ ولا يجب التسري بالاتفاق، فلو كان النكاح واجباً لما خيره بينه وبين التسري لأنه لا يصح التخيير بين واجب وغيره؛ لأنه يؤدي إلي إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثماً. والناس في النكاح علي أربعة أقسام؛ لأنه لا يخلو من أن يكون تائقاً إليه أم لا، والأول إما أن يجد المؤن والأسباب أم لا، فإن وجد فيستحب له النكاح، وإن لم يجد فعليه الصوم، والثاني إما أن يجد المؤن والأسباب أم لا، فإن وجد فالأولي له ترك النكاح والتخلي للعبادة عند الجمهور، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ومالك أن النكاح له أفضل، وإن لم يجد فيكره له النكاح. الحديث الثاني عن سعد: قوله: ((التبتل)) ((حس)): التبتل الانقطاع عن النساء وترك النكاح،

3082 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وامرأة بتول منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم، وسميت فاطمة البتول؛ لانقطاعها عن نساء الأمة فضلا وديناً وحسباً. وكان التبتل من شريعة النصارى، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنه؛ ليكثر النسل ويدوم الجهاد. وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: ((تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً)). أقول: كان من حق الظاهر أن يقال: لو أذن لتبتلنا، فعدل إلي قوله: ((اختصينا)) إرادة للمبالغة، أي لو أذن له لبالغنا في التبتل حتى الاختصاء، ولم يرد به حقيقته لأنه غير جائز. ((مح)): كان ذلك ظناً منهم جواز الاختصاء، ولم يكن هذا الظن موافقاً؛ فإن الاختصاء في الآدمي حرام صغيراً أو كبيراً، وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل، وأما المأكول فيجوز في صغيره ويحرم في كبيره. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها)) بدل من ((أربع)) بإعادة العامل، وقد جاء اللام مكرراً في الخصال الأربع في ((صحيح مسلم)) وليس في ((صحيح البخاري)) اللام في ((جمالها)). ((قض)): من عادة الناس أن يرغبوا في النساء ويختاروها لإحدى أربع خصال عدوها. واللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات أن يكون الدين مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون، لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم بأوكد وجه وأبلغه، فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية، ومنتهي الاختيار، والطلب الدال علي تضمن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة. وأما قوله: ((تربت يداك)) فقد سبق غير مرة أن هذا وأمثاله وإن كان دعاء في أصله، إلا أن العرب تستعملها لمعان اخر كالمعاتبة والإنكار والتعجب وتعظيم الأمر والحث علي الشيء، وهو المراد به هاهنا. ((نه)): ترب الرجل إذا افتقر أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، ولم ترد العرب وقوع الأمر بها، كما تقول: قاتله الله. وقيل: هو دعاء علي الحقيقة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال لعائشة: ((تربت يمينك))؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأي الحاجة خيراً لها، والأول أوجه. ((حس)): هي كلمة جارية علي ألسنتهم كقولهم: لا أب لك ولا أم لك ولم يرد وقوع الأمر، وقيل: قصد بها وقوع الأمر لتعديه ذوات الدين إلي ذوات الجمال والمال، ومعناه تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك، والأول أولي. أقول: إنما كان الأول أوجه؛ لأنه من باب العكس تعجباً، وذلك أنهم إذا رأوا مقداماً أبلي في الحرب بلاء حسناً، يقولون: قاتله الله، ما أشجعه! إنما يريدون به ما تزيد به قوته وشجاعته ونصرته، وكذلك ما نحن فيه؛ فإن الرجل إنما يؤثر تلك الثلاثة علي ذات الدين لإعدامها مالاً

3083 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم. 3084 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه علي ولد في صغره، وأرعاه علي زوج في ذات يده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وجمالاً وحسباً فينبغي أن يحمل الدعاء ما يجنب عنه من الفقر، أي عليك بذات الدين يغنك الله، فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُمْ إن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} والصالح هو صاحب الدين. ((مح)): النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس في العادة فإنهم يقصدون في التزوج هذه الخصال الأربع ويؤخرون ذات الدين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم ما أخروها، يعني فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين وفز بها. وفيه الحث علي مصاحبة أهل الصلاح في كل شيء؛ لأن من صاحبهم استفاد من أخلاقهم وبركتهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. ((حس)): روي أن رجلا جاء إلي الحسن وقال له: إن لي بنتاً أحبها، وقد خطبها غير واحد، فمن تشير علي أن أزوجها. قال: زوجها رجلا يتقي الله؛ فإن إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلهما. ((قوله)): فاظفر جزاء شرط محذوف، أي إذا تحقق ما فصلت لك تفصيلاً بيناً، فاظفر أيها المسترشد بذات الدين؛ فإنها تكسبك منافع الدارين. واللامات المكررة مؤذنة بأن كلا منهن مستقلة في الغرض. الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كلها متاع)) هو من التمتع بالشيء: الانتفاع به، وكل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها فهو متاع. أقول: الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاستمتاعات الدنيوية كلها حقيرة لا يعبأ بها. وكذلك أنه تعالي لما ذكر أصنافها وأنواعها وسائر ملاذها في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ - إلي قوله - والأَنْعَامِ والْحَرْثِ} أتبعه بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال بعده: {واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ} فنبه علي أنها تضاد ما عند الله تعالي من حسن الثواب، وخص منها المرأة وقيدها بالصالحة؛ ليؤذن بأنها شرها لو لم تكن علي هذه الصفة، ومن ثمة قدمها في الآية علي سائرها. وورد في حديث أسامة ((ما تركت بعدي فتنة أضر علي الرجال من النساء)). الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ركبن الإبل)) ((قض)): يريد به خير نساء العرب لأنهن يركبن الإبل. و ((أحناه)) أشفقه، من حنا يحنو حنوا إذا عطف، وتذكير

3085 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت بعدي فتنة أضر علي الرجال من النساء)) متفق عليه. 3086 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الضمير علي تأويل أحنى هذا الصنف، أو من يركب الإبل، أو يتزوج، أو نحوها. ((وأرعاه علي زوج في ذات يده)) أي أحفظ من يتزوجن علي زوجها فيما في يده، أي أمواله التي في يدها، وذكر الضمير إجراء علي لفظ ((أرعاه))، أو في الأموال التي في ملك يد الزوج وتصرفه. ((شف)): تنكير لفظ الولد إشارة إلي أنها تحنو علي أي ولد كان، وإن كان ولد زوجها من غيرها أكثر مما يحنو عليه غيرها. أقول: وفي وصفه الولد بالصغر إشعار بأن حنوها معلل بالصغر، وأن الصغر هو الباعث علي الشفقة، فأينما وجد هذا الوصف وجد حنوهن. ((مح)): فيه فضيلة نساء قريش لشفقتهن وحسن تربيتهن والقيام علي الأولاد إذا كانوا أيتاما، فلا تتزوج بعد يتمهم، فإن تزوجت فليست بحإنية انتهي كلامه. فإن قلت: أي فرق بين قوله: ((أحناه وأحناهن؟)) قلت: الأول دل علي الجنسية، وهو من يعرف كل أحد أن العرب منهم، فالقصد الأولي فيه المعنى والذات تابعة له، كأنه قيل: خير هذا الجنس الذي فاق الناس في الشرف هذا الجيل، ولذلك عدل من ذكر العرب إلي الصفة المميزة من قوله: ((ركبن الإبل)) لزيادة الاختصاص. ولو قيل: أحناهن، كانت الذات مقصودة والمعنى تابعاً لها فلم يكن بذلك. وفي اختصاص العرب من بين سائر الناس واختصاص قريش منها دلالة علي أن العرب أشرف الناس وقريش أشرفها. الحديث السادس عن أسامة: قوله: ((فتنة أضر)) وذلك أن المرأة إذا لم تكن يمنعها الصلاح الذي من جبلتها، كانت عين المفسدة، فلا تأمر زوجها إلا بشر ولا تحثه إلا علي فساد، وأقل ذلك أن ترغبه في الدنيا كي يتهالك فيها، وأي فساد أضر من هذا! وقد سبق أنه تعالي قدمها في آية ذكر الشهوات علي سائر الأنواع وجعلها نفس الشهوات، حيث بين الشهوات بقوله: {مِّنَ النِّسَاءِ} ثم عقبها بغيرها دلالة علي أنها أصلها ورأسها. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((حلوة خضرة)) ((مظ)): أي طيبة مزينة في عيونكم وقلوبكم، والاستخلاف إقامة الغير مقام نفسه، أي جعل الله الدنيا مزينة لكم ابتلاء واختباراً، فينظر هل تتصرفون فيها كما يحب ويرضي أو تسخطونه وتتصرفون فيها بغير ما يحب ويرضي؟ وقوله: ((فاتقوا الدنيا)) أي احذروا من الاغترار بما في الدنيا؛ فإنه في وشك الزوال، واحذروا أن تميلوا إلي النساء بالحرام أو تقبلوا قولهن؛ فإنهم ناقصات عقل، لا خير في

3087 - وعن ابن عمر. قال: قال رسول الله،: ((الشؤم في المرأة، والدار، والفرس)) متفق عليه، وفي رواية: ((الشؤم في ثلاثة: في المرأة، والمسكن، والدابة)). 3088 - وعن جابر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلما قفلنا كنا قريباً من المدينة قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس. قال: ((تزوجت؟)) قلت: نعم. قال: ((أبكر أم ثيب؟)) قلت: بل ثيب. قال: ((فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)). فلما قدمنا ذهبنا لندخل، فقال: ((أمهلوا حتى ندخل ليلاً – أي عشاء – لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلامهن غالباً، وأول فتنة في بني إسرائيل أن رجلاً منهم اسه عاميل طلب منه ابن أخيه – وقيل: ابن عمه – أن يزوجه ابنته فلم يزوجها منه فقتله؛ لينكح ابنته – وقيل: لينكح زوجته – وهو الذي نزلت فيه قصة البقرة. والله اعلم بصحته. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((الشؤم)) ((نه)): هو ضد اليمن تشاءمت وتيمنت، والواو في الشؤم همزة، لكنها خففت فصارت واواً غلب عليها التخفيف، حتى لم ينطق بها مهموزة. قيل: شؤم الدار ضيفها وسوء جوها، وشؤم الفرس أن لا يغزي عليها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وقيل: شؤم الفرس صعوبته وسوء خلقه، وشؤم المرأة غلاء مهرها وسوء خلقها. وقيل: هذا إرشاد منه إن كانت له دار يكره سكناها وامرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه بأن يفارق بالانتقال عن الدار وتطليق المرأة وبيع الفرس، فلا يكون هذا من باب الطيرة المنهي عنها. وهذا كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروها ذميمة)) – انتهي كلامه. ومن ثمة جعلها صلى الله عليه وسلم من باب الطيرة علي سبيل الفرض في قوله: ((إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار)). ((خط)): هذه الأشياء الثلاثة ليس لها بأنفسها وطباعها فعل وتأثير، وإنما ذلك كله بمشيئة الله وقضائه، وخصت بالذكر لأنها أعم الأشياء التي يقتنيها الناس، ولما كان الإنسان لا يخلو عن العارض فيها، أضيف إليها اليمن والشؤم إضافة مكان ومحل. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أبكر أم ثيب؟)) وفي أصل المالكي ((هل تزوجت؟)) قال صاحب المفتاح: و ((هل)) لا يطلب بها إلا حصول النسبة؛ ومن ثم امتنع ((هل عندك عمرو أم بشر؟)) بالاتصال دون الانقطاع، بيانه أن ((أم)) المتصلة تستدعي حصول النسبة عند الطالب، ويسأل بها عن تعيين أحد المنتسبين، و ((هل)) تستدعي أن لا تكون النسبة حاصلة عنده فيسأل بها عنها، فبينهما تناف. وقال المالكي: في هذا الحديث شاهد علي إيقاع ((هل)) موضع الهمزة فتكون أم بعدها متصلة؛ لان استفهام النبي صلى الله عليه وسلم جابراً لم يكن إلا بعد علمه بتزويجه، فطلب منه الإعلام بالتعيين.

الفصل الثاني 3089 - عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة حق علي الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [3089] 3090 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)). رواه الترمذي. [3090] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فهلا بكراً)) أي فهلا تزوجت بكراً، ثم علله بقوله: ((تلاعبها وتلاعبك)) وهو عبارة عن الألفة التامة؛ فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة بخلاف البكر، وعليه ما ورد ((عليكم بالأبكار، فإنهن أشد حباً وأقل خباً)). قوله: ((لكي تمتشط)) ((قض)): لأن تتهيأ وتتزين لزوجها بامتشاط الشعر وتنظيف البدن بالحلق ونحوه. والاستحداد في الأصل الاستفعال من الحديد، أي استعماله. و ((الشعثة)) المنتشرة الشعر من شعث إذا انتشر، و ((المغيبة)) التي غاب زوجها، يقال: أغابت المرأة فهي مغيبة. فإن قلت: كيف أمر هاهنا بالدخول ليلا وقد نهي أن يطرق الرجل أهله وهو أن يأتيه ليلا؟ قلت: المراد من النهي أن يفاجئ الرجل أهله؛ لما ذكر في هذا الحديث من التهيؤ والتزين، أما إذا قدم ليلا بعد إعلام ولبث كما كان في مقدمهم هذا، فلا نهي عنه لانتفاء ما هو المقتضي له – انتهي كلامه. فإن قلت: كيف قيل: ((وتستحد المغيبة)) و ((الشعثة)) هي المغيبة أيضاً؟ قلت: تفاديا عن اللفظ المستهجن، ولما لم يكن لفظ الشعثة مستهجناً صرح به، وكنى بالمغيبة عن طول شعر عانتها لاستهجانه، ومن ثمة عدل عن النتف إلي الاستحداد، لأن النساء لا يرون استعمال الحديد ولا يحسن بهن. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاثة حق علي الله)) إنما آثر هذه الصيغة إيذاناً بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي [تفدح] الإنسان وتقصم ظهره، ولولا أن الله تعالي يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف؛ لأنه قمع الشهوة الجبلية المركوزة فيها، وهي مقتضى البهيمية النازلة في أسفل السافلين، فإذا استعف وتداركه عون الله تعالي، ترقى إلي منزلة الملائكة وأعلي عليين. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن لا تفعلوه)) الفعل هنا كناية عن

3091 - وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)) رواه أبو داود، والنسائي. [3091] ـــــــــــــــــــــــــــــ المجموع، أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه تحدث فتنة في الأرض وفساد عريض، والفساد خروج الشيء عن حالة استقامته، وكونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول علي الحالة النافعة. والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن؛ لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال الله تعالي: {وإذَا تَوَلي سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ}. والحديث يحتمل وجهين: أحدهما: أنكم إن لم ترغبوا فيمن له الدين المرضي والخلق الحسن الموجبان لصلاح الأرض واستقامتها، ورغبتم في مجرد الحسب والمال الجالبين للطغيان المؤدي إلي البغي والفساد في الأرض – تكن فتنة في الأرض وفساد عريض، وإلي هذا المعنى أشار التنزيل في حق المنافقين: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}. وثإنيهما: ما ذكره المظهر وهو إن لم تزوجوا من ترضون دينه، بل نظرتم إلي صاحب مال وجاه كما هو من شيمة أبناء الدنيا، يبقى أكثر النساء بلا زوج والرجال بلا زوجة، فيكثر الزنا ويلحق العار الأولياء والغيرة، فيقع القتل فيمن نسب إليه هذا العار، فتهيج الفتن. وفي الحديث دليل لمالك فإنه يقول: لا يراعى في الكفاءة إلا الدين وحده. ومذهب الجمهور أنه يراعى أربعة أشياء: الدين، والحرية، والنسب، والصنعة؛ فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا الصالحة من فاسق، ولا الحرة من عبد، ولا المشهورة النسب من الخامل، ولا بنت تاجر أو لمن له حرفة طيبة ممن له حرفة خبيثة أو مكروهة، فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفء صح النكاح، وإن رضي أحدهما بغير كفء دون الآخر فالنكاح باطل، وإن كثرت الأولياء لابد من رضي الكل. الحديث الثالث عن معقل: قوله: ((فإني مكاثر)) يعني أغالب الأمم السالفة في الكثرة بأمتي، وهو تعليل للأمر بتزويج الودود الولود؛ وإنما أتى بالقيدين، لأن الولود إذا لم تكن ودوداً لم يرغب الزوج فيها، والودود إذا لم تكن ولوداً لم يحصل المطلوب. ((مظ)): وفيه استحباب التزوج وإيثار الولود الودود علي غيرها، وفضيلة كثيرة الأولاد؛ لأن بها يحصل ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من المباهاة، وتظهر فائدة الخلق من العبادة. ويعرف القيدان أعنى الودود الولود في الأبكار من أقاربهن؛ لأن الغالب سراية طباع الأقارب من بعضهن إلي بعض.

3092 - وعن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاماً، وأرضي باليسير)). رواه ابن ماجه مرسلاً. [3092] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عبد الرحمن: قوله: ((فإنهن أعذب)) أفرد الخبر وذكر علي تقدير ((من)) كقوله تعالي: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ((تو)): إنما أضاف العذوبة إلي الأفواه إرادة ما يحويه من الريق، ويقال للريق والخمر: الأعذبان، والعذب الماء الطيب. ((شف)): يمكن أن يكون ((أعذب أفواهاً)) مجازاً عن قلة بذائها وفحشها مع زوجها لبقاء حيائها؛ فإنها ما خالطت زوجاً قبله. قوله: ((وأنتق أرحاماً)) ((نه)): أي أكثر أولاداً يقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رمياً والنتق المرمي. وقوله: ((وأرضي باليسير)) ((تو)): أي أرضي باليسير من الأرفاق؛ لأنها لم تتعود في سالف الزمان دون معاشرة الأزواج ما يدعوها إلي استقلال ما تصادفه في المستأنف. أقول: أمر صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق بتزوج الودود الولود، فينزل هذا الحديث علي ذلك، فقوله: ((وأنتق أرحاماً) عبارة عن الولود، فينبغي أن تحمل القرينتان علي ما يزيد المحبة والود؛ فقوله: ((أعذب أفواهاً)) كناية عن كونها أعذب ألفاظاً؛ فإن حسن الكلام يدل علي حسن الخلق، وسوء المنطق يدل علي سوء الخلق، ومن رضي باليسير وقنع بالموجود يكن نقي القلب طاهر [الحديث] راضياً عن الله تعالي علي ما رزقه الله وأولاه، فإذا اجتمع طيب اللسان والجنان فقد كمل المقصود من الودود، قال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فإن قلت: إذا كان المراد من قوله: ((أعذب أفواهاً)) أعذب ألفاظاً، فلم عدل عنه؟ قلت: قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، فإنك إذا قلت: فلان طويل النجاد، وأردت طول قامته مع طول نجاده جاز، فكذلك هاهنا يفيد أنها طيبة النكهة لذيذة الريق حسنة المنطق، ولو صرح بهذا لم يفد هذه الفائدة. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: من فوائد البكارة أن تحب الزوج وتألفه فيؤثر في معنى الود، والطباع مجبولة علي الأنس بأول مألوف، وأما التي اختبرت الرجال ومارست الأحوال فربما لا ترضي بعض الأوصاف التي تخالف ما ألفته فتقلي الزوج، وكذلك الزوج يحبها فإن الطبع ينفر عن التي مسها غير الزوج نفرة ما، وذلك يثقل علي الطبع مهما يذكر، وبعض الطباع في هذا أشد نفوراً. والله أعلم.

الفصل الثالث 3093 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تر للمتحابين مثل النكاح)). [3093] 3094 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن يلقي الله طاهراً مطهراً؛ فليزوج الحرائر)). [3094] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لم تر)) من الخطاب العام ومفعوله الأول محذوف، أي لم تر أيها السامع ما تزيد به المحبة للمتحابين مثل النكاح، وهو يحتمل وجهين: إذا جرى بين المتحابين وصلة خارجية بعد التحاب تزيد الوصلة الظاهرة في الباطنة. وثإنيهما: إذا نظر الرجل إلي المرأة الأجنبية وأخذت بمجامع قلبه. فنكاحها يورث مزيد المحبة، وسفاحها البغض والشنآن. الحديث الثاني عن انس رضي الله عنه: قوله: ((الحرائر)) إنما خصهن؛ لأن الإماء مبتذلة غير مؤدبة، وتكون خراجة ولاجة غير ملازمة للخدر، فإذا لم تكن مؤدبة لم تحسن تأديب أولادها وتربيتهم بخلاف الحرائر؛ ولأن الغرض بالتزوج التوالد والتناسل بخلاف التسري، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، وكان التزوج مظنة لكثرة الأولاد وهو المطلوب، ويمكن أن يحمل ((الحرائر)) علي المعنى، قال الحماسي: ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها ((غب)): الحرية ضربان: الأول: من لم يجر عليه حكم السبي، والثاني: من تتملكه قواه الذميمة فيصير عبداً لها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدرهم وعبد الدينار)) وقول الشاعر: ورق ذوي الأطماع رق مخلد وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.

3095 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) روى ابن ماجه الأحاديث الثلاثة. [3095] 3096 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي)). [3096] 3097 - وعن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)) رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3097] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي أمامة: قوله: ((بعد تقوى الله)) جعل التقوى نصفين نصفا تزوجا ونصفا غيره، وهو المعنى بالحديث الآتي. قال الشيخ أبو حامد: المفسد لدين المرء في الأغلب فرجه وبطنه، وقد كفي بالتزويج أحدهما، ولأن التزوج التحصين من الشيطان وكسر التوقان، ورفع غوائل الشهوة، وغض البصر وحفظ الفرج. قوله: ((إن أمرها أطاعته)) بيان لصلاحها علي سبيل التقسيم؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الزوج حاضرا فافتقاره إليها إما في الخدمة بمهن البيت أو الملاعبة أو المباشرة، فتكون مطيعة فيما أمرها، وذات جمال ودلال فيلاعبها، ومنقادة إذا أراد مباشرتها، أو غائبا فتحفظ ما يملك الزوج من نفسها بأن لا تخون في نفسها وماله، وإذا كانت حالها في الغيبة علي هذا، ففي الحضور أولي، وهذه ثمرة صلاحها. وإن كانت ضعيفة الدين قصرت في صيانة نفسها وفرجها وأزرت بزوجها، وسودت بين الناس وجهه وشوشت بالغيرة قلبه، ونغص بذلك عيشه، فإن سلك فيه سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنة، وإن سلك سبيل التساهل كان متهاونا بدينه وعرضه، وإن كانت مع الفساد جميلة كان البلاء أشد، إذ يشق عليه مفارقتها فلا يصبر عنها. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فقد استكمل)) يحتمل أن يكون جوابا للشرط و ((فليتق الله)) عطف عليه، ويجوز أن يكون الجواب الثاني، والأول عطف علي الشرط، فعلي هذا السبب مركب والمسبب مفرد، فالمعنى أنه معلوم أن التزوج نصف الدين، فمن حصل هذا فعليه بالنصف الباقي، وهذا أبلغ لما يؤذن أنه مقرر ومعلوم أن التزوج تحصين بنصف الدين، وعلي الوجه الآخر إعلام بذلك فلا يكون مقررا، وعلي الأول السبب مفرد والمسبب مركب، وفيه إعلام أن التزوج سبب لاستكمال نصف الدين المرتب عليه تقوى الله تعالي. الحديث الخامس ظاهر.

(1) باب النظر إلي المخطوبة وبيان العورات

(1) باب النظر إلي المخطوبة وبيان العورات الفصل الأول 3098 - عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. قال: ((فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا)) رواه مسلم. 3099 - وعن ابن مسعود [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تباشر المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النظر إلي المخطوبة ((غب)): الخطب والمخاطبة والتخاطب المراجعة في الكلام، ومنه الخطبة والخطبة، والأولي تختص بالموعظة، والثانية بطلب المرأة، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان إذا خطب نحو الجلسة والقعدة. والعورة سوءة الإنسان وذلك كناية، وأصلها من العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار، أي المذمة ويستحيي منه إذا ظهر، ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء للكلمة القبيحة. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إني تزوجت)) ((قض)): لعل المراد بقوله: ((تزوجت)) خطبت؛ ليفيد الأمر بالنظر إليها، وللعلماء خلاف في جواز النظر إلي المرأة التي يريد أن يتزوجها، فجوزه الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق مطلقا، أذنت المرأة أو لم تأذن؛ لحديث جابر والمغيرة المذكورين في [أول الحسان] *، وجوز مالك بإذنها، وروى عنه المنع مطلقا. وقوله: ((فإن في أعين الأنصار شيئا)) يعني شيئا ينفر عنه الطبع ولا يستحسنه، وإنما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، إما لأنه رأي في أعين رجالهم فقاس بهم النساء؛ لأنهن شقائقهم؛ ولذلك أطلق الأنصار، أو لتحدث الناس به. ((مح)): قيل: المراد بقوله: ((شيئا)) صفرة أو زرقة، وفي هذا دلالة علي جواز ذكر مثل هذا للنصيحة، وفيه استحباب النظر إليها قبل الخطبة حتى إذا كرهها تركها من غير إيذاء، بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة، وإذا لم يمكنه النظر استحب أن يبعث امرأة تصفها له. وإنما يباح له النظر إلي وجهها وكفها فحسب، لأنهما ليسا بعورة في حقه، فيستدل بالوجه علي الجمال وضده، وبالكفين علي سائر أعضائها باللين والخشونة. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لا تباشر)) البشرة ظاهر جلد الإنسان،

3100 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينظر الرجل إلي عورة الرجل، ولا المرأة إلي عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلي الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلي المرأة في ثوب واحد)) رواه مسلم. 3101 - وعن جابر [رضي الله عنه]. قال: قال رسول الله،: ((ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمباشرة الملامسة، وأصله من لمس البشرة البشرة، والمعنى في الحديث النظر مع اللمس، فينظر إلي ظاهرها من الوجه والكفين، ويحس باطنها باللمس، ويقف علي نعومتا وسمنها. قوله: ((فتنعتها)) عطف علي ((تباشر)) والنفي منصب عليهما معا، فتجوز المباشرة بغير التوصيف. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا يفضي الرجل)) ((غب)): أفضى بيده إلي كذا. وأفضى إلي امرأته في باب الكناية أبلغ وأقرب، وقال الله تعالي: {وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلي بَعْضٍ}. ((مظ)): يعني لا يجوز أن يضطجع رجلان في ثوب واحد متجردين وكذلك المرأتان، ومن فعل يعزز ولا يحد، وفيه بيان تحريم النظر إلي ما لا يجوز، وعورة الرجل ما بين سرته وركبته، وكذلك عورة المرأة في حق المرأة، وكذلك في حق محارمها. وأما المرأة في الرجل الأجنبي فجميع بدنها عورة إلا وجهها وكفيها عند حاجة، كسماع إقرار وخطبة كما مر. ((مح)): نظر الرجل إلي المرأة الأجنبية حرام من كل شيء من بدنها، وكذلك المرأة إلي الرجل، سواء كان بشهوة أو بغيرها، وكذلك يحرم النظر إلي الأمرد إذا كان حسن الصورة أمن من الفتنة أم لا. هذا هو المذهب الصحيح المختار عند المحققين، نص عليه الشافعي وحذاق أصحابه رضي الله عنهم؛ وذلك لأنه في معنى المرأة فإنه يشتهي كما تشتهي، وصورته في الجمال كصورة المرأة، بل ربما كان كثير منهم أحسن صورة من كثير من النساء، بل هم بالتحريم أولي لما يتمكن في حقهم من طرق الشر ما لا يتمكن من مثله في حق المرأة. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عند امرأة ثيب)) ((قض)): المراد النهي عن البيتونة في مسكن ثمة ثيب، وتخصيص الثيب لأن البكر أغض وأخوف علي نفسها، قوله: ((أو ذا محرم)) ((مح)): هو كل من حرم عليه نكاحها علي التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا: ((علي التأبيد)) احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن، ومن بنتها قبل الدخول بالأم،. وقولنا: ((بسبب مباح)) احتراز من أم الموطوءة بشبهة فإنها حرام علي التأبيد، لكن لا بسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم ولا بغيرهما؛ لأنه ليس فعل مكلف.

3102 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والدخول علي النساء)) فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) متفق عليه. 3103 - وعن جابر: أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها، قال: حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلاما لم يحتلم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقولنا: ((لحرمتها)) احتراز عن الملاعنة فهي حرام علي التأبيد، لا لحرمتها بل تغليظ عليهما. الحديث الخامس عن عقبة: قوله: ((الحمو الموت)) ((قض)): الحمو قريب الزوج كأبيه وأخيه، وفيه لغتان حما كعصا وحمو علي الأصل، وحمو بضم الميم وسكون الواو، وحم كأب، وحمء بالهمز وسكون الميم والجمع أحماء. قوله: ((الحمو الموت)) قال أبو عبيد: معناه فليمت ولا يفعل ذلك، وقال ابن الأعرابي: هذه كلمة تقولها العرب للتشبيه في الشدة والفظاعة، فيقال: الأسد الموت، يعني لقاؤه مثل الموت، والسلطان النار أي قربه مثل قرب النار. وقال الشيخ في شرح السنة: معناه الحمو كالموت تحذر منه المرأة كما تحذر من الموت. وهذه الوجوه إنما تصح إذا فسر الحمو بأخي الزوج ومن أشبهه من أقاربه كعمه وابن أخته، ومن فسره بأبي الزوج حمله علي المبالغة؛ فإن رؤيته وهو محرم إذا كان بهذه المثابة فكيف بغيره؟ أو أول الدخول بالخلوة. وقيل: لما ذكر السائل لفظا مجملا محتملا للمحرم وغيره، رد عليه سؤاله لتعميمه رد المغضب المنكر عليه. ((مح)): والمراد بـ ((الحمو)) هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه؛ لأن الخوف من الأقارب أكثر والفتنة منهم أوقع؛ لتمكنهم من الوصول إليها والخلوة من غير نكير عليهم، بخلاف غيرهم، وعادة الناس المساهلة فيه وتخلي الأخ بامرأة أخيه، فهذا هو الموت. ((فا)): معناه أن حماها الغاية في الشر والفساد، فشبه بالموت؛ لأنه قصارى كل بلاء، وذلك أنه شر من القريب من حيث إنه أمن [مذل] *، والأجنبي متخوف مترقب. ويحتمل أن يكون دعاء عليها أي كان الموت منها بمنزلة الحمو الداخل عليها إن رضيت بذلك – انتهي كلامه. فإن قلت: أي فرق بين الإخبار والدعاء؟ قلت: في الإخبار أداة التشبيه ووجهه مضمران، أي الحمو كالموت في الشر والضرر، وفي الدعاء ادعاء أن الحمو نوعان: متعارف وهو القريب، وغير متعارف وهو الموت، وطلب لها غير المتعارف لما استفتى الرجل المتعارف مبالغة، هذا معنى قول القائل: رد المغضب المنكر عليه. الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((حسبت)) إلي آخره، هذا يدل علي أن

3104 - وعن جرير بن عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري. رواه مسلم. 3105 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلي امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحاجة إلي الحجامة لم تكن ضرورية، ولا يجوز للأجنبي أن يحجمها وينظر إلي جميع بدنها للعلاج. الحديث السابع عن جرير: قوله: ((عن نظر الفجاءة)) ((مح)): وهي أن يقع النظر إلي الأجنبية من غير قصد بغتة فهو معفو، لكن يجب عليه أن يصرف بصره في الحال، وإن استدام النظر يأثم، وعليه قوله تعالي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}. قال القاضي عياض: قالوا: فيه حجة علي أنه لا يجب علي المرأة ستر وجهها، وإنما ذلك سنة مستحبة لها، ويجب علي الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض صحيح شرعي. الحديث الثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((تقبل في صورة شيطان)) جعل ((صورة شيطان)) ظرفا لإقبالها مبالغة علي سبيل التجريد، كما تقول: رأيت فيك أسدا أي لست غير الأسد؛ لأن إقبالها داء للإنسان إلي استراق النظر إليها، كالشيطان الداعي إلي الشر والوسواس. وعلي هذا إدبارها؛ لأن الطرف رائد القلب، فيتعلق القلب بها عند الإدبار فيتخيل للوصول إليها. قال الحماسي: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر قال أبو حامد: النظر مبدأ الزنا فحفظه مهم، وهو عسير من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفات كلها تنشأ منه. ((مح)): قال العلماء: معناه الإشارة إلي الهوى، والدعاء إلي الفتنة بما جعل الله تعالي في نفوس الرجال من الميل إلي النساء والالتذاذ بالنظر إليهن وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلي الشهوة بوسوسته وتزيينه له. ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها أن لا تخرج إلا لضرورة، ولا تلبس ثيابا فاخرة، وينبغي للرجل أن لا ينظر إليها ولا إلي ثيابها. وفيه أنه لا بأس للرجل أن يطلب امرأته إلي الوقاع في النهار، وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه؛ لأنه ربما غلبت علي الرجل شهوة فيتضرر بالتأخير في بدنه أو قلبه. قوله: ((أعجبته)) أي استحسنها، لأن غاية رؤية المتعجب منه تعظيمه واستحسانه.

الفصل الثاني 3106 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلي ما يدعوه إلي نكاحها فليفعل)). رواه أبو داود. [3106] 3107 - وعن المغيرة بن شعبة، قال خطبت امرأة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل نظرت إليها؟)) قلت: لا. قال: ((فانظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3107] 3108 - وعن ابن مسعود، قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فأتى ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إلي ما يدعوه إلي نكاحها)) قد مر أن الداعي إلي النكاح إما المال أو الحسب أو الجمال أو الدين، فمن غرضه الجمال فليتحر في النظر إلي ما قصده بأن ينظر إليها بنفسه، أو أن يبعث من ينعتها له، هذا معنى الاستطاعة، وفيه إن لم يكن غرضه الجمال لا يفتقر إلي رؤيتها. ويمكن أن يحمل الداعي علي كسر الشهوة وغض البصر من غير المحارم، فحينئذ يكون الجمال مطلوبا إذ به يحصل التحصين، والطبع لا يكتفي بالذميمة غالبا، كيف والغالب أن حسن الخلق والخلق لا يفترقان؟ وأن ما روى أن المرأة لا تنكح لجمالها، ليس زجرا عن رعاية الجمال، بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين. الحديث الثاني عن المغيرة: قوله: ((أن يؤدم بينكما)) ((فا)) الأدم والإيدام الإصلاح والتوفيق، من أدم الطعام وهو إصلاحه بالإدام وجعله موافقا للطاعم، وأصله ((بأن يؤدم)) فحذف الباء وحذفها مع إن وإن كثيرة، والهاء في قوله: ((فإنه)) راجع إلي مصدر ((نظرت)) كقولهم: من أحسن كان خيرا له، ويجوز أن يكون الضمير للشأن ((وأخرى أن يؤدم)) جملة في موضع خبر ((إن)) والمعنى: فإن النظر أولي بالإصلاح وإيقاع الألفة والوفاق بينهما. انتهي كلامه. أي ((يؤدم به)) فالجار والمجرور أقيم مقام الفاعل ثم حذف، ويجوز أن يكون النائب ((بينكما)) علي أن يكون مرفوعا، كقوله تعالي: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالرفع.

سودة وفي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته، ثم قال: ((أيما رجل رأي امرأة تعجبه فليقم إلي أهله؛ فإن معها مثل الذي معها)) رواه الدارمي. [3108] 3109 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي. [3109] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((فإن معها مثل الذي معها)) يريد أن غاية ذلك النظر هذا الفعل، ولكن التفاوت أن في تلك الغاية سخطا من الله وغضبا وهذه بخلافه، وكانت تلك الفعلة بمحضر تلك النساء إرشادا لهن ولأزواجهن إلي ما ينبغي أن يفعل. الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((المرأة عورة)) ((تو)): العورة السوءة وكل ما يستحيي منه، وأصلها من العار المذمة ولذلك سمي النساء عورة، أي أن المرأة موصوفة بهذه الصفة، وما كان هذه صفته فمن حقه أن يستر، ويحتمل أن يكون معناه أنها ذات عورة، ولما كان من شأن العورة أن تكون مستورة محجوبة يستحيي من كشفها، ويستنكف من هتك حرمتها، وكان من شأن المرأة في تبرزها وتبرجها شبيها بكشف العورة سماها هنالك عورة. والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلي الشيء، وبسط الكف فوق الحاجب، ومنه قول الحماسي: فيا عجبا للناس يستشرفونني كأن لم يروا بعدي محبا ولا قبلي وفي الحديث وجوه: أحدهما: أن ينظر إليها ويطمح ببصر نحوها ليغويها أو يغوى بها. وثإنيها: أن أهل الريبة إذا رأوها بارزة من خدرها استشرفوها؛ لما بث الشيطان في نفوسهم من الشر وألقى في قلوبهم من الزيغ، فأضاف الفعل إلي الشيطان لكونه الباعث علي استشرافهم إياها. وثالثها: أنه يود أنها علي شرف الأرض لتكون معرضة له. ورابعها: أنه أراد أن الشيطان يصيبها بعينه فتصير من الخبيثات بعد أن كانت من الطيبات. من قولهم: استشرفت إبلهم أي تعينتها. هذا الذي اهتدينا إليه من البيان، والعجب ممن يتصدى لبيان المشكل وتفسير الغريب، ثم يمر علي مثل هذا القول غير مكترث به! ولقد فتشت أمهات الكتب التي صنفت في هذا الفن عن بيان هذا الحديث، فلم أصادف أحدا منهم تعرض له بكلمة. أقول: المرأة عورة سواء كانت في خدرها أو خارجة عنه، وفي هذا المقام ينبغي أن تحمل العورة علي معنى ما يخالف استشراف الشيطان إياها، يعني ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس بها، فإذا خرجت طمع وأطمع؛ لأنها حبائل الشيطان، فإذا

3110 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولي وليست لك الآخرة)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والدارمي. [3110] 3111 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلي عورتها)). وفي رواية: ((فلا ينظرن إلي ما دون السرة وفوق الركبة)) رواه أبو داود. [3111] 3112 - وعن جرهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أما علمت أن الفخذ عورة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3112] ـــــــــــــــــــــــــــــ خرجت جعلها مصيدة يزينها في قلوب الرجال ويغريهم عليها فيورطهم في الزنى، كالصائد الذي يضع الشبكة ليصطاد ويغري الصيد إليها بما يوقعه فيها. قال الشيخ أبو حامد قدس الله سره: روى عن الفضيل أن إبليس يقول: هي قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به. وعن بعضهم: ما أيس الشيطان من ابن آدم قط إلا أتى من قبل النساء. ولأن الصلاة أفضل العبادات وأفضل موقعها أن تكون مع الجماعة في المساجد، وإنما ورد صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها؛ لهذا السر. والله أعلم. الحديث الخامس عن بريدة: قوله: ((فإن لك الأولي)) يدل علي أنها نافعة كما أن الثانية ضارة؛ لأن الناظر إذا أمسك عنان نظره ولم يتبع الثانية أجر. ((حس)): فيه دلالة علي أن النظرة الأولي له لا عليه إذا كانت فجأة من غير قصد، فأما القصد فلا يجوز إلا لغرض كالنكاح وغيره. وقال الحسن والشعبي في المرأة بها الجرح ونحوه: يخرق الثوب علي الجرح، ثم ينظر إليه الطبيب. الحديث السادس عن عمرو: قوله: ((فلا ينظرن إلي ما دون السرة)) بيان لما يراد من قوله: ((فلا ينظرن إلي عورتها)). ((حس)): الأمة عورتها مثل عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض. ويجوز للزوج أن ينظر إلي جميع بدن امرأته وأمته التي

3113 - وعن علي [رضي الله عنه]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا علي! لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [3113] 3114 - وعن محمد بن جحش، قال: مر رسول لله صلى الله عليه وسلم علي معمر، وفخذاه مكشوفتان، قال: ((يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة)). رواه في ((شرح السنة)). [3114] 3115 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلي أهله، فاستحيوهم وأكرموهم)). رواه الترمذي. [3115] 3116 - وعن أم سلمة: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجبا منه)) فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟)) رواه أحمد، والترمذي. وأبو داود. [3116] ـــــــــــــــــــــــــــــ تحل له، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج، فإن النظر إليه مكروه، وكذلك فرج نفسه، وإذا زوج أمته حرم النظر إلي ما بين السرة والركبة. الحديث السابع إلي العاشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فإن معكم من لا يفارقكم)) هم الحفظة الكرام الكاتبون. الحديث الحادي عشر عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((وميمونة)) ((قض)): تروى مرفوعة عطفاً علي الضمير في ((كانت)) وإنما جاز لوقوع الفصل بينهما، ومنصوبة عطفاً علي الهاء في ((أنها))، ومجرورة عطفاً علي ((رسول الله)). أقول: الأوجه أن يعطف ((ميمونة)) علي اسم ((أن)) ليشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان في بيت أم سلمة وميمونة داخلة عليها؛ لأن تأخير المعطوف عن المعطوف عليه، وإيقاع الفصل بينهما يدل علي أصالة الأولي وتبعية الثانية، كقوله تعالي: {وإذْ يَرْفَعُ

3117 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه. عن جده. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) فقلت: يا رسول الله! أفرأيت إن كان الرجل خاليا؟ قال: ((فالله أحق أن يستحي منه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3117]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ} أوقع الفصل ليدل علي أن إسماعيل كان تابعا له في الرفع، ولو عطف من غير فصل أوهم الشركة. ((قض)): الحديث بظاهره يدل علي أنه ليس للمرأة النظر إلي الأجانب مطلقا كما ليس لهم أن ينظروا إليها. ومنهم من خصص التحريم بحال خاف فيه الفتنة؛ توفيقا بينه وبين ما روي عن عائشة رضي الله عنها في حديثها المشهور أنها قالت: ((كنت أنظر إلي الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد)). ومن أطلق التحريم أول ذلك بأنها ما كانت يومئذ بالغة، وفيه نظر؛ لأنها وإن تكن بالغة كانت مراهقة وكان من حقها أن تمنع. ((مظ)): عمل بعض الفقهاء بهذا الحديث، وبعضهم عما بحديث عائشة، وحمل هذا علي التقوى والورع، والفتوى علي أنه يجوز للمرأة النظر إلي الرجل الأجنبي فيما فوق السرة وتحت الركبة، بدليل أنهن كن يحضرن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولابد أن يقع نظرهن إلي الرجال، فلو لم يجز لم يؤمرن بحضور المسجد والمصلي؛ ولأنه أمرت النساء بالحجاب عن الرجال ولم يؤمر الرجال بالحجاب، وهذا إذا لم بكن النظر عن الشهوة، فأما نظرها بالشهوة إلي الرجل فحرام. قوله: ((أفعمياوان)) هذا من بليغ الكلام ووجيزة؛ فإن الهمزة الأولي للإنكار والتوبيخ والثانية للتقرير، والفاء عطفت ما بعدها من الجملة الاسمية علي المقدرة قبلها بعد الهمزة، يعني زعمتما أن علة منع الاحتجاب العمى وهي موجودة فيه، أهي موجودة فيكما؟ أفعمياوان أنتما؟ ثم استأنف مقررا بذلك قائلا: ((ألستما تبصرانه))؟ وفيه أن علة الاحتجاب الفتنة وهي قائمة، سواء كان من الطرفين أو من أحدهما. روى الشيخ أبو حامد عن سعيد بن المسيب أنه قال وهو ابن أربع وثمإنين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه ويعشو بالأخرى: - ما شيء عندي أخوف من النساء. وفيه أنه لا يجوز للنساء مجالسة العميان كما جرت العادة به في المآتم والولائم، فيحرم علي الأعمى الخلوة بالنساء ويحرم علي المرأة مجالسة الأعمى وتحديق النظر إليه لغير حاجة. الحديث الثاني عشر عن بهز بن حكيم: قوله: ((أحفظ عورتك)) عدل عن قوله: استر إلي ((أحفظ))؛ ليدل سيق الكلام علي الأمر بستر العورة استحياء ممن ينبغي أن يستحي منه من الله تعالي ومن خلقه، ويشير به إلي معنى قوله تعالي: {والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلاَّ عَلي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} لأن عدم الستر يؤدي إلي الوقاحة وهي إلي الزنى.

3118 - وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يخلون رجل لامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)). رواه الترمذي. [3118] 3119 – (22) وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تلجوا علي المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لدم)) قلنا: ومنك يا رسول الله؟ قال: ((ومني، ولكن الله أعانني عليه؛ فأسلم)). رواه الترمذي. [3119] 3120 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلي فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: ((إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك)). رواه أبو داود. [3120] الفصل الثالث 3121 - عن أم سلمة: أن انبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وفي البيت مخنث، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((لا يخلون)) جواب للقسم ويشهد له الاستثناء؛ لأنه يمنعه من أن يكون نهيا، والمستثنى منه أعم عام الأحوال، أي والله لا يخلون رجل بامرأة كائنين علي حال من الأحوال إلا علي هذه الحالة، وفيه تحذير عظيم في الباب، ونكر ((رجل)) و ((امرأة)) ليعم ولا يختص منهما إلا الأزواج. الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((يجري من أحدكم مجرى الدم)) مضى شرحه في باب الوسوسة. الحديث الخامس عشر عن أمس رضي الله عنه: قوله: ((ما تلقى)) أي من تغطية الرأس طورا، والرجل أحرى، حياء وتنزها، والضمير في ((إنما هو)) راجع إلي من استحيت وتنزهت منه، يعني لا بأس أن تستحين منه إلا أباك وغلامك، ذكر الأب ليعطف عليه ((غلامك)) إشعارا بأن غلام المرأة بمنزلة أبيها في المحرمية، فلو قال: إنما هو أنا وغلامك لم يقع هذا الموقع. الفصل الثالث الحديث الأول عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله ((مخنث)) ((مظ)): هو بكسر النون

لعبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمه: يا عبد الله! إن فتح الله لكم غدا الطائف فإني أدلك علي ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلن هؤلاء عليكم)). متفق عليه. 3122 - وعن المسور بن مخرمة، قال حملت حجرا ثقيلا، فبينما أنا أمشي سقط عني ثوبي، فلم أستطع أخذه، فرإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ((خذ عليك ثوبك؛ ولا تمشوا عراة)) رواه مسلم. 3123 - وعن عائشة، قالت: ما نظرت – أو ما رأيت – فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط رواه ابن ماجه. [3123] 3124 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من مسلم ينظر إلي محاسن ـــــــــــــــــــــــــــــ وفتحها، وهو الذي يشبه النساء في أخلاقه وفي كلامه وحركاته، وتارة يكون هذا خلقه من الأصل، وتارة بتكلف، والأول لا ذم عليه ولا إثم ولا عقوبة؛ لأنه معذور لا صنع له في ذلك، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولا دخوله علي النساء، والثاني ملعون؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين بالنساء من الرجال)). قوله: ((تقبل بأربع)) ((خط)): يريد أربع عكن في البطن من قدامها، فإذا أقبلت رؤيت مواضعها شاخصة منكسرة الغصون، وأراد بالثمإني أطراف هذه العكن من ورائها عند منقطع الجنين. وكذا نقل الشيخ محي الدين أبي عبيدة. وإنما أنث ((ثمان)) ولم يقل ثمإنية؛ لأن المراد الأطراف، وهي مذكر، وإنما جاز حذف الهاء لأنه لم يذكر بلفظ المذكر كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال)) , وأما دخول المخنث علي أمهات المؤمنين فلأنهن اعتقدن أنه من غير أولي الإربة، فلما سمع صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، علم أنه من أولي الإربة فمنع، ففيه منع المخنث من الدخول علي النساء، وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء، وكذا حكم الخصى والمجوب. وجمع ((هؤلاء)) والمشار إليه مفرد علي تأويل حذف المضاف، أي لا يدخلن صنف هؤلاء، أو إرادة للجنس، أي من هو علي صفته وهجيراه. الحديث الثاني عن المسور: قوله: ((ولا تمشوا)) أعلم الخطاب بعد الخصوص في قوله: ((خذ عليك ثوبك)) دلالة علي أن الحكم عام لا يختص بواحد دون واحد. الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((إلا أحدث الله له عبادة)) لوح

(2) باب الولي في النكاح واستئذان المرأة

امرأة أول مرة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها)) رواه أحمد. [3124] 3125 - وعن الحسن، مرسلا، فال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الناظر والمنظور إليه)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3125] (2) باب الولي في النكاح واستئذان المرأة الفصل الأول 3126 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا إلي معنى قوله تعالي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} فإن الزكاء إما التنمية أو الطهارة، والطهارة منتهية إلي النمو أيضا، ولا نمو في الإنسان أكمل وأفضل من أن يفتح الله عليه باب ما خلق لأجله من العبادة، وكمالها أن يجد العابد حلاوتها ويزول عنه تعب الطاعة وتكاليفها الشاقة عليه، وهذا المقام هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وقرة عيني في الصلاة)) *، و ((أرحنا يا بلال)) ** والله أعلم. الحديث الخامس عن الحسن: قوله: ((لعن الله الناظر والمنظور)) لم يبين ما به يستحق به اللعن مما لا يجوز النظر إليه شرعا لعدم اللبس، وأن ذلك ما هو تعظيما له وتفخيما لشأنه والله أعلم بالصواب. باب الولي في النكاح واستئذان المرأة ((نه)): ولي المرأة متولي أمرها، والمولي اسم يقع علي جماعة كثيرة من الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعبد والمعتق والمنعم عليه. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رصي الله عنه: قوله: ((لا تنكح الأيم)) ((نه)): الأيم في الأصل التي لا زوج لها بكرا كانت أو متوفي عنها، ويريد ب ((الأيم)) في هذا الحديث الثيب خاصة، وهي التي زالت بكارتها بأي وجه كان، سواء زالت بنكاح صحيح أو

تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)). قالوا: يارسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) متفق عليه. 3127 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها إذنها صماتها)).وفي رواية: قال: ((الثيب أحق بنفسها من ـــــــــــــــــــــــــــــ شبهة أو فاسد أو بوثب أو بإصبع أو غير ذلك؛ لأنها جعلت مقابلة للبكر، ويقال الرجل أيضا: الأيم. قوله: ((حتى تستأمر)) ((قض)): الاستئمار طلب الأمر والاستئذان الإعلام، وقيل: طلب الأذن، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإذنها الصموت)) وقيل: المراد بالاستئمار المشاورة، وذلك بأن الاستئذان أبلغ من المشاورة، فلو حمل الاستئمار عليها ينعكس الأمر، وليس كذلك؛ فإن المشاورة تستدعي أن يكون للمستشار رأي ومقال فيما يشاور فيه ولا كذلك الاستئذان. وظاهر الحديث يدل علي أنه ليس للولي أن يزوج موليته من غير استئذان ومراجعة ووقوف واطلاع علي أنها راضية بصريح إذن أو سكوت من البكر؛ لأن الغالب من حالها أن لا تظهر إرادة النكاح حياء. وللعلماء في هذا المقام تفصيل واختلاف، وقد ذهبوا جميعا إلي أنه لا يجوز تزويج الثيب البالغة العاقلة دون إذنها، ويجوز للأب والجد تزويج البكر الصغيرة، وخصوص هذا الحديث فيه بما صح أن أبا بكر رضي الله عنه زوج عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن بعد بالغة. واختلفوا في غيرهما، فمنع الشافعي تزويج الثيب الصغيرة مطلقا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر باستئمار الثيب مطلقا، ولا معنى لاستئمارها قبل البلوغ؛ إذ لا عبرة بقولها، وتزويج البكر الصغيرة لغير الأب والجد والبالغة لغيرهما من غير إذنه؛ لعموم قوله: ((البكر تستأذن)) وجوز لهما تزويج البكر البالغة بغير إذن كما يجوز لهما تزويجها صغيرة. وخصص قوله: ((ولا تنكح البكر حتى تستأذن)) بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب أحق بنفسها من وليها)) وقوله فيما روى [عنه أبو] * هريرة: ((اليتيمة تستأمر في نفسها)) فإن معناه: لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر. والمراد باليتيمة التي تكون قريبة العهد بالبلوغ. وأبو حنيفة ذهب إلي خلاف ذلك كله. واختلف أيضا في أن السكوت من البكر يقوم مقام الإذن في حق جميع الأولياء، أو حق الأب والجد دون غيرهما، وإلي الأول ذهب الأكثر لظاهر الحديث. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله ((الأيم أحق بنفسها)) ((مح)): قال الكوفيون وزفر: ((الأيم)) هنا كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، كما هو مقتضاه في اللغة، فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها، وعقدها علي نفسها بالنكاح صحيح. وبه قال الشعبي والزهري. ((شف)): قالوا: ليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه. وقوله: ((أحق بنفسها)) يحتمل أن يراد به من وليها في كل سيء من العقد وغيره كما قال أبو حنيفة

وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها)) وفي رواية قال: ((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها)) رواه مسلم. 3128 – * وعن خنساء بنت خذام: أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها رواه البخاري وفي رواية ابن ماجة: نكاح أبيها 3129 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع سنين، ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمإني عشر. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وداود، ويحتمل أنها أحق بالرضي، حتى لا تزوج إلا أن تأذن بالنطق بخلاف البكر، ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم ((لا نكاح إلا بولي)) مع غيره من الأحاديث الدالة علي اشتراط الولي تعين الاحتمال الثاني. فإذا تقرر هذا فمعنى ((أحق)) وهو يقتضي المشاركة، أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها حقا، وحقها أوكد من حقه؛ فإنه لو أراد تزويجها كفءا وامتنعت لم تجبر، وإن أرادت أن تزوج كفءا وامتنع الولي أجبر، فإن أصر زوجها القاضي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر: ((وإذنها صماتها)) فظاهر العموم أنه في كل بكر وكل ولي، وأن سكوتها يكفي مطلقا. الحديث الثالث عن خنساء: قوله: ((نكاحه)) كذا في البخاري والحميدي والدرامي وجامع الأصول ومسند الشافعي، وفي سنن ابن ماجة ((نكاح أبيها)) ووقع في نسخ المصابيح ((نكاحها)). الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولعبها معها)) ((تو)): اللعب جمع لعبة كركبة وركب، أرادت ما كانت تلعب به، وكل ملعوب به فهو لعبة، وإذا فتح اللام فهو المرة الواحدة من اللعب، وإذا كسرت فهي الحالة التي عليها اللاعب. ((مح)): أجمع المسلمون علي جواز تزويج الأب بنته البكر الصغيرة لهذا الحديث، وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي والحجازيين، وقال أهل العراق: لها الخيار إذا بلغت؛ وأما غير الأب والجد من الأولياء فلا يجوز أن يزوجها عند الشافعي ومالك والثوري وغيرهم، وقالا الأوزاعي وأبو حنيفة آخرون: يجوز لجميع الأولياء، ولها الخيار إذا بلغت إلا أبا يوسف، فقال: لا خيار. وفيه جواز اتخاذ اللعب وإباحة لعب الجواري بهن، وقد جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم رأي ذلك ولم ينكره، ويحتمل أن يكون هذه قضية عائشة هذه في أول الهجرة قبل تحريم الصور.

الفصل الثاني 3130 - عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نكاح إلا بولي)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داوود، وابن ماجة، والدرامي. [3130] 3131 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داوود، وابن ماجه، والدرامي. [3131] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول الثاني عن عائشة رضي الله عنها: فوله: ((أيما امرأة نكحت)) ((قض)): الحديث صريح في المنع عن استقلال المرأة بالتزويج، فإنها لو زوجت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، وقد اضطرب فيه الحنفية فتارة يتجاسرون بالطعن فيه، ويقولون: إن هذا الحديث رواه الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريح عن سلمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، وقد روي عن ابن جريج أنه قال: سألت الزهري عنه فلم يعرف، ولم يعرفوا أن هذا الحديث قد روي عن ابن جريج جمع كثير من الأكابر الأئمة وأعيان النقلة، كيحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن أيوب وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وعن الزهري غير سعيد من الإثبات كالحجاج بن أرطأة وجعفر بن ربيعة، مع أن سعيدا من أكابر الرواة ووجوه الثقات، وروى هشام بن عروة عن أبيه مثل ذلك. علي أن قوله: ((فلم يعرفه)) إن صح لم يقدح؛ لأنه ليس فيه صريح إنكار. وتارة مالوا إلي المعارضة والترجيح، قالوا: يعارضه حديث ابن عباس وهو من الصحاح، وقد عرفت ما هو المراد من حديثه، وأن قوله: ((الأيم أحق بنفسها من وليها)) ليس فيه تنصيص علي استقلالها بالعقد. ومرة جنحوا إلي التأويل، فقوم خصصوا ((أيما امرأة)) بالأمة والصغيرة والمكاتبة والمجنونة، فأبطلوا به ظهور قصد التعميم بتمهيد أصل؛ فإنه صدر الكلام ((بأي)) الشرطية وأكد ب ((ما)) إبهامية، ورتب الحكم علي وصف الاستقلال ترتيب الجزاء علي الشرط المقتضى له، مع أن الصغيرة لا تسمى امرأة في عرف أهل اللسان، ثم إنه صلى الله عليه وسلم رتب الحكم ببطلانه ثلاثا، وعقد الصبية ليس بباطل عندهم بل هو موقوف علي إجازة الولي، والأمة ليس لها مهر، وقد قال

ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم: ((فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها)) والمكاتبة نادرة بالنسبة إلي جنس النساء، فلا يصح قصر العام عليها. وقوم أولو قوله: ((باطل)) بأنه علي صدد البطلان، ومصيره إليه بتقدير اعتراض الأولياء عليها إذا زوجت نفسها من غير كفء، وذلك مع ما فيه من إبطال قصر التعميم مزيف من وجوه أخر: أحدهما: أنه لا يناسب هذا التأكيد والمبالغة. وثإنيهما: أن المتعارف المنقول في تسمية الشيء باسم ما يئول إليه [تسمية ما يكون المآل إليه] * قطعا، كما في قوله تعالي: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُم مَّيِّتُونَ} أو غالبا كما في قوله تعالي: {إني أَرَإني أَعْصِرُ خَمْرًا}. وثالثهما: أنه لو كان كذلك لا يستحق المهر بالعقد إلا بالوطء؛ ولذلك قالوا: يتقرر المسمى بالوطء ويتعلق بالطلاق قبل الوطء، وقد علق رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستحقاق علي الوطء، وجعل الاستحلال علة لثبوته، وذلك يدل علي أن وطء الشبهة يوجب مهر المثل، ولم أجد أحدا غيرهم من أهل العلم رخص للمرأة تزويج نفسها مطلقا، وجوز مالك للدنيئة دون الشريفة، وقال أبو ثور: إن زوجت نفسها بإذن الولي صح، وإن زوجت بغير إذنه لم يصح؛ لتخصيص الحكم بالتزويج بغير إذن، وهو ضعيف؛ لاتفاق القائلين بالمفهوم كقوله تعالي: ((وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)) وقوله تعالي: ((فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)) إذ الظاهر أن الموجب لتخصيص محل النطق في ذلك كونه غالبا، فلا يدل علي قصر الحكم عليه. وقوله: ((فإن اشتجروا)) أي اختلفوا وتنازعوا، ومنه قوله تعالي: ((فيما شجر بينهم)) أي فيما وقع خلافا بينهم يريد به مشاجرة العضل؛ ولذلك فوض الأمر إلي السلطان وجعلهم كالمعدومين، وهو مما يؤيد منع المرأة عن مباشرة العقد؛ إذا لو صلحت عبارتها للعقد لأطلق لها ذلك عند عضل الأولياء واختلافهم، ولما فوض إلي السلطان. هذا تلخيص ما شرح السنة. أقول: ((أيما)) من المعممات التي يستغنى بها إما عن تفصيل غير حاصر أو تطويل غير ممل. فقوله: ((أيما امرأة)) تشمل الثيب والبكر والأمة والمجنونة والمكاتبة والصغيرة، فالقول بأن الثيب خارجة من الحكم يفتقر إلي دليل، وكذا قوله: ((لا نكاح إلا بولي)) ((لا)) نفي جنس النكاح وحصره إلا علي الولي، فهو من قصر الإفراد، يرد زعم من يذهب إلي أن النكاح يصح بولي وبغير ولي، فقطع الشركة وفصر الحكم علي الولي؛ فالحديثان دالان علي أن للولي مدخلا في النكاح البتة ولا يصح بدونه، لكنهما مجملان مبهمان في أن الولي هل هو مستقل أم لا، واستقلاله في بعض الصور أو كلها؟ وحديث أبي هريرة وابن عباس مع الروايات السابقة في بعضها؛ فإن أفعل التفضيل تدل علي أن له مدخلا وليس بمستقبل، وكذلك الاستثمار. ومن

3132 - وعم ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة)).والأصح أنه موقوف علي ابن عباس رواه الترمذي. 3133 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها)).رواه الترمذي، وأبو داوود، والنسائي. [3133]. 3134 - ورواه الدارمي عن أبي موسى. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذهب إلي استقلال الثيب أبطل مقتضى هذين الحديثين، ولم يعمل بموجب الحديثين الأولين. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((البغايا)) جمع بغية وهي الزإنية، من البغاء وهو الزنا. والبينة إما أن يراد به الشاهد فبدونه زنى عند الشافعي وأبي حنيفة، أو من به تبيين النكاح من الولي فهو شبهة فتسميها ب ((البغايا)) تشديد وتغليظ، ويؤيد هذا الوجه الحديث الثاني في الفصل الثالث من الباب. ((حس)) في الحديث السابق ((فإن دخل بها فلها المهر)) دليل علي أن وطء الشبهة يوجب مهرا ولا يجب به الحد، ويثبت النسب؛ فمن فعله عامدا عزر. وذهب أكثر أهل العلم إلي أن النكاح لا ينعقد إلا ببينة، وليس فيه خلاف ظاهر بين الصحابة ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، إلا قوم من المتأخرين كأبي ثور. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اليتيمة تستأمر)) يراد بها البالغة البكر من اليتامى، سماها يتيمة باعتبار ما كانت، كقوله تعالي: {وآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}. وفائدة التسمية مراعاة حقها والشفقة عليها في تحري الكفاءة والصلاح؛ فإن اليتيم مظنة الرأفة والرحمة. ((حسن)): اختلفوا في اليتيمة إذا زوجها غير الأب والجد، فذهب جماعة إلي أن النكاح صحيح، ولها الخيار إذا بلغت في فسخ النكاح أو إجازته، وهو قوله أصحاب أبي حنيفة، وذهب قوم إلي أن النكاح باطل. وهو قول الشافعي، واحتج بأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اليتيمة تستأمر)) واليتيمة اسم للصغيرة التي لا أب لها، وهي قبل البلوغ لا معنى لإذنها ولا عبرة لإبائها، وكأنه صلى الله عليه وسلم شرط بلوغها، فمعناه لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر. واختلفوا في الوصي هل يزوج بنات الموصي؟ فذهب قوم إلي أنه لا ولاية له وإن فوض إليه. وقال حماد ابن أبي سليمان: للوصي أن يزوج اليتيمة قبل البلوغ، وحكى ذلك عن ابن شريح أنه أحاز نكاح الوصي مع كراهة الأولياء، وأجاز مالك إذا فوض إليه الأب. قوله: ((فلا جواز عليها)) أي فلا تعدي عليها. ((نه)): جازه يجوزه إذا تعداه وعبره عليه.

3135 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر)). رواه الترمذي، وأبو داوود، والدارمي. [3135] الفصل الثالث 3136 - عن ابن عباس، قال: إن جارية بكرا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داوود. [3136] 3137 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزإنية هي التي تزوج نفسها)) رواه ابن ماجه. [3137] 3138 - وعن أبي سعيد، وابن عباس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه، فإذا بلغ فليزوجه، فإن بلغ ولم يزوجه فأصاب إثما؛ فإنما إثمه علي أبيه). [3138] 3139 - وعن عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك [رضي الله عنهما] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في التوراة مكتوب: من بلغت ابنته اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فأصابت إثما، فإثم ذلك عليه)). رواهما البيهقي في ((شعب الأيمان)). [3139] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فهو عاهر)) ((مظ)): لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده عند الشافعي [وأحمد] * لهذا الحديث، ولا يصح إن أجاز بعد العقد، وعند أبي حنيفة يجوز إن أجازه بعده. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جارية بكرا)) فيدها بالبكارة دون الصغر لاعتبار كراهتها، ولو كانت صغيرة لما اعتبر كراهتها؛ فإن قوله: ((وهي كارهة)) حال لبان هيئة المفعول عند التزويج. الحديث الثاني والثالث والرابع عن أبي سعيد وابن عباس رضي الله عنهم: قوله: ((فأصاب إثما)) أي ما أثم به من الفواحش. وقوله: ((فإنما إثمه علي أبيه)) أي جزاء الإثم عليه حقيقة، ودل هذا الحصر علي أن الإثم علي الوالد مبالغة؛ لأنه لم يتسبب لما يتفادى ولده من إصابة الإثم.

(3) باب إعلان النكاح والخطبة والشرط

(3) باب إعلان النكاح والخطبة والشرط الفصل الأول 3140 - عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني علي، فجلس علي فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال ((دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين)) رواه البخاري. 3141 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: زفت امرأة إلي رجل من الأنصار، فقل نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو)) رواه البخاري. 3142 - وعنها، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب إعلان النكاح، والخطبة، والشروط الفصل الأول الحديث الأول عن الربيع: قوله: ((كمجلسك)) الحطاب لمن يروى عنها الحديث. قوله: ((ويندبن)) ((مظ)): الندب عد خصال الميت ومحاسنه. وفيه دليل علي جواز إنشاد شعر ليس فيه فحش وكذب، وإنما رسول الله صلى الله عليه وسلم القائلة بقولها: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ لكراهته أن يسند إليه علم الغيب مطلقا؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، أو أن يوصف في أثناء اللعب والهزل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أجل وأشرف من أن يذكر إلا في مجالس الجد. الحديث الثاني والثالث عن عائشة رضي الله عنها: قاوله: ((ما كان معكم لهو؟)) ((ما)) نافية وهمزة الإنكار مقدرة، أي أما كان؟ وفيه معنى التخصيص، لما في حديث عائشة رضي الله عنها ((ألا أرسلتم معهم من يقول: أتيناكم)) الحديث. ((حس)): إعلان النكاح وضرب الدف فيه مستحب، وقد روي عن [القاسم] * بن محمد عن عائشة بإسناد غريب، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المسجد، واضربوا عليه بالدفوف)) **. قوله: ((وبنى بي)) الجوهري: بنى علي أهله بناء أي زفها، والعامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وكان الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل.

3143 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأهله: بان، وعليه كلام الشيخ التوربشتي والقاضي، وبالغا في التخطئة حتى تجاوزا إلي تخطئة الراوي. أقوال: إن استعمال ((بنى عليها)) بمعنى زفها في بدأ الأمر كناية، فلما كثر استعماله في الزفاف فهم منه معنى الزفاف، وإن لم يكن ثمة بناء. وأي بعد في أن ينتقل من المعنى الثاني إلي المعنى الثالث، فيكون بمعنى أعرس بي؟ فيوضح هذا ما قال صاحب المغرب: أصله أن المعرس كان يبني علي أهله ليلة الزفاف خباء ثم كثر حتى كني به عن الوطء. وعن أبي دريد: بنيس بامرأته بالباء كأعرس بها. فوله: ((فأي النساء)) الفاء سببية، أي كذبوا ما قالوا من أن التزوج في الشوال سبب لعدم الحظ من الزوج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجني ولم يكن أحظى مني، فوضع الجملة الاستفهامية موضعه مزيدا للتقرير والتأكيد. روى في شرح السنة ((كان أحظى مني)) نظرا إلي ((أي)) ومن حق الظاهر أن يقال: أية امرأة، فاعتبر في الإضافة الجمع وذكره. فإن قلت: فلم قالت: ((فأي النساء)) ولم تقل: فأية امرأة؟ قلت: ليؤذن ابتداء كثرة نسائه المفضلات عليهن، وهي أحظى عنده صلى الله عليه وسلم من كل واحدة منهن، وقريب منه قوله تعالي: {فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} حيث لم يقل: فإن كانت امرأة فوق اثنتين. وفائدته التنبيه علي خلوصهن إناثا لا ذكر فيهن. قوله: ((أحظى عنده مني)) ((نه)): أي أقرب إليه مني وأسعد به، يقال: حظيت المرأة عند زوجها تحظى حظوة وحظوة بالكسر والضم، أي سعدت به ودنت من قلبه وأحبها. ((مح)): فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا عليه واستدلوا بهذا الحديث، قصدت عائشة رضي الله عنها بهذا رد ما كانت الجاهلية عليه، وما يتخيله بعض العوام اليوم، وكان أهل الجاهلية يتطيرون بذلك؛ لما في اسم شوال من الإشالة والرفع. الحديث الرابع عن عقبة: قوله: ((أحق الشروط)) مبتدأ خبره ((ما استحللتم)) وقوله: ((أن توفوا)) بدل من ((الشروط)). ((قض)): المراد بالشروط ها هنا المهر؛ لأنه المشروط في مقابلة البضع، وقيل: جميع ما تستحقه المرأة بمقتضى الزوجية من المهر والنفقة وحسن المعاشرة، فإن الزوج ألزمها بالعقد فكأنها شرطت فيه. وقيل: كل ما شرط الزوج ترغيبا للمرأة في النكاح ما لم يكن محظورا. ((مح)): قال الشافعي وأكثر العلماء: هذا محمول علي شرط لا ينافي مقتضى النكاح، ويكون من مقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق عليها وكسوتها وسكنها، ويقسم لها

3144 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخطب الرجل علي خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)) متفق عليه. 3145 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها، ولتنكح فإن لها ماقدر لها)) متفق علبه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كغيرها، ومن جانب المرأة أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تنشز عليه ولا تصوم تطوعا بغير إذنه، ولا تأذن غيره في بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك. وأما شرط يخالف مقتضاه: كشرط أن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها، ولا ينفق عليها ولا يسافر بها ونحو ذلك، فلا يجب الوفاء به؛ بل يكون لغوا، ويصبح النكاح بمهر المثل. وفال أحمد: يجب الوفاء بكل شرط. أقول: فعلي هذا الخطاب في قوله: ((ما استحللتم)) للتغليب فيدخل فيه الرجال والنساء، تدل عله الرواية الأخرى ((ما استحللت به الفروج)). الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى تنكح أو يترك)) ((مظ)): أي إذا طلب أحد تزوج امرأة فأجابه وليها، حيث لا يشترط رضي الزوجة، بأن كانت بكرا ووليها أبوها أو جدها، وحيث شرط رضي الزوجة، فيعتبر أن يجيب الطالب الزوجة ووليها – فحينئذ يحرم أن يتزوج تلك المرأة أحد، حتى يترك الطالب الأول تزوجها، أو يأذن للطالب الثاني في تزوجها، فإن تزوج الثاني تلك المرأة بغير إذن الأول صح النكاح ولكن يأثم. أقول: ((حتى)) غاية النهي، فيوهم أن بعد النكاح لا تكون الخطبة منهيا عنها، وبعد النكاح لا تتصور الخطبة، فكيف معنى ((حتى))؟ فيقال: إنه لا يستقيم فلا يجوز، والله أعلم. ويجوز أن تكون ((حتى)) بمعنى ((كي)) و ((أو)) بمعنى ((إلي)) وضمير ((ينكح)) راجع إلي الرجل، وفي ((يترك)) إلي ((أخيه))، المعنى لا يخطب الرجل علي خطبة أحيه لكي ينكحها إلي أن يتركها أخوه. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((لا تسأل المرأة)) ((قض)): نهي المخطوبة عن أن تسأل الخاطب طلاق التي في نكاحه، وسماها أختها؛ لأنها أختها في الدين لتميل إليها وتتحنن عليها، واستقباحا للخصلة المنهي عنها. وقوله: ((لتستفرغ صحفتها)) أي تجعلها فارغة لتفوز بحظها؛ فإن ما قدر لها منه لا يزيد بذلك. قوله: ((ولتنكح)) عطف علي ((لتستفرغ)) وكلاهما علة للنهي، أي لا تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها وتنكح زوجها، استعارة مستملحة تمثيلية، شبه النصيب والبخت بالصحفة، وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به، واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في

3146 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الشغار – والشغار: أن يزوج الرجل ابنته علي أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: قال: ((لا شغار في الإسلام)) 3147 - وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. متفق عليه. 3148 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهي عنها. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المشبه به من الألفاظ. وقوله: ((ولتنكح)) تجريد للاستعارة لأنه مناسب للمشبه. ولو قيل: لتنال ما وضع في صفحتها، لكان من جملة الاستعارة، أو ترشيحا لها إن حملت الاستعارة علي المصرحة أو المكنية، فحينئذ يناسب النصيب والبخت قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن لها ما قدر لها)) ((فا)): الصحفة القصعة التي تشبع الخمسة، وهذا مثل لاختيارها نصيب أختها من زوجها. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((نهي عن الشغار)) مضى شرحه في باب الغصب. الحديث الثامن والتاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((نهي عن متعة النساء)) ((مح)): قال المازري: نكاح المتعة كان جائزا، ثم نسخ بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ثبت نسخها. وذكر فيها اختلافات كثيرة وأطنب فيها، فمن أراد فعليه بشرح صحيح مسلم. قال الشيخ محي الدين: والصحيح المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس؛ لاتصالهما، ثم حرمت بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلي يوم القيامة. ولا يجوز أن يقال: إن الإباحية مختصة بما قبل خيبر، والتحريم بيوم خيبر للتأييد، وأن الذي كان يوم فتح مكة مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح، كما اختار المازري والقاضي عياض؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحية يوم الفتح صريحة في ذلك، فلا يجوز إسقاطها، ولا مانع يمنع تكرير الإباحة. قال القاضي عياض: أحاديث إباحة المتعة وردت في أسفارهم في الغزو، وعند ضرورتهم وإعدام النساء، مع أن بلادهم حارة وصبرهم عنهن قليل. وقد ذكر في حديث ابن عمر أنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة ونحوها، ثم أجمعوا علي أنه متى وقع نكاح المتعة حكم ببطلانه، سواء قبل الدخول أو بعده، إلا ما قال زفر: من نكح متعة تأبد

الفصل الثاني 3149 - عن عبد الله بن مسعود، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، والتشهد في الحاجة، قال: التشهد في الصلاة: ((التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)). والتشهد في الحاجة: إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)). ويقرأ ثلاث آيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ نكاحه، وكأنه جعل ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح؛ فإنها تلغى ويصح النكاح. قال القاضي عياض: أجمعوا علي أن من نكح مطلقا، ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة، فنكاحه صحيح وليس بنكاح متعة، وإنما المتعة ما وقع بالشرط المذكور، وهو يحد الواطيء في نكاح المتعة؟ فمذهبنا أنه لا يحد لشبهة الخلاف. واختلف الأصوليون في أن الإجماع بعد الخلاف هل يدفع الخلاف، ويصير المسألة مجمعا عليها؟ فالأصح عند أصحابنا أنه لا يدفعه. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الحمد لله)) خبر لقوله: ((التشهد في الحاجة)) و ((أن)) هي المخففة من الثقيلة، كقوله تعالي: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فالحمد هنا يجب أن يحمل علي الثناء علي الجميل من نعمة وغيرها، من أوصاف الكمال والجلال والإكرام والأفعال العظام، والتعريف فيه علي استغراق الجنس، فيفيد أن كل نعمة من النعم الدنيوية والأخروية ليست إلا منه، وكل صفة من صفات الكمال وفضائل الأعمال له ومنه وإليه؛ ليترتب عليه الأفعال المتناسقة بعده، الاستعانة والاستغفار والاستعاذة، وأضاف الشر إلي الأنفس أولا كسبا، والإضلال إلي الله تعالي ثإنيا خلقا وتقديرا. قوله: ((ويقرأ ثلاث آيات)) هذا في رواية النسائي، وهو يقتضي معطوفا عليه، فالتقدير والتشهد في الحاجة أن يقول: الحمد لله كيت وكيت، ويقرأ ثلاث آيات، ولعل قوله: {يَا أَيُّهَا

تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داوود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وفي جامع الترمذي فسر الآيات الثلاث سفيان الثوري، وزاد ابن ماجه بعد قوله ((إن الحمد لله)): ((نحمده)) وبعد قوله ((من شرور أنفسنا)): ((ومن سيئات أعمالنا)) والدارمي بعد قوله: {عَظِيمًا}: ((ثم يتكلم بحاجته)). وروى في شرح السنة عن ابن مسعود في خطبة الحاجة من النكاح وغيره. [3149] 3150 - وعن أبي هريرة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3150] ـــــــــــــــــــــــــــــ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ} الآية في مصحف ابن مسعود، أو تأويل لما في [الإمام] *، وإرادة أن التعريف في {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} للعهد والإشارة به إلي المؤمنين. ويؤيده حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: ((جاء قوم عراة مجتابي النمار عامتهم من مضر، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ - إلي قوله: - رَقِيبًا} و {اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ} الآية. تصدق من ديناره – إلي آخر الحديث)). والله أعلم بحقيقة الحال. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((كاليد الجذماء)) ((تو)): أي المقطوعة. والجذم سرعة القطع، يعني أن كل خطبة لم يؤت فيها بالثناء علي الله، فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة فيها لصاحبها. وأصل التشهد قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ويعبر به عن الثناء في غير هذه الرواية ((كل خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذماء)). والشهادة الخبر المقطوع به، والثناء علي الله أصدق الشهادات وأعظمها.

3151 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع)) رواه ابن ماجه. [3151] 3152 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف)). رواه الترمذي. هذا حديث غرب. [3152] 3153 - وعن محمد بن حاطب الجمحي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت والدف في النكاح)) رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [3153] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: إنما عبر التشهد عن الحمد لله في هذا الحديث، وحمل في الحديث السابق عليه في قوله: ((والتشهد في الحاجة: إن الحمد لله)) لأن القول اللسإني لا يعتبر ولا يعتد به إذا لم يتواطأ اللسان والقلب، ولم يجزم فيه. وليست الشهادة إلا عبارة عن هذه الأمور. والأولي أن يقال: إنما عبر عنه بالتشهد؛ لأنه متضمن للشهادتين بشهادة الحديث السابق، إطلاقا للجزء علي الكل كما في التحيات أيضا. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كل أمر ذي بال)) ((نه)): البال الحال والشأن، وأمر ذو بال أي شريف يحتفل به ويهتم، والبال في هذا القلب. وقال غيره: إنما قال: ((ذو بال))؛لأنه من حيث إنه يشغل القلب كأنه يملكه، فكان صاحب بال. أقول: ويجوز أن يقال للأمر الخطير: ذو بال، علي الاستعارة المكنية بأن يشبه الأمر برجل شهم، له قلب ثبت وجنان ذو عزم، فينبه عن لازم المشبه به، وهو البال المنكر تنكير تفخيم علي موضوع الاستعارة في ((أمر))،فيكون قوله ((أقطع)) ترشيحا للاستعارة. الحديث الرابع والخامس عن محمد: قوله ((الصوت والدف)) ((حس)): معناه إعلان النكاح واضطراب الصوت به والذكر في الناس، كما يقال: فلان قد ذهب صوته في الناس، وبعض الناس يذهب به إلي السماع، يعني السماع المتعارف بين الناس الآن، وهذا خطأ.

3154 - وعن عائشة، قالت: كانت عندي جارية من الأنصار زوجتها، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يا عائشة! ألا تغنين؟ فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء)) رواه ابن حبان في صحيحه. 3155 - وعن ابن عباس، قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أهديتم الفتاة؟)) قالوا: نعم. قال: ((أرسلتم معها من تغني؟)) قالت: لا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم)). رواه ابن ماجه. 3156 - وعن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها امرأة زوجها وليان؛ فهي للأول منهما ومن باع بيعا من رجلين؛ فهو للأول منهما)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. الفصل الثالث 3157 - عن ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع والثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ألا تغنين)) ((تو)):تغني وغنى بمعنى، ويحتمل أن يكون علي خطاب الغيبة لجماعة النساء والمراد منهن من يتغانى ذلك من الإماء والسفلة؛ فإن الحرائر يستنكف عن ذلك، وأن يكون علي خطاب الحضور لهن، ويكون من إضافة الفعل إلي الآمر به والآذن فيه. ولا يحسن فيه تفريد الخطاب ها هنا؛ لما فيه من الاحتمال، وقد جل منصب الطيبات الصديقات الصالحات القانتات عن معاناة ذلك بأنفسهن. أقول: ويمكن أن يقال: إن تفعل بمعنى استفعل غير عزيز *، منه قوله تعالي: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} أي استعجل، فإذن لا حاجة إلي التكلف، ويؤيد هذا قوله في الحديث الآتي: ((فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم)) فإن ((لو)) للتمني فيه الطلب. قوله: ((غزل)) الجوهري: مغازلة النساء محادثتهن ومراودتهن، تقول: غازلتها وغازلتني، والاسم الغزل. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ثم رخص لنا)) فيه إشارة إلي أنه كان

فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن نستمتع، فكان أحدنا ينكح المرأة بالثوب إلي أجل، ثم قرأ عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. متفق عليه. 3158 - وعن ابن عباس، قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شيه، حتى إذا نزلت الآية {إلاَّ عَلي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس: فكل فرج سواهما فهو حرام. رواه الترمذي. [3158] 3159 - وعن عامر بن سعد، قال: دخلت علي قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يغنين، فلت: أي صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر! يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب؛ فإنه قد رخص لنا في اللهو عند العرس. رواه النسائي. [3159] ـــــــــــــــــــــــــــــ يعتقد إباحتها كابن عباس رضي الله عنهما، ولم يبلغه في نص، فلما استبان لابن عباس ذلك من قول سعيد بن جبير حين قال ما قال، رجع عن ذلك كما سيأتي. ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك، أو استمر عليه لما يبلغه النص. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {إلاَّ عَلي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يريد أن الله تعالي وصفهم بأنهم يحفظون فروجهم عن جميع الفروج إلا عن الأزواج والسراري، والمتمتعة ليس منهما؛ لأن حكم الأزواج من التوريث والإيراث غير جار عليها، ولا هي مملوكة بل هي مستأجرة نفسها أياما معدودة، فلا تدخل تحت الحكم. ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: أن المستمتعة ليست زوجة له، فوجب أن لا تحل له، وإنما قلنا: إنها ليست زوجة له؛ لأنهما لا يتوارثان بالإجماع، ولو كانت زوجة له لحصل التوارث؛ لقوله تعالي: {ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}، وإذا ثبت أنها ليست زوجة له وجب أن لا تحل لله، لقوله تعالي: {إلاَّ عَلي أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الحديث الثالث عن عامر بن سعد: قوله: ((وأهل بدر!)) خصم به؛ لأن أهل بدر هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. كأنه قيل: كيف يفعل هذا بين أيديكم – وأنتم من أجلة الصحابة – ولم تنكروه وهو بعيد منكم ومناف لحالكم.

(4) باب المحرمات

(4) باب المحرمات الفصل الأول 3166 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المحرمات المحرم الممنوع منه، المغرب: المحرم الحرام والحرمة أيضا، وحقيقته موضوع الحرمة، ومنه: هي له محرم وهو لها محرم. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يجمع بين المرأة وعمتها)) ((مح)): أي يحرم الجمع بينهما سواء كانت عمة أو خالة حقيقية أو مجازية، وهي أخت أب الأب وأب وإن علا، أو أخت أم الأم وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت، وكلهن حرام بإجماع العلماء، ويحرم الجمع بينهما في النكاح أو في ملك اليمين. وأما باقي الأقارب كبنتي العمين أو أبنتي الخالين ونحوهما فجائز، وكذا الجمع بين زوجة الرجل وبنته من غيرها. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يحرم من الرضاعة)): ((حس)): الرضاعة بالفتح والكسر الاسم من الإرضاع. فأما من اللؤم فبالفتح لا غير. وفي الحديث دليل علي أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح، فإذا أرضعت المرأة رضيعا يحرم علي الرضيع وعلي أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم علي ولدها ن النسب، ولا تحرم المرضعة علي أبي الرضيع ولا علي أخيه، ولا تحرم عليك أم أخيك من الرضاع إذا لم تكن أما لك ولا زوجة أبيك، ويتصور هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك. وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك من الرضاع إذا لم تكن بنتك أو زوجة ابنك، ولا جدة ولدك من الرضاع إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك، ولا أخت ولدك من الرضاع إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك. وفيه دليل علي أن الزإنية إذا أرضعت بلبن الزنى رضيعا، لا تثبت الحرمة بين الرضيع وبين الزإني وأهل النسب، كما لا يثبت به النسب. ((مح)): فيه دليل علي أنه يحرم النكاح ويحل النظر والخلوة والمسافرة، لكن لا يترتب عليه أحكام الأمور من كل وجه؛ فلا يتوارثان، ولا يجب علي واحد منهما نفقة الآخر، ولا يعتق عليه بالملك، ولا يسقط عنها القصاص بقتله، فهما كالأجنبيتين في هذه الأحكام. والله أعلم.

3161 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)). رواه البخاري. 3162 - وعنها، قالت: جاء عمي من الرضاعة، فاستأذن علي، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: ((إنه عمك فأذني له)) قالت: فقلت: يا رسول الله! إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه عمك فليلج عليك)). وذلك بعد ما ضرب علينا الحجاب. متفق عليه. 3163 - وعن علي رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! هل لك في بنت عمك حمزة؟ فإنها أجمل فتاة في قريش. فقال له: ((أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة؟ وإن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب؟)) رواه مسلم. 3164 - وعن أم الفضل، قالت: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحرم الرضعة أو الرضعتان)). 3165 - وفي رواية عائشة، قال: ((لا تحرم المصة والمصتان)). 3166 - وفي أخرى لأم الفضل، قال: ((لا تحرم الإملاجة والإملاجتان)). هذه روايات لمسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((جاء عمي من الرضاعة)) هذا يوهم أن أم أبيها أرضعته أو أمه أرضعت إياها، لكن قولها: ((إنما أرضعتني المرأة)) يبين أن الرجل بمنزلة أبيها، فدعاه العم، هذا ما يعطيه ظاهر اللفظ. وفي شرح مسلم فيه اختلاف، وذكر أن المعروف أن عمها من الرضاعة هو أفلح أخو أبي القعيس وكنيته أفلح أبو الجعد. ((حس)): فيه دليل علي أن لبن الفحل يحرم حتى تثبت الحرمة في جهة صاحب اللبن، كما يثبت من جانب المرضعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت عمومة الرضاعة وألحقها بالنسب. الحديث الرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((هل لك في بنت عمك؟)) ((لك)) خبر مبتدأ محذوف، و ((في)) متعلق به، أي لك رغبة فيها؟ الحديث الخامس عن أم الفضل: قوله: ((الإملاجة والإملاجتان)) ((حس)): الملج تناول الصبي الثدي ومصه، يقال: أملجت المرأة صبيها فملج، والإملاجة للمرة الواحدة. واختلف العلماء في قدر ما يحرم في الرضاع، فذهب أكثر أهل العلم إلي أن قليل الرضاع وكثره سواء

3167 - وعن عائشة، قالت: كان فيما أنزل من القرآن: ((عشر رضعات معلومات يحرمن)). ثم نسخن بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ في التحريم، ومنهم ابن عمر وابن عباس وابن المسيب وعروة بن الزبير، والزهري والثوري ومالك والأوزاعي وابن المبارك ووكيع وأصحاب أبي حنيفة؛ لعموم قوله تعالي: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ}. وفرق غيرهم بين القليل والكثير بهذا الحديث وأمثاله، فقالت عائشة وغيرها من أزواج الني صلى الله عليه وسلم وابن الزبير: لا يثبت التحريم بأقل من خمس رضعات، وإليه ذهب الشافعي وإسحاق؛ لما روى عن عائشة أنها قالت: كان فيماأنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات تحرمن، ثم نسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن. وذهب أبو عبيدة وأبو ثور وداود إلي أنه لا يحرم أقل من ثلاث رضعات، لمفهوم قوله: ((لا تحرم الرضعة والرضعتان)) ومفهوم العدد ضعيف. وللفارق أن تجيب عن الآية بأن الحرمة فيها مرتبة علي الأمومة والأخوة من جهة الرضاع، وليس فيهما ما يدل علي أنهما يحصلان بالرضعة الواحدة. وقول عائشة رضي الله عنها: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن)) موؤل بأنه كان يقرؤه من لم يبلغه النسخ، حتى بلغه فترك؛ لأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، وهذا من جملة ما نسخ لفظه ومعناه باق. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنهما: قوله: ((وهي فيما يقرأ من القرآن)) ((تو)): يحمل هذا علي أن بعض من ام يبلغه النسخ كان يقرؤه علي الرسم الأول؛ إن تلاوتها قد كانت باقية فتركوها، فإن الله تعالي رفع قدر هذا الكتاب المبارك عن الاختلال والنقصان، وتولي حفظه، وضمن بصيانته. فقال عز من قائل: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلا يجوز علي كتاب الله أن يضيع منه آية، ولا أن يخرم حرف كان يتلي في زمان الرسالة، إلا ما نسخ منه. ((شف)): المفهوم من كلام الشيخ في شرح السنة أن الضمير في قول عائشة رضي الله عنها: ((وهي فيما يقرأ من القرآن)) عائد إلي ((عشر رضعات)) وحينئذ احتاج الشيخ في هذا الحديث إلي ما ذكره. ويقوم هذا الحديث دليلا لمن قال: إن التحريم لا يحصل بأقل من عشر رضعات، ولو جعل الضمير المذكور عائد إلي ((خمس معلومات)) مع قربه، لقام دليلا للشافعي، واستغنى عن جميع ما ذكره، ويكون المعنى حينئذ أن العشر نسخن بخمس معلومات، واستقر النسخ وتقرر في زمان انبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المراد من قولها: ((فتوفي رسول الله، وهي فيما يقرأ من القرآن)). أي توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعد نسخ العشر بالخمس، وفي حالة استقرار الخمس وكونه مقروء في القرآن.

3168 - وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل، فكأنه كره ذلك. فقالت: إنه أخي. فقال: ((انظر من إخوانكن؟ فإنما الرضاعة من المجاعة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: يؤيده قول الشيخ محي الدين في شرح مسلم: ((فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) معناه أن نسخ خمس رضعات تأخر إنزاله جدا، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات قرآنا متلوا لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عنه، وأجمعوا علي أن هذا لا يتلي – انتهي كلامه. فإذن يكون قولها: ((عشر رضعات معلومات)) منسوخ الحكم والتلاوة وقولها: ((خمس معلومات)) منسوخ التلاوة ثابت الحكم كآية الرجم. وأما حديث أم الفضل ((لا تحرم الرضعة أو الرضعتان)) فمبين لقوله تعالي: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} أنه لا يكفي رضعة أو رضعتان، ولا يعمل بالمفهوم كما عليه مذهب داود، أنه لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لثبوت حكم خمس رضعات؛ لأنه لا ينافي حديث أم الفضل، والله أعلم. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فإنما الرضاعة من المجامعة)) ((مح)): أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ما تكون من الصغر، حين يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته، فأما ما كان بعد بلوغ الصبي حدا مما لا يسد اللبن جوعته، ولا يشبعه إلا الخبز وما في معناه، فلا تثبت به الحرمة. واختلف أهل العلم في تحديد مدة الرضاع، فذهب جماعة إلي أنها حولان، لقوله تعالي: {والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة} فدل علي أن حولين تمام مدتها، فإذا انقطعت انقطع حكمها، يروى معناه عن ابن مسعود وأبي هريرة وأم سلمه، وبه قال الشافعي. وحكي عن مالك أنه جعل حكم الزيادة علي الحولين حكم الحولين. قال أبو حنيفة: مدة الرضاع ثلاثون شهرا؛ لقوله تعالي: {وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع. والفصال الفطام، ومنه قوله تعالي: {فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً} أي فطاما. أقول: ((انظرن)) هنا بمعنى التفكر والتأمل. و ((من)) استفهامية مفعول به علي تأويل الجواب للاستفهام وقوله: ((فإنما الرضاعة من المجاعة)) تعليل للبعث علي إمعان النظر والتفكير؛ لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما، ولا يحصل ذلك إلا بإنبات اللحم وتقوية العظم، فلا تكفي مصة أو مصتان، ولا أن يشبعه إلا الخبز وما في معناه. ((مظ)): المعنى ليس كل من أرضع لبن أمهاتكن يصير أخا لكن، بل شرطه أن تكون الرضاعة من المجاعة، فيشبع الولد بذلك، ويكون ذلك في الصغر؛ فإن الصغير معدته ضعيفة، يكفيه البن ويشبعه ولا يحتاج إلي طعام آخر، فينبت لحمه ويقوى عظمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيكون ولدها كسائر أولادها التي ولدتهم.

3169 - وعن عقبة بن الحارث: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتت امرأة، فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك قد أرضعتني ولا أخبرتني. فأرسل إلي آل أبي إهاب، فسألهم، فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب إلي النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف وقد قيل؟)) ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره. رواه البخاري. 3170 - وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلي أوطاس، فلقوا عدوا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله تعالي في ذلك {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن عقبة: قوله: ((كيف وقد قيل؟)) ((كيف)) سؤال عن الحال، و ((قد قيل)) حال، وهما يستدعيان عاملا يعمل فيهما، يعني كيف تباشرها وتفضي إليها، وقد قيل: إنك أخوها؟ إن ذلك بعيد من ذوي المروءة والورع. وفيه أن الواجب علي المرء أن يجتنب مواقع التهم والريبة، وإن كان نقي الذيل برئ الساحة، وأنشد قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا فما اعتذارك من شيء إذا قيلا ((قض)): هذا محمول عند الأكثر علي الأخذ بالاحتياط والحث علي التورع من مظان الشبه، لا الحكم بثبوت الرضاع وفساد النكاح بمجرد شهادة المرضعة، إذا لم يجر بحضرته صلى الله عليه وسلم ترافع وأداء شهادة، بل كان ذلك مجرد إخبار واستفسار، وإنما هو كسائر ما تقبل فيه شهادة النساء الخلص لا يثبت إلا بشهادة أربع. وقال مالك وابن أبي ليلي وابن أبي شبرمة: إنه يثبت بشهادة امرأتين. وعن ابن عباس أنه يثبت بشهادة المرضعة وحلفها، وبه قال الحسن وأحمد وإسحاق. الحديث التاسع عن أبي سعيد: قوله: ((إلي أوطاس)) ((مح)): هو موضوع عند الطائف يصرف ولا يصرف. قوله: ((والمحصنات)) هن ذوات الأزواج؛ لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج، وما ملكت أيمانهم: أي من اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر، فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن محصنات. وفي معناه قول الفرزدق:

الفصل الثاني 3171 – عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن تنكح المرأة علي عمتها، أو العمة علي بنت أخيها، والمرأة علي خالتها، أو الخالة علي بنت أختها، لا تنكح الصغرى علي الكبرى. ولا الكبرى علي الصغرى. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي، والنسائي، وروايته إلي قوله: ((بنت أختها)) [3171] 3172 - وعن البراء بن عازب، قال: مر بي خالي أبو بردة بن دينار، ومعه لواء، فقلت: أين تذهب؟ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلي رجل زوج امرأة أبيه آتيه برأسه. رواه الترمذي، وأبو داود. وفي رواية له وللنسائي وابن ماجه والدارمي: فأمرني في أن أضرب عنقه وآخذ ماله. وفي هذه الرواية قال: عمي بدل: خالي. [3172] ـــــــــــــــــــــــــــــ وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق ((مح)): مذهب الشافعي وموافقيه أن المسبية من عبده الأوثان والكفار الذين لا كتاب لهم، لا يحل وطؤها بملك اليمين حتى تسلم، فهي محرمة ما دامت علي دينها، وهؤلاء المسبيات كن من مشركي العرب، فتأويل الحديث علي أنهن أيلمن وانقضى استبراؤهن بوضع الحمل من الحامل، وبحيضة من الحائض. واختلفوا في أمة بيعت وهي متزوجة بمسلم: هل يفسخ النكاح وتحل لمشتريها أم لا؟ فقال ابن عباس: ينفسخ، لعموم الآية، وقال سائر العلماء: لا ينفسخ، وخصوا الآية بالمملوكة بالسبي. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تنكح الصغرى علي الكبرى)) ((شف)): هذا إلي آخره كالبيان والتوكيد لقوله: ((نهي أن تنكح المرأة علي عمتها)) إلي آخره ولذلك لم بينهما بالعاطف، المراد من ((الصغرى والكبرى)) بحسب المرتبة، فالعمة والخالة هي الكبرى، وبنت الأخ وبنت الأخت هي الصغرى، أو لأنهما أكبر سنا منهما غالبا. ((مظ)): وعلة تحريم الجمع بينهن وبين الأختين، أنهن من ذوات الرحم، فلو جمع بينهما في النكاح لظهرت بينهما عداوة وقطيعة الرحم. وفي تعديله ب ((علي)) إيماء إلي الإضرار. الحديث الثاني عن البراء: قوله: ((ومعه لواء)) ((مظ)): كان ذلك اللواء علامة كونه مبعوثا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر، وكان هذا الرجل يعتقد حل هذا النكاح، فمن اعتقد حل شيء

3173 - وعن أم سلمه، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام)). رواه الترمذي. [3173] 3174 - وعن حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، أنه قال: يا رسول الله! ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ فقال: ((غرة: عبد أو أمة)). رواه الترمذي وأبو داود، والنسائي والدارمي. [3174] 3175 - وعن أبي الطفيل الغنوي، قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبلت امرأة، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم رداءه حتى قعدت عليه، فلما ذهبت، قيل: هذه أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود. [3175] ـــــــــــــــــــــــــــــ محرم كفر، وجاز قتله وأخذ ماله، ومن جهل تحريم نكاح واحدة من محارمه فتزوجها لم يكفر، ومن علم تحريمها واعتقد الحرمة فسق، وفرق بينهما وعزر، هذا إذا لم يجر بينهما دخول، وإلا فإن علم تحريمه فهو زان، تجري عليه أحكام الزنا، وإن جهل فهو وطء بالشبهة يجب عليه مهر المثل، ويثبت النسب. الحديث الثالث عن أم سلمه: قوله: ((إلا ما فتق)) ((تو)): فتقت الشيء فتقا شققته، والمراد منه ما وقع موقع الغداء، ويشق الأمعاء شق الطعام إذا نزل إليها. وذلك لا يكون إلا في أوان الرضاع. وقوله: ((في الثدي)) ((في)) بمعنى الوعاء، كقولك: الماء في الإناء، وهو مثل قولهم: شربت من الإناء أو شربت فيه، والارتضاع من الثدي. أقول: ((ما)) في قوله: ((إلا ما فتق)) موصولة، وضمير الفاعل راجع إليها، و ((الأمعاء)) مفعول به و ((في الثدي)) حال من ضمير الفاعل حالا مقدرة، كقوله تعالي: {وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا} أي حال كونه ممتلئا في الثدي فائضا منها. ولو قيل: ((من الثدي)) لم يفد هذه الفائدة. وذكر الفتق والأمعاء والثدي مزيدا لإرادة الرضاع المؤثر تأثيرا يعتد به، كما سبق في الحديث السابق. الحديث الرابع عن حجاج: قوله: ((مذمة الرضاع)) ((فا)): الذمام والمذمة – بالكسر والفتح – الحق – والحرمة التي يذم مضيعها، يقال: رعيت ذمام فلان ومذمته، وعن أبي زيد: المذمة بالكسر الذمام، وبالفتح الذم، والمراد بمذمة الرضاع الحق اللازم بسبب الرضاع، أو حق ذات الرضاع، فحذف المضاف. ((قض)): المعنى أي شيء يسقط عني حق الإرضاع، حتى أكون بارا به مؤديا حق المرضعة بكماله؟ وكان العرب يستحبون أن يرضخوا الظئر عند فصال الصبي

3176 - وعن ابن عمر رضي الله عنه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسك أربعا، وفارق سائرهن)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة. [3176] 3177 - وعن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت وتحتي خمسة نسوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((فارق واحدة، وأمسك أربعا)) فعمدت إلي أقدمهن صحبة عندي: عاقر منذ ستين سنة، ففارقتها. رواه في ((شرح السنة)). [3177] 3178 - وعن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! إني أسلمت وتحتى أختان، قال: ((اختر أيتهما شئت)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3178] 3179 - وعن ابن عباس، قال: أسلمت امرأة، فتزوجت، فجاء زوجها إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت، وعلمت بإسلامي. فانتزعها رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ بشيء سوى الأجرة، وهو المسئول عنه. ((والغرة)) المملوك، واصلها البياض في جبهة الفرس، ثم استعير لأكرم كل شيء، كقولهم: غرة القوم لسيدهم، ولما كان المملوك خير ما يملك سمي غرة، ولما كانت الظئر أخدمت له نفسها جعل جزاء حقها من جنس فعلها، فأمر بأن يعطيها مملوكا يخدمها ويقوم بحقوقها. وقيل: الغرة لا تطلق إلا علي الأبيض من الرقيق. الحديث الخامس والسادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أمسك أربعا)) ((مظ)): فيه أن أنكحة الكفار صحيحة إذا أسلموا، ولا يؤمرون بإعادة النكاح، إلا إذا كان في نكاحهم من لا يجوز الجمع بينهن من النساء، وأنه لا يجوز أكثر من أربع نسوة، وأنه إذا قال: اخترت فلانة وفلانة للنكاح ثبت نكاحهن، وحصلت الفرقة فيما بينه وبين ما سوى الأربع من غير أن يطلقهن. الحديث الثامن والتاسع عن الضحاك: قوله: ((وتحتي أختان)) ((مظ)): مذهب الشافعي ومالك وأحمد: أنه لو أسلم وتحته أختان، وأسلمتا معه كان له أن يختار إحداهما سواء كانت المختارة تزوجها أولا أو آخرا. وقال أبو حنيفة: إن تزوجهما معا لا يجوز له أن يختار واحدة منهما، وإن تزوجهما متعاقبتين، له أن يختار الأولي منهما دون الأخيرة. الحديث التاسع: عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وردها إلي زوجها الأول)) ((حس)): فيه دليل علي أن المرأة إذا ادعت الفراق علي الزوج بعد ما علم بينهما النكاح وأنكر الزوج،

الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلي زوجها الأول وفي رواية: أنه قال: إنها أسلمت معي، فردها عليه. رواه أبو داود. [3179] 3180 - وروى في ((شرح السنة)): أن جماعة من النساء ردهن النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول علي أزواجهن، عند اجتماع الإسلامين بعد اختلاف الدين والدار، منهن بنت الوليد بن مغيرة، كانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها من الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه ابن عمه وهب بن عمير برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا لصفوان، فلما قدم جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيير أربعة أشهر، حتى أسلم، فاستقرت عنده، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام، امرأة عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها من الإسلام، حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم، حتى قدمت عليه اليمن، فدعته إلي الإسلام، فأسلم، فثبتا علي نكاحهما. رواه مالك عن ابن شهاب مرسلا. [3180] ـــــــــــــــــــــــــــــ أن القول قول الزوج مع يمينه، سواء نكحت آخر أم لا. وكذلك لو أسلم الزوجان قبل الدخول واختلفا، فقال الزوج: أسلمنا معا، فالنكاح بيننا باق، وقالت: بل أسلم أحدنا قبل الآخر فلا نكاح بيننا، فالقول قول الزوج. وكذلك إن كان بعد الدخول أسلمت المرأة، ثم بعد انقضاء عدتها ادعى الزوج إني كنت أسلمت قبل انقضاء عدتك، وادعت انقضاء عدتها قبل إسلامه، كان القول قول الزوج. الحديث العاشر عن شرح السنة: قوله: ((بعد اختلاف الدين والدار)) ((مظ)): يعني إذا أسلما قبل انقضاء العدة ثبت النكاح بينهما، سواء كانا علي دين واحد الكتابيين والوثنيين، أو أحدهما علي دين والآخر علي دين آخر، وسواء كانا في دار الإسلام أو في دار الحرب، أو أحدهما في أحدهما والآخر في الآخر: هذا مذهب الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا تحصل الفرقة بينهما إلا بأحد ثلاثة أمور: انقضاء العدة، أو عرض الإسلام علي الآخر مع الامتناع عنه، أو ينتقل أحدهما من دار الإسلام إلي دار الحرب، أو بالعكس. وسواء عنده الإسلام قبل الدخول أو بعده. ((حس)): الدليل علي أن اختلاف الدار لا يوجب الفرقة، ما روي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ((رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب علي أبي العاص بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحا))، وكان قد أفرقت بينهما الدار.

الفصل الثالث 3181 - عن ابن عباس، قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {} الآية. رواه البخاري. 3182 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا يحل له نكاح ابنتها. وإن لم يدخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة، فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث لا يصح من قبل إسناده، إنما رواه ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وهما يضعفان في الحديث. [3182] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم)) الظاهر أن يقال: بردائه، وليس المقام مقام وضع المظهر موضع المضمر؛ لأن الباعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبعوث وهب بن عمير، ذكر في الاستيعاب: كان عمير بن وهب استأمن لصفوان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هرب هو وابنه وهب بن عمير، فأمنه وبعث إليه وهب بن عمير بردائه. قوله: ((تسيير أربعة أشهر)) أضاف المصدر إلي الظرف علي الاتساع، كقوله: يا سارق الليلة. ((تو)): يقال: سيره من بلده أي أخرجه وأجلاه، والمعنى في الحديث تمكينه من السير في الأرض آمنا، وذلك إشارة إلي قوله تعالي: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} حتى يأخذوا حذرهم ويسيحوا في أرض الله حيث شاءوا، فينظروا إلي أحوال المسلمين. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ومن الصهر سبع)) ((نه)): صهره وأصهره إذا قربه وأدناه، والصهر حرمة التزويج، والفرق بينه وبين النسب أن النسب ما رجع إلي ولادة قريبة من جهة الآباء، والصهر ما كان من خلطة نسبة القرابة يحدثها التزويج. ((مح)): المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت، ومن الصهر من تحرم علي التأبيد: أم الزوجة وزوجة الابن وابن الابن وإن سفل، وزوجة الأب والأجداد وإن علت، وبيت الزوجة بعد الدخول علي الأم. ومن يحرم علي غير التأبيد كأخت الزوجة وعمتها وخالتها، والله أعلم.

(5) باب المباشرة

(5) باب المباشرة الفصل الأول 3183 - عن جابر، قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شئتُمْ}. متفق عليه. 3184 - وعنه، كنا نعزل والقرآن ينزل. متفق عليه. وزاد مسلم: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المباشرة ((غب)): البشرة ظاهر الجلد، وجمعها بشر وأبشار، وعبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا لظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات، والمباشرة الإفضاء بالبشرتين، وكنى بها عن الجماع في قوله عز وجل: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ}. الفصل الأول الحديث الأول عن جابر: قوله: {أَنَّى شئتُمْ} ((حس)): اتفقوا علي أنه يجوز للرجل إتيان الزوجة في قبلها من جانب دبرها، وعلي أي صفة كانت، وعليه دل قوله تعالي: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شئتُمْ} أي هن لكم بمنزلة أرض تزرع، ومحل الحرث هو القبل. الكشاف: ((حرث لكم)) مواضع حرثكم، شبهن بالمحارث لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} معناه: فأتوهن كما تأتون أرضكم التي تريدون أن تحرثوها، من أي جهة شئتم، ولا يحظر عليكم جهة دون جهة، وهو من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. أقول: وذلك أنه أبيح لهم أن يأتوهن من أي جهة شاءوا كالأراضي المملوكة، وقيدها بالحرث ليشير إلي أن لا يتجاوز البتة موضع البذر، ويتجانف عن مجرد الشهوة. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم)) عطف علي الجملة المقيدة بالحال، يعني كنا نعزل ولم يمنعنا الوحي ولا السنة. ((مح)): العزل هو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وهو مكروه عندنا؛ لأنه طريق إلي قطع النسل، وكذا ورد ((العزل الوأد الخفي)). قال أصحابنا: لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة، سواء رضيتا أم لا؛ لأن عليه ضررا في مملوكته بأن يصيرها أم ولد لا يجوز بيعها، وفي زوجته الرقيقة يصير ولده رقيقا تبعا لأمه؛ أما زوجته الحرة: فإن أذنت فيه فلا يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم.

3185 - وعنه، قال: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جارية هي خادمتنا، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل فقال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)). فلبث الرجل، ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: ((قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)). رواه مسلم. 3186 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا الغربة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك. فقال: ((ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلي يوم القيامة، إلا وهي كائنة)). متفق عليه. 3187 - وعنه، قال: سئل رسول الله، عن العزل. فقال: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((اعزل عنها إن شئت)) أن لا تحبل، وذلك لا ينفعك، ثم علله بقوله: ((فإنه سيأتيها)) والضمير للشأن، وفيه مؤكدات ((إن)) وضمير الشأن وسين الاستقبال. ((مح)): فيه دلالة علي إلحاق النسب مع العزل. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله: ((فقال: ما عليكم)) ((قض)): الحديث مما أخرجه الشيخان. وقوله: ((ما عليكم)) روى بـ ((ما)) و ((لا)) ومعناه لا بأس عليكم أن تفعلوا و ((لا)) مزيدة. ومن لم يجوز العزل قال: ((لا)) نفي لما سألوه، و ((عليكم أن لا تفعلوا)) كلام مستأنف مؤكد له، وأن مفتوحة، وقد صرح بالتجويز في حديث جابر حيث قال: ((اعزل عنها إن شئت)) وللعلماء فيه خلاف، واختيار الشافعي جوازه عن الأمة مطلقا، وعن الحرة بإذنها. وقوله: ((ما من نسمة كائنة)) إلي آخره يدل علي أن العزل لا يمنع الإيلاد، فلو استفرش أمة وعزل عنها، فأتت بولد لحقه إلا أن يدعي الاستبرا. ((حس)): قال المبرد: معناه لا بأس عليكم أن تفعلوا، ومعنى ((لا)) الثانية طرحها. ((مح)): فيه دليل علي أن الأعراب يجري عليهم الرق إذا كانوا مشركين؛ لأن بني المصطلق فبيلة من خزاعة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم: لا يجري عليهم الرق لشرفهم. الحديث الخامس عن أبي سعيد: قوله: ((ما من كل الماء)) فإن قلت: كيف طابق هذا جوابا للسؤال؟ قلت: معنى السؤال أنهم استأذنوا في العزل مخافة الولد، فأجيبوا بأنكم زعمتم بأن صب الماء سبب للولد، والعزل لعدمه، وليس كذلك؛ إذ لا يكون الولد من كل الماء، فكم

3188 - وعن سعد بن أبي وقاص: أن رجلا جاء إلي رسول الله، فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تفعل ذلك؟)) فقال الرجل: أشفق علي ولدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم)). رواه مسلم. 3189 - وعن جذامة بنت وهب، قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهي عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئا)). ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الوأد الخفي وهي {وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ})). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ من صب لا يحدث منه الولد، ومن عزل محدث له. فقدم خبر ((كان))؛ ليدل علي الاختصاص، وأن تكوين الولد بمشيئة الله تعالي لا بالماء، وكذا عدمه بها لا بالعزل. الحديث السادس عن سعد: قوله: ((أشفق علي ولدها)) ((نه)): الشفق والإشفاق الخوف، أي لو كان الغيل ضارا لضر بهذين الجيلين. الحديث السابع عن جذامة: قوله: ((عن الغيلة)) ((نه)): الغيلة – بالكسر – الاسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، وقيل: يقال فيه: الغيلة والغيلة بمعنى، وقيل: الكسر للاسم والفتح للمرة، وقيل: لا يصح الفتح إلا مع حذف الهاء، وقد غال الرجل وأغيل، والولد مغال ومغيل، واللبن الذي يشربه الولد يقال له: الغيل أيضا. ((قض)): كان العرب يحترزون عن الغيلة، ويزعمون أنها تضر الولد، وكان ذلك من المشهورات الذائعة عندهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي عنها لذلك، فرأي أن فارس والروم يفعلون ذلك ولا يبالون به، ثم أنه لا يعود علي أولادهم بضرر، فلم ينه. قوله: وهي: {وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} الضمير راجع إلي مقدر، أي ذلك الوأد الخفي مندرج تحت الآية في الوعيد، وهي قوله: {وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}. ((قض)): وإنما جعل العزل وأدا خفيا؛ لأنه في إضاعة النطفة التي هيأها الله تعالي لأن تكون ولدا، يشبه إهلاك الولد ودفنه حيا، لكن لا شك أنه دونه؛ فلذلك جعله خفيا. واستدل به من حرم العزل، وهو ضعيف؛ إذ لا يلزم من حرمة الوأد الحقيقي حرمة ما يضاهيه بوجه، ولا يشاركه فيما هو علة الحرمة، وهي إزهاق الروح وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولكنه يدل علي الكراهة. الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((إن أعظم الأمانة)) أي أعظم أمانة عند الله خان فيها

3190 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة)) – وفي رواية -: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلي امرأته وتفضي إليه ثم ينشرسرها)). رواه مسلم. الفصل الثاني 3191 - عن ابن عباس، قال: أوحي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {} الآية: ((أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة)). رواه الترمذي وابن ماجه. [3191] 3192 - وعن خزيمة بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يستحيي من ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل أمانة ((الرجل ... إلي آخره)). ((شف)): لا بد فيه من تقدير مضاف، أي إن أعظم خيانة الأمانة عند الله يوم القيامة. وقوله: ((الرجل)) خبر ((إن)) وفيه تقدير مضاف أيضا، أي خيانة رجل يفضي إلي امرأته. ((مح)): ((إن من أشر)) قال القاضي: هكذا وقعت في الروايات، والنحويون لا يجوزون أشر وأخير. قال: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة للغتين جميعا، وهي حجة في جوازهما. وفيه تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين المرأة تحت اللحاف من فعل أو قول. وأما مجرد ذكر الجماع، فإن لم يكن فائدة أو حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) وإن احتاج إلي أن يشكو منها إعراضها، أو احتاجت أن تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أقبل وأدبر واتق الدبر)) تفسير لقوله تعالي: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شئتُمْ} فإن الحرث يدل علي اتقاء الدبر و {أَنَّى شئتُمْ} علي إباحة الإقبال والإدبار، والخطاب في التفسير خطاب عام، وأن كل من يتأتي منه الإقبال والإدبار فهو مأمور بهما. قوله: ((الحيضة)) ((نه)): الحيضة بالكسر الاسم من الحيض، والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض، كالجلسة والقعدة. الحديث الثاني عن خزيمة: قوله: ((إن الله لا يستحيي)) الحياء تغير يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، والتغير علي الله تعالي مجاز عن الترك الذي هو غاية الحياء، أي إن

الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [3192] 3193 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ملعون من أتى امرأته في دبرها)). رواه أحمد، وأبو داود. [3193] 3194 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه)). رواه في ((شرح السنة)). [3194] 3195 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينظر الله إلي رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر)). رواه الترمذي. [3195] 3196 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقتلوا أولادكم سرا، فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه)). رواه أبو داود. [3196] ـــــــــــــــــــــــــــــ الله لا يترك من قول الحق أو إظهاره. وفي جعل هذا الكلام مقدمة وتمهيدا للنهي الوارد بعده إشعار بشناعة هذا الفعل واستهجانه، وكان من الظاهر أن يقال: إني لا استحيي، فأسند إلي الله تعالي مزيدا للمبالغة والتأكيد، وهذا في شأن النساء فكيف بالرجل؟ ((مظ)): هذا إن فعله بأجنبية حكمه حكم الزنا، وإن فعله بامرأته أو أمته فهو محرم، لكن لا يرجم ولا يحد ولكن يعزر. ((مح)): ولو لاط بعبده فهو كلواطه بأجنبي. وأما المفعول به فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها فلا حد عليه. الحديث الثالث إلي السابع عن أسماء: قوله: ((فيدعثره)) ((نه)): أي يصرعه ويهلكه، يريد أن سوء أثر الغيل في بدن الطفل وإفساد مزاجه وإرخاء قواه لا يزال يلاقيه إلي أن يشتد ويبلغ مبلغ الرجال، فإذا أراد منازلة قرن في الحرب، وهن عنه وانكسر، وسبب وهنه وانكساره الغيل – انتهي كلامه. فإن قلت: كيف أثبت ضرر الغيل في هذا الحديث وبالغ فيه ونفاه في الحديثين السابقين؟ قلنا: كان ذلك إبطالا لزعم أهل الجاهلية، واعتقاد أنه سبب مستقل مؤثر في نفسه، وإثبات الضرر هنا؛ لا أنه سبب ولكن المؤثر الحقيقي هو الله تعالي.

(6) باب

الفصل الثالث 3197 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. رواه ابن ماجه. [3197] (6) باب الفصل الأول 3189 - عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في بريرة: ((خذيها فأعتقيها)) وكان زوجها عبدا، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، ولو كان حرا لم يخيرها. متفق عليه. 3199 - وعن ابن عباس، قال: كان زوج بريرة عبدا أسود، يقال له مغيث؛ كإني أنظر إليه يطوف خلفها في سكك المدينة، يبكي ودموعه تسيل علي لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ((يا عباس! ألا تعجب من حب مغيث بريرة؟ ومن بغض بريرة مغيثا؟)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو راجعته)) فقالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: ((إنما أشفع)) قالت: لا حاجة في فيه. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث مضى شرحه باب الفصل الأول الحديث الأول عن عروة: قوله: ((ولو كان حرا لم يخيرها)) ((مظ)): إذا أعتقت أمة فإن كان زوجها مملوكا، فلها الخيار بالاتفاق، وإن كان زوجها حرا فلا خيار لها عند مالك والشافعي وأحمد، ولها الخيار عند أبي حنيفة. وإن أعتق الزوجان معا، فلا خيار، أو الزوج فلا خيار له، سواء كانت زوجته مملوكة أو حرة. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((تأمرني)) فإن قلت: قوله: ((لو راجعته)) من أين دل علي الأمر؟ فإن ((لو)) ِإما امتناعية وجوابها محذوف، أو للتمني فعلي التقديرين ليس فيها معنى الأمر. قلت: ذهبت إلي أنها امتناعية علي معنى لو راجعته لكان خيرا لك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه جازم كالأمر، فأجاب صلى الله عليه وسلم أن ((لو)) بمعنى التمني، أي أود رجوعك وأستشفع إليك. والرواية في ((لو راجعتيه)) بإثبات الياء لإشباع الكسرة.

(7) باب الصداق

الفصل الثاني 3200 - عن عائشة: أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوج. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة. رواه أبو داود، والنسائي. 3201 - وعنها: أن بريرة عتقت وهي عند مغيث، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: ((إن قربك فلا خيار لك)). رواه أبو داود. [3201] (7) باب الصداق الفصل الأول 3202 - عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لها زوج)) في إعرابه إشكال، وفي أكثر نسخ المصابيح وفي شرح السنة ((لها زوجين)) وهو صفة بـ ((مملوكين))، والضمير في ((لها)) لعائشة إلا أن يقدر أحدهما زوج للآخر أو بينهما ازدواج. ويجوز أن يكون الضمير للجارة لما يفهم من قوله: ((مملوكين)) في هذا السياق، فحينئذ يجوز أن يكون ((زوج)) مبتدأ والجار والمجرور خبره، وأن يكون فاعله لاعتماده علي الموصوف. ويؤيده ما وقع في بعض نسخ المصابيح ((مملوكة لها زوج)) ((مظ)): معناه: كان لعائشة عبد وأمة، وكانت الأمة زوجته، وأرادت أن تعتقهما، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعتق أيهما أبتدأ؟ فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تبتدئ بعتق الزوج؛ لأنها لو أعتقت أولا الزوجة لانفسخ النكاح، ولو أعتقت أولا الزوج لا يفسخ، والإعتاق علي وجه يبقى النكاح بينهما أولي. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن قربك فلا خيار لك)) ((حسن)): متى صح الحديث فالمصير إليه هو الواجب، وقد فال الشافعي: كان لها الخيار ما لم يصبها بعد العتق، ولا أعلم في تأخير الخيار شيئا يتبع، إلا قول حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ما لم يمسها، والله أعلم. باب الصداق المغرب: صداق المرأة مهرها، والكسر أفصح، وجمعه صدق، والأصدقة قياس لا سماع. الفصل الأول الحديث الأول عن سهل: قوله: ((وهبت نفسي لك)) ((مح)): هذا من خواص النبي صلى الله عليه وسلم، ولا

الله! إني وهبت نفسي لك. فقامت طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها حاجة. فقال: ((هل عندك شيء تصدقها؟)) قال: ما عندي إلا إزاري هذا. وقال: ((فالتمس ولو خاتما من حديد)) فالتمس فلم يجد شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل معك من القرآن شيء؟)) قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، فقال: ((زوجنتكها بما معك من القرآن)) وفي رواية، قال: ((انطلق فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يجب مهرها عليه ولو بعد الدخول، بخلاف غيره. وفي نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة وجهان: أصحهما ينعقد لظاهر الآية والحديث، والثاني: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح كغيره من الأمة؛ فإنه لا ينعقد إلا بأحد هذين اللفظين عندنا بلا خلاف. قال أبو حنيفة: ينعقد نكاح كل أحد بكل لفظ يقتضي التمليك علي التأبيد. ولمالك روايتان: إحداهما مثل مذهبنا، والأخرى أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع إذا قصد به النكاح. وفيه استحباب عرض المرأة نفسها علي الصلحاء لتزوجها، وأنه يستحب لمن طلب منه حاجة لا يمكنه قضاؤها أن يسكت سكوتا يفهم السائل منه ذلك ولا يخجله بالمنع. وفيه جواز نكاح المرأة من غير أن تسأل، هل هي في عدة أم لا؟ وفيه استحباب تسمية الصداق في النكاح؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة. وفيه جواز قلة الصداق مما يتمول إذا تراضيا؛ لأن خاتم الحديد في غاية القلة. وهو مذهب الشافعي وجماهير العلماء. قال مالك: أقله ربع دينار، كنصاب السرقة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله عشرة دراهم. ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لهذا الحديث الصريح. وفيه جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف، ولأصحابنا في كراهته وجهان: أصحهما لا يكره؛ لأن الحديث في النهي عنه ضعيف. وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر إليها. وفيه دليل علي جواز كون الصداق تعليم القرآن، وجواز الاستئجار لتعليمه، وهو مذهب الشافعي. ومنعه جماعة منهم الزهري وأبو حنيفة. ((حس)): وفيه دليل علي أن الصداق لا تقدير له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((التمس)) وهذا يدل علي جواز أي شيء كان من المال، وعلي أن المال غير معتبر في الكفاءة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل هل هو كفء لها أم لا؟ وقد علم صلى الله عليه وسلم من حاله أنه لا مال له. ((شف)): قال الحنفية: الباء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((زوجتكها بما معك من القرآن)) ليست للمقابلة بل للتسبيه، والمراد كما وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، لعلها وهبت صداقها لذلك الرجل، وقالوا: معناه زوجتها منك بسبب ما معك من القرآن. قال الخطابي الباء باء التعويض كما يقال: بعت هذا الثوب بدينار، ولو كان معناه ما أولوه ولم يرد بها معنى المهر، لم يكن لسؤاله إياه ((هل معك من القرآن شيء؟)) معنى وليس في الحديث أنه جعل المهر دينا.

3203 - وعن أبي سلمة، قال: سألت عائشة: كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونش. قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم. رواه مسلم. ونش بالرفع في ((شرح السنة)) وفي جميع الأصول. الفصل الثاني 3204 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ألا لا تغالوا صدقة النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله، لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه، ولا أنكح شيئا من بناته علي أكثر من اثنتي عشرة أوقية. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3204] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سلمة: قوله: ((أوقية)) ((حس)): الأوقية أربعون درهما، والنش عشرون. قال ابن الأعرابي: النش النصف من كل شيء، ونش الرغيف نصفه. قوله: ((ونش)) بالرفع، وفيه أن النصب كما هو مثبت في أكثر نسخ المصابيح عطفا علي ((أوقية)) ليس برواية، فعلي الرفع تقديره: معها نش أو يزاد نش. ((مح)): استدل بعض ِأصحابنا بهذا الحديث علي استحباب كون الصداق خمسمائة درهم. فإن قيل: صداق أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان أربعة آلاف درهم أو أربعمائة دينار. فالجواب أن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله؛ إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قوله: ((ألا لا تغالوا)) ((قض)): المغالاة التكثير، و (الصدقة) الصداق، والضمير للمصدر الذي دل عليه ((تغالوا)). فإن قلت: كيف يصح هذا الحصر، وقد صح أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان مهرها أربعة آلاف درهم، وأن عائشة قالت: ((كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونش))؟ قلت: أما صداق أم حبيبة، فلم يكن بتعيين الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ما روته عائشة رضي الله عنها، فلم يتجاوز عدد الأواقي التي ذكرها عمر، ولعله أراد عدد الأوقية، ولم يلتفت إلي الكسور، مع أنه نفي الزيادة في علمه، فلعله لم يبلغ إليه صداق أم حبيبة، ولا الزيادة التي في حديث عائشة رضي الله عنها.

3205 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعطى في صداق امرأته ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل)) رواه أبو داود. [3205] 3206 - وعن عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت علي نعلين. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم؛ فأجازه. رواه الترمذي. [3206] 3207 - وعن علقمة، عن ابن مسعود: أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها شيئا، ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا بمثل ما قضيت. ففرح بها ابن مسعود. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [3207] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلي آخر الفصل عن علقمة: قوله: ((ولم يفرض لها شيئا)) ((مظ)): يعني تزوجها ولم يسم لها مهرا، ثم مات الزوج قبل أن يدخل بها، فاجتهد ابن مسعود في هذه المسألة شهرا، ثم قال: لها صداق نسائها، ولها الميراث وعليها العدة. فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، ففي قول ابن مسعود دليل جواز الاجتهاد؛ فإنه حكم في هذه المسألة باجتهاده، حتى شهد معقل بن سنان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم فيها بمثل ما حكم به ابن مسعود، ففرح ابن مسعود لكون اجتهاده موافقا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع جماعة من الصحابة: إنه لا مهر لها؛ لأنه لم يدخل بها الزوج، ولها الميراث، وعليها العدة. وللشافعي قولان: أحدهما كقول ابن مسعود، والثاني كقول علي رضي الله عنهم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد كقول ابن مسعود. هذا إذا مات الزوج قبل الفرض والدخول. فأما إذا دخل بها قبل الفرض، وجب لها مهر المثل بلا خلاف. ومهر المثل هو مهر مثلها من نسائها في المال والجمال والثيوبة والبكارة من نساء عصابتها، أي أخواتها من الأب والأم أو من الأب أو عمتها أو بنت عمتها. فإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة، وهي شيء يقدره الحاكم باجتهاده، علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره، مثل أن يعطيها ثوبا أو خمارا أو خاتما. قوله: ((ففرح به)) (تو)): الضمير يرجع إلي الفتيا أو إلي القصة.

(8) باب الوليمة

الفصل الثالث 3208 - عن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف. وفي رواية: أربعة آلاف درهم، وبعث بها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة. رواه أبو داود، والنسائي. [3208] 3209 - وعن أنس، قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة، فخطبها فقالت: إني قد اسلمت، فإن أسلمت نكحتك. فأسلم، فكان صداق ما بينهما. رواه النسائي. [3209] (8) باب الوليمة الفصل الأول 3210 - عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي علي عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: ((ما هذا؟)) قال: إني تزوجت امرأة علي وزن نواة من ذهب. قال: ((بارك الله لك، أولم ولو بشاة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأسلم فكان صداق ما بينهما)) فيه إشعار بأن المنفعة الدينية تجوز أن تكون عرضا للبضع، وأن تعليم القرآن يجوز أن يحمل علي هذا المعنى. باب الوليمة الوليمة هي الطعام الذي يصنع عند العرس. المغرب: الوليمة اسم لكل طعام، والعرس في الأصل اسم من الأعراس ثم سمي به الوليمة. ويؤنث ويذكر. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي عنه: قوله: ((ما هذا)) ((قض)) يريد به السؤال عن سببه؛ ولذلك أجاب بما أجاب. ويحتمل أن يكون المراد به الإنكار؛ فإنه كان نهي عن التضمخ بالخلوق،

3211 - وعنه، قال: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أحد من نسائه ما أولم علي زينب، أولم بشاة. متفق عليه. 3212 - وعنه، قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب بنت جحش فأشبع الناس خبزا ولحما. رواه البخاري 3213 - وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها وأولم عليها بحيس. متفق عليه. 3214 - وعنه، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلي وليمته، وما كان فيها خن خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقي عليها التمر والأقط والسمن. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فأجاب عنه بأنه ليس من تضمخه، بل هو شيء علق به من مخالطة العروس. والنواة اسم لخمسة دراهم كما أن النش اسم لعشرين درهما، والأوقية اسم لأربعين. وقوله: ((علي وزن نواة من ذهب)) أي علي مقدار خمسة دراهم وزنا من الذهب، يعني ثلاثة مثاقيل ونصفا ذهبا. وقيل معناه علي ذهب تساوي قيمته خمسة دراهم، وهو لا يساعده اللفظ. وقيل: المراد بالنواة نواة التمر. قوله: ((أولم ولو بشاة)) أي اتخذ وليمة، ومن ذهب إلي إيجابها أخذ بظاهر الأمر، وهو محمول علي الندب عند الأكثر. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أولم علي زينب)) يعني أي مثل ما أولم أو قدر ما أولم، أي أولم علي زينب أكثر مما أولم علي نسائه. الحديث الثالث والرابع عن أنس: قوله: ((عتقها صداقها)) ((حس)): اختلف أهل العلم فيما لو أعتق أمته وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، فذهب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلي جوازه لظاهر الحديث، ولم يجوزه جماعة، وتأولوا هذا الحديث أن هذا كان من خواصه، كما كان النكاح ينفي المهر من خواصه، وكانت هذه في معنى الموهبة. وفي الحديث دليل علي أن لا كراهة فيمن يعتق أمة ثم ينكحها. والحيس طعام يتخذ من التمر والسويق والسمن. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يبنى عليه بصفية)) كان من الظاهر المشهور أن يقول: بنى علي صفية أو بنى بصفية علي قول ابن دريد. ولعل المعنى يبنى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خباء جديد مع صفية أو بسببها. وقوله: ((وما كان فيها إلا أن أمر)) بعد قوله: ((وما كان من خبز)) إعلام بأنه ما كان فيها من طعام أهل التنعم والترفه، بل من طعام أهل التقشف من التمر والإقط والسمن. ويجوز أن يراد بالمجموع الحيس، وفي ذكر بسط الأنطاع دلالة علي كثرة هذا الجنس من الطعام.

3215 - وعن صفية بنت شيبة، قالت: أولم النبي صلى الله عليه وسلم علي بعض نسائه بمدين من شعير. رواه البخاري. 3216 - وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعي أحدكم إلي الوليمة فليأتها)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((فليجب، عرساً كان أو نحوه)). 3217 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعي أحدكم إلي طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فليأتها)) ((حس)): يستحب للمرء إذا أحدث الله به نعمة أن يحدث له شكراً، والوليمة والعقيقة والدعوة علي الختان، وعند القدوم من الغيبة والإعذار والخرس كلها سنن مستحبة، شكراً لله تعالي علي ما أحدث من النعمة، وآكدها استحباباً وليمة العرس والإعذار والخرس. واختلفوا في وجوب الإجابة إلي وليمة النكاح، فذهب بعضهم إلي أنها مستحبة، وآخرون إلي أنها واجبة، يحرج إذا تخلف عنها بغير عذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) وهذا التشديد في الإجابة والحضور، أما الأكل فغير واجب بل مستحب إن لم يكن صائماً؛ لما روى عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعى أحدكم إلي طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك)). أما الإجابة إلي غير وليمة النكاح فمستحبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو دعيت إلي كراع لأجبت)) وغير واجبة. ((مح)): الوليمة – علي ما قالوا – كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان أو غيرهما، لكن الأشهر استعمالها علي الإطلاق في النكاح. ويقال لدعوة الختان: إعذار – بالعين المهملة والذال المعجمة – ولدعوة الولادة: عقيقة، ولدعوة سلامة المرأة من الطلق: خرس – بضم الخاء المعجمة وبالسين المهملة. وقيل أيضاً لطعام الولادة ولقدوم المسافر: نقيعة، ولإحداث البناء: وكيرة، ولما اتخذ للمصيبة: وضيحة – بكسر الضاد المعجمة – ولما يتخذ بلا سبب: مأدبة – بضم الدال وفتحها. وأم الأعذار التي يسقط بها وجوب الإجابة وندبها، فأن يكون في الطعام شبهة، أو يخص بها الأغنياء، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره، أو لا يليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه، أو لتعاونه علي باطل، وأن يكون هناك منكر من خمر أو لهو، أو فرش حرير أو صور أو حيوان غير مفروشة، أو إنية ذهب أو فضة. ومن الأعذار أن يتعذر إلي الداعي فيتركه، ولو دعاه ذمي لم تجب إجابته علي الأصح.

3218 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) متفق عليه. 3219 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، كان له غلام لحام، فقال: اصنع لي طعاماً يكفي خمسة، لعلي أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فصنع له طعيما ثم أتاه فدعاه، فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا شعيب! إن رجلاً تبعنا، فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته)) قال: لا، بل أذنت له. متفق عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شر الطعام طعام الوليمة)) ((قض)): يريد من شر الطعام [فإن من الطعام] ما يكون شراً منه، ونظيره: شر الناس من أكل وحده. وإنما سماه شراً لما ذكر عقيبه؛ فإن الغالب فيها، فكأنه قال: شر الطعام طعام الوليمة التي من شأنها هذا، فاللفظ وإن أطلق فالمراد به التقييد بما ذكر عقيبه، وكيف يريد به الإطلاق وقد أمر باتخاذ الوليمة وإجابة الداعي إليها، ورتب العصيان علي تركها؟ ولذلك قيل بوجوب الإجابة. أقول: التعريف في ((الوليمة)) للعهد الخارجي، وكان من عادتهم مراعاة الأغنياء فيها وتخصيصهم بالدعوة، وإيثارهم وتطييب الطعام لهم، ورفع مجالسهم وتقديمهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم. وقوله: ((يدعى)) إلي آخره استئناف بيان لكونها شر الطعام، وعلي هذا لا يحتاج إلي تقدير ((من)) لأن الرياء شرك خفي، ((ومن ترك الدعوة)) حال، والعامل ((يدعى)) يعني يدعى لها الأغنياء، والحال أن الإجابة واجبة، فيجيب المدعو ويأكل شر الطعام. الحديث العاشر عن أبي مسعود: قوله: ((خامس خمسة)) أي أحد خمسة، كقوله تعالي: {ثَإني اثْنَيْنِ}. قوله: ((فإن شئت أذنت له)) ((حس)): فيه دليل علي أنه لا يحل طعام الضيافة لمن لم يدع إليها. وذهب قوم إلي أن الرجل إذا قدم إليه طعام وخلي بينه وبينه، فإنه يتخير إن شاء أكل وإن شاء أطعم غيره وإن شاء حمله إلي منزله؛ فأما إذا جلس علي مائدة كان له أن يأكل بالمعروف، ولا يحمل شيئاً، ولا يطعم غيره منها. وقد استحسن بعض أهل العلم أن يتناول أهل المائدة الواحدة بعضهم بعضاً شيئاً. فإن كانوا علي مائدتين لم يجز. وذهب بعضهم إلي أن من قدم إلي رجل طعاماً ليأكله فإنه لا يجرى مجرى التمليك، وأن له أن يحول بينه وبينه إذا شاء. ((مظ)): هذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم علي أنه لا يجوز لأحد أن يدخل دار غيره

الفصل الثاني 3220 - عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم علي صفية بسويق وتمر. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3220] 3221 - وعن سفينة: أن رجلاً ضاف علي بن أبي طالب، فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوه، فجاء فوضع يديه علي عضادتي الباب، فرأي القرام قد ضرب في ناحية البيت، فرجع. قالت فاطمة: فتبعته، فقلت: يا رسول الله! ما ردك؟ قال: ((إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً)) رواه أحمد، وابن ماجه. [3221] 3222 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل علي غير دعوة دخل سارقاً وخرج مغيراً)) رواه أبو داود. [3222] ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا بإذنه، ولا للضيف أن يدعو أحداً بغير إذن المضيف. ((مح)): يستحب للضيف أن يستأذن له، ويستحب للمضيف أن لا يرده إلا أن يترتب علي حضوره مفسدة من تأذى الحاضرين، وإذا رده ينبغي أن يتلطف به، ولو أعطاه شيئاً من الطعام إن كان يليق به، ليكون رداً جميلاً كان حسناً. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن سفينة: قوله: ((ضاف علي بن أبي طالب)) ((مظ)): أي صنع طعاماً وأهدي لعلي بن أبي طالب رض الله عنه، وليس معناه أنه دعي علياً إلي بيته. وعضادتي الباب خشبتان منصوبتان علي جنبيه، والقارم الستر. قال الخطابي: كان ذلك مزيناً منقشاً. وقيل: بل لم يكن منقشاً، ولكن ضرب مثل حجلة العروس ستر به الجدار؛ لأن فيه نوع رعونة تشبه أفعال الجبابرة، وفيه تصريح بأنه لا تجاب دعوة فيها منكر. الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((دخل سارقاً)) هو حال لبيان هيئة الفاعل عند الدخول، وهو تشبيه، لذكر المشبه والمشبه به، يعني أن هيئته كهيئة السراق من الدخول بالخفية واستراق النظر، وعلي هذا قوله: ((خرج مغيراً)). وفيه تصريح بوجوب إجابة الداعي مطلقاً؛ لذكر العصيان، ووضع المظهر موضع ضمير المتكلم في ((ورسوله)) يعني عصيان الله وعصيان من اسمه الرسول بمنزلة عظيمة.

3223 - وعن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما باباً، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق)). رواه أحمد، وأبو داود. [3223] 3224 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به)). رواه الترمذي. [3224] 3225 - وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن طعام المتباريين أن يؤكل. رواه أبو داود، وقال محيي السنة: والصحيح أنه عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. [3225] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((حق)) وذلك علي ما مر من أنه يستحب للمرء إذا أحدث الله به نعمة أن يحدث له شكراً، وطعام اليوم الثانية سنة؛ لأنه ريما ينجبر به ما عسى أن يصدر عنه من تقصير، أو تخلف عنه بعض الأصدقاء فإن السنة مكملة للواجب ومتممة له، وليس طعام اليوم الثالث إلا رياء وسمعة. ((فا)): السمعة أن يسمع الناس عمله وينوه به علي سبيل الرياء. ويقال: إنما يفعل سمعة وتنويها، أي ليسمع به ويرى؛ ولذلك سمي فعل المرائي سمعة ورياء؛ لأنه يفعله ليسمع به ويرى. ومن نوع عمله رياءً وسمعة نوه الله بريائه وتسميعه، وقرع به أسماع خلقه، فيتعارف ويشتهر بذلك فيفضح بين الناس – انتهي كلامه. هذا من جانب الداعي، وأما من جانب المدعو ففي الأولي يجب عليه الإجابة، وفي الثانية مستحبة، وفي الثالثة مكروهة بل هي محظورة. الحديث السادس عن عكرمة: قوله: ((المتباريين)) ((مظ)): المتبارين هما المتعارضان بفعليهما، ليرى أيهما يغلب صاحبه، وإنما كره ذلك لما فيه من المباهاة والرياء. وقد دعى بعض العلماء فلم يجب. فقيل له: إن السلف يدعون فيجيبون، فقال: كانوا يدعون للمؤاخاة والمواساة، وأنتم تدعون للمباهاة والمكافأة. وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما دعيا إلي طعام فأجابا، فلما خرجا قال عمر لعثمان: لقد شهدت طعاماً وددت إني لم أشهد، قال: ما ذاك؟ قال: خشيت أن يكون جعل مباهاة.

(9) باب القسم

الفصل الثالث 3226 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتباريان لا يجابان، ولا يؤكل طعامهما)) قال الإمام أحمد: يعني المتعارضين بالضيافة فخراً ورياءً. [3226] 3227 - وعن عمران بن حصين، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين. [3227] 3228 - وعن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم علي أخيه المسلم، فليأكل من طعامه، ولا يسأل، ويشرب من شرابه ولا يسأل)). روى الأحاديث الثلاثة البيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: هذا إن صح فلأن الظاهر أن المسلم لا يطعمه ولا يسقيه إلا ما هو حلال عنده. [3228] (9) باب القسم الفصل الأول 3229 - عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض عن تسع نسوة، وكان يقسم منهن لثمان. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني والثالث عن عمران وأبي هريرة: فإن قلت: كيف الجمع بين الحديثين؟ قلت: الفاسق هو الجائر عن القصد والمنحرف عن الطريق المستقيم، فالغالب أن لا يجتنب عن الحرام، فنهي الحازم عن أكل طعامه وأن يحسن الظن به؛ لأن الحزم من سوء الظن، وخص في حديث أبي هريرة بلفظ ((أخيه)) ووصف بـ ((المسلم))، والظاهر من حال المسلم أن يجتنب الحرام، فأمر بحسن الظن به وسلوك طريق التحاب والتواد، فيجتنب عن إيذائه بسؤاله. وأيضاً إن الاجتناب عن طعام الفاسق زجر له عن ارتكاب الفسق، فيكون لطفاً في الحقيقة، كما ورد ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). باب القسم المغرب: القسم بالفتح مصدر قسم القسام المال بين الشركاء، فرقه بينهم وعين أنصباءهم، ومنه القسم بين النساء.

3230 - وعن عائشة، أن سودة لما كبرت قالت: يا رسول الله! قد جعلت يومي منك لعائشة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة. متفق عليه. 3231 - وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: ((أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)) يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قبض عن تسع نسوة)) ضمن القبض معنى التجافي والتجاوز، أو يكون ((عن تسع)) حالا. قوله: ((وكان يقسم بينهن لثمان)) ((قض)): إنما كان كذلك؛ لأن التاسعة كانت سودة، وقد وهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها، وكان القسم في الحقيقة لتسع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت عند عائشة نوبتها ونوبة سودة، كما حكي في الحديث التالي له عن عائشة، لكن المبيت كان عند ثمإني زوجات. ((حس)): إذا وهب بعضهن نوبتها فلا يلزم في حق الزوج، بل له أن يدخل علي الواهبة، ولا يرضي بغيرها عنها، وإن رضي الزوج فجائز. ثم إن وهبت نوبتها لواحدة بعينها يكون الزوج عند الموهوبة لها نوبتين، نوبتها ونوبة الواهبة، ورضا الموهوبة غير شرط. وإن تركت حصتها من القسم من غير أن خصت واحدة من ضرائرها بنوبتها، فيسوى الزوج بين ضرائرها، ويخرج الواهبة من القسم. ((مح)): للواهبة الرجوع متى شاءت، فترجع في المستقبل دون الماضي؛ لأن الهبات ترجع فيما لم تقبض منها، ولا تجوز الموالاة للموهوب لها، إلا برضا الباقيات، ولا يجوز أن تأخذ علي هذه الهبة عوضاً، ويجوز أن تهب للزوج، فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((منك)) حال من ((يومي))، وقوله: ((لعائشة)) المفعول الثاني. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((يريد يوم عائشة)) تفسير لقوله: ((أين أنا غداً؟)) وكان الاستفهام استئذاناً منهن لأن يأذن له أن يكون عند عائشة، يدل عليه قوله: ((فأذن له)). ((مظ)): اختلفوا في أن القسم هل وجب عليه صلى الله عليه وسلم أم لا؟ والأصح أنه كان واجباً لهذا الحديث؛ فإنه لو لم يجب لم يحتج إلي الإذن.

3232 - وعنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه. متفق عليه. 3233 - وعن أبي قلابة، عن أنس، قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر علي الثيب أقام عندها سبعاً وقسم؛ وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. 3234 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إذا أراد سفراً أقرع)) ((حس)): إذا أراد الرجل أن يسافر سفر حاجة، ويحمل بعض نسائه مع نفسه فليس له ذلك، إلا أن يقرع بينهن. ثم إذا حمل مع نفسه واحدة بالقرعة لا يجب عليه أن يقضي للباقيات مدة سفره وإن طالت، ولا مدة مكثه في بلد إذا لم يزد علي مقام المسافرين، وإن زاد مكثه علي مدة المسافرين فعليه ما زاد للباقيات، هذا قول أكثرهم، وذهب بعضهم إلي أنه يقضى للبواقي مدة غيبته بكل حال. والأول أصح؛ لأن المسافرة وإن حظيت بصحبة الزوج، فقد تعبت لمشقة السفر، فالتسوية بينها وبين من هي في راحة الإقامة والسكون وعدول عن الإنصاف، ولو خرج بواحدة من غير قرعة فعليه القضاء للبواقي، وهو بهذا الفعل عاص. الحديث الخامس عن أبي قلابة: قوله: ((من السنة)) يجوز أن يكون خبراً وما بعده من الشرط في تأويل المبتدأ، أي من السنة إقامة الرجل عند البكر إذا تزوجها سبعاً. ((مح)): هذا اللفظ يقتضى رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الصحابي: السنة كذا أو من السنة كذا، هو في الحكم كقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. هذا مذهبنا ومذهب المحدثين وجماهير السلف والخلف. وجعله بعضهم موقوفاً، وليس بشيء. وقوله: ((قال أبو قلابة: ولو شئت قلت: إن أنساً رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم)) معناه أن هذا اللفظ وهو قوله: ((من السنة كذا)) صريح في رفعه، فلو شئت أن أقول هذا بناءً علي أن الرواية بالمعنى لقلتها، ولو قلتها لكنت صادقاً. الحديث السادس عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((إن شئت سبعت عندك)) ((نه)): اشتقوا فعل من الواحد إلي العشرة، فمعنى سبع، أقام عندها سبعاً، وثلث أقام عندها ثلاثاً، وسبع الإناء إذا غسله سبع مرات. وكذلك من الواحد إلي العشرة في كل قول وفعل. ((تو)): السنة في البكر التسبيع، وفي الثيب التثليث. والنظر فيه إلي حصول الألفة ووقوع المؤانسة بلزوم الصحبة. ولما أراد إكرام أم سلمة أخبرها، أن لا هوان بها علي أهلها يعني نفسه، وأنزلها في الكرامة منزلة الأبكار. والبكر لما كانت حديثة عهد بصحبة الرجل وكانت

سلمة، وأصبحت عنده قال لها: ((ليس بك علي أهلك هوان، إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت)) قالت: ثلث. وفي رواية: أنه قال لها: ((للبكر سبع وللثيب ثلاث)). رواه مسلم. الفصل الثاني 3235 - عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: ((اللهم ـــــــــــــــــــــــــــــ حقيقة بالإباء والاستعصاء، لا تلين عريكتها إلا بجهد جهيد، شرع لها الزيادة لينتفي بها نفارها ويسكن بها روعها، وهي العدد التي يدور عليها الأيام. وقد اختلف أهل العلم فيما يلزم من بني علي أهله بعد التسبيع أو التثليث، هل يقسم بعدها لبقية أزواجه بحساب ذلك أو يستأنف القسم؟ فذهب ذاهبون إلي أن ذلك من الحقوق الجديدة لا شركة لبقية الأزواج فيه وقال آخرون: إن لبقية الأزواج استيفاء مدة تلك الأيام، والحجة لهم علي من خالفهم هذا الحديث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة: ((إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن)) فقالوا: لو كانت الأيام الثلاثة هي من حقوق الثيب مسلمة لها مخلصة عن الاشتراك لكان من حقه أن يدور عليهن أربعاً أربعاً لكون الثلاثة حقاً لهان فلما كان الأمر في السبع علي ما ذكر علم أن في الثلاث كذلك. وأجاب القاضي: كان طلبها لما هو أكثر من حقها أسقط اختصاصها بما كان حقاً مخصوصاً بها. وقوله: ((ليس بك علي أهلك هوان)) تمهيد للعدد في الاقتصار علي التثليث لها، أي ليس اقتصاري بالثلاث لإعراض عنك وعدم رغبة في مصاحبتك؛ ليكون ذلك سبباً للإهانة علي أهلك، فإن الإعراض عن النساء وعدم الالتفات إليهن يدل علي عدم المبالاة بأهلها؛ بل لأن حقك مقصور عليك. أقول: الباء علي الأول متصل بـ ((هوان))، والمراد بالأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي الثاني سببية، والأهل قبيلتها. وكلام الشيخ محيي الدين النواوي صريح في أن المراد بالأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن قوله: ((ليس بك علي أهلك هوان)) تمهيد لما بعده من بيان حقها، وأنها مخيرة بين ثلاث بلا قضاء وبين سبع يقضى لباقي نسائه؛ لان في الثلاث مزية لعدم القضاء، وفي السبع مزية لتواليها وكمال الأنس فيها، واختارت الثلاث لكونها لا تقضي ويقرب عوده إليها. هذا إذا كانت ثيباً، وأما إن كانت بكراً حقها سبع بلا قضاء. واختلفوا في اختصاصها بمن له زوجات غير الجديدة أم لا، قال ابن عبد البر: جمهور العلماء علي أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة أم لا، لعموم الحديث. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فلا تلمني فيما تملك)) ((حس)): أراد به

هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3235] 3236 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه ساقط)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3236] الفصل الثالث 3237 - عن عطاء، قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف فقال: هذه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحب ميل القلب، وفيه دليل علي أن القسم كان فرضاً علي الرسول صلى الله عليه وسلم كما علي غيره، حتى كان صلى الله عليه وسلم يراعي التسوية بينهن في مرضه، مع ما يحلقه من المشقة، علي ما روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم ((كان يسأل في مرضه الذي توفي فيه أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة)) الحديث. وذهب بعضهم إلي أن القسم بينهن لم يكن واجباً عليه، واحتج بما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف علي نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة. وقال بعضهم: كان هذا قبل أن يسن القسم، وإن كان بعده فلم يكن عليه أكثر من التسوية بينهن. ويحتمل أن يكون ذلك بإذنهن، وإلا فليس للزوج أن يبيت في نوبة واحدة عند أخرى من غير ضرورة، ولا أن يجمع بين اثنتين في ليلة واحدة من غير إذنهن. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وشقه ساقط)) الشق بالكسر النصف، ومنه قولهم: المال بيني وبينك شقني أي نصفين. ((حس)): من كانت له امرأتان فمال إلي إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل، والمراد بالميل الميل بالفعل، فلا يؤاخذ بميل القلب إذا سوى بينهن في فعل القسم، قال الله تعالي: {ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ} معناه لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب، فلا تميلوا كل الميل، أي لا تتبعوا أهواءكم وأفعالكم. الفصل الثالث الحديث الأول عن عطاء: قوله: ((فلا تزعزعوها)) الزعزعة تحريك الشيء، يقال: زعزعته

(10) باب عشرة النساء وما لكل واحدة من الحقوق

زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا بها، فإنه كان عند رسول الله ص تسع نسوة كان يقسم منهن لثمان، ولا يقسم لواحدة. قال عطاء: التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقسم لها بلغنا أنها صفية، وكانت آخرهن موتاً، ماتت بالمدينة. متفق عليه. وقال رزين: قال غير عطاء: هي سودة وهو أصح، وهبت يومها لعائشة حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاقها، فقالت له: امسكني؛ قد وهبت يومي لعائشة، لعلي أكون من نسائك في الجنة. (10) باب عشرة النساء وما لكل واحدة من الحقوق الفصل الأول 3238 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فتزعزع. وقوله: ((فإنه)) تعليل للنهي، أي ارفقوا بجنازتها وعظموا شأنها، فإن صاحبتها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي كان يهتم بشأنهن فيقسم بينهن بالسوية. باب العشرة العشرة الصحبة. ((غب)): العشيرة أهل الرجل الذين يتكثر بهم، أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشيرة هو العدد الكامل، وعاشرته صرت له كعشيرة في المظاهرة، ومنه قوله تعالي: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((استوصوا)) ((قض)): الاستيصاء قبول الوصية، والمعنى أوصيكم بهن خيراً، فاقبلوا وصيتي فيهن؛ ((فإنهن خلقن من ضلع))، أي خلقن من خلق فيه اعوجاج، وكأنهن خلقن من أصل معوج، فلا يتهيأ الانتفاع بهن إلا

3239 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك علي طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)) رواه مسلم. 3240 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر)) رواه مسلم. 3241 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بمداراتهن والصبر علي اعوجاجهن. والضلع – بكسر الضاد وفتح اللام – واحد الأضلاع، استعير للمعوج صورة أو معنى. وقيل: أراد به أن أول النساء خلقت من ضلع؛ فإن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم. أقول: والأظهر أن السين للطلب مبالغة، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن بخير، كما في قوله تعالي: {وكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} الكشاف: السين للمبالغة، أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في استعجب. ويجوز أن يكون من الخطاب العام، أي ليستوص بعضكم بعضاً في حق النساء. ((مح)): فيه الحث علي الرفق بالنساء والإحسان إليهن، والصبر علي عوج أخلاقهن واحتمال ضعف عقولهن، وكراهة عقولهن بلا سبب، وأنه لا مطمع في استقامتهن. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وكسرها طلاقها)) فيه إشعار باستحالة تقويمها، أي إن كان لابد من الكسر فكسرها طلاقها. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يفرك)) ((قض)): الفرك بالكسر بغض أحد الزوجين الآخر. وقوله: ((لا يفرك)) نفي في معنى النهي، أي لا ينبغي للرجل أن يبغضها؛ لما يرى منها فيكرهه؛ لأنه إن استكره منها خلقاً، فلعله استحسن منها غيره، فليعارض هذا بذاك. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم يخنز اللحم)) ((قض)): خنز اللحم بالكسر تغير ونتن، والمعنى لولا أن بني إسرائيل سنوا ادخار اللحم حتى خنز، لما ادخر فلم يخنز، ولولا أن حواء خانت آدم بإغرائه وتحريضه علي مخالفة الأمر بنتناول الشجرة، وسنت هذه السنة، لما سلكتها أنثى مع زوجها؛ فإن البادئ بالشيء كالسبب الحامل لغيره علي الإتيان به والاقتداء عليه. وقيل: لم يكن اللحم يخنز حتى منع بنو إسرائيل عن ادخاره فلم ينتهوا عنه،

3242 - وعن عبد الله بن زمعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم وفي رواية: ((يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها في آخر يومه)) ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، فقال: ((لم يضحك أحدكم مما يفعل؟)) متفق عليه. 3243 - وعن عائشة، قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل ينقمعن فيسربهن إلي فيلعبن معي. متفق عليه. 3244 - وعنها، قالت: والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، يقوم علي باب حجرتي، ـــــــــــــــــــــــــــــ فأسرع الخنز إلي ما ادخروه عقوبة لهم. أقول: قوله: ((لما ادخر فلم يخنز)) من باب قوله: ولا ترى الضب بها بنحجر، أي لا ضب هناك ولا الحجاز. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((يجامعها)) ((ثم)) استبعادية أي مستبعد من العاقل الجمع بين هذا الإفراط والتفريط من الضرب المبرح والمضاجعة. وفيه إشارة إلي جواز ضرب العبيد والإماء للتأديب، إذا لم ينزجروا بالكلام، وحسن المعاشرة مع النساء والرفق بهن. و ((ثم)) في قوله: ((ثم وعظهم)) للتراخي في الزمان، يعني بعد ما تكلم بالكلام السابق بزمان رآهم يضحكون من الفعلة المذكورة فوعظهم. وفيه تنبيه علي أنه ينبغي للرجل العاقل إذا أراد أن يعيب علي أخيه المسلم شيئاً، أن ينظر في نفسه أولا هل هو برئ منه أو ملتبس به؟ فإن لم يكن بريئاً فلأن يمسك عنه خير من أن يعيبه، ولقد أحسن من قال: أرى كل إنسان يرى عيب غيره ويعمي عن العيب الذي هو فيه الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بالبنات)) ((قض)): هي جمع بنت، يريد بها اللعب التي تلعب بها الصبية. وقولها: ((ينقمعن)) أي يتسترن منه ويتغيبن عنه، والانقماع الدخول في كن ((فيسربهن))، أي يرسلهن ويسرحهن إلي، من سرب إذا ذهب. قال تعالي: {وسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أو من السرب وهي جماعة النساء، أي يرسلهن إلي سرباً سرباً. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بالحراب في المسجد)) ((تو)): يحتمل أنهم كانوا في رحبة المسجد، وكانت تنظر إليهم من باب الحجرة، وذلك من داخل المسجد، فقال: ((في المسجد)) لاتصال الرحبة به، أو دخلوا المسجد لتضايق الموضع بهم، وإنما سومحوا

والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، لأنظر إلي لعبهم بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة علي اللهو. متفق عليه. 3245 - وعنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبي)). فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: ((إذا كنت عني راضية؛ فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبي؛ قلت: لا ورب إبراهيم)). قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك متفق عليه. 3246 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلي فراشه فأبت، فبات غضبان؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح)) متفق عليه. وفي رواية لهما، قال: ((والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلي فراشه فتأبي عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضي عنها)). 3247 - وعن أسماء، أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرة، فهل علي ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه؛ لأن لعبتهم لم يكن من اللعب المكروه، بل كان يعد من عدة الحرب مع أعداء الله، فصار بالقصد من جملة العبادات كالرمي. وأما النظر إليهم فالظاهر أنه كان قبل نزول الحجاب. وقوله: ((فاقدروا)) يقال: قدرت الأمر كذا، أقدر وأقدر، إذا نظرت فيه وتدبرته، أي دبروا أمر الجارية مع حداثة سنها وحرصها علي اللهو، وانظروا فيها إذا تركت وما تحب من ذلك كم تلبث وتديم النظر إليه، تريد بذلك طول لبثها، ومصابرة النبي صلى الله عليه وسلم معها علي ذلك. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما أهجر إلا اسمك)) هذا الحصر من اللطف في الجواب؛ لأنها أخبرت أنها إذا كانت في غاية من الغضب الذي يسلب العاقل اختياره، لا يغيرها عن كمال المحبة المستغرقة ظاهرها وباطنها الممتزجة بروحها، وإنما عبرت عن الترك بالهجران؛ لتدل بها علي أنها تتألم من هذا الترك الذي لا اختيار لها فيه، وأنشد: إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل الحديث التاسع عن أبي هريرة: قوله: ((الذي في السماء)) اعلم أنه إذا عبر عن رحمة الله أو غضبه، وقرب نزولهما علي الخلق، خص السماء بالذكر، وقد جمع بينهما في قوله تعالي: {وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ}. وفيه دليل علي أن سخط الزوج يوجب سخط الرب، ورضاه يوجب رضاه، هذا في قضاء الشهوة، فكيف إذا كان في أمر الدين؟

جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) متفق عليه. 3248 - وعن أنس، قال: آلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً، وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة تسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل. فقالوا: يا رسول الله، آليت شهراً. فقال: ((إن الشهر يكون تسعاً وعشرين)). رواه البخاري. 3249 - وعن جابر، قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم. قال: فأذن لأبي بكر، فدخل، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أسماء: قوله: ((المتشبع)) ((فا)): المتشبع علي معنيين: أحدهما التكلف إسرافاً في الأكل وزيادة علي الشبع حتى يمتلئ ويتضلع. والثاني المتشبه بالشبعان وليس به، وبهذا المعنى الثاني استعير للمتحلي بفضيلة لم يرزقها وليس من أهلها. وشبه بلابس ثوبي زور، أي ذي زور وهو الذي يزور علي الناس، بأن يتزي بزي أهل الزهد ويلبس لباس ذوي التقشف رياء. وأضاف الثوبين؛ لأنهما كانا ملبوسين لأجله، فقد اختص به اختصاصاً يسوغ إضافتهما إليه، وأراد أن المتحلي كمن لبس ثوبين من الزور وقد ارتدى بأحدهما وائتزر بالآخر، كقوله: إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا. الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((آلي)) ((نه)) يقال: آلي يولي إيلاء، وتألي يتألي تأليا بالتاء، الاسم الإلية، وفي الحديث ((من يتألي علي الله يكذبه)) أي من حكم عليه وحلف، وإنما عداه هنا بـ ((من)) حملا علي المعنى، وهو الامتناع من الدخول. وللإيلاء في الفقه أحكام مختصة لا يسمى إيلاء دونها. والانفكاك ضرب من الوهن والخلع، وهو أن ينفك بعض أجزائها عن بعض. والمشربة – بالضم والفتح – أي الغرفة وبالفتح الموضع الذي يشرب منه كالمشرعة. ((حس)): هذا إذا عين شهراً فقال: لله علي أن أصوم شهر كذا فخرج ناقصاً لا يلزمه سوى ذلك، فإن لم يعين شهراً، فقال: لله علي صوم شهر يلزمه صوم ثلاثين يوماً. الحديث الثاني عشر عن جابر: قوله: ((واجما)) ((نه)): أي مهتما، والواجم الذي أسكته الهم وغلبته الكآبة، وقد وجم يجم وجوماً، وقيل: الوجوم الحزن. والوجاء ضرب، يقال: أوجأته بالسكين وغيرها وجاء إذا ضربته بها. والعنت المشقة والفساد والإثم. ((مح)): إنما قال: ((لا تعجلي فيه حتى تستشيري)) شفقة عليها وعلي أبويها، ونصيحة لهم في بقائها عنده؛ فإنه خاف أن يحملها صغر سنها وقلة تجاربها علي اختيار الفراق فتضر هي وأبواها وباقي النسوة بالاقتداء بها. قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} الآية، كان من الظاهر أن يوقع قوله: إن كنتن تردن الدار الآخرة واجماً ساكتاً، قال: فقلت: لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((هن حولي كما ترى، يسألنني النفقة)). فقام أبو بكر إلي عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلي حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} قال: فبدأ بعائشة، فقال: ((يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمراً، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشري أبويك)). قالت: وما هو

يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله! أستشير أبوي؟ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: ((لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن يعثني معلماً ميسراً)). رواه مسلم. 3250 - وعن عائشة، قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ مقابلاً لقوله: {إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا} فجعل مقدمته قوله: ((الله ورسوله)) دلالة علي أن رضي الله تعالي ورسوله منوط بإيثار الدار الآخرة علي الدنيا، وجعل جواب الشرط الأول التمتع من الدنيا مع التسريح المفضي إلي الحرمان عن حضرة هي مهبط الوحي السماوي والفيض الإلهي، وجواب الشرط الثاني إعداد الله أجراً عظيماً، والتنكير فيه والوصف بالعظم يدل علي أنه أجر لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه، ووضع المظهر موضع المضمر في ((الله)) و ((المحسنات))؛ لأن {منكن} للبيان لا للتبعيض إشعاراً بتفخيم الثواب، فإن المثيب إذا كان الله، والمثاب عليه المحسنات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فما بال الثواب؟ وكان جواب الصديقة بنت الصديق مناسباً للآية حيث قالت: ((أفيك يا رسول الله أستشير؟ بل أختار الله ورسوله)) فجعلت مقدمة الجواب مقرونة بهمزة الإنكار الداخلة علي الجار والمجرور المزال عن مقره؛ ليدل علي أن الاستشارة في كل الأمور مستحسنة؛ أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا. ثم قالت: ((أختار الله ورسوله))، ولم تقل: أختارك؛ ليطابق قوله تعالي: {وإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ

صلى الله عليه وسلم، فقلت: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالي: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشَاءُ ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. متفق عليه. وحديث جابر: ((اتقوا الله في النساء)) ذكر في ((قصة حجة الوداع)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ورَسُولَهُ} فلما تضمن هذا الاختيار القدح المعلي والفوز بالسعادات العظمى أرادت أن تختص بها، قالت ملتمسة أن لا تخبر امرأة من نسائك، وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر الشفقة والرحمة، {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} قال: ((إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً وميسراً)). ((مح)): فيه جواز احتجاب الإمام والقاضي ونحوهما في بعض الأوقات لحاجاتهم المهمة، والغالب من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتخذ حاجباً، فاتخاذه في ذلك اليوم ضرورة. وفيه وجوب الاستئذان وتأديب الرجل ولده، وإن كبر واستقل. وفيه ما كان صلوات الله عليه من التقليل في الدنيا والزهادة فيها. وفيه جواز سكني الغرفة لذات الزوجة واتخاذ الخزانة. وفيه ما كانوا عليه من حرصهم علي طلب العلم. وفيه أن الإنسان إذا رأي صاحبه مهموماً وأراد إزالة همه وكشف غمه يستحب له أن يحدثه بما يضحكه أو يشغله عنه. وفيه الخطاب بالألفاظ الجميلة، لقوله: ((فوجأت)) ولم يقل: ضربت، والعرب تستكره لفظ الضرب. وفيه أن للزوج تخيير زوجته واعتزاله عنهن في بيت آخر. وفيه دلالة لمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء، أن من خير زوجته واختارته لم يكن ذلك طلاقاً، ولا يقع به فرقة. وروي عن علي وزيد بن ثابت والحسن والليث رضي الله عنهم: أنه يقع الطلاق بنفس التخيير طلقة واحدة بائنة، سواء اختارت زوجها أم لا، ولعل القائلين به لم يبلغهم هذا الحديث. والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كنت أغار من اللاتي)) أعيب عليهن؛ لأن من غار عاب، لئلا يهبن أنفسهن فلا تكثر النساء، ويقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ما تحته، حتى نزل قوله تعالي: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشَاءُ} يعني تؤخر وتترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء أو تترك تزوج من شئت وتتزوج من شئت.

الفصل الثاني 3251 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. قالت: فسابقته فسبقته علي رجلي، فلما حملت اللحم، سابقته فسبقني. قال: ((هذه بتلك السبقة)) رواه أبو داود. [3251] 3252 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فدعوه)) رواه الترمذي، والدارمي. [3252] 3253 - ورواه ابن ماجه عن ابن عباس إلي قوله: ((لأهلي)). 3254 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت)). رواه أبو نعيم في ((الحلية)). [3254] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((علي رجلي)) حال من الفاعل في ((سابقته)) أي عدوا علي رجلي، وفائدته زيادة بيان الملاعبة كما يقال: أخذت بيدي، ومشيت برجلي ونظرت بعيني، وفيه بيان حسن خلقه صلوات الله عليه، وتلطفه بنسائه، ليقتدى به. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((صاحبكم)) ((قض)): قيل: أراد بالصاحب نفسه، وعني بقوله: ((فدعوه)) أن يتركوا التحسر والتلهف عليه؛ فإن في الله تعالي خلفاً عن كل فائت، وكأنه لما قال: ((وأنا خيركم لأهلي)) دعاهم إلي التأسف بفقده، فأزاح ذلك وخفف عنهم بهذا الكلام. وقيل: معناه إذا مت فدعوني ولا تؤذوني بإيذاء عشيرتي وأهل بيتي. ((مظ)): ((إذا مات صاحبكم فدعوه)) يعني ليحسن كل واحد منكم علي أهله فإذا مات واحد منكم فاتركوا ذكر مساوئه ولا تذكروا بعده بأخلاقه المذمومة، فإن ترك ذكر مساوئه والعفو عنه من حسن أخلاقكم. ويحتمل أن يكون معناه فاتركوا محبته بعد الموت، ولا تعلقوا قلوبكم به، بأن تجلسوا علي مصيبته والبكاء عليه.

3255 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) رواه الترمذي. [3255] 3256 - وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة)) رواه الترمذي. [3256] 3257 - وعن طلق بن علي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت علي التنور)). رواه الترمذي. [3257] 3258 - وعن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [3258] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: والوجه الأول من قول المظهر أظهر؛ لأن في قوله: ((خيركم)) دلالة علي حسن المعاشرة مع الأهل، واحتمال الأذى منهم والصبر علي سوء أخلاقهم في الحياة، وإذا مات فكان الأولي أن تترك الشكاية عنه وعن سوء أخلاقه فيدعه وأفعاله، وقد ورد ((واذكروا موتاكم بالخير)). وينصر هذا التأويل الحديث العاشر من هذا الفصل قوله: ((ليس أولئك بخياركم))، لأنه نفي عنهم الخيرية حيث لم يصبروا ولم يحتملوا أذاهن. الحديث الثالث إلي السادس عن طلق: قوله: ((وإن كانت علي التنور)) ذكره تتميما ومبالغة. ((تو)): وإنما علق الأمر بكونها علي التنور؛ لأن شغلها بالخبز من الأشغال بالخبز من الأشغال الشاغلة التي لا يتفرغ منها إلي غيرها إلا بعد انقضائها والفراغ منها. الحديث السابع عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((دخيل)) هو الضيف والنزيل، يريد أنه كالضيف والنزيل عليك، وأنت لست بأهل له علي الحقيقة لأنه يفارقك عن قريب، ولا تلتحقين به كرامة به، كما قال تعالي: {والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وإنما نحن أهله فيفارقك ويتركك في النار، ويلحق بنا ويصل إلينا.

3259 - وعن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [3259] 3260 - وعن لقيط بن صبرة، قال: قلت: يا رسول الله! إن لي امرأة في لسانها شيء – يعني البذاء – قال: ((طلقها)). قلت: إن لي منها ولداً، ولها صحبة. قال: ((فمرها)) يقول عظها ((فإن يك فيها خير فستقبل، ولا تضربن ظعينتك ضربك أميتك)) رواه أبو داود. [3260] 3261 - وعن إياس بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تضربوا إماء الله)) فجاء عمر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن النساء علي أزواجهن. فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن. فقال رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن حكيم: قوله: ((أن تطعمها إذا طعمت)) التفات من الغيبة إلي الخطاب اهتماماً بشأن ما قصد من الإطعام والكسوة. ((حس)): فيه دلالة علي جواز ضربها علي غير الوجه، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه نهياً عاماً. ((نه)): معنى قوله: ((لا تقبح)) لا تسمعها المكروه ولا تشتمها بأن تقول: قبحك الله، وما أشبه ذلك من الكلام، ومعنى ((لا تهجر إلا في البيت)) [أي إلا في المضجع و] لا تتحول عنها أو تحولها إلي دار أخرى. الحديث التاسع عن لقيط: قوله: ((عظها)) حال من فاعل ((قال)) أي قال: فمرها مريداً به، فـ ((عظها)) مفسر لقوله: ((فمرها)). ((تو)): الظعينة المرأة التي ما دامت في الهودج، فإذا لم تكن في الهودج فليست بظعينة قال الشاعر: قفي قبل التفرق يا ظعينا نخبرك اليقين وتخبرينا فاتسعوا فيها فقالوا للزوجة: ظعينة، وأرى أنهم يكنون بها عن كرائم النساء؛ لأن الهودج إنما يضم الكريم علي أهلها، ولهذا سماها في هذا الموضع ظعينة، أي لا تضرب الحرة التي هي منك بأعز مكان ضربك أميتك التي هي بأوضع مكان منك، وأمية تصغير أمة. الحديث العاشر عن إياس: قوله: ((ذئرن)) هو من وادي قولهم: أكلوني البراغيث، وقوله

صلى الله عليه وسلم: ((لقد طاف بآل محمد نساء كثير، يشكون أزواجهن. ليس أولئك بخياركم)) رواه أبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [3261] 3262 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من خبب امرأة علي زوجها، أو عبداً علي سيده)). رواه أبو داود. [3262] 3263 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله)) رواه الترمذي. [3263] 3264 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود إلي قوله ((خلقاً)). [3264] 3265 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي: {وأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}. ((نه)): أي نشزن واجترأن، يقال: ذئرت المرأة تذأر فهي ذئر وذائر أي ناشز. ((حس)): فيه من الفقه أن ضرب النساء علي منع حقوق النكاح مباح، إلا أنه يضرب ضرباً غير مبرح. ووجه ترتيب السنة علي الكتاب في الضرب يحتمل أنه نهي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن قبل نزول الآية، ثم لما ذئر النساء أذن في ضربهن، ونزل القرآن موافقاً له، ثم لما بالغوا في الضرب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الضرب وإن كان مباحاً علي شكاية أخلاقهن، فالتحمل والصبر علي سوء أخلاقهن وترك الضرب أفضل وأجمل. ويحكى عن الشافعي هذا المعنى. قوله: ((لقد طاف)) صح بغير همزة والأول بهمزة. وفي نسخ المصابيح كلاهما بالهمزة. الجوهري: أطاف به أي ألم به وقاربه، وطاف حول الشيء يطوف طوفاً وطوفاناً وتطوف واستطاف كله بمعنى. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خبب)) ((نه)): أي خدع وأفسد.

تبوك، أو حنين، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟)) قالت: بناتي. ورأي بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال: ((ما هذا الذي أرى وسطهن؟)) قالت: فرس. قال: ((وما الذي عليه؟)) قالت: جناحان. قال: ((فرس له جناحان؟)) قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه. رواه أبو داود. [3265] الفصل الثالث 3266 - عن قيس بن سعد، قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم. فقلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق بأن يسجد لك. فقال لي: ((أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟)) فقلت: لا. فقال: ((لا تفعلوا، لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من حق)) رواه أبو داود. [3266] 3267 - ورواه أحمد عن معاذ بن جبل. [3267] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر إلي آخر الفصل عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((سهوتها)) ((نه)): السهوة بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع والخزانة. وقيل: هو كالصفة يكون في البيت، وقيل: شبيه بالرف والطاق يوضع فيه الشيء. قوله: ((من رقاع)) الرقاع جمع الرقعة التي تكتب، والرقعة الخرقة. الفصل الثالث الحديث الأول عن قيس: قوله: ((لمرزبان)) ((نه)): هو بضم الزاي أحد مرازبة الفرس، وهو الفارس الشجاع المقدم علي القوم دون الملك، وهو معرب. و ((الحيرة)) – بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة. قوله: ((لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟)) يعني إنما تسجد لي الآن إكراماً وإجلالاً وهيبة، فإذا كنت رهين رمس وقد زال ذلك امتنعت عنه، فإذا اسجد للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول. وقيل: لما دنف المأمون أمر حلساً فرش له فجعل يتمرغ فيه، ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.

3268 - وعن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته عليه)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [3268] 3269 - وعن أبي سعيد، قال: جاءت امرأة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عنده، فقالت: زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس. قال: وصفوان عنده. قال: فسأله عما قالت. فقال: يا رسول الله! أما قولها: يضربني إذا صليت؛ فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت سورة واحدة لكفت الناس)). قال: وأما قولها: يفطرني إذا صمت؛ فإنها تنطلق تصوم وأنا رجل شاب؛ فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوم امرأة إلا بأذن زوجها)) وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس؛ فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس قال: ((فإذا استيقظت يا صفوان! فصل)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [3269] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فيما ضرب امرأته عليه)) الضمير المجرور راجع إلي ((ما)) وهو عبارة عن النشوز المنصوص عليه في قوله تعالي: {واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ - إلي قوله - واضْرِبُوهُنَّ} وقوله: ((لا يسأل)) عبارة عن عدم التحرج والتأثم؛ لقوله تعالي: {فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، وتوبوا عليهن، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((فإنها تقرأ بسورتين)) يريد طول القراءة في الصلاة كأخذها في الصوم، وانطلاقها فيه وإدامتها عليه. وقوله: ((لو كانت)) اسمه ما يعود إلي مصدر ((تقرأ)) أي لو كانت القراءة بسورة واحدة وهي الفاتحة. وقوله: ((قد عرف لنا ذلك)) يعني عادتنا ذاك أو أنا أهل صنعة لا ننام الليل، وإنما قبل عذره مع تقصيره ولم يقبل منها وإن لم تقصر؛ إيذاناً بحق الرجال علي النساء. ((مظ)): في تركه التعنيف أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ولطف نبيه ورفقه بأمته. ويشبه أن يكون ذلك منه علي معنى ملكة الطبع واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه فلم يؤنب عليه. ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده.

3270 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم والشجر؛ فنحن أحق أن نسجد لك. فقال: ((اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلي جبل أسود، ومن جبل أسود إلي جبل أبيض؛ كان ينبغي لها أن تفعله)) رواه أحمد. [3270] 3271 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلي مواليه فيضع يده في أيديهم، والمرأة الساخط عليها زوجها، والسكران حتى يصحو)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3271] 3272 - وعن أبي هريرة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال ((التي تسر إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)) رواه النسائي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [3272] 3273 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من أعطيهن، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر، ولسان ذاكر، وبدن علي البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خوناً في نفسها ولا ماله)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3273] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وأكرموا أخاكم)) قاله تواضعاً وهضماً لنفسه صلوات الله عليه، يعني أكرموا من هو بشر مثلكم ومفرع من صلب أبيكم آدم، وأكرموه لما أكرمه الله تعالي واختاره وأوحى إليه، كقوله تعالي: {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ} قوله: ((من جبل أصفر إلي جبل أسود)) كناية عن الأمر الشاق القادح، وأنشد: لنقل الصخر من قلل الجبال أحب إلي من [منن] الرجال ثم تخصيص اللونين تتميم للمبالغة؛ لأنه لا يكاد يوجد أحدهما بقرب الآخر. الحديث الخامس والسادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا مالها)) يحتمل

(11) باب الخلع والطلاق

(11) باب الخلع والطلاق الفصل الأول 3274 - عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتردين عليه حديقته؟)) قالت: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقبل الحديقة وطلقها تطليقة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تكون الإضافة حقيقة والرجل معسر، ومع ذلك لا يتجاوز الحد من أخذ مالها فلا تضيق عليه ما أنفق من ماله، وأن تكون مجازية، نسب مال الزوج إليها لتصرفها فيه، كما في قوله تعالي: {ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ومخالفتها في نفسها الخيانة، وعلي المعنى الثاني ينطبق الحديث الثاني. والله اعلم. باب الخلع والطلاق المغرب: خلع الملبوس نزعه، وخالعت المرأة زوجها واختلعت منه إذا افتدت منه بمالها، فإذا أجابها الرجل فطلقها، قيل: خلعها، والاسم الخلع بالضم، وإنما قيل ذلك؛ لأن كلا منهما لباس صاحبه، فإذا فعلا ذلك فكأنكما نزعا لباسهما. والطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم. والتركيب يدل علي الحل والانحلال، ومنه: أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخليت عنه، وأطلقت الناقة من العقال. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ما أعتب عليه)) ((نه)): عتبه يعتبه عتباً وعتب عليه يعتب عتباً ومعتباً، والاسم المعتبة بالكسر والفتح، من الموجدة والغضب، والعتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجد. ((قض)): زوجة ثابت هذه، قيل: إنها كانت جميلة بنت أبي أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وقيل: إنها حبيبة بنت سهل الأنصاري. وقوله: ((ما أعتب عليه في خلق ولا دين))، أي لا أغضب عليه ولا أريد مفارقته لسوء خلقه، ولا لنقصان في دينه، ولكن أكرهه طبعاً فأخاف علي نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه من بغض نشوز وغير ذلك، مما يتوقع من الشابة المبغضة لزوجها، فنسبت ما ينافي مقتضى الإسلام باسم ما بنافيه نفسه.

3275 - وعن عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)). وفي رواية: ((مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله لثابت: ((أقبل الحديقة وطلقها تطليقة)) أمر استصلاح وإرشاد إلي ما هو الأصوب لا إيجاب وإلزام بالطلاق. وفيه دليل علي أن الأولي للمطلق أن يقتصر علي طلقة واحدة؛ ليتأتى له العود إليها إن اتفق بداء. ((مظ))؛: اختلف في أنه لو قال: خالعتك علي كذا، فقالت: قبلت وحصلت الفرقة بينهما، هل هو طلاق أم فسخ؟ فمذهب أبي حنيفة ومالك وأصح قولي الشافعي: أنه طلاق بائن، كما لو قال: طلقتك. ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي أنه فسخ. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إنه طلق امرأة له)) الحديث. ((قض)): لهذا الحديث فوائد: منها: حرمة الطلاق في الحيض لتغيظه صلى الله عليه وسلم فيه، وهو لا يتغيظ إلا في حرام. ومنها: التنبيه علي أن علة الحرمة تطويل العدة عليها؛ فإنه طلقها في زمان لا يحسب من عدتها، وأن عدتها بالأطهار دون الحيض. والمراد بقوله تعالي: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ثلاثة أطهار؛ لقوله: ((فليطلقها طاهراً)) إلي آخره. ومنها: أن تداركه بالمراجعة إذ التطويل يزول بها. ومنها: أن المراجع ينبغي أن لا يكون قصده بالمراجعة تطليقها؛ لأنه أمر بإمساكها في الطهر الثاني برأي مستأنف وقصد مجدد يبدو له بعد أن تطهر ثإنياً. ومنها: الدلالة بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها)) أن الطلاق لا يحل أيضاً في طهر جامعها فيه؛ لأن الأمر المقيد بالمنطوق أمر إباحة، فيكون الثابت في المسكوت عنه نفيها؛ وإلا لم يفد التخصيص. قوله: ((فتلك العدة التي أمر الله)) ((مح)): فيه دليل لمذهب الشافعي ومالك وموافقيهما، أن الأقراء في العدة هي الأطهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((فليطلقها في الطهر إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها)) أي فيها، ومعلوم أن الله تعالي لم يأمر بطلاقهن في الحيض بل حرمه، والمشار إليه بقوله: ((فتلك)) الحالة المذكورة، وهي حالة الطهر والعدة. قال أصحابنا: يحرم الطلاق في طهر جامعها فيه حتى يتبين حملها لئلا يندم، ولو كانت الحائض حاملا فالصحيح عندنا أنه لا يحرم طلاقها؛ لأن تحريم الطلاق في الحيض إنما كان لتطويل العدة؛ لكونه لا يحسب قرءاً. فأما الحامل الحائض فعدتها بوضع الحمل، فلا يحصل في حقها تطويل. وفي

3276 - وعن عائشة، قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترنا الله ورسوله، فلم يعد ذلك علينا شيئاً. متفق عليه. 3277 - وعن ابن عباس، قال: في الحرام يكفر: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)). متفق عليه. 3278 - وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش، وشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل علها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل علي إحداهما، فقالت له ذلك. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإن بدا له)) دليل علي أنه لا إثم في الطلاق بغير سبب، وفي قوله: ((مره فليراجعها)) دليل علي أن الرجعة لا تفتقر إلي رضي المرأة ولا وليها. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فلم يعد ذلك)) ((قض)): كان علي رضي الله عنه يقول: إذا خير الزوج زوجته فاختارت نفسها بانت بواحدة، وإن اختارت زوجها طلقت بتخييره إياها طلقة رجعية. وكان زيد بن ثابت يقول في الصورة الأولي: طلقت ثلاثاً، وفي الثانية: طلقت واحدة بائنة. فأنكرت عائشة قولهما بذلك، أي لم يعد علينا شيئاً لا ثلاثاً ولا واحدة، لا بائنة ولا رجعية. ((مظ)): لو قال الزوج لامرأته: اختاري نفسك أو إياي، فقالت: اخترت نفسي وقع به طلاق رجعي عند الشافعي وأحمد، وطلاق بائن عند أبي حنيفة، وثلاث طلقات عند مالك. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في الحرام يكفر)) ((تو)): أراد ابن عباس أن من حرم علي نفسه شيئاً قد أحله الله له، يلزمه كفارة يمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم علي نفسه ما أحل له الله له أمر بالكفارة، قال الله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} الآية. و ((الأسوة)) الحالة التي يكون الإنسان عليها من إتباع غيره إن حسناً وإن قبيحاً؛ ولهذا وصفت في الآية بالحسنة. ((حس)): إذا قال لامرأته: أنت علي حرام أو حرمتك، فإن نوى به طلاقها فهو طلاق، وإن نوى به ظهارها فهو ظهار، وإذا أطلق ليس بطلاق ولا ظهار، وعليه كفارة اليمين. وإذا قال لأمته، فإن نوى عتقها عتقت وإلا فعليه كفارة اليمين وليس بيمين. وإن حرم طعاماً علي نفسه لا يحرم، ولا شيء عليه إذا أكله. ولو قال: كل ما أملكه هو علي حرام، فإن لم تكن له زوجة ولا جارية فلا شيء عليه، وإن كان له زوجة أو جارية فعليه كفارة اليمين. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مغافير)) ((تو)) المغافير جمع مغفور بضم

فقال: ((لا بأس، شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت؛ لا تخبري بذلك أحداً)) – يبتغي مرضاة أزواجه، فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} الآية متفق عليه. الفصل الثاني 3279 - عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [3279] 3280 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبغض الحلال إلي الله الطلاق)). رواه أبو داود. [3280] ـــــــــــــــــــــــــــــ الميم، وقيل: جمع مغفر، وهو ثمر العضاة كالعرفط والعنبر، إلا أن الذي في هذا الحديث هو ما يجتني من العرفط؛ لما في الحديث [((جرست نحله العرفط))] وما ينضحه العرفط حلو، وله رائحة كريهة. أقول: قوله: ((وقد حلفت)) حال من ضمير ((فلن أعود)) والجملة جواب قسم محذوف، والحال دال عليه. وقوله: بيتغى مرضاة أزواجه حال من فاعل قوله: ((لا بأس)) أي قال ذلك القول مبتغياً. الفصل الثاني الحديث الأول عن ثوبان: قوله: ((في غير ما بأس)) ((قض)): البأس الشدة و ((ما)) مزيدة، أي في غير حال شدة تدعوها وتلجئها إلي المفارقة. وقوله: ((فحرام عليها)) أي فممنوع عنها لا تجد رائحة الجنة أول ما يجدها المحسنون، لا أنها لا تجد أصلا. وهذا من المبالغة في التهديد. ونظير هذا كثير. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أبغض الحلال)) فيه أن أبغض الحلال مشروع وهو عند الله مبغوض، كأداء الصلاة في البيوت لا لعذر، والصلاة في الأرض المغصوبة، وكالبيع في وقت النداء يوم الجمعة. ولأن أحب الأشياء عند الشيطان التفريق بين الزوجين كما مر، فينبغي أن يكون أبغض الأشياء عند الله تعالي.

3281 - وعن علي [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ((لا طلاق قبل نكاح، ولا عتاق إلا بعد ملك، ولا وصال في صيام، ولا يتم بعد احتلام، ولا رضاع بعد فطام، ولا صمت يوم إلي الليل)) رواه في ((شرح السنة)). [3281] 3282 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك)) رواه الترمذي، وزاد أبو داود: ((ولا بيع إلا فيما يملك)). [3282] 3283 - وعن ركانة بن عبد يزيد، أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أردت إلا واحدة؟)) فقال ركانة: والله ما أردت إلي واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لا طلاق قبل نكاح)) ((قض)): الطلاق رفع قيد النكاح باختيار الزوج ورؤيته، فحيث لا نكاح فلا طلاق. وظاهره يدل علي أن الطلاق قبل النكاح لغو لا أثر له، كالعتاق قبل الملك وبه قال أصحابنا وغيرهم من أهل العلم، وقال الزهري وأبو حنيفة: يعتبر الطلاق قبل النكاح إذا أضيف إليه عم أو خص، مثل إن كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وإن تزوجت هنداً فهي طالق. وقال النخعي والشعبي وربيعة ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلي: إن خص الطلاق بامرأة معينة أو قبيلة بعينها، وأضاف إلي النكاح نفذ وإلا لغا، وأولوا الحديث بما إذا خاطب أجنبية بالطلاق، ولم يضفه إلي النكاح، وهو تقييد وتخصيص للنص ومخالفة للقياس بلا دليل، يوجب ذلك. وما روي أن ابن مسعود يرى ذلك فليس بحجة. قوله: ((لا وصال في صيام)) أي لا جواز له ولا حل. وقوله: ((ولا رضاع بعد فطام)) أي لا أثر له ولا حكم بعد أوان الفطام، يعني أن الرضاع بعد الحولين لا يوجب الحرمة، ويدل عليه أحاديث أخر ذكرناها في باب المحرمات. وقوله: ((ولا صمت يوم إلي الليل)) أي لا عبرة به ولا فضيلة له، وليس هو مشروعاً عندنا شرعه في الأمم التي قبلنا. وقيل: يريد به النهي عنه لما فيه من التشبه بالنصرإنية – انتهي كلامه. فالحاصل أن النفي وإن جرى علي لفظ الطلاق والعتاق وغيرهما، لكن المنفي محذوف، أي لا وقوع طلاق قبل نكاح، ولا تقرير عتاق قبل ملك، ولا جواز وصال في صيام، ولا استحقاق يتم بعد احتلام، ولا أثر رضاع بعد فطام، ولا حل صمت يوم إلي الليل. ((حس)): قال طاوس: من تكلم واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله.

الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، إلا أنهم لم يذكروا الثانية. والثالثة. 3284 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)) رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [3284] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن ركانة: قوله: ((البتة)) ((قض)): المراد بـ ((البتة)) الطلقة المنجزة، يقال: يمين باتة وبتة، أي منقطعة عن علائق التعليق. ومن فوائد هذا الحديث الدلالة علي أن الزوج مصدق باليمين فيما يدعيه ما لم يكذبه ظاهر اللفظ، وأن ((البتة)) مؤثرة في عدد الطلاق؛ إذ لو لم تكن كذلك لما حلفه بأنه لم يرد إلا واحدة، وأن من توجه عليه يمين فحلف قبل أن يحلفه الحاكم لم يعتبر حلفه؛ إذ لو اعتبر لاقتصر علي حلفه الأول ولم يحلفه ثإنياً، وأن ما فيه احتساب للحاكم له أن يحكم فيه من غير مدع. وقوله: ((فردها إليه)) أي بالرجعة أو [مكنها] بأن يراجعها. ((حس)): استدل به الشافعي علي أن الجمع بين الطلقات الثلاث مباح ولا يكون بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ركانة ما أردت بها؟ ولم ينهه أن يريد أكثر من واحدة، وهو قول الشافعي. ومنها أن طلاق البتة واحدة إذا لم يرد أكثر منها، وأنها رجعية. وإليه ذهب الشافعي. وروي عن علي رضي الله عنه: أنه كان يجعل الخلية والبرية والبائنة والبتة والحرام ثلاثاً. أقول قوله: ((قال: والله)) عطف علي محذوف، أي أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأبي وقال: والله ما أردت. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أردت إلا واحدة؟)). طلب لتحقيق القسم، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: أخبرني عن قسمك هذا، أمن اللغو في الإيمان هو أم مما يعقد به؟ الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جدهن جد)) ((قض)): اتفق أهل العلم علي أن طلاق الهازل يقع، وإذا جرى صريح لفظ الطلاق علي لسان العاقل البالغ، لا ينفعه أن يقول: كنت فيه لاعبا أو هازلا، لأنه لو قبل ذلك منه لتعطلت الأحكام، وقال كل مطلق أو ناكح: إني كنت في قولي هازلا، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله تعالي؛ فمن تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه. وخص هذه الثلاث بالذكر؛ لتأكيد أمر الفرج.

3285 - وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)). رواه أبو داود، وابن ماجه قيل: معنى الإغلاق: الإكراه. [3285] 3286 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب علي عقله)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وعطاء بن عجلان الراوي ضعيف، ذاهب الحديث. [3286] 3287 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المعتوه حتى يعقل)). رواه الترمذي، وأبو داود. [3287] 3288 - ورواه الدارمي عن عائشة. وابن ماجه عنهما. 3289 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [3289] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في إغلاق)) ((حس)): أي في إكراه؛ لأن المكره مغلق عليه في أمره، ومضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب علي الإنسان، كذا في النهاية والفائق. وزاد في الغريبين: وقيل: معناه لا تغلق التطليقات في دفعة واحدة، حتى لا يبقى فيها شيء، ولكن تطلق طلاق السنة. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المعتوه)) ((نه)): المعتوه هو المجنون المصاب بعقله وقد عته فهو معتوه. ((حس)): اختلفوا في طلاق السكران، فذهب بعضهم إلي أن طلاقه لا يقع؛ لأنه لا عقل له كالمجنون، وهو قول عثمان وابن عباس رضي الله عنهم، وآخرون إلي أن طلاقه واقع؛ لأنه عاص لم يزل عنه به الخطاب ولا الإثم بدليل أنه يؤمر بقضاء الصلوات، ويأثم بإخراجها عن وقتها، وبه قال علي رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعي والثوري ومالك وظاهر مذهب الشافعي وأبي حنيفة. الحديث التاسع والعاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((طلاق الأمة)) ((مظ)): بهذا الحديث

الفصل الثالث 3290 - عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المنتزعات والمختلعات هن المنافقات)). رواه النسائي. [3290] 3291 - وعن نافع، عن مولاة لصفية بنت أبي عبيد، أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر. رواه مالك. [3291] 3292 - وعن محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: ((أيلعب بكتاب الله. عز وجل وأنا بين أظهركم!؟)) حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟. رواه النسائي. [3292] ـــــــــــــــــــــــــــــ أو عبداً. وإن كانت المرأة حرة يكون طلاقها ثلاثاً، سواء كان زوجها حراً أو عبداً. وقال مالك والشافعي وأحمد: الطلاق يتعلق بالرجل، فطلاق العبد اثنان، وطلاق الحر ثلاث، وعدة الأمة علي نصف عدة الحرة فيما له نصف، فعدة الحرة ثلاث حيض وعدة الأمة حيضتان؛ لأنه لا نصف للحيض، وإن كانت تعتد بالأشهر فعدة الأمة شهر ونصف، وعدة الحرة ثلاثة أشهر – انتهي كلامه. يستدل أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث علي أن المراد من قوله تعالي: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الحيض لا الأطهار. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المنتزعات)) لعل المراد اللاتي ينتزعن أنفسهن من أزواجهن وينشزن عليهم. و ((المختلعات)) اللواتي يلتمسن الخلع. وجعلهن منافقات تغليظاً وتشديداً. الحديث الثاني إلي الخامس عن محمود: قوله: ((أيلعب بكتاب الله؟)) أي أيستهزأ به؟ يريد به قوله تعالي: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ - إلي قوله - ولا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة علي التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية,

3293 - وعن مالك، بلغه أن رجلاً قال: لعبد الله بن عباس: إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فماذا ترى علي؟ فقال ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزواً. رواه في ((الموطأ)). 3294 - وعن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ! ما خلق الله شيئاً علي وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله شيئاً علي وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق)) رواه الدارقطني. [3294] ـــــــــــــــــــــــــــــ كقوله تعالي: {ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين. ومعنى قوله تعالي: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} تخيير لهم – بعد أن علمهم كيف يطلقون – بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم. والحكمة في التفريق دون الجمع ما ثبت في قوله تعالي: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وأن الزوج إذا فرق يقلب الله قلبه من بغضها إلي محبتها، ومن الرغبة عنها إلي الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلي الندم عليه، فيراجعها. ((مح)): اختلفوا فيمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف: تقع الثلاث. وقال طاوس وبعض أهل الظاهر: لا تقع إلا واحدة. وقال ابن مقاتل وفي رواية عن محمد بن إسحاق: إنه لا يقع شيء. واحتج الجمهور بقوله تعالي: {ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يعني أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه التدارك لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع هذا إلا رجعياً، فلا يتوجه هذا التهديد، وبحديث ركانة أنه طلق امرأته البتة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أردت إلا واحدة؟ قال: والله ما أردت إلا واحدة))، فهذا دليل علي أنه لو أراد الثلاث لواقعن، وإلا لم يكن لتحليفه معنى. وأما الجمع بين التطليقات الثلاث دفعة فليس بحرام عندنا، لكن الأولي تفريقها، وبه قال أحمد وأبو ثور. وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة والليث: هو بدعة.

(12) باب المطلقة ثلاثا

(12) باب المطلقة ثلاثا الفصل الأول 3295 - عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي. فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب. فقال: أتريدين أن ترجعي إلي رفاعة؟)) قالت: نعم. قال: ((لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)). متفق عليه. الفصل الثاني 3296 - عن عبد الله بن مسعود، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له. رواه الدارمي. [3296] ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المطلقة ثلاثاً الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عبد الرحمن بن الزبير)) الرواية فيه بفتح الزاي وكسر الباء. قوله: ((إلا مثل هدبة)) ((نه)): أرادت متاعه وأنه رخو مثل طرف الثوب لا يغني عنها شيئاً. وقوله: ((حتى تذوقي عسيلته)) شبه صلى الله عليه وسلم لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقاً. وإنما أنث؛ لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: علي إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث. وإنما صغره إشارة إلي القدر القليل الذي يحصل به الحل. ((حس)): العمل علي هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وقالوا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فلا تحل له بعد ذلك حتى تنكح رجلاً آخر ويصيبها الرجل الثاني. فإن فارقها أو مات عنها قبل إصابتها فلا تحل. ولا تحل بإصابة شبهة ولا زنا ولا ملك يمين. وكان ابن المنذر يقول: في الحديث دلالة علي أن الزوج الثاني إن واقعها وهي نائمة أو مغمى عليها لا تحسن باللذة، أنها لا تحل للزوج الأول؛ لأن الذوق أن تحس باللذة. وعامة أهل العلم علي أنها تحل. ((مح)): اتفقوا علي أن تغييب الحشفة في قبلها كاف في ذلك من غير إنزال. وشرط الحس الإنزال؛ لقوله: ((تذوقي عسيلته)) وهي النطفة. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((المحلل والمحلل له)) ((قض)): 3297 - ورواه ابن ماجه عن علي، وابن عباس، وعقبة بن عامر. [3297] 3298 - وعن سليمان بن يسار، قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: يوقف المؤلي. رواه في ((شرح السنة)). [3298] ـــــــــــــــــــــــــــــ المحلل الذي يتزوج مطلقة الغير ثلاثاً علي قصد أن يطلقها بعد الوطء ليحل علي المطلق نكاحها فكأنه يحلها علي الزوج الأول بالنكاح والوطء، والمحلل له هو الزوج الأول. وإنما لعنهما لما في ذلك من هتك المروءة وقلة الحمية، والدلالة علي خسة النفس وسقوطها، أما بالنسبة إلي المحلل له فظاهر، وأما بالنسبة إلي المحلل فلأنه يعير نفسه بالوطء لغرض الغير؛ فإنه إنما يطؤها ليعرضها لوطء المحلل له، ولذلك مثله صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار. وليس في الحديث ما يدل علي بطلان

العقد كما قيل، بل لو استدل به علي صحته من حيث إنه سمي العاقد محللا، وذلك إنما يكون إذا كان العقد صحيحاً، فإن الفاسد لا يحلل. هذا إذا أطلق العقد، فإن شرط فيه الطلاق بعد الدخول ففيه خلاف، والأظهر بطلانه. الحديث الثاني عن سليمان: قوله: ((يوقف المؤلي)) ((قض)): إنما أورد هذا الحديث والذي بعده في هذا الباب؛ لما بين الإيلاء وبين الطلاق من المناسبة. ((حس)): الإيلاء هو أن يحلف الرجل أن لا يقرب امرأته أكثر من أربعة أشهر، فلا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر، فإذا مضت فاختلفوا فيه، فذهب أكثر الصحابة إلي أنه لا يقع الطلاق بمضيها، بل يوقف، فإما أن يفيء ويكفر عن يمينه، [وإما أن يطلق] وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: فإن طلقها، وإلا طلق عليه السلطان واحدة. وقال بعض أهل العلم: فإذا مضت أربعة أشهر وقعت طلقة بائنة، وهو قول الثوري وأصحاب أبي حنيفة. وأما علي قول من قال بالوقف، فلا يكون مؤلياً؛ لأن الوقف يكون في حال إبقاء اليمين، وقد ارتفعت هاهنا بمضي أربعة أشهر. أما إذا حلف علي أقل من أربعة أشهر فلا يثبت حكم الإيلاء، بل هو حالف. والله أعلم. ((تو)): ذهب بعض الصحابة وبعض من بعدهم من أهل العلم، أن المؤلي عن امرأته إذا مضى عليه مدة الإيلاء – وهي عند بعضهم أكثر من أربعة أشهر – وقف، فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وإن أبي طلق عليه الحاكم. وذلك شيء استنبطوه من الآية رأياً واجتهاداً. وخالفهم آخرون فقالوا: الإيلاء أربعة أشهر. فإذا انقضت بانت منه بتطليقة. وهو مذهب أبي حنيفة. وهو الذي تقتضيه الآية. قال الله تعالي: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإن فَاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ((فإن فاءوا)) يعني في الأشهر. وفي حرف ابن مسعود ((فإن فاءوا فيهن)) والتربص الانتظار أي ينتظر بهم إلي مضي تلك الأشهر. {وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ

3299 - وعن أبي سلمة: أن سلمان بن صخر – ويقال له: سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان، فما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعتق رقبة)) قال: لا أجدها. قال: ((فصم شهرين متتابعين)) قال: لا استطيع قال: (أطعم ستين مسكينا)) قال: لا أجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن عمرو: ((أعطه ذلك العرق)) وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا أو ستة عشر صاعا ((ليطعم ستين مسكينا)) رواه الترمذي. [3299] ـــــــــــــــــــــــــــــ عليم} أي عزموا الطلاق بتربصهم إلي مضي المدة وتركهم الفيئة. وتأويله عند من يرى أنه يوقف فإن فاءوا وإن عزموا الطلاق بعد مضي المدة. أقول: ما أدرى كيف نسب القول الأول إلي الاستنباط رأيا واجتهادا، والثاني إلي اقتضاء الآية إياه مع وجود الفاء التعقبية بعد التربص، وعطف ((وإن عزموا)) علي قوله: ((فإن فاءوا))؟ ولقوة هذا الإشكال وظهور هذه الآية فيه سأل صاحب الكشاف نفسه بقوله: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص. وأجاب: موقع صحيح؛ لأن قوله: ((فإن فاؤوا)) و ((إن عزموا)) تفصيل لقوله: ((للذين يؤلون)) والتفصيل يعقب المفصل. كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلي آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول، وأجبنا عنه في فتوح الغيب. وقلنا: المثال المذكور ليس من الآية في شيء؛ لأن النزيل عند القوم لا يخلو حاله من هذين المعنيين، إما أنهم يراعون حقه أو يتركونه ولا يلتفتون إليه، ولا ثالث، فصح التفصيل. وأما في الآية فللمؤلي حالة ثالثة غير الفئ والطلاق وهو التربص، فلا يكون التفصيل حاصرا، علي أن التربص يدفعها؛ لأن معناه الانتظار والتوقف كما في قوله تعالي: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فالواجب حمل الفاء علي التعقيب مطلقا. الحديث الثالث عن أبي سلمة: قوله: ((كظهر أمه)) شبه زوجته بالأم، والظهر مقحم لبيان قوة التناسب، كقوله: ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)). كان هذا من أيمان الجاهلية، فأنكر الله تعالي عليهم بقوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} وفي قوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} إشعار بأن الظهر مقحم. ((حس)): إذا أظهر الرجل من امرأته تلزمه الكفارة، ولا يجوز له قربانها ما لم يخرج الكفارة.

3300 - وروى أبو داود، وابن ماجه، والدارمي، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر نحوه، قال: كنت امرءا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري. وفي روايتهما – أعني أبا داود، والدارمي -: ((فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا)). 3301 - وعن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: ((كفارة واحدة)) رواه الترمذي، وابن ماجة. [3301] الفصل الثالث 3302 - عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له. فقال: ((ما حملك علي ذلك؟ قال: يا رسول الله! رأيت بياض حجليها في القمر، فلم أملك نفسي أن وقعت عليها. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفر. رواه ابن ماجة. وروى الترمذي نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. [3302] ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلفوا في العود، فقيل: المراد به هو إعادة لفظ الظهار وتكرره. وقيل: هو الوطء. وقيل: هو العزم علي الوطء. وقال الشافعي: هو أن يمسك عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال، أو مات أحدهما عقيبه فلا كفارة؛ لأن العود للقول هو المخالفة وقصده بالظهار هو التحريم. فإذا أمسكها علي النكاح بعد الظهار فقد خالف قوله، فتلزمه الكفارة. وفيه دلالة، علي صحة الظهار المؤقت، وعلي أن كفارة الظهار مرتبة. قوله: ((بين ستين)) إما متعلق بـ ((أطعم)) علي تضمين أقسم طعاما بين ستين، أو حال أي أطعم قاسما بين ستين أو مقسوما. قوله: ((لفروة بن عمرو)) فروة بالفاء المفتوحة في جامع الترمذي وبعض نسخ المصابيح، وفي بعضها ((عروة)) بالعين الضمومة، وهو تصحيف. الحديث الرابع عن سليمان: قوله: ((كفارة واحدة)) ((حس)): فيه دليل علي أن المظاهر إذا جامع قبل أن يكفر لا تجب إلا كفارة واحدة. وهو قول أكثر أهل العلم. وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقيل: إذا واقعها قبل أن يكفر وجب عليه كفاراتان. الفصل الثالث الحديث الأول عن عكرمة: قوله: ((فلم أملك نفسي أن وقعت)) أي لم استطع أن أحبس نفسي من أن وقعت عليها، أو يكون بدلا من ((نفس)) أي لم أملك وقوع نفسي عليها. والحجل الخلخال.

(13) باب [في كون الرقبة في الكفارة مؤمنة]

وروى أبو داود، والنسائي نحوه مسندا ومرسلا. وقال النسائي: المرسل أولي بالصواب من المسند. (13) باب [في كون الرقبة في الكفارة مؤمنة] الفصل الأول 3303 - عن معاوية بن الحكم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن جارية كانت لي ترعى غنما لي فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم، فسألتها عنها. فقالت: أكلها الذئب،. فأسفت عليها وكنت من بني آدم، فلطمت وجهها، وعلي رقبة؛ أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين الله؟)) فقالت: في السماء فقال: ((من أنا؟)) فقالت: أنت رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعتقها)). رواه مالك. [3303] ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الفصل الأول الحديث الأول عن معاوية: قوله: ((فأسفت عليها)) ((قض)): الأسف الغضب، ((وكنت من بني آدم)) عذر لغضبه عليها ولطمه وجهها، فإن الإنسان مجبول علي نحو ذلك. وقوله لها: ((أين الله؟)) وفي رواية ((أين ربك؟)) لم يرد السؤال عن مكانه؛ فإنه منزه عنه والرسول صلى الله عليه وسلم أعلي من أن يسأل أمثال ذلك، بل أراد أن يتعرف أنها موحدة أو مشركة؛ لأن كفار العرب كانوا يعبدون الأصنام، فكان لكل قوم منهم صنم مخصوص يكون فيما بينهم يعبدونه ويعظمونه، ولعل سفهاءهم وجهلتهم كانوا لا يعرفون معبودا غيره، فأراد أن يتعرف أنها ما تعبد، فلما قالت: ((في السماء)) وفي رواية ((أشارت إلي السماء)) فهم منها أنها موحدة، تريد بذلك نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا له تعالي عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ولأنه لما كان مأمورا بأن يكلم الناس علي قدر عقولهم ويهديهم إلي الحق علي حسب فهمهم، ووجدها تعتقد أن المستحق للعبودية إله يدبر الأمر من السماء إلي الأرض، لا الآلهة التي يعبدها المشركون، قنع منها بذلك ولم يكلفها اعتقاد ما هو صرف التوحيد وحقيقة التنزيه. واستفسار الرسول عن إيمانها عقيب استئذانه عن إعتاقها من الرقبة الواجبة عليه، وترتيب الإذن علي قوله: ((فإنها مؤمنة)) بالفاء يدلان علي أن الرقبة المحررة عن الكفارات لا بد أن تكون مؤمنة. وفيه خلاف مشهور بين الأئمة – انتهي كلامه. فإن قلت: من أين استدرك قوله: ((لكن صككتها))؟

(14) باب اللعان

وفي رواية مسلم، قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوإنية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكن صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ((ائتني بها)) فأتيته بها. فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء قال: ((من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)). (14) باب اللعان الفصل الأول 3304 - عن سهل بن سعد الساعدي [رضي الله عنه] قال: إن عويمر العجلإني قال: يا رسول الله! أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونة؟ أم كيف يفعل؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: مما يلزم الأسف والغضب من الانتقام الشديد والضرب العنيف، كأنه قيل: أردت أن أضربها ضربا شديدا أوجعها به، لكن صككتها. قوله: ((أفلا أعتقها)) فإن قلت: ما الفرق بين هذه الهمزة والتي في الرواية السابقة؟ وما الفائدة في كون الجملة هناك مثبتة وهاهنا منفية؟ قلت: الهمزة الأولي مقحمة تأكيدا للاستخبار، والفاء سببية لقوله: ((وعلي رقبة)) وعلي الثاني الهمزة غير مقحمة، والفاء مرتبة علي مقدر بعدها، أي أيكون ما فعلت هدرا فلا أعتقها؟ فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين؟ قلت: الرواية الأولي متضمنة لسؤالين صريحا؛ لأن التقدير: كان علي عتق رقبة كفارة، وقد لزمني من هذه اللطمة إعتاقها، أفيكفيني إعتاقها للأمرين جميعا؟ والرواية الثانية مطلقة تحتمل الأمرين، والمطلق محمول علي المقيد. ومما يدل علي أن السؤال ليس مجرد اللطمة، سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الجارية عن إيمانها. باب اللعان المغرب: لعنه لعنا ولاعنه ملاعنة ولعانا وتلاعنوا لعن بعضهم بعضا، وأصله الطرد. ((مح)): إنما سمي لعانا؛ لأن كلا من الزوجين يبعد عن صاحبه، ويحرم النكاح بينهما علي التأبيد. واللعان عند جمهور أصحابنا يمين، وقيل: شهادة، وقيل: يمين فيها شوب شهادة. وينبغي أن يكون بحضرة الإمام والقاضي وجمع من الناس. وهو أحد أنواع التغليظ؛ فإنه تغليظ بالزمان والمكان والجمع.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها)). قال سهل: فتلاعنا في المسجد، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرعا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظروا فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، خدلج الساقين، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها. فجاءت به علي النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلي أمه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن سهل: قوله: ((أم كيف يفعل؟)) ((أم)) يحتمل أن تكون متصلة، يعني إذا رأي الرجل هذا المنكر والأمر الفظيع وثارت عليه الحمية، أيقتله فيقتلونه؟ أم يصبر علي ذلك الشنآن والعار؟ وأن تكون منقطعة، فسأل أولا عن القتل مع القصاص ثم أضرب عنه إلي سؤاله؛ لأن ((أم)) المنقطعة متضمنة لـ ((بل)) والهمزة، فـ ((بل)) يضرب الكلام السابق، والهمزة تستأنف كلاما آخر. المعنى كيف يفعل أيصبر علي العار أو يحدث الله له أمرا آخر؟ فقوله: ((قد أنزل فيل وفي صاحبتك)) مطابق لهذا المقدر، فالوجه أن تكون ((أم)) منقطعة، والمنزل قوله تعالي {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} إلي آخر الآيات. ((مح)): اختلفوا فيمن قتل رجلا وزعم أنه زنى بامرأته، فقال [جمهورهم] *: يقتل إلا أن تقوم بذلك بينة أو يعترف له ورثة القتيل، ويكون القتيل محصنا، والبينة أربعة من العدول من الرجال يشهدون علي يقين الزنا. أما فيما بينه وبين الله تعالي فإن كان صادقا فلا شيء عليه. وقال بعض أصحابنا: يجب علي كل من قتل زإنيا محصنا القصاص، ما لم يأمر السلطان بقتله. والصواب الأول. واختلفوا في الفرقة باللعان، فقال مالك والشافعي: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، وقال أبو حنيفة: لا تحصل الفرقة إلا بقضاء القاضي بها بعد التلاعن؛ لقوله: ((ثم فرق بينهما)). واحتج الجمهور أنه لا يفتقر إلي قضاء القاضي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبيل لك عليها)). قوله: ((كذبت عليها إن أمسكتها)) كلام مستقل. وقوله: ((فطلقها ثلاثا)) كلام مبتدأ منقطع عما قبله تصديقا لقوله في أنه لا يمسكها، وإنما طلقها لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه، فأراد

3305 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] أن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن بين رجل وامرأته، فانتفي من ولدها، ففرق بينهما، والحق الولد بالمرأة. متفق عليه وفي حديثه لهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظه، وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم دعاها فوعظها، وذكرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. 3306 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: ((حسابكما علي الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها)) قال يا رسول الله! مالي. قال: ((لا مال لك، إن كنت ـــــــــــــــــــــــــــــ تحريمها بالطلاق. واستدل أصحابنا بالحديث أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك. وقد اعترض عليه بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه؛ لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له. ويجاب عنه بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه إرسال لفظ الطلقات الثلاث وبين تحريمه، وقال بعض أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان؛ لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أنه حصلت الفرقة بنفس اللعان، وهذا فاسد؛ لأنه كيف يستحب الطلاق للأجنبية؟ وقال بعض المالكية: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان، واحتج بطلاق عويمر وبقوله: ((إن أمسكتها)) والجواب ما سبق. قوله: ((أسحم أدعج)) ((نه)): الأسحم الأسود، والدعج والدعجة السواد في العين وغيرها. وقيل: الدعج شدة سواد العين في شدة بياضها. ((وخدلج الساقين)) أي عظيمهما، و ((الوحرة)) بالتحريك دويبة كالقطاة تلزق بالأرض – انتهي كلامه. والضمير في ((فإن جاءت به)) للحمل أو الولد لدلالة السياق عليه، كقوله تعالي: {إن تَرَكَ خَيْرًا} أي الميت. الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فانتفي)) الفاء سببية أي الملاعنة لانتفاء الرجل من ولد المرأة وإلحاقه بها. وقوله: ((لا سبيل لك عليها)) أي لا تسلط لك عليها كانت سببا ولا تملك منها حلها. وهذا معنى ((علي)) في ((عليها)) كقوله تعالي: {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إنَّمَا السَّبِيلُ عَلي الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} وهذا الكلام بعد قوله: ((حسابكما علي الله)). ((غب)): الملاعنة تدل علي مذهب الشافعي، وهو أن الفرقة تحصل بنفس الملاعنة، فيحمل قوله: ((ففرق بينهما)) في الحديث السابق علي هذا، وقوله: ((مالي)) فاعل فعل محذوف. فلما قال له: ((لا سبل لك عليها)) قال: أيذهب مالي؟ أي المهر، والباء في قوله: ((بما استحللت)) باء البدل والمقابلة. وقوله: ((فذاك)) إشارة إلي قوله: ((مالي)) أي إن صدقت فهذا الطلب بعيد؛ لأنه

صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد وأبعد لك منها)) متفق عليه. 3307 - وعن ابن عباس: أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البينة أو حدا في ظهرك)). فقال: يا رسول الله! إذا رأي أحدنا علي امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((البينة، وإلا حد في ظهرك)) فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل عليه: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ {إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعلم ـــــــــــــــــــــــــــــ بدل البضع، وإن كذبت فأبعد وأبعد لك، اللام في ((لك)) لبيان متعلقة بـ ((أبعد)) الأول كما في قوله تعالي: {هيت لك} وأبعد الثاني مقحم للتأكيد. ((مح)) فيه أن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب أحد منهما، وإن علمنا كذب أحدهما علي الإبهام. وفيه دليل علي استقرار المهر بالدخول، وعلي ثبوت مهر الملاعنة المدخول بها. وفيه أيضا أنه لو صدقته وأقرت بالزنا، لم يسقط مهرها. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قذف امرأته)) ((تو)): هذا من أول لعان كان في الإسلام وفيث نزلت الآية. ((مح)): اختلفوا في نزول آية اللعان، هل هي بسبب عويمر العجلإني أم بسبب هلال بن أمية؟ فقال بعضهم بالأول، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: ((نزلت فيك)) كما سبق، وبعضهم اثإني واستدلوا بما ذكر مسلم في قصة هلال: وكان أول رجل لاعن في الإسلام. قال ابن الصباغ من أصحابنا: إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: ((نزلت فيك)) أي نزلت في شأنك في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم شامل لجميع الناس. قال الشيخ محيي الدين: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت فيهما، وسبق هلال باللعان. وقيل: إن آية اللعان نزلت في شعبان في سنة تسع من الهجرة. قوله: ((ينطلق)) جواب ((إذا)) وإنما لم يجزم؛ لأن الشرط ماض. ((ويلتمس)) حال من ضمير ((ينطلق)) ويجوز أن تكون ((إذا)) ظرفا مبتدأ، و ((ينطلق)) خبره، و ((يلتمس)) خبر بعد خبر أو حال. وفي الجملة معنى الاستفهمام علي سبيل الاستبعاد. ونظيره إذا قام زيد إذا قام عمرو أي وقت قيام زيد وقت قيام عمرو. قوله: ((البينة)) ((تو)): أي أقم البينة ((أو حدا)) نصب علي المصدر، أي تحد حدا. وقوله: ((وإلا حد في ظهرك)) التقدير: وإن لم تقم البينة فيثبت حد في ظهرك. قوله: ((فشهد)) أي لا عن.

أن أحد كما كاذب، فهل منكما تائب؟)) ثم قامت، فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة. فقال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين، خدلج الساقين؛ فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ما مضى من كتاب الله؛ لكان لي ولها شأن)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فلما كانت عند الحامسة)) ((قض)): أي عند الخامسة من شهادتها حبسوها ومنعوها عن المضي فيها، وهددوا وقالوا لها: إنها موجبة. وقيل: معنى ((وقفوها)) أطلعوها علي حكم الخامسة، وهو أن اللعان إنما يتم به ويترتب علي آثاره، وأنا موجبة للعن مؤدية إلي العذاب إن كانت كاذبة. ((فتلكأت)) أي توقفت، يقال: تلكأ في الأمر تلكؤ إذا تبطأ عنه وتوقف فيه. ((ونكصت)) في تكذيب الزوج، ودعوى البراءة عما رماها به. ((لا أفضح قومي سائر اليوم)) أي جميع الأيام وأبد الدهر وفيما بقي من الأيام بالإعراض عن اللعان والرجوع إلي تصديق الزوج، وأريد بـ ((اليوم)) الجنس؛ ولذلك أجراه مجرى العام والسائر كما يطلق للباقي يطلق للجميع. ((فمضت)) أي في الخامسة وأتمتها. و ((أكحل العينين)) الذي يعلو جفون عينيه سواد مثل الكحل من غير اكتحال، ويقال: رجل كحيل وامرأة كحلاء. ((سابغ الأليتين)) كبيرهما، يقال للشيء إذا كان تاما وافيا وافرا: إنه سابغ، وفي إتيان الولد علي الوصف الذي ذكره صلى الله عليه وسلم هنا وفي قصة عويمر بأحد الوصفين المذكورين مع جواز أن يكون علي خلاف ذلك معجزة وإخبار بالغيب. قوله: ((لولا ما مضى من كتاب الله)) أي من حكمه بدرء الحد عن المرأة بلعانها لكان لي ولها شأن في إقامة الحد عليها. وفي ذكر ((شأن)) وتنكيره تهويل وتفخيم لما كان يريد أن يفعل بها، أي لفعلت بها لتضاعف ذنبها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين. وفي الحديث دليل علي أن الحاكم لا يلتفت إلي المظنة والأمارات، وإنما يحكم بظاهر ما تقتضيه الحجج والأيمان. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في مسنده في باب أبطال الاستحسان: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: ((إن أمره لبين لولا ما قضى الله)) يعني إنه لمن زنا لولا ما قضى الله من أن لا يحكم علي أحد إلا بإقرار أو اعتراف علي نفسه، لا يحل بدلالة غير واحد منهما وإن كانت بينه، فقال: ((لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره))، ولم يعرض لشريك ولا للمرأة. والله أعلم, وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم أن الزوج هو الصادق – انتهي

3308 - وعن أبي هريرة، قال: قال سعد بن عبادة: لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)). قال: كلا، والذي ـــــــــــــــــــــــــــــ كلام الإمام. وفي الحديث أن لعان الرجل يقدم علي لعان المرأة؛ لأنه مثبت وهذا دارئ، والدرء إنما يحتاج إليه بعد الإثبات. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لم أمسه)) جواب ((لو)) ((مظ)): حرف الاستفهام هنا مقدر. أقول: والوجه أن تكون ((لو)) مع جوابها إخبار علي سبيل الإنكار، وفي كلام الله تعالي مثل هذا غير عزيز، ويدل علي الإنكار قوله: ((كلا))، وفي الحديث الثاني ((لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح)). وأما جوابه صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) فحمل كلامه علي الاستفهام من الأسلوب الحكيم و ((إن)) في قوله: ((إن كنت)) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وضمير الشأن محذوف، وفي الكلام تأكيد. و ((اسمعوا)) ضمن معنى الإصغاء، وعدي بـ ((إلي)) وفيه اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لسعد وأن ما قاله قاله عن غيرة. وفي ذكر السيد هنا إشارة إلي أن الغيرة من شيم كرام الناس وساداتهم؛ ولذلك أتبعه بقوله: ((وأنا أغير منه، والله أغير مني)). [((مظ))] *: يشبه أن مراجعة سعد النبي صلى الله عليه وسلم كان طمعا في الرخصة لا ردا لقوله صلى الله عليه وسلم، فلما أبي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت وانقاد. ((مح)): ليس قوله: ((كلا)) ردا لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة لأمره، وإنما معناه الإخبار عن حال نفسه عند رؤية الرجل مع امرأته واستيلاء الغضب عليه؛ فإنه حيثئذ يعالجه بالسيف. أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلقى سؤاله بقوله: ((نعم)) علي الأسلوب الحكيم، وأجرى إنكاره مجرى الاستفسار، بين بقوله: ((كلا)) أي ما أردت الاستفسار بل أردت الإنكار. ((نه)): الغيرة هي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور وامرأة غيور بناء مبالغة كشكور وكفور؛ لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى. ((حس)): الغيرة من الله تعالي الزجر والله غيور أي زجور يزجر عن المعاصي؛ لأن الغيرة تغير يعترى الإنسان عند رؤية ما يكرهه علي الأهل، وهو علي الله محال. الحديث السادس عن المغيرة: قوله: ((مصفح)) ((مح)): هو بكسر الفاء أي غير ضارب بصفح السيف – وهو جانبه – بل بحده. قوله: ((أتعجبون من غيرة سعد؟)) فإن قلت: كيف التوفيق بين قوله: ((إنه لغيور)) وقوله هنا: أتعجبون من غيرته؟ فإن الجملة الأولي دلت علي أنهم أنكروا غيرته حتى رد إنكارهم ((فإن)) و ((اللام))، وها هنا دل التعجب علي أنهم كانوا مثبتين لغيرته جاهلين بسبها. قلت: قول سعد في الحديث الأول: ((كلا)) إلي آخره حملهم علي التعجب من مثل سعد سيد الأنصار كيف يقول مثل ذلك بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعثه علي ذلك؟ فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعجبوا منه، وهو إثبات الغرة. وقوله: ((أتعجبون من غيرة سعد)) وارد

بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا إلي ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني)). رواه مسلم. 3309 - وعن المغيرة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي ـــــــــــــــــــــــــــــ علي قوله: ((إنه لغيور)) يعني لا تعجبوا من غيرته؛ فإن الله أغير منه. وقوله: ((والله أغير منى)) عطف علي المقسم عليه وهو قوله: ((أنا أغير منه)) وقوله: ((ولا أحد أحب)) ((لا)) هنا بمعنى ليس، وقد ذكر الاسم والخبر معها كأن النحويين غفلوا عن هذا الحديث؛ حيث اكتفوا بقوله: ((أنا ابن قيس لا براح)). وقوله: ((العذر)) فاعل لـ ((أحب)) [والمسألة كحلية] *. قوله: ((ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش)) يعني أن الله تعالي لما غار علي عباده وإمائه الفواحش، شرح تحريمها ورتب علي مرتكبها العقاب في الدنيا والآخرة؛ لينزجروا عنها. ومعنى ((ما ظهر منها وما بطن)) أي ما أعلن منه وما أسر. وقيل: ما عمل وما نوى وقيل: ظاهرة الزنا في الحوإنيت وباطنه الصديقة في السر. قوله: ((العذر من الله)) ((مح)): العذر هنا بمعنى الإعذار، أي إزالة العذر، - يعني أن الله تعالي بعث المبشرين والمنذرين لئلا يكون للناس علي الله حجة، كما قال تعالي: {ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. و ((المدحة)) بكسر الميم المدح، ومعناه أنه تعالي لما وعدها ورغب فيها. كثر سؤال العباد إياها منه والثناء عليه. أقول: وفيه أن السيد إذا لم يكن غيورا كان مواليه غير مؤدبين، ومن لم يصن عرضه عن اللوم يكون مشقا لأسنة الطاعنين، ومن وعد الناس معروفا ثم وفي بوعده، حسن ثناؤه وكثر حامدون. فإن قلت: أليس النائل إذا كان عن فجاءة كان أكمل من التأخير، والناس لمسرته أمدح؟ قال أبو الطيب: وأجز الأمير الذي نعماه فاجئة بغير قول ونعمى القوم أقوال قلت: ليس كذلك؛ لأن الأول حاز كرم الفعال مع صدق المقال، وكان ذلك أقوم لأود المجتدى وأصلح لتهذيب أخلاقه؛ لأنه إذا علق الرجاء به تحرى الأصوب فالأصوب لنيله، ثم إذا قارنه عرف حق النعمة وقام بمواجب الشكر، ولهذا كانت دعواهم في الدنيا: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، والحمد لله الذي هدانا لهذا. وسأل فقير كبيرا حاجة، فقال: أسوفك اليوم بالوعد، وأسرك غدا بالإنجاز لتذوق حلاوة الأمل، وأتزين بحلية الوفاء. الحديث السابع عن أبي هريرة: قوله: ((وغيرة الله أن لا يأتى)) مبتدأ وخبر، ولا يستقيم حمل الخبر علي المبتدأ إلا بتقديم اللام، أي غيرة الله ثابتة لأجل أن لا يأتى.

لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة)). متفق عليه. 3310 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ((إن الله تعالي يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرم الله)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة: قوله: ((هل فيها من أورق؟)) ((قض)): قال الأصمعي: الأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلي سواد، وهو أطيب الإبل لحما، وليس بمحمود في سيره وعمله عندهم، من الورقة وهو اللون الرمادي. ومنه قيل للحمامة [والذئية] *: ورقاء، وورق جمعه كحمر جمع أحمر. وقوله: ((فأنى ترى ذلك جاءها؟)) أي فمن أين جاءها هذا اللون وأبواها ليسا بهذا اللون؟. قال: ((عرق نزعها)) أي قلعها وأخرجها من ألوان فحلها ولقاحها. وفي المثل: العرق نزاع، والعرق [النجار] **. والأصل مأخوذ من عرق الشجر، يقال: أعرق الرجل إذا صار عريقا، وهو الذي له عرق من الكرم، والمعنى أن ورقتها إنما جاء؛ لأنه كان في أصولها البعيدة ما كان بهذا اللون، أو بألوان تحصل الورقة من اختلاطها؛ فإن أمزجة الأصول قد تورث؛ ولذلك تورث الأمراض، والألوان تتبعها. وفائدة الحديث المنع عن نفي الولد بمجرد الأمارات الضعيفة، بل لا بد من تحقق وظهور دليل قوي، كأن لم يكن وطئها، أو أتت بولد قبل ستة أشهر من مبدأ وطئها. أقول: فإن قلت: لم لم يعتبر وصف اللون في هذا الحديث؟ واعتبر الأوصاف في حديث شريك بن سمحاء؛ حيث قال: ((إن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك))؟ قلت: إنما لم يعتبر وصف اللون هنا ليدفع التهم؛ لأن الأصل براءة ساحة المسلمين، ولم يكن اعتبار الأوصاف هناك لدفع التهمة، بل لينبه علي أن تلك الأمارات الجلية الظاهرة مضمحلة عند وجود نص كتاب الله تعالي، فكيف بالآراء الخفية؟ ولو شئت قلت: إن الصورتين مستويتان؛ لأن لعانها بالحقيقة ادعاء براءة ساحتها عما نسب إليها، وهو قد غلب علي رمي الزوج ولعانه، وحصول ما يقرر ذلك من وجود الولد من ماء السفاح والله أعلم. ((مح)): فيه أن التعريض بنفي الولد ليس نفيا، وأن التعريض بالقذف ليس قذفا. وهو مذهب الشافعي وموافقيه. وفيه إثبات القياس والاعتبار بالأشباه وضرب الأمثل. وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاق الولد بمجرد الإمكان والاحتمال.

3311 - وعنه، أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل لك من إبل؟)) قال: نعم قال: ((فما ألوانها؟)) قال: حمر. قال: ((هل فيها من أورق؟)) قال: إن فيها لورقا. قال: ((فأنى ترى ذلك جاءها))؟ قال: عرق نزعها. قال: ((فلعل هذا عرق نزعة)) ولم يرخص له في الانتفاس منه. متفق عليه. 3312 - وعن عائشة، قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أخيه سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: إنه ابن أخي. وقال عبد بن زمعة: أخي، فتساوقا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله! إن أخي كان عهد إلي فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد علي فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو لك يا عبد بن زمعة، الولد ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ابن وليدة)) ((قض)): الوليدة الأمة، وكانت العرب في جاهليتهم يتخذون الولائد ويضربون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكانت السادة أيضا لا يجتنبونهن فيأتوهن، فإذا أتت الوليدة بولد وقد استفرشها السيد وزنى بها غيره أيضا، فإن استحلقه أهدهما ألحق به ونسب إليه، وإن استحلقه كل واحد منهما وتنازعا فيه عرض علي القافة. وكان عتبة قد صنع هذا الصنيع في جاهليته بوليدة زمعة، وحسب أن الولد له، فعهد إلي أخيه – أي أوصى إليه – بأن يضمه إلي نفسه وينسبه إلي أخيه حيثما احتضر، وكان كافرا، فلما كان عام الفتح أزمع سعد علي أن ينفذ وصيته وينتزعه، فأبي ذلك عبد بن زمعة، وترافعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم أن الولد للسيد الذي ولد علي فراشه، وليس للزإني من فعله سوى الوبال والنكال. وأبطل ما كانوا عليه في جاهليتهم من إثبات الولد بالزنا. وفي هذا الحديث أن الدعوى تجري في النسب كما تجري في الأموال، وأن الأمة تصير فراشا بالوطء، وأن السيد إذا أقر بالوطء ثم أتت بولد يمكن أن يكون منه لحقه. وإن وطئها غيره. وأن إقرار الوارث فيه كإقرارة. قوله: ((الولد للفراش)) ((مح)): ما تصير به المرأة فراشا إن كانت زوجة فمجرد عقد النكاح. ونقلوا في هذا الإجماع، وشرطوا فيه إمكان الوطء، فإن لم يكن بأن نكح المشرقي مغربية، ولم يفارق واحدا منهما وطنه، ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحق. هذا قول مالك والشافعي، إلا أن أبا حنيفة لم يشترط الإمكان، حتى لو طلق عقب العقد وأتت بولد لستة أشهر لحقه الولد. وهذا ضعيف ظاهر الفساد. وإن كانت أمة فعند الشافعي ومالك تصير فراشا

للفراش، وللعاهر الحجر)) ثم لسودة بنت زمعة: ((احتجبي منه)) لما رأي من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله. وفي رواية: قال: ((هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد علي فراش أبيه)). متفق عليه. 3313 - وعنها، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور، فقال: ((أي عائشة! ألم تري أن مجززا المدلجي دخل، فلما رأي أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للوطء بمجرد الملك. فإذا أتت بولد بعد الوطء بمدة الإمكان ألحقوه. وقال أبو حنيفة: لا تصير فراشا إلا إذا ولدت، وقال: لأنها لو صارت فراشا بالوطء لصارت بعد الملك كالزوجة. قال أصحابنا: الفرق أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل الشرع العقد عليها كالوطء، وأما الأمة فتراد لملك الرقبة وأنواع من المنافع؛ ولهذا يجوز أن يملك أختين وأما وبنتها، بخلاف النكاح، فلم يصر نفس الملك فراشا، فإذا حصل الوطء صارت كالحرة فصارت فراشا. واحتج بعض الحنفية بهذا الحديث علي أن الوطء بالزنا، له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة. وقال الشافعي ومالك وغيرهم: لا أثر لوطء الزنا، بل للزإني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها. وزاد الشافعي وجوز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا. قالوا: ووجا الاحتجاج أن سودة أمرت بالاحتجاب. وهذا احتجاج ضعيف؛ لأن هذا علي تقدير كونه من الزنا، فهو أجنبي من سودة لا يحل الظهور له، سواء ألحق بالزإني أو لا، ولا تعلق له بالمسألة المذكورة. وفيه أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن، فإذا حكم بشهادة شاهدي زور أو نحو ذلك لم يحل المحكوم به للمحكوم له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم به لعبد بن زمعة أنه أخ له، ولسودة بالاحتجاب، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة، فلو كان الحكم يحل الباطن لما أمرها بالاحتجاب. وقوله: ((للعاهر الحجر)) مضى شرحه في باب الوصية في الفصل الثاني. والله أعلم. الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أن مجزرا)) ((مح)): - بضم الميم – وفتح الجيم والزايين المنقوطتين الأولي منهما مشددة – وهو من بين مدلج، وكان القيافة فيهم وفي بني أسد، تعترف لهم العرب بذلك، وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة؛ لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض فأبيض، فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف، فرح النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكونه زاجرا لهم عن الطعن في نسبه.

3314 - وعن سعد بن أبي وقاص، وأبي بكرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ادعى إلي غير أبيه وهو يعلم [أنه غير أبيه] فالجنة عليه حرام)). متفق عليه. 3315 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فقد كفر)). متفق عليه. وذكر حديث عائشة ((ما من أحد أغير من الله)) في ((باب صلاة الخسوف)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وكانت أم أسامة حبشية سوداء اسمها بركة، وكنيتها أم أيمن. واختلفوا في العمل بقول القائف، واتفق القائلون به علي أن يشترط فيه العدالة، وهل يشترط فيه العدد أم يكتفي بواحد. فالأصح الاكتفاء بواحد. ((قض)): فيه دليل علي اعتبار قول القائف في الأنساب، وأن له مدخلا في إثبات وإلا لما استبشر به ولأنكر عليه؛ إذ لا يجوز أن يقال رجما بالغيب ما يحتمل أن يوافق الحق في بعض الصور وفاقا، وخصوصا ما يكون صوابه غير معتبر، وخطؤه قذف محصنة، ولا الاستدلال بما ليس بدليل، وإليه ذهب عمر وابن عباس وأنس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث. وقالوا: إذا ادعى رجلان أو أكثر نسب مولود مجهول النسب، ولم تكن له بينة، أو اشتركوا في وطء امرأة بالشبهة، فأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهم وتنازعوا فيه حكم القائف؛ فبأيهم ألحقه لحقه. ولم يعتبره أصحاب أبي حنيفة بل قالوا: يلحق الولد بهم جميعا. وقال أبو يوسف: يلحق برجلين وثلاث، ولا يلحق بأكثر ولا بامرأتين. وقال أبو حنيفة: يلحق بهما أيضا. وكل ذلك ضعيف. قوله: ((قد غطيا رءوسهما)) فيه دليل علي أن أقل الجمع اثنان، وليس هو من وادى قوله تعالي: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لأنه قد يقال: شخص له قلوب باعتبار دواعيه؛ لأن القلوب مكان الدواعي. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من ادعى)) ((نه)): الدعوة بالكسر في النسب، وهو أن ينسب الإنسان إلي غير أبيه وعشيرته، وقد كانوا يفعلونه، فنهي عنه، والادعاء إلي غير الأب مع العلم به حرام، فمن اعتقد إباحته كفر لمخالفة الإجماع، ومن لم يعتقد إباحته، فمعنى كفره وجهان: أحدهما أنه أشبه فعله فعل الكفار، والثاني: أنه كافر نعمة الإسلام. أقول: ومعنى قوله: ((فالجنة عليه حرام)) علي الأول ظاهر، وعلي الثاني تغليظ.

الفصل الثاني 3316 - وعن أبي هريرة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت آية الملاعنة: ((أيما امرأة أدخلت علي قوم من ليس منهم؛ فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه وفضحه علي رءوس الخلائق في الأولين والآخرين)). رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. [3316] 3317 - وعن ابن عباس، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي امرأة لا ترد يد لامس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((طلقها)) قال: إني أحبها. قال: ((فأمسكها إذن)). رواه أبو داود، والنسائي وقال النسائي: رفعه أحد الرواة إلي ابن عباس، وأحدهم لم يرفعه. قال: وهذا الحديث ليس بثابت. [3317] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولن يدخلها الله جنته)) ((تو)): أي مع من يدخلها من المحسنين بل يؤخرها أو يعذبها ما شاء، إلا أن تكون كافرة فيجب عليها الخلود. وذكر النظر تحقيق لسوء صنيعه وتعظيم للذنب الذي ارتكبه؛ حيث لم يرض بالفرقة حتى أماط جلباب الحياء عن وجهه. أقول: يريد أن قوله: ((وهو ينظر إليه)) تتميم للمعنى ومبالغة فيه. وقوله: ((في الأولين)) يحتمل أن يكون ظرفا لـ ((فضحه)) و ((علي رءوس الخلائق)) حالا من الضمير المنصوب، ويحتمل أن يكون حالا مؤكدة من الخلائق، أي علي رءوس الخلائق أجمعين. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا ترد يد لامس)) ((حس)): معناه أنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده. [((تو))] *: هذا وإن كان اللفظ يقتضيه احتمالا، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأمسكها إذن)) يأباه، ومعاذ الله أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمساك من لا تماسك لها عن الفاحشة فضلا من أن يأمر به، وإنما الوجه فيه أن الرجل شكا إليه خرقها وتهاونها بحفظ ما في البيت والتبرع ببذله لمن أراده. ((قض)): هذا الوجه ضعيف؛ لأن إمساك الفاجرة غير محرم حتى لا يؤذن فيه سيما إذا كان الرجل مولعا بها؛ فإنه ربما يخاف علي نفسه أن لا يصطبر عنها لو طلقها، فيقع هو أيضا في الفجور، بل الواجب عليه أن يؤدبها ويجتهد في حفظها. ((حس)). فيه دليل علي جواز نكاح الفاجرة، وإن كان الاختيار غير ذلك، وهو قول أكثر أهل العلم.

3318 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، فإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو الذي ادعاه فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة. رواه أبو داود. [3318] 3319 - وعن جابر بن عتيك، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله؛ فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في الفخر)). وفي رواية: ((في البغي)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [3319] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((مستلحق)) هو بفتح الحاء الذي طلب الورثة أن يلحقوه بهم، واستلحقه أي ادعاه. وقوله: ((استلحقه)) صفة لقوله: ((مستلحق)) وقوله: ((ادعاه ورثته)) خبر ((أن)) والفاء في ((فقضى)) تفصيلية، أي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى فقضى، كما في قوله تعالي: {فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}. ((مظ)): هذه الأحكام قضى بها الرسول صلى الله عليه وسلم في أوائل الإسلام ومبادئ الشرع، وهي أن الراجل إذا مات واستلحق له ورثته ولدا، فإن كان الرجل الذي يدعى الولد له ورثة قد أنكر أنه منه، لم يلحق به ولم يرث منه. وإن لم يكن أنكره فإن كان من أمته لحقه وورث منه ما لم يقسم بعد ماله، ولم يرث ما قسم قبل الاستلحاق. وإن كان من أمة غيره كابن وليدة زمعة، أو من حرة زنى بها لا يلحق به ولا يرث، بل لو استلجقه الواطئ لم يلحق به؛ فإن الزنا لا يثبت النسب. الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((فالغيرة في الريبة)) أي في مواضع التهم وما تردد فيه النفس فتظهر فائدتها وهي الرهبة والنزجار. وإن لم تكن موقعها فتورث البغض والشنآن والفتن. قوله: ((وإن من الخيلاء)) ((نه)): الخيلاء – بالضم والكسر – الكبر والعجب، يقال: اختال فهو مختال، وفيه خيلاء ومخيلة وكبر، والخيلاء في الصدقة أن تهزه الأريحية والسخاء فيعطيها طيبة بها نفسه، فلا يستكثر كثيرا ولا يعطى منها شيئا إلا وهو له مستقل، وأما الحرب فأن يتقدم فيها بنشاط وقوة ونخوة وجنان.

الفصل الثالث 3320 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قام رجل، فقال: يا رسول الله! إن فلانا ابني؛ هاهرت بأمه في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الحجر)). رواه أبو داود. 3321 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من النساء لا ملاعنة بينهن: النصرإنية تحت المسلم، واليهودية تحت المسلم، والحرة تحت المملوك، والمملوكة تحت الحر)) رواه ابن ماجة. [3321] 3322 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده عن الخامسة علي فيه، وقال: ((إنها موجبة)). رواه النسائي. [3322] 3323 - وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا، قالت: فغرت عليه، فجاء، فرأي ما أصنع. فقال: ((مالك يا عائشة! أغرت؟)) فقلت: وما لي لا يغار مثلي علي مثلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد جاءك شيطانك)) قالت: يا رسول الله! أمعي شيطان؟ قال: ((نعم)). قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: ((نعم! ولكن أعانني الله عليه حتى أسلم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عمرو: قوله: ((ابني)) خبر ((إن)). قوله: ((عاهرت)) مستأنف بيان لإثبات الدعوة؛ ولذلك رده صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا دعوة في الإسلام)). الحديث الثاني عن عمرو: قوله ((بينهن)) وبين أزواجهن، ولا بد من هذا التقدير؛ لأن قوله: ((النصرإنية)) إلي آخره تفصيل له. الحديث الثالث والرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا يغار)) حال من المجرور و ((مثلي)) وضع موضع الضمير الراجع إلي ذي الحال، وهو من قولهم: مثلك يجود أي أنت تجود، يعني كيف لا يغار من هو علي صفتي من المحبة ولها ضرائر علي من هو علي صفتك من النبوة والمنزلة من الله تعالي، وقد خرج في مثل هذا الوقت من عندها؟ وفي قوله: ((لقد جاءت شيطانك)) إشارة إلي ما مر في حديث جابر بن عتيك من قوله: ((أما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة)) يعني كيف تغيرين علي؟ ترين إني أحيف عليك؟ أي ليس هذا بموضع ريبة، وبقية الحديث مضى شرحه في باب الوسوسة.

(15) باب العدة

(15) باب العدة الفصل الأول 3324 - عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله الشعير بسخطته، فقال: والله، مالك علينا من شيء. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فقال: ((ليس لك نفقة)). فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني)). قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطبإني. فقال: ((أما أبو الجهم فلا يضع ـــــــــــــــــــــــــــــ باب العدة الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سلمة: قوله: ((البتة)) ((قض)): البتة الطلقات الثلاث أو الطلقة الثالثة، فإنها بتة من حيث إنها قاطعة لعلقة النكاح. ((فسخطته)) أي استقلته، يقال: سخط عطاءه، أي استقله ولم يرض به. قوله: ((ليس لك نفقة)) ((مح)): اختلفوا في المطلقة البائن الحامل، هل لها السكنى والنفقة؟ فقال عمر رضي الله عنه وأبو حنيفة وآخرون: لها السكنى والنفقة؛ لقوله تعالي: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ} وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه. وقد قال عمر رضي الله عنه: ((لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة)). وقال ابن عباس وأحمد: لا سكنى لها ولا نفقة، لهذا الحديث. وقال مالك والشافعي وآخرون: لها السكنى، لقوله تعالي: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ} ولا نفقة لها لهذا الحديث؛ ولقوله تعالي: {وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فمفهومه أنهن إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن. وأجاب هؤلاء عن حديث فاطمة في سقوط السكنى بما قاله سعيد بن المسيب وغيره: إنها كانت امرأة لسنة واستطالت علي أحمائها، فأمرها بالانتقال إلي بيت أم شريك ثم بالانتقال إلي بيت ابن أم مكتوم؛ لأنه لا يبصرها، ولا يتردد إلي بيته من يتردد إلي بيت أم شريك، حتى إذا وضعت ثيابها للتبرز نظروا إليها. وقد احتج بعض الناس بهذا علي جواز نظر المرأة إلي الأجنبي بخلاف نظره إليها، وهو

عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له؛ انكحي أسامة بن زيد)) فكرهته، ثم قال: ((انكحي أسامة)) فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت. وفي رواية عنها: ((فأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء)). رواه مسلم. وفي رواية: أن زوجها طلقها ثلاثا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا)). 3325 - وعن عائشة، قالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف علي ناحيتها، فلذلك رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم – تعني في النقلة – وفي رواية: قالت: ما الفاطمة؟ ألا تتقي الله؟ تعني في قولها لا سكنى ولا نفقة. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف. والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يحرم علي المرأة النظر إلي الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها؛ لقوله تعالي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية، ولحديث أم سلمة: ((أفعمياوان أنتما؟)) علي ما سبق. وأيضا ليس في هذا الحديث رخصة لها في النظر إليه، بل في أنها آمنة عنده من نظر غيره، وهي مأمورة بغض بصرها عنه. وفيه جواز التعريض بخطبة البائن. وفي قوله: ((فلا يضع العصا عن عاتقه)) كناية عن كثرة الأسفار أو عن كثرة الضرب. وهذا هو الأصح، بدليل الرواية الأخرى أنه ضراب للنساء. وفيه دليل علي جواز ذكر الإنسان بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة. أبو جهم هذا هو المذكور في حديث الأنبجإنية، غير أبي جهم المذكور في التيمم وفي المرور بين يدي المصلي. وأما إشارته صلى الله عليه وسلم بنكاح أسامة؛ فلما علمه من دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله، فنصحها بذلك، فكرهت لكونه مولي أسود جدا. وكرر عليها للحث علي زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك، وكان كذلك، ولهذا قالت: ((أغتبطت)) أي صرت بحيث اغتبطني النساء بحظ كان لي منه. ((حس)): فيه دليل علي أن المال معتبر في الكفاءة، وعلي أن الرجل إذا لم يجد نفقة أهله وطلبت المرأة فراقه فرق بينهما، وعلي جواز الخطبة علي خطبة الغير إذا لم تأذن ولم تركن إليه، وعلي جواز تزوج المرأة من غير كفؤ برضاها؛ فإن فاطمة هذه كانت قرشية وأسامة من الموالي. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وحش)) ((نه)): الوحشة الخلوة والهم، وأوحش المكان إذا صار وحشا، وكذلك توحش والمعنى في مكان خلاء لا ساكن فيه. وقوله:

3326 - وعن سعيد بن المسيب، قال: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها علي أحمائها. رواه في ((شرح السنة)). 3327 - وعن جابر، قال: طلقت خالتي ثلاثا، فأرادت أن تجد نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((بلي، فجدي نخلك، فإنه عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا)). رواه مسلم, 3328 - وعن المسور بن مخرمة: أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت. رواه البخاري. 3329 - وعن أم سلمة، قالت: جاءت امرأة إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا)) مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: ((لا)). ثم قال: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة علي رأس الحول)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((في قولها: لا سكنى ولا نفقة)) يعني ألا تخاف الله تعالي فاطمة في هذا القول أن لا سكنى للبائن ولا نفقة لها؟ فكيف تستغني بذلك وهو مثل قول عمر: ((لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة))؟ وهو يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذهب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لها السكنى والنفقة. وثإنيهما: ما ذهب إليه الشافعي ومالك أن لها السكنى ولا نفقة. الحديث الثالث والرابع عن جابر: قوله: ((أن تجد)) ((نه)): الجداد – بالفتح والكسر – صرام النخل وهو قطع ثمرتها، يقال: جد الثمرة يجدها جدا – انتهي كلامه. وقوله: ((بلي)) تقرير للنفي أي أتت النبي صلى الله عليه وسلم وسألت: أليس يسوغ لي الخروج للجداد؟ فقال: بلي اخرجي فجدي. وقوله: ((فإنه عسى)) تعليل للخروج، ويعلم منه أنه لولا التصدق لما جاز لها الخروج. و ((أو)) في قوله: ((أو تفعلي معروفا)) للتنويع، يعني أن يبلغ مالك نصابا فتؤدي زكاته، وإلا فافعلي معروفا من التصدق والتقرب والتهادي. وفيه أن حفظ المال واقتناءه لفعل المعروف مرخص. ((مح)): فيه دليل علي جواز خروج المعتدة البائنة للحاجة، ولا يجوز لها الخروج في عدة الوفاة، ووافقهم أبو حنيفة في عدة الوفاة. الحديث الخامس عن أم سلمة: قوله: ((إحداكن ترمي بالبعرة)) ((قض)): كان من عاداتهم في الجاهلية أن المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت بيتا ضيقا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا ولا شيئا في زينة حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير، فتكسر بها ما كانت

3330 - وعن أم حبيبة، وزينب بنت جحش، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يحل لامرأة أن تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد علي ميت فوق ثلاث ليال، إلا علي زوج أربعة أشهر وعشرا)) متفق عيه. 3331 - وعن أم عطية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحد امرأة علي ميت فوق ثلاث إلا علي زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تجتحل، ولا تمس طيبا، إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار)) متفق عليه. وزاد أبو داود: ((ولا تختضب)). ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه من العدة بأن تمسح بها قبلها، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، وتنقطع بذلك عدتها. فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك إلي أن ما شرع في الإسلام للمتوفي عنها زوجها من التربص أربعة أشهر وعشرا في مسكنها، وترك التزين والتطيب في تلك المدة يسير في جنب ما تكابده في الجاهلية. ((حس)): كانت عدة المتوفي عنها زوجها في الابتداء حولا كاملا ثم نسخ بأربعة أشهر وعشرا قوله: ((كل ذلك يقول: لا)) صفة مؤكدة لقوله: ((ثلاثا)). الحديث السادس عن أم حبيبة: قوله: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله)) نفي بمعنى النهي علي سبيل التأكيد، والوصف بالإيمان إشعار بالتعليل، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ علي مثله من العظائم. والسياق بعبارته إن دل علي اختصاص المؤمن به دل بإشارته وكونه من عظائم الشيءون من مخالفة أمر الله ورسوله علي غيره. هذا معنى قول الشيخ محيي الدين في تأويل الحديث الآتي. الحديث السابع عن أم عطية: قوله: ((لا تحد)) ((نه)): الحد المنع والفصل بين الشيئين، وأحدث المرأة علي زوجها تحد فهي محد وحاد تحد فهي حاد، إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة. والقسط ضرب من الطيب. وقيل: هو العود، والقسط عقار معروف في الأدوية طيب الريح، تبخر به النفساء والأطفال. والأظفار جنس من الطيب لا واحد له من جنسه. وقيل: واحدة ظفر، وقيل: هو شيء من العطر أسود، والقطعة منه شبيهة بالظفر. والعصب برود يمنية يعصب غزلها، أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ، يقال: برد عصب بالتنوين وبالإضافة. وقيل: هي برود مخططة. والعصب الفتل، فيكون النهي للمعتدة بما صبغ بعد النسج. والنبذة بضم النون شيء يسير. ((مح)): القسط والأظفار نوعان من البخور، وليس المقصود بهما الطيب، ورخص في استعمالهما للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريحة يتبع به أثر الدم لا للتطيب.

الفصل الثاني 3332 - عن زينب بنت كعب: أن الفريعة بنت مالك بن سنان – وهي أخت أبي سعيد الخدري – أخبرتها أنها جاءت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلي أهلها ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الحديث دليل علي وجوب الإحداد علي المعتدة من وفاة زوجها، وهو مجمع عليه في الجملة، وإن اختلفوا في تفصيله، فذهب الشافعي والجمهور إلي التسوية بين المدخول بها وغيرها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا، حرة أو أمة، مسلمة أو كافرة. وقال أبو حنيفة والكوفيون وبعض المالكية: لا يجب علي الكتابية بل يختص بالمسلمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر))، وتأويل الجمهور بأن الاختصاص إنما هو، لأن المؤمن هو الذي يستمر خطاب الشارع عليه وينتفع به وينقاد له. وقال أبو حنيفة: لا إحداد أيضا علي الصغيرة ولا علي الأمة. وجوابه أن الصغيرة إنما دخلت في الحكم، لكونها نادرة فسلكت في الحكم علي سبيل الغلبة، والتقيد بقوله: ((أربعة أشهر وعشرا)) خرج علي غالب المعتدات اللاتي يعتددن بالأشهر، أما إذا كانت حاملا فعدتها بالحمل ويلزمها الإحداد حتى تضع، سواء قصرت المدة أو طالت. وقالوا: الحكمة في وجوب الاحداد في عدة الوفاة دون الطلاق، أن الزينة والتطيب يستدعيان النكاح فنهت عنه زجرا؛ لأن الميت لا يتمكن من منع معتدته من النكاح، بخلاف المطلق الحي؛ فإنه يستغنى بوجوده عن زاجر آخر. وجعلت أربعة أشهر؛ لأن فيها ينفخ الروح في الولد، وعشرا للاحتياط. أقول: الاستثناء في قوله: ((إلا علي زوج)) متصل إذا جعل قوله: ((أربعة أشهر)) منصوبا بمقدر بيانا لقوله: ((فوق ثلاث)) أي أعني أو أذكر، فهو من باب قوله: ما اخترت إلا منكم رفيقا؛ لكون ما بعد ((إلا)) شيئين، فيقدم المفسر – أعني أربعة أشهر – علي الاستثناء، تقديره: لا تحد المرأة علي ميت فوق ثلاث – أعني أربعة أشهر – إلا علي زوج، أو من باب قولك: ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا، وإذا جعل معمولا لـ ((تحد)) مضمرا كان أو منقطعا. فالتقدير: لا تحد امرأة علي ميت فوق ثلاث، لكن تحد علي زوج أربعة أشهر. الفصل الثاني الحديث الأول عن زينب: قوله: ((امكثي في بيتك)) ((حس)): اختلفوا في السكنى للمعتدة عن الوفاة. وللشافعي فيه قولان: فعلي الأصح لها السكنى، وبه قال عمر وعثمان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود. وقالوا: إذنه صلى الله عليه وسلم لفريعة أولا صار منسوخا بقوله: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)). وفيه دليل علي جواز نسخ الحكم قبل الفعل. والقول الثاني أن لا سكنى لها بل تعتد حيث شاءت. وهو قول علي وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لفريعة أن ترجع إلي أهلها. وقوله لها آخرا: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)) أمر استحباب – انتهي كلامه. ((حتى يبلغ الكتاب أجله)) أي حتى تنقضي العدة. وإنما سميت العدة

في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلي أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة. فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)). فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد، دعإني، فقال: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)) قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3332] 3333 - وعن أم سلمة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا. فقال: ((ما هذا يا أم سلمة!؟)). فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب. فقال: إنه يشهب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب)). قلت: بأي شيء أمتشط؟ يا رسول الله! قال: ((بالسدر تغلفين به راسك)) رواه أبو داود، والنسائي. [3333] ـــــــــــــــــــــــــــــ كتابا؛ لأنها فريضة من الله سبحانه وتعالي، كما قال تعالي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي فرض, الحديث الثاني عن أم سلمة: قوله: ((يشب الوجه)) ((فا)): أي يوقده ويزيد في لونه، من شببت النار إذا أوقدتها، والشبوب ما يوقد به النار. وعلل المنع به؛ لأن فيه تزيينا للوجه وتحسينا له. ((قوله)): ((وتنزعيه بالنهار)) عطف علي قوله: ((فلا تجعليه)) علي معنى واجعليه بالليل وانزعيه بالنهار؛ لأن ((إلا)) في الاستثناء المفرغ لغو، والكلام مثبت، وحذف النون في ((تنزعيه)) للتخفيف، وهو خبر في معنى الأمر. والباء في قوله: ((بالطيب)) حال من المشط؛ لأن التقدير: لا تستعملي المشط مطيبا. وكذا قوله: ((بالسدر))، وقوله: ((تغلفين)) أيضا حال من فاعل ((امتشطي)) أو استئناف بيانا. ((تو)): ((تغلفين)) مفتوحة التاء، والأصل تتغلفين فحذف إحدى التائين، وهو من قولك: تغلف الرجل بالغالية وغلف بها لحيته غلفا من قولك: غلفت القرورة أي جعلتها في الغلاف – انتهي كلامه. وفي جامع الأصول، وفي بعض نسخ المصابيح بضم التاء من التغليف، وهو جعل الشيء غلافا لشيء، والفرق أن التفعيل فيه تكلف. والمعنى لا تكثرين السدر علي شعرك، حتى يصير غلافا له فيحويه، كتغطية الغلاف المغلوف، بخلاف الثاني.

3334 - وعنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المتوفي عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، والا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل)). رواه أبو داود، والنسائي. [3334] الفصل الثالث 3335 - عن سليمان بن يسار: أن الأحوص هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة، وقد كان طلقها، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلي زيد بن ثابت يسأله عن ذلك. فكتب إليه زيد: إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبريء منها، لا يرثها ولا ترثه. رواه مالك. [3335] 3336 - وعن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها؛ فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلكن وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت. رواه مالك. [3336] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أم سلمة: قوله: ((المعصفر)) ((قض)): المعصفر المصبوغ بالعصفر، والممشقة المصبوغة بالمشق – بسكر الميم – وهو الطين الأحمر الذي يسمى مغرة. والتإنيث علي إرادة الحلة والثياب. الفصل الثالث الحديث الأول عن سليمان: قوله: ((فقد برئت منه)) فيه تصريح بأن المراد من الأقراء الثلاثة. في قوله تعالي: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الأطهار. الحديث الثاني عن سعيد: قوله: ((رفعتها حيضتها)) هكذا وجدنا في الموطأ وجامع الأصول. فـ ((حيضتها)) فاعل ((رفعتها)) والضمير في ((رفعتها)) منصوب بنزع الخافض، أي رفعت حيضتها عنها، أي انقطعت. وقوله: ((فإنها تنتظر)) جواب للشرط. وقوله: ((فذلك)) مبتدأ وخبره محذوف أي فذلك ظاهر حكمه. و ((إن)) في ((إن لا)) شرطية، أي إن لم يتبين حملها اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر. صورة المسألة أن الواجب علي ذوات الأقراء أن يتربصن ثلاثة قروء، وعلي ذوات الأحمال وضع الحمل، فظهرت من انقطاع الدم عنها بعد الحيضتين أنها ليست من ذوات الأقراء، ومن

(16) باب الاستبراء

(16) باب الاستبراء الفصل الأول 3337 - عن أبي الدرداء، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مجح، فسأل عنها. فقالوا: أمة لفلان. قال: ((أيلم بها؟)) قالوا: نعم. قال: ((لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه في قبره، كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ أم كيف يورثه وهو لا يحل له؟)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مضي مدة وضع الحمل أنها ليست من ذوات الأحمال أيضا. فظهر أيضا أنها من اللآئي يئسن من المحيض، فوجب التبرص بالأشهر. وأدخل لام التعريف علي ((التسعة)) المضافة، وهو موافق لمذهب الكوفيين نحو الثلاثة الأثواب. ((مح)): من انقطع دمها إن انقطع لعارض يعرف كالرضاع أو نفاس أو داء باطن، صبرت حتى تحيض فتعتد بالأقراء، أو تبلغ سن اليأس فتعتد بالأشهر، ولا يبالي بطول مدة الانتظار. وإن انقطع لا لعلة تعرف فالقول الجديد أنه كالانقطاع لعارض، والقديم أنها تتربص تسعة أشهر، وفي قول: أربع سنين، وفي قول مخرج: ستة أشهر، ثم بعد التربص تعتد بثلاثة أشهر. باب الاستبراء المغرب: برئ من الدين والعيب براءة، ومنه استبراء الجارية طلب براءة رحمها من الحمل. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي الدرداء: قوله: ((بامرأة مجح)) ((قض)): المجح – الجيم قبل الحاء – الحمل المقرب التي دنت ولادتها، من أجحت السبعة إذا عظمت بطنها ودنت ولادتها. والإلمام بالمرأة من كنايات الوطء. وإنما هم بلعنه؛ لتركه الاستبراء، فإنه إذا ألم بأمته التي يملكها وهي حامل، كان تاركا للاستبراء. وقوله: ((كيف يستخدمه)) إلي آخره إشارة إلي ما في ترك الاستبراء من المعنى المقتضي للعن، والضمير المنصوب في ((يستخدمه ويورثه)) للولد. وبيانه أنه إذا لم يستبرئ وألم بها، فأتت بولد بزمان يمكن أن يكون منه، وأن يكون ممن ألم بها قبله، فإن استخدمه استخدام العبيد فلعله كان منه، فيكون مستعبدا لولده قاطعا لنسبه عن نفسه فيستحق اللعن. وإن استحلقه وادعاه لنفسه فلعله لم يكن منه، فيكون مورثه وليس له أن يورثه، فيستحق اللعن. ((شف)): الضمير المرفوع في قوله: ((وهو لا يحل له)) عائد إلي مصدر ((يستخدمه ويورثه)) الدالين عليه، أي كيف يستخدمه والاستخدام لا يحل له؟ أم كيف يورثه والتوريث لا يحل له؟ أقول: ((أم)) في قوله: ((أم كيف يورثه)) منقطعة إضراب عن الإنكار إلي أبلغ منه.

3338 - عن أبي سعيد الخدري، رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم، قال في سبايا اوطاس: ((لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة)) رواه أحمد، وأبو داود، والدارمي. [4338] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((في سبايا)) ((حس)) فيه أنواع من الفقه، منها: أن الزوجين إذا سبيا أو أحدهما يرتفع بينهما النكاح، ولم يختلف العلماء في سبي أحد الزوجين دون الآخر أنه يوجب ارتفاع النكاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح وطأهن بعد وضع الحمل أو مرور حيضة بها، من غير فصل بين ذوات أزواج وغيرها، وبين من سبيت منهن مع الزوج أو وحدها، وكان في ذلك السبي كل هذه الأنواع، فدل أن الحكم في جميع ذلك واحد، والي هذا ذهب مالك والشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا سبيا معا فهما علي نكاحهما. ومنها: أن وطء الحبالي من السبايا لا يجوز. ومنها: بيان أن استبراء الحامل يكون بوضع الحمل، واستبراء غير الحامل ممن كانت تحيض بحيضة بخلاف العدة؛ فإنها تكون بالأطهار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر: ((يطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة بالأطهار والاستبراء بالحيض. ومنها: بيان أنه لا بد من حيضة كاملة بعد حدوث الملك، حتى لو اشتراها وهي حائض لا يعتد بتلك الحيضة. وقال الحسن: إذا اشتراها حائضا أجرأت عن الاستبراء. وإن كانت الأمة ممن لا تحيض فاستبراؤها بمضي شهر. وقال الزهري: بثلاثة أشهر. وفيه مستدل لمن ذهب إلي أن الحامل لا تحيض، وأن الذم الذي تراه الحامل لا يكون حيضا، وإن كان في حينه وعلي وصفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحيض دليل براءة الرحم. وفيه أن استحداث الملك في الأمة يوجب الاستبراء، سواء كانت بكرا أو ثيبا تملكها من رجل أو امرأة. وكذلك المكاتبة إذا عجزت، والمبيعة إذا عادت إلي بائعها بإقالة، أو ردت بعيب، فل يحل وطأها إلا بعد الاستبراء. واتفق أهل العلم علي تحريم الوطء علي المالك في زمان الاستبراء. واختلفوا في المباشرة سوى الوطء. فذهب قوم إلي تحريمها وهو كالوطء. وهو قول الشافعي، وله قول آخر إنها تحرم في المشتراة ولا تحرم في المسبية؛ لأن المشتراة ربما تكون حاملا بولد الغير فلم يملكها المشتري، والحمل في المسبية لا يمنع الملك والله أعلم.

3339 - وعن رويفع بن ثابت الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: ((لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه. زرع غيره)) يعني إتيان الحبالي ((ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع علي امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم)) رواه أبو داود. ورواه الترمذي إلي قوله ((زرع غيره)). [3339] الفصل الثالث 3340 - عن مالك، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر باستبراء الإماء بحيضة إن كانت ممن تحيض، وثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض، وينهي عن سقي ماء الغير. 3341 - وعن ابن عمر: أنه قال: إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو أعتقت فلتسبرئ رحمها بحيضة ولا تستبرئ العذراء)) رواهما رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن مالك: قوله: ((وثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض)) ((مح)): إن كانت المشتراة من ذوات الأشهر فهل تستبرئ بشهر أم بثلاثة؟ قولان، أظهرهما عند الجمهور بشهر؛ لأنه بدل قرء. ورجح صاحب المهذب وجماعة الثلاثة. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ولا يستبرئ العذراء)) أي البكر. ((مح)): سبب الاستبراء حصول الملك، فمن ملك جارية بإرث أو هبة أو غيرهما لزمه استبراؤها، سواء كان الانتقال إليه ممن يتصور اشتغال الرحم بمائه، أو ممن لا يتصور كامرأة وصبي ونحوهما، وسواء كانت الأمة صغيرة أو آيسة أو غيرهما بكرا أو ثيبا، وسواء استبرأها البائغ قبل البيع أم لا. وعن ابن شريح في البكر أنه لا يجب. و (عن المزنى) * في الزنا أنه إنما يجب استبراء الحامل والموطوءة. قال الرويإني: وأنا أميل إلي هذا. واحتج الشافعي بإطلاق الأحاديث في سبايا أوطاس، مع العلم بأن فيهن الصغار والأبكار والأثياب.

(17) باب النفقات وحق المملوك

(17) باب النفقات وحق المملوك الفصل الأول 3342 - عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: إن هندا بنت عتبة، قالك: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النفقات وحق المملوك ((غب)): نفق الشيء مضى ونفذ، ونفقت الدرهم تنفق، والنفقة اسم لما ينفق، قال تعالي: {ومَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ}. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما يكفيني وولدي)) قال الحريري في درة الغواص: فإن قيل: كيف جاز العطف علي المضمرين المرفوع والمنصوب بغير تكرير، وامتنع العطف علي المضمر المجرور إلا بالتكرير؟ فالجواب عنه أنه لما جاز أن يعطف الظاهر عليهما، ولما لم يجز أن يعطف المضمر المجرور علي الظاهر إلا بتكرير الجار في مثل قولك: مررت بزيد وبك، لم يجز أن يعطف الظاهر علي المضمر إلا بتكريره أيضا، نحو مررت بك وبزيد وهذا من لطائف علم العربية ومحاسن الفروق النحوية. قوله: ((شحيح)) هو فعيل من الشح، ومعناه البخل مع حرص، وذلك فيما كان عادة لا عارض قال تعالي: {وأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}. ((مح)): فيه فوائد، منها: وجوب نفقة الزوج، ومنها: وجوب نفقة الأولاد الصغار. ومنها: أن نفقة القريب مقدرة بالكفاية، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد، علي الموسر كل يوم مدان، وعلي المعسر مد، وعلي المتوسط مد ونصف. وهذا الحديث يرده. ومنها: جواز سماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحكم، وكذا ما في معناه ومنها: جواز ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء. ومنها: أن من له علي غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، ومنعه مالك وأبو حنيفة. ومنها: جواز إطلاق الفتوى والمراد تعليقها، ولا يفتقر أن يقول المفتى: إذا ثبت ما ذكرت يكون كذا، كما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم. ولو علق فلا بأس. ومنها: أن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم. قال أصحابنا: هل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي؟ فيه وجهان مبنيان علي وجهين لأصحابنا، بناء علي أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند كان إفتاء أو قضاء؟ والأصح الأول، فتجري في

3343 - وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته)) رواه مسلم. 3344 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كل امرأة أشبهتها وعلي الثاني وهو أن يكون قضاء لا يجري علي غيرها إلا بإذن القاضي. ومنها: الاعتماد علي العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي. ومنها: جواز خروج الزوجة من بيتها لحاجتها إذا أذن لها زوجها، أو علمت رضاه به. واستدل به جماعة علي جواز القضاء علي الغائب، وليس بذلك؛ لأن هذه القضية كانت إفتاء لا قضاء كما مر. ((حس)): ومنها: أن القاضي له أن يقضي بعلمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفها بالبينة. ومنها: أنه يجوز أن يبيع ما ليس من جنس حقه، فيستوفي حقه من ثمنه. وذلك لأن من المعلوم أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه أهله وولده من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم. وهذا قول الشافعي. وفيه دليل علي أنه يجب علي الرجل نفقة الوالدين والمولودين؛ لأنه إذا وجب عليه نفقة ولده فوجوب نفقة والده عليه مع عظم حرمته أولي، ولا تجب نفقة من كان منهم موسرا أو قويا سويا يمكنه تحصيل نفقته. ولا تجب نفقة غيرهما من الأقارب. وإذا احتاج الأب المعسر * إلي نكاح، فعلي الولد إعفافه بأن يعطيه مهر امرأة، أو ثمن جارية ثم عليه نفقتها، ولا يجب علي الأب إعفاف ولده. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((طعامه وكسوته)) يجوز أن تكون الإضافة فيهما إلي المفعول، وعليه كلام المظهر، قال: يجب علي السيد نفقة رقيقة خبزا وإداما قدر ما يكفيه من غالب قوت مماليك البلد وغالب الإدام والكسوة، وأن يكون إلي الفاعل، وعليه ظاهر الحديث الآتي، وأوله محيي السنة بقوله: هذا خطاب مع العرب الذين لبوس عامتهم وأطعمتهم متقاربة، يأكلون الجشب ويلبسون الخشن. والجشب هو الغليظ الخشن من الطعام. ((مح)): الأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم محمول علي الاستحباب، ويجب علي السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، حتى لو قتر السيد علي نفسه تقتيرا جارجا عن عادة إمثاله، إما زهدا وإما شحا، لا يحل له التقتير علي المملوك، وإلزامه بموافقته إلا برضاه. قوله: ((إلا ما يطيق)) ((حس)): يعني إلا ما يطيق الدوام عليه، لا ما يطيق يوما أو يومين أم ثلاثة ونحو ذلك، ثم يعجز، وجملة ذلك ما لا يضر ببدنه الضرر البين.

3345 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه؛ فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه)) متفق عليه. 3346 - وعن عبد الله بن عمرو جاءه قهرمان له، فقال له: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعظهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كفي بالرجل إثما أن يحبس عمن يملك قوته)). وفي رواية: ((كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه مسلم. 3347 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، وإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إخوانكم)) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي مماليككم إخوانكم، واعتبار الأخوة إما من جهة آدم أي إنكم متفرعون من أصل واحد، أو من جهة الدين؛ فيكون قوله: ((جعلهم الله)) حالا، لما في الكلام من معنى التشبيه. ويجوز أن يكون مبتدأ، ((وجعلهم الله)) خبر، فعلي هذا ((إخوانكم)) مستعار لطي ذكر المشبه. وفي تخصيص الذكر بالأخوة إشعار بعلة المواساة في الارتفاق، وأن ذلك مستحب؛ لأنه وارد علي سبيل التعطف عليهم، وهو غير واجب، وناسب لهذا أن يقال: فليعنه؛ لأن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((أن يحبس (()) ((مظ)): ((أن)) مع ما بعده مبتدأ، و ((كفي)) خبر مقدم مثل بئس رجلا زيدن أو خبر مبتدأ محذوف. و ((إثما)) تمييز. قوله: ((فهرمان)) ((نه)): هو الخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل بلغة الفرس. وقوله: ((يقوت)) من قاته يقوته إذا أعطاه قوته، ويقال: أقاته يقيته أراد من تلزمه نفقته من أهله وعياله وعبيده. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وقد ولي حره)) ((تو)): ((ولي)) يجوز أن يكون من الولاية، أي تولي ذلكن وأن يكون من الولاء وهو القرب والدنو. والمعنى أنه قاسى كلفه إيجاده وحملها عنك، فينبغي أن تشاركه في الحظ منه. ((فا)): المشفوه القليل، وأصله الماء الذي كثرت عليه الشفاه حتى قل. وقيل: أراد أن كان مكثورا عليه، أي كثرت عليه أكلته. و ((الأكلة)) بالفتح اللقمة. ((تو)): قول من يفسر المشفوه بالقليل فـ ((قليلا)) بدل منه،

3348 - وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله؛ فله أجره مرتين)) متفق عليه. 3349 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعما للمملوك أن يتوفاه الله بحسن عبادة ربه وطاعة سيده، نعما له)) متفق عليه. 3350 - وعن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة)).وفي رواية عنه قال: ((أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)) رواه مسلم. 3351 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قذف مملوكة وهو بريء مما قال؛ جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون تفسيرا له. ((مح)): الرواية ((الأكلة)) بضم الهمزة وفيه الحث علي مكارم الأخلاق والمواساة في الطعام، لاسيما في حق من صنعه وحمله؛ لأنه ولي حرة ودخانه، وتعلقت به نفسه وشم رائحته، وهذا كله محمول علي الاستحباب. الحديث السابع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إذا نصح لسيده)) يقال: نصحته ونصحت له، واللام مزيدة للمبالغة، ونصيحته العبد للسيد امتثال أمره، والقيام علي ما عليه من حقوق سيده. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نعما للمملوك)) فيه ثلاث لغات: أحدهما: كسر النون مع إسكان العين، والثانية كسرها، والثالثة فتح النون مع كسر العين. و ((ما)) في ((نعما)) نكرة غير موصولة ولا موصوفة بمعنى شيء، و ((أن يتوفاه)) مخصوص بالمدح، تقديره: نعم شيء للمملوك توفيه إياه. الحديث التاسع عن جرير: قوله: ((فقد برئت منه الذمة)) ((مظ)): يعني إذا أبق إلي ديار الكفار وارتد فقد بريء منه عهد الإسلام ويجوز قتله، وإن أبق إلي بلد من بلاد الإسلام لا علي نية الارتداد لا يجوز قتله، بل هو وارد علي سبيل التهديد والمبالغة في جواز ضربه. ((وكفر)) أي ستر نعمة السيد عليه – انتهي كلامه. وقوله: ((لم تقبل له صلاة)) أي لا تكون عند الله مقبولة، وإن كانت مجزئة في الشرع. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلا أن يكون كما قال)) الاستثناء

3352 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ضرب غلاما له حدا لم يأته، أو لطمه؛ فإن كغارته أن يعتقه)) رواه مسلم. 3353 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتا: ((اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه)) فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله. فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار – أو لمستك النار -)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مشكل؛ لأن قوله: ((وهو بريء)) يأباه، اللهم إلا أن يأول قوله: ((برىء)) أي يعتقد أو يظن براءته ويكون العبد كما في قذفه لا ما اعتقده، فحينئذ لا يجلد لكونه صادقا فيه. وفيه أن مرجع الصدق والكذب إلي مطابقة الواقع لا اعتقاد المخبر. ولو رجع إلي اعتقاد المخبر لترتب عليه الجلد. ((مح)): فيه إشارة إلي أنه لا حد علي قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، لكن يعزر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن، سواء فيه من هو كامل الرق أو شائبة الحرية، كالمدبر والمكاتب وأم الولد الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي مسعود الأنصاري: قوله: ((لم يأته)) صفة ((حدا)) والضمير المنصوب راجع إليه أي لم يأت بموجبه، فحذف المضاف وهو تقييد لما أطلق في الحديث الآتي لأبي مسعود. قوله: ((لله أقدر)) علق عمل ((اعلم)) باللام الابتدائية، و ((اله)) مبتدأ و ((أقدر)) خبره و ((عليك)) صلة ((أقدر)) و ((منك)) أي من قدرتك، كما ذهب إليه المظهر؛ لأن المعنى يأباه، بل هو حال من الكاف، أي أقدر منك حال كزنك قادرا عليه، أو متعلق بمحذوف علي سبيل البيان، كأنه لما قيل: ((الله أقدر عليك منك)). قيل: قدرتك علي من؟ قيل: عليه. كما في قوله تعالي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} الكاشف ((معه)) لا يخلو إما أن يتعلق ب ((بلغ)) أو ب ((السعي)) أو بمحذوف، ولا يصح تعلقه ب ((بلغ)) لاقتضائه بلوغها معا حد السعي لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقي أن يكون بيانا كأنه لما قال: فلما بلغ معه الحد الذي قدر فيه علي السعي قيل: مع من؟ قال: مع أبيه. وهذا أسلوب غريب يقرب في التفضيل من قولهم: العسل أحلي من الخل. ((مح)): فيه الحث علي الرفق بالمماليك وحسن صحبتهم. وأجمع المسلمون علي أن عتقه بهذا ليس واجبا وإنما هو مندوب، رجاء كفارة ذنبه وإزالة إثم ظلمه.

الفصل الثاني 3354 - عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مالا، وإن والدي يحتاج إلي مالي. قال: ((أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، كلوا من كسب أولادكم)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [3354] 3355 - وعنه، عن أبيه، عن جده: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم. فقال: ((كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل)) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [3355] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو: قوله ((إن أولادكم من أطيب كسبكم)) ((قض)): أي من أطيب ما وجد بسببكم وبتوسط سعيكم، أو اكتساب أولادكم من أطيب كسبكم، فحذف المضاف. وفي الحديث دليل علي وجوب نفقة الوالد علي ولده، وأنه لو سرق شيئا من ماله أو ألم بأمته، لا حد عليه؛ لشبهة الملك. أقول: لا حاجة إلي التقدير؛ لأن قوله: ((أولادكم من أطيب كسبكم)) خطاب عام، وتعليل لقوله: ((أنت ومالك لوالدك)) وإذا كلن الولد كسبا للوالد لا بمعنى أنه طلبه وسعى في تحصيله؛ لأن الكسب معناه الطلب والسعي في تحري الرزق والمعيشة والمال تبع له، كأن الولد نفس الكسب مبالغة. وقد أشار إليه التنزيل بقوله: {وعَلي المَوْلُودِ لَهُ} سماه مولودا له إذانا لأن الوالدات إنما ولدن لهم؛ ولذلك ينسبون إليهم، وأنشد للمأمون بن الرشيد: فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات والآباء أبناء فإن قلت: الانتقال من قوله: أنت ومالك لوالدك، إلي قوله: ((إن أولادكم من أطيب كسبكم)) هل يسمى التفاتا؟ قلت: لا؛ لأنه ليس انتقالا من إحدى الصيغ الثلاثة إلي الأخرى – أعني الحكاية والخطاب والغيبة – لمفهوم واحد، بل هو انتقال من الخاص إلي العام فيكون تلوينا للخطاب. الحديث الثاني عن عمرو بن شعيب: قوله: ((ولي يتيم)) ((قض)): أضاف اليتيم إلي نفسه؛ لأنه كان قيمه، ولذلك رخص له أن يأكل من ماله بالمعروف، فلا يسرف في الأكل فيأكل منه أكثر مما يحتاج إليه، ولا يبذر فيتخذ منه أطعمة لا تليق بالفقراء ويعد ذلك تبذيرا منهم. وروي ((ولا مبادر)) بالدال غير المعجمة، أي من استعجال ومبادرة إلي أخذه قبل أن يفتقر إليه

3356 - وعن أم سلمه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3356] 3357 - وروى أحمد، وأبو داود عن علي نحوه. [3357] ـــــــــــــــــــــــــــــ مخافة أن يبلغ الصبي فينتزع ماله من يده. ((ولا متأثل)) أي جامع مالا من اليتيم، مثل أن يتخذ من ماله رأس المال من قوله تعالي: {ولا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وبِدَارًا}. فإن قلت: أين الموافقة، فإن قوله: ((ولا متأثل)) ليس في التنزيل؟ قلت: لعله كالتفسير لقوله: ((ولا مبادر)) أي يبادر في تصرف مال اليتيم ويجعله رأس المال؛ ليربح به مخافة أن يبلغ فينتزع ماله من يده، فإذا بلغ أعطاه رأس ماله، واخذ الربح لنفسه. وقوله: ((ليس لي شيء)) صفة مؤكدة ل ((فقير)) علي تفسير الشافعي للفقير، ومميزة علي تفسير أبي حنيفة له. الحديث الثالث عن أم سلمه: قوله: {ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ((نه)): يريد الإحسان إلي الرقيق والتخفيف عنهم. وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي، كأنه علم بما يكون من أهل الردة وإنكارهم وجوب الزكاة وامتناعهم من أدائها إلي القائم بعده، فقطع حجتهم بأن جعل آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة. فعقل أبو بكر رضي الله عنه هذا المعنى حتى قال: ((لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)). ((مظ)): وإنما قال: أراد به الزكاة؛ لأن القرآن والحديث إذا ذكر فيهما الصلاة فالغالب ذكر الزكاة بعده. ((قض)): وفي حذف الفعل – وهو إما ((أحفظوا)) أي أحفظوها بالمواظبة عليها وما ملكت أيمانكم بحسن الملكية والقيام بما يحتاجون إليه من الكسوة والطعام، أو ((احذروه)) أي احذروا تضييعها وخافوا ما رتب عليه من العذاب – تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه. ((تو)): الأظهر أنه أراد بما ملكت أيمانكم المماليك، وإنما قرنه بالصلاة ليعلم أن القيام بمقدار حاجتهم من الكسوة والطعام واجب علي من ملكهم وجوب الصلاة التي لا سعة في تركها، وقد ضم العلماء البهائم المستملكة في هذا الحكم إلي المماليك. وإضافة الملك إلي اليمين كإضافة إلي اليد والاكتساب، والأملاك تضاف إلي الأيدي لتصرف المالك فيها وتمكنه من تحصيلها باليد، وإضافتها إلي اليمين أبلغ وأقعد من إضافتها إلي اليد؛ لكون اليمين أبلغ في القوة والتصرف وأولي بتناول ما كرم وطاب. وإن لي فيه وجها آخر. وهو أن المماليك خصوا بالإضافة إلي الأيمان تنبيها علي شرف الإنسان وكرامته، وتبيينا لتفصيله علي سائر أنواع ما يقع عليه اسم الملك، وتمييزا له بلفظ اليمين ععن جميع ما احتوته الأيدي واشتملت عليه الأملاك. 3358 - وعن أبي بكر الصديق [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة سيء الملكة)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [3358] 3359 - وعن رافع بن مكيث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم)). رواه أبو داود. ولم أر في غير ((المصابيح)) ما زاد عليه فيه من قوله: ((والصدقة تمنع ميتة السوء، والبر زيادة العمر)). [3359] ـــــــــــــــــــــــــــــ

أقول: والذي يقتضيه ضيق المقام من توصية أمته في آخر عهده، أن يقدر ((احذروا)) كقولهم: أهلك والليل، ورأسك والسيف، وان يكون الحديث من جوامع الكلم، فناب ب ((الصلاة)) عن جميع المأمورات والمنهيات {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ} وب {مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} عن جميع ما يتصرف فيه ملكا وقهرا؛ ولذلك خص اليمين كما في قول الشاعر: وكنا الأيمنين إذا التقينا وكان الأيسرين بنو أبينا فنبه بالصلاة علي تعظيم أمر الله، وب {مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} علي الشفقة علي خلق الله؛ ولأن ((ما)) عام في ذوي العلم وغيرهم، وإذا خص بذوي العلم يراد به الصفة، وهي تحتمل التعظيم والتحقير، فحمله علي المماليك يقتضي تحقير شأنهم وكونهم مسخرين لمواليهم، والوجه الأول أوجه لعمومه، فيدخل المماليك فيه أيضا. الحديث الرابع عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: ((سيء الملكة)) ((نه)): أي الذي يسيء صحبة المماليك، يقال: فلان حسن الملكة إذا كلن حسن الصنيع إليهم. أقول: معنى سوء الملكة يدل علي سوء الخلق، وهو شؤم، والشؤم يورث الخذلان ودخول النار، ولذلك قوبل في الحديث الآتي سوء الخلق بحسن الملكة. الحديث الخامس عن رافع: قوله: ((حسن الملكة يمن)) ((قض)): أي يوجب اليمن؛ إذ الغالب أنهم إذا رأف بهم السيد وأحسن إليهم، كانوا أشفق عليه وأطوع له وأسعى في حقه، وكل ذلك يؤدي إلي اليمن والبركة. وسوء الخلق يورث البغض والنفرة ويثير اللجاج ولعناد، وقصد الأنفس والأحوال. قوله: ((ميتة السوء)) ((نه)): الميتة – بكسر الميم – الحالة التي يكون عليها الإنسان من موته كالجلسة والركبة، يقال: فلان مات ميتة حسنة أو سيئة. وقوله: ((البر زيادة في العمر)) يحتمل أنه أراد بالزيادة البركة فيه؛ فإن الذي بورك له في عمره يتدارك في اليوم الواحد من

3360 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله، فارفعوا أيديكم)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) لكن عنده ((فليمسك)) بدل ((فارفعوا أيديكم)). [3360] 3361 - وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)) رواه الترمذي، والدارمي. [3362] 3362 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعث أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي! ما فعل غلامك؟)) فأخبرته. قال: ((رده رده)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3362] 3363 - وعنه، أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ن ذلك، فرد البيع. رواه أبو داود منقطعا. [3363] ـــــــــــــــــــــــــــــ فضل الله ورحمته ما لا يتداركه غيره في السنة من سني عمره، أو أراد أن الله جعل ما علم منه من البر سببا للزيادة في العمر. وسماه زيادة باعتبار طول عمره، وذلك كما جعل التداوي سببا للسلامة والطاعة سببا لنيل الدرجات، وكل ذلك كان مقدرا كالعمر. الحديث السادس عن أبي سعيد: قوله: ((فذكر الله)) عطف علي الشرط، وجوابه ارفعوا هذا إذا كان الضرب لتأديبه، وأما إذا كان حدا فلا، وكذا استغث مكرا. الحديث السابع والثامن والتاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((من فرق بين والدة)) أراد به التفريق بين الجارية وولدها بالبيع والهبة وغيرهما. ((حس)): وكذلك حكم الجدة وحكم الأب والجد، وأجاز بعضهم البيع مع الكراهة. وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة كما يجوز التفريق بين البهائم. وقال الشافعي: وإنما كره البيع بين السبايا، فأما لولد فلا بأس. ورخص أكثرهم في التفريق بين الأخوين في البيع، ومنع بعضهم لحديث علي رضي الله عنه. واختلفوا في حد الكبر المبيح للتفريق، قال الشافعي: هو أن يبلغ سبع سنين أو ثمان. وقال الأوزاعي: حتى يستغني عن أبيه. وقال مالك: حتى يثغر. وقال أصحاب أبي حنيفة: حتى يحتلم. وقال أحمد: لا يفرق بينهما وإن كبر واحتلم. وجوز أصحاب أبي حنيفة التفريق

3364 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه يسر اله حتفه، وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة علي الوالدين، وإحسان إلي المملوك)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 3365 - وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب لعلي غلاما، فقال: ((لا تضربه فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة، وقد رأيته يصلي)). هذا لفظ ((المصابيح)) 3366 - وفي ((المجتبى)) للدراقطني: أن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين. 3367 - وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما]، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فسكت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كانت الثالثة قال: ((أعفوا عنه كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ بين الأخوين الصغيرين، فإن كان احدهما لا يجوز. ((شف)): لم يفرق لني صلى الله عليه وسلم في الحديث بين الوالدة ولولد بلفظة ((بين)) وفرق في جزائه حيث كرر ((بين)) في الثاني؛ ليدل علي عظم هذا الأمر، وأنه كما لا يجوز التفريق بينهما في اللفظ بالبين فكيف التفريق بين ذواتهما؟. أقوال: قال الحريري في درة الغواص: ومن أوهام الخواص أن يدخلوا ((بين)) بين المظهرين وهو وهم، وإنما أعادوا بين المظهر والمضمر قياس علي المجرور بالحرف، كقوله تعالي: {تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ} لأن الضمير المتصل كاسمه، فلا يجوز العطف علي جزء الكلمة، بخلاف المظهر لاستقلاله. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((حتفه)) ((نه)): يقال: مات حتف أنفه وهو أن بموت علي فراشه، كأنه سقط لأنفه فمات، والحتف الهلاك، كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. الحديث الحادي عشر عن أبي أمامة: قوله: ((نهيت عن ضرب أهل الصلاة)) وذلك أن المصلي غالبا لا يأتي بما يستحق عليه الضرب؛ لأن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فإذا كان الله رفع عنه الضرب في الدنيا نرجو من كرمه ولطفه في الآخرة بدخول النار ((ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)) الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ثم أعاد)) ((ثم)) فيه تدل

3368 - ورواه الترمذي، عن عبد الله بن عمرو. [3368] 3369 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لاءمكم من مملوكيكم، فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تكسون، ومن لا يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله)) رواه أحمد، وأبو داود. [3369] 3370 - وعن سهيل بن الحنظلية، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير، قد لحق ظهره ببطنه، فقال: ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة واتركوها صالحة)). رواه أبو داود. [3370] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي التراخي بين السؤالين، وذلك يدل علي الاهتمام بشأنه، ومن ثم عقبه بقوله: ((فصمت)) بالفاء السببية، ولم يأت في النوبة الأولي به بناء علي الاعتبار بشأنه، يعني لما رأي ذلك الاهتمام والاعتناء صمت، إما للتفكير وإما لإنزال الوحي. وقوله: ((سبعين مرة)) مبني علي أحد الأمرين الذي هو التكثير دون التحديد. وهو نصب علي المصدر أي سبعين عفوة. الحديث الثالث عشر عن أبي ذر: قوله: ((من لاءمكم)) ((نه)): أي وافقكم وساعدكم، وقد تخفف الهمزة، لتصير ياء. وفي الحديث يروى بالياء منقلبة عن الهمزة. قوله: ((لا تعذبوا خلق الله)) يعني أنتم وهم سواء في كونكم خلق الله، ولكم فضل عليهم بأن ملكتم أيمانهم، فإن وافقوكم فأحسنوا إليهم، وإلا فاتركوهم إلي غيركم، وهو من قوله تعالي: {واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلي بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلي مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، وكان ينبغي أن تردوا أفضل ما رزقتم عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم. الحديث الرابع عشر عن سهل: قوله: ((البهائم المعجمة)) ((قض)): المعجمة التي لا تقدر علي النطق؛ فإنها لا تطيق أن تفصح عن حالها، وتتضرع إلي صاحبها من جوعها وعطشها. وفيه دليل علي وجوب علف الدواب، وان الحاكم يجبر المالك عليه. وقوله: ((فاركبوها صالحة)) ترغيب إلي تعهدها بالعلف لتكون مهيئة لائقة لما تريدون منها، فإن أردتم أن تركبوها فاركبوها وهي صالحة للركوب قوية علي المشي، وإن أردتم أن تتركوها للأكل فتعهدوها؛ لتكون سمينة صالحة للأكل.

الفصل الثالث 3371 - عن ابن عباس، قال: لما نزل قوله تعالي: {ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا} الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فإذا فضل من طعام اليتيم وشرابه شيء حبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالي: {ويَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وإن تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبو داود، والنسائي. [3371] 3372 - وعن أبي موسى، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وبين أخيه. رواه ابن ماجه، والدارقطني. [3372] 3373 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالسبي أعطى أهل البيت جميعا، كراهية أن يفرق بينهم. رواه ابن ماجه. 3374 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده)). رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني والثالث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أهل البيت)) ثإني مفعولي ((أعطى)) و ((جميعا)) حال مؤكدة، والمفعول الأول وهو المعطى له متروك منسي؛ لأن الكلام سيق للمعطى، وأنه مما لا ينبغي أن يفرق بين الأهالي؛ ولذلك أكده. ونظيره قوله تعالي: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} الكشاف: وإنما ترك ذكر المفعول به؛ لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل. وإذا كان الكلام منصبا إلي غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كان ما سواه مرفوض مطروح. الحديث لرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وحده)) حال، والرفد العطية والصلة، والمعنى شرار الناس البخيل السيئ الخلق.

(18) باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر

3375 - وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة سيئ الملكة)). قالوا: يا رسول الله! أليس أخبرتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين ويتامى؟ قال: ((نعم، فأكرموهم ككرامة أولادكم، وأطعموهم مما تأكلون)). قالوا: فما تنفعنا الدنيا؟ قال: ((فرس تربطه، تقاتل عليه في سبيل الله، ومملوك يكفيك، فإذا صلي فهو أخوك)). رواه ابن ماجه. [3375] (18) باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر الفصل الأول 3376 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: عرضت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا فرق مابين المقاتلة والذرية. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحدي الخامس عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((أليس أخبرتنا)) توجيه أنك يا رسول الله! ذكرت أن سيئ الملكة لا يدخل الجنة، وان أمتك إذا أكثروا المماليك لا يسعهم مداراتهم فيسيئون معهم، فما بالهم؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم جواب الحكيم بقوله: ((نعم فأكرموهم)) وذكر اليتامى استطرادا. وكذا الجواب الثاني ((فرس تربطه)) وارد علي ذلك الأسلوب لأن المرابطة ولجهاد مع الكفار ليس من الدنيا. باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر المغرب: الحضن ما دون الإبط، والحاضنة المرأة توكل بالصبي فترفعه وتربيه وقد حضنت ولدها حضانة. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((فأجازني)) قيل: معناه أجازني في المبايعة. وقيل: كتب الجائزة وهي رزق الغزاة. وقوله: ((هذا فرق مابين المقاتلة)) يريد إذا بلغ الصبي خمس عشرة دخل في زمرة المقاتلين، وأثبت في الديوان اسمه، وإذا لم يبلغها عد من الذرية. ((حس)): العمل علي هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إذا استكمل الغلام أو الجارية خمس عشرة سنة كان بالغا، وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما، وإذا احتلم واحد منهما قبل بلوغه هذا

3377 - وعن البراء بن عازب، قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية علي ثلاثة أشياء: علي أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلي أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام، فلما دخلها ومضى الأجل خرج، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم! فتناولها علي، فأخذ بيدها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي. وقال جعفر: بنت عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: بنت أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)). وقال لعلي: ((أنت مني وأنا منك)). وقال لجعفر: ((أشبهت خلقي وخلقي)). وقال لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)). متفق عليه. الفصل الثاني 3378 - وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عبد الله بن عمرو: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت أحق بهم ما لم تنكحي)) رواه احمد، وأبو داود. [3378] 3379 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه. رواه الترمذي. [3379] 3380 - وعنه، قال: جاءت امرأة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يريد أن ـــــــــــــــــــــــــــــ المبلغ بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغه، وكذلك إذا حاضت الجارية بعد تسع، ولا حيض ولا احتلام قبل بلوغ التسع. الحديث الثاني عن البراء: قوله: ((قال زيد: بنت أخي)) ذكر صاحب جامع الأصول في قسم أسماء الرجال، أن زيدا هذا هو زيد بن حارثة، آخى بينه وبين عمه حمزة، وفي الفائق: لما قال صلى الله عليه وسلم لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)) حجل أي رفع رجلا وقفز علي الأخرى من الفرح – انتهي كلامه. لعل المراد بقوله: ((أخونا)) هذه المؤاخاة، وبقوله: ((مولانا)) ما روى أنه كان يدعى بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

يذهب بابني، وقد سقإني ونفعني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت)). فاخذ بيد أمه، فانطلقت به. رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. [3380] الفصل الثالث 3381 - عن هلال بن أسامة، عن أبي ميمونة سليمان مولي لأهل المدينة، قال: بينا أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية، معها ابن لها، وقد طلقها زوجها، فادعياه، فرطنت له تقول: يا أبا هريرة! زوجي يريد أن يذهب بابني. فقال أبو هريرة: أستهما عليه. رطن لها بذلك. فجاء زوجها، وقال: من يحاقني في ابني؟ فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا إني كنت قاعدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته امرأة، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني، وسقإني من بئر أبي عنبة - وعند النسائي: من عذب الماء - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أستهما عليه)). فقال زوجها من يحاقني في ولدي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أبوك وهذه، أمك فخذ بيد أيهما شئت)) فأخذ بيد أمه. رواه أبو داود، والنسائي لكنه ذكر المسند. [3381] ورواه الدارمي عن هلال بن أسامة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني والثالث عن عمرو: قوله: ((حجري له حواء)) الحجر يفتح ويكسر وجمعه حجور، والحواء اسم المكان الذي يحوي الشيء أي يضمه ويجمعه، ولعل هذا الصبي ما بلغ سن التميز، فقدم الأم لحضانته، والصبي في حديث أبي هريرة كان مميزا فخيره. الفصل الثالث الحديث الأول عن خلال: قوله: ((فرطنت له)) ((نه)): الرطانة بفتح الراء وكسرها والتراطن كلام لا يفهمه الجمهور، وإنما هو مواضعة بين اثنين أو جماعة، والعرب تخص بالرطانة غالبا كلام العجم. وقوله: ((أستهما)) أي اقترعا. وقوله: ((من يحاقني)) أي ينازعني في حقي ويختصم. أقول: قوله: ((إلا إني)) أي إلا لإني.

كتاب العتق

كتاب العتق الفصل الأول 3382 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه)). متفق عليه. 3383 - وعن أبي ذر، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قال: قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها)). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعا أو تصنع لأخرق)). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها علي نفسك)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب العتق المغرب: العتق الخروج من المملوكية، يقال: عتق العبد عتقا وعتاقا وعتاقة وهو عتيق وأعتقه مولاه، ثم جعل عبارة عن الكرم وما يتصل به كالحرية، فقيل: فرس عتيق رائع، وعتاق الخيل والطير كرائمها. وقيل: مدار التركيب علي التقدم، ومنه العاتق لما بين المنكب والعنق لتقدمه، والعتيق القديم. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رقبة مسلمة)) ((نه)): الرقبة في الأصل العنق، فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه. فإذا قال: أعتق رقبة فكأنه قال: أعتق عبدا أو أمة. قوله: ((حتى فرجه بفرجه)) ((شف)): إنما خص الفرج بالذكر؛ لأنه محل أكبر الكبائر بعد الشرك، وهو كقولهم: مات الناس حتى الكرام، فيفد قوة. ((مظ)): ذكر الفرج للتحقير نسبة إلي باقي الأعضاء. ((خط)) يستحب عند بعض أهل العلم أن لا يكون العبد المعتق خصيا؛ كيلا يكون ناقص العضو؛ ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار بإعتاقه إياه من الرق في الدنيا. الحديث الثاني عن أبي ذر: قوله: ((لأخرق)) ((نه)): الخرق - بالضم - الجهل والحمق، وقد خرق يخرق خرقا فهو أخرق. ((قض)): الأخرق هنا الذي لا يحسن صنعة ولا يهتدي إليها. وفيه ((تدع الناس من الشر)) أي تكف عنهم شرك ((فإنها صدقة)) الضمير للمصدر الذي دل عليه الفعل، وأنثه لتإنيث الخبر ((تصدق بها علي نفسك)) أي تتصدق بهذه الصدقة علي نفسك من أنها محافظة لها عما يريدها ويعود وباله إليها.

الفصل الثاني 3384 - عن البراء بن عازب، قال: جاء أعرابي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملا يدخلني الجنة. قال: ((لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة)). قال: أوليسا واحدا؟ قال: ((لا؛ عتق النسمة: أن تفرد بعتقها. وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها، والمنحة: الوكوف، والفيء علي ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3384] 3385 - وعن عمرو بن عبسة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من بنى مسجدا ليذكر الله فيه، بني له بيت في الجنة. ومن أعتق نفسا مسلمة، كانت فديته من جهنم. ومن شاب شيبة في سبيل الله، كانت له نورا يوم القيامة)). رواه في ((شرح السنة)). [3385] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن البراء: قوله: ((لئن كنت أقصرت)) ((قض)): اللام موطئة للقسم، ومعنى الشرطية أنك إن أقصرت في العبارة فقد أطلت في الطلب، أو سألت عن أمر ذي طول وعرض. و ((النسمة)) النفس، ووجه الفرق المذكور أن العتق إزالة الرق، وذلك لا يكون إلا من المالك الذي يعتق، وأما الفك فهو السعي في التخليص، فيكون من غيره كمن أدى النجم * عن المكاتب أو أعانه فيه. و ((المحنة)) العطية في الأصل، وغلبت في لبون من ناقة أو شاة يعطيها صاحبها بعض المحاويج؛ لينتفع بلبنها ما دامت تدر. و ((الوكوف)) العزيزة الدر من وكف البيت وكفا ووكيفا ووكافا، إذا قطر. و ((الفئ)) التعطيف والرجوع إليه بالبر. والرواية المشهورة فيهما النصب علي تقدير وامنح المنحة، وآثر الفئ علي ذي الرحم؛ ليحسن العطف علي الجملة السابقة، وإن صحت الرواية بالرفع فيهما علي الابتداء، والتقدير: ومما يدخل الجنة المنحة والفئ.

الفصل الثالث 3386 - عن الغريف بن [عياش] الديلمي، قال: أتينا واثلة بن الأسقع، فقلنا: حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان، فقضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص. فقلنا: إنما أردنا حديثا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب – يعني النار – بالقتل. فقال: ((أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار)). رواه أبو داود، والنسائي. [3386] 3387 - وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة الشفاعة، بها تفك الرقبة)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3387] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن الغريف: قوله: ((معلق في بيته)) تأكيد، يعني يقرأه ليلا ونهارا لا يغيب عنه ساعة. وفي قوله: ((فيزيد وينقص)) مبالغة لا أنه تجوز الزيادة والنقصان. وفيه جواز رواية الحديث بالمعنى، ونقصان الألفاظ وزيادتها مع رعاية المعنى والمقصد منه. وقوله: ((فقلنا: إنما أردنا حديثا سمعته)) معناه ما أردنا بقولنا: حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان ما عنيت به من انتفاء الزيادة في الألفاظ، وإنما أردنا حديثا سمعته. الحديث الثاني عن سمرة: قوله: ((تفك الرقبة)) ((بها)) متعلق ((تفك)) فقدم عليه، ولو روى شفاعة نكرة كان صفة له. ولو ذهب إلي أن الشفاعة جنس علي منوال قولهم: ولقد أمر علي اللئيم يسبني لبعد المرمى. ولو قيل بأنه حال كان أبعد وأبعد. وأما إذا أريد بفك الرقبة خلاص الرجل من الشدة والعذاب بسبب الشفاعة علي أن تكون الجملة استئنافية، كأنه لما قيل: أفضل الصدقة الشفاعة، قيل: لماذا؟ أجيب: بها يتخلص الإنسان من الشدة – لتم الكلام وصح المعنى – كقوله تعالي: {مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} لكن خرج من الباب.

(1) باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب

(1) باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض الفصل الأول 3388 - عن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطي شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)). متفق عليه. 3389 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق شقصا في عبد أعتق كله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب إعتاق العبد المشترك الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((شركا له)) أي حصة ونصيبا. ((حس)): فيه دليل علي أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره وهو موسر بقيمة نصيب الشريك يعتق كله عليه بنفس الإعتاق، ولا يتوقف علي أداء القيمة ولا علي الاستسعاء، ويكون ولاءه كله للمعتق. والدليل علي أن العتق لا يتوقف علي الأداء أنه لو لم يعتق قبل الأداء لما وجبت القيمة، وإنما تجب علي تقدير انتقال أو قرض أو إتلاف، ولم يوجد الأخيران فتعين الأول وهو الانتقال إليه. وإن كان معسرا أعتق نصيبه، ونصيب الشريك رقيق، لا يكلف إعتاقه ولا يستسعى العبد في فكه. وهو قول الشافعي. ((مح)): من أعتق نصيبه من عبد مشترك قوم عليه باقيه إذا كان موسرا بقيمة باقيه، سواء كان العبد مسلما أو كافرا، وسواء كان الشريك مسلما أو كافرا، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد ولا للمعتق، بل ينفذ الحكم وإن كرهوه كلهم؛ مراعاة لحق الله تعالي في الحرية. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شقصا)) ((نه)) الشقص والشقيص النصيب في العين المشتركة من كل شيء. قوله ((استسعى)) ((مح)): الاستعساء أن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل قيمة رضي * الشريك الآخر بها، فإذا دفعها إليه عتق، كذا فسره الجمهور. وقال بعضهم: هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ماله فيه من الرق، فعلي هذا تتفق الأحاديث. ومعنى ((غير مشقوق عليه)) أي لا يكلف ما يشق عليه. ((حس)): ((غير مشقوق عليه)) قال بعضهم: أي لا يستغلي عليه في الثمن.

3390 - وعن عمران بن حصين: أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا. رواه مسلم، ورواه النسائي عنه وذكر: ((لقد هممت أن لا أصلي عليه)) بدل: وقال له قولا شديدا. وفي رواية أبي داود: قال: ((لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين)). 3391 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)) رواه مسمل. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): قال القاضي: في ذكر الاستسعاء هنا خلاف بين الرواة، قال الدارقطني: روى هذا الحديث شعبة وهشام [عن] * قتادة – وهما أثبت – فلم بذكرا فيه الاستسعاء ووافقهم ** همام، ففصل الاستسعاء عن الحديث [فجعله] * من رأي قتادة. قال: وعلي هذا أخرجه البخاري وهو الصواب. قال الدارقطني: وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول: ما أحسن ما رواه همام وضبطه! ففصل قول قتادة عن الحديث. قال بعضهم: إسقاط السعاية من الحديث أولي من ذكرها؛ ولأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر. وقال ابن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها. الحديث الثالث عن عمران: قوله: ((فجزأهم أثلاثا)) ((أثلاثا)) مصدر، ((حس)): فيه دليل علي أن العتق المنجز في مرض الموت كالمعلق بالموت في الاعتبار من الثلث، وكذلك التبرع المنجز في مرض الموت. قوله: ((قولا شديدا)) ((مح)): معناه: قال في شأنه قولا شديدا؛ كراهة لفعله وتغليظا عليه، والرواية الأخرى: ((لقد هممت أن لا أصلي عليه)) مفسرة له. وهذا محمول علي أن النبي صلى الله عليه وسلم وحده كان يترك الصلاة عليه تشديدا وتغليظا وزجرا لغيره عن مثل فعله، وأما الصلاة عليه فلا بد منها من بعض الصحابة. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيعتقه)) ((قض)): ذهب بعض أهل الظاهر إلي أن الأب لا يعتق علي ولده إذا تملكه، وإلا لم يصح ترتيب الإعتاق علي الشراء. والجمهور علي أنه يعتق بمجرد التملك من غير أن ينشيء فيه عتقا، وأن قوله: ((فيعتقه)) معناه فيعتقه بالشراء لا بإنشاء عتق، والترتيب باعتبار الحكم دون الإنشاء. ((حس)): قالوا: إذا اشترى الرجل أحدا من آبائه أو أمهاته، أو أحدا من أولاده وأولاد أولاده، أو ملكه بسبب آخر يعتق عليه من غير أن ينشيء فيه عتقا. ((مظ)): فعلي هذا الفاء في ((فيعتقه)) للسببية، يعني فيعتقه بسبب شرائه، ولا يحتاج إلي قوله: أعتقتك بعد الشراء، بل عتق

3392 - وعن جابر: أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا ولم يكن له مال غيره، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((من يشتريه مني؟)) فاشتراه نعيم بن النحام بثمانمائة درهم. متفق عليه، وفي رواية لمسلم: فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم، فجاء بها إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعها إليه ثم قال: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) يقول: فبين يديك وعن يمينك [وعن] * شمالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ بنفس الشراء. ومن ذهب إلي أنه لا يعتق بنفس الشراء يجعل الفاء في ((فيعتقه)) للتعقيب لا للسببية، وإذا صح الشراء ثبت الملك، والملك قيد التصرف. أقول: هذا وأمثاله مما لا يشفي الغليل؛ لأن الأبوة تقتضي المالكية كما سبق في حديث عمرو بن شعيب ((أنت ومالك لوالدك)) وقوله تعالي: {وعَلي المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ} والشراء من مقدمات الملك، والعتق من مقتضياته، كما تقرر في علم الأصول أن من قال: اعتق عبدك عني، يقتضي تمليكه إياه ثم عتقه عنه، فالجميع بينهما جمع بين المتنافيين. والحديث من باب التعليق بالمحال للمبالغة، المعنى: لا يجزى ولد والده إلا أن يملكه فيعتقه وهو محال، فالمجازاة محال، كما في قوله تعالي: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، الكشاف: يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه، وسد الطريق إلي إباحته، كما يعلق بالمحال. ويجوز أن تكون الفاء كما في قوله تعالي: {فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} إذا جعلت التوبة نفس القتل. وقوله: ((مملوكا)) نصب علي الحال من الضمير المنصوب في ((يجده)). الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((دبر مملوكا له)) ((حس)): اختلفوا في بيع المدبر، فأجازه جماعة علي الإطلاق، واليه ذهب الشافعي وأحمد. وروى عن عائشة رضي الله عنها: أنها باعت مدبرة لها سحرتها، فأمرت ابن أختها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها. وقال جماعة: لا يجوز بيعه إذا كان التدبير مطلقا، وهو أن يقول: إذا مت فأنت حر من غير أن يقيد بشرط أو زمان، أو قاسوا المدبر علي أم الولد؛ لتعلق عتق كل واحد منهما بموت المولي علي الإطلاق، [وتأولوا] ** علي التدبير المقيد وهو أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في شهري

الفصل الثاني 3393 - عن الحسن، عن سمرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ملك ذا رحم محرم فهو حر)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3393] 3394 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه – أو بعده -)). رواه الدارمي. [3394] ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا فأنت حر؛ فإنه يجوز بيع هذا المدبر عندهم. والأول أولي؛ لأن الحديث جاء في بيع المدبر إذا أطلق، يفهم منه التدبير المطلق لا غيره، وليس كأم الولد؛ لأن سبب العتق في أم الولد أشد تأكيدا منه في المدبر، بدليل أن استغراق التركة بالدين لا يمنع عتق أم الولد ويمنع عتق المدبر، وأن أم الولد تعتق من رأس المال، والمدبر عتقه من الثلث، فظهر الفرق بينهما. واتفقوا علي جواز وطء المدبرة كما يجوز وطء أم الولد. قوله: ((فهكذا وهكذا)) جواب للشرط، كناية عن التفريق أشتاتا علي من جاء عن يمينه وشماله وأمامه. فقوله: ((فبين يديك)) – إلي آخره – تفسير للتفريق، ((وهكذا)) نصب علي المصدر. الفصل الثاني الحديث الأول عن الحسن: قوله: ((من ملك ذا رحم محرم)) ((مح)): اختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا، فقال أهل الظاهر: لا يعتق أحد منهم بمجرد الملك سواء الوالد والولد وغيرهما، بل لا بن من إنشاء عتق. واحتجوا بحديث أبي هريرة. وقال الجمهور: يحصل العتق في الأصول وإن علو، وفي الفروع وإن سفلوا بمجرد الملك، سواء المسلم والكافر. وتحريره: أنه يعتق عمودى النسب بكل حال. واختلفوا فيما ورائهما، فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك، وقال مالك: يعتق الإخوة أيضا، وعنه رواية أنه يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة، ورواية ثالثة كمذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعتق جميع ذوي [الأرحام] * المحرمة. ((قض)) قال أبو داود في كتابه: لم يحدث هذا الحديث مسندا [إلد] ** حماد بن سلمة، وقد شك فيه، ولهذا لم يقل به الشافعي، واقتصر علي عتق الأصول والفروع. ((حس)): وحديث سمرة لا يعرف مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة، ورواه بعضهم عن قتادة عن الحسن عن عمرو، ورواه بعضهم عن الحسن مرسلا. أقول: [يشم] * من سياق

3395 - وعن جابر، قال: بعنا أمهات الأولاد علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا عنه، فانتهينا. رواه أبو داود. [3395] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث معنى الاستحباب؛ إذ جعل الخبر من باب الإخبار والتنبيه علي تحري الأولي، إذ لم يقل: من ملك ذا رحم محرم فيعتقه أو يحرره، بل قيل: ((فهو حر)) والجملة الاسمية التي تقتضي الدوام والثبوت في الأزمنة الماضية والآتية تنبئ عن هذا؛ لأنه ما كان في الأزمنة الماضية حرا، وكذا في الآتية. الحديث الثاني والثالث عن جابر: قوله: ((بعنا أمهات الأولاد)) ((تو)): يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة، ويحتمل أن بيعهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل النسخ، وهذا أولي التأولين. وأما بيعهم في خلافة أبي بكر، فلعل ذلك كان في فرد قضية، فلم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه ولا من كان عنده علم بذلك، فحسب جابر أن الناس كانوا علي تجويزه، فحدث ما تقرر عنده في أول الأمر، فلما اشتهر نسخه في زمان عمر رضي الله عنه عاد إلي قول الجماعة، يدل عليه قوله: ((فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا)). وقوله هذا من أقوى الدلائل علي بطلان بيع أمهات الأولاد، وذلك أن الصحابة لو لم يعلموا أن الحق مع عمر رضي الله عنه لم يتابعوه عليه، ولم يسكتوا عنه أيضا، ولو علموا أنه يقول من رأي واجتهاد، لجوزوا خلافه لا سيما الفقهاء منهم، وإن وافقه بعضهم خالفة آخرون، يشهد بصحة هذا التأويل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه)). فإن قيل: أو ليس علي رضي الله عنه قد خالف القائلين ببطلانه؟ قيل: لم ينقل عن علي رضي الله عنه خلاف اجتماع آراء الصحابة علي ما قال عمر رضي الله عنه، ولم يصح عنه أنه قضى بجواز بيعهن أو أمر بالقضاء به، بل الذي صح عنه أنه كان مترددا في القول به، وقد سئل شريح عن قضائه فيه أيام خلافته بالكوفة، فحديثه أنه يقضي فيه بما اتفق عليه الصحابة عند نهي عمر عن بيعهن منذ ولاه عمر رضي الله عنه القضاء بها، فقال لشريح: فاقض فيه بما كنت تقضي حين يكون للناس جماعة، وترى فيه رأيا، وفاوض فيه علماء الصحابة. وهذا الذي نقل عنه محمول علي أن النسخ لم يبلغه، أو لم يحضر المدينة يوم فاوض عمر رضي الله عنه علماء الصحابة فيه. وجملة القول أن إجماعهم في زمانه علي ما حكم هو به لا يدخله النقض بأن يرى أحدهم بعد ذلك خلافه اجتهادا، والقوم رأوا ذلك توقيفا، لا سيما ولم يقطع عمر رضي الله عنه القول بخلافه، وإنما تردد فيه ترددا.

3396 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق عبدا وله مال، فمال العبد له إلا أن يشترط السيد)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [3396] 3397 - وعن أبي المليح، عن أبيه: أن رجلا اعتق شقصا من غلام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ليس لله شريك)) فأجاز عتقه. رواه أبو داود. [3397] 3398 - وعن سفينة، قال: كنت مملوكا لأم سلمة، فقالت: أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فقلت: إن لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت، أعتقتني واشترطت علي. رواه أبو داود، وابن ماجه. [3398] 3399 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم)). رواه أبو داود. [3399] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فمال العبد)) ((قض)): يريد بمال العبد ما في يده وحصل بكسبه، وإضافته إلي العبد إضافة الاختصاص دون التملك، والضمير في ((له)) في قوله: ((فمال العبد له)) لمن أعتق ((إلا أن يشترط السيد)) أي للعبد، فيكون منحة منه وتصدقا. الحديث الخامس عن أبي المليح: قوله: ((ليس لله شريك)) ((مظ)): يعني الأولي أن يعتق جميع عبده؛ فإن العتق لله سبحانه، فإن أعتق بعضه فيكون أمر سيده نافذا فيه بعد، فهو كشريك له تعالي صورة. أقول: قد سبق أن السيد والمملوك في كونهما مخلوقين لله سواء، إلا أن الله تعالي فضل بعضهم علي بعض وجعله تحت تصرفه تمتعا. وإذا رجع بعضه إلي الأصل سرى بالغلبة إلي البعض الآخر؛ إذ ليس لله شريك في شيء من الأشياء. الحديث السادس عن سفينة: قوله: ((وأشترط عليه)) ((خط)): هذا وعد عبر عنه باسم الشرط، وأكثر الفقهاء لا يصححون إبقاء الشرط بعد العتق؛ لأنه شرط لا يلاقي ملكا، ومنافع الحر لا يملكها غيره إلا بإجارة أو ما في معناها. ((حس)): لو قال أحد لعبد: أعتقتك علي أن تخدمني شهرا، فقبل، عتق في الحال وعليه خدمة شهر. ولو قال: علي أن تخدمني أبدا، أو قال مطلقا، فقبل، عتق في الحال وعليه قيمة رقبته للمولي. وهذا الشرط إن كان مقرونا بالعتق فعلي العبد القيمة ولا خدمة، وإن كان بعد العتق فلا يلزم الشرط ولا شيء علي العبد عند أكثر الفقهاء.

3400 - وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء فلتحتجب منه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3400] 3401 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كاتب عبده علي مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق – أو قال: عشرة دنإنير – ثم عجز فهو رقيق)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3401] 3402 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه)). رواه أبو داود، والترمذي. وفي رواية له قال: ((يودي المكاتب بحصة ما أدى دية حر، وما بقي دية عبد)). وضعفه. [3402] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن عن أم سلمة: قوله: ((فلتحتجب)) ((قض)): هذا أمر محمول علي التورع والاحتياط؛ لأنه بصدد أن يعتق بالأداء لا أنه يعتق بمجرد أن يكون واجدا للنجم؛ فإنه لا يعتق ما لم يؤد الجميع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)) ولعله قصد به منع المكاتب عن تأخير الأداء بعد التمكن؛ ليستبيح به النظر إلي السيد، وسد هذا الباب عليه. ((تو)): قالت أم سلمة لنبهان: ماذا بقي عليك من كتابتك؟ قال: ألفا درهم، قالت: فما عندك؟ فقال: نعم، قالت: ادفع ما بقي عليك وعليك السلام، ثم ألقت دونه الحجاب، فبكى وقال: لا أعطيه أبدا، قالت: إنك والله يا بني لن ترإني أبدا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا أنه إذا كان لعبد إحداكن وفاء بما بقي عليه من كتابته، فاضربن دونه الحجاب. الحديث التاسع والعاشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يودى)) ((شف)): هو بتخفيف الدال مجهولا من ودى يدى دية أي أعطى الدية، وانتصب ((دية حر)) مفعولا به، ومفعول ((ما أدى)) أي من النجوم محذوف عائد إلي الموصول، أي بحصة ما أداه من النجوم يعطى دية حر، وبحصة ما بقي دية عبد، ((نه)): معنى الحديث أن المكاتب إذا جنى عليه جناية وقد أدى بعض كتابته، فإن الجإني عليه أن يدفع إلي ورثته بقدر ما كان أدى من كتابته دية حر، ويدفع إلي مولاه بقدر ما بقي من كتابته ديه عبد، أو كاتب علي ألف وقيمته مائة، فأدى خمسمائة ثم قتل، فلورثة العبد خمسمائة نصف دية حر، ولمولاه خمسون نصف قيمته. ((قض)): وهو دليل علي أن المكاتب يعتق بقدر ما يؤديه من النجم، وكذا الحديث الذي روى قبله، وبه قال النخعى وحده ومع ما فيه من الطعن معارض بحديثي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

كتاب الأيمان والنذور

الفصل الثالث 3403 - عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري: أن أمه أرادت أن تعتق، فأخرت ذلك إلي أن تصبح، فماتت. قال عبد الرحمن: فقلت للقاسم بن محمد: أينفعها أن أعتق عنها؟ فقال القاسم: أتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أمي هلكت، فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) رواه مالك. [3403] 3404 - وعن يحيى بن سعيد، قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نوم نامه، فأعتقت عنه عائشة أخته رقابا كثيرة. رواه مالك. [3404] 3405 - وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى عبدا فلم يشترط ماله فلا شيء له)). رواه الدارمي. [3405] كتاب الأيمان والنذور الفصل الأول 3406 - عن ابن عمر [رضي الله عنهما]: أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: ((لا، ومقلب القلوب)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني والثالث عن يحيى بن سعيد: قوله: ((نامه)) أي نام فيه صفة مؤكدة لـ ((نوم)) والغرض بيانه أنه مات فجاءة، فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان عليه عتق فلم يتمكن من الوصية لما فاجأه، فأعتقت عنه رقابا كثيرة، وأن تكون فجعت عليه وحزنت؛ لأن موت الفجأة أسف من الله ففدت عنه رقابا كثيرة. والله أعلم بالصواب. باب الأيمان والنذور المغرب: اليمين خلاف اليسار، وإنما سمي القسم يمينا؛ لأنهم كانوا يتمساحون أيمانهم حالة التحالف، وقد يسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها. وهي مؤنثة في جميع المعإني،

3407 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم. من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) متفق عليه. 3408 - وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتجمع علي أيمن كرغيف وأرغف، وأيم محذوف منه، والهمزة للقطع، وهو قول الكوفيين وإليه ذهب الزجاج. وعند سيبويه هي كلمة بنفسها وضعت للقسم، ليست جمعا لشيء والهمزة فيها للوصل. ((غب)): النذر أن توجب علي نفسك ما ليس بواجب؛ لحدوث أمر، يقال: نذرت لله نذرا، قال الله تعالي: {إني نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أكثر ما كان)) ((أكثر)) مبتدأ و ((ما)) مصدرية، والوقت مقدر و ((كان)) تامة. ((ويحلف)) حال سد مسد الخبر. وقوله: ((لا ومقلب القلوب)) معمول لقوله: ((يحلف)) أي يحلف بهذا القول، ولا نفي للكلام السابق، ((ومقلب القلوب)) إنشاء قسم، ونظيره قولك: أخطب ما يكون الأمير قائما. وقد مر الكلام في تخصيص هذا القول. الحديث الثاني والثالث عن عبد الرحمن: قوله: ((بالطواغي)) ((قض)): الطواغي جمع طاغية، وهي فاعلة من الطغيان، والمراد به الأصنام، سميت بذلك؛ لأنها سبب الطغيان فهي كالفاعلة له وقيل: الطاغية مصدر كالعافية، سميت بها الصنم مبالغة ثم جمعت علي صواع. وكانت العرب في جاهليتهم يحلفون بها وبآبائهم فنهوا عن ذلك ليكونوا علي تيقظ في محاوراتهم، حتى لا يسبق بهم لسانهم جريا علي ما تعودوه. ((مح)): قالوا: الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالي أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به. وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالي، ولا يضاهي به غيره، وقد جاء عن ابن عباس: ((لأن أحلف بالله تعالي مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبره)). ويكره الحلف بغير أسماء الله تعالي وصفاته، سواء في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم والكعبة والملائكة والأمانة والحياة والروح وغير ذلك، ومن أشدها كراهة الحلف بالأمانة.

3409 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى؛ فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحيه: تعال أقامرك؛ فليتصدق)) متفق عليه. 3410 - وعن ثابت بن الضحاك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف علي ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قيل: قد أقسم الله بمخلوقاته، كقوله تعالي: ((والصافات، والذاريات)) فالجواب أن الله تعالي يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها علي شرفها. وأنشد في المعنى: ويقبح من سواك الشيء عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا فإن قيل: هذا الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح وأبيه)) فجوابه أن هذه كلمة تجري علي اللسان لا يقصد بها اليمين. ((قض)): بل هو من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلي النداء. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فليقل: لا إله إلا الله)) ((حس)): فيه دليل علي أنه لا كفارة علي من حلف بغير الإسلام بل يأثم به وتلزمه التوبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل عقوبته في دينه، ولم يوجب في ماله شيئا. وإنما أمره بكلمة التوحيد؛ لأن اليمين إنما تكون بالمعبود، فإذا حلف باللات والعزى، فقد ضاهي الكفار في ذلك؛ فأمره أن يتداركه بكلمة التوحيد. أقول: إنما قرن القمار بذكر الأصنام؛ تأسيا بالتنزيل في قوله: {إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ} فمن حلف بالأصنام فقد أشركها بالله في التعظيم، فوجب تداركها بكلمة التوحيد، ومن دعا إلي المقامرة فوافق أهل الجاهلية في تصدقهم بالميسر، فكفارته التصدق بقدر ما جعله خطرا، أو بما تيسر مما يصدق عليه اسم الصدقة، وفيه أن من دعا إلي اللعب فكفارته التصدق، فكيف بمن لعب؟ ((مح)): قال القاضي: فيه دلالة لمذهب الجمهور علي أن العزم علي المعصية إذا استقر في القلب، أو تكلم باللسان يكتب عليه ذنب. الحديث الخامس عن ثابت: قوله: ((علي ملة غير الإسلام)) ((قض)): الحلف بغير الإسلام مثل أن يقول الرجل: إن فعل كذا فهو يهودي، أو برئ من الإسلام. وقوله: ((فهو كما قال)) ظاهره أنه يختل بهذا الحلف إسلامه، ويصير كما قال، ويحتمل أن يعلق ذلك بالحنث؛ لما روى بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا فلن يرجع إلي الإسلام سالما))، ولعل المراد به التهديد والمبالغة في الوعيد، لا الحكم بأنه صار يهوديا أو بريئا من الإسلام، وكأنه قال: فهو مستحق لمثل عذاب ما قال، ونظيره قوله

ملة غير الإسلام كاذبا، فهو كما قال. وليس علي ابن آدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله، ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة)). متفق عليه. 3411 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني والله إن شاء الله لا ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم: ((من ترك صلاة فقد كفر)) أي استوجب عقوبة من كفر، وهذا النوع من الكلام هل يسمى في عرف الشرع يمينا؟ وهل تتعلق الكفارة بالحنث فيه؟ فذهب النخعي والأوزاعي والثوري وأصحاب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق إلي أنه يمين، تجب الكفارة بالحنث فيها. وقال مالك والشافعي وأبو عبيد: إنه ليس بيمين ولا كفارة فيه، لكن القائل به أثم صدق فيه أو كذب، وهو قول أهل المدينة. ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم رتب عليه الإثم مطلقا، ولم يتعرض للكفارة. وقوله: ((ليس علي ابن آدم نذر فيما لا يملك)) معناه أنه لو نذر بعتق عبد لا يملكه، أو ليضحي بشاة غيره أو نحو ذلك، لم يلزمه الوفاء به، وإن دخل ذلك في ملكه. وفي رواية ((ولا نذر فيما لا يملك)) أي لا صحة له ولا عبرة. وقوله: ((من لعن مؤمنا فهو كقتله)) أي في التحريم أو العقاب، والضمير للمصدر الذي دل عليه الفعل، أي فلعنه كقتله. وكذا الضمير في قوله: ((ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله)) ووجه التشبيه هاهنا أظهر؛ لأن النسبة إلي الكفر الموجب للقتل، فالقاذف بالكفر تسبب إليه، والمتسبب إلي الشيء كفاعله. والقذف في الأصل الرمي، ثم شاع عرفا في الرمي بالزنا، ثم استعير للرمي بكل ما يعاب به ويحيق به ضر. قوله: ((ليتكثر بها)) قيد للدعوى الكاذبة. فإن قلت: مفهومه أنه إذا لم يكن الغرض استكثار المال، لم يترتب عليه هذا الحكم. قلت: للقيد فائدة سوى المفهوم، وهي مزيد الشناعة علي الدعوى الكاذبة واستهجان الغرض فيها، يعني ارتكاب هذا الأمر العظيم لهذا الغرض الحقير غير مبارك. الحديث السادس عن أبي موسى: قوله: ((إني والله)) الحديث أوله: قال أبو موسى: ((أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين)). قال المالكي: فيه شاهد علي ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل من ضمير الحاضر بدل كل من كل فيما لا يدل علي إحاطة. وعليه حمل الأخفش قوله تعالي: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلي يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ}. وإنما قيدت ببدل الكل من الكل؛ احترازا من البعض والاشتمال؛ فإنهما جائزان بالاتفاق، وقيدت بلا يدل علي

أحلف علي يمين فأرى غيرها خيرا منها؛ إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)). متفق عليه. 3412 - وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت علي يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)). وفي رواية: ((فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) , متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإحاطة؛ لأن الدال عليها جائز بالإجماع، كقوله تعالي: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وآخِرِنَا} وشهد بصحة ما ذهب إليه الأخفش: وشوهاء تغدوني إلي صارخ الورى بمستليم مثل الفتيق المدخل أقول: هو عند علماء البديع تجريد، كأنه جرد من نفسه مستليما وهو مبالغة. قوله: ((لا أحلف علي يمين)) جواب القسم و ((إن شاء الله)) معترضة، والقسيمة خبر ((إن)) الكشاف: سمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين. ((نه)): الحلف هو اليمين، كما تقول: حلف يحلف حلقا، وأصلها العقد بالعزم والنية، فخالف بين اللفظين، أي ((حلف)) و ((علي يمين)) تأكيدا لعقده وإعلاما أن لغو اليمين لا ينعقد. أقول: يؤيد هذا الوجه ما روى النسائي عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما علي الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته)) فإنه لا يدل إلا علي التأكيد: لأن ((أحلف عليها)) صفة مؤكدة لـ ((يمين))، نحو أمس الدابر لا يعود، أي من حلف علي حلف، كقول المتنبي: أرق علي أرق ومثلي يأرق والمعنى من حلف يمينا جزما لا لغوا ثم بدا له أمر آخر إمضاؤه أفضل من إبرار يمينه، فليأت ذلك الأمر وليكفر عن يمينه، فعلي هذا ((يمين)) مصدر مؤكدة لقوله: ((أحلف)). ((حس)): اختلفوا في تقديم كفارة اليمين علي الحنث، فذهب أكثر الصحابة وغيرهم إلي جوازه وإليه ذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، إلا أن الشافعي يقول: إن كفر بالصوم قبل الحنث فلا يجوز، وإنما يجوز العتق أو الإطعام أو الكسوة، كما يجوز تقديم الزكاة علي الحول، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته.

3413 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف علي يمين فرأي خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليفعل)). رواه مسلم. 3414 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)). متفق عليه. 3415 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمينك علي ما يصدقك عليه صاحبك)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عبد الرحمن: قوله: ((وكلت إليها)) معناه أن الإمارة أم شاق لا يخرج عن عهدتها إلا الأفراد من الرجال، فلا تسألها عن تشرف نفس، فإنك إن سألتها تركت معها، فلا يعينك الله عليها، وإن أوتيت من غير مسألة أعانك الله عليها. الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لأن يلج)) ((قض)): يقال: لججت ألج – بكسر الماضي وفتح المضارع، وبالعكس – لجا ولجاجة، يريد به أن الرجل إذا حلف علي شيء وأصر عليه لجاجا مع أهله، كان ذلك أدخل في الوزر وأفضى إلي الإثم من أن يحنث في يمينه ويكفر عنها؛ لأنه جعل الله تعالي بذلك عرضة الامتناع عن البر والمواساة مع الأهل والإصرار علي اللجاج، وقد نهي عن ذلك بقوله: {ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} الآية، و ((آثم)) اسم تفضيل أصله أن يطلق للاج الآثم فأطلقه للجاج الموجب للإثم علي سبيل الاتساع، والمراد به أنه يوجب مزيدا ثم مطلقا بالإضافة إلي ما نسب إليه؛ فإنه أمر مندوب علي ما تشهد به الأحاديث المتقدمة عليه لا إثم فيه. وقيل: معناه أنه كان يتحرج عن الحنث والتأثم فيه، ويرى ذلك، فاللجاج إثم علي زعمه وحسبانه. أقول: قوله: والمراد به أنه يوجب مزيدا ثم مطلقا، فيه نظر؛ لأن ((من)) التفصيلية في قوله: ((من أن يعطى)) تنافي الإطلاق؛ لأن آثم حينئذ تكون بمعنى اسم الفاعل وهو لا يتعدى بـ ((من)) كما في قولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، ويوسف أحسن إخوته في وجه. ولا يستبعد أن يقال: إنه من باب قولهم: الصيف أحر من الشتاء، يعني إثم اللجاج في بابه أبلغ من ثواب إعطاء الكفارة في بابه. وكذا في قوله: أصله أن يطلق للاج الآثم فأطلقه – إلي آخره، بحث؛ لأن المعنى استمراره علي عدم الحنث وإدامة الضرر علي أهله أكثر إثما من الحنث. وفائدة ذكر الأهل في هذا المقام مبالغة كما سبق في حديث ثابت بن الضحاك. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يمينك)) مبتدأ و ((علي ما يصدقك)) خبر،

3416 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليمين علي نية المستحلف)). رواه مسلم. 3417 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: أنزلت هذه الآية: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وعلي الله. رواه البخاري وفي ((شرح السنة)) لفظ ((المصابيح)) وقال: رفعه بعضهم عن عائشة [رضي الله عنها]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي واقع عليه لا تؤثر فيه التورية. ((مح)): الحديث محمول علي استحلاف القاضي أو نائبه، فإذا حلفه القاضي فحلف وورى ونوى غير ما نوى القاضي، انعقدت يمينه علي ما نوى القاضي ولا تنفعه التورية، وعليه الإجماع. وأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورى فتنفعه التورية ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه القاضي أو نائبه. وحاصله: أن الحلف علي نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجه عليها، وأما إذا حلف عند القاضي ولم يستحلفه فالاعتبار بنية الحالف، وأما إذا استحلفه القاضي بالطلاق فتنفعه التورية؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلف بالله. واعلم أن التورية وإن كانت لا يحنث بها، فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق مستحق. وهذا تفصيل مذهب الشافعي وأصحابه. ويحكى عن مالك أن ما كان من ذلك علي وجه المكر والخديعة فهو فيه حانث آثم، وما كان علي وجه العذر فلا بأس به – انتهي كلامه. وروى سويد بن حنظلة أنه قال: ((خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر الحضرمي، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي فخلوا سبيله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ((صدقت، المسلم أخو المسلم)). الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} الكشاف: اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره؛ ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدابة من أولاد الإبل: لغو، واللغو من اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه، والدليل عليه {ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ}. قوله: ((رفعه بعضهم عن عائشة)) أي رفع الحديث بعضهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم متجاوزا عن عائشة، وذلك أن قوله: ((عن عائشة قالت: أنزلت)) ظاهر في أنه موقوف عليها. فإن قلت: كيف ساغ ذكر الموقوف وهو ضعيف في صحيح البخاري؟ قلت: مثل هذا ليس بموقوف. قال ابن الصلاح: تفسير الصحابي موقوف إلا فيما يتعلق بسبب نزول آية، وما نحن فيه من هذا القبيل.

الفصل الثاني 3418 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)). [3418] 3419 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)). رواه الترمذي. [3419] 3420 - وعنه، بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بالأمانة فليس منا)). رواه أبو داود. [3420] 3421 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: إني بريء من الإسلام؛ فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا فلن يرجع إلي الإسلام سالما)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [3421] 3422 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا بالأنداد)) ((نه)): هي جمع ند – بالكسر – وهو مثل الشيء يضاده في أموره ويناده – أي يخالفه – ويريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله. الحديث الثاني والثالث عن بريدة: قوله: ((فليس منا)) ((قض)): أي من ذوي أسوتنا بل هو من المتشبهين بغيرنا؛ فإنه من ديدن أهل الكتاب. ولعله أراد به الوعيد عليه؛ فإنه حلف بغير الله. ولا تتعلق به الكفارة وفاقا، واختلفوا فيما إذا قال: وأمانة الله، فذهب الأكثرون إلي أنه لا كفارة فيه. وقال أبو حنيفة: إنه يمين تجب الكفارة بالحنث فيه، كما لو قال: بقدرة الله وعلمه؛ لأنها من صفاته؛ إذ في أسمائه الأمين. الحديث الرابع والخامس عن أبي سعيد: قوله: ((إذا اجتهد ((نه)): الاجتهاد بذل الوسع في

قال: ((لا، والذي نفس أبي القاسم بيده)). رواه أبو داود. [3422] 3423 - وعن أبي هريرة، قال: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف: لا، وأستغفر الله)). رواه أبو داود وابن ماجه. [3423] 3424 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف علي يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وذكر الترمذي جماعة وقفوه علي ابن عمر. [3424] ـــــــــــــــــــــــــــــ طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد والطاقة. أقول: وإنما كان هذا القسم بليغا في بابه لما فيه من إظهار قدرة الله تعالي وتنجيز نفسه الزكية الطاهرة عن الدنس دنس الأيام وأنها غريض منقوشة عند الله تعالي، فتكون أشرف أقسم القسم. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا وأستغفر الله)) ((قض)): أي أستغفر الله إن كان الأمر علي خلاف ذلك، وهو وإن لم يكن يمينا لكنه شابهه من حيث أنه أكد الكلام وقرره، وأعرب عن تحرجه بالكذب فيه وتحرزه عنه؛ فلذلك سماه يمينا. أقول: والوجه أن يقال: إن الواو في قوله: ((وأستغفر الله)) للعطف وهو يقتضي معطوفا عليه محذوفا، والقرينة لفظة ((لا)) لأنها لا تخلو إما أن تكون توطئة للقسم، كما في قوله تعالي: {لا أُقْسِمُ} أو رد للكلام السابق وإنشاء قسم، وعلي كلا التقديرين: المعنى لا أقسم بالله وأستغفر الله. ويؤيده ما ذهب إليه المظهر من قوله: ((إذا حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يمين لغو كان يقول: ((وأستغفر الله)) عقيبه تداركا لما جرى علي لسانه من غير قصد، وإن كان معفوا عنه، لما نطق به القرآن، ليكون به دليلا لأمته علي الاحتراز عنه. الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((إن شاء الله)) ((حس)) العمل علي هذا عند أكثر أهل العلم، وهو أن الاستثناء إذا كان موصولا باليمين، أو مفصولا عنها بسكتة يسيرة كالسكتة للذكر أو للعي أو للتنفس، فلا حنث عليه، ولا فرق بين اليمين بالله أو بالطلاق أو بالعتاق واختلفوا في الاستثناء إذا كان منفصلا عن اليمين، فذهب أكثرهم إلي أن لا يعمل به إن طال الفصل أو اشتغل بكلام آخر بينهما ثم استثنى. وقيل: يجوز الاستثناء ما دام الحالف في المجلس. قيل: وما لم يقمن وقيل: ما دام في ذلك الأمر، وقال: ابن عباس: له الاستثناء بعد حين، وقال مجاهد: بعد سنتين، وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. أقول: والفاء في قوله: ((فقال إن شاء الله)) تشعر بالاتصال فإنها موضوع لغير التراخي، وأما إجراء ((إن شاء الله)) مجرى الاستثناء فعلي المجاز، كأنه قال: أحلف بالله تعالي ((أنى أفعل كذا، ولا يمنعني من ذلك مانع إلا مشيئة الله تعالي.

(1) باب في النذور

الفصل الثالث 3425 - عن أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت ابن عم لي آتيه أسأله فلا يعطيني ولا يصلني، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله، فأمرني أن آتي الذي هو خير وأكفر عن يميني. رواه النسائي، وابن ماجه، وفي رواية قال: قلت: يا رسول الله! يأتيني ابن عمري فأحلف أن لا أعطيه ولا أصله قال: ((كفر عن يمينك)). [3425] (1) باب في النذور الفصل الأول 3426 - عن أبي هريرة، وابن عمر [رضي الله عنهم] قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي الأحوص: قوله: ((هو خير)) ليس هو للتفضيل؛ لأن المعنى دائر بين قطع الصلة ومنع المعروف ووصلها وإعطائه، وقد حض عليه في قوله: ((صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك)) ونهي عن الخلتين أبلغ نهي. باب في النذور الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تنذروا)) ((قض)): عادة الناس تعليق النذور علي حصول المنافع ودفع المضار فنهي عنه؛ فإن ذلك فعل البخلاء؛ إذ السخي إذا أراد أن يتقرب إلي الله تعالي استعجل فيه وأتى به في الحال، والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولاً، فيلتزمه في مقابلة ما سيحصل له، ويعقله علي جلب نفع أو دفع ضرر، وذلك لا يغني عن القدر شيئاً، أي نذره لا يسوق إليه خيراً لم يقدر له ولا يرد عنه شراً قضى عليه، ولكن النذر قد يوافق القدر، فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن يريد أن يخرجه. ((خط)): معنى نهيه عن النذر إنما هو لتأكيد الأمر وتحذير التهاون به بعد إيحابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل، لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به؛ إذا صار معصية. وإنما وجه الحديث أنه أعلمهم أن ذلك أمر لا يجلب لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً، ولا يرد شيئاً قضاه الله تعالي، يقول: فلا تنذروا علي أنكم تدركون شيئاً 3427 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)) رواه البخاري. 3428 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد)). رواه مسلم. وفي رواية: ((لا نذر في معصية الله)). 3429 - وعن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((كفارة النذر كفارة اليمين)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ

لم يقدره الله لكم أو تصرفون عن أنفسكم ما جرى القضاء به عليكم. وإذا فعلتم ذلك فاخرجوا منه بالوفاء؛ فإن الذي نذرتموه لازم لكم. أقول: تحريره أنه علل النهي بقوله: ((فإن النذر لا يغني من القدر ونبه به علي أن النذر المنهي عنه هو النذر المقيد الذي يعتقد أنه يغني من القدر بنفسه، كما زعموا. وكم نرى في عهدنا جماعة يعتقدون ذلك؛ لما شاهدوا من غالب الأحوال حصول المطالب بالنذر. وأما إذا نذر واعتقد أن الله تعالي هو الذي يسهل الأمور، وهو الضار النافع، والنذور كالذرائع والوسائل، فيكون الوفاء بالنذر طاعة، ولا يكون منهياً عنه، كيف وقد مدح الله تعالي الخيرة من عباده بقوله جل ثناؤه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}؟ وأما معنى ((وإنما يستخرج به من البخيل)) فإن الله تعالي يحب البذل والإنفاق، فمن سمحت أريحته فذاك، وإلا فشرع النذور ليستخرج بها مال البخيل اضطراراً، فيتسمح ويفوز بما يحبه الله تعالي من البذل. الحديث الثاني والثالث والرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فليطعه)) ((حس)): فيه دليل علي أن من نذر طاعة يلزمه الوفاء به، وإن لم يكن معلقاً بشيء، وأن من نذر معصية لا يجوز الوفاء به، ولا يلزمه الكفارة؛ إذ لو كانت فيه قيمة الكفارة، لأشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم بينه، فعلي هذا لو نذر صوم يوم العيد لا يجب عليه شيء، ولو نذر نحر ولده باطل. وإليه ذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول مالك والشافعي. فأما إذا نذر مطلقاً فقال: علي نذر ولم يسم شيئاً، فعليه كفارة اليمين؛ لما روى عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين)). وروى عن ابن عباس أنه قال: ((من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة اليمين، ومن نذر شيئاً لا يطيقه فكفارته كفارة اليمين))

3430 - وعن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)) رواه البخاري. 3431 - وعن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي شيخاً يهادي بين ابنيه، فقال: ((ما بال هذا؟)) قالوا: نذر أن يمشي إلي بيت الله قال: إن الله تعالي عن تعذيب هذا نفسه لغني)). وأمره أن يركب. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن ابن عباس: قوله: ((فسأل عنه)) ((قض)): الظاهر من اللفظ أن المسئول عنه هو اسمه؛ ولذلك أجيب بذكر اسمه، وأن ما بعده زيادة في الجواب. ويحتمل أن يكون المسئول عنه حاله فيكون الأمر بالعكس. ولعل السؤال لما كان محتملا لكل واحد من الأمرين، أجابوا بهما جميعاً. وأبو إسرائيل هذا رجل من بني عامر بن لؤي من بطون قريش. وأمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالصوم والمخالفة لما سواه، يدل علي أن النذر لا يصح إلا فيما فيه قربة، وما لا قربة فيه فنذره لغو لا عبرة به. وبه قال ابن عمر وغيره من الصحابة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقيل: إن كان المنذور مباحاً يجب الإتيان به؛ لما روى أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب علي رأسك بالدف، قال: ((أوفي بنذرك)). وإن كان محرماً تجب كفارة اليمين؛ لما روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نذر في معصية وكفارته كفارة اليمين)) ولما روى عن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((كفارة النذر كفارة اليمين)). والجواب عن الأول أنها لما قصدت بذلك إظهار الفرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسرة بنصر صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وكانت فيه مساءة الكفار والمنافقين، التحق بالقربات، مع أن الغالب في أمثال هذا الأمر أن يراد به الإذن دون الوجود. وعن الثاني أنه حديث ضعيف لم يثبت عن الثقات. وعن الثالث أنه ليس من هذا الباب؛ إذ الرواية الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين)) وذلك مثل أن تقول: لله علي نذر، ولم يسم شيئاً. وقال أصحاب أبي حنيفة: لو نذر صوم يوم العيد لزمه صوم يوم، ولو نذر نحر ولده لزمه ذبح شاة، ولو نذر ذبح والده اتفقوا علي أنه لا يلزمه ذلك. ولعل الفرق أن ذبح الولد كان قبل الإسلام ينذرونه ويعدونه قربة بخلاف ذبح الوالد. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: وقوله: ((يهادي)) ((تو)): يقال: جاء فلان يهادي بين اثنين، إذا كان يمشي بينها معتمداً عليهما من ضعف به ((مظ)): اختلفوا فيمن نذر أن يمشي إلي

3432 - وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: ((اركب أيها الشيخ! فإن الله غني عنك وعن نذرك)). 3433 - وعن ابن عباس: أن سعد بن عبادة [رضي الله عنهم] استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان علي أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه أن يقضيه عنها. متفق عليه. 3434 - وعن كعب بن مالك، قال: قلت يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلي الله وإلي رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسك بعض مالك فهو خير لك)). قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. متفق عليه. وهذا طرف من حديث مطول. ـــــــــــــــــــــــــــــ بيت الله، فقال الشافعي: يمشي إن أطاق المشي، فإن عجز أراق دماً وركب. وقال أصحاب أبي حنيفة: يركب ويريق دماً سواء أطاق المشي أو لم يطقه. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((فأفتاه أن يقضيه)) ((مح)): قال القاضي عياض: اختلفوا في نذر أم سعد هذا، فقيل: كان نذراً مطلقاً، وقيل: كان صوماً، وقيل: كان عتقاً، وقيل: صدقة. واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد، والأظهر أنه كان نذراً في المال أو نذراً مبهما، ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك، فقال له يعني النبي صلى الله عليه وسلم: ((استق عنها الماء)). ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب علي الميت إذا كان غير مالي. وإذا كان مالياً كفارة أو نذر أو زكاة ولم يخلف تركة لا يلزمه، لكن يستحب له ذلك. وقال أهل الظاهر: يلزمه بهذا الحديث؛ لقوله: ((فأفتاه أن يقضيه عنها)). ودليلنا أن الوارث لم يلزمه، وحديث سعد يحتمل أنه قضى من تركتها أو تبرع به، وليس في الحديث تصريح بالتزامه ذلك، وأما غير المال فقد سبق بيانه. الحديث الثامن عن كعب: قوله: ((أن أنخلع)) ((نه)): أي أخرج مه جميعه وأتصدق به، فأعرى منه كما يعري الإنسان إذا خلع ثوبه. أقول: هذا الانخلاع ليس بظاهر في معنى كفارة النذر، وإنما هو إما كفارة كما ذهب إليه المظهر، كأنه قال: ما أنا فيه يقتضي خلع مالي صدقة مكفرة، وإما شكراً كما في شرح مسلم. قال: فيه استحباب الصدقة وشكر النعم المتجددة لاسيما بأعظم منها. وذلك أن كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية هم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه إلي غزوة تبوك، ثم ندموا من سوء صنيعهم ذلك، فتابوا إلي الله تعالي، فقبل توبتهم بعد أيام، وأنزل الله تعالي فيهم {وعَلي الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ

الفصل الثاني 3435 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [3435] 3436 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر نذراً لم يسمه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذراً أطاقه فليف به)) رواه أبو داود، وابن ماجه، ووقفه بعضهم علي ابن عباس. [3436] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآية، فأراد كعب أن يتصدق بجميع ماله شكراً لله تعالي لقبول توبته، فقال: ((إن من توبتي – أي من تمامها – أن أنخلع من مالي)). ولعل ذكره في باب النذر؛ لأنه أشبه النذر في أن أوجب علي نفسه ما ليس بواجب لحدوث أمر. ((مح)): وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتصار علي الصدقة ببعضه خوفاً من تضرره، وأن لا يتصبر علي إنفاقه. ولا يخالف هذا صدقة أبي بكر رضي الله عنه بجميع ماله؛ لأنه كان صابراً راضياً. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا نذر)) أي لا وفاء في نذر معصية، فإن نذر أحد فيها فعليه الكفارة، وكفارته كفارة يمين. وإنما قدر الوفاء؛ لأن ((لا)) لنفي الجنس فإنه يقتضي نفي الماهية، فإذا نقيت ينتفي ما يتعلق بها وهو غير صحيح؛ لقوله بعده: ((وكفارته كفارة يمين)) فإذن يتعين تقدير الوفاء، ويؤيده قوله في الفصل الثالث في حديث عمران: ((ومن كان نذر في معصية فذلك الشيطان، ولا وفاء به)). الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((فكفارته كفارة يمين)) ((مح)): اختلف العلماء في قوله: ((كفارته كفارة اليمين))، فحمله جمهور أصحابنا علي نذر اللجاج، وهو أن يقول الرجل مريداً لامتناع من كلام زيد مثلا: إن كلمت زيداً فلله علي حجة أو غيرها فكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه. وحمله مالك وكثيرون علي النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا علي نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر. وحمله جماعة

3437 - وعن ثابت بن الضحاك، قال: نذر رجل علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا [قال]. ((فهل كان فيه عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)). رواه أبو داود. [3437] 3438 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده [رضي الله عنه] أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب علي رأسك بالدف. قال: ((أوفي بنذرك)). رواه أبو داود، وزاد رزين: قالت: ونذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان يذبح فيه أهل الجاهلية، فقال: ((هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالت: لا. قال: ((هل كان فيه عيد من أعيادهم؟)) قالت: لا. قال: ((أوف بنذرك)). [3438] ـــــــــــــــــــــــــــــ من فقهاء أصحاب الحديث علي جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير بين الوفاء بما التزمه وبين كفارة يمين. أقول: قوله: ((ومن نذر نذراً أطاقه فليف به)) يقوي مذهب الأصحاب. الحديث الثالث عن ثابت بن الضحاك: قوله: ((ببوانة)) ((حس)): هي أسفل مكة دون يلملم. الجوهري: بوانة بالضم اسم موضع. وقال وضاح اليمين: أيا نخلتي وادي بوانة حبذا إذا نام حراس النخيل جناكما وربما تحذف الهاء، قال الشاعر: ماذا تذكرت من الاطمان طوالعاً من نحو ذي بوان وأما الذي ببلاد فارس فهو شعب بوان بالفتح والتشديد. وفيه أن من نذر أن يضحي في مكان أو يتصدق علي أهل بلد صح نذره ولزمه ذلك. الحديث الرابع عن عمرو: قوله: ((أن أضرب علي رأسك الدف)) ((خط)): ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذر، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدم من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين، صار فعله كبعض القرب، لهذا استحب ضرب الدف في النكاح؛ لما فيه من إظهاره والخروج من معنى السفاح الذي لا يظهر. ومما يشبه هذا المعنى قوله النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء الكفار: ((اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل)).

3439 - وعن أبي لبابة: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن انخلع من مالي كله صدقة قال: ((بجزيء عنك الثلث)). رواه رزين. [3439] 3440 - وعن جابر بن عبد الله: أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله! إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال: ((صل ها هنا)) ثم أعاد عليه، فقال: ((صل ها هنا)) ثم أعاد عليه فقال: ((شأنك إذن)). رواه أبو داود، والدارمي. [3440] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي لبابة. جامع الأصول: هو رفاعة بن عبد الله المنذر الأنصاري الأوسي غلبت عليه كنيته. وفي المعالم: هو أبو لبابة عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، فحاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم، قال كعب بن أسيد: يا معشر يهود! إني عارض عليكم خلالا ثلاثاً، فخذوا أيهم شئتم. نبايع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، قالوا: لا نفارق حكم التوارة. قال: فهلم، فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إليهم مصلتين بالسيوف، حتى يحكم صلى الله عليه وسلم بيننا، قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ قال: فإن الليلة ليلة السبت فانزلوا لعلنا نصيب منهم، قالوا: أنفسد سنتنا في السبت؟ ثم إنهم بعثوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة لنستشريه في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم، فقالوا: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل علي حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلي حلقه إنه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتى عرفت إني خنت الله ورسوله، ثم انطلق علي وجهه، وربط نفسه في المسجد إلي عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكإني حتى يتوب الله علي، ثم إن الله تعالي أنزل توبته علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثار الناس إليه ليطلقوه، قال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني، فأطلقه. وقال في الكشاف: فقال: يا رسول الله! إن من تمام توبتي – الحديث. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((شأنك إذن)) ((شأنك)) نصب علي المفعول به، أي ألزم شأنك، و ((إذن)) جواب وجزاء، أي إذا أبيت أن تصل ها هنا، فافعل ما نذرت به من صلاتك في بيت المقدس. ((حس)): لو نذر أن يصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن نذره إذا صلي في المسجد الحرام، ولا يخرج إذ صلي في المسجد الأقصى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا

3441 - وعن ابن عباس: أن أخت عقبة بن عامر [رضي الله عنهم] نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة)). رواه أبو داود، والدارمي، وفي رواية لأبي داود: فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هدياً. وفي رواية له: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، فلتركب ولتحج وتكفر يمينها)). [3441] 3442 - وعن عبد الله بن مالك، أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة. فقال: ((مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3442] 3443 - وعن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، ـــــــــــــــــــــــــــــ خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) ولو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فلا يخرج عن نذره بالصلاة في غيره. ولو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، فصلي في المسجد الحرام أو في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن النذر، لهذا الحديث. الحديث السابع عن ابن عباس: قوله: ((نذرت أن تحج)) ((قض)): لما كان المشي في الحج من عداد القربات، وجب بالنذر، والتحق بسائر أعماله التي لا يجوز تركها إلا لمن عجز، ويتعلق بترك الفدية. واختلف في الواجب، فقال علي رضي الله عنه: يجب بدنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولتهد بدنة)) وقال بعضهم: يجب دم شاة كما في مجاورة الميقات، وحملوا الأمر بالبدنة علي الاستحباب. وهو قول مالك وأظهر قولي الشافعي. وقيل: لا يجب فيه شيء، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي علي وجه الاستحباب دون الوجوب. الحديث الثامن عن عبد الله: قوله: ((فلتختمر)) ((خط)) إنما أمره إياها بالاختمار والاستتار فلأن النذر لم ينعقد فيه؛ لأن ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار. وأما نذر المشي حافية، فالمشي قد يصح فيه النذر وعلي صاحبه أن يمشي ما قدر عليه، وإذا عجز ركب وأهدى هدياً. وقد يحتمل أن تكون أخت عقبة كانت عاجزة عن المشي، بل قد روى ذلك من رواية ابن عباس. فأما ((ولتصم ثلاثة أيام)) فإن الصيام بدل الهدى. الحديث التاسع عن سعيد: قوله: ((في رتاج الكعبة)) ((نه)): الرتاج الباب، وفي هذا الحديث

فسأل أحدهما صاحبة القسمة، فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا يملك)). رواه أبو داود. [3443] الفصل الثالث 3444 - عن عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((النذر نذران: فمن كان نذر في طاعة فذلك لله فيه الوفاء، ومن كان نذر في معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه. ويكفره ما يكفر اليمين)). رواه النسائي. [3444] 3445 - وعن محمد بن المنتشر، قال: إن رجلاً نذر أن ينحر نفسه إن نجاه الله من عدوه. فسأل ابن عباس، فقال له: سل مسروقاً، فسأله، فقال له: لا تنحر نفسك، فإنك إن كنت مؤمناً قتلت نفسك نفساً مؤمنة، وإن كنت كافراً تعجلت إلي النار، واشتر كبشاً فاذبحه للمساكين، فإن إسحاق خير منك، وفدي بكبش، فأخبر ابن عباس، فقال: هكذا كنت أردت أن أفتيك. رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكعبة؛ لأنه أراد أن ماله هدياً إلي الكعبة لا إلي بابها، فكنى بالباب؛ لأنه منه يدخل. وجمع الرتاج رتج. قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يمين عليك)) أي سمعت ما يؤدي معناه إلي قولك: ((لا يمين عليك)) يعني لا يجب الوفاء بما نذرت، وسمى النذر يميناً، لما يلزم منه ما يلزم من اليمين. ((حس)): اختلفوا في النذر إذا خرج مخرج اليمين مثل أن قال: إن كلمت فلاناً فلله علي عتق رقبة، وإن دخلت الدار فلله علي صوم أو صلاة. فهذا نذر خرج مخرج اليمين لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل. فذهب أكثر الصحابة ومن بعدهم إلي أنه إذا فعل ذلك الفعل تجب عليه كفارة اليمين، كما لو حنث في يمينه، وإليه ذهب الشافعي، ويدل عليه هذا الحديث وغيره. وقيل: عليه الوفاء بما التزمه، قياساً علي سائر النذور. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن محمد بن المنتشر: قوله: ((هكذا كنت أردت أن أفتيك)) لعله إنما

كتاب القصاص

كتاب القصاص الفصل الأول 3446 - عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزإني، والمارق لدينه التارك للجماعة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعثه إلي مسروق احتياطاً؛ لأنه كان أخذ من أم المؤمنين الصديقة رضي الله عنها. فعلي المفتي أن لا يستعجل في الفتوى بل يستشير ويرجع إلي النقل. كتاب القصاص المغرب: القص القطع، وقصاص الشعر مقطعه ومنتهي منبته من مقدم الرأس إلي حواليه، ومنه القصاص وهو مقاصة ولي القتيل القاتل والمجروح الجارح، وهي مساواته إياه في قتل أو جرح، ثم عمم في كل مساواة. الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((مسلم)) ((قض)): هو صفة مقيدة لـ ((امرئ)) و ((يشهد)) مع ما هو متعلق به صفة ثإنية جاءت للتوضيح والبيان؛ ليعلم أن المراد بـ ((مسلم)) هو الآتي بالشهادتين، وأن الإتيان بهما كاف للعصمة. وأقول: الظاهر أن ((يشهد)) حال جيء بها مقيدة للموصوف مع صفته؛ إشعاراً بأن الشهادة هي العمدة في حق الدم. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة: كيف تصنع بلا إله إلا الله)). قوله: ((إلا بإحدى ثلاث)) ((قض)): أي خصال ثلاث، قتل النفس بغير الحق وزنى المحصن والارتداد ففصل ذلك بتعداد المتصفين به المستوجبين القتل لأجله فقال: ((النفس بالنفس)) أي يحل قتل النفس قصاصاً بالنفس التي قتلها عدواناً، وهو مخصوص بولي الدم لا يحل قتله لأحد سواه، حتى لو قتله غيره لزمه القصاص. و ((الثيب الزإني)) يريد به الزإني المحصن، وهو المكلف الحر الذي أصاب في نكاح صحيح ثم زنى، فإن للإمام رجمه، وليس لأحاد الناس ذلك. لكن لو قتله مسلم ففي وجوب القصاص عليه خلاف، والأظهر عندنا أنه يجب؛ لأن إباحة دمه لمحافظة أنساب المسلمين وكان له حق فيه. وأما لو قتله ذمي اقتص منه؛ لأنه لا تسلط له علي المسلم بحال. ((والمارق لدينه)) يريد التارك الخارج عنه، من المرق، وهو الماء الذي يخرج من اللحم عند الطبخ، وهو هدر في حق المسلمين لا قصاص علي من قتله، وفيما إذا قتله ذمي خلاف. ((والتارك للجماعة)) صفة مؤكدة لـ ((المارق)) الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، وانفرد عن زمرتهم. وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يقتل أحد دخل في الإسلام بشيء سوى ما عدد كترك الصلاة. 3447 - وعن ابن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) رواه البخاري. 3448 - وعن عبد الله مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء)). متفق عليه. 3449 - وعن المقداد بن الأسود، أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة،

ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): المراد بقوله: ((النفس بالنفس)) القصاص بشرطه، قد يستدل به أصحاب أبي حنيفة في قولهم: يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، والجمهور علي خلافه، منهم مالك والشافعي والليث وأحمد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((التارك لدينه المفارق للجماعة)) فهو عام في كل من ارتد عن الإسلام بأية ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلي الإسلام. قالوا: ويتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع، كالروافض والخوارج وغيرهما. وقد خص من هذا العام الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هذه الثلاثة. أقول: هذا التقرير أبين من تقرير القاضي؛ لأن الشيخ جعل قوله: ((النفس بالنفس)) كناية عن القصاص كأنه قيل لا يحل تعمد قتله قصداً بسبب من الأسباب إلا بسبب القصاص أو بالزنا بشرط الإحصان أو بالارتداد، وسمى المارق لدينا مسلما؛ لأنه مستثنى من قوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم)) مجازاً باعتبار ما كان عليه. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((في فسحة)) أي سعة من دينه ترجى رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله تعالي، كما ورد في حديث أبي هريرة ((من أعان علي قتل مؤمن، ولو بشطر كلمة، لقي الله مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)). وقيل: المراد بـ ((شطر الكلمة)) قوله: اق. وهو من باب التغليظ، ويجوز أن ينزل معنى الحديث علي معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الفصل الثاني: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً)) أي المؤمن لا يزال موفقاً للخيرات مسارعاً إليها ((ما لم يصب دماً حراماً)) فإذا أصاب ذلك أعيي وانقطع عنه ذلك بشؤم ما ارتكب من الإثم. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((أول ما يقضي)) ((مح)): هذا لتعظيم أمر الدماء وتأثير خطرها، وليس هذا الحديث مخالفاً لقوله: ((أول ما يحاسب به العبد صلاته)) لأن ذلك في حق الله تعالي، وهذا فيما بين العباد. الحديث الرابع عن المقداد: قوله: ((ثم لاذ مني بشجرة)) ((قض)): اللياذ العياذ. قوله: ((لا

فقال: أسلمت لله – وفي رواية: فلما أهويت لأقتله قال: لا إله إلا الله – أأقتله بعد أن قالها؟ قال: ((لا تقتله)). فقال: يا رسول الله! إن قطع إحدى يدي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتله)). فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)). متفق عليه. 3450 - وعن أسامة بن زيد، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أناس من جهينة، ـــــــــــــــــــــــــــــ تقتله)) يستلزم الحكم بإسلامه، ويستفاد منه صحة إسلام المكره، وأن الكافر إذا قال: أسلمت أو أنا مسلم حكم بإسلامه، ومن نهيه عن القتل والتعريض له ثإنياً بعد ما كرر أنه قطع إحدى يديه، أن الحربي إذا جني علم مسلم ثم أسلم لم يؤاخذ بالقصاص؛ إذا لو وجب لرخص له في قطع إحدى يديه قصاصاً. وقوله: ((فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله)) لأنه صار مسلما معصوم الدم كما كنت معصوماً قبل أن فعلت فعلتك التي أباحت دمك قصاصاً، فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها؛ لأنك صرت مباح الدم كما كان هو مباح الدم قبل الإسلام. ولكن السبب يختلف، فإن إباحة دم القاتل بحق القصاص وإباحة دم الكافر بحق الإسلام. وقد تمسك به الخوارج علي تكفير المسلم بارتكاب الكبائر، وحسبوا أن المعنى به المماثلة في الكفر وهو خطأ؛ لأنه تعالي عد القاتل عمداً من أعداد المؤمنين، بل المراد ما ذكرناه. أقول: ولو حمل علي التغليظ والتشديد كما في قوله تعالي: {ولِلَّهِ عَلي النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَن كَفَرَ}، وقوله تعالي: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفَاعَةٌ والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لجاز؛ فإنه جعل تارك الحج والزكاة في الآيتين من زمرة الكافرين تغليظاً وتشديداً، وإيذاناً بأن ذلك من أوصاف الكفار فينبغي للمسلم أن يحترز منه. وهذا المقام يقتضيه، لأنه أزجر وأردع مما ذهبوا إليه من إهدار الدم؛ ولأن جعله بمنزلة تصريح بأنه ليس علي الحقيقة بل نازل منزلته في الأمر الفظيع الشنيع، وكذلك هو بمنزلتك في الإيمان بواسطة تكلمه بكلمة الشهادة توهيناً لفعله وتعظيما لقوله، والأحاديث السابقة واللاحقة تشهد بصحة ذلك. والله أعلم. ويقرب منه ما ذكره القاضي عياض، قيل: معناه أنك مثله في مخالفة الأمر وارتكاب الإثم، وإن اختلف الإثمان فيسمى إثمه كفراً وإثمك معصية. قوله: ((أهويت لأقتله)) أهويت بالشيء إذا أو مأت به، ويقال: أهويت له بالسيف. الحديث الخامس عن أسامة: قوله: ((فهلا شققت)) ((مح)): معناه أنك إنما كلفت العمل

فأتيت علي رجل منهم، فذهبت أطعنه، فقال: لا إله إلا الله. فطعنته فقتلته، فجئت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((أقتلته وقد شهد أن لا إله إلا الله؟)) قلت يا رسول الله! إنما فعل ذلك تعوذاً. قال: ((هلا شققت عن قلبه؟!)). متفق عليه. 3451 - وفي رواية جندب بن عبد الله البجلي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟)) قاله مراراً. رواه مسلم. 3452 - وعن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة؛ وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين خريفاً)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلي معرفة ما فيه. فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال: ((فهلا شققت عن قلبه))؟ تنظر هل قالها بالقلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن، بل جرت علي اللسان فحسب؟ يعني وأنت لست بقادر علي هذا، واقتصر علي اللسان ولا تطلب غيره. وفيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يحكم فيها بالظواهر، والله تعالي يتولي السرائر. ((مظ)): يشبه أن يكون المعنى فيه أن الأصل في دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذاً من القتل لا مصدقاً به، فقتله علي أنه مباح الدم، وأنه مأمور بقتله، والخطأ عن المجتهد موضوع، أو تأول في قتله أن لا توبة له في هذه الحالة؛ لقوله تعالي: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}. ((قض)): وأيضا هذا الرجل وإن لم يكن محكوماً بإسلامه بما قال، حتى يضم إليه الإقرار بالنبوة، لكنه لما أتى بما هو المقصود والعمدة بالذات كان من حقه أن يمسك عنه حتى يتعرف حاله. أقول: ليس في سياق هذا الحديث وما تلفظ به صلى الله عليه وسلم إشعار بإهدار دم القاتل قصاصاً ولا بالدية، بل فيه الدفع عنه بشبهة ما تمسك به بقوله: ((إنما فعل ذلك تعوذاً)) والزجر والتوبيخ علي فعله والبغي عليه بقوله: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله؟)). الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((من قتل معاهداً) ((قض)): يريد بالمعاهد من كان له مع المسلمين عهد شرعي، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم. وقوله: ((لم يرح)) فيه روايات ثلاث: بفتح الراء من راح يراح، وبكسر الراء من راح يريح،

3453 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله،: ((من تردى من جبل فقتل نفسه؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسي سما فقتل نفسه؛ فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة؛ فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) متفق عليه. 3454 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبكسره وضم الياء من أراح يريح، والمعنى واحد وهو أنه لم يشم رائحة الجنة ولم يجد ريحها. ولم يرد به أنه لا يجد أصلا بل أول ما يجدها سائر المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر؛ توفيقاً بينه وبين ما تعاضدت به الدلائل النقلية والعقلية، علي أن صاحب الكبيرة إذا كان موحداً محكوماً بإسلامه لا يخلد في النار ولا يحرم من الجنة. وقوله: ((أربعين خريفاً) أي عاماً. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من تردي من جبل)) ((قض)): التردي في الأصل التعرض للهلاك من الردي، وشاع في التدهور؛ لإفضائه إلي الهلكة. والمراد به هاهنا أن يتهور الإنسان فيرمي نفسه من جبل. والتحسى ولحسو واحد غير أن فيه تكلفاً. قوله: ((ويتوجأ)) من الوجاء وهو الطعن والإجابة بالسكين ونحوه، كذا في جامع الأصول. وفي المصابيح ((يجأ)) علي وزن يجع، والأول أنسب للقرائن من قوله: ((يتردى ويتحسى)) والضمير في ((بها)) للحديدة. ((قض)): وفي تعذيب الفساق بما هو من جنس أفعالهم حكم لا تخفي علي المتفكرين من أولي الألباب. والظاهر أن المراد من هؤلاء الذين فعلوا ذلك مستحلين له، وإن أريد منه العموم فالمراد من الخلود والتأبيد المكث الطويل المشترك بين دوام الانقطاع له، واستمرار مديد ينقطع بعد حين بعيد لاستعمالها في المعنيين، فيقال: وقف وقفاً مخلداً مؤبداً، وأدخل فلان حبس الأبد، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فيجب جعلهما للقدر المشترك بينهما؛ وللتوفيق بينه وبين ما ذكرنا من الدلائل. فإن قلت: ما تصنع بالحديث الذي يتلوه مروياً عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم بادرني عبدي بنفسه. قلت هو حكاية حال فلا عموم فيها إذ يحتمل أن الرجل كان كافراً أو ارتد لشدة الجراحة أو قتل نفسه مستبيحاً، مع أن قوله: ((فحرمت عليه الجنة)) ليس فيه ما يدل ظناً علي الدوام والإقناط الكلي فضلا عن القطع. ((تو)): لما كان الإنسان بصدد أن يحمله الضجر والحمق والغضب علي إتلاف نفسه، ويسول له الشيطان أن الخطب فيه يسير، وهو أهون من قتل نفس أخرى حرم قتلها عليه، وإذا لم يكن لصنيعه مطالب من قبل الخلق فإن الله يغفر له، أعلم النبي صلى الله عليه وسلم المكلفين أنهم مسئولون عن ذلك يوم القيامة، ومعذبون به عذاباً شديداً، فإن ذلك في التحريم كقتل سائر النفوس المحرمة.

3455 - وعن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً، فحز بها يده فمارقأ الدم حتى مات. قال الله تعالي: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) متفق عليه. 3456 - وعن جابر: أن الطفيل بن عمرو الدوسي لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلي المدينة هاجر إليه، وهاجر معه رجل من قومه، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه، حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة ورآه مغطياً يديه. فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلي نبيه صلى الله عليه وسلم. فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم وليديه فاغفر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن جندب: قوله: ((فما رقأ الدم)) ((نه)): يقال: رقأ الدمع والدم والعرق يرقأ رقواً انقطع، والاسم منه الرقو بالفتح. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((مشاقص)) ((نه)): المشقص نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. و ((البراجيم)) هي العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة برجمة بالضم. والشخب السيلان، وأصل الشخب ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة. ((تو)): هذا الحديث وإن كان فيه ذكر رؤيا الصحابي للاعتبار بما يؤول تعبيره، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((اللهم وليديه فاغفر)) من جملة ما ذكرنا من الأحاديث الدالة علي أن الخلود غير واقع في حق من أتى بالشهادتين وإن قتل نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للجإني علي نفسه بالمغفرة، ولا يجوز في حقه أن يستغفر لمن وجب عليه الخلود بعد أن نهي عنه، مع ما يدل علي كونه صحيح الحال في قصة الرؤيا من ذكر الهيئة الحسنة. أقول: قوله: ((وليديه فاغفر)) عطف من حيث المعنى علي قوله: ((قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت)) لأن التقدير: قيل لي غفرنا لك سائر أعضائك إلا يديك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ليديه فاغفر)) اللام متعلق بقوله: ((فاغفر)) والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تحرمه غفرانك، نحو قوله تعالي: {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره؛ ففيه التأكيد والمبالغة ليطابق التشفع الوعيد بقوله: ((لن نصلح ما أفسدت))؛ فإن ((لن)) لتأكيد النفي في المستقبل.

3457 - وعن أبي شريح الكعبي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ثم أنتم يا خزاعة! قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، من قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل)). رواه الترمذي، والشافعي. [3457] وفي ((شرح السنة)) بإسناده. وصرح: بأنه ليس في ((الصحيحين)) عن أبي شريح، وقال: 3458 - وأخرجاه من رواية أبي هريرة، يعني بمعناه. 3459 - وعن أنس: أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان أفلان؟ حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء باليهودي، فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أبي شريح: قوله: ((ثم أنتم يا خزاعة)) ((قض)): هذا من تتمة خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ومقدمتها مذكورة في الفصل الأول في باب حرم مكة من كتاب الحج، وكانت خزاعة قتلت في عام الفتح في تلك الأيام بمكة رجلاً بقتيل لهم في الجاهلية، وأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عنهم. قوله: ((وأنا والله عاقله)) أي مؤدي ديته من العقل وهو الدية، سميت به؛ لأن إبلها تعقل بقضاء ولي الدم؛ أو لأنها تعقل دم القاتل عن السفك. وقوله: ((فأهله بين خيرتين)) يدل علي أن ولي الدم مخير بينهما، فلو عفي عن القصاص علي الدية أخذ بها القاتل، وهو المروي عن ابن عباس، وقول سعيد بن المسيب والشعبي وابن سيرين وقتادة. وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وقيل: لا تثبت الدية إلا برضي القاتل، وهو قول الحسن والنخعي، وإليه ذهب مالك وأصحاب أبي حنيفة. ((خط)): فيه دليل علي أن الدية مستحقة لأهله كلهم، ويدخل في ذلك الرجال والنساء والزوجات؛ لأنهم جميعاً أهله، وفيه دليل علي أن بعضهم إذا كان غائباً أو طفلاً لم يكن للباقين القصاص، حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب. وهو قول الشافعي. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((رض)) ((نه)): الرض الدق الجريش. ((حس)): فيه دليل علي أن الرجل يقتل بالمرأة كما تقتل المرأة به. وهو قول عامة أهل العلم إلا

3460 - وعنه، قال: كسرت الربيع – وهي عمة أنس بن مالك – ثنية جارية من الأنصار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أنس! كتاب الله القصاص)). فرضي القوم وقبلوا الأرش. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله من لو أقسم علي الله لأبره)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ما حكي عن الحسن البصري وعطاء. وفيه دليل علي أن القتل بالحجر المثقل الذي يحصل به القتل غالباً يوجب القصاص، وهو قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك والشافعي. ولم يوجب بعضهم القصاص إذا كان القتل بالمثقل، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. وفيه دليل علي جواز اعتبار جهة القتل، فيقتص من القاتل بمثل فعله. ((مح)): إذا كانت الجناية شبه عمد، فإن قتل بما لا يقصد به القتل غالباً فتعمد القتل به، كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة ونحوها، فقال مالك والليث: يجب فيه القود، وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق، وغيرهم من الصحابة والتابعين: لاقصاص فيه. وفيه جواز سؤال الجريح من جرحك، وفائدته أن يعرف المتهم فيطلب، فإن أقر ثبت عليه القتل، وإن أنكر فعليه اليمين، ولا يلزم شيء بمجرد قول المقتول، وهو مذهب الجمهور. ومذهب مالك ثبوت القتل بمجرد قول المجروح، وتعلق بهذا الحديث في إحدى الروايتين عن مسلم. الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثنية جارية)) ((قض)): الثنية واحدة الثنايا، والحديث يدل علي ثبوت القصاص في الأسنان. وقول أنس: ((لا والله لا تكسر ثنيتها)) لم يرد به الرد علي الرسول صلى الله عليه وسلم والإنكار لحكمه، وإنما قاله توقعاً ورجاء من فضله تعالي أن يرضي خصمها، ويلقي في قلبها أن تعفو عنها ابتغاء مرضاته؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رضي القوم بالأرش ما قال. وقوله: ((كتاب الله القصاص)) أي حكمه أو حكم الكتاب علي حذف المضاف، ويكون إشارة إلي قوله تعالي: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالي: {وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} وقوله تعالي: {والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أو إلي قوله تعالي: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ – إلي قوله - والسِّنَّ بِالسِّنِّ}. إن قلنا: بأنا متعبدون بشرع من قلبنا ما لم يرد له نسخ في شرعنا. أقول: ((لا)) في قوله: ((لا والله))

3461 - وعن أبي جحيفة، قال: سألت علياً [رضي الله عنه]: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس رداً للحكم بل نفي لوقوعه، وقوله: ((والله لا تكسر)) إخبار عن عدم الوقوع، وذلك بما كان له عند الله من القرب والزلفي والثقة بفضل تعالي ولطفه في حقه أنه لا يخيبه بل يلهمهم العفو، يدل عليه ما في رواية لمسلم ((لا والله لا يقتصن منها أبداً)) ولذلك أتبعه بقوله: ((إن من عباد الله من لو أقسم علي الله لأبره)) حيث جعله من زمرة عباد الله المخلصين وأولياء الله المصطفين. ((مح)): فيه جواز الحلف فيما يظن الإنسان وقوعه، وجواز الثناء علي من لا يخاف الفتنة بذلك، واستحباب العفو عن القصاص، والشفاعة في العفو، وأن الخيرة في القصاص والدية إلي مستحقه لا إلي المستحق عليه، وإثبات القصاص بالرجل والمرأة، ووجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه إذا قلعها كلها، وفي كسر بعضها وكسر سائر العظام خلاف، والأكثرون علي أنه لا قصاص. الحديث الرابع عشر عن أبي جحيفة: قوله: ((فلق الحبة)) ((تو)): أي شقها فأخرج منها النبات الغض و ((برأ النسمة)) أي خلقها، والنسمة النفس، وكل دابة فيها روح فهي نسمة، يشير بذلك إلي أن المحلوف به سبحانه هو الذي فطر الرزق وخلق المرزوق، وكذلك كان يحلف إذا اجتهد في يمينه. قوله: ((إلا فهما)) ((خط)): يعني ما يفهم من فحوى كلامه ويستدرك من باطن معإنيه التي هي غير الظاهر من نصه والمتلقي من لفظه. ويدخل في ذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يتوصل إليها من طريق الفهم والتفهم. ((قض)): إنما سأله ذلك؛ لأن الشيعة يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم خص أهل بيته – لاسيما علياً رضي الله عنه – بأسرار من علم الوحي لم يذكره لغيره؛ أو لأنه كان يرى منه علما وتحقيقاً لا يجده عند غيره، فحلف أنه ليس عنده شيء من ذلك سوى القرآن؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يخص بالتبليغ والإرشاد قوماً دون قوم، وإنما وقع التفاوت من قبل الفهم واستعداد الاستنباط، فمن رزق فهما وإدراكاً وفق للتأمل في آياته والتدبر في معإنيه فتح عليه أبواب العلم. واستثنى ما في الصحيفة احتياطاً؛ لاحتمال أن يكون فيها ما لا يكون عند غيره، فيكون منفرداً بالعلم به. والظاهر أن ((ما في الصحيفة)) عطف علي ((ما في القرآن)) [وإلا ففيه استثناء منقطع وقع استدراكاً عن مقتضى الحصر المفهوم من قوله: ((ما عندنا إلا ما في القرآن] فإنه إذا لم يكن عنده إلا ما في القرآن، والقرآن كما هو عنده فهو عند غيره، فيكون ما عنده من العلوم يكون عند غيره، لكن التفاوت واقع غير منكر ولا مدافع، فبين أنه جاء من قبل الفهم والقدرة علي الاستنباط واستخراج المعإني وإدراك اللطائف والرموز.

فهما يعطي رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: ما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري. وذكر حديث ابن مسعود: ((لا تقتل نفس ظلماً)) في ((كتاب العلم)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: ((الصحيفة)) صحيفة كانت في علاقة سيفه، وكان فيها من الأحكام غير ما ذكر في الحديث، ولعله لم يذكر جملة ما فيها؛ إذ التفصيل لم يكن مقصودا، أو ذكر ولم يحفظه الراوي. والعقل الدية، يريد أن فيها ذكر ما يجب – كدية النفس والأعضاء – من الإبل، وذكر أسنانها وعددها وسائر أحكامها، و ((فكاك الأسير)) أي فيها حكمه والترغيب فيه، وأنه من أنواع البر الذي ينبغي أن يهتم به. ((ولا يقتل مسلم بكافر)) عام يدل علي أن المؤمن لا يقتل بكافر قصاصاً، سواء الحربي والذمي. وهو قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وعكرمة والحسن وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الثوري وابن شبرمة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقيل: يقتل بالذمي، والحديث مخصوص بغيره، وهو قول الشعبي والنخعي، وإليه مذهب (مالك) وأصحاب أبي حنيفة؛ لما روى عبد الرحمن بن السلمإني أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع ذلك إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنا أحق من أوفي بذمته)) ثم أمر به فقتل. وأجيب عنه بأنه منقطع لا احتجاج به، ثم إنه أخطأ؛ إذ قيل: إن القاتل كان عمرو بن أمية الضمري، وقد عاش بعد الرسول صلى الله عليه وسلم سنين، ومتروك بالإجماع؛ لأنه روى أن الكافر كان رسولا فيكون مستأمنا، والمستأمن لا يقتل به المسلم وفاقاً، وإن صح فهو منسوخ؛ لأنه روى أنه كان قبل الفتح وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خطبة خطبها علي درج البيت: ((ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده)). ((شف)): فيه إرشاد للعالم أن الفهم أن يستخرج من القرآن بفهمه، ويستنبط بفكره وتدبره ما لم يكن منقولا من المفسرين، لكن بشرط موافقته للأصول الشرعية، ففيه فتح الباب علي ذوي الألباب. أقول: قول القاضي: والظاهر أن ((ما في الصحيفة)) عطف علي ((ما في القرآن)) لعله تعريض بتوجيه الشيخ التوربشتي، حيث قال: حلف حلفه أن ليس عنده من ذلك شيء سوى القرآن ثم استثناه استثناءً أراد به استدراك معنى اشتبه عليهم معرفته، فقال: ((إلا فهما يعطي رجل في كتابه)) والمعنى أن التفاوت في العلوم لم يوجد من قبل البلاغ، وإنما وقع من قبل الفهم، ثم قرن بذلك ((ما في الصحيفة)) احتياطاً في يمينه وحذراً من أن يكون ما في الصحيفة عند غيره، فحسب أنه عطف علي قوله: ((إلا فهما)) ولو ذهب إلي إجراء المتصل مجرى المنقطع علي عكس قول الشاعر:

الفصل الثاني 3462 – * عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهون علي الله من قتل رجل مسلم)). رواه الترمذي، والنسائي. ووقفه بعضهم، وهو الأصح. [3462] 3463 - ورواه ابن ماجه عن البراء بن عازب. [3463] ـــــــــــــــــــــــــــــ وبلدة ليس فيها إنيس إلا اليعافير وإلا العيس فيؤول قوله: ((إلا فهما يعطي)) بقوله: ما يستنبط من كلام الله تعالي بفهم رزقه الله تعالي لم يستبعد، فيكون المعنى: ليس عندنا شيء قط إلا ما في القرآن، وما في الفهم من الاستنباط منه، وما في الصحيفة. وقد علم وحقق أن الاستنباط من القرآن منه، وأن ما في الصحيفة لا يخلو من أن يكون منصوصاً في القرآن أو مستنبطاً منه، فليزم أن لا شيء خارجاً عنه كما قال تعالي: {ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}. وهذا فن غريب وأسلوب عجيب، فحينئذ يحسن رد زعم من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أهل بيته من علم الوحي بما لم يفض به إلي غيرهم، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم جعله خليفة بعده. قال أبو الحسن الصنعإني في الدر الملتقط: ومن الموضوع قولهم: قال في المرض الذي توفي فيه: يا علي! ادع بصحيفة وداوة، فأملي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب علي وشهد جبريل، ثم طويت الصحيفة. قال الراوي: فمن حدثكم أنه يعلم ما في الصحيفة إلا الذي أملاها وكتبها وشهدها فلا تصدقوه. وقولهم: وصيي وموضع سري وخليفتي في أهلي، وخير من أخلف بعدي، علي بن أبي طالب. والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((لزوال الدنيا)) الدنيا هنا عبارة عن الدار القربى التي هي معبر إلي دار الأخرى وهي مزرعة لها، وما خلقت السموات والأرض إلا لتكون مسارح أنظار المتبصرين ومتعبدات المطيعين، وإليه الإشارة بقوله تعالي: {ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي بغير حكمة، بل خلقتها لأن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم علي معرفتك، فمن حاول قتل من خلق الدنيا لأجله فقد حاول زوال الدنيا. وبهذا لمح ما ورد في الحديث الصحيح ((لا تقوم الساعة علي أحد يقول: الله الله)). قوله: ((ووقفه بعضهم)) أي بعض الرواة لم يرفع الحديث إلي النبي صلى الله عليه وسلم بل وقفه علي الصحابي.

3464 - وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3464] 3465 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، يقول: يا رب! قتلني، حتى يدنيه من العرش)). رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [3465] 3466 - وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن عثمان بن عفان [رضي الله عنه] أشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زني بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به))؟ فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا ارتددت منذ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: ((لأكبهم الله)) كبه لوجهه أي صرعه فأكب هو، وهذا من النوادر أن يكون أفعل لازما وفعل متعدياً، قاله الجوهري. وقال الزمخشري: لا يكون بناء أفعل مطاوعاً لفعل، بل همزة أكب للصيرورة أو للدخول، فمعناه صار ذا كب أو دخل في الكب، ومطاوع فعل انفعل نحو كب وانكب وقطع وانقطع. ((تو)): والصواب كبهم الله، ولعل ما في الحديث سهو من بعض الرواة. أقول: وفيه نظر؛ لم لا يجوز هذا علي الأصل؟ وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولي أن يتبع؛ ولأن الجوهري ناف والرواة مثبتون. قوله: ((لو أن أهل السماء)) ((لو)) للمضي و ((أن أهل السماء)) فاعل، والتقدير لو ثبت اشتراك أهل السماء والأرض. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وأوداجه)) ((نه)): هي ما أحاط العنق من العروق التي يقطعها الذابح، واحدها ودج بالتحريك. وقيل: الودجان عرقان غليظان عن جانبي نقرة النحر. وقيل: عبر عن المثني بصيغة الجمع للأمن من الالتباس، كقوله تعالي: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. وقوله: ((وناصية رأسه بيده)) جملة اسمية وقعت حالا من الفاعل أو المفعول، وقد اكتفي فيها بالضمير. ويجوز أن يكون استئنافاً علي تقدير السؤال عن كيفية المجيء به. الحديث الرابع عن أبي أمامة: قوله: ((فقتل به)) تقرير ومزبته توضيح للمعنى.

بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قتلت النفس التي حرم الله فبم تقتلونني؟ رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه وللدارمي لفظ الحديث. [3466] 3467 - وعن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً، ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح)) رواه أبو داود. [3467] 3468 - وعنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو من يقتل مؤمناً متعمداً)). رواه أبو داود. [3468] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي الدرداء: قوله: ((معنقاً)) ((قض)): المعنق المسرع في المشي من العنق وهو الإسراع والخطو الفسيح، وجمعه معإنيق. والتبليح الإعياء، والمعنى أن المؤمن لا يزال موفقاً للخيرات مسارعاً إليها ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب ذلك أعيي وانقطع عنه ذلك؛ لشؤم ما ارتكب من الإثم. وقال أبو عبيدة: معنقاً منبسطاً في سيره، يعني في القيامة. ((تو)): لا أرى هذا سديداً؛ لأن قوله: ((معنقاً)) مشروط بقوله: ((ما لم يصب دماً حراماً)) ولا يصح أن يصيب دماً حراماً في القيامة. أقول: لعل مراده أن هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحوال الآتية، أي لا يزال المؤمن منبسطاً في سيره يوم القيامة ما لم يصب في الدنيا دماً حراماً، ونحوه في المعنى حديث أبي هريرة: ((من أعان علي قتل المؤمن بشطر كلمة، لقي الله مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)). ويجوز أن يقع السبب والمسبب في الدنيا، والمعنى لا يزال المؤمن في سعة من دينه ترجى له رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل أعيي وضاقت عليه، علي ما سبق في الحديث الثاني من الفصل الأول. الحديث السادس عن أبي الدرداء: قوله: ((إلا من مات)) ((شف)): لا بد من إضمار مضاف إما في المستثنى أو في المستثنى منه، أي كل قارف ذنب أو إلا ذنب من مات مشركاً ((مظ)): ((ومن يقتل مؤمناً متعمداً)) أي إذا كان مستحلا دمه. أقول: قوله: ((إلا من مات مشركاً)) من قوله تعالي: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وقوله: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} من قوله تعالي: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية، وقد ثبت عند المعتزلة أن حكم الشرك بما دونه من الكبائر سواء، لا يغفران قبل التوبة ويغفران بعدها، وظاهر الحديث يساعد قولهم.

3469 - ورواه النسائي عن معاوية. [3469] ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف في قوله تعالي: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا}: فإن قلت: هل فيها دليل علي خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله: ((ومن يقتل)) أي قاتل كان من مسلم أو كافر تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل، فمن ادعى إخراج المسلم علي التائب فليأت بدليل مثله. وقد أتينا في فتوح الغيب بالدليل، وهو أن الذي يقتضيه نظم الآيات أن الآية من أسلوب التغليظ كقوله تعالي: {ولِلَّهِ عَلي النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ - إلي قوله - ومَن كَفَرَ} وبيان أن قوله تعالي: {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} دل علي أن قتل المؤمن ليس من شأن المؤمن، ولا يستقيم منه ولا يصح له ذلك؛ فإنه إن فعل خرج عن أن يقال: إنه مؤمن؛ لأن ((كان)) هنا نحو ((كان)) في قوله تعالي {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ} والمعنى فلم يصح ولم يستقم، وقد نص علي هذا في الكشاف. ثم استثنى من هذا العام قتل الخطأ تأكيداً ومبالغة، أي لا يصح ولا يستقيم إلا في هذه الحالة، وهذه الحالة منافية لقتل العمد، فإذا لا يصح منه قتل العمد البتة، ثم ذيل هذه المبالغة تغليظاً وتشديداً بقوله: {ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} يعني كيف يستقيم القتل من المؤمن عمداً، وإنه من شأن الكفار الذين جزاؤهم خلود في النار وحلول غضب الله ولعنه عليهم؟ وعلي هذا الأسلوب فسر قوله تعالي: {الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ - إلي قوله - والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} جعل ترك الزكاة من صفات الكفار، أي الكافرون هم الذين يتركون الزكاة، فعلي المؤمن أن لا يتصف بصفتهم. وكتابه سبحانه مشحون من هذا الأسلوب، فعلي هذا الحديث كالآية في التغليظ. والحق أنه إن صدر عن المؤمن مثل هذا الذنب فمات ولم يتب، فحكمه إلي الله تعالي إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ما يشاء ثم يخرجه إلي الجنة. فإن قلت: لم خص إحدى القرينتين يعني من مات بالماضي والأخرى بالمضارع؟ قلت: تقرر عند علماء المعإني أن نحو فلان يقرى الضيف ويحمي الحريم يفيد الاستمرار، وأن ذلك من شأنه ودأبه، وقد سبق آنفاً أن قتل العمد من شأن الكفار ودأبهم، وليس من شأن لمؤمن؛ فلذلك كان بالمضارع أجدر.

3470 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد)). رواه الترمذي، والدارمي. [3470] 3471 - وعن أبي رمثة، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي، فقال: ((من هذا الذي معك؟)) قال: ابني أشهد به. قال: ((أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه)). رواه أبو داود، والنسائي. وزاد في ((شرح السنة)) في أوله قال: دخلت مع أبي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأي أبي الذي بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أعالج الذي بظهرك فإني طبيب. فقال: ((أنت رفيق والله الطبيب)). [3471] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا تقام الحدود)) ((مظ)): أي صيانة للمساجد وحفظ حرمتها، هذا علي سبيل الأولوية، أما لو التجأ من عليه القصاص إلي الحرم فجائز استيفاؤه منه في الحرم، سواء كان القصاص واجباً عليه في النفس أو في الطرف. فتبسط الأنطاع ويقتل في الحرم تعجيلاً لاستيفاء هذا الحق، هذا علي مذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة يستوفي قصاص النفس في الحرم، بل يضيق عليه الأمر حتى يخرج بنفسه فيقتل. قوله: ((ولا يقاد بالولد)) ((شف)): يجوز أن يكون المعنى لا يتقص والد بقتله ولده، وأن يكون معناه لا يقتل الواحد بعوض الولد الذي وجب عليه القصاص بأن قتل الولد أحداً ظلماً، وكان في الجاهلية أن يقتل الابن بالقصاص الواجب علي الأب وبالعكس، فنهي الشرع عن ذلك. أقول: والوجه الأول أوجه، وعلل بأن الوالد سبب وجوده فلا يجوز أن يكون سبباً لعدمه. وحكم الأجداد والجدات مع الأحفاد حكم الوالد مع الوالد بخلاف العكس. الحديث الثامن عن أبي رمثة: قوله: ((أشهد به)) تقرير لقوله: ((ابني)) وفائدته التزام ضمان الجنايات عنه علي ما كانوا عليه في جاهليتهم من مؤاخذة كل واحد من المتوالدين بجناية الآخر؛ ولهذا رد صلى الله عليه وسلم عليه بقوله: ((أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه)) وهو يحتمل وجهين، أي أنه لا يجني جناية يكون القصاص أو الضمان فيها عليك، أو أن لفظه خبر ومعناه نهي، أي لا يجني عليك ولا تجني عليه، وهذا المعنى لا يناسب ما قبله ولا الباب. قوله: ((الذي بظهر سول الله صلى الله عليه وسلم)) يريد بن خاتم النبوة وكان ناتئاً، وظن أن سلعة تولدت من فضلان البدن، فرد صلى الله عليه وسلم كلامه بأن أخرجه منه مدرجاً إلي غيره، يعني ليس هذا مما يعالج

3472 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن سراقة بن مالك، قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. رواه الترمذي، وضعفه. [3472] 3473 - وعن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. وزاد النسائي في رواية أخرى: ((ومن خصى عبده خصيناه)). [3473] ـــــــــــــــــــــــــــــ بل يفتقر كلامك إلي العلاج، حيث سميت نفسك بالطبيب والله هو الطبيب، فهو من الأسلوب الحكيم في الصنعة البديعية. قوله: ((أنت رفيق)) ((حس)): أي أنت ترفق بالمريض وتحميه ما يخشى أن لا يحتمل بدمه، وتطعمه ما ترى أنه أرفق به. والطبيب هو العالم بحقيقة الداء والدواء، والقادر علي الصحة والشفاء، وليس ذلك إلا الله. الواحد القهار. ((مظ)): تسمية الله تعالي بالطبيب أن يذكر في حال الاستشفاء اللهم أنت المصحح والممرض والمداوي والطبيب ونحو ذلك. ولا يقال: يا طبيب، كما يقال: يا حكيم، يا رحيم؛ فإن ذلك بعيد من الأدب؛ ولأن أسماء الله تعالي توقيفية، قال الله تعالي: {ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. الحديث التاسع عن عمرو: قوله: ((يقيد)) ((نه)): القود القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، وقد أقدته به أقيده إقادة، واستقدت الحاكم سألته أن يقيدني. الحديث العاشر عن الحسن: قوله: ((قتلناه)) ((خط)): هذا زجر ليرتدعوا فلا يقدموا علي ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر: ((إذا شرب فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه)) ثم قال في الرابعة أو الخامسة: ((فإن عاد فاقتلوه)) ثم لم يقتله حين جيء به وقد شرب رابعاً أو خامساً. وقد تأوله بعضهم علي أنه إنما جاء في عبد كان يملكه، فزال عن ملكه فصار كفؤاً له بالحرية. وذهب بعضهم إلي أن الحديث منسوخ بقوله تعالي: {الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وقوله تعالي: {والْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. ((حس)): فذهب عامة أهل العلم إلي أن طرف الحر لا يقطع بطرف العبد، فيثبت بهذا الاتفاق علي أن الحديث محمول علي الزجر أو الردع، أو هو منسوخ.

3474 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل متعمداً دفع إلي أولياء المقتول؛ فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية: وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة. وما صالحوا عليه فهم لهم)). رواه الترمذي. [3474] 3475 - وعن علي [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد علي من سواهم، ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده)). رواه أبو داود، والنسائي. [3475] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن عمرو: قوله: ((وأربعون خلفة)) ((نه)): الخلفة بفتح الخاء وكسر اللام الحامل من النوق، وتجمع علي خلفات وخلائف، وقد خلفت إذا حملت. الحديث الثاني عشر عن علي رضي الله عنه قوله: هذا الحديث من جملة ما قد كان في الصحيفة التي كانت في قراب سيفه، قوله: ((تتكافأ دماؤهم)) ((فا)): التكافؤ التساوي أي تتساوي في القصاص والديات لا فضل فيها لشريف علي وضيع. ((حس)): يريد به أن دماء المسلمين متساوية في القصاص، يقاد الشريف منهم بالوضيع والكبير بالصغير والعالم بالجاهل والرجل بالمرأة، وإن كان المقتول شريفاً أو عالماً والقاتل وضيعاً أو جاهلاً، لا يقتل به غير قاتله، علي خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، وكانوا لا يرضون في دم الشريف بالاستقادة من قاتله الوضيع. حتى يقتلوا عدة من قبيلة القاتل. قوله: ((ويسعى بذمتهم)) ((فا)): الذمة الأمان، ومنها سمى المعاهد ذمياً؛ لأنه أومن علي ماله ودمه للجزية، أي إذا أعطى أدنى رجل منهم أماناً فليس للباقين إخفاره. ((حس)): أي إن واحداً من المسلمين إذا أمن كافراً حرم علي عامة المسلمين دمه، وإن كان هذا المجير أدناهم، مثل أن يكون عبداً أو امرأة أو عسيفاً تابعاً، أو نحو ذلك، فلا تخفروا ذمته. قوله: ((ويرد عليهم أقصاهم)) فيه وجهان، أحدهما: أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار عن بلاد الكفر إذا عقد للكافر عقداً في الأمان، لم يكن لأحد منهم نقضه وإن كان أقرب داراً من المعقود له. وثإنيهما: إذا دخل العسكر دار الحرب، فوجه الإمام سرية منهم، فما غنمت من شيء أخذت

3476 - ورواه ابن ماجه عن ابن عباس. [3476] ـــــــــــــــــــــــــــــ منه ما سمى لها، ويرد علي العسكر الذين خلفهم؛ لأنهم وإن لم يشهدوا الغنيمة كانوا ردء السرايا، وكذا في النهاية، وهو اختيار القاضي. والأول هو الظاهر لما يلزم من الثاني التعمية والألغاز؛ لأن مفعول ((يرد)) غير مذكور، وليس في الكلام ما يدل عليه بخلاف الأول؛ لأنه يدل عليه قوله: ((ويسعى بذمتهم)) وليس بين القرينتين تكرار؛ لأن المعنى يجير بعهدهم أدناهم منزلة وأبعدهم منزلا، وينصر الوجه الثاني الحديث السادس من الفصل الثاني في باب الديات وسيجيء بيانه. قوله: ((وهم يد علي من سواهم)) قال أبو عبيدة: إن المسلمين لا يسعهم التخاذل بل يعاونون بعضهم بعضاً علي جميع الأديان والملل، وقد سبق تحقيق هذا التركيب وبيان مجازه. قوله: ((ولا ذو عهد في عهده)) ((قض)): أي لا يقتل في كفره ما دام معاهداً غير ناقض. وقالت الحنفية: معناه ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر قصاصاً، ولا شك أن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد هو الحربي، دون الذمي فينبغي أن يكون المراد بالكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ضعيف؛ لأنه إضمار من غير حاجة، ولا دليل يقتضيه، وأن التسوية بين المعطوف والمعطوف عليه غير لازمة، ثم إنه يفضى إلي أن يؤول قوله: ((لا يقتل مؤمن بكافر)) إلي أنه لا يقتل بحربي فيكون لغواً لا فائدة فيه. ((تو)): لولا أن المراد ما ذهب إليه الأصحاب لكان الكلام خالياً عن الفائدة؛ لحصول الإجماع علي أن المعاهد لا يقتل في عهده. ((حس)): فائدته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط القود عن المسلم إذا قتل الكافر أوجب ذلك توهين حرمة دماء الكفار، فلم يؤمن من وقوع شبهة لبعض السامعين في حرمة دمائهم، وإقدام المسرع من المسلمين إلي قتلهم، فأعاد القول في خطر دمائهم؛ دفعاً للشبهة وقطعاً لتأويل المتأول. أقول: هذا هو الذي يقتضيه سياق الحديث ونظم الكلام؛ فإن قوله: ((المسلمون تتكافؤ دماؤهم – إلي قوله – وهم يد علي من سواهم)) يدل علي إعلاء كلمة الإسلام وإعزاز أهله، وتوهين أمر الكفر وإرغام حزبه. فإذا قتل بعد ذلك لا يقتل من أعزه الله بالإسلام ورفع درجته بمن ضربت عليه الذلة والمسكنة بتنافر النظام. وإذا ذهب إلي ما ذكره محيي السنة كان ذلك تتميما لمدحهم وصوناً لهم من نقض العهد، فتتجاوب مقدمة الكلام وسياقته، ونحوه قوله تعالي: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فإن هذا القول يوهم أن قولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} هو المراد بما كذبوا به، فاستدرك ذلك بقوله: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} صيانة لذلك التوهم. وقوله: فسقى ديارك غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمي 3477 - وعن أبي شريح الخزاعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أصيب بدم أو خبل – والخبل: الجرح – فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا علي يديه: بين أن يقتص أو يعفو، أو يأخذ العقل. فإن أخذ من ذلك شيئاً؛ ثم عدا بعد ذلك فله النار خالداً فيها مخلداً أبداً)). رواه الدارمي. [3477] 3478 - وعن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل في عمية في رمي يكون بينهم بالحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بعصاً؛ فهو خطأ، وعقله عقل الخطأ. ومن قتل عمداً فهو قود. ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل)) رواه أبو داود، والنسائي. [3478]

ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قوله: غير مفسدها تتميم للصيانة. ((شف)): قال الحافظ أبو موسى: يحتمل هذا الحديث وجهاً آخر. وهو أن يكون معناه لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار ولا معاهد ببعض الكفار وهو الحربي، ولا ينكر أن يكون لفظة واحدة يعطف عليها شيئان، يكون أحدهما راجعاً علي جميعها والآخر علي بعضها. الحديث الثالث عشر عن أبي شريح: قوله: ((أو خبل)) الخبل بفتح الخاء المعجمة وسكون الباء فساد الأعضاء، يقال: خبل الحب قبله إذا أفسده، خبله ويخبله خبلا، ورجل خبل ومختبل، أي من أصيب بقتل نفس أو قطع عضو، يقال: بنو فلان يطالبون بدم أو خبل أي بقطع أيد وأرجل. أقول: قوله: ((بين أن يقتص)) بدل من قوله: ((بين إحدى ثلاث)) وتوضيح لما أريد من التقسيم الحاصر، وقوله: ((فإن أراد الرابعة)) يدل علي الحصر، فيكون قوله: ((فإن أخذ)) إلي آخره أيضاً كالتوضيح لقوله: ((فإن أراد الرابعة فخذوا علي يديه)) يعني من أراد الرابعة فهو متعد متجاوز طوره فيستحق النار، وهو من قوله تعالي: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ - إلي قوله - فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وبيان الخلود والتأبيد قد سبق في الفصل الأول في حديث أبي هريرة. الحديث الرابع عشر عن طاوس: قوله: ((في رمي)) إلي آخره. كالبيان لقوله: ((في عمية)) ((قض)): أي في حال يعمى فيها أمره، فلا يتبين قاتله ولا حال فتله. يقال: فلان في عميته أي جهله، ويقال: العمية أن يضرب الإنسان بما لا يقصد به القتل كحجر صغير وعصا خفيفة. فأفضى إلي القتل، من التعمية وهو التلبيس، والقتل بمثل ذلك تسميه الفقهاء شبه عمد.

3479 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أعفي من قتل بعد أخذ الدية)). رواه أبو داود. [3479] 3480 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه خطيئة)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3480] الفصل الثالث 3481 - عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة. وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لتقلتهم جميعاً. رواه مالك. [3481] 3482 - وروى البخاري عن ابن عمر نحوه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ومن قتل عمداً فهو قود)) ((من)) مبتدأ متضمن لمعني الشرط؛ ولذا جاء الفاء في خبره، وهو مبتدأ ثان راجع إلي ((من)) و ((قود)) خبره، أي بصدد أن يقاد منه واستوجب له، أطلق المصدر علي المفعول واستعمله باعتبار ما يؤول إليه للمبالغة. و ((من حال دونه)) أي منع المستحق من القصاص فعليه ما عليه. الحديث الخامس عشر عن جابر: قوله: ((لا أعفي)) ((قض)): أي لا أدع القاتل بعد أخذ الدية فيعفي عنه ويرضي منه بالدية لعظم جرمه. والمراد منه التغليظ عليه والتفظيع لما ارتكبه. الحديث السادس عشر عن أبي الدرداء: قوله: ((فتصدق)) مرتب علي قوله: ((يصاب)) ومخصص له؛ لأن المصاب به يحتمل أن يكون سماوياً، وأن يكون من العباد، فخص بالثاني لدلالة قوله: ((فتصدق)) وهو العفو عن الجإني. الفصل الثالث الحديث الأول عن سعيد: قوله: ((غيلة)) ((نه)): أي في خفية واغتيال، وهو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد. والغيلة فعلة من الاغتيال. وقوله: ((تمالأ عليه أهل صنعاء)) أي تساعدوا واجتمعوا وتعاونوا – انتهي كلامه. وتخصيص ذكر صنعاء إما لأن هؤلاء الرجال منها أو هو مثل عند العرب في الكثرة، وصنعاء موضع باليمن.

3483 - وعن جندب، قال: حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء المقتول بقاتله يوم القيامة فيقول: سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: قتلته علي ملك فلان)). قال جندب: فاتقها. رواه النسائي. [3483] 3484 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أعان علي قتل مؤمن بشطر كلمة؛ لقي الله، مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)). رواه ابن ماجه. [3484] 3485 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي تقل ويحبس الذي أمسك)). رواه الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جندب: قوله: ((علي ملك فلان)) فإن قلت: كيف طابق هذا قوله: ((فيم قتلني))؛ لأنه سأل عن سبب قتله وأجاب بما لا يطابقه؟ قلت: قوله: ((علي ملك فلان)) معناه علي عهد ملك فلان من السلاطين وزمانه أي في نصرته، لقوله تعالي: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلي مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فالضمير في قوله: ((فاتقها)) عائد إلي النصرة، كأن جندباً ينصح رجلا أراد هذه الفعلة، واستشهد بهذا الحديث، ثم قال: فإذا سمعت بذلك فاتقها، هذا إذا كانت الرواية بضم الميم في الملك، وإذا روى بالكسر كان المعنى قتلته علي مشاجرة بيني وبينه في ملك زيد، فالضمير في ((فاتقها)) راجع إلي المشاجرة. والله أعلم بالمراد. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شطر كلمة)) يراد به ((اق)) من اقتل. وقوله: ((آيس من رحمة الله)) كناية عن كونه كافراً؛ لقوله تعالي: {إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} يعني يفضحه علي رءوس الأشهاد بهذه السمة الفظيعة بين كريمتيه، وهذا من باب التغليظ والتشديد ولا يرى أبلغ منه. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ويحبس الذي أمسك)) ((قض)): لو أمسك أحد رجلاً حتى قتله آخر فلا قود علي الممسك كما لو أمسك امرأة حتى زنى بها آخر لا حد علي الممسك وقال مالك: إن أمسكه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعاً، وإن أمسكه وهو يرى أنه يريد الضرب، فإنه يقبل الضارب ويعاقب الممسك أشد العقوبة ويسجن سنة.

(1) باب الديات

(1) باب الديات الفصل الأول 3486 - عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذه وهذه سواء)) يعني الخنصر والإبهام. رواه البخاري. 3487 - وعن أبي هريرة، قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، والعقل علي عصبتها. متفق عليه. 3488 - وعنه، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة علي عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الديات المغرب: الدية مصدر ودي القاتل المقتول إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس، ثم قيل لذلك المال: الدية تسمية بالمصدر ولذا جمعت، وهي مثل عدة في حذف الفاء. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يعني الخنصر والإبهام)) ((حس)): يجب في كل إصبع يقطعها عشر من الإبل، وإذا قطع أنملة من أنامله ففيها ثلث دية إصبع إلا أنملة الإبهام؛ فإن فيها نصف دية إصبع؛ لأنه ليس فيها إلا أنملتان. لا فرق فيه بين أنامل اليد والرجل. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الغرة)) ((نه)): الغرة العبد نفسه أو الأمة، وأصل الغرة البياض الذي يكون في وجه الفرس. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء يسمى غره لبياضه، فلا يقبل في الجنين عبد أسود ولا جارية سوداء، وليس ذلك شرطاً عند الفقهاء. ((مح)): الرواية فيها ((غرة)) بالتنوين وما بعده بدل منه. ورواه بعضهم بالإضافة والأول أوجه، و ((أو)) في قوله: ((أو أمة)) للتقسيم لا للشك.

3489 - وعن المغيرة بن شعبة: أن امرأتين كانتا ضرتين، فرمت إحداهما الأخرى بحجر أو عمود فسطاط، فألقت جنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والعقل)) ((حس)): العقل هو الدية وسمى بذلك؛ لأنه من العقل وهو الشد، وذلك أن القاتل كان يأتي بالإبل فيعقلها في فناء المقتول، وبه سميت العصبة التي تحمل العقل عاقلة. وقيل: سميت به عاقلة؛ لأنه من المنع والعقل هو المنع، وبه سمى العقل المركب في الإنسان؛ لأنه يمنعه عما لا يحسن. ((مح)): واتفقوا علي أن دية الجنين هي الغرة سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى، وسواء كان كامل الخلقة أو ناقصها إذا تصور فيها خلق آدمي. وإنما كان كذلك؛ لأن الجنين قد يخفي فيكثر فيه النزاع، وضبطه الشارع بما يقطع النزاع. ثم تكون الغرة لورثة الجنين جميعهم، وهذا شخص يورث ولا يرث، ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر وبعضه رقيق؛ فإنه لا يرث عندنا ولكن يورث علي الأصح، هذا إذا انفصل الجنين ميتاً أما إذا انفصل حياً ثم مات فتجب فيه كمال دية الكبير، فإن كان ذكراً وجب مائة بعير، وإن كان أنثى فخمسون. وسواء فيه العمد والخطأ. ومتى وجبت الغرة فهي علي العاقلة لا علي الجإني. ((ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت)). قال العلماء: هذا الكلام قد يوهم خلاف مراده، فالصواب أن المرأة التي ماتت هي المجني عليها أم الجنين لا الجإنية. وقد صرح به في حديث آخر بقوله: ((فقتلها وما في بطنها)) فيكون المراد بقوله: ((التي قضى عليها بالغرة)) أي التي قضى لها بالغرة فعبر بـ ((عليها)) عن ((لها)) والحجر فيه محمول علي حجر صغير لا يقصد به القتل غالباً، فيكون شبه عمد تجب فيه الدية علي العاقلة، وليس علي الجإني قصاص ولادية. وهذا مذهب الشافعي والجماهير. و ((لحيان)) بفتح اللام وكسرها، والذي أشهر وهم بطن من هذيل. وفي قوله: ((والعقل علي عصبتها)) دليل علي ما قاله الفقهاء: إن دية الخطأ علي العاقلة، وإنها تختص بعصبات القاتل، سوى آبائه وأبنائه. أقول: ونظير التعبير بـ ((عليها)) عن ((لها)) قوله تعالي: {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلي النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أي لكم فضمن معنى الرقيب، فالمعنى فحفظ عليها حقها قاضياً لها بالغرة. فعلي هذا الضمير في قوله: ((علي عاقلتها)) للجإنية ((وفي ورثتها)) للدية و ((في ولدها)) للمجني عليها. وجمع الضمير في ((معهم))؛ ليدل علي أن الولد في معنى الجمع. ((ومن معهم)) هو الزوج بدلالة قوله في الحديث السابق: ((بأن ميراثها لبنيها وزوجها)). هذا إذا كان الحديثان في قضية واحدة وهو الظاهر، وأما إذا كانا في قضيتين فالمعنى بقوله: ((قضى عليها)) هي الجإنية، فيكون ميراثها لبنيها وزوجها، والدية علي عصبتها. الحديث الرابع عن المغيرة: قوله: ((أو عمود فسطاط)) ((نه)): هو ضرب من الأبنية في السفر

غرة: عبداً أو أمة، وجعله علي عصبة المرأة. هذه رواية الترمذي، وفي رواية مسلم: قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلي، فقتلتها. قال: وإحداهما لحيإنية. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة علي عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها. الفصل الثاني 3490 - عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا؛ مائة من الإبل: منها أربعون في بطونها أولادها)) رواه النسائي، وابن ماجه، والدارمي. [3490] 3491 - ورواه أبو داود عنه، وعن ابن عمر. وفي ((شرح السنة)) لفظ ((المصابيح)) عن ابن عمر. [3491] ـــــــــــــــــــــــــــــ دون السرادق. ((مح)): هذا محمول علي أنه عمود صغير لا يقصد به القتل غالباً كما مر في الحجر. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((الخطأ شبه العمد)) فيه وجوه من الإعراب أحدها: أن يكون ((شبه العمد)) صفة ((الخطأ)) وهو معرفة وجاز؛ لأن قوله: ((شبه العمد)) وقع بين الضدين. وثإنيها: أن يراد بالخطأ الجنس فهو بمنزلة النكرة. و ((ما)) علي التقديرين إما موصولة أو موصوفة بدلاً أو بياناً. وثالثها: أن يكون ((شبه العمد)) بدلاً من ((الخطأ)) و ((ما كان)) بدلاً من البدل، وعلي هذا يجوز أن يكون التابع والمتبوع معرفتين أو نكرتين أو مختلفتين. وقوله: ((مائة)) خبر ((إن)). ((حس)): الحديث يدل علي إثبات العمد الخطأ في القتل، وزعم بعضهم أن القتل لا يكون إلا عمداً محضاً أو خطأ محضاً، فأما شبه العمد فلا نعرفه وهو قول مالك، واستدل أبو حنيفة بحديث عبد الله بن عمرو، وعلي أن القتل بالمثقل شبه عمد لا يوجب القصاص، ولا حجة له فيه؛ لأن الحديث في السوط والعصا الخفيفة التي لا يقصد بها القتل، وذلك لان الغالب من أمر السياط والعصي أنها تكون خفيفة، والقتل الحاصل بها يكون قتلا بطريق شبه العمد. فأما المثقل الكبير فملحق بالمحدد الذي هو معد للقتل. واتفقوا علي أن دية الحر المسلم مائة من

3492 - وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أهل اليمن، وكان في كتابه: ((أن من اعتبط مؤمناً قتلاً؛ فإنه قود يده إلا أن يرضي أولياء المقتول))، وفيه: ((أن الرجل يقتل بالمرأة)) وفيه: ((في النفس الدية مائة من الإبل، وعلي أهل الذهب ألف دينار، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية مائة من الإبل، وفي الأسنان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل)) رواه النسائي، والدارمي. وفي رواية مالك: ((وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي الموضحة خمس)). [3492] ـــــــــــــــــــــــــــــ الإبل. ثم هي في العمد المحض مغلظة في مال الجإني حالة، وفي شبه العمد مغلظة علي العاقلة مؤجلة، وفي الخطأ مخففة علي العاقلة مؤجلة. والتغليظ والتخفيف يكون في أسنان الإبل إلي آخر ما قال. الحديث الثاني عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((من اعتبط)) ((نه)): أي قتله من غير جناية من قولهم: عبطت الناقة واعتبطتها إذا قتلتها وليست بها علة، ويقال: مات فلان عبطة، أي شاباً من غير هرم ومرض مخوف. أقول قوله: ((قتلاً)) مفعول مطلق لأنه نوع منه. وقوله: ((فإنه)) جواب الشرط، وكان الظاهر أن يقال: يقتص منه؛ لأنه سبب له فأقيم السبب مقام المسبب، والاستثناء من المسبب في الحقيقة، وإلي هذا لمح القاضي بقوله: أي أن يقتل قصاصاً بما جنته يده وكان مقتول يده قصاصاً، إذا لو لم يجن لما اقتص منه. وأصل القود الانقياد، ثم سمى به الاقتصاص؛ لما فيه من انقياد الجإني له بما جناه. و ((أوعب)) أي استوعب جدعه واستوصل حيث لا يبقى منه شيء. و ((مائة من الإبل)) يدل علي أن الدية من الإبل. و ((المأمومة)) التي تصل إلي جلدة فوق الدماغ تسمى أم الدماغ، واشتقاق المأمومة منه. و ((الجائفة)) الطعنة التي تصل إلي جوف من الأجواف. و ((المنقلة)) بالكسر الشجة التي تنقل العظم، أي تكسره فتخرجه عن محله. و ((الموضحة)) الجراحة التي ترفع اللحم من العظم وتوضحه. وأمثال هذه التقديرات تعبد محض لا طريق إلي معرفته إلا التوقيف. قوله: ((وعلي أهل الذهب أهل دينار)) ((حس)): اختلفوا في أصل الدية وفي قدر الواجب فيها من الدراهم والدنإنير، فذهب بعضهم إلي أن الأصل فيها الإبل، وإذا عدمت تجب قيمتها ما بلغت، وهو قول الشافعي في الجديد، ودليله ما روى عمرو بن شعيب قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم دية الخطأ علي أهل القرى أربعمائة دينار)) الحديث. ويؤول حديث عمر رضي الله عنه

3493 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواضح خمساً خمساً من الإبل، وفي الأسنان خمساً خمساً من الإبل. رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. وروى الترمذي، وابن ماجه، الفصل الأول. [3493] 3494 - وعن ابن عباس، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء. رواه أبو داود، والترمذي. [3494] 3495 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء)) رواه أبو داود. [3495] 3496 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ثم قال: ((أيها الناس! إنه لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في ـــــــــــــــــــــــــــــ علي أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار. ويدل عليه ما روى عمرو بن شعيب: ((كانت قيمة الدية علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار)) الحديث. الحديث الثالث عن عمرو: قوله: وفي الأسنان خمساً خمساً)) فإن قلت: كيف يوافق هذا قوله: في الحديث السابق وفي الأسنان الدية))؟ قلت: اعتبر في الجمع هنا أفراده وهناك حقيقته، مثاله في التعريف حقيقة الجنس واستغراقه؛ ولذلك كرر ((خمساً)) ليستوعب الدية الكاملة باعتبار أجناسها. قال ابن الحاجب: العرب تكرر الشيء مرتين؛ ليستوعب تفصيل جميع جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ المكرر. الحديث الرابع والخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الثنية والضرس)) المغرب: الثنية واحدة الثنايا وهي الأسنان المقدمة اثنان فوق واثنان أسفل؛ لأن كلا منهما مضمومة إلي صاحبتها، والأضراس ما سوى الثنايا من الأسنان، والواحد ضرس يذكر ويؤنث ذكرهما تقريراً لمعنى قوله: ((الأسنان سواء)) أي لا تفاوت فيما ظهر منها وما بطن، وما يفتقر إليها كل الافتقار وما ليس كذلك. والمراد بقوله: ((هذه وهذه)) الخنصر والإبهام، يؤيده تفسيرهما في الحديث الأول من الباب بقوله: ((يعني الخنصر والبنصر)). الحديث السادس عن عمرو بن شعيب: قوله: ((لا حلف في الإسلام)) فيه وجهان، وأحدهما: ما ذكره في النهاية، أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة علي التعاضد والتساعد

الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، المؤمنون يد علي من سواهم، يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، يرد سراياهم علي قعيدتهم، لا يقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المسلم، لا جلب ولا جنب، لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)). وفي رواية قال: ((دية المعاهد نصف دية الحر)) رواه أبو داود. [3496] ـــــــــــــــــــــــــــــ والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية علي الفتن والقتال والغارات؛ فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حلف في الإسلام)) وما كان منه في الجاهلية علي نصرة المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)). و ((حلف المطيبين)) هو الذي اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيباً في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا علي التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فسموا المطيبين. وأما الأحلاف فهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم، سموا بذلك؛ لأنه لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأثبت عبد الدار عقد كل قوم علي أمرهم حلفاً مؤكداً علي أن لا يتخاذلوا. فسموا الأحلاف لذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من المطيبين، وعمر من الأحلاف. وثإنيهما: ما ذكره التوربشتي ولخصه القاضي، كان أهل الجاهلية يتعاهدون فيعاقد الرجل الرجل، ويقول له: دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيعدون الحليف من القوم الذين دخل في حلفهم ويقررون له وعليه مقتضى الحلف والمعاقدة غنماً وغرماً، فلما جاء الإسلام قررهم علي ذلك؛ لاشتماله علي مصالح من حقن الدماء والنصر علي الأعداء، وحفظ العهود والتألف بين الناس، حتى كان يوم الفتح فنفي ما أحدث في الإسلام لما في رابطة الدين من الحث علي التعاضد والتعاون ما نعتهم من المخالفة. وقرر ما صدر عنهم في أيام الجاهلية وفاء بالعهود وحفظاً للحقوق. لكن نسخ من أحكامه التوارث وتحمل الجنايات، بالنصوص الدالة علي اختصاص ذلك بأشخاص مخصوصة وارتباطه بأسباب معينة معدودة. أقول: يلزم علي الوجه الأول التخصيص؛ لأنه لما نفي جنس الحلف علي الفتن والغارات، وعلي نصرة المظلوم وصلة الأرحام أتبعه قوله: ((وما كان من حلف)) أي حلف صدق واتفاق علي نصرة المظلوم مخصصاً للعام، فلا يلزم النسخ علي مذهبنا، وعلي الوجه الثاني منسوخ. وقوله: ((المؤمنون يد علي من سواهم)) يؤيد الوجه الثاني؛ لأنه جملة مبنية لنفي الحلف المخصوص في

3497 - وعن خشف بن مالك، عن ابن مسعود، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بيت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكور، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقه)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والصحيح انه موقوف علي ابن مسعود، وخشف مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث، وروي في ((شرح السنة)) أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان إبل الصدقة ابن مخاض إنما فيها ابن لبون. [3497] ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام؛ لأن أخوة الإسلام جمعتهم وجعلتهم كيد واحدة، لا يسعهم التخاذل بل يجب علي كل واحد منهم نصرة أخيه. قال تعالي: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ}. وقوله ((يجير عليهم أدناهم)) كالبيان السابق؛ ولذلك: لم يؤت بالعاطف، يعني إذا كانوا في حكم اليد الواحدة فهم سواء فالأدنى كالأعلي. وكذلك * ((يرد سراياهم علي قعيدتهم)) جيء بلا واو بيانا، وهو ينصر الوجه الثاني في قوله: ((يرد عليهم أقصاهم)) في حديث علي رضي الله عنه. في الفصل الثاني من كتاب القصاص، وإن روي بالواو كما في بعض نسخ المصابيح فبالعكس؛ لاقتضاء العطف المغايرة. ((تو)): أراد بالعقيدة الجيوش النازية في دار الحرب يبعثون سراياهم إلي العدو، فما غنمت يرد منه علي القاعدين حصتهم؛ لأنهم كانوا ردء لهم. قوله: ((دية الكافر)) ((مظ)): ذهب مالك وأحمد إلي أن ديته نصف دية المسلم، غير أن أحمد قال: إذا كان القتل خطأ وإن كان عمدا لم يقد به، ويضاعف عليه باثني عشر ألفا. وقال أصحاب أبي حنيفة: ديته مثل دية المسلم. وقال الشافعي: ديته ثلث دية المسلم. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((دية اليهودي والنصرإني أربعة آلاف، ودية لمجوسي ثمانمائة)) من شرح السنة. قوله: ((ولا تؤخذ صدقاتهم)) لو جعلت الواو كما في قولك: جاء زيد وذهب عمرو ينبغي أن يفسر ((لا جلب ولا جنب)) بما يغايره من السباق في الخيل؛ فإن الجلب حينئذ بمعنى الصوت والزجر ليزيد في شأنه، والجنب بمعنى جانب فرس آخر في جنب فرسه. ولو جعلت كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه يجب أن يفسر بما يقع مبينا له، فالجلب هو أن ينزل الساعي موضعا ويبعث إلي أرباب المواشي ليجلبوا إليه مواشيهم، فيأخذ صدقاتهم، والجنب هو أن يبعد أرباب المواشي عن مواضيعهم فيشق علي المصدق طلبهم. ولو جعل الواو كما في قوله تعالي: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ} لم يبعد، فيجعل قوله ((لا تؤخذ صدقاتهم)) مسببا عن قوله: ((لا جلب ولا جنب)) بأن يخبر عن الأمرين، ويفوض الترتيب إلي الذهن. والله أعلم. الحديث السابع عن خشف: قوله: ((بنت مخاض)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن المراد منه

3498 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كانت قيمة الدية علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمإنية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين. قال: فكلن كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام خطيبا، فقال: إن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر علي أهل الذهب ألف دينار، وعلي أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلي أهل البقر مائتي بقرة، وعلي أهل الشاء ألفي شاة، وعلي أهل الحلل مائتي حلة. قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. رواه أبو داود. [3498] ـــــــــــــــــــــــــــــ الجنس فيشتمل علي الذكور والإناث. وثإنيهما: الأنثى منه وهو المراد في الحديث؛ لعطف قوله: ((وابن مخاض)) عليه، وتأكيده بقوله: ((ذكور)) بالجر علي الجوار، كما في المثل: جحر ضب خرب، كذا في الترمذي وأبي داود وشرح السنة وبغض نسخ المصابيح، وفي بعضها ((ذكورا)) وهو ظاهر. قوله: ((وخشف مجهول)) ((تو)): والعجب من مؤلف المصابيح كيف شهد بصحته موقوفا ثم طعن في الذي يرويه عنه. وقوله: ((وخشف مجهول)) قول لم يبتدعه هو بل سبقه به الأولون الذين خالفوا هذا الحديث. وأراه قد نقله الخطابي، وكان عليه أن لا يبادر فيه، وقد ذكره البخاري في تاريخه فقال: خشف بن مالك سمع عمرو بن مسعود. أقول: قوله: وأراه قد نقله الخطابي ليس بطعن، بل قلده وأبا داود والترمذي، وقال أبو داود: وهو قول عبد الله، وقال الترمذي: حديث ابن مسعود لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وقد روى عن عبد الله موقوفا. وفي شرح السنة: خشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. وقوله عن البخاري: إن خشفا سمع عمرو بن مسعود لا يجعله من المشهورين، ولعل غرضه في الطعن تقرير مذهبه. قال في شرح السنة: دية الخطأ أخماس عند أكثر أهل العلم، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلي شرح السنة: دية الخطأ أخماس عند أكثر أهل العلم، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلي أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقه، وعشرون جذعة، وبه قال الليث ومالك والشافعي. وأبدل قوم بني اللبون ببني المخاض واحتجبوا بحديث خشف. الحديث الثامن والتاسع عن عمرو: قوله: ((وترك دية أهل الذمة لم يرفعها)) يعني كانت قيمة دية المسلم علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمإنية آلاف درهم مثلا، وقيمة دية أهل الكتاب نصفه أربعة آلاف درهم، فلما رفع عمر رضي الله عنه دية المسلم إلي اثني عشر ألفا، وقر دية الذمي علي ما كان عليه من أربعة آلاف درهم، صار دية الذمي كثلث دية المسلم مطلقا. ولعل من اوجب الثلث نظرا إلي هذا.

3499 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه جعل الدية اثني عشر ألفا. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [3499] 3500 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم دية الخطأ علي أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقومها علي أثمان الإبل، فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخص نقص من قيمتها، وبلغت علي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة دينار إلي ثمانمائة دينار، وعدلها من الورق ثمإنية آلاف درهم. قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أهل البقر مائتي بقرة، وعلي أهل الشاء ألفي شاة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العقل ميراث بين ورثة القتيل)). وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها، ولا يرث القاتل شيئا. رواه أبو داود، والنسائي. [3500] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر والحادي عشر عن عمرو: قوله: ((وإذا هاجت رخص)) ((قض)): أي ظهرت، من هاج إذا ثار، والتإنيث باعتبار القيمة؛ لأن الرخص رخصها، وهو يدل علي أن الأصل في الدية هو الإبل، فإن أعوزت وجبت قيمتها بالغة ما بلغت، كما قاله الشافعي في الجديد، وأول ما روى من تقدير دراهم أو دنإنير، بأنه تقويم وتعديل باعتبار ما كان في ذلك الزمان لا مطلقا. قوله: ((وعدلها)) مرفوع علي الابتداء، وخبره ((ثمإنية آلاف درهم)). قوله: ((أن عقل المرأة بين عصبتها)) ((تو)): يعني أن العصبة يتحملون عقل المرأة الذي يجب عليهم بسبب جنايتها تحملهم عن الرجل، وأنها ليست كالعبد في جنايته، إذا العاقلة لا تحمل عنه بل تتعلق الجناية برقبته. ((شف)): يمكن أن يكون معناه أن المرأة المقتولة ديتها تركة بين ورثتها كسائر ما تركه لهم. وهذا يناسب باقي الحديث، وهو قوله: ((لا يرث القاتل شيئا)) لأنه صلى الله عليه وسلم لما بين أن دية المرأة المقتولة بين ورثتها دخل القاتل في عمومهم، فخصهم بغير القاتل. ومما يؤيد هذا المعنى الحديث السابق علي هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العقل ميراث بين ورثة القتيل))، فعلي هذا إنما يتم ويستتب إذا جعل كل واحد من قوله: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: ((إن العقل ميراث بين ورثة القتيل)) وقوله: ((وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها ولا يرث القاتل شيئا)) حديثين مستقلين برأسهما، فيكون أحدهما مبينا بالآخر، وإما إذا كانا من حديث واحد عن عمرو بن شعيب، وأخرجه أبو داود والنسائي كما في متن المشكاة. فلا؛ لئلا يلزم التكرار، ويكون قوله: ((ولا يرث القاتل)) متعلقا بقوله: ((إن العقل ميراث)) لا بالثاني؛ ولأن ميراث القتيل لا يختص بالعصبة، بل العصبة مختصة بالعقل. والله أعلم.

3501 - وعنه، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عقل شبه العمد مغلط، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه)) رواه أبو داود. [3501] 2502 - وعنه، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية. رواه أبو داود، والنسائي. [3502] 3503 - وعن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة: عبد، أو امة، أو فرس، أو بغل. رواه أبو داود، وقال: روي هذا الحديث حماد بن سلمة وخالد الواسطي عن محمد بن عمرو ولم يذكر: أو فرس أو بغل. [3503] 3504 - وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) رواه أبو داود، والنسائي. [3504] 3505 - وعن عمران بن حصين: لن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن عمرو: ((عقل شبه العمد مغلط)) مضى بحثه في الحديث الأول من الفصل الثاني. الحديث لثالث عشر عن عمرو: قوله: ((القائمة السادة)) ((تو)): أراد بها العين التي لم تخرج من الحدقة ولم يخل موضوعها، فبقيت في رأي العين علي ما كانت ولم تشوه خلقتها، ولم يذهب منها جمال الوجه. والحديث لو صح فإنه يحمل علي أنه أوجب فيها ثلث الدية علي معنى الحكومة. ((حس)): معنى الحكومة أن يقال: لو كان هذا المجروح عبدا كم كان ينتقص بهذه الجراحة من قيمته؟ فيجب من ديته بذلك القدر. وحكومة كل عضو لا تبلغ دية المقدرة، حتى لو جرح رأسه جراحة دون الموضحة، لا تبلغ حكومتها أرش الموضحة وإن فحش شينها. الحديث الرابع عن محمد: قوله: ((أو فرس أو بغل)) ((مح)): الغرة عند العرب أنفس شيء، وأطلقت هنا علي الإنسان؛ لأن الله تعالي خلقه في أحسن تقويم. وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح: ((أو فرس أو بغل)) فرواية باطلة، وقد أحدثها بعض السلف. ((حس)): قيل: ذكر الفرس والبغل وهم من عيسى بن يونس. الحديث الخامس عشر عن عمرو: قوله: ((من تطيب)) ((مظ)) *: لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا، والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه معتد، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود؛ لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء علي عاتقه. والله أعلم. الحديث السادس عشر عن عمران: قوله: ((أن غلاما لأناس)) ((مظ)) *: هذا الغلام كان حرا

أغنياء، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أناس فقراء، فلم يجعل عليهم شيئا. رواه أبو داود، والنسائي. [3505] الفصل الثالث 3506 - عن علي [رضي الله عنه]، أنه قال: دية شبه العمد أثلاثا: ثلاث وثلاثون حقه، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلي بازل عامها كلها خلفات. وفي رواية: قال: في الخطأ أرباعا: خمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض. رواه أبو داود. [3506] 3507 - وعن مجاهد، قال قضى عمر [رضي الله عنه] في شبه العمد ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلقة ما بين ثنية إلي بازل عامها. رواه أبو داود. [3507] ـــــــــــــــــــــــــــــ وكان جنايته خطأ، وكانت عاقلته فقراء، فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا؛ لأن العاقلة إنما تواسي عن وجد سعة ولا شيء علي الفقير منهم. ولا يجوز أن يكون الغلام المجني عليه عبدا؛ إذ لو كان عبدا لم يكن لاعتذار أهله بالفقر معنى؛ لأن العاقلة لا تتحمل عبدا، فإن الغلام المملوك إذا جنى علي عبد أو حر، فجنايته في رقبته في قول عامة أهل العلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن علي رضي الله عنه: قوله: ((دية شبه العمد)) مبتئأ، وقوله: ((ثلاث وثلاثون)) خبره، وقد وقع التمييز وهو قوله: ((أثلاثا)) بينهما، كما يقال: التصريف لغة التغيير مثلا، أو نصب علي تقدير ((أعنى))، وعلي هذا قوله: ((خمس وعشرون)) خبر مبتدأه محذوف، ((وأرباعا)) تمييز. وقوله: ((في الخطأ)) من قول الراوي أي قال علي رضي الله عنه في شأن الخطأ: دية الخطأ خمس وعشرون. وقوله: ((إلي بازل عامها)) متصل بقوله: ((ثنية)) بدليل قوله في الحديث الآتي: ((ما بين ثنيته إلي بازل عامها)). ((نه)): الثني من الإبل والثنية، ما دخل في السنة السادسة، والبازل ما تم ثمإني سنين ودخل في التاسعة، وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك بازل عام وبازل عامين. أقول: ومنه حديث علي رضي الله عنه ((بازل عامين حديث سني)) أي يقول البازل: أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة، أو كل من رإني مستجمع الشباب مستكمل القوة يقول: هذا بازل عامين. الحديث الثاني والثالث عن سعيد: قوله: ((يطل)) ((نه)) يقال: طل دمه إذا أهدر. وقوله: ((من

(2) باب مالا يضمن من الجنايات

3508 - وعن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة. فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هذا من إخوان الكهان)) رواه مالك، والنسائي مرسلا. [3508] 3509 - ورواه أبو داود عنه عن أبي هريرة متصلا. (2) باب مالا يضمن من الجنايات الفصل الأول 3510 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إخوان الكهان)) إنما قال ذلك من اجل سجعه الذي سجعه ولم يعبه بمجرد السجع دون ما يضمن سجعه من الباطل، فإنه قال: كيف ندى من لا أكل ولا شرب ولا استهل ومثل ذلك يطل. وإنما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بإسجاع يروق السامعين، فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع. فأما إذا وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه، وكيف يذم؟ وقد جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا. أقول: راعي في تأخير الاستهلال عن النطق مع الاتفاق في السجع الترقي؛ لأن نفي الاستهلال أبلغ من نفي النطق؛ لما يلزم من نفي الاستهلال نفي النطق من غير عكس، وليس كذلك القرينة السابقة. باب مالا يضمن من الجنايات المغرب: الجناية ما يجنيه من شر أي يحدثه، تسمية بالمصدر من جنى عليه شرا، وهو عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل. وأصله من جني الثمرة، وهو أخذه من الشجر. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العجماء)) ((مظ)) *: العجماء البهيمة وسميت بها لعجمتها، وكل من لم يقدر علي الكلام فهو أعجمي، ومعنى الجبار الهدر، وإنما يكون جرحها هدرا إذا كانت منفلتة عابرة علي وجهها ليس لها قائد ولا سائق، وقد سبق معنى الحديث وتفاصيله.

3511 - وعن يعلي بن أمية، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، وكان لي أجير، فقاتل إنسانا فعض احدهما يد الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض، فأندر ثنيه فسقط، فانطلق إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيه، وقال: ((أيدع يده في فيك تقضمها كالفحل)) متفق عليه. 3512 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) متفق عليه. 3513 - وعن أبي هريرة، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك)) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)). قال: أريت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)). قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث والرابع عن يعلي: قوله: ((غزوت)) غزوت العدو قصدته للقتال غزوا. قوله ((مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) حال من الفاعل، و ((جيش العسرة)) حال من رسول الله، المعنى قصدت مصاحبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه مجهزا جيش العسرة. وفي حديث عثمان انه جهز جيش العسرة وهو جيش غزوة تبوك، سمى به؛ لأنه يذب الناس إلي الغزو في شدة القيظ، وكان وقت إيناع الثمرة وطيب الظلال، فعسر ذلك عليهم وشق، والعسر ضد اليسر وهو الضيق والشدة والصعوبة. و ((فأهدر ثنيه)) أي أسقطها. قوله: ((أيدع)) ((قض)): ((أيدع يده)) إلي آخره إشارة إلي علة الإهدار، وهو أن ما يدفع به الصائل المجتاز إذا تعين طريقا إلي دفعه مهدر؛ لأن الدافع مضطر إليه، ألجأه الصائل إلي دفعه به. فهو نتيجة فعله، ومسبب من جنايته، فكأنه الذي فعله وجنى به علي نفسه. والقضم الأكل بأطراف الأسنان، يقال: قضمت الناقة شعيرها بالكسر تقضمه قضما. ((حس)): وكذلك لو قصد رجل الفجور بأمره فدفعته عن نفسها فقضمته لا شيء عليها. رفع عمر رضي الله عنه جارية كانت تحتطب فاتبعها رجل فراودها عن نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر رضي الله عنه: هذا قتيل الله، والله لا يودي أبدا. وهو قول الشافعي. وكذا من قصد ماله ودمه وأهله فله دفع القاصد ومقاتليه، وينبغي أن يدفع بالأحسن فالأحسن، فان لم يمتنع إلا بالمقاتلة وقتله فدمه مهدر، وهل له أن يستسلم؟ نظرا إن أريد ماله فله ذلك، وإن أريد دمه ولا يمكنه دفعه إلا بالقتل، فقد ذهب قوم إلي أن له الاستسلام إلا أن يكون القاصد كافرا أو بهيمة. وذهب قوم إلي أن الواجب عليه الاستسلام.

3514 - وعنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو اطلع في بيتك أحد، ولم تأذن له، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه؛ ما كان عليك من جناح)) متفق عليه. 3515 - وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه، فقال: ((لو اعلم انك تنظرني لطعنت به في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) متفق عليه. 3516 - وعن عبد الله بن مغفل، انه رأي رجلا يخذف، فقال: لا تخذف فان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن الخذف، وقال: ((إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو؛ ولكنها قد تكسر السن وتفقا العين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فلا يعطه)) جواب للسؤال وجزاء الشرط محذوف، يدل عليه السؤال كما أن السؤال شرط جزائه محذوف، يعنى إن جاءه رجل بهذه الصفة أفأعطيه أم لا؟ قال: فلا تعطه يعنى إن كان كما وصفته فلا تعطه. وعلي هذا قوله: ((فأنت شهيد)). وأما ما جاء بلا فاء من قوله: ((قاتله، هو في النار)) فعلي الاستئناف بعد تقرير جواب الشرط، كأن قائلا سأل، قال: فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه؟ فأجيب قال كذا. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: وله: ((فخذفته)) ((مح)): هو بالخاء المعجمة، أي رميته بها من بين أصبعيك. والفقأ بالهمز الشق والنخس، واختلفوا في أنه هل يجوز رميه قبل إنذاره؟ فيه وجهان، أصحهما: جوازه لظاهر هذا الحديث. الحديث السادس عن سهل: قوله: ((مدرى)) ((نه)): المدرى والمدراة شيء يعمل من حديد أو خشب علي شكل سن من أسنان المشط وأطول منه، يسوى به الشعر الملبد، ويستعمله من لا مشط له. أقول: قوله: ((أعلم أنك تنظرني)) بعد قوله: ((اطلع)) يدل علي أن الاطلاع مع غير قصد النظر لا يترتب هذا الحكم عليه كالمار. و ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) معناه أن الاستئذان ما شرع ولا أمر به إلا حذرا من النظر إلي غير المحرم ولولاه لما شرع. ((نه)) *: فيه جواز رمي عين المتطلع بشيء خفيف، ولو فقئت لا ضمان عليه إذا نظر في بيت ليس فيه محرم له. الحديث السابع عن عبد الله: قوله: ((لا ينكأ به)) ((نه)): يقال: نكيت في العدو وأنكى نكاية فأنا ناك إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، وقد يهمز يقال: نكأت القرحة إذا قشرتها. أقول: معنى الحديث أنه رأي رجلا يصيب بالخذف فنهاه؛ لأنه لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا بل هو شر كله.

3517 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مر أحدكم في مسجدنا وفي سوقنا ومعه نبل فليمسك علي نصالها أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء)) متفق عليه. 3518 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يشير أحدكم علي أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي موسى: قوله: ((في مسجدنا وفي سوقنا)) أي مسجد المسلمين وسوقهم، فأضاف إلي الضمير المفخم إيذانا بالشرف. و ((أمسك)) عدي ب ((علي)) مبالغة في المحافظة والقيض عليها. و ((أن يصيب)) مفعول لأجله علي حذف المضاف، أي كراهة أن يصيب كقوله تعالي: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا}. أي كراهة أن تضلوا. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ينزع في يده)) ((تو)): أي يرمى به في يده كأنه يرفع يده كأنه يرفع يده فيحقق إشارته، ويروى بالغين المعجمة، ومعناه يغر به فيحمله علي تحقيق الضرب حين يشير به عند اللعب والهزل، ونزع الشيطان إغراؤه، ويحتمل أن يكون المعنى يطعن في يده من قولهم: نزعه بكلمة أي طعن فيه. الجوهري: نزغ في القوس نزعا. ((قض)): معناه أنه يرمى به كائنا في يده. أقول: فعلي هذا ((في يده)) حال من الضمير المجرور المقدر، وعلي تقدير الجوهري الظرف متعلق بالفعل علي منوال قول الشاعر: يجرح في عراقيبها نصلي أي يوقع نزعه في يد المشير فيستوفيه بما أمكن منه. ومنه قوله تعالي: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الكشاف: ((النَّازِعَاتِ)) أيدي الغزاة تنزع القسى بإغراق السهام. والفاء في قوله: ((فيقع)) فصيحة أي ينزع يده فيقتله فيستوجب النار فيقع في حفرتها. وقوله: ((لعل الشيطان)) مفعول ((يدرى))، ويجوز أن يكون ((يدرى)) نازلا منزلة اللام، فينتفي الدراية عنه رأسا، ثم استأنف بقوله: ((لعل)) وقوله: ((لا يشير)) خبر في معنى النهي. ((قض)): يريد به النهي عن الملاعبة بالسلاح، فلعل الشيطان يدخل بين المتلاعبين، فيصير الهزل جدا، واللعاب حرابا، فيضرب أحدهما الأخر فيقتله فيدخل النار بقتله.

3519 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلي أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يضعها وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه البخاري. 3520 - وعن ابن عمر، وأبي هريرة [رضي الله عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) رواه البخاري. وزاد مسلم: ((ومن غشنا فليس منا)). 3521 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (| (من سل علينا السيف فليس منا)) رواه مسلم,. 3522 - وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن هشام بن حكيم مر بالشام علي أناس من الأنباط، وقد أقيموا في الشمس وصب علي رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل يعذبون في الخراج. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإن كان أخاه)) تتميم لمعنى الملاعبة وعدم القصد في الإشارة، فبدأ بمطلق الأخوة ثم قيده بالأخوة بالأب والأم؛ ليؤذن بأن اللعب المحض المعرى عن شائبة القصد إذا كان حكمه كذلك، فما ظنك بغيره؟ الحديث الحادي عشر عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: ((من حمل علينا)) وإنما جمع الضمير ليتناول الأمة أيضا ما سيأتي في الفصل الثالث في قوله: ((من سل السيف علي أمة محمد)). الجار والمجرور يجوز أن يتعلق بالفعل، و ((السلاح)) نصب علي نزع الخافض، يقال: حمل عليه في الحرب حمله، ويجوز أن يكون حالا و ((السلاح)) مفعول، يقال: حملت الشيء أحمله حملا أي حمل السلاح علينا لا لنا، والأول أوجه وأليق بباب ما لا يضمن من الجنايات؛ ولأن قوله: ((فليس منا)) جزاء الشرط وعلي الثاني لا فائدة فيه؛ لأنه يعلم كل أحد أن عدو المسلمين ليس منهم. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن هشام: قوله: ((من الأنباط)) ((نه)):النبط والنبيط جبل معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. ((مح)): الأنباط فلاح الأعاجم. قوله: ((لسمعت)) اللام جواب القسم لما في ((أشهد)) من معناه.

3523 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك إ، طالت بك مدة أن ترى قوما، في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله)). وفي رواية: ((ويروحون في لعنة الله)) رواه مسلم. 3524 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهم كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن ترى)) اسم ((يوشك)). قوله: ((يغدون ويروحون)) المراد بهما الدوام والاستمرار كما في قوله تعالي: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ} يعني هم أبدا في غضب الله وسخطه لا يرضي عنهم. وإن أريد بهما الوقتان المخصوصان، فالمعنى يصبحون يؤذون الناس ويروعونهم ولا يرحمون عليهم، فيغضب الله تعالي عليهم بذلك، ويمسون يتفكرون فيما لا يرضي عنهم الله تعالي من الإيذاء والروع. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من أهل النار)) صفة ((صنفان)) و ((لم أرهما)) خبر ((صنفان)) ونحو ((لم أرهما)) قوله في الحديث السابق: ((يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما)). وقوله: ((قوم معهم سياط)) وقوله: ((ونساء كاسيات عاريات)) بيان أو بدل لقوله: ((صنفان)) وما بعدهما صفات لهما. وذكر قوله: ((لا يدخلن الجنة)) صفة للنساء ولم يذكر للرجال مثلها اختصار أو إيجازا. ((مح)): هذا الحديث من المعجزات، وفيه ذم هذبن الصنفين. قيل: معناه كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها. وقيل: يسترن بعض بدنهن، فهن وإن كن كاسيات للثياب عاريات في الحقيقة. و ((مائلات)) قيل: عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، ((مميلات)) أي يعلمن غيرهن فعلن المذموم، وقيل: مائلا يمشين متبخترات، مميلات لأعناقهن. وقيل: ((مائلات)) تمشطن مشطة الميلاء وهي مشطة البغاء، ((مميلات)) يمشطن غيرهن بتلك المشطة. ومعنى ((رءوسهن كأسنمة البخت)) أي يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها. ((قض)): قيل: المميلات اللاتي يملن قلوب الرجال ألي أنفسهن، أو يملن المقانع عن

3525 - وعنه، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم علي صورته)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ رءوسهن ليظهرن وجوههن ورءوسهن، والمائلات الزائغات عن العفاف واستعمال الطاعة، أو المائلات إلي الهوى والفجور، والمميلات غيرهن في مثل فعلهن من الزيغ والفجور. قوله: ((لا يدخلن الجنة)) معناه أنهن لا يدخلنها ولا يجدن ريحها حين ما يدخلها ويجد ريحها العفائف المتورعات، لا أنهن لا يدخلن أبدا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر: ((وإن زنى وإن سرق)) ثلاثا. والله أعلم. أقول: قوله: ((كاسيات عاريات)) أثبت لهن الكسوة ثم نفاها؛ لأن حقيقة الاكتساء ستر العورة، فإذا لم يتحقق الستر فكأنه لا اكتساء، ومنه قول الشاعر: خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا والله أعلم. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خلق آدم علي صورته)) فيه أقوال، والأول: أن الضمير راجع إلي آدم، وهو اختيار ابن الجوزي، وفيه وجوه، أحدهما: أنه خلق علي صورته التي كان عليها من مبدأ فطرته إلي منقرض عمره ولم تتفاوت قامته ولم تتغير هيئته، بخلاف سائر الناس؛ فإن كل واحد منهم يكون أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظاما وأعصابا عارية، ثم عظاما وأعصابا مكسوبة لحما، ثم حيوانا ماجنا في الرحم لا يأكل ولا يشرب، بل يتغذى من عرق كالنبات، ثم يكون مولودا رضيعا، ثم طفلا ثم مترعرعا، ثم مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا. وثإنيها: أنه خلق علي صورة حال تختص به لا يشاركه نوع أخر من المخلوقات؛ فإنه يوصف مرة بالعلم وأخرى بالجهل، وتارة بالغواية والعصيان والإخراج من الجنان، ولحظة يتسم بسمة الاجتباء ويتوج بتاج الخلافة والاصطفاء، وبرهة يستعمل بتدبير الأرضين، وساعة يصعد بروحه إلي أعلي عليين، وطورا يشارك البهائم في مأكله ومشربه ومنكحه، وطورا يسابق الكروبيين في فكره وذكره وتسبيحه وتهليله. وثالثهما: أنه تعالي اخترعها اختراعا عظيما في خلقها؛ إذ كل مخلوق قد تقدم أمثال له، فيخلقون علي صور أمثالهم المتقدمة، وإما آدم فاخترع خلقا جديدا عجيبا ملكي الروح حيوإني الجسم منتصب القامة، فلم يجد علي مثال له تقدم، وكأنه قال: ارتجل صورته اختراعا لا تشبيها بتقدم ولا محاذيا لخلق آخر، بل تولي القديم بنفسه خلق هذه الصورة إبداعا جديدا وخلقا عجيبا، لم يسبقه ما يشبهه بصفة ما. وتعظيم وجه الإنسان إما لأنه أشرف جزء من الإنسان إذ أكثر الحواس فيه؛ أو لأنه إذا عدم عدم الكل بخلاف بقية الأعضاء. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي هذا التأويل إضمار، كأنه قيل: هذا المضروب من أولاد آدم، فاجتنبوا ضرب العضو الأشراف منه احتراما له؛ لأنه يشبه وجه آدم. والثاني أن الضمير راجع إلي المضروب. قال الشيخ محي الدين: وهو رواية مسلم. ويحتمل أن يرجع إلي ((الوجه))

يعني فليجتنب الوجه؛ فإنه تعالي كرمه وشرفه بأحسن صورة، وجمع فيه المحاسن والحواس والإدراكات، والضرب في الوجه قد ينقصها ويشوه الحسن ويظهر الشين الفاحش ولا يمكن ستره، وخلق آدم عليه السلام علي تلك الصورة فلا تضربه تكريما لصورة آدم؛ فإنك إن ضربتها فقد أهنتها. ونظيره ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((تسمون أولادكم محمدا فتلعنونهم)) أنكر اللعن إجلالا لاسمه، كما الضرب علي الوجه تعظيما لصورة آدم عليه السلام. والثالث: أن الضمير راجع إلي الله تعالي، وهو اختيار الشيخ التوربشتي، قال: وإنما الوجه فيه أن يكون الضمير فيه راجعا إلي الله سبحانه وتعالي تشريفا وتكريما، وكالإضافة في بيت الله وناقة الله؛ لما صح من طرق هذا الحديث: فإن الله تعالي خلق آدم علي صورة الرحمن. قال الشيخ محي الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت، ورواه بعضهم أن الله خلق آدم علي صورة الرحمن، وهو ليس بثابت عند أهل الحديث، كأن من رواه نقله بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك انتهي كلامه. وفي هذا القول وجوه: أولها أن يجري علي ظاهره وهو قول ابن قتيبة. ((مح)): قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة فيه، وقال: إن لله تعالي صورة لا كالصورة وهو ظاهر الفساد؛ لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركب محدث، وتعالي الله عن ذلك. وقالت المجسمة: جسم ليس كالأجسام؛ لما سمعوا من أهل السنة أنه تعالي شيء لا كالأشياء طردوا هذا الاستعمال. والفرق ظاهر، من ابن قتيبة في قوله: ((صورة لا كالصورة))، مع أن ظاهر الحديث علي رأيه يقتضي خلق آدم علي صورته، فالصورتان علي رأيه سواء، فإذا قال: لا كالصورة ناقص. انتهي كلامه. وثإنيها: قول القاضي: إن صحت هذه الرواية تعين أن يكون الضمير لله تعالي، ويكون المعنى أن الله تعالي خلق آدم علي صورة اجتباها وجعلها نتيجة من جملة مخلوقاته؛ إذ ما من موجود إلا وله مثال في صورته؛ ولذلك قيل: الإنسان عالم صغير، ثم إن مجمع محاسنه ومظهر لطائف الصنع فيه هو الوجه، فبالحري أنه يحافظ عليه، ويتجوز عما يشوهه فلا يناسب أن يجرح ويقبح. وإن لم يصح يحتمل ذلك. وثالثها: قال بعضهم: إن الصورة بمعنى الأمر والشأن أي خلق آدم علي حاله وشأنه في كونه مسجودا للملائكة، مالكا للحيوانات في كونها مسخرة له، تحقيقا لقوله تعالي: {إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} تعظيما واحتراما لشانه، كقوله صلى الله عليه وسلم: الحجر الأسود يمين الله في الأرض)) لأنه مخصوص بالتقبيل والاستلام تعظيما كيمين الملك في حق من يتقرب إليه. فإذن

الفصل الثاني 3526 - عن أبي ذر، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له، فرأي عورة أهله؛ فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه، ولو أنه حين أدخل بصره، فاستقبله رجل ففقأ عينه، ما غيرت عليه، وإن مر الرجل علي باب لا ستر له غير مغلق، فنظر؛ فلا خطيئة عليه، إنما الخطيئة علي أهل البيت)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3526] 3527 - وعن جابر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولا. رواه الترمذي، وأبو داود. [3527] 3528 - وعن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن يقد السير بين أصبعين. رواه أبو داود. [3528] ـــــــــــــــــــــــــــــ الإضافة فيه ليست كالإضافة في بيت الله وناقة الله للتشريف، بل الكلام وارد علي التمثيل والاستعارة. وسئل سهل بن عبد الله عن عبد الله عن قوله تعالي: {إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قال: صورة الملك الذي تولاها فخلق آدم عليها وملكه من ملكه ما تولي، وسئل عن معنى ذلك فذكر ((خلق آدم علي صورته)). هذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا المقام. والله أعلم بالصواب. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((عورة أهله)) وهي ما يحاذ الاطلاع عليه وسميت عورة لاختلال تستر الناس بها وتحفظهم عنها، والعورة الخلل. قوله: ((حدا)) يحتمل أن يراد به العقوبة المانعة عن إعادة الجإني، فالمعنى فقد أتى موجب حد حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كما ذهب إليه الأشرف والمظهر، وان يراد به الحجز بين الموضوعين كالحمى، وإليه ينظر قوله تعالي: {ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. فقوله: ((لا يحل له)) صفة فارقة تخص الاحتمال الثاني بالمراد، يدل عليه إيقاع قوله: ((إن مر الرجل علي باب لا ستر له)) مقابلا لقوله: ((من كشف سترا)) إلي آخره، وفيه أن أحد الأمرين واجب إما الستر وإما الغلق. الحديث الثاني والثالث عن الحسن: قوله: ((أن يقد السير)) ((نه)): القد القطع طولا كالشق، ((والسير)) ما يقد من الجلد أي الجلد أي يقطع، وإنما نهي عنه لئلا يقعر الحديد يده، وهي شبيهة بهيئة أن يتعاطى السيف مسلولا.

(3) باب القسامة

3529 - وعن سعيد بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3529] 3530 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لجهنم سبعة أبواب: باب منها لمن سل السيف علي أمتي – أو قال: علي أمة محمد -)) رواه الترمذي، وقالا: هذا حديث غريب. [3530] وحديث أبي هريرة: ((الرجل جبار)) ذكر في ((باب الغصب)) [وهذا الباب خال عن: الفصل الثالث]. (3) باب القسامة الفصل الأول 3531 - عن رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة، أنهما حدثا أن عبد الله بن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن سعيد: قوله: ((دون دينه)) ((دون)) ههنا بمعنى قدام، كقول الشاعر: تريك القذى من* دونها وهي دونه وهذا إنما يكون إذا قصد المخالف من الكافر المبتدع خذلانه في دينه أو توهينه فيه، وهو يذب عنه ويحجز بينه وبين ما أراد كالحامي يذب عن حميته. وانشد للفرزدق: أنا الزائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي باب القسامة المغرب: القسم اليمين، يقال: اقسم بالله إقساما، والقسامة اسم منه وضع موضوع الإقسام، ثم قيل للذين يقسمون: قسامة. وقيل: هي الأيمان تقسم علي أولياء الدم. ((مح)): قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من أحكام الدين، وركن من أركان مصالح العباد. وبه اخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن

سهل ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن، وكان أصغر القوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كبر الكبر)) – قال يحيى بن سعيد: يعني ليلي الكلام الأكبر – فتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استحقوا قتيلكم – أو قال: صاحبكم – بأيمان خمسين منكم)). قالوا: يا رسول الله! أمر لم نره. قال: ((فتبرئكم يهود في أيمان خمسين منهم؟)) قالوا: يا رسول الله! قوم كفار. ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله. وفي رواية: ((تحلفون خمسين يمينا، وتستحقون قاتلكم – أو صاحبكم -)) فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده بمائة ناقة. متفق عليه. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني. ـــــــــــــــــــــــــــــ بعدهم، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. وروي عن جماعة إبطال القسامة. واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها أم لا؟ فقال جماعة من العلماء: يجب وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وقول الشافعي في القديم. وقال الكوفيون والشافعي أصح قوليه: لا يجب بل تجب الدية، واختلفوا فيمن يحلف في القسامة، فقال مالك والشافعي والجمهور: تحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم. ((حس)): صورة قتيل القسامة أن يوجد قتيل وادعي وليه علي رجل أو علي جماعة قتله، وكان عليهم لوث ظاهر، وهو ما يغلب علي الظن صدق المدعي، كأن وجد محلتهم وكان بين القتيل وبينهم عداوة كقتيل خيبر. الفصل الأول الحدي الأول عن رافع: قوله: ((كبر الكبر)) وفي أكثر الروايات ((الكبر الكبر)). ((نه)): يقال: فلان كبر قومه – بالضم – إذا كان أقعدهم في النسب، وهو أن ينتسب إلي جده الأكبر بآباء أقل عددا من باقي عشيرته. وتقدير الحديث: ليبدأ الأكبر بالكلام، أو قدموا الأكبر إرشادا إلي الأدب في تقديم الأسن، ويروى ((كبر الكبير)) أي قدم الأكبر. ((مح)): المقتول عبد الله وله أخ اسمه عبد الرحمن، ولهما إبنا عم محيصة وحويصة، - وهما أكبر سنا من عبد الرحمن – فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم، قيل له: كبر الأكبر أي ليتكلم من هو أكبر منك، وحقيقة الدعوى إنما هي لعبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر – وهو حويصة – لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى، بل

الفصل الثالث 3532 - عن رافع بن خديج، قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلي النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال: ((ألكم شاهدان يشهدان علي قاتل صاحبكم؟)) قالوا: يا رسول الله! لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يجترئون علي أعظم من هذا، قال: ((فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم)) فأبوا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. رواه أبو داود. [3532] ـــــــــــــــــــــــــــــ سماع صورة القضية، فإذا أريد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها. ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى. فإن قيل: كيف عرضت اليمين علي الثلاثة والوارث هو عبد الرحمن خاصة واليمين عليه؟ والجواب: أطلق الجواب، لأنه غير ملتبس أن المراد به الوارث لما سمع كلام الجمع في صورة القتيل، وكيفية ما جرى له وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث. وأما ما يروى ((فتستحقون قاتلكم))، فمعناه ثبت حقكم علي من حلفتم عليه. وفيه فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، كالإمامة وولاية النكاح وغير ذلك. قوله: ((استحقوا قتيلكم)) ((قض)): يريد باستحقاق القتيل استحقاقه ديته، ويدل عليه ماروى مالك بإسناده عن سهل بن حثمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إما أن تؤدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب من الله ورسوله))، فيحلف المدعي خمسين ويستحق دية قتيله دون القصاص لضعف الحجة، فإن اليمين ابتداء دخيل في الأسباب. وقال أصحابي أبي حنيفة: لا يبدأ بيمين المدعي بل يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهل المحلة التي وجد فيها القتيل، وحصل اللوث في حقهم، ويحلفهم علي أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة، فإن لم يعرف فمن سكانها. وهو يخالف الحديث من وجهين: الأول: أن الروايات الصحيحة كلها متطابقة علي أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين، وجعل يمين الرد علي اليهود. والثاني: أنه قال: ((فتبرئكم يهود من أيمان خمسين))، فإيجاب الدية معها يخالف النص والقياس أيضا، أو ليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، بل إنما شرعت للبرآة والاستحقاق، وفيه أن من توجه عليه الحف أولا فلم يحلف رد الحلف علي الآخر، وأن من توجه عليه اليمين حلف وإن كافرا. وقال مالك: لا تقبل أيمان الكفرة علي المسلمين كما لا تقبل شهادتهم. وإنما ودي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله، أي من عند نفسه، لأنه كره إبطال الدم وإهداره، ولم ير غير اليمين علي اليهود ولم يكن القوم راضين بأيمانهم واثقين عليها. الفصل الثالث الحديث الأول عن رافع: قوله: ((وإنما هم يهود)) في تعريف المبتدأ والخبر، وإيتان ((إنما)) المفيد للحصر مع من يعرفهم حق المعرفة إيذان بأن المراد به الوصف الذي اشتهر وتعورف منهم من المكر والخديعة والنفاق، علي نحو قول الشاعر:

(4) باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد

(4) باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد الفصل الأول 3533 - عن عكرمة، قال: أتي علي بزنادقة، فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذبوا بعذاب الله)) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنا أبو النجم وشعري شعري يعني ليس لنا شاهدان وهم أدهي وأنكر من أن يباشروا قتل المسلمين بما يؤاخذون. وقوله: ((وقد يجترئون علي أعظم من هذا)) يعني من أهل النفاق ومخادعة الله ورسوله، وقتل الأنبياء بغير حق وتحريف الكلم عن مواضعه. والله أعلم بالصواب. باب قتل أهل الردة والسعادة بالفساد الفصل الأول الحديث الأول عن عكرمة: قوله: ((بزنادقة)) ((قض)): الزنادقة قوم من المجوس يقال لهم: الثنوية، يقولون بمبدأين: أحدهما النور وهو مبدأ الخيرات، والثاني الظلمة وهو مبدأ الشرور. ويقال: إنه معرب مأخوذ من الزند، وهو كتاب بالفهلوية كان لزرادشت المجوسي، ثم استعمل لكل ملحد في الدين. وجمعه الزنادقة والهاء فيه بدل الياء المحذوفة، فإن أصله زناديق. والمراد به قوم ارتدوا عن الإسلام؛ لما أورد أبو داود في كتابه: أن عليا رضي الله عنه أحرق ناسا ارتدوا عن الإسلام. وقيل: قوم من السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، أظهر الإسلام ابتغاء للفتنة وتضليلا للأمة، فسعى أولا في إثارة الفتنة علي عثمان، حتى جرى عليه ما جرى، ثم انصرف إلي الشيعة واخذ في تضليل جهالهم حتى اعتقدوا أن عليا رضي الله عنه هو المعبود، فعلم بذلك علي فأخذهم واستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفرا وأشعل النار فيها، ثم أمر بأن يرمى بهم فيها. والإحراق بالنار وإن نهي عنه كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، لكن جوز للتشديد بالكفار والمبالغة في النكاية والنكال كالمثلة. أقول: فإن قلت: ((ولقتلهم)) عطف علي جواب ((لو)) فلم أتى باللام في الثاني وعدل عن الأول؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ((لو)) لما لم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة قبلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث تعليق أحد الأمرين بالآخر، افتقرت في الجواب إلي ما ينصب علما علي هذا التعليق وهو اللام. فإذا حذفت بعد ذلك لم يبال بإسقاطه استغناء

3534 - وعن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن النار لا يعذب بها إلا الله)) رواه البخاري. 3535 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز أيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ لشهرة أمره، علي أن الجواب منفي ب ((لم)) وهي مانعة لدخولها. وثإنيا: أن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخل في الثاني، لأن القتل أهم وأحرى من غيره لورود النص ((إن النار لا يعذب بها إلا الله)) لأنه أشد العذاب؛ ولذلك أوعد بها الكفار، والاجتهاد يضمحل عنده. ولعل عليا رضي الله عنه لم يقف عليه واجتهد. ((تو)): كان ذلك منه عن رأي واجتهاد لا عن توقيف؛ ولهذا لما قول ابن عباس رضي الله عنهما: ((لو كنت أنا لم احرقهم)) الحديث، قال: ويح أم ابن عباس. وأكثر أهل العلم علي أن القول ورد مورود المدح والإعجاب بقوله. وينصره ما جاء في رواية أخرى عن شرح السنة: فبلغ ذلك عليا فقال: صدق ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله: ((لو كنت أنا)) تأكيد للضمير المتصل، والخبر محذوف أي لو كنت أنا بدله. الحديث الثاني والثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((حداث الأسنان)) ((نه)): حداثة السن كناية عن الشباب وأول العمر، والسفه في الأصل الخفة والطيش، وسفه فلان رأيه إذا كان مضطربا لا استقامة له. والأحلام العقول واحدها حلم بالكسر. قوله: ((من خير قول البرية)) وفي المصابيح ((من قول خير البرية)) ((شف)): المراد ب ((خير البرية)) النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الكتاب بتقديم الخير علي القول. ((مظ)): أراد بخير قول البرية القرآن. أقوال: وهذا الوجه أولي؛ لأن ((يقولون)) هنا بمعنى يحدثون أو يأخذون من خير ما يتكلم به البرية. وينصره ما روى في شرح السنة: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يرى الخوارج شرار خلق الله تعالي، وقال: إنهم انطلقوا إلي آيات نزلت في الكفار فجعلوها علي المؤمنين. وما ورد في حديث أبي سعيد ((يدعون إلي كتاب الله وليسوا منا في شيء)). قوله: ((حناجرهم)) ((نه)): الحنجرة رأس الغلصمة حيث تراه ناتئا من خارج الحلق، والجمع الحناجر. ((فا)): المروق الخروج، ومنه المرق وهو الماء الذي يستخرج من اللحم عند الطبخ

3536 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون أمتي فرقتين، فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق)) رواه مسلم. 3537 - وعن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((لا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للائندام به. ((مظ)) *: أراد ب ((الدين)) الطاعة، أي إنهم يخرجون من طاعة الإمام المفترض الطاعة وينسلخون منها. قوله: ((من الرمية)) هي فعيلة بمعنى مفعول، والياء فيه لنقل اللفظ من الوصفية إلي الاسمية. ((نه)): الرمية الصيد الذي ترميه فتقصده، يريد أن دخولهم في الدين ثم خروجهم منه ولم يتمسكوا منه بشيء، كالسهم الذي دخل في الرمية ثم نفذ فيها وتخرج منها، ولم يعلق به منها شيء. ((مظ)) *: أجمع علماء المسلمين علي أن الخوارج – علي ضلالتهم – فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وقبول شهادتهم، وسئل علي رضي الله عنه عنهم فقيل: أكفار هم فقال: من الكفر فروا. فقيل: من هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا. الحديث الرابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((يلي قتلهم)) أي يباشر قتلهم، يقال: ولي الرجل البيع ولاية. ((شف)): قوله: ((يلي قتلهم)) إلي آخره صفة ل ((مارقة)) أي يلي قتل المارقة وهي الخوارج أولي أمتي بالحق. أقول: ويحتمل أن يراد بالحق الله سبحانه وتعالي بدلالة قوله في الحديث الآتي: ((كان أولي بالله منهم)). فإن قلت: قوله: ((من بينهما)) يقتضي أن تكون إحدى الفرقتين علي الحق، والأخرى علي الباطل. وقوله: ((من بينهما)) يقتضي أن تكون المارقة خارجة منهما معا. قلت: هو كقوله تعالي: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ} ((الكشاف)): لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه، وتقول: خرجت من البلدة وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره؛ ولهذا يحسن أن يرجع أحد الضميرين في الصفة إلي المارقة والآخر إلي قوله: ((أمتي)).

3538 - وعن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا التقى المسلمان حمل أحدهما علي أخيه السلاح؛ فهما في جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه، دخلاها جميعا)). وفي رواية عنه: قال: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) قلت: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصا علي قتل صاحبه)) متفق عليه. 3539 - وعن أنس، قال: قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا، فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوابها وألبانها، ففعلوا فصحوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جرير رضي الله عنه: قوله: ((لا ترجعن بعدي كفارا)) ((مح)): فيه سبعة أقوال: أحدهما: أن ذلك كفر في حق المستحيل بغير حق. وثإنيها: أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام. وثالثها: أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه. ورابعها: أنه فعل الكفار. وخامسها: نفي حقيقة الكفر أي لا تكفروا بل دوموا مسلمين. وسادسا عن الخطابي: معناه المتكفر بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. وسابعها عنه أيضا: معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتل بعضكم بعضا. واظهر الأقوال القول الرابع، وهو اختيار القاضي عياض. وقوله: ((يضرب)) بسكون الباء ضبطه بعض العلماء، قال أبو البقاء: هو جواب النهي علي تقرير الشرط، أي أن ترجعوا يضرب بعضكم. أقول: علي الرواية المشهورة استئناف وارد علي بيان النهي، أي أن كأن سائلا قال: كيف نرجع كفارا؟ فقيل: يضرب بعضكم رقاب بعض فعل الكفار، أو يقال: لم نرجع كفارا بعد كوننا مسلمين؟ قيل: ضرب بعضكم رقاب بعض يؤدي إلي الكفر. الحديث السادس عن أبي بكرة: قوله: ((حمل أحدهما)) حال، و ((قد)) مقدرة، والمعنى إذا التقى المسلمان حاملان كل واحد منهما علي الآخر السلاح، ولابد من هذا التقدير ليطابق الشرط الجزاء، وهو قوله: ((فهما في جرف جهنم)) والجرف ما يجرفه السيول من الأودية. وقوله: ((فإذا قتل)) مع جوابه عطف علي الشرط الأول. وقوله: ((هذا القاتل)) أي هذا الحكم ظاهر في شأن القاتل؛ لأنه ظالم فما بال المقتول المظلوم؟. الحديث السابع عن انس رضي الله عنه: قوله: ((نفر)) ((قض)): النفر بالتحريك قوم من ثلاثة إلي عشرة، وقد قبل: إنهم كانوا ثمإنية. و ((عكل)) اسم قبيلة أو بلدة، والمراد بها هاهنا القبيلة، ((فاجتووا المدينة)) أي كرهوا هواء المدينة واستوخموها، ولم يوافقهم المقام بها. وإنما مثل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن المثلة، إما لعظم جرمهم؛ فإنهم جمعوا بين الارتداد ونبذ العهد والاغتيال، وقتل النفس ونهب المال، أو لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة فاقتص

فارتدوا، وقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم، فأتي بهم فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. وفي رواية: فسمروا أعينهم، وفي رواية: أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وطرحهم بالحرة يستقون فيما يسقون حتى ماتوا. متفق عليه. الفصل الثاني 3540 – عن عمران بن حصين، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا علي الصدقة، وينهانا عن المثلة. رواه أبو داود. [3540] 3541 - ورواه النسائي عن أنس. [3541] 3542 - وعن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ـــــــــــــــــــــــــــــ منهم بمثل صنيعهم. و ((السمل)) فقأ العين، يقال: سملت عينه إذا فقأتها بحديدة محماة أو نحوها. وقوله: ((ثم لم يحسمهم)) أي لم يقطع دماً بالكي ونحوه حتى ماتوا. ((مح)): اختلفوا في معنى الحديث، فقيل: كان هذا قبل نزول الحدود، وآية المحاربة مع قطاع الطريق، والنهي عن المثلة فهو منسوخ. وقيل: ليس بمنسوخ، وفيه نزلت الآية. وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم قصاصاً. وقيل: النهي عن المثلة نهي تنزيه. وأما قوله: ((فما يسقون)) فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولا نهي عن السقي. وقد أجمعوا علي أن من وجب عليه القتل واستسقى لا يمنع الماء قصداً فيجتمع عليه عذابان. وقيل: كان منع الماء هنا قصاصاً. وقال أصحابنا: لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه مرتداً يخاف الموت من العطش، ولو كان ذمياً أو بهيمة وجب سقيه، ولم يجز الوضوء به حينئذ. واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل وروثه طاهران. وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى المسكرات، وإنما أجاز شربهم أبوال إبل الصدقة، لأنها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء منهم. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن عبد الرحمن: قوله: ((فرأينا حمرة)) ((فا)): هي طائر صغير

سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها. فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)). ورأي قرية نمل قد حرقناها، قال: ((من حرق هذه؟)) فقلنا: نحن. قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)) رواه أبو داود. [3542] 3543 - وعن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ كالعصفور، وتكون دهساء وكدراء ورقشاء، والدهساء هي التي يكون لها غبرة تضرب إلي الحمرة. قوله: ((تفرش)) ((نه)): هو أن تفرش جناحيها، وتقرب من الأرض وترفرف. والتفريش أن ترتفع وتظلل بجناحيها علي من تحتها. قوله: ((لا ينبغي أن يعذب)) ((قص)): إنما منع التعذيب بالنار؛ لأنه أشد العذاب؛ ولذلك أوعد بها الكفار. أقول: لعل المنع من التعذيب بها في الدنيا؛ لأن الله تعالي جعل النار فيها لمنافع الناس وارتفاقهم، فلا يصح منهم أن يستعملوها في الإضرار، ولكن له أن يستعملها فيه؛ لأنه ربها ومالكها يفعل ما يشاء من التعذيب بها والمنع منه، وإليه أشار بقوله: ((رب النار)) وقد جمع الله تعالي الاستعمالين في قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} أي تذكيراً لنار جهنم لتكون حاضرة للناس يذكرون ما أوعد به، وعلقنا بها أسباب المعايش كلها. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((سيكون في أمتي اختلاف)) فيه وجهان أحدهما: أن يقدر مضاف أي أهل اختلاف وفرقة. وقوله: ((قوم يحسنون)) إلي آخره، بدل منه وموضع له، وثإنيهما: أن يراد به نفس الاختلاف، أي سيحدث فيهم اختلاف وتفرق، فيتفرقون فرقتين فرقة حق وفرقة باطل. ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الفصل الأول: ((تكون أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحق)) فقوم مبتدأ موصوف بما بعده، والخبر ((يقرءون القرآن)) بيان لإحدى الفرقتين، وتركت الثانية للظهور. قوله: ((يحسنون القيل)) أي القول، يقال: قلت قولا وقالا وقيلا، قال الله تعالي: {ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}. قوله: ((لا يجاوز تراقيهم)) ((نه)): التراقي جمع ترقوه، وهي العظم الذي بين ثغر النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين. ووزنها فعلوة – بالفتح – انتهي كلامه. وفيه وجوه أحدها:

يرتد السهم علي فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه. يدعون إلي كتاب الله وليسوا منا في شيء، من قاتلهم كان أولي بالله منهم)) قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: ((التحليق)) رواه أبو داود. [3543] ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه لا يتجاوز أثر قراءتهم عن مخارج الحروف والأصوات، ولا يتعدى إلي القلوب والجوارح، فلا يعتقدون وفق ما يقتضي اعتقاداً، ولا يعملون بما يوجب عملاً. وثإنيهما: أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، وكأنها لم تتجاوز حلوقهم. وثالثها: أنهم لا يعملون بالقرآن فلا يثابون علي قراءته، ولا يحصل لهم غير القراءة. قوله: ((مروق السهم)) مصدر أي مثل مروق السهم، ضرب مثلهم في دخولهم في الدين وخروجهم منه بالسهم الذي لا يكاد يلاقيه شيء من الدم لسرعة نفوذه، تنبيهاً علي أنهم لا يتمسكون من الدين بشيء، ولا يلوون عليه. وقد أشار إلي هذا المعنى في غير هذه الرواية بقوله: ((سبق الفرث والدم)). قوله: ((حتى يرتد السهم علي فوقه)) كقوله تعالي: {ارْتَدُّوا عَلي أَدْبَارِهِم} والفوق موضع الوتر من السهم، وهذا من التعليق بالمحال علي رجوعهم إلي الدين بما يعد من المستحيلات؛ مبالغة في إصرارهم علي ما هم عليه حسما للطمع في رجوعهم إلي الدين، كما قال تعالي: {ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} وفيه من اللطف أنه راعى بين التمثيلين المناسبة في أمر واحد، مثل أولا خروجهم من الدين بخروج السهم من الرمية، وثإنياً فرض دخولهم فيه ورجوعهم إليه برجوع السهم علي فوقه إلي ما خرج منه من التوتر. قوله: ((هم شر الخلق والخليقة)) ((نه)): ((الخلق)) الناس، و ((الخليقة)) البهائم. وقيل: هما بمعنى واحد ويريد بهما جميع الخلائق. ((تو)): ((الخليقة)) في الأصل مصدر وإنما جاء باللفظين تأكيداً للمعنى الذي أراده وهو استيعاب أصناف الخلق، ويحتمل أنه أراد بـ ((الخلقية)) من خلق، وبـ ((الخلق)) من سيخلق. ((قض)): ((هم شر الخلق))؛ لأنهم جمعوا بن الكفر والمراء فاستبطنوا الكفر، وزعموا أنهم أعرف الناس بالإيمان وأشدهم تمسكاً بالقرآن فضلوا وأضلوا. قوله: ((طوبى لمن قتلهم)) أصله فعلي من الطيب، فلما ضمت الطاء انقلبت الياء واواً، والمعنى أصاب خيراً من قتلهم؛ فإنه غاز وإن قتلوه فإنه شهيد. قوله: ((وليسوا منا في شيء)): ((شف)): هذا القول بعد قوله: ((يدعون إلي كتاب الله)) إرشاد إلي شدة العلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كتاب الله، وإلا فمقتضى التركيب: ليسوا من كتاب الله في شيء. أقول: ولو قيل: ليسوا من كتاب الله في شيء، أوهم أن يكونوا جهالا ليس لهم نصيب من كتاب الله قط كأكثر العوام. وقوله: ((ليسوا منا في شيء)) يدل علي أنهم ليسوا من عداد

3544 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، زناً بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفي من الأرض أو يقتل نفساً فيقتل بها)) رواه أبو داود. [3544] 3545 - وعن ابن أبي ليلي، قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلي حبل معه، فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)). رواه أبو داود. [3545] 3546 - وعن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أخذ أرضاً بجزيتها ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين، ولا لهم نصيب من الإسلام. وهو ينظر إلي معنى قوله: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)). قوله: ((أولي بالله منهم)) ((شف)): الضمير في ((منهم)) عائد إلي الأمة، أي أن من قاتلهم من أمتي أولي بالله من باقي أمتي. أقول: هذا علي تأويل الوجه الأول في قوله: ((في أمتي اختلاف وفرقة)) أي أهل اختلاف. وأما علي الوجه الثاني فالضمير راجع إلي الفرقة الباطلة، ويكون أفعل كما في قوله تعالي: {أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا} وقولهم: العسل أحلي من الخل، فمعناه أن المقاتل أبلغ في الولاية منهم في العداوة. قوله: ((التحليق)) أي علامتهم التحليق، وإنما أتى بهذا البناء إما لتعريف مبالغتهم في الحلق أو لإكثارهم منه. وفيه وجهان، أحدهما: استئصال الشعر من الرأس، وهو لا يدل علي أن الحلق مذموم، فإن الشيم والحلي المحمودة قد يتزين به الخبيث تلبيساً ترويجاً لخبثه وإفساده علي الناس، وهو كوصفهم بالصلاة والصيام. ثإنيهما: أن يراد به تحليق القوم وإجلاسهم حلقاً حلقاً. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يشهد أن لا إله إلا الله)) صفة مميزة لـ ((مسلم)) لا كاشفة، يعني إظهاره الشهادتين كاف في حقن دمه. وقوله: ((محارباً لله)) اللام صلة؛ لأن اسم الفاعل عمله ضعيف، فيؤتي بها توكيداً وهو من قوله تعالي: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} الآية. وفي رواية المصابيح ((محارباً بالله)) فالباء زائدة في المفعول به، كقوله تعالي: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلي التَّهْلُكَةِ}.

فقد استقال هجرته، ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولي الإسلام ظهره)) رواه أبو داود. [3546] 3547 - وعن جرير بن عبد الله، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلي خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن أبي الدرداء: قوله: ((بجزيتها)) يحتمل أن يكون صفة لـ ((أرضاً)) أي متلبسة بجزيتها. ((مظ)): معنى الجزية هاهنا الخراج، يعني المسلم إذا اشترى أرضاً خراجية من كافر فإن الخراج لا يسقط عنه. وإلي هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة، والخراج عند الشافعي علي وجهين: أحدهما جزية، والآخر بمعنى الكراء والأجرة، فإذا فتحت الأرض صلحاً علي أن أرضها لأهلها، فما وضع عليها من خراج فمجراه مجرى الجزية التي تؤخذ من رءوسهم، فمن أسلم منهم سقط ما عليه من الخراج، كما يسقط ما علي رقبته من الجزية، ولزمه العشر فيما أخرجت أرضه. ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل. ((تو)): أريد بالجزية في الحديث الخراج الذي يوضع علي الأرض التي تترك في يد الذمي فيأخذها المسلم عنه متكفلا بما يلزمه من ذاك. وتسميته بالجزية؛ لأنه يجري في الموضوع علي الأرض المتروكة في أيدي أهل الذمة، مجراها فيما يؤخذ من رءوسهم. وإنما قال: ((فقد استقال هجرته)) لأن المهاجر له الحظ الأوفر والقدح المعلي في مال الفيء يؤخذ من أهل الذمة ويرد عليه، فإذا أقام نفسه في مقام الذمي في أداء ما يلزمه من الخراج، فقد أحل نفسه في ذلك محل من عليه ذلك بعد أن كان له، فصار كالمستقيل عن هجرته بتبخيس حق نفسه. ((قض)): ومن تحمل جزية كافر وتحمل عنه صغاره، فكأنه ولي الإسلام من حيث إنه بذل إعزاز الدين بالتزام ذل الكفر وتحمل صغاره، وللعلماء في صحة ضمان المسلم عن الذمي بالجزية خلاف. ولمن منع أن يتمسك بهذا الحديث. أقول: قوله: ((ومن نزع صغار كافر)) إلي آخره تذييل وهو أن يقطع الكلام بما يعم ويشتمل علي المعنى السابق، وتوكيد لا محل له من الإعراب. وكذلك هنا؛ لأن معنى الأول أخص من الثاني، والثاني مقرر له ومؤكد لمعناه وأعم. فإن قلت: قد تعورف واشتهر أن ضرب الجزية كناية عن الذلة والصغار، فما بال الهجرة كنى بها عن العزة؟ قلت: لأنها مبدأ عزة الإسلام ومنشأ رفعته؛ حيث نصر الله صاحبها بالأنصار وأعز الدين بهم، وفل شوكة المشركين وقطع شأفتهم واستأصلها. الحديث السابع عن جرير رضي الله عنه: قوله: ((بنصف العقل)) ((مظ)): إنما لم يكمل لهم الدية بعد علمه صلى الله عليه وسلم بإسلامهم؛ لأنهم أعانوا علي أنفسهم بمقامهم بين ظهرإني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فتسقط حصة جنايته من الدية. ((تو)): قوله: ((أنا بريء)) يحتمل أن يكون المراد منه البراءة من دمه، وأن تكون البراءة من موالاته.

العقل، وقال: ((أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين)) قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: ((لا تتراءى ناراهما)) رواه أبو داود. [3547] 3548 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)) رواه أبو داود. [3548] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا تتراءى ناراهما)) هو علة لبراءته صلى الله عليه وسلم منهم، يعني لا يصح ولا يستقيم للمسلم أن يساكن الكافر ويقترب منه، ولكن يبعد بحيث لا تتراءى ناراهما، فهو كناية عن البعد البعيد. وذكروا فيه وجوهاً: أولها: قال أبو عبيدة: أي لا ينزل المسلم بالموضع الذي يرى ناره المشرك إذا أوقد، ولكنه ينزل مع المسلمين في دراهم؛ لأن المشرك لا عهد له ولا أمان. وثإنيها: قال أبو الهيثم: لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله، ولا يتخلق بأخلاقه من قولك: ما نار نعمك أي ما سمتها. وثالثها: قال أبو حمزة: أي لا يجتمعان في الآخرة لبعد كل منهما عن صاحبه. ورابعها: قال في الفائق: معناه يجب عليهما أن يتباعد منزلاهما بحيث إذا أوقدت فيهما ناران لم تلج إحداهما للأخرى. وإسناد التراءى إلي النار كقولهم: دور بني فلان متناظرة. والتراءى تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم، إذا رأي بعضهم بعضاً. وخامسها: قال القاضي: أي ينبغي أن لا يسكن مسلم حيث كافر ولا يدنو منه حيث تتقابل نارهما وتقرب إحداهما من الأخرى، حتى يرى كل منهما نار الآخر، فنزل رؤية الموقد منزلة رؤيتها إن كان لها، وهو من قول أبي عبيدة. وسادسها: قال التوربشتي: أراد نار الحرب، أي هما علي طرفين متباعدين؛ فإن المسلم يحارب لله ورسوله مع الشيطان وحزبه، ويدعو إلي الله بحزبه، والكافر يحارب الله ورسوله ويدعو إلي الشيطان، فكيف يتفقان ويصلح أن يجتمعان. ((مظ)): فيه دليل علي أن المسلم إن كان أسيراً في أيدي الكفار، وأمكنه الخلاص والانفلات منهم، لم يحل له المقام معهم، وإن حلفوه أن لا يخرج كان الواجب أن يخرج إلا أنه إن كان مكرهاً علي اليمين لم تلزمه الكفارة. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قيد)) أي منع. ((نه)): أي أن الإيمان يمنع من الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيداً. ومنه قولهم في صفة الفرس: هو قيد الأوابد يريدون أنه يلحقها بسرعة، فكأنها مقيدة لا تعدو والفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو عار غافل فيشتد عليه فيقتله. والغيلة أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي. قوله: ((لا يفتك)) ((تو)): هو خبر معناه النهي أي لا يفعل ذلك؛ لأنه محرم عليه وهو ممنوع عنه، ويجوز فهي الجزم علي النهي، ومن الناس من يتوهم أنه علي بناء المفعول فيرويه كذلك، وليس بقويم رواية ومعنى.

فإن قيل: قد بعض رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الخزرجي في نفر إلي كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن عتيك الأوسي في نفر إلي رافع، وعبد الله بن إنيس الجهني إلي سفيان بن خالد، فكيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين تلك القضايا التي أمر بها؟ قلت: يحتمل أن النهي عن الفتك كان بعدها وهو الأظهر، لأن أولاها كانت في السنة الثالثة، والثانية في الرابعة، والثالثة بعد الخندق في الخامسة، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السابعة. ويحتمل أن يكون ذلك خصيصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أيده من العصمة ويحتمل أن تكون تلك القضايا بأمر سماوي؛ لما ظهر من المقتولين من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم والتعرض له بما لا يجوز ذكره من القول والمبالغة في الأذية والتحريض عليه. واختار القاضي هذا الوجه ولخصه، وقال: المعنى أن الإيمان منع ذلك وحرمه فلا ينبغي للمؤمن أن يفعله، لأن المقصود به إن كان مسلماً فظاهر، وإن كان كافراً فلابد من تقديم تدبير واستتابة، إذ ليس المقصود بالذات قتله، بل الاستكمال والحمل علي الإسلام علي ما يمكن، هذا إذا لم يدع إليه داع، فإن كان كما إذا علم أنه مصر علي كفره حريص علي قتل المسلمين منتهز للفرص منهم، وأن دفعه لا يتيسر إلا بهذا فلا حرج فيه. أقول: هذا هو الوجه، والذهاب إلي النسخ والتخصيص بعيد، لأن الظاهر يقتضي أن تذكر الجملة الأولي بعد الأخرى، فإن التعليل مؤخر عن المعلل، لكن قدمت اعتباراً للرتبة وبياناً لشرف الإيمان، وأن من خصائصه وخصائل أهله النصيحة لكل أحد حتى الكفار، كما ورد ((الدين النصيحة)) فعلي من اتصف بصفة الإيمان أن يتحلي بها ويجتنب عن صفة العتاة والمردة من الفتك، فإذا الكلام جار علي أصالة الإيمان، وذكر المؤمن تابع له، فإذا أخر كان بالعكس، فعلي هذا لا يفتقر في الحديث إلي إلزام النسخ والتكليف فيه من جهة المعإني. وأما من جهة البيان، فإن التركيب من الاستعارة التمثيلية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم شبه العادة المستمرة والشريعة الثابتة في الجاهلية من الفتك والغيلة، في اطرادها وإطلاقها بالوحوش الأوابد والإبل الشوارد، وشبه الإسلام بالخيل السوابق والجياد العواتق، وشبه نسخه لتلك الشريعة الباطلة وهدمه لتلك القاعدة الزائغة بالقيد علي تلك الأوابد. قال امرؤ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيكل ثم أدخل صورة المشبه في جنس صورة المشبه به ثم حذف المشبه به وجعل القرينة الدالة عليه ما يخص المشبه به من القيد، فإذا كان الشأن هذا فكيف يذهب إلي جعل الفتك من خصائص من بعث لإتمام مكارم الأخلاق، وقلع رذائلها من سنحها صلوات الله وسلامه عليه؟ والحديث من جوامع الكلم التي خص بها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عرفه من ذاق معرفة خواص التركيب، واعتلي ذروة علم المعإني، وامتطى غارب علم البيان. والله أعلم.

3549 - وعن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا أبق العبد إلي الشرك فقد حل دمه)). رواه أبو داود. [3549] 3550 - وعن علي رضي الله عنه، أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها. رواه أبو داود. [3550] 3551 - وعن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حد الساحر ضربة بالسيف)). رواه الترمذي. [3551] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن جرير: قوله: ((إلي الشرك)) ((نه)): أي إذا هرب مملوك إلي دار الشرك فظفر أحد من المسلمين بقتله فلا شيء عليه، فإن لم يرتد عن دينه فقد فعل ما يهدر به دمه من جواره المشتركين وتركه دار الإسلام، وقد سبق أنه لا تتراءى ناراهما. الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وتقع فيه)) عداه بـ ((في)) لتضمين معنى الطعن. ((نه)). يقال: وقعت فيه إذا اغتبته وذممته. ((مظ)): وفيه أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله ودينه، فهو حربي مباح الدم. الحديث الحادي عشر عن جندب: قوله: ((ضربة السيف)) يروي بالتاء والهاء والثاني أولي، وكان من الظاهر أن يقال: حد الساحر القتل فعدل إلي ما هو عليه تصويراً له، وأن لا يتجاوز منه إلي أمر آخر. ((حس)): اختلفوا في قتله، فذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلي أنه يقتل، روى عن حفصة رضي الله عنها: أن جارية لها سحرتها فأمرت بها فقتلت. وروى أن عمر رضي الله عنه: كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر، وعند الشافعي رحمه الله يقتل إن كان الذي يسحر به كفرا إن لم يتب فإن لم يبلغ عمله الكفر فلا يقتل، وتعلم السحر ليس كفراً عنده، إلا أن يعتقد قلب الأعيان. ((قض)): الساحر إذا لم يتم سحره إلا بدعوة كوكب أو شيء يوجب كفراً يجب قتله، لأنه استعان في تحصيله بالتقرب إلي الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يتسب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في النظام والتعاون، وبهذا يميز الساحر عن النبي والولي. وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام. وتسميته سحراً علي التجوز؛ لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل مما خفي سببه. ((مح)): يحرم فعل السحر بالإجماع. وأما تعليمه وتعلمه ففيه ثلاثة أوجه: الصحيح الذي قطع به الجمهور أنهما حرامان، والثاني مكروهان، والثالث مباحان. وقال أيضاً: اعلم أن التكهن وإتيان الكهان، والتنجيم، والضرب بالرمل، والشعير بالحصى، وبالشعبدة

الفصل الثالث 3552 - عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه)). رواه النسائي. [3552] 3553 - وعن شريك بن شهاب، كنت أتمنى أن ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن الخوارج، فلقيت أبا برزة في يوم عيد في نفر من أصحابه، فقلت له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني، ورأيته بعيني: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن ـــــــــــــــــــــــــــــ وتعليمها حرام. وأخذ العوض عليها حرام بالنص الصحيح في حلوان الكاهن، واعلم أن وراء العلوم الشرعية أشياء تسمى علوماً، منها حرام ومكروه ومباح، فالمحرم كالفلسفة والشعبدة، والرمل وعلوم الطبيعيين، وكذا السحر علي الصحيح، وتتفاوت درجات تحريمه، والمكروه كأشعار المولدين المشتملة علي الغزل والبطالة، والمباح كأشعارهم التي ليس فيها سخف، ولا ما ينشط إلي الشر ولا يثبط من الخير. الفصل الثالث الحديث الأول عن أسامة: قوله: ((خرج يفرق)) فيه شائبة من معنى أفعال المقاربة أي جعل يفرق، أو هو مطاوع خرجته فخرج أي مهر من صنعة التفريق بين المسلمين، فعلي هذا ((يفرق)) حال. ((مح)): فيه الأمر بقتال من خرج علي الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، فينبغي أن ينهي أولا وإن لم ينته قوتل، فإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتله كان هدراً. الحديث الثاني عن شريك: قوله: ((أسأله)) إما صفة ((رجلا)) أو حال منه لوصفه، وقوله: ((يذكر الخوارج)) حال مزال عن كونه مضافاً إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقديره: سمعت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم جيء بعده بـ ((يذكر)) جملة حالية دلالة علي المحذوف، وقوله: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال)) إلي آخره حال من مفعول ((رأيته)) أي رأيته في حالة كونه مأتيا بمال، وكل من ذكر قوله: ((بأذني وبعيني)) وتكرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بتحقيق الأمر وتثبته في الرواية، وأنها مما لا يستراب فيه: قوله ((رجل أسود)) خبر مبتدأ محذوف وارد علي الذم والشتم؛ لأن دمامة الصورة تدل علي خباثة السريرة. قوله: ((مطموم الشعر)) ((نه)): يقال: طم شعره جذه واستأصله. قوله: ((بعدي)) أي متجاوزاً عني. المغرب: يقولون: وإن كان ليس بالذي لا يعدله يعني ليس بنهاية في الجود، وكأنهم أخذوا من قولهم: هذا ليس مما ليس بعده غاية في الجود،

شماله، ولم يعط من وراءه شيئاً. فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد! ما عدلت في القسمة. رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال: ((والله لا تجدون بعدي رجلاً هو أعدل مني)) ثم قال: ((يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون، حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم، هم شر الخلق والخليقة)). رواه النسائي. [3553] 3554 - وعن أبي غالب، رأي أبو أمامة رءوساً منصوبةً علي درج دمشق، فقال أبو أمامة: ((كلاب النار، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه)) ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ وتَسْوَدُّ وجُوهٌ} الآية. قيل لأبي أمامة: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه. رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. [3554] ـــــــــــــــــــــــــــــ وربما اختصر الكلام فقالوا: ليس بعده، ثم أدخل عليه ((لا)) النافية للجنس، واستعملوه استعمال الاسم المتمكن انتهي كلامه. وقوله: ((كأن هذا منهم)) أي من شيعتهم ومقتفي سيرتهم، كقوله تعالي: {الْمُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ}. وقوله: ((هم شر الخلق)) جزاء للشرط، وإنما لم يؤت بالفاء؛ لأن الشرط ماض، كذا قال أبو البقاء في قوله تعالي: {وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ومع هذا لابد من التأويل، أي فإذا لقيتموهم فاعلموا أنهم شرار خلق الله تعالي فاقتلوهم، كما قال: ((طوبى لمن قتلهم وقتلوه)). ووجه آخر أن يكون الجزاء محذوفاً والجملة بعده استئنافية لبيان الموجب، وعطف قوله: ((الخليقة)) علي ((الخلق)) ولابد من المغايرة فلا يحمل الشر علي التفضيل مبالغة، أي هم شر سجية وشر خلقاً، وفي عكسه: ((اللهم كما حسنت خلقي حسن خلقي)). الحديث الثالث عن أبي غالب: قوله: ((علي درج دمشق)) الجوهري: قولهم: حل درج الضب أي طريقه والجمع الأدراج. وقولهم: رجعت أدراجي أي رجعت في الطريق الذي جئت منه، والدرجة المرقاة والجمع الدرج، ولعل المراد في الحديث هذا القول؛ لقوله: ((منصوبة)). وقوله: ((كلاب النار)) خبر مبتدأ محذوف، ((وشر قتلي)) يجوز أنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر أو بدل، وقوله ((خير قتلي)) مبتدأ و ((من قتلوه)) خبره، وكان من الظاهر العكس ففعل اهتماماً، كقول الشاعر:

كتاب الحدود

كتاب الحدود الفصل الأول 3555 - عن أبي هريرة، وزيد بن خالد: أن رجلين اختصما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر: أجل يا رسول الله! فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي أن أتكلم. قال: ((تكلم)) قال: إن ابني كان عسيفاً علي هذا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا إن خير الناس حياً وميتاً أسير ثقيف عندها في السلاسل و ((أديم السماء)) وجهها كما يسمى وجه الأرض أديماً قوله: ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ} لمح به إلي التفصيل في قوله تعالي: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ} فيقال لهم: أكفرتم؟ والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم، فقيل: هم المرتدون، وقيل: هم أهل البدع والأهواء، وعن أبي أمامة: هم الخوارج. والله أعلم بالصواب. كتاب الحدود ((غب)): الحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، وحد الزنى والخمر سمى به لكونه مانعاً لمتعاطيه عن معادوة مثله، ومانعاً لغيره أن يسلك مسلكه. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن ابني كان عسيفاً علي هذا)) ((تو)): العسيف الأجير، وإنما قال: ((علي هذا)) لما يتوجه للأجير علي المستأجر من الأجرة، بخلاف مالو قال: عسيفاً لهذا؛ لما يتوجه للمستأجر عليه من الخدمة والعمل. أقول: يريد أن قوله: ((علي هذا)) صفة مميزة لـ ((أجير)) أي أجير ثابت الأجرة عليه، وإنما يكون كذلك إذا لابس العمل وأتمه، ولو قيل: لهذا، لم يكن كذلك. قوله: ((فاقض)) الفاء جزاء شرط محذوف، أي إذا اتفقت معه بما عرض علي جنابك فاقض، فوضع كلمة التصديق موضع الشرط. قوله: ((بكتاب الله)) ((قض)): أي بحكمه، إذ ليس في القرآن الرجم، قال تعالي: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} أي الحكم بأن يؤاخذ علي جهالة، ويحتمل أن يراد به القرآن، وكان ذلك قبل أن تنسخ آية الرجم لفظاً، وإنما سأل المترافعان أن يحكم بينهما بحكم الله، وهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله، ليفصل بينهم بالحكم الصرف، لا بالنصائح والترغيب فيما هو الأرفق بهما؛ إذ للحاكم أن يفعل ذلك ولكن برضا الخصمين. والحديث يدل علي

فزنى بامرأته، فأخبروني أن علي ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجل علي امرأته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وأما ابنك؛ فعليه جلد مائة، وتغريب عام، وأما أنت يا إنيس! فاغد إلي امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) فاعترفت، فرجمها. متفق عليه. 3556 - وعن زيد بن خالد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن، جلد مائة وتغريب عام، رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ جواز الإفتاء في زمانه، فإن أبا الزإني قال: ((سألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام))، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، وأن حد البكر جلد مائة وتغريب عام، وأن حضور الإمام ليس بشرط في إقامتها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إنيس بن ضحاك الأسلمي لها، وأن الاستبانة فيها جائزة. ((حس)): فيه جواز أن للحاكم أن يبدأ بسماع كلام أي الخصمين شاء. وفي قوله: ((فرد عليك)) دليل علي أن المأخوذ بحكم البيع الفاسد والصلح الفاسد مستحق الرد علي صاحبه غير مملوك للآخذ. وفيه أن من أقر بالزنا علي نفسه مرة يقام الحد عليه، ولا يشترط فيه التكرار كما لو أقر بالسرقة مرة واحدة يقطع، ولو أقر بالقتل مرة واحدة يقتص منه، وإليه ذهب الشافعي. وقال أصحاب أبي حنيفة: ينبغي أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس، فإذا أقر أربع مرات في مجلس واحد فهو كإقرار واحد. ((مح)): قالوا: إن بعث إنيس إليها محمول علي إعلامها، بأن أبا العسيف قذفها بابنه فيعرفها بأن لها عنده حد القذف، هل هي طالبة به أم تعفو عنه أو تعترف بالزنا فإن اعترفت فلا يحد القاذف وعليها الرجم، لما كانت محصنة. ولابد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بعث لطلب إقامة حد الزنا وتحسيسه، وهذا غير مراد؛ لأن حد الزنا لا يتحسس ولا ينقر عنه، بل لو أقر به الزإني استحب أن يلقن الرجوع. كما سيجيء. وفيه أنه يستحب للقاضي أن يصبر علي قول أحد الخصمين: اقض بالحق، ويجوز ذلك إذا تعدى عليه خصمه ونحو ذلك. والله أعلم. الحديث الثاني عن زيد: قوله: ((ولم يحصن)) ((نه)): الإحصان المنع، والمرأة تكون محصنة بالإسلام والعفاف والحرية والتزويج، يقال: أحصنت المرأة فهي محصنة ومحصنة، وكذلك الرجل، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول وهو أحد الثلاثة التي جئن نوادراً، يقال: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وألفح فهو ملفح. ((حس)): هو الذي اجتمع فيه أربع شرائط: العقل، والبلوغ، والحرية، والإصابة في النكاح الصحيح.

3557 - وعن عمر [رضي الله عنه]، قال: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله تعالي آية الرجم، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، والرجم في كتاب الله حق علي من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. متفق عليه. 3558 - وعن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((آية الرجم)) اسم ((كان)) و ((من)) التبعيضية في ((مما أنزل)) خبره، وإنما جعل قوله: ((إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب)) مقدمة للكلام ورفعاً للريبة ودفعاً للتهمة، يدل عليه قوله في تمام هذا الحديث بعد قوله: ((ورجمنا بعده)) ((فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقولوا: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله؛ فإن الرجم في كتاب الله حق))، وفي آخره ((وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها)) أخرجه الأئمة إلا النسائي، وفي رواية ابن ماجه: وقد قرأ بها ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)). الحديث الرابع عن عبادة: قوله: ((قد جعل الله لهن سبيلا)) ((تو)): كان هذا القول حين شرع الحد في الزإني والزإنية، والسبيل هاهنا الحد؛ لأنه لم يكن مشروعاً ذلك الوقت، وكان الحكم فيه ما ذكر في كتاب الله {واللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}. أقول: التكرير في قوله: ((خذوا عني)) يدل علي ظهور أمر قد خفي شأنه واهتم بيانه؛ فإن قوله: ((قد جعل الله لهن سبيلا)) مبهم في التنزيل، ولم يعلم ما تلك السبيل؟ أي الحد الثابت في حق المحصن وغيره، فقوله: ((البكر بالبكر)) إلي آخره بيان لمبهم وتفصيل للمجمل وعلي طريقة الاستئناف مصداقاً لقوله تعالي: {وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} والتقسيم حاصر من حيث المفهوم؛ لأن اللاتي يأتين الفاحشة لا يخلو إما أن تكون بكراً أو ثيباً، والأولي إما زنت بالبكر أو بالثيب، والثانية أيضاً كذلك، فبين في الحديث ما حد البكر بالبكر والثيب بالثيب، وترك ذكر الثيب مع البكر لظهوره، ولحديث عسيف علي ما سبق. ((مح)): اختلفوا في هذه الآية، فقيل: هي محكمة وهذا الحديث مفسر لها. وقيل: منسوخة بالآية التي في أول سورة النور. وقيل: إن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين.

3559 - وعن عبد الله بن عمر: أن اليهود جاءوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) قالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهما يده علي آية الرجم، فقرأ الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم. فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما. وفي رواية: قال: ارفع يدك، فرفع فإذا فيها آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((البكر بالبكر)) مبتدأ و ((جلد مائة)) خبره، أي حد زنا البكر جلد مائة ((مح)): هو ليس علي سبيل الاشتراط، بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أو ثيب، وحد الثيب الرجم، سواء زنى بثيب أو ببكر، فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج علي الغالب. واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل سواء جامع بوطء شبهة، أو نكاح فاسد أو غيرهما. والمراد بالثيب عكس ذلك سواء في كل ذلك، المسلم والكافر والرشيد والمحجوز عليه بسفه. وأجمعوا علي وجوب جلد الزإني البكر مائة، ورجم المحصن وهو الثيب. واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم، فقالت طائفة: يجلد ثم يرجم. وبه قال علي رضي الله عنه والحسن والحسين وإسحاق، وداود وأهل الظاهر، وبعض أصحاب الشافعي. وقال الجمهور: الواجب الرجم وحده، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر علي رجم الثيب في أحاديث كثيرة، منها قضية ماعز، وقضية المرأة الغامدية، وقضية المرأة مع العسيف, وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ، لأنه كان في بدء الأمر. وأما تغريب عام ففيه حجة للشافعي والجماهير، أنه يجب نفي سنة رجلاً كان أو امرأة. وقال الحسن: لا يجب النفي. وقال مالك والأوزاعي: لا نفي علي النساء، وروى مثله عن علي رضي الله عنه. قالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة، وأما العبد والأمة ففيهما أقوال للشافعي، وأصحها تغريب نصف سنة. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((نفضحهم ويجلدون)) أي لا نجد في التوراة حكم الرجم بل نجد أنا نفضحهم ويجلدون. وإنما أتى أحد الفعلين مجهولا والآخر معروفاً؛ ليشعر بأن الفضيحة كانت موكولة إليهم وإلي اجتهادهم، أن شاءوا [سخموا] وجه الزإني بالفحم أو عزوره، والجلد لم يكن كذلك. ((مح)): فيه دليل لوجوب حد الزنى علي الكافر، وأنه يصح نكاحه، وإنما علي المحصن الرجم ولا يجلد مع الرجم، إذ لو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم. وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وأن الكفار إذا تحاكموا إلينا يحكم القاضي بينهم بحكم

3560 - وعن أبي هريرة: قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال: إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما شهد أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أبك جنون؟)) قال: لا. فقال: ((أحصنت)) قال: نعم يا رسول الله! قال: ((اذهبوا به فارجموه)) قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: فرجمناه بالمدينة، فلما أذلقته الحجارة هرب حتى أدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ شرعنا. قالوا: سؤاله صلى الله عليه وسلم ((ما تجدون في التوارة)): ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم، وإنما هو لإلزامهم ما يعتقدونه في كتابهم، ولإظهار ما كتموه من حكم التوارة، وأرادوا تعطيل نصها ففضحهم بذلك، ولعله صلى الله عليه وسلم قد أوحى إليه أن الرجم في التوراة موجود في أيديهم، لم يغيروه كما غيروا أشياء، أو أخبر بذلك من أسلم منهم. فإن قيل: كيف رجمهما بما ذكرت اليهود من قولهم: إن رجلا منهم وامرأة زنيا، إذ لا اعتبار بشهادتهم؟ قلنا: الظاهر أنهما أقرا بذلك أو شهد عليهما أربعة من المسلمين؛ لاحتمال ما جاء في سنن أبي داود وغيره: ((أنه شهد عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها)). الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((فتنحى لشق وجهه)) ((حس)): أي قصد الجهة التي إليها وجهه ونحا نحوها من قولك: نحوت الشيء أنحوه. قوله: ((أربع شهادات)) ((شف)) أي أقر علي نفسه أربع مرات، كأنه شهد علي نفسه بإقراره بما يوجب الحد. قوله: ((أذلقته الحجارة)) ((فا)): أذلقه فذلق إذا أجهده حتى تفلق، وأذلقت الضب إذا صببت الماء في حجره ليخرج، والسنان المزلق الذي نفذ حتى صار نافذاً ماضياً أي مسته الحجارة بحدة طرفها. ((حس)): يحتج بهذا الحديث من يشترط التكرار في الإقرار بالزنا حتى يقام عليه الحد، ويحتج أبو حنيفة بمجيئه من الجوانب الأربعة علي أنه يشترط أن يقر أربع مرات في أربع مجالس، ومن لم يشترط التكرار قال: إنما رده مرة بعد أخرى لشبهة داخلة في أمره، ولذلك سأل فقال: ((أبك جنون؟)) فأخبر أن ليس به جنون، قال: ((أشربت خمراً؟)) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح الخمر، فقال: ((أزنيت؟)) قال: نعم فأمر به فرجم. فرده مرة بعد أخرى للكشف عن حاله لا أن التكرار فيه شرط. وفيه دليل علي أن المرجوم لا يشد ولا يربط ولا يجعل في الحفرة، لأنه لو كان شيء من ذلك لم يمكنه الفرار والهرب. واختلفوا فيه، فقال قوم: لا يحفر مطلقاً. وقيل: يحفر للمرأة لا للرجل. ((مح)): إنما قال: ((أبك جنون؟)) لتحقق حاله؛ فإن الغالب أن الإنسان لا يصبر علي إقرار ما يقتضى إهلاكه، مع أن له طريقاً إلي سقوط الإثم بالتوبة، وهذا مبالغة في تحقيق حال المسلم

وفي رواية للبخاري: عن جابر بعد قوله: قال: نعم فأمر به فرجم بالمصلي، فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك، فرجم حتى مات. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وصلي عليه. 3561 - وعن ابن عباس، قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟)) قال: لا يا رسول الله! قال: ((أنكتها؟)) لا يكنى، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه. رواه البخاري. 3562 - وعن بريدة، قال: جاء ماعز بن مالك إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وصيانة دمه. وفيه إشارة إلي أن إقرار المجنون باطل، وأن الحدود لا تجري عليه. وفي سؤاله ((أحصنت؟)) إشارة إلي أن علي الإمام أن يسأل عن شرط الرجم من الإحصان وغيره، سواء ثبت بالإقرار أم بالبينة. وفيه مؤاخذة الإنسان بإقراره. وفيه تعريض بالعفو عن حد الزنا إذا رجع عن الإقرار. وفيه دليل علي أن الرجم كاف ولا يجلد. قوله: ((فرجم بالمصلي)) ((مح)): قالوا: المراد به مصلي الجنائز، ويشهد له الرواية الأخرى ((في بقيع الغرقد))، وهو موضع الجنائز بالمدينة. قال البخاري: فيه دليل علي أن مصلي الجنائز والأعياد إذا لم يجعل مسجداً لا يثبت له حكم المسجد؛ إذ لو كان له حكمه لاجتنب الرجم فيه لتلطخه بالدماء. وقال الدارمي من أصحابنا: إن مصلي العيد وغيره إذا لم يكن مسجداً هل يثبت له حكم المسجد؟ فيه وجهان: أصحهما ليس له حكم المسجد. قوله: ((أدركناه بالحرة)) ((مح)): اختلفوا في المحصن إذا أقر بالزنا، وشرعوا في رجمه فهرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد؟ قال الشافعي وأحمد وغيرهما: يترك ولكن يستقال له، فإن رجع عن الإقرار ترك، وإن أعاده رجم، واحتجوا بما جاء في رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هلا تركتموه فلعله يتوب، فيتوب الله عليه))، وقال مالك وغيره: إنه يتبع ويرجم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ديته مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجيب عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع، وقد ثبت عليه الحد. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أنكتها)) مقول القول و ((لا يكنى)) حال، أي قال ذلك مصرحاً غير [مكنى] عنه، وهذا التصريح تصريح في استحباب التعريض بالعفو إذا كنى الجإني ولم يصرح. ((مح)): فيه استحباب تلقين المقر بالزنا والسرقة وغيرهما بالرجوع، وبما يعتذر به من شبهة فيقبل رجوعه؛ لأن الحدود مبنية علي المساهلة والدرء، بخلاف حقوق الآدميين وحقوق الله تعالي المالية كالزكاة والكفارة وغيرهما؛ فإنه لا يجوز التلقين فيها. الحديث الثامن عن بريدة: قوله: ((فرجع غير بعيد)) أي غير زمان بعيد لقوله تعالي: {فَمَكَثَ

طهرني فقال: ((ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه)) قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فيم أطهرك؟)) قال: من الزنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبه جنون؟)) فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: ((أشرب خمراً؟)) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال: ((أزنيت؟)) قال: نعم فأمر به فرجم، فلبثوا يومين، أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((استغفروا لماعز بن مالك، لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)) ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني. ـــــــــــــــــــــــــــــ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي غير زمان بعيد، كقولك: عن قريب. قوله: ((ويحك)) ((نه)): ويح كلمة ترحم وتوجع، يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجب، وهي منصوبة علي المصدر، وقد ترفع وتضاف ولا تضاف، يقال: ويح زيد ويحاً له وويح له. قوله: ((فيم أطهرك)) وفي نسخ المصابيح ((مم أطهرك؟)) والرواية الأولي في صحيح مسلم وكتاب الحميدي. ((مح)): ((فيم)) بالفاء والياء التحتإنية بنقطتين في جميع النسخ وهو صحيح، وفيه معنى التسبب. أقول: ((ما)) يسأل بها عن عموم الأحوال، و ((من)) الابتدائية في الجواب مضمن معنى السبب، لأنها لإنشاء الابتداء، فخصت ((ما)) به لتطابقها، كأنه قيل: في أي سبب أطهرك؟ فأجاب بسبب الزنا، ونظيره في المعنى قوله تعالي: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأن في قوله: ((من رب السموات)) معنى المالكية، كأنه قيل: لمن السموات والأرض؟ قوله: ((فاستنكه)) الجوهري: استنكهت الرجل فنكه في وجهي ينكه نكهاً، أمرته بأن ينكه ليعلم أشارب هو أم غير شارب؟ والنكهة ريح الفم. قوله: ((لو قسمت بين أمتي لوسعتهم)) أي لكفتهم سعة، يعني توبة تستوجب مغفرة ورحمة تستوعبان جماعة كثيرة من الخلق، يدل عليه قوله في الغامدية: ((لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)). فإن قلت: فإذن ما فائدة قوله صلى الله عليه وسلم: ((استغفروا لماعز؟)) قلت: فائدة قوله: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ - إلي قوله - واسْتَغْفِرْهُ} وقوله تعالي: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} فإن الثاني طلب مزيد الغفران وما يستدعيه من الترقي في المقامات والثبات عليها، ومنه قوله تعالي: {واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وقوله: ((إنها حبلي)) جملة مستأنفة بيان لموجب قياسها علي حال ماعز، والعلة غير جامعة، فكأنها قالت: إني غير متمكنة من الإنكار بعد

فقال: ((ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)) فقال: تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك: إنها حبلي من الزنا. فقال: ((أنت؟)) قالت: نعم. قال لها: ((حتى تضعي ما في بطنك)) قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية فقال: ((إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيراً، ليس له من يرضعه)) فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعة با نبي الله! قال: فرجمها. وفي رواية: أنه قال لها: ((اذهبي حتى تلدي)) فلما ولدت قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)). فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبر. فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلي رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلي صدرها، وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح ـــــــــــــــــــــــــــــ الإقرار لظهور الحبل بخلافه، وقوله: ((أنها حبلي)) علي الغيبة حكاية قولها: إني حبلي، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنت)) لأنه تقرير لما تكلمت به، وقوله ((حتى تضعي)) غاية لجواب قولها: طهرني أي لم أطهرك حتى تضعي. قوله: ((فكفلها)) ((مح)): أي قام بمئونها ومصالحها، وليس هو من الكفالة التي بمعنى الضمان؛ لأنها غير جائزة في حدود الله تعالي. قوله: ((إذن)) هو جواب وجزاء يعني إذا وضعت الغامدية فلا نرجمها ونترك ولدها. قوله: ((بالصبي)) حال من فاعل ((أتته)) وضمير المفعول راجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((مح)) الرواية الأخيرة مخالفة للأولي، فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد الفطام وأكل الخبز، والأولي ظاهرة في أن رجمها عقيب الولادة فوجب تأويل الأولي لصراحة الثانية، ليتفقا؛ لأنها قضية واحدة والروايتان صحيحتان، فقوله في الأول: ((فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه)) , [إنما قاله بعد الفطام، والمراد بالرضاعة كفالته وتربيته. سماه رضاعاً مجازاً. أقول: ويحتمل أن يقال: إن معنى قوله: ((إلي رضاعه))] أي إني أتكفل مئونة المرضعة لترضع ولدها كما كفل الرجل مئونتها حين كانت حاملا، فإذن الفاء في قوله: ((فرجمها)) فصيحة أي سلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مع ولدها فرضعته حتى فطمته، وأتته به في يده كسرة خبز، فدفع الصبي إلي غيرها فأمر برجمها. قوله: ((فيقبل)) ((تو)): يروى هذا اللفظ بالياء ذات النقطتين من تحت بين يدي القاف واللام علي زنة الماضي من التقبيل، وليس بشيء معنى ورواية، وإنما أتاهم الغلط من حيث إن الراوي أتى به علي بناء المضارع من الإقبال، كأنه يريد حكاية الحال الماضية، وروى أنه لو كان من الإقبال الماضي لأتى به علي زنة الماضي [لكونه أشبه بنسق الكلام وصحح القاضي هذه

الدم علي وجه خالد، فسبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مهلا يا خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)) ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرواية، وقال في بعض النسخ: فقبل بالباء علي صيغة الماضي] من التقبيل وهو التتبع، أي يتبعها بحجر. أقول: قد تقرر في علم المعإني أن القصة إذا كانت عجيبة الشأن يعدل من الماضي إلي المضارع لتصوير تلك الحالة مشاهدة واستحضاراً لتعجب السامع منها، قال تأبط شراً: بإني قد لقيت الغول يهوي بشهب كالحصيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرت صريعاً لليدين والجران قال: فأضربها بعد قوله: لقيت، تصويراً لتلك الحالة التي شجع فيها، ولا ارتياب أن قصة خالد رضي الله عنه بعد الفراغ من شأن الغامدية، إنما أتى به الراوي استحضاراً لما فعل خالد، وما قال صلى الله عليه وسلم من قوله: ((مهلا)) ومعناه تريث وأنصت ومن تمثيل توبتها بتوبة العشار. ((مح)): قوله: ((فتنضح)) روى بالحاء المهملة وبالمعجمة، والأكثرون علي المهملة، ومعناه ترشش وانصب. ((مح)): النضح قريب من النصح، وقيل: بالمعجمة الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة الفعل نفسه. وقيل: هو بالمعجمة ما فعل تعمداً، وبالمهملة من غير تعمد. والمكس الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار. ((مح)): فيه أن المكس من أعظم الذنوب والمعاصي الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له ومظلماتهم عنده لتكرر ذلك منه، وأخذ أموال الناس بغير حقها وصرفها في غير وجهها. قوله: ((فصلي عليها)) ((مح)): قال القاضي عياض: هي بفتح اللام والصاد عند جماهير رواة صحيح مسلم وعند الطبري بضم الصاد، قال: وكذا هو رواية ابن أبي شيبة وأبي داود. واختلفوا في الصلاة علي المرجوم، وكرهها مالك وأحمد للإمام ولأهل الفضل دون باقي الناس، وقال الشافعي وآخرون: يصلي عليه الإمام وأهل الفضل وغيرهم. واتفقوا علي الصلاة علي الفساق والمقتولين في المحاربة والحدود وأولاد الزنا سوى قتادة، فإنه منع من أن يصلي علي أولاد الزنا. وفي الحديث دليل علي أن الحد يكفر ذنب المعصية التي حد لها. فإن قيل: ما بال ماعز والغامدية لم يقنعا بالتوبة، وهي محصلة غرضهما من سقوط الإثم، فأصر علي الإقرار فرجما؟ فالجواب أن تحصيل البراءة بالحد متيقن لاسيما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما التوبة فيخاف أن لا تكون نصوحاً، وأن يخل بشيء من شروطها. وفيه احتجاج لأصحاب مالك وجمهور الحجازيين أنه يحد من وجه منه ريح الخمر. وإن لم تقم عليه بينة ولم يقر. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحد بمجرد الريح بل لابد من بينة أو إقرار. وفيه أنه لا ترجم الحبلي حتى تضع سواء كان حملها من زنا أو غيره، لئلا يقتل

3563 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر)). متفق عليه. 3564 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: يأيها الناس أقيموا علي أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن؛ فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أحسنت)). رواه مسلم. وفي رواية أبي داود: قال: ((دعها حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليه الحد؛ وأقيموا الحدود علي ما ملكت أيمانكم)). ـــــــــــــــــــــــــــــ البريء من الذنب، وكذا لا تجلد، وأنه إن وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع حملها وتضع ولدها. الحديث التاسع عن أبي هريرة: قوله: ((الحد)) مفعول مطلق أي فليحدها حد المشروع. قوله: ((ولا يثرب عليها)) ((قض)): التثريب التإنيب والتعيير. كان تأديب الزناة قبل شرع الحد هو التثريب وحده، فأمرهم بالجلد ونهي عن الاقتصار بالتثريب. وقيل: المراد به النهي عن التثريب بعد الجلد؛ فإن كفارة لما ارتكبه، ولعله إنما سقط التغريب عن المماليك نظراً للسادة وصيانة لحقوقهم. ((مح)): فيه دليل علي وجوب حد الزنى علي الإماء أو العبيد، وأن السيد يقيم الحد عليهما، وله أن يتفحص عن جرمهما ويسمع البينة عليهما. وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة في طائفة: ليس له ذلك. وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور. وفيه دليل علي أن العبد والأمة لا يرجمان وإن كانا متزوجين. وفيه أنه لا يوبخ الزإني بل يقام عليه الحد فحسب، وفيه أن الزإني إذا تكرر منه الزنا تكرر عليه الحد فأما إذا زنى مرات ولم يحد فيكفي حد واحد للجميع. وفيه ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي. وهذا البيع مأمور به مستحب وليس بواجب. وقال أهل الظاهر: وفيه وجواز بيع الشيء الثمين بثمن حقير إذا كان البائع عالماً به، وإن كان جاهلا ففيه خلاف لأصحاب مالك، فإنهم لا يحوزونه خلافاً للجمهور، وعلي البائع بيان حال السلعة وعيبها للمشتري. فإن قيل: كيف يكره شيئاً لنفسه ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب لعل الزإنية تستعفف عند المشتري بنفسها أو يصونها، أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوجها. الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أن أقتلها)) هو مفعول ((فخشيت)) و ((جلدتها)) مفسر لعامل ((أنا)) المقدم بعد ((إن)) الشرطية كقول الحماسي: وإن هو لم يحمل علي النفس ضيمها فليس إلي حسن الثناء سبيل

الفصل الثاني 3565 - عن أبي هريرة، قال: جاء ماعز الأسلمي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر، فقال: إنه قد زنى فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الآخر فقال: يا رسول الله! إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة، فأخرج إلي الحرة، فرجم بالحجارة. فلما وجد مس الحجارة، فر يشتد، حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلا تركتموه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وفي رواية: ((هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه)). [3565] ـــــــــــــــــــــــــــــ وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام المفترض فيه من الفعل ومفعوله، وتقييد الأرقاء بالإحصان مع أن الحرية شرط للإحصان، يراد به كونهن مزوجات؛ لقوله تعالي: {فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلي المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} حيث وصفهن بالإحصان، {فَإذَا أُحْصِنَّ} وحكم عليهن بنصف ما علي المحصنات من العقوبة. ((مح)): فيه دليل علي أن الجلد واجب علي الأمة الزإنية، وأن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلي البرء. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((يشتد)) حال، واللحى العظم الذي عليه الأسنان. وقوله: ((ذلك)) إذا جعل الإشارة إلي المذكور السابق من فراره من الحجارة، كان قوله: ((أنه فر حين وجد مس الحجارة)) تكراراً لأنه بيان لـ ((ذلك)) فيجب أن يكون ((ذلك)) مبهما، وقد فسر بما بعده كقوله تعالي: {وقَضَيْنَا إلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} ولعله كرر لزيادة البيان. وقوله: ((ومس الموت)) عطف علي ((مس الحجارة)) علي سبيل البيان، كقوله تعالي: {وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} عطف علي قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بياناً. فإن قلت: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذهم بقتله حيث فر، فهل يلزمهم القود إذن؟

3566 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك: ((أحق ما بلغني عنك؟)) قال: وما بلغك عني؟)) قال: وما بلغك عني؟ قال: ((بلغني أنك قد وقعت علي جارية آل فلان)) قال: نعم، فشهد أربع شهادات، فأمر به فرجم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم آخذهم بشبهة عرضت تصلح أن يدفع بها الحد، فقد عرضت لهم شبهة أيضاً وهي إمضاء حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا جناح عليهم. ((حس)): فيه دليل علي أن من أقر علي نفسه بالزنا أو رجع في حال إقامة الحد، وقال: كذبت وما زنيت أو رجعت سقط ما بقي من الحد عنه، وكذلك السارق وشارب الخمر. الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((أحق ما بلغني؟)) إلي قوله: ((رواه مسلم)) فيه تنبيه من المؤلف علي أن هذا الحديث غير مقر في مكانه، بل مكانه الفصل السابق. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين حديث بريدة؟ فإن هذا يدل علي أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بزنا ماعز، فاستنطقه ليقر به ليقيم عليه الحد، وحديث بريدة وأبي هريرة ويزيد بن نعيم يدل علي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عارفاً به، فجاء ماعز فأقر فأعرض عنه مراراً، ثم جرت بعد ذلك أحوال جمة ثم رجم. قلت: للبلغاء مقامات وأساليب، فمن مقام يقتضي الإيجاز فيقتصرون علي كلمات معدودة، ومن مقام يقتضي الإطناب فيطنبون فيه كل الإطناب، قال: يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء فابن عباس سلك طريق الاختصار، فأخذ من أول القصة وآخرها؛ إذا كان قصده بيان رجم الزإني المحصن بعد إقراره، وبريدة وأبو هريرة ويزيد سلكوا سبيل الإطناب في بيان مسائل مهمة للأمة. وذلك لا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم بلغه حديث ماعز، فأحضره بين يديه فاستنطقه؛ لينكر ما نسب إليه لدرء الحد، فلما أقر أعرض عنه فجاءه من قبل اليمين بعد ما كان ماثلا بين يديه، فأعرض عنه فجاءه من قبل الشمال، يدل عليه حديث أبي هريرة ((ثم جاء من شقه الآخر)) وكل ذلك ليرجع عما أقر، فلما لم يجد فيه ذلك، قال: ((أبه جنون؟)) إلي آخره، ونظير سلوك ابن عباس في أخذ القصة أولها وآخرها قوله تعالي: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلي فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وبِيلاً} فالفاء في ((فأخذناه)) كالفاء في ((فأمر به فرجم)) فالفاء تستدعي حالات وتارات وشيءوناً لا تكاد تنضبط إلي أن يتصل إلي أول القصة من قوله: {أَرْسَلْنَا ... فَعَصَى}. والله أعلم.

3567 - وعن يزيد بن نعيم، عن أبيه أن ماعزاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه وقال لهزال: ((لو سترته بثوبك كان خيراً لك)) قال ابن المنكدر: إن هزالاً أمر ماعزاً أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره. رواه أبو داود. [3567] 3568 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص [رضي الله عنهما] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)). رواه أبو داود، والنسائي. [3568] 3569 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)). رواه أبو داود. [3569] 3570 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن يزيد: قوله: ((لو سترته بثوبك)) كناية عن إخفاء أمره وتعريض بصنيعه من هتك ستره. ((تو)): وذلك أن هزال بن نعيم كانت له مولاة اسمها فاطمة، فوقع عليها ماعز، فعلم به هزال فاستحمقه وأشار إليه بالمجيء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتراف بالزنا علي نفسه، وحسن في ذلك شأنه وهو يريد به السوء والهوان. أقول: ولعل ذلك كان نصيحة له من هزال، وهو الظاهر لما سيرد في الفصل الثالث في الحديث الثاني. الحديث الرابع عن عمرو بن شعيب: قوله: ((تعافوا)) ((مظ)): هو خطاب لغير الأئمة، يعني الحدود التي بينكم ينبغي أن يعفوها بعضكم عن بعض من قبل أن يبلغني ذلك، فإذا بلغني وجب علي إقامة الحدود عليكم. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ذوي الهيئات)) [((مظ))]: قال الشافعي في تفسير ذوي الهيئات: هو من لم يظهر منه ذنبه. ((قض)): الهيئة في الأصل صورة أو حالة تعرض لأشياء متعددة، فتصير بسببها مقولا عليها أنها واحدة ثم تطلق علي الخصلة، فيقال: لفلان هيئات أي خصال. والمراد بـ ((ذوي الهيئات)) أصحاب المروءات والخصال الحميدة. وقيل: ذوو الوجوه بين الناس، (وبالعثرات) صغائر الذنوب، وما يندر عنهم من الخطايا، فيكون الاستثناء منقطعاً إذا كانت الهيئة بمعنى الخصلة أو الذنوب مطلقاً، وبالحدود ما يوجبها، فيكون متصلا، والخطاب مع الأئمة وغيرهم ممن يستحق المؤاخذة بها والتأديب عليها. والله أعلم.

أن يخطئ في العقوبة)). رواه الترمذي، وقال: قد روى عنها ولم يرفع وهو أصح. [3570] 3571 - وعن وائل بن حجر، قال: استكرهت امرأة علي عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد، وأقامه علي الذي أصابها، ولم يذكر أنه جعل لها مهراً. رواه الترمذي. 3572 - وعنه: أن امرأة خرجت علي عهد النبي صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة، فتلقاها رجل فتجللها. فقضى حجته منها، فصاحت وانطلق، ومرت عصابة من المهاجرين فقالت: إن ذلك الرجل فعل بي كذا وكذا، فأخذوا الرجل، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ((اذهبي فقد غفر الله لك)) وقال للرجل الذي وقع عليها: ((ارجموه)) وقال: ((لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3572]. 3575 - وعن جابر: أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد الحد، ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أن يخطئ)) ((مظ)): أي بأن يخطئ أو لأن يخطئ، يعني ادفعوا الحدود ما استطعتم قبل أن تصل إلي، فإن الإمام إذا سلك سبيل الخطأ في العفو الذي صدر منه خير من أن يسلك سبيل الخطأ في الحدود؛ فإن الحدود إذا وصلت إليه وجب عليه الإنفاذ. أقول: نزل معنى هذا الحديث علي معنى الحديث السابق، وهو ((تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)) وجعل الخطاب في الحديث لعامة المسلمين، ويكن أن ينزل علي حديث أبي هريرة في قصة رجل ويريده في قصة ماعز فيكون الخطاب للأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل: ((أبك جنون؟))، ثم قوله: ((أحصنت؟)) ولماعز ((أبه جنون؟)) ثم قوله: ((أشربت؟)) لأن كل هذا تنبيه علي أن للإمام أن يدرأ الحدود بالشبهات، فيكون قوله: ((فإن الإمام)) مظهر أقيم مقام المضمر علي سبيل الالتفات من الغيبة حثاً له علي إظهار الرأفة والرحمة، يعني في حق إمام المسلمين وقائدهم أن يرجح سبيل العفو علي العقوبة، و ((أن)) في ((أن يخطئ)) مصدرية، وهو خبر ((إن)) أي إن الإمام خطؤه في العفو خير من خطئه في العقوبة. الحديث السابع عن وائل: قوله: ((ولم يذكر أنه جعل لها مهراً)) ((مظ)): لا يدل هذا علي عدم وجوب المهر؛ لأنه ثبت وجوبه لها بإيجابه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخر. الحديث الثامن عن وائل: قوله: ((فتجللها)) ((قض)): أي غشيها وجامعها، من الجلال كنى به عن الوطء كما كنى عنه بالغشيان.

3574 – وعن سعيد بن سعد بن عبادة، أن سعد بن عبادة أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل – كان في الحي – مخدج سقيم، فوجد علي أمة من إمائهم يخبث بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ، فاضربوه ضربة)). رواه في ((شرح السنة)) وفي رواية ابن ماجه نحوه [3574] 3575 - وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول)). رواه الترمذي وابن ماجه. [3575] 3576 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى بهيمة فاقتلوه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن جابر: قوله: ((فأمر)) ليس خبر لـ ((أن)) وإن كان اسمها نكرة موصوفة لعدم شيوعه وإبهامه، بل هو معطوف علي محذوف، هو خبر ((أن)) أي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقرينة قوله: ((ثم أخبر أنه محصن)). [((قض))]: فيه دليل علي أن أحد الأمرين لا يقوم مقام الآخر، وعلي أن الإمام إذا أمر بشيء من الحدود، ثم بان له أن الواجب غيره، عليه المصير إلي الواجب الشرعي. الحديث العاشر عن سعيد: قوله: ((مخدع سقيم)) المخدع الناقص الخلق والعثكال الغصن الذي يكون عليه أغصان صغار، وكل واحد من تلك الأغصان يسمى شمراخاً، و ((يخبث)) أي يزنى بها، فإن الزنا من [أخبث] الفعل. ((قض)): فيه دليل علي أن الإمام ينبغي أن يراقب المجلود ويحافظ علي حياته، وأن حد المريض لا يؤخر إلا إذا كان له أمد مؤخر كالحبل، لحديث علي رضي الله عنه. وقال: مالك وأصحاب أبي حنيفة: يؤخر الحد إلي أن يبرأ، وقد عد الحديث من المراسيل؛ فإن سعيداً لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنه سمعه من أبيه أو غيره، وهو وإن كان كذلك فهم محجوجون به؛ إذ المراسيل مقبولة عندهم. الحديث الحادي عشر عن عكرمة: قوله: ((فاقتلوا الفاعل)) ((حس)): اختلفوا في حد اللوطي، فذهب الشافعي في أظهر قوليه، وأبو يوسف ومحمد إلي أن حد الفاعل حد الزنا: إن كان محصنا يرجم، وإن لم يكن محصناً يجلد مائة جلدة، وعلي المفعول به عند الشافعي علي هذا القول جلد مائة وتغريب عام رجلا كان أو امرأة، محصناً كان أو غير محصن؛ لأن التمكين في الدبر لا يحصنها فلا يلزمها حد المحصنات. وذهب قوم إلي أن الواطئ يرجم محصناً كان أو غير محصن، وبه قال مالك وأحمد، والقول الآخر للشافعي أنه يقتل الفاعل والمفعول به، كما هو ظاهر الحديث. وقد قيل في كيفية قتلهما: هدم بناء عليهما، وقيل: رميهما من شاهق كما فعل بقوم لوط، وعند أبي حنيفة يعزر ولا يحد. الحديث الثاني عشر عن ابن عباس: قوله: ((وقد فعل بها)) تحقيق ذلك أن كل ما أوجده الله

واقتلوها معه)). قيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها وقد فعل بها ذلك. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3576] 3577 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف علي أمتي عمل قوم لوط)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3577] 3578 - وعن ابن عباس: أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مائة، وكان بكراً، ثم سأله البينة علي المرأة فقالت: كذب والله يا رسول الله! فجلد حد الفرية. رواه أبو داود. [3578] 3579 - وعن عائشة، قالت: لما نزل عذري، قام النبي صلى الله عليه وسلم علي المنبر، فذكر ذلك، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم. رواه أبو داود. [3579] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي في هذا العالم جعله صالحاً لفعل خاص، فلا يصلح لذلك العمل سواه؛ فإن المأكول من الحيوان خلق لأكل الإنسان إياه لا لقضاء شهوته منه، والذكر من الإنسان خلق للفاعلية والأنثى للمفعولية ووضع فيهما الشهوة لتكثير النسل بقاء لنوع الإنسان، فإذا عكس كان إبطالاً لتلك الحكمة، وإليه أشار قوله تعالي: {إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه؛ لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل ألبتة كطلب النسل والتخلي إلي العبادة ونحوه. والله أعلم بالصواب. ((مظ)): قال مالك والشافعي في أظهر قوليه وأحمد وأبو حنيفة: إنه يعزر، وقال إسحاق: يقتل إن عمل ذلك مع العلم بالنهي. والبهيمة قيل: إن كانت مأكولة تقتل، وإلا فوجهان: القتل لظاهر الحديث، وعدم القتل للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. الحديث الثالث عشر عن جابر: قوله: ((إن أخوف ما أخاف)) أضاف أفعل إلي ((ما)) وهي نكرة موصوفة؛ ليدل علي أنه إذا استقصى الأشياء المخوف منها شيئاً بعد شيء لم يوجد شيء أخوف من فعل قوم لوط. الحديث الرابع عشر عن ابن عباس: قوله: ((حد الفرية)) الفرية الكذب، والمراد به هاهنا القذف.

الفصل الثالث 3580 - عن نافع: أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته أن عبداً من رقيق الإمارة وقع علي وليدة من الحمس فاستكرهها، حتى افتضها فجلده عمر ولم يجلدها، من أجل أنه استكرهها. رواه البخاري. 3581 - وعن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه، قال: كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجاً، فأتاه، فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأقم علي كتاب الله، حتى قالها أربع مرات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك قد قلتها أربع مرات، فبمن؟)) قال: بفلانة. قال: ((هل ضاجعها؟)) قال: نعم. قال: ((هل باشرتها؟)) قال: نعم قال: ((هل جامعتها؟)) قال: نعم. قال: فأمر به أن يرجم، فأخرج به إلي الحرة، فلما رجم، فوجد مس الحجارة فجزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن إنيس، وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ((هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه)). رواه أبو داود. [3581] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لما نزل عذري)) ((قض)): المراد بالعذر الآية الدالة علي براءتها، شبهتها بالعذر الذي هو يبرئ المعذور من الجرم، وبـ ((الرجلين)) حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وبـ ((المرأة)) حمنة بنت جحش، فضربوا حدهم حد المفترين انتهي كلامه. وقوله: ((أمر بالرجلين)) أي بحد الرجلين والمرأة علي حذف المضاف، بدلالة قوله: ((فضربوا حدهم)) و ((حدهم)) مفعول مطلق أي فحدوا حدهم. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن يزيد: قوله: ((أن يكون له مخرجاً)) اسم ((كان)) ضمير يرجع إلي المذكور، وخبره ((مخرجاً)) و ((له)) ظرف لغو، كما في قوله تعالي: {ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} المعنى يكون إتيانك وإخبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجاً لك، وينصره ما أتبعه من قوله: ((فأتاه فقال)). والفاء في قوله: ((فبمن)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان كما قلت فبمن زينت؟ و ((أن

3582 - وعن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)). رواه أحمد. [3582] 3583 - وعن ابن عباس، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ملعون من عمل عمل قوم لوط)). رواه رزين. [3583] 3584 - وفي رواية له عن ابن عباس: أن عليا [رضي الله عنه] أحرقهما، وأبا بكر هدم عليهما حائطاً. 3585 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله عز وجل إلي رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. [3585] 3586 - وعنه، أنه قال: ((من أتى بهيمة فلا حد عليه)). رواه الترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ يرجم)) بدل اشتمال من الضمير المجرور في ((به)) وعدى ((أخرج)) بالهمزة وبالباء توكيداً، كما في قوله تعالي: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}. قال الحريري في درة الغواص: قيل: في جواز الجمع بين حرفي التعدية في قراءة ضم التاء عدة أقوال: والأحسن أنما زيدت التاء؛ لأن إنباتها الدهن بعد إنبات الثمر الذي يخرج الدهن منه، فلما كان الفعل في المعنى قد تعلق بمفعولين يكونان في حال بعد حال، وهما الثمرة والدهن، احتيج إلي تقويته في التعدي بالباء. و ((الوظيف)) مستدق الذراع والساق من الإبل والخيل ونحوهما، والجمع الأوظفة، والفاءات المذكورة بعد ((لما)) في قوله: ((فلما رجم – إلي قوله – فقتله)) كل واحدة تصلح للعطف، إما علي الشرط أو علي الجزاء إلا قوله: ((فوجد)) فإنه لا تصلح لأن تكون عطفاً علي الجزاء، وقوله: ((فقال: هلا تركتموه)) يصلح للجزاء. وهذا فيه إشكال؛ لأن جواب ((لما)) لا تدخله الفاء علي اللغة الفصيحة وقد يجوز أن يقدر الجزاء، ويقال: تقديره لما رجم وكان كيت وكيت، علمنا حكم الرجم وما يترتب عليه حينئذ لا تكون الفاء إلا للعطف. الحديث الثالث عن عمرو: قوله: ((بالسنة)) ((نه)): هي الجدب، يقال: أخذتهم السنة إذا أجدبوا وأقحطوا، وهي من الأسماء الغالبة نحو الدابة في الفرس، والمال في الإبل. أقول: لعل الحكمة في استجلاب الزنا القحط أن الزنا يؤدي إلي إبطال النسل، والسنة لازمة لإهلاك الحرث وليس الفساد إلا كذلك، كما قال تعالي: {ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ} والحاكم إنما

(1) باب قطع السرقة

وأبو داود، وقال الترمذي: عن سفيان الثوري، أنه قال: وهذا أصح من الحديث الأول وهو: ((من أتى بهيمة فاقتلوه)) والعمل علي هذا عند أهل العلم. 3587 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم)). رواه ابن ماجه. [3587] 3588 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله)). رواه ابن ماجه. [3588] 3589 - ورواه النسائي عن أبي هريرة. (1) باب قطع السرقة الفصل الأول 3590 - عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تقطع يد السارق إلا بربع دينار فصاعداً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ينفذ حكمه ويمضى أمره في الوضيع والشريف إذا تنزه عن الرشوة، فإذا تلطخ بها خاف ورعب. الحديث الرابع إلي السابع عن عبادة: قوله: ((ولا تأخذكم)) عطف علي ((أقيموا)) فيكون نهياً تأكيداً للأمر، ويجوز أن يكون خبراً بمعنى النهي، ((والقريب البعيد)) يحتمل أن يراد بهما القرب والبعد في النسب، أو القوة والضعف، والثاني أنسب؛ لأن المعنى أقيموا حدود الله في كل أحد ولا تخافوا لومة لائم، والتنكير في ((لائم)) للشيوع. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إقامة حد من حدود الله)) وذلك أن في إقامتها زجراً للخلق عن المعاصي والذنوب، وسبباً لفتح أبواب السماء وإرخاء غرابها، وفي العقود عنها والتهاون بها انهماك لهم في المعاصي، وذلك سبب لأخذهم بالسنين والجدب وإهلاك الخلق، كما ورد ((إن الحبارى لتموت هزلاً بذنب بني آدم)) أي أن الله تعالي يحبس عنها بشؤم ذنوبهم القطر. وخص الحبارى بالذكر؛ لأنها أبعد الطير نجعة، فربما تذبح بالبصرة ويوجد في حواصلها الحبة الخضراء وبين البصرة وبين منابتها ميسرة أيام، وتخصيص الليلة بالأمطار تتميم لمعنى الخصب.

3591 - وعن ابن عمر، قال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. متفق عليه. 3592 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب قطع السرقة المغرب: سرق منه مالا وسرقه سرقاً وسرقة إذا أخذه في خفاء وحيلة، وفتح الراء في السرق لغة، وأما السكون فلم نسمعه - انتهي كلامه. والإضافة إلي المفعول علي حذف المضاف أي قطع أهل السرقة. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلا بربع دينار)) ((مح)): اتفقوا علي قطع يد السارق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره. فقال الشافعي: النصاب ربع دينار ذهباً أو ما قيمته ربع دينار، وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور وإسحاق وغيرهم، وقال مالك وأحمد وإسحاق في رواية: يقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمة أحدهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقطع إلا في عشرة دراهم أو ما قيمته ذلك. والصحيح ما قاله الشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين النصاب بلفظه في الحديث ((وأنه ربع دينار))، وأما رواية ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ((قطع يد سارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم)) فمحمولة علي أن هذا القدر ربع دينار فصاعداً، أو علي أنها قضية عين لا عموم لها. ولا يجوز ترك صريح اللفظ في تحديد النصاب للمحتمل، بل يجب حملها علي موافقة لفظه. وأما الرواية الأخرى ((لم تقطع يد سارق في أقل من ثمن المجن)) فمحمولة علي أنه كان ربع دينار. وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت ((قطع في مجن قيمته عشرة دراهم)) وفي رواية ((خمسة)) فهي ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت، فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة الصريحة، مع أنه يمكن حملها علي أنه كانت قيمته عشرة دراهم اتفاقاً، لا أنه شرط ذلك في قطع السارق. وأما رواية ((لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده)) فقال جماعة: المراد بهما بيضة الحديد وحبل السفينة، وكل واحد مهما يساوي أكثر من ربع دينار، وأنكره المحققون وقالوا: ليس هذا السياق موضع استعمالهما، بل البلاغة تأباه؛ لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدر، وإنما يذم من خاطر فيما لا قدر له، فالمراد التنبيه علي عظم ما خسر يده في مقابلة حقير من المال، فربع دينار يشارك البيضة والحبل في الحقارة، والمراد جنس البيضة وجنس الحبال. وقيل: هو علي عادة الولاة سياسة لا قطعاً جائزاً شرعاً. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب، ثم بين ذلك النصاب. - والله أعلم.

الفصل الثاني 3593 - عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((لا قطع في ثمر ولا كثر)). رواه مالك والترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه. 3594 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الثمر المعلق قال: ((من سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع)). رواه أبو داود، والنسائي. [3594] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لعن الله السارق)) ((مح)): فيه جواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن الجنس مطلقاً، قال تعالي: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلي الظَّالِمِينَ} وأم المعين فلا يجوز لعنه. أقول: لعل المراد من اللعن الإهانة والخذلان، كأنه قيل: لما استعمل أعز شيء عنده في أهون شيء وأحقره خذله الله وأهانه حتى قطع. الفصل الثاني الحديث الأول عن رافع: قوله: ((في ثمر)) ((نه)) الثمر الرطب ما دام علي رأس النخلة فإذا قطع فهو الرطب، فإذا كنز – بالكاف والنون والزاي – فهو التمر. قوله: ((ولا كثر)) ((فا)): الكثر جمار النخل وهو شحمه الذي يخرج الكافور، وهو وعاء الطلع من جوفه سمي جماراً وكثراً؛ لأنه أصل الكوافير، والمحل الذي يجتمع ويكثر فيه. ((حس)): ذهب أبو حنيفة إلي ظاهر الحديث فلم يوجب القطع في سرقه شيء من الفواكه الرطبة، سواء كانت محرزة أو غير محرزة، وقاس عليه اللحوم والألبان والأشربة والجوز، وأوجب الآخرون القطع في جمعيها إذا كانت محرزة، وهو قول مالك والشافعي، وتأول الشافعي الحديث علي الثمار المعلقة غير المحرزة، وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها، فلا تكون محرزة، والدليل عليه حديث عمرو بن شعيب. وفيه دليل علي أن ما كان منها محرزاً يجب القطع بسرقته. الحديث الثاني عن عمرو: قوله: ((قال: من سرق منه شيئاً)) إلي آخره. فإن قلت: كيف طابق هذا جواباً عن سؤاله عن الثمر المعلق، فإنه سئل هل تقطع في سرقة الثمر المعلق؟ وكان ظاهر الجواب أن يقال: لا، فلم أطنب ذلك الإطناب؟ قلت: ليجيب عنه معللا كأنه قيل: لا يقطع لأنه لم يسرق من الحرز، قوله ((أن يؤويه الجرين)) ((نه)): هو موضع تجفيف. التمر، وهو له كالبيدر للحنطة، ويجمع علي جرن بضمتين.

3595 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح والجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن)). رواه مالك. 3596 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس علي المنتهب قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا)). رواه أبو داود. 3597 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليس علي خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع)). رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي. 3598 - وروى في ((شرح السنة)): أن صفوان بن أمية قدم المدينة، فنام في المسجد، وتوسد رداءه، فجاء سارق، وأخذ رداءه، فأخذه صفوان، فجاء به إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تقطع يده. فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدفة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فهلا قبل أن تأتيني به)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): قالوا: الحرز مشروط فلا قطع إلا فيما سرق من حرز، والمعتبر فيه العرف فما لم يعده العرف حرزاً لذلك الشيء فليس بحرز له، ويشترط أن لا يكون للسارق في المسروق شبهة، فإن كنت لم يقطع، ويشترط أن يطالب المسروق منه بالمال. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((ولا في حريسة جبل)) ((نه)): الحريسة فعلية بمعنى مفعلة أي أن لها من يحرسها ويحفظها. ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها. يقال: حرس يحرس حرساً إذا سرق فهو حارس ومحترس، أي ليس فيما يسرق من الجبل قطع. ومنه الحديث إنه سئل عن حريسة الجبل فقال: ((فيها غرم مثلها وجلدات نكالا، فإذا أواها المراح)) – وهو ما تأوى إليه الإبل والغنم بالليل – ففيها القطع)). ويقال للشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلي مراحها: حريسة. وفلان يأكل الحريسات إذا سرق أغنام الناس وأكلها، والاحتراس أن يسرق الشيء من المرعي. الحديث الرابع إلي السابع عن جابر: قوله: ((ولا مختلس)) المغرب: الاختلاس أخذ الشيء من ظاهر بسرعة. ((مظ)): ليس علي المغير والمختلس والخائن قطع، ولو كان المأخوذ نصاباً أو قيمته؛ لأن شرطه إخراج ما هو نصاب أو قيمته من الحرز. ((مح)): قال القاضي عياض: شرع الله تعالي إيجاب القطع علي السرقة، ولم يجعل ذلك في

3599 - وروى نحوه ابن ماجه، عن عبد الله بن صفوان، عن أبيه. 3600 - والدرامي عن ابن عباس. 3601 - وعن بسر بن أرطاة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)). رواه الترمذي، والدارمي. وأبو داود، والنسائي، إلا أنهما قالا: ((في السفر)) بدل ((الغزو)) [3601]. ـــــــــــــــــــــــــــــ غيرها كالاختلاس والانتهاب والغضب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلي السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستغاثة إلي ولاة الأمور، ويسهل إقامة البينة عليه بخلافها، فيعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها. قوله: ((فهلا قبل أن تأتيني به؟)) أي فهلا تصدقت وتركت حقك قبل وصوله إلي؛ فالآن قطعة واجب ليس لك حق فيه بل هو حق الشرع. الحديث الثامن عن بسر: قوله: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) [((مظ))]: يشبه أن يكون إنما أسقط عنه العزو الحد؛ لأنه لم يكن إماماً، وإنما كان أميراً أو صاحب جيش، وأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب علي مذهب بعض الفقهاء، إلا إن يكون إماماً أو أميراً واسع المملكة، كصاحب العراق أو الشام أو مصر فإنه يقيم الحدود في عسكره، وهو قول أبي حنيفة. وقال الأوزاعي: لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع، وأما أكثر الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب وغيرها، ويرون إقامة الحدود علي من ارتكبها، كما يرون وجوب إقامة الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء. ((تو)): ولعل الأوزاعي رأي فيه احتمال افتتان المقطوع بأن يلحق بدار الحرب، أو رأي أنه إذا قطعت يده والأمير متوجه إلي العدو، ولم يتمكن من الدفع ولا يغني غني فيترك إلي أن يقفل الجيش. ((قض)): ولعله صلى الله عليه وسلم أراد به المنع من القطع فيما يؤخذ من المغانم. أقول: هذا التركيب من باب ترتيب الحكم علي الوصف المناسب؛ إذ لا بد من جمع الأيدي، والتقييد بعزو من عانده، فالمناسب أن يقال: لا تقطع أيديهم لئلا تقع الفرقة والوهن فيمن يجاهد في سبيل الله؛ ولإرادة التفرق والوهن ورد ((اجعل الفساق يداً يداً)) أي فرق بينهم. وقولهم: [((تفرقوا أيدي سبا))] والسفر المذكور في الرواية الأخرى مطلق يحمل علي المقيد.

3602 - وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق: ((إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله)). رواه في ((شرح السنة)). 3062 - وعن جابر، قال: جيء بسارق إلي النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اقطعوه)) فقطع. ثم جيء به الثانية، فقال: ((اقطعوه)) فقطع. ثم جيء به الثالثة، فقال: ((اقطعوه)) فقطع. ثم جيء به الرابعة، فقال: ((اقطعوه)) فقطع. فأتى به الخامسة، فقال: ((اقتلوه))، فانطلقنا به، فقتلناه، ثم اجتررناه، فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة. رواه أبو داود، والنسائي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع والعاشر عن جابر: قوله: ((فأتى به)) أصله فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأقيم المفعول الأول مقام الفاعل، وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الجار والمجرور قد أقيم مقام الفاعل وكذا القول في ((جيء به)). ((حس)): اتفقوا علي أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثإنياً تقطع رجله اليسرى. واختلفوا فيما إذا سرق ثالثاً بعد قطع يده ورجله فذهب أكثرهم إلي أنه تقطع يده اليسرى ثم إذا سرق رابعاً تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس. وهو المروي عن أبي بكر رضي الله عنه وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال قوم: إن سرق بعد ما قطعت إحدى يديه ورجليه لم يقطع وحبس، ويروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو مذهب أبي حنيفة. ((مظ)): لا أعلم أحداً من الفقهاء يبيح دم السارق وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى، إلا أنه قد يخرج علي مذهب بعض الفقهاء أنه يباح دمه، وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض، وللإمام أن يجتهد في تعزير المفسد، ويبلغ به ما يرى من العقوبة وإن زاد علي مقدار الحد، وإن رأي أن يقتل قتل. ويعزى ذلك إلي مالك بن أنس. والحديث إن كان ثابتاً فهو يؤيد هذا الرأي – انتهي كلامه. وقيل: هذا منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزإني، والمفارق لدينه التارك للجماعة)). أقول: وفي قوله: ((ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة)) دليل علي أن مثل هذه الإهانة والصغار لا يحل بحال المسلم وإن ارتكب الكبائر؛ فإنه قد يعزر ويصلي عليه لاسيما بعد إقامة الحد وتطهيره، فلعله ارتد ووقف صلى الله عليه وسلم علي ارتداده، كما فعل بالعرنيين من المثلة والعقوبة الشديدة ولأمر ما غير العبارة، فأتى في هذه

3604 - وروى في ((شرح السنة)) في قطع السارق، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقطعوه ثم احسموه)). 3605 - وعن فضالة بن عبيد، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق، فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. 3606 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. الفصل الثالث 3607 - عن عائشة، قالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نراك تبلغ به هذا. قال: ((لو كانت فاطمة لقطعتها)). رواه النسائي. 3608 - وعن ابن عمرو، قال: جاء رجل إلي عمر بغلام له. فقال: اقطع يده، فإنه سرق مرآة لامرأتي. فقال عمر [رضي الله عنه]: لا قطع عليه وهو خادمكم، أخذ متاعكم. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ المرة بالفاء المستدعية للتعقيب بلا مهلة، وفي المرات الأربع بحرف التراخي، ولعل الرجل بعد القطع تكلم بكلمة موجبة للقتل، والحسم القطع، وأراد به قطع الدم عنه بالكي. الحديث العاشر والحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((ولو بنش)) ((نه)): النش نصف الأوقية، وهو عشرون درهماً، والأوقية أربعون. ((حس)): قالوا: العبد إذا سرق قطع آبقاً كان غير آبق. يروي عن ابن عمر أن عبداً له سرق وكان آبقاً فأرسل به إلي سعيد بن العاص ليقطع يده، فأبي سعيد وقال: لا تقطع يد الآبق إذا سرق، فقال عبد الله: في أي كتاب وجدت هذا فأمر به عبد الله، فقطعت يده. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أمر به، وهو قول مالك والشافعي وعامة أهل العلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما كنا نراك)) أي ما نظنك أنك تقطعه بل ترحم عليه وترأف به، فأجاب أن هذا حق من حقوق الله وجب علي إمضاؤه، ولا تسع

(2) باب الشفاعة في الحدود

3609 - وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر)) قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: ((كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف)) – يعني القبر – قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((عليك بالصبر)) قال حماد ابن أبي سليمان: تقطع يد النباش؛ لأنه دخل علي الميت بيته. رواه أبو داود. (2) باب الشفاعة في الحدود الفصل الأول 3610 - عن عائشة [رضي الله عنها]، أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلمه أسامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله؟)) ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله، ـــــــــــــــــــــــــــــ المسامحة فيه، ولو صدر ذلك عن بضعة منى لقطعتها، وكأنه صلى الله عليه وسلم لمح إلي قوله تعالي: {ولا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}. الحديث الثالث عن أبي ذر: قوله: ((بالوصيف)) ((نه)): الوصيف العبد والأمة وصيفة وجمعهما وصفاء ووصائف يريد أنه يكثر الموت، حتى يصير موضع قبر يشتري بعبد من كثرة الموتى، وقبر الميت بيته – انتهي كلامه. واستدل حماد بتسمية القبر البيت علي أن القبر حرز للميت فتقطع يد النباش. وقوله ((بيته)) يجوز أن يكون مجروراً علي البدل من ((الميت))، ومنصوباً علي التفسير والتمييز كقوله تعالي: {ومَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} أو علي تقدير ((أعنى)) والله أعلم. باب الشفاعة في الحدود الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أهمهم)) ((تو)): يقال: أهمني الأمر إذا أقلقك وأحزنك، والمرأة المخزومية هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بنت أخي أبي سلمة، وإنما ضرب المثل بفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت أعز أهله عليه ثم لأنها كانت سمية

لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلموه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ثم ذكر الحديث بنحو ما تقدم. الفصل الثاني 3611 - عن عبد الله بن عمر، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله. ومن خاصم في باطل وهو يعلمه؛ لم يزل في سخط الله تعالي حتى ينزع. ومن قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)). رواه أحمد، وأبو داود. وفي رواية للبيهقي في ـــــــــــــــــــــــــــــ لها. قوله: ((ومن يجترئ عليه إلا أسامة)) عطف علي محذوف أي لا يجترئ عليه منا أحد لمهابته، ولما لا تأخذه في دين الله رأفة، وما يجترئ عليه إلا أسامة. ((مح)): معنى يجترئ يتجاسر عليه بطريق الإدلال، وهذه منقبة ظاهرة لأسامة. وقوله: ((تستعير المتاع)) المراد أنها قطعت بالسرقة، وإنما ذكرت العارية تعريفاً لها لا لأنها سبب القطع. وإنما لم تذكر السرقة في هذه الرواية؛ لأن المقصود منها عند الراوي ذكر منع الشفاعة في الحدود لا الإخبار عن السرقة. قال الجمهور: لا قطع علي من جحد العارية، وقال أحمد وإسحاق: يجب القطع في ذلك، وقد أجمعوا علي تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلي الإمام لهذا الحديث، وعلي أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل البلوغ فقد أجاز فيها أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، وأما المعاصي التي يجب فيها التعزيز فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون، بل هي مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((من حالت شفاعته دون حد)) أي قدامه فيحجز عن الحد بعد وجوبه عليه بأن بلغ الإمام، وإنما قال: ((فقد ضاد الله)) لأن حدود الله حماه ومن استباح حمى الله وتعدى طوره، ونازع الله تعالي فيما حماه فقد ضاد الله. قوله: ((ردغة الخبال)) ((نه)): جاء تفسيرها في الحديث أنها عصارة أهل النار، والردغة – بسكون الدال وفتحها – طين ووحل كثير، ويجمع علي ردغ ورداغ. والخبال في الأصل الفساد، ويكون في الأفعال والأبدان والعقول. ((قض)): وخروجه مما قال أن يتوب عنه ويستحل من المقول فيه.

((شعب الإيمان)): ((من أعان علي خصومة لا يدري أحق أم باطل؛ فهو في سخط الله حتى ينزع)). 3612 - وعن أبي أمية المخزومي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما إخالك سرقت)). قال: بلي، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يعترف، فأمر به فقطع، وجيء به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استغفر الله، وتب إليه)). فقال: استغفر الله، وأتوب إليه، فقال رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ ((شف)): ويجوز أن يكون المعنى أسكنه الله ردغة الخبال ما لم يخرج من إثم ما قال، فإذا خرج من إثمه أي إذا استوفي عقوبة إثمه لم يسكنه الله ردغة الخبال، بل ينجيه الله تعالي منه ويتركه. أقول: ((حتى)) علي ما ذهب إليه القاضي غاية فعل المغتاب، فيكون في الدنيا فيجب التأويل في قوله: ((أسكنه الله ردغة الخبال)) بسخط الله تعالي وغضبه الذي هو سبب في إسكانه ردغة الخبال، يؤيده القرينة السابقة واللاحقة؛ لأن النزع في القرينة الأولي مفسر بترك الخصومة الباطلة، وعلي هذا في الثالثة، والحيلولة بالشفاعة أعظمها؛ لأنها مضادة الله تعالي ولم يذكر فيه النزع. ثم الاغتياب لوضع المسبب موضع السبب تصويراً لتهجن أمر المغتاب، وكأنه فيها الآن. – والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي أمية: قوله: ((ما إخالك سرقت)) ((قض)): إخال من خال يخال إذا ظن. والعرب يكسرون الهمزة فيه غير بني أسد، فإنهم يفتحونها علي القياس، وبهذا الحديث يستشهد علي أن للإمام أن يعرض للسارق بالرجوع، فإن رجع بعد الاعتراف قبل الحكم لا يسقط الحد كما في الزنا، وهو أصح القولين المحكيين عن الشافعي رضي الله عنه. ولمن زعم أن السرقة لا تثبت بالإقرار مرة واحدة – كأحمد وأبي يوسف وزفر – أن يتمسك به أيضاً؛ لأنه لو ثبت بإقراره الأول لوجب عليه إقامة الحد ويحرم تلقينه بالرجوع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر: ((تعافوا في الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)). وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم إنما لقنه لما رأي أن له مخرجاً عنه بالرجوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرجاً فخلوا سبيله)) وإنما لم يجب حيث لم يكن له مخرج. ((خط)): وجه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما إخالك سرقت)) عندي أنه ظن بالمعترف غفلة عن السرقة وأحكامها أو لم يعرف معناها، فأحب أن يتبين ذلك منه يقيناً، وقد نقل تلقين السارق عن جماعة من الصحابة. أقول: ويمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ظن ما ظن لما اعترف الرجل ذلك الاعتراف، والحال أنه لم يوجد معه متاع أي متاع ما، فإن هذه الإمارة كافية في الظن بالخير بالمسلمين.

(3) باب حد الخمر

صلى الله عليه وسلم: ((اللهم تب عليه)) ثلاثاً. رواه أبو دواد، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي هكذا وجدت في ((الأصول الأربعة)) و ((جامع الأصول)) و ((شعب الإيمان)) و ((معالم السنن)) عن أبي أمية. 3613 - وفي نسخ ((المصابيح)): عن أبي رمثة، بالراء، والثاء المثلثة، بدل الهمزة والياء. (3) باب حد الخمر الفصل الأول 3614 - عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر [رضي الله عنه] أربعين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((كل ذلك)) ظرف ((يعترف))، قدم للاهتمام، أي لم يعترف في كل من تلك المرات، وذكره ((ذلك)) باعتبار المذكور، والجملة صفة لقوله: ((ثلاثاً)) و ((ثلاثا)) نصب علي المصدرية، وعامله ((فأعاد)) والأمر بالاستغفار بعد القطع، وتكرير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار له تأكيد وتقرير لتوبته. قوله: ((وفي نسخ المصابيح: عن أبي رمثة)) يريد أن الناسخ لعله صحف وقصر الهمزة، وأمال آخرها فأثتبه علي الناسخين فكتبوه رمثة. وسيأتي ذكر أمية المخزومي في أسماء الرجال. باب حد الخمر ((غب)): الخمر ستر الشيء، ويقال لما يتستر به: خمار، والخمر سمى به لكونه خامراً لمقر العقل، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم اسم للمتخذ من العنب والتمر. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالجريد)) الجريدة السعفة وجمعها جرايد، وسميت بها لكونها مجردة عن الخوص. ((حس)): اختلفوا في حد شارب الخمر، فذهب قوم والشافعي إلي أن الحد أربعون جلدة، وقوم إلي أنه ثمانون، وروى أن عمر رضي الله عنه اتشار علياً رضي الله عنه، فقال: أرى أن يجلد ثمإنين؛ فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، أو كما قال: فجلد عمر ثمإنين. قال: وما زاد علي الأربعين كان تعزيراً، وللإمام أن يزيد في العقوبة إذا أدى إليه اجتهاده. وروى أن [عمر] قال لعلي رضي الله عنهما في رجل شرب الخمر: أقم عليه الحد، قال علي للحسن: أقم، فقال الحسن: ولي حارها من تولي قارها، فقال علي لعبد الله بن جعفر:

3615 - وفي رواية عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين. 3616 - وعن السائب بن يزيد، قال: كان يؤتى بالشارب علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، فنقوم عليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمإنين. رواه البخاري. الفصل الثاني 3617 - عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد ـــــــــــــــــــــــــــــ أقم عليه الحد، قال: فأخذ السوط فجلده، وعلي رضي الله عنه يعد، فلما بلغ أربعين قال: حسبك؛ جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمإنين وكل سنة، وهذا أحب إلي. وفي قول علي عند الأربعين: ((حسبك)) دليل علي أنه الأصل في الحد، وما وراء ذلك فهو تعزير، ولو كان حداً لما كان لأحد فيه الخيار. وقوله: ((ولي حارها)) أي ولي العقوبة والضرب من تولي العمل والنفع، والقار البارد. وقال الأصمعي: ولي شديدها من ولي هنيها. أقول: الضميران المؤنثان راجعان إلي الخلافة، وهو تعريض بعثمان رضي الله عنه، يعني ولي مشاق الخلافة من تولي ملاذها؛ فإن الحرارة والبرودة مثلان للمشقة واللذة. ((تو)): ((وكل سنة)) أي كل واحدة من القضيتين مبناها علي السنة، فسمي كلاهما سنة؛ لأنهما أخذتا من السنة، ويبين هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)). ((مح)): قول علي رضي الله عنه: ((وكل سنة)) يدل علي أن عليا كان معظما لآثار عمر، وأن حكمه وقوله سنة وأمره حق، وكذلك أبو بكر، بخلاف ما يفترى الشيعة عليه. الحديث الثاني عن السائب: قوله: ((وإمرة أبي بكر)) الإمرة – بالكسر – الإمارة. وقوله: ((إذا عتوا وفسقوا)) أي أفسدوا وانهمكوا في الطغيان، وأصل العتو التجبر التكبر، وقد عتا يعتو عتوا فهو عات. وقوله: ((بأيدينا)) حال والمعنى نقوم عليه ونتشمر له ونتجلد ضاربين بأيدينا. ((مح)): أجمعوا علي حصول حد الخمر بالجريد وأطراف الثياب، واختلفوا في جوازه بالسوط وفيه وجهان لأصحابنا، أصحهما الجواز وأما إذا ضرب بالسوط فينبغي أن يكون السوط سوطاً معتدلا في الحجم بين القضيب والعصا، وضرباً بين بين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، فيرفع رفعاً معتدلا. الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر: قوله: ((فضربه ولم يقتله)) هذه قرينة ناهضة علي أن قوله: ((فاقتلوه))

في الرابعة فاقتلوه)) قال: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة، فضربه ولم يقتله. رواه الترمذي. 3618 - ورواه أبو داود، عن قبيصة بن ذؤيب. 3619 - وفي أخرى لهما، وللنسائي، وابن ماجه، والدارمي، عن نفر من أصحاب رسول الله، منهم ابن عمر، ومعاوية، وأبو هريرة، والشريد، إلي قوله: ((فاقتلوه)). 3620 - وعن عبد الرحمن بن الأزهر، قال: كإني أنظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتى برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: ((اضربوه)) فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالميتخة. قال ابن وهب: يعني الجردية الرطبة، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم تراباً من الأرض، فرمى به في وجهه. رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجاز عن الضرب المبرح مبالغة لما عتا وتمرد، ولا يبعد أن عمر أخذ الجلد ثمإنين من هذا المعنى. ((خط)): قد يراد بالأمر الوعيد ولا يراد به وقوع الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قبل عبد قتلناه)) وهو لو قتل عبد نفسه لم يقتل به في قول عامة الفقهاء. وقال أبو عيسى: إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ. ((مح)): أجمع المسلمون علي تحريم شرب الخمر وعلي وجوب الحد علي شاربها سواء شرب شرباً قليلاً أو كثيراً، وعلي أنه لا يقتل وإن تكرر ذلك منه. وحكى القاضي عياض عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات لهذا الحديث، وهو باطل مخالف للإجماع، والحديث منسوخ، قيل نسخه قوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)) الحديث. وحد العبد علي نصف حد الحر كما في الزنا والقذف. واختلفوا فيمن شرب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة، فقال مالك والشافعي والجمهور: هو حرام يجلد [فيه كجلد شارب الخمر سواء كان يعتقد إباحته أو تحريمه، وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يحرم ولا يحد، وقال أبو ثور: هو حرام يجلد بحده] بشر به من يعتقد تحريمه دون من يعتقد إباحته. الحديث الثاني عن عبد الرحمن: قوله: ((بالميتخة)) ((نه)): هذه اللفظة قد اختلف في ضبطها، فقيل: هي بكسر الميم وتشديد التاء، وبفتح الميم مع التشديد، وبكسر الميم وسكون الياء قبل التاء، وبكسر الميم وتقديم الياء الساكنة علي التاء. قال الأزهري: وهذه كلها أسماء لجرائد النخل، وأصل العرجون. وقيل: هو اسم للعصا، وقيل: القضيب الدقيق اللين. وقيل: كل ما ضرب به من جريد أو عصا أو درة وغير ذلك.

3621 - وعن أبي هريرة، قال: إن رسول الله أتى برجل قد شرب [الخمر]. فقال: ((اضربوه)) فمنا الضارب بيده، والضارب بثوبه. والضارب بنعله. ثم قال: ((بكتوه)) فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: أخزاك الله. قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)). رواه أبو داود. [3621] 3622 - وعن ابن عباس، قال: شرب رجل، فسكر، فلقي يميل في الفخ، ـــــــــــــــــــــــــــــ وأصلها فيما قيل من تيخ الله رقبته بالسهم إذا ضربه. وقيل: من تيخه العذاب وطيخه إذا ألح عليه، فأبدلت التاء من الطاء، ومنه الحديث: أنه خرج وفي يده ميتخة في طرفها خوص معتمدا علي ثابت بن قيس. قوله: ((تراباً من الأرض)) رمى به إرغاماً له واستهجاناً لما ارتكبه؛ فإنه أزال أشرف الأشياء ومقر تكاليف الله ومعرفته بأخس الأشياء وأخبثها. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بكتوه)) ((فا)): التبكيت استقباله بما يكره من ذم وتقريع، وأن يقال له: يا فاسق! ما اتقيت الله، ما خشيت الله. أقول: المناسب في هذا المقام أن يفسر التبكيت بما فسره به الزمخشري في أساس البلاغة، قال: يقال: بكته بالحجة وبكته عليه يقال بكته حتى أسكته، وبكته قرعه علي الأمر وألزمه بما عيي بالجواب عنه، وبكته بالعصا ضربه. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما اتقيت الله، ما خشيت الله، وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كل ذلك إلزام له وإسكات بما يعيي عن الجواب؛ إذ ليس له أن يقول: ما أتقيه ولا أستحيي منه. ومعنى ((استغفر الله)) مطابق لهذا التفسير؛ لأن الاستغفار إنما يصدر عمن يتقي الله ويخشاه، فحينئذ لا يستقيم أن يقال له: يا فاسق ولا أخزاك الله. قوله: ((لا تعينوا عليه الشيطان)) ((قض)): أي بنحو هذا الدعاء؛ فإنه تعالي إذا أخزاه استحوذ عليه الشيطان؛ أو لأنه إذا سمع منكم ذلك أيس من رحمة الله وانهمك في المعاصي، أو حمله اللجاج والغضب علي الإصرار، فيصير الدعاء وصلة ومعونة في إغوائه وتسويله. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يميل في الفخ)) ((تو)): الفج الطريق الواسع بين الجبلين، وأرى أن ذلك بمكة؛ لأن دار العباس بها واقعة في أحد شعابها؛ إذ ليست الدار التي تنسب إلي العباس بالمدينة في فج من الفجاج ولا مقاربة منه. أقول: يمكن أن يستعار للزقاق الواسع الفج فيكون بالمدينة.

فانطلق به إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس، انفلت فدخل علي العباس، فالتزمه، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: ((أفعلها؟)) ولم يأمر فيه بشيء. رواه أبو داود. [3622] الفصل الثالث 3623 - عن عمير بن سعيد النخعي، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما كنت لأقيم علي أحد حداً فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((أفعلها)) الضمير للمذكورات من الانفلات والدخول والالتزام. ويجوز أن يكون للمصدر أي أفعل الفعلة، كما في قوله: ((واجعله الوارث منا)) فالفعل حينئذ بمنزلة اللازم كناية عن المذكورات، كما في قوله تعالي: {فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا} بعد قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}. ((خط)): هذا دليل علي أن حد الخمر أخف الحدود، وأن الخطر فيه أيسر منه في سائر الفواحش. وقد يحتمل أن يكون إنما لم يعرض له بعد دخوله دار العباس من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول. وإنما لقي في الطريق يميل فظن به السكر فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه علي ذلك. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمير: قوله: ((لأقيم)) دخل اللام في خبر ((كان)) تأكيداً للنفي، كقوله تعالي: {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} وقوله: ((فيموت)) مسبب عن ((أقيم)) وقوله: ((فأجد)) مسبب عن مجموع السبب والمسبب. والاستثناء في قوله: ((إلا صاحب الخمر)) منقطع، أي لكن أجد من حد صاحب الخمر إذا مات شيئاً، ويجوز أن يقدر: ما أجد من موت أحد يقام عليه الحد شيئاً إلا من موت صاحب الخمر فيكون متصلا. قوله: ((لم يسنه)) ((مح)): أي لم يقدر فيه حداً مضبوطاً، وقد أجمعوا علي أن من وجب عليه الحد فجلده الإمام أو جلاده الحد الشرعي فمات، فلا دية فيه ولا كفارة علي الإمام، ولا علي جلاده ولا في بيت المال. وأما من مات بالتعزير فمذهبنا وجوب ضمانه بالدية والكفارة. أقول: يمكن أن يراد بقوله: ((لم يسنه)) الحد الذي يؤدي إلي التعزير كما سيأتي بعد، وسبق بيانه في حديث أنس ومشاورة عمر علياً رضي الله عنهما، وحديث عثمان معه، وقوله: ((حسبك)) وتلخيص

(4) باب مالا يدعى علي المحدود

3624 - وعن ثور بن زيد الديلمي، قال: إن عمر استشار في حد الخمر فقال له علي: أرى أن تجلده ثمإنين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر [رضي الله عنه] في حد الخمر ثمإنين. رواه مالك. (4) باب مالا يدعى علي المحدود الفصل الأول 3625 - عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] أن رجلاً اسمه عبد الله يلقب حماراً، كان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم [وكان النبي صلى الله عليه وسلم] قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه، فو الله ما علمت أنه يحب الله ورسوله)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى انه إنما خاف من سنة سنها عمر وقرره برأي علي رضي الله عنهما، لا مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلد أربعين. وقد استدل عليه الشيخ محيي الدين بدلائل علي إثباته وروينا في شرح السنة في حديث أنس أن علياً قال لجعفر لما بلغ أربعين: ((حسبك، جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمإنين، فكل سنة، وهذا أحب إلي)). وقد أورده الشيخ محيي الدين أيضاً في شرح صحيح مسلم. فإن قلت: كيف قال: إن الثمإنين أحب إلي ثم خاف منه؟ قلت: إن المحبة والخوف تتفاوت بحسب الأشخاص والأوقات. الحديث الثاني عن ثور: قوله: ((إذا شرب سكر – إلي قوله – افترى)) جعل سبب السبب سبباً، وأجرى علي الأول ما علي الأخير، فحد شارب الخمر حد القاذف تغليظاً وذلك لعتوه وتماديه في الفساد، كما أشار إليه في حديث السائب في الفصل الأول بقوله: ((حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمإنين)) وما هذا شأنه يكون مبنياً علي الاجتهاد، وحق لمثله أن يقال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه، ويؤدي عمن مات منه احتياطاً. بابا ما لا يدعي علي المحدود الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ما يؤتى به)) ((ما)) مصدرية أي ما أكثر إتيانه كقولك: ما أحسن زيداً. قوله: ((فو الله ما علمت)) ((مظ)): ((ما)) موصولة و ((أن)) مع

3626 - وعن أبي هريرة قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: ((اضربوه)) فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله. قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشطان)). رواه البخاري. الفصل الثاني 3627 - عن أبي هريرة، قال: جاء الأسلمي إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشهد علي نفسه أنه أصاب امرأة حراماً، أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة، فقال: ((أنكتها؟)) قال: نعم. قال: ((حتى غاب ذلك منك في ذلك منها)) قال: نعم قال: ((كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟)) قال: نعم. قال: ((هل تدري ـــــــــــــــــــــــــــــ اسمه وخبره سد مفعولي ((علمت))؛ لكونه مشتملا علي المنسوب والمنسوب إليه، والضمير في ((أنه)) يعود إلي الموصولة، والموصول مع صلته خبر مبتدأ محذوف، تقديره هو الذي علمت والجملة جواب القسم. وفيه تعسف، وفي مطالع الأنوار: معناه فو الله الذي علمته أنه يحب الله ورسوله، فعلي هذا علم بمعنى عرف، و ((أنه)) خبر الموصول. وفيه أيضاً: أو تجعل ((ما)) نافية والتاء للخطاب علي طريق التقرير له ويصح علي هذا كسر ((أنه)) وفتحها، والكسر علي جواب القسم. وفيه أن ((ما)) صلة تأكيداً، أي لقد علمت. أقول: وكأن جعل ((ما)) نافية أظهر لوجه اقتضاء القسم أن يتلقى بحرف النفي وأن واللام بخلاف الموصولة؛ ولأن الجملة القسمية جيء بها مؤكدة لمعنى النهي ومقررة للإنكار، ويؤيده رواية شرح السنة: ((فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)) لأن معنى الحصر في هذه الرواية بمنزلة تاء الخطاب في تلك الرواية؛ لإرادة الرد ومزيد الإنكار علي المخاطب. وفيه أن محبة الله ومحبة رسوله موجبتان للزلفي من الله والقربى منه، ولا يجوز لعنه لأنه طرد من الله تعالي وبعد من رحمته. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أتيت منها حراماً؟)) جواب عن قوله: ((أتدري ما الزنا؟)) فإنه مستدرك لما سبق من قوله: ((أصاب امرأة حراماً)) وتصريحه بقوله: ((نعم)) في جوب ((أنكتها؟)) ثم قوله: ((فما تريد بهذا القول؟)) كل ذلك تعلل وسوق للمعلوم مساق المجهول لعله يرجع عن شهادته تلك؛ إيذاناً بأن حق الله تعالي علي المساهلة، وعلي أن للإمام أن يعرض [عن] المحدود بإنكار موجبه.

ما الزنا؟)) قال: نعم؛ أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً. قال: ((فما تريد بهذا القول؟)) قال: أريد أن تطهرني، فأمر به فرجم، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلي هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: ((أين فلان وفلان؟)) فقالا: نحن ذان يا رسول الله فقال: ((انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا: يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: ((فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) رواه أبو داود. [3627] 3628 - وعن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصاب ذنباً أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته)). رواه في ((شرح السنة)) 3629 - وعن علي [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أصاب حداً فجعل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني علي عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [وهذا الباب خال عن الفصل الثالث] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فما نلتما)) ((مظ)): ((ما)) الموصولة مع صلتها مبتدأ، و ((أشد)) خبره والعائد محذوف أي ما نلتماه. الحديث الثاني والثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((من أصاب حدا)) أي ذنبا يوجب الحد فأقيم المسبب مقام السبب. ويجوز أن يراد بالحد المحرم من قوله تعالي: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} أي تلك محارمه. وقوله: ((فستر)) مع قوله: ((وعفا عنه)) معا عطف علي الشرط، أي من ستر الله عليه وتاب فوضع غفران الله موضع التوبة إشعاراً بترجيح جانب الغفران، وأن الذنب مطلوب له؛ ولذلك وضع المظهر موضع المضمر في الجزاء، ووصفه بالكرم. وفيه حث علي الستر والتوبة، وأنه أولي وأحرى من الإظهار.

(5) باب التعزير

(5) باب التعزير الفصل الأول 3630 - وعن أبي بردة بن نيار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله)). متفق عليه. الفصل الثاني 3631 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)). رواه أبو داود. [3631] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): قال الشافعي: وأحب لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستر علي نفسه ويتوب فيما بينه وبين ربه. وكذلك روى عن أبي بكر وعمر أنهما أمرا أن يستر علي نفسه. وقال به الزبير بن العوام وابن عباس رضي الله عنهم. باب التعزير المغرب: التعزير تأديب دون الحد، وأصله من العزر بمعنى الرد والردع الفصل الأول الحديث الأول عن أبي بردة: قوله: ((لا يجلد فوق عشر جلدات)) ((مح)): قال أصحابنا: هذا الحديث منسوخ، واستدلوا بأن الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن جاوزوا عشرة أسواط. وقال أصحاب مالك: إنه كان مختصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف. وقال جمهور أصحابنا: لا يبلغ تعزير كل إنسان أدنى الحدود كالشرب، فلا يبلغ تعزير العبد عشرين سوطاً، ولا تعزير الحر أربعين. وقال أحمد بن حنبل والأشهب المالكي وبعض أصحابنا: لا تجوز الزيادة علي عشرة. وقال مالك وأصحابه وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور والطحاوي: لا ضبط لعدد الضربات، بل ذلك إلي رأي الإمام، فله أن يزيد علي قدر الحدود. ((حس)): مذهب أكثر الفقهاء أن التعزير أدب يقصر عن مبلغ أقل الحدود؛ لأن الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عما يوجب الحد، كما أن الحكومة الواجبة بالجناية علي العضو وإن قبح شينها، تكون قاصرة عن كمال دية ذلك العضو. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يا يهودي)) فيه تورية وإيهام،

(6) باب بيان الخمر ووعيد شاربها

3632 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال الرجل للرجل: يا يهودي! فاضربوه عشرين. وإذا قال: يا مخبث فاضربوه عشرين. ومن وقع علي ذات محرم فاقتلوه)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3632] 3633 - وعن عمر [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وجدتم الرجل قد غل في سبيل الله؛ فأحرقوا متاعه واضربوه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [3633] [وهذا الباب خال عن الفصل الثالث] (6) باب بيان الخمر ووعيد شاربها الفصل الأول 3634 - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأنه يحتمل أن يراد به الكفر والذلة؛ لأن اليهود مثل في الذلة والصغار، والحمل علي الثاني أرجح للدرء في الحدود، وعلي هذا المخنث. قوله: ((فاقتلوه)) ((خط)): حكم أحمد بظاهر الحديث، وقال غيره: هذا زجر وإلا حكمه حكم سائر الزناة، يرجم إن كان محصناً ويجلد إن لم يكن محصناً. الحديث الثالث عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فأحرقوا متاعه)) ((تو)): إحراق المتاع كان في أول الأمر بالمدينة ثم نسخ. ((خط)): أما تأديبه بعقوبة في نفسه علي سوء فعله فلا أعلم من أهل العلم فيه خلافاً، وأما عقوبته في ماله فقد اختلف العلماء فيه، فقال الحسن البصري: يحرق ماله إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً. وبه قال جماعة من العلماء إلا أنه لا يحرق ما قد غل؛ لأنه حق الغانمين يرد عليهم. قال الشافعي: يعاقب الرجل في بدنه دون ماله. باب بيان الخمر ووعيد شاربها الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الخمر من هاتين الشجرتين)) بيان لحصول الخمر منهما غالباً، وليس للحصر لخلو التركيب عن أداته، ولأن عمر رضي الله

3635 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: خطب عمر [رضي الله عنه] علي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل. والخمر ما خامر العقل. رواه البخاري. 3636 - وعن أنس، قال: لقد حرمت الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر. رواه البخاري. 3637 - وعن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل فقال: ((كل شراب أسكر فهو حرام)). متفق عليه. 3638 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب؛ لم يشربها في الآخرة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه زاد عليه إلي خمسة، وتعداد عمر أيضاً ليس للحصر لتعقيبه بقوله: ((والخمر ما خامر العقل)). الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لقد حرمت الخمر)) فيه إخبار بأن الخمر حرمها الله تعالي بأن أنزل علي رسوله تحريمها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص علي تحريمها؛ لأن الصحابي إذا قال: أمرنا أو حرم أو شبه ذلك كان مرفوعاً إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كل شراب أسكر)) جواب عن سؤالهم عن البتع، يدل علي تحريم كل ما أسكر، وعلي جواز القياس باطراد العلة وعلة هذا قوله: ((كل مسكر خمر)). ((مح)): فيه تصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة، وأن كلها تسمى خمراً سواء في ذلك [الفضيخ] ونبيذ التمر والرطب والبسر والشعير والزبيب والذرة والعسل وغيرهما، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد والجماهير من السلف والخلف. وقال أبو حنيفة: إنما يحرم عصير ثمرات النخيل والعنب قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثها. وأما نقيع التمر والزبيب فقال: يحل مطبوخها وإن مسته النار شيئاً قليلا من غير اعتبار كما اعتبر الثلث في سلافة العنب. قال: [النيء] منه حرام، ولكن لا يحد شاربه، هذا كله ما لم يسكر، فإن أسكر فهو حرام بالإجماع. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لم يشربها في الآخرة)) ((نه)): هذا من باب التعليق بالبيان أراد أنه لم يدخل الجنة؛ لأن الخمر من شراب أهل الجنة، فإذا لم يشربها في الآخرة لم يدخل الجنة.

3639 - وعن جابر، أن رجلاً قدم من اليمين، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو مسكر هو؟)) قال: نعم. قال: ((كل مسكر حرام، إن علي الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)). قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار – أو عصارة أهل النار)) رواه مسلم. 3640 - وعن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن خليط التمر والبسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب. وقال: ((انتبذوا كل واحد علي حدة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): قيل: يدخل الجنة ويحرم عليها شربها؛ فإنها من فاخر أشربة أهل الجنة، فيحرمها هذا العاصي بشربها في الدنيا. وقيل: إنه ينسى شهوتها؛ لأن الجنة فيها كل ما تشتهي الأنفس. وقيل: لا يشتهيها وإن ذكرها، فيكون هذا نقص عظيم لحرمانه أشرف نعيم الجنة. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((الذرة)) قال الجوهري: الذرة حب معروف، وأصله ذرو أو ذري والهاء عوض. قوله: ((إن علي الله عهداً)) ضمن عهدا معنى الحتم وعداه بـ ((علي))، قال تعالي: {كَانَ عَلي رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا} أي كان ورودهم وسقيهم من طينة الخبال واجباً علي الله وعيداً، أوجبه علي نفسه وأوعد عليه وعزم علي أن لا يكون غيرهما، وفيهما معنى الحلف والقسم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا تحلة القسم)) وقوله: ((حلف ربي عز وجل: بعزتي! لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها)). وقوله: ((لمن يشرب)) اللام بيان كأنه لم قيل: إن علي الله عهداً قيل: هذا العهد لمن؟ قيل: لمن يشرب المسكر، نحوه قوله تعالي: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. الحديث السابع عن أبي قتادة: قوله: ((نهي عن خليط التمر)) ((قض)): إنما نهي عن الخلط، وجوز إنباذ كل واحد وحده؛ لأنه ربما أسرع التغير إلي أحد الجنسين، فيفسد الآخر، وربما لم يظهر فيتناوله محرماً. ((مظ)): قال مالك وأحمد: يحرم شرب نبيذ خلط فيه شيئان، وإن لم يسكر؛ عملا بظاهر الحديث، وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة: لم يحرم إن لم يكن مسكراً وهو القول الثاني للشافعي.

3641 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتخذ خلاً؟ فقال: ((لا)). رواه مسلم. 3642 - وعن وائل الحضرمي، أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه. فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)). رواه مسلم. الفصل الثاني 3643 - عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه. فإن عاد في الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال)) رواه الترمذي. [3643] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فقال: لا)) ((مح)): هذا دليل الشافعي والجمهور علي أنه لا يجوز تخليل الخمر بنحو خبز أو بصل أو غيرهما مما يلقي فيها، فهي باقية علي نجاستها، وينجس ما ألقى فيها، فلا يطهر أبداً. أما إذا نقلت من الشمس إلي الظل ومن الظل إلي الشمس، ففي طهارتها وجهان: أصحهما تطهر عند أصحابنا. وقال الأوزاعي والليث أبو حنيفة: تطهر بالتخليل. وعن مالك ثلاث روايات: أصحها أن التخليل حرام، فلو خللها عصى وطهرت. الحديث التاسع عن وائل: قوله: ((إنه ليس بدواء)) ((مح)): فيه تصريح بأنها ليست بدواء فيحرم التداوي بها، فإذا لم يكن فيها دواء فكأنه تناولها بلا سبب، وأما إذا غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا الخمر فيلزمه الإساغة بها؛ لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التداوي. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((لم يقبل الله صلاة له)) ((شف)): إنما خص الصلاة بالذكر لأنها أفضل عبادات البدن، أي إذا لم تقبل منه الصلاة التي هي أفضل عبادات البدن، فلأن لا تقبل له عبادة أصلا كان أولي.

3644 - ورواه النسائي، وابن ماجه، والدارمي، عن عبد الله بن عمرو. [3644] 3645 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3645] 3646 - وعن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [3646] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): وهذا وأمثاله مبني علي الزجر ولا يسقط عنه فرض الصلاة إذا أداها بشرائطها، ولكن ليس ثواب صلاة الفاسق كثواب صلاة الصالح، بل الفسق ينفي كمال الصلاة وغيرها من الطاعات. وقوله: ((فإن تاب لم يتب الله عليه)) أي فإن تاب بلسانه، وقلبه عازم علي أن يعود إليه لا تقبل توبته، أما لو تاب علي الإخلاص ثم اتفق عوده إلي ذلك الذنب، ثم تاب توبة قبلت توبته، وإن اتفقت ألف مرة. أقول: قد نقلنا غير مرة عن الشيخ محيي الدين: أن لكل طاعة اعتبارين: أحدهما سقوط القضاء عن المؤدي، وثإنيهما ترتب حصول الثواب عليه، فهذا المصلي وإن سقط عند القضاء فلا يترتب علي فعله الثواب، فعبر عن عدم ترتب الثواب بعدم قبول الصلاة. ويمكن أن يقال: إن قوله: ((إن تاب لم يتب الله عليه)) محمول علي إصراره وموته علي ما كان عليه؛ فإن عدم قبول التوبة لازم للموت علي الكفر والمعاصي، كأنه قيل: من فعل ذلك وأصر عليه ومات مات عاصياً؛ ولذلك عقبه بقوله: ((وسقاه من نهر الخبال)). ونظيره قوله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} الكشاف: فإن قلت: قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفراً فإنه مقبول التوبة إذا تاب، فما معنى لن تقبل توبتهم؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت علي الكفر؛ لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت علي الكفر وكأنه قال: إن اليهود والمرتدين مائتون علي الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.

3647 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن التمر خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن العسل خمراً)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب. 3648 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان عندنا خمر ليتيم، فلما نزلت (المائدة) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وقلت: إنه ليتيم. فقال: ((أهريقوه)). رواه الترمذي. [3648] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الفرق)) ((نه)): الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر عشر رطلا، وهي اثنا عشر مداً وثلاثة أصوع عند أهل الحجاز. وقيل: الفرق خمسة أقساط والقسط نصف صاع. وأما ((الفرق)) بالسكون فمائة وعشرون رطلا، ومنه الحديث ((ما أسكر الفرق منه فالحسوة منه حرام)). أقول: الفرق وملء الكف كلاهما عبارتان عن التكثير والتقليل لا التحديد، يؤيده الحديث السابق. الحديث الرابع إلي آخر الفصل عن أبي سعيد: قوله: ((فلما نزلت المائدة)) ((خط)): يريد الآية التي فيها تحريم الخمر وهي قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ} الآيتين. وفيهما دلائل سبعة علي تحريم الخمر: أحدها قوله: ((رجس)) والرجس هو النجس وكل نجس حرام، والثاني قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وما هو من عمله فهو حرام. والثالث قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} وما أمر الله باجتنابه فهو حرام. والرابع قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وما علق رجاء الفلاح باجتنابه فالإتيان به حرام. والخامس {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والْمَيْسِرِ} وما هو سبب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين فهو حرام. والسادس قوله: {ويَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ} وما يصد به الشيطان المسلمين عن ذكر الله وعن الصلاة فهو حرام. والسابع قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} معناه انتهوا، وما أمر الله عباده بالانتهاء عنه فالإتيان به حرام – الكشاف – قوله: {فَهَلْ أَنتُم

3649 - وعن أنس، عن أبي طلحة: أنه قال: يا نبي الله! إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري. قال: ((أهرق الخمر واكسر الدنان)). رواه الترمذي. [3649] الفصل الثالث 3650 - عن أم سلمة، قالت: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. رواه أبو داود. [3650] ـــــــــــــــــــــــــــــ مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما ينهي به كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم علي ما كنتم عليه؟ كأن لم توعظوا ولم تزجروا. أقول: ويمكن أن يحمل قوله: ((فهل أنتم منتهون)) علي الاختصاص؛ لأنه تقرر في علم المعإني أن ((أهل)) لطلب النسبة ولها مزيد اختصاص بالفعلية، فإذا سلكت مع الإسمية كانت لنكتة، فالكلام في هذا المقام جار علي الفاعل لا الفعل؛ لأن الخطاب مع المؤمنين لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ} كأنه قيل: يا أيها الذين خصكم بالإيمان وشرفكم بالنبي المبعوث إلي الأميين ليزكيكم ويطهركم! إنما هذه الرذائل أنجاس وأرجاس لا تليق بحالكم، فهل أنتم سالكون سبيل الطهارة والتزكية من بين سائر الأمم، لما خصكم بهذا النبي المكرم أم أنتم كسائر الأمم السالفة كأن لم توعظوا؟ نحوه قوله تعالي: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والضمير في ((عنه)) راجع إلي ((خمر)) علي حذف المضاف، أي سألنا عن شأن خمر يتيم وفي ((أنه)) وفي ((أهريقوه)) إلي المعنى المسئول عنه. الفصل الثالث الحديث الأول عن أم سلمة: قوله: ((ومفتر)) ((نه)): المفتر الذي إذا شرب أحمى الجسد وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار ويقال: أفتر الرجل فهو مفتر إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه. فإما أن يكون أفتره بمعنى فتره أي جعله فاتراً، وإما أن يكون أفتر الشراب إذا أفتر شاربه، كأقطف الرجل إذا قطفت دابته. أقول: لا يبعد أن يستدل به علي تحريم [البنج] والبر شعثاً ونحوهما، مما يفتر ويزيل العقل؛ لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها. [قال: لا يقع من عظيم قوم وإن قلت مشاراً إليه بالتعظيم ولع الخمر، بالعقول رمى الخمر بتنجيسها وبالتحريم].

3651 - وعن ديلم الحميري، قال: قلت لرسول اله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنا بأرض باردة، ونعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به علي أعمالنا، وعلي برد بلادنا. قال: ((هل يسكر؟)) قلت: نعم. قال: ((فاجتنبوه)). قلت: إن الناس غير تاركيه. قال: ((إن لم يتركوه فقاتلوهم)). رواه أبو داود. [3651] 3652 - وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال: ((كل مسكر حرام)). رواه أبو داود. 3653 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة عاق، ولا قمار، ولا منان. ولا مدمن خمر)). رواه الدارمي. وفي رواية له: ((ولا ولد زنية)) بدل ((قمار)). 3654 - وعن أبي أمامة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي بعثني رحمة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ديلم: قوله: ((نعالج)) أي نمارس ونزاول، و ((القمح)) البر، وإنما أتى بهذا ووصفه به، لمزيد البيان، وأنه من هذا الجنس وليس من جنس ما يتخذ منه السكر، كالعنب والزبيب والتمر. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((والكوبة)) ((نه)): هي النرد، وقيل: الطبل وقيل: [البربط]، و ((الغبيراء)) ضرب من الشراب يتخذه الحبش من الذرة، ويسمى [السكركة] أي هي مثل الخمر الذي يتعارفها جميع الناس لا فصل بينهما في التحريم الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((والمنان)) المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منه واعتد به علي من أعطاه، وهو مذموم؛ لأن المنة تفسد الصنيعة، ويحتمل أن يراد به انقطاع للرحم من أي قطع، ومنه قوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ويؤيد هذا الاحتمال حديث أبي موسى الذي يأتي. وقوله: ((لا يدخل الجنة)) أشد وعيداً من لو قيل: يدخل النار لأنه يرجى منه الخلاص، وفيه تغليظ وتشديد علي ولد الزنية تعريضاً بالزإني لئلا تورطه في السفاح، فيكون سبباً لشقاوة نسمة بريئة. ومما يؤذن أن تغليظ وتشديد سلوك ولد الزنية في قرن العاق والمنان والقمار ومدمن الخمر، ولا ارتياب أنهم ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبداً. وقيل: إن النطفة إذا خبثت خبث الناشيء منها، فيجترئ علي كل معصية فتؤديه إلي الكفر الموجب للخلود. الحديث الخامس عن أبي أمامة: قوله: ((المعازف)) ((نه)): العزف اللعب بالمعازف وهي

للعالمين، وهدى للعالمين، وأمرني ربي عز وجل بمحق المعازف، والمزامير، والأوثان، والصلب، وأمر الجاهلية. وحلف ربي عز وجل: بعزتي لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها، ولا يتركها من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس)). رواه أحمد. [3654] 3655 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث)). رواه أحمد، والنسائي. [3655] 3656 - وعن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ((ثلاثة لا تدخل الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)). رواه أحمد. 3657 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)). رواه أحمد. [3657] 3658 - وروى ابن ماجه، عن أبي هريرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الدفوف وغيرها مما يضرب. وقيل: إن كل لعب عزف، و ((المزامير)) جمع مزمار وهي القصبة التي يرمز بها. و ((الأوثان)) الأصنام. و ((الصلب)) جمع صليب. قوله: ((وحلف ربي)) أفرد هذا النوع الخبيث من سائر ما تقدم من الخبائث، وجعله مصدراً بالحلف والقسم بعدما جعله مقدمة الكل فبعثه صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى، للإيذان بأن أخبث الخبائث وأبلغ ما يبعد عن رحمة الله تعالي، ويقرب إلي الضلال، هي أم الخبائث. ثم انظر كم التفاوت بين من يسقيه ربه عز وجل من حياض القدس الشراب الطهور، ومن يسقى في درك جهنم صديد أهل النار. الحديث السادس عن ابن عمر: قوله: ((الذي يقر في أهله)) أي الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليه ولا يمنعهن، فيقر في أهله الخبث. الحديث السابع والثامن عن ابن عباس: قوله: ((إن مات)) ((إن)) للشك فيقتضي أن يكون لقاء

كتاب الإمارة والقضاء

3659 - والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن محمد بن عبيد الله، عن أبيه. وقال: ذكر البخاري في التاريخ، عن محمد بن عبد الله، عن أبيه. 3660 - وعن أبي موسى، أنه كان يقول: ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية دون الله. رواه النسائي. كتاب الإمارة والقضاء الفصل الأول 3661 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصإني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصإني؛ وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ شارب الخمر بربه تعالي بعد الموت مشابها بلقاء عابد الوثن الله تعالي، وليس كذلك، فهو من الشرط الذي يورده الواثق بأمره المدل بحجته. الحديث التاسع عن أبي موسى: قوله: ((ما أبالي)) أي ما أبالي في تسويتي بين هذين الأمرين، وجعلهما منخرطين في سلك واحد مبالغة، وهو أبلغ مما مر في الحديث السابق من قوله: ((لقي الله تعالي كعابد وثن)) لتصريح أداة التشبيه فيه وخلوه عنه هنا، و ((دون الله)) حال مؤكدة أي عبدتها متجاوزاً عن الله تعالي والله أعلم بالصواب. كتاب الإمارة والقضاء المغرب: الإمارة الإمرة وقد أمره إذا جعله أميراً. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ومن يطع الأمير فقد أطاعني)) ((خط)): كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة، ولا يدينون لغير رؤساء قبائلهم، فلما كان الإسلام وولي عليهم الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، وإنما قال لهم صلى الله عليه وسلم هذا القول؛ ليعلمهم أن طاعتهم مربوطة بطاعته، وليطاوعوا الأمراء الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يوليهم فلا يستعصوا عليهم. قوله: ((ويتقى به)) بيان لقوله: ((يقاتل من ورائه)) والبيان مع المبين تفسير لقوله: ((وإنما الإمام جنة)) ((مح)): أي هو كالساتر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. ومعنى ((يقاتل من ورائه)) أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج، وسائر أهل الفساد وينصر عليهم. قوله: ((وإن قال بغيره))

3662 - وعن أم الحصين، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا)). رواه مسلم. 3663 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): أي حكم، يقال: ((قال الرجل)) إذا حكم، ومنه القيل وهو الملك الذي ينفذ قوله وحكمه. ((تو)): ((قال بغيره)) أي أحبه وأخذ به إيثاراً له وميلاً إليه، وذلك مثل قولك: فلان يقول بالقدر ونحو ذلك، فالمعنى أنه يحبه ويؤثره. ((قض)): ((قال بغيره)) أي أمر بما ليس فيه تقوى ولا عدل، بدليل أنه جعل قسيم ((فإن أمر بتقوى الله وعدل))، ويحتمل أن يكون المراد به القول المطلق أو أعم منه، وهو ما يراه ويؤثره من قولهم: فلان يقول بالقدر، أي إن رأي غير ذلك وآثره قولا كان أو فعلا؛ ليكون مقابلا لقسيمه بقطريه، وسد الطرق المخالفة المؤدية إلي هيج الفتن. قوله: ((فإن عليه منه)) [كذا وجدنا ((منه)) بحرف الجر في الصحيحين وكتاب الحميدي وجامع الأصول ((تو)): ((منه)) أي عليه وزر من صنيعه ذلك، وقد وجدناه في أكثر نسخ المصابيح ((فإن عليه منة)). بتشديد النون مع ضم الميم وبتاء التإنيث آخره – علي أنها كلمة واحدة وهو تصحيف غير محتمل لوجه هاهنا، وإنما هو حرف الجر مع الضمير المتصل به. ((قض)): ((فإن عليه منه))] أي وزراً وثقلا، وهو في الأصل مشترك بين القوة والضعف. أقول: قوله: ((فإن أمر بتقوى الله)) إلي آخره مرتب علي قوله: ((ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصإني)) وقوله: ((وإنما الإمام – إلي قوله – ويتقي به)) معترض بينما لتأكيد الأمر بطاعته سواء كان عادلا أو لم يكن؛ إيذاناً بأنه مفترض الطاعة لتلك الفوائد المذكورة. ((مح)): فيه حث علي السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم. الحديث الثاني عن أم حصين: قوله: ((مجدع)) ((قض)): المجدع المقطوع الأنف، ((يقودكم)) يسوقكم بالأمر والنهي علي ما هو مقتضى كتاب الله وحكمه. وهذا وأمثال ذلك حث علي المداراة والموافقة والتحرز عما يثير الفتن، ويؤدي إلي اختلاف الكلمة. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وإن استعمل عليكم)) ((شف)): قيل: معناه وإن استعمله الإمام الأعظم علي القوم؛ لأن العبد الحبشي لا يكون هو الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش، وقيل: المراد به الإمام الأعظم علي سبيل الفرض والتقدير، وهو مبالغة في الأمر بطاعته والنهي عن شقاقه ومخالفته. ((خط)): قد يضرب المثل بما لا يكاد يصح في الوجود. قوله: ((كأن رأسه زبيبة)) صفة أخرى لعبد أي يشبه رأسه بالزبيبة؛ إما لصغره وإما لأن شعر رأسه [مقططا] كالزبيبة تحقيراً لشأنه. ((شف)): أي اسمعوه وأطيعوه وإن كان حقيراً.

3664 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السمع والطاعة علي المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). متفق عليه. 3665 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة في معصية؛ إنما الطاعة في المعروف)). متفق عليه. 3666 - وعن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلي أثرة علينا، وعلي أن لا ننازع الأمر أهله، وعلي أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية: وعلي أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن ابن عمر، قوله: ((السمع والطاعة)) ((مظ)): يعني سماع كلام الحاكم وطاعته واجب علي كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه أو لم يوافقه، بشرط ألا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا تجوز طاعته، ولكن لا يجوز له محاربة الإمام. الحديث الخامس والسادس عن عبادة: قوله: ((بايعنا)) عداه بعلي لتضمنه معنى عاهد، و ((علي)) في قوله: ((علي أثرة)) ليست بصلة المبايعة، بل هي متعلقة بمقدر، أي بايعناه علي أن نصبر علي أثرة علينا. قوله: ((وعلي أثرة علينا)) ((نه)): الأثرة – بفتح الهمزة والثاء – اسم من الإيثار، أي يستأثر عليكم فيفضل غيركم في إعطاء نصيبه من الفيء. ((مح)): الأثرة الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم. وقوله: ((وعلي أن لا ننازع الأمر أهله)) كالبيان والتقرير للسابق؛ لأن معنى عدم المنازعة هو الصبر علي الأثرة. قوله: ((لا نخاف في الله لومة لائم)) إما حال من فاعل ((نقول)) أي غير خائفين أو استئناف. قوله: ((إلا أن تروا)) حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرائن السابقة معنى ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم. ((قض)): أي عاهدناه بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء، وتارتي الضراء والسراء. وإنما عبر عن بصيغة المفاعلة للمبالغة أو للإيذان بأنه التزم لهم أيضاً بالأجر والثواب، والشفاعة يوم الحساب علي القيام بما التزموا. ((المنشط والمكره)) مفعلان من النشاط والكراهة

3667 - وعن ابن عمر [رضي الله عنهما]، قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي السمع والطاعة يقول لنا: ((فيما استطعتم)) متفق عليه. 3668 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت الامات ميتة جاهلية)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للمحل، أي فيما فيه نشاطهم وكراهتهم، أو الزمان أي في زمإني انشراح صدورهم وطيب قلوبهم وما يضاد ذلك. قوله: ((كفراً بواحاً)) ((مح)): بواحاً بالواو في أكثر النسخ، وفي بعضها بالراء، يقال: باح الشيء إذا ظهر بواحا وبووحاً، والبواح صفة لمصدر محذوف تقديره أمراً بواحاً، وبراحاً بمعناه من الأرض البراح وهي الأرض البارزة. والمراد بالكفر هنا المعاصي، والمعنى لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتكم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقوموا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وتنازعهم فمحرم بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين. وأجمع أهل السنة علي أن السلطان لا ينعزل بالفسق؛ لتهيج الفتن في عزله وإراقة الدماء وتفرق ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه، ولا تنعقد إمامة الفاسق ابتداء. وأجمعوا علي أن الإمامة لا تنعقد لكافر ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها، وكذا البدعة. قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر وتغيير في الشرع أو بدعة سقطت طاعته، ووجب علي المسلمين خلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك. ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، وإلا فيهاجر المسلم عن أرضه إلي غيرها ويفر بدينه. وقوله: ((برهان)) مبتدأ و ((عندكم)) خبره و ((من الله)) متعلق بالظرف أو حال من المستتر في الظرف، أي برهان حاصل عندكم كائناً من الله، أي من دين الله. ((مح)): أي نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر في كل زمان ومكان الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحداً ولا نخافه ولا نلتفت إلي الأئمة. الحديث السابع عن ابن عمر: قوله: ((ما استطعتم)) ((مح)): في جميع نسخ مسلم ((فيما استطعت)) علي التكلم أي: قل: فيما استطعت تلقيناً لهم، وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته يلقنهم أن يقول أحدهم فيما استطعت؛ لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقه.

3669 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات؛ مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية، فقتل؛ فقتلة جاهلية ومن خرج علي أمتي بسيفه، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس مني ولست منه)). رواه مسلم. 3670 - وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة: قوله: ((ميتة جاهلية)) الميتة والقتلة بالكسر. الحالة التي يكون عليها الإنسان من الموت أو القتل، والمعنى أن من خرج عن طاعة الإمام وفارق جماعة الإسلام، وشذ عنهم وخالف إجماعهم ومات علي ذلك، فمات علي هيئة كان يموت عليها أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا لا يرجعون إلي طاعة أمير ولا يتبعون هدى إمام، بل كانوا مستنكفين عنها مستبدين في الأمور، لا يجتمعون في شيء ولا يتفقون علي رأي. قوله: ((تحت راية عمية)) ((مح)): عمية بكسر العين وضمها، وكسر الميم وتشديدها وتشديد الياء لغتان مشهورتان وهي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قال أحمد بن حنبل والجمهور. وفي الغريبين قال إسحاق: هذا في تخارج القوم وقتل بعضهم بعضاً، وكان أصله من التعمية وهي التلبيس، ومعناه يقاتل بغير بصيرة وعلم تعصبياً كقتال الجاهلية، ولا يعرف المحق من المبطل، وإنما يغضب لعصبية لا لنصرة الدين، والعصبية إعانة قومه علي الظلم. أقول: قوله: ((تحت راية عمية)) كناية عن جماعة مجتمعين علي أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل، فيدعون الناس إليه ويقاتلون له. وقوله: ((يغضب لعصبية)) حال إما مؤكدة إذا ذهب إلي أن هذا الأمر في نفسه باطل أو منتقلة إذا فرض أنهم علي الحق. وفيه أن من قاتل تعصباً لا لإظهار دينه ولا لإعلاء كلمة الله، وإن كان المغضوب له محقاً كان علي الباطل. وقوله: ((فقتلة)) خبر مبتدأ محذوف والجملة مع الفاء جواب الشرط. وقوله: ((بسيفه)) يجوز أن يكون حالا أي خرج مشاهراً بسيفه، و ((يضرب)) حال متداخلة. ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: ((يضرب)) والجملة حال والتقديم للاهتمام وإظهار الحرص علي الأذى، ((ولا يتحاشى)) أي ولا يكترث بما يفعله، ولا يخاف وباله وعقوبته، والمراد بالأمة أمة الدعوة، فقوله: ((برها وفاجرها)) يشتمل علي المؤمن والمعاهد والذمي. وقوله: ((ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده)) كالتفصيل له. الحديث العاشر عن عوف: قوله: ((وتصلون عليهم)) ((شف)): الصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي تدعون لهم ويدعون لكم، يدل عليه قوله: ((تلعنونهم ويلعنونكم)) وكذا في شرح مسلم. ((مظ)):

الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: ((لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)) رواه مسلم. 3671 - وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء، تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ. ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)). قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ((لا؛ ما صلوا، لا؛ ما صلوا)) أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي يصلون عليكم إذا متم وتصلون عليهم إذا ماتوا عن الطوع والرغبة. أقول: ولعل هذا الوجه أولي أي تحبونهم ويحبونكم ما دمتم في قيد الحياة، فإذا جاء الموت يترحم بعضكم علي بعض ويذكر صاحبه بخير. قوله: ((ما أقاموا فيكم الصلاة)) فيه إشعار بتعظيم أمر الصلاة وأن تركها موجب لنزع اليد من الطاعة، كالكفر علي ما سبق في حديث عبادة بن الصامت في قوله: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً)) الحديث، ولذلك كرره. الحديث الحادي عشر عن أم سلمة: قوله: ((تعرفون وتنكرون)) ((قض)): تعرفون وتنكرون صفتان ((لأمراء)) والراجع فيهما محذوف، أي تعرفون بعض أفعالهم وتنكرون بعضها. يريد أن أفعالهم تكون بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، فمن قدر أن ينكر عليهم قبائح أفعالهم وسماجة حالهم وأنكر، فقد برئ من المداهنة والنفاق، ومن لم يقدر علي ذلك ولكن أنكر بقلبه وكره ذلك، فقد سلم من مشاركتهم في الوزر والوبال، ولكن من رضي بفعلهم بالقلب وتابعهم في العمل فهو الذي شاركهم في العصيان، واندرج معهم تحت اسم الطغيان. وحذف الخبر في قوله ((من رضي)) لدلالة الحال، وسياق الكلام علي أن حكم هذا القسم ضد ما أثبته لقسيميه، وإنما منع عن مقاتلتهم ما داموا يقيمون الصلاة التي هي عماد الدين وعنوان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان حذراً من هيج الفتن واختلاف الكلمة، وغير ذلك مما يكون أشد نكاية من احتمال نكرهم، والمصابرة علي ما ينكرون منهم. قوله: ((من كره بقلبه وأنكر بقلبه)) ((مظ)): هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهة بالقلب ولو كان كلاهما بالقلب لكانا منكرين؛ لأنه لا فرق بينهما بالنسبة إلي القلب. وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية: ((من أنكر بلسانه فقد برئ، ومن أنكر بقلبه فقد سلم)).

3672 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون بعدي أثرة، وأموراً تنكرونها)) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: ((أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم)) متفق عليه. 3673 - وعن وائل بن حجر، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: وهذا التعليل غير مستقيم، وأول شي يدفعه ما في الحديث من قوله: ((تنكرون)) لأن هذا الإنكار ليس إلا بالقلب لوقوعه قسيما لـ ((تعرفون))، ومعناه علي ما قال الشيخ التوربشتي والقاضي: أي ترون منهم من حسن السيرة ما تعرفون، وترون من سوء السريرة ما تنكرون أي تجهلونه؛ فإن المعروف ما يعرف بالشرع حسنه، والمنكر عكسه؛ ولأن قوله: ((فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم)) تفصيل لـ ((تنكرون)) بشهادة الفاء في ((فمن أنكر)) ولن يكون المفصل مخالفاً للمجمل، ومعناه فمن أنكر ما لا يعرف حسنه في الشرع فقد برئ من النفاق، ومن لم ينكره حق الإنكار بل كرهه بقلبه فقد سلم، ولا بد لمن أنكره بقلبه حق الإنكار، أن يظهره بالمكافحة بلسانه بل يجاهده بيده وجميع جوارحه. وإذا قيد الإنكار بقلبه أفاد هذا المعنى، وإذا خص بلسانه لم يفده، ويدل علي أن الإنكار إذا لم يكن كما ينبغي سمي بالكراهة. قول الشيخ التوربشتي: ومن كره ذلك بقلبه ومنعه الضعف عن إظهار ما يضمر من النكر فقد سلم. وحاشى لمكانة إمام أئمة الدنيا – أعني مسلما – أن يخرج من فيه كلام غير مستقيم لاسيما في تفسير الكلام النبوي، والرواية التي استدل بها المظهر في شرح السنة كذا، ويروي ((فمن أنكر بلسانه فقد برئ ومن كره بقلبه فقد سلم)) ولفظة ((يروى)) ونحوها إنما يستعمله أهل الحديث فيما ليس بقوي. ((مح)): في هذا الحديث معجزة ظاهرة لما أخبر به عن المستقبل، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وفيه أن من عجز عن إزالة المنكر وسكت لا يأثم إذا لم يرض به. وقوله: ((ومن كره فقد سلم)) هذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولسانه، فليكرهه بقلبه ويسلم. والله أعلم. الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أثرة)) أي سترون ما يستأثر به من أمور الدنيا فيفضل غيركم عليكم بلا استحقاق في الفيء. والمراد بالأمور أشياء أخر لا تستحسنونها. وسلوا الله حقكم أي لا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم، ولا تقاتلوهم لاستيفاء حقكم، بل وفروا إليهم حقهم من السمع والطاعة وحقوق الدين. واسألوا الله من فضله أن يوصل إليكم حقكم من الغنيمة والفيء ونحوهما، وكلوا إليه أمركم.

تأمرنا؟ قال: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)). رواه مسلم. 3674 - وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يداً من طاعة؛ لقي الله يوم القيامة ولا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة؛ مات ميتة جاهلية)). رواه مسلم. 3675 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، فيكثرون)). قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((فوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن وائل: قوله: ((فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) قدم الجار والمجرور علي عامله للاختصاص، أي ليس علي الأمراء إلا ما حمله الله عليهم من العدل والتسوية، فإذا لم يقيموا بذلك فعليهم الوزر والوبال، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة وأداء الحقوق، فإذا قمتم بما عليكم فالله تعالي يتفضل عليكم ويثيبكم به. وقوله: ((يسألونا)) صفة ((أمراء)) وجزاء الشرط. قوله: ((فما تأمرنا)) علي تأويل الإعلام. الحديث الرابع عشر عن عبد الله بن عمر: قوله: ((من طاعة)) أي طاعة كانت قليلة أو كثيرة. ولما كان وضع اليد كناية عن العهد وإنشاء البيعة لجري العادة علي وضع اليد علي اليد حال العاهدة، كنى عن النقض بخلع اليد ونزعها، يريد من نقض العهد وخلع نفسه عن بيعة الإمام، لقي الله تعالي آثماً لا عذر له. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تسوسهم)) أي تتولي أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية. والسياسية القيام علي الشيء بما يصلحه، وهو خبر كان، و ((كلما هلك)) إلي آخره حال من فاعله أي الأنبياء تترى تابع بعضهم بعضاً. وقوله: ((وإنه لا نبي بعدي)) معطوف علي ((كانت بنو إسرائيل)) واسم ((إن)) ضمير الشأن، وإنما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه لإرادة الثبات والتوكيد في الثاني. يعني قصة بني إسرائيل كيت وكيت، وقصتنا كيت وكيت. والفاء في ((فما تأمرنا)) جواب شرط محذوف، أي إذا كثر بعدك الخلفاء فوقع التشاجر والتنازع بينهم فما تأمرنا نفعل. والفاء في قوله: ((فالأول)) للتعقيب والتكرير للاستمرار، ولم يرد به في زمان واحد بل

3676 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما)). رواه مسلم. 3677 - وعن عرفجة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف كائناً من كان)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحكم هذا عند تجدد كل زمان وتجدد بيعة. وقوله: ((أعطوهم حقهم)) كالبدل من قوله: ((فوا بيعة الأول)). وقوله: ((فإن الله سائلهم)) تعليل للأمر بإعطاء حقهم. وفيه اختصار أي فأعطوهم حقهم وإن لم يعطوكم حقكم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ويثيبكم بما لكم عليهم من الحق؛ لقوله في الحديث السابق: ((أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم)). وقوله: ((عما استرعاهم)) استرعيته الشيء فرعاه، وفي المثل: من استرعى الذئب فقد ظلم، والراعي الوالي، والرعية العامة. الحديث السادس عشر عن أبي سعيد: قوله: ((فاقتلوا الآخر)) ((قض)): قيل: أراد بالقتل المقاتلة؛ لأنها تؤدي إليه من حيث أنه غايتها. وقيل: أراد إبطال بيعته وتوهين أمره من قولهم: قتلت الشراب إذا مزجته وكسرت ثورته بالماء. ومنه قول حسبان رضي الله عنه: إن التي ناولتني فرددتها قتلت قلت فهاتها لم تقتل أقول: الأول من الوجهين يستدعي الثاني؛ لأن الآخر منهما خارج علي الأول باغ عليه فتجب المقاتلة معه حتى يفيء إلي أمر الله وإلا قتل، فهو مجاز باعتبار ما يؤول للحث علي دفعة وإبطال بيعته وتوهين أمره. ((مح)): قاتل أهل البغي غير ناقض عهده لهم إن عهد؛ لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربته. واتفقوا علي أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا. قال إمام الحرمين في كتاب الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها للاثنين في صقع واحد، وإن بعد ما بينهما وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج من القواطع، وحكي المازري هذا. قال الشيخ محيي الدين: هو قول غير سديد مخالف لما عليه السلف والخلف، والظاهر إطلاق الحديث. الحديث السابع عشر والثامن عشر عن عرفجة: قوله: ((هنات وهنات)) ((نه)): أي شرور وفساد، يقال: في فلان هنات أي خصال شر، ولا يقال في الخير، وواحدها هنة، وقد يجمع علي هنوات، وقيل: واحدها هت تإنيث هن، وهو كناية عن كل اسم جنس لا تريد أن تصرح به لشناعته.

3678 - وعنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع علي رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه)) رواه مسلم. 3679 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر)) رواه مسلم. 3680 - وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كائناً من كان)) حال فيه معنى الشرط، أي ادفعوا من خرج علي الإمام بالسيف، وإن كان أشرف وأعلم، وترون أنه أحق وأولي، هذا المعنى أظهر في لفظة ((ما)) كما في المتن؛ لأنه مجرى حينئذ علي صفة ذوي العلم، كما في قوله تعالي: {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا} أي عظيم القدرة علي الشأن. الحديث الثامن عشر عن عرفجة: قوله: ((أن يشق عصاكم)) ((نه)): يقال: شق العصا أي فارق الجماعة. أقول: هذا تمثيل شبه اجتماع الناس واتفاقهم علي أمر واحد بالعصا إذا لم تشق، وافتراقهم من ذلك الأمر بشق العصا، ثم كنى به عنه فضرب مثلا للتفريق، يدل علي هذا التأويل قوله: ((أمركم جميع علي رجل)) حيث أسند الجميع إلي ((الأمر)) إسناداً مجازياً؛ لأنه سبب اجتماع الناس. الحديث التاسع عشر عن عبد الله: قوله: ((فأعطاه صفقة يده)) ((نه)): الصفقة المرة من التصفيق باليد؛ لأن المتعاهدين يضع أحدهما يده في يد الآخر كما يفعل المتبايعان، والمراد بثمرة القلب خالص العهد. أقول: الفاء في ((فأعطاه)) كما هي في قوله تعالي: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} إذا كانت التوبة عين القتل؛ إذ الصفقة الحاصلة بين المتبايعين، وكذلك إعطاء ثمرة القلب التي هي خلاصة الإنسان ليست إلا عين المبايعة. فإذا اجتمع الظاهر والباطن مع صاحبه فوجب أن يقاتل مع من ينازعه، وجمع الضمير في ((فاضربوه)) بعد ما أفرد في ((فليطعه)) نظراً إلي لفظة ((من)) تارة ومعناها أخرى. وقوله: ((عنق الآخر)) وضع موضع عنقه إيذاناً بأن كونه آخراً يستحق ضرب العنق تقريراً للمراد وتحقيقاً له. الحديث العشرون عن عبد الرحمن: قوله: ((وكلت إليها)) أي فوضت إلي الإمارة، ولا شك

3681 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنكم ستحرصون علي الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة)) رواه البخاري. 3682 - وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟. قال: فضرب بيده علي منكبي، ثم قال: ((يأ أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). وفي رواية. قال له: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرون علي اثنين، ولا تولين مال يتيم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أنها أمر شاق لا يقوم بها أحد بنفسه من غير معاونة من الله إلا أوقع نفسه في ورطة، خسر فيها دنياه وعقباه، وإذا كان كذلك لا يسألها اللبيب الحازم. الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فنعم المرضعة)) ((مظ)): لفظة ((نعم وبئس)) إذا كان فاعلها مؤنثاً؛ جاز إلحاق تاء التإنيث وجاز تركها، فلم يلحقها هنا في ((نعم)) وألحقها في بئست. أقول: إنما لم يلحقها بـ ((نعم)) لأن المرضعة مستعارة للإمارة، وهي وإن كانت مؤنثة إلا أن تإنيثها غير حقيقي، وألحقها ببئس نظراً إلي كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. وفيه أن ما يناله الأمير من البأساء والضراء أبلغ وأشد مما يناله من النعماء والسراء. وإنما أتى بالتاء في ((المرضع والفاطم)) دلالة علي تصوير تينك الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام. ((قض)): شبه الولاية بالمرضعة وانقطاعها بالموت أو العزل بالفاطمة، أي نعمت المرضعة الولاية؛ فإنها تدر عليك المنافع واللذات العاجلة، وبئست الفاطمة المنية؛ فإنها تقطع عنك تلك اللذائذ والمنافع، وتبقى عليك الحسرة والتبعة، فلا ينبغي للعاقل أن يلم بلذة تتبعها حسرات. الحديث الثاني والعشرون عن أبي ذر: قوله: ((وإنها أمانة)) تإنيث الضمير إما باعتبار الإمارة المستفادة من معنى قوله: ((ألا تستعملني)) أو باعتبار تإنيث الخبر. وقوله: ((إلا من أخذها)) استثناء منقطع أي خزي وندامة علي من أخذها بغير حقها ولم يؤد الذي عليه فيها، لكن من أخذها بحقها لم تكن خزياً ووبالا عليه. ((مح)): هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولاية لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائفها، والخزي والندامة في حق من لم يكن أهلا لها، أو كان أهلا ولم يعدل فيها فيخزيه الله يوم القيامة ويفضحه ويندم علي ما فرط، فأما من كان أهلا لها وعدل فيها فله فضل عظيم، تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث ((سبعة يظلهم الله في ظله)). قوله: صلى الله عليه وسلم: ((إن

3683 - وعن أبي موسى، قال: دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي. فقال أحدهما: يا رسول الله! أمرنا علي بعض ما ولاك الله. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: ((إنا والله لا نولي علي هذا العمل أحداً سأله، ولا أحد حرص عليه)). وفي رواية قال: ((لا نستعمل علي عملنا من أراده)) متفق عليه. 3684 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه)). متفق عليه. 3685 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي علي الناس راع وهو مسئول عن رعيته، ـــــــــــــــــــــــــــــ المقسطين علي منابر من نور)) وغير ذلك، ولكثرة الخطر فيها حذر صلوات الله عليه منها؛ ولذلك امتنع العلماء منها خلائق من السلف، وصبروا علي الأذى حين امتنعوا. الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خير الناس)) ثإني مفعولي ((تجدون)) والأول قوله ((أشدهم)) ولما قدم المفعول الثاني أضمر في الأول الراجع إليه، كقولك: علي التمرة مثلها زبداً، ويجوز أن يكون المفعول الأول ((خير الناس)) علي مذهب من يجتز زيادة ((من)) في الإثبات. قوله: ((حتى يقع فيه)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون غاية ((تجدون)) أي تجدون خير الناس أشد كراهة حتى يقع فيه، فحينئذ لا يكون خيرهم. وثإنيهما: أنه غاية ((أشد)) أي يكرهه حتى يقع فيه، فحينئذ يعينه الله تعالي فلا يكرهه، والأول أوجه لقوله: ((يقع فيه)). الحديث الخامس والعشرون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ألا كلكم راع)) ((حس)): معنى الراعي هنا الحافظ المؤتمن علي ما يليه، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه بإخباره أنهم مسئولون عنه، فالرعاية حفظ الشيء وحسن التعهد فقد استوى هؤلاء في الاسم، ولكن معإنيهم مختلفة، وأما رعاية الإمام ولاية أمور الرعية، فالحياطة من ورائهم وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله، فالقيام عليه بالحق في النفقة وحسن العشرة، ورعاية المرأة في بيت زوجها، فحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمته وأضيافه، ورعاية الخادم، حفظ ما في يده في مال سيده والقيام بشغله. أقول: قوله: ((ألا كلكم)) تشبيه مضمر الأداة أي كلكم مثل الراعي، وقوله: ((وكلكم مسئول عن رعيته)) حال عمل فيه معنى التشبيه. وهذا مطرد في التفضيل، ووجه التشبيه حفظ الشيء وحسن التعهد لما استحفظ، وهو القدر المشترك في التفضيل.

والرجل راع علي أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية علي بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع علي مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)). متفق عليه. 3686 - وعن معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم؛ إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه. 3687 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه أن الراعي ليس بمطلوب لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فعلي السلطان حفظ الرعية فيما يتعين عليه من حفظ شرائعهم، والذب عنها لكل متصد لإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعإنيها، أو إهمال حدودهم، أو تصنيع حقوقهم وترك حماية من جار عليهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم، فينبغي أن لا يتصرف في الرعية إلا بإذن الله ورسوله، ولا يطلب أجره إلا من الله كالراعي. وهذا تمثيل لا يرى في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه؛ ولذلك أجمل أولا ثم فصله ثم أتى بحرف التنبيه مكرراً وبالفذلكة كالخاتمة. والفاء في قوله: ((ألا فكلكم راع)) جواب شرط محذوف، والفذلكة هي التي يأتي بها المحاسب بعد التفصيل، ويقول: فذلك كذا وكذا ضبطاً للحساب وتوقياً من الزيادة والنقصان فيما فصله. والضمير في قوله: ((مسئولة عنهم)) راجع إلي ((بيت زوجها وولده)) وغلب العقلاء فيه علي غيرهم. الحديث السادس والعشرون والسابع والعشرون عن معقل: قوله: ((فيموت)) الفاء فيه وفي قوله: ((فلم يحطها)) كاللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا} وقوله: ((وهو غاش)) حال قيد للفعل ومقصود بالذكر؛ لأن المعتبر من الفعل والحال هو الحال، يعني أن الله تعالي إنما ولاه واسترعاه علي عباده ليديم النصيحة لهم لا ليغشهم فيموت عليه، فلما قلب القضية استحق أن لا يجد رائحة الجنة. ((مح)): قال القاضي عياض: المعنى: من قلده الله تعالي شيئاً من أمر المسلمين واسترعاه

3688 - وعن عائذ بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن شر الرعاء الحطمة)) رواه مسلم. 3689 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم ودنياهم، فإذا خان فيما ائتمن عليه فلم ينصح فيما قلده إما بتضييع حقهم وما يلزمه من أمور دينهم ودنياهم أو غير ذلك، فقد غشهم. وفي قوله: ((حرم الله عليه الجنة)) تأويلان: أحدهما: أنه محمول علي المستحل، والثاني: علي أنه محرم عليه دخولها مع الفائزين السابقين. وقوله: ((فيموت وهو غاش)) دليل علي أن التوبة قبل حالة الموت باقية. قوله: ((فلم يحطها)) ((نه)): يقال حاطه يحوطه حوطاً وحياطة إذا حفظه وصانه، وذب عنه وتوفر علي مصالحه. الحديث الثامن والعشرون عن عائذ: قوله: ((إن شر الدعاء)) ((نه)): الرعاء بالكسر والمد جمع راع كتجار جمع تاجر. ((فا)): الحطمة هو الذي يعنف الإبل في السوق والإيراد والإصدار فيحطمها. ضربه مثلا لوالي السوء. أقول: لما استعار للوالي والسلطان لفظ الراعي أتبعه بما يلائم المستعار منه من صفة الحطم، فالحطمة ترشيح لاستعارة الراعي لهم. ((قض)): فالمراد بالحطمة الفظ القاسي الذي يظلم الرعية ولا يرحمهم، من الحطم وهو الكسر. وقيل: الأكول الحريص الذي يأكل ما يرى ويقضمه؛ فإن من هذا دأبه يكون دنئ النفس ظالماً بالطبع شديد الطمع فيما في أيدي الناس. الحديث التاسع والعشرون عن عائشة رضي الله عنه: قوله: ((من أمر أمتي)) ((من)) بيان ((شيئاً)) كانت صفة قدمت فصارت حالا. وقوله: ((فاشقق عليه)) ((مح)): هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة علي الناس وأعظم الحث علي الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث في هذا المعنى. أقول: وهو من أبلغ ما أظهر صلوات الله عليه من الرأفة والشفقة والمرحمة علي أمته، فنقول بلسان الحال: اللهم! هذا أوان أن ترحم علي أمة حبيبك وترأف بهم، وتنجيهم من الكرب العظيم الذي هم فيه، يا من لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا أنت رب العرش العظيم، لا إله إلا أنت رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم، ويرحم الله عبداً قال: آميناً.

3690 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله علي منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثلاثون عن عبد الله: قوله: ((إن المقسطين)) ((تو)): القسط بالكسر العدل، والأصل فيه النصيب، نقول منه: قسط الرجل إذا جار، وهو أن يأخذ قسط غيره، والمصدر القسوط. وأقسط إذا عدل، وهو أن يعطي نصيب غيره، ويحتمل أن الألف أدخل فيه لسلب المعنى، كما أدخل في كثير من الأفعال فيكون الإقساط إزالة القسوط. قوله: ((علي منابر)) ((مح)): المنابر جمع منبر، سمى به لارتفاعه. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكونوا علي منابر حقيقة علي ظاهر الحديث، وأن يكون كناية عن المنازل الرفيعة. قال الشيخ: ويمكن أن يجمع بينهما؛ لأن من كان علي منابر فهو علي أعلي مرتبة، ويؤيده قوله: ((عن يمين الرحمن)). ((تو)): المراد منه كرامتهم علي الله وقرب محلهم وعلو منزلتهم؛ وذلك لأن من شأن من عظم قدره في الناس، أن يبوأ عن يمين الملك، ثم إنه نزه ربه سبحانه عما سبق إلي فهم من لم يقدر الله حق قدره من مقابلة اليمين باليسار، وكشف عن حقيقة المراد بقوله: ((وكلتا يديه يمين)) ((خط)): ليس فيما يضاف إلي الله تعالي من صفة اليدين شمال؛ لأن الشمال تدل علي النقص والضعف: وقوله: ((وكلتا يديه يمين)) هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها علي ما جاءت ولا نكيفها، وننتهي حيث انتهي بنا الكتاب والأخبار الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. أقول: - والله أعلم – قوله: ((عند الله)) خبر إن، أي المقسطين مقربون عند الله تعالي، و ((علي منابر)) يجوز أن يكون خبرا، بعد خبر أو حالا من الضمير المستقر في الظرف. و ((من نور)) صفة منابر مخصصة لبيان الحقيقة، ((وعن يمين الرحمن)) صفة أخرى لـ ((منابر)) مبينة للرتبة والمنزلة. ويجوز أن يكو حالا بعد حال علي التداخل. وقوله: ((يمين الرحمن)) بعد قوله: ((عند الله)) تقييد بعد إطلاق وتخصيص بعد تعميم؛ لوضع الرحمن موضع ضمير ((الله))، وقد سبق أن اسم الله جامع لجميع صفات الجلال والإكرام. و ((الرحمن)) من صفة الإكرام، فدل اليمين علي أن الله تعالي يفيض عليهم حينئذ من جلائل نعمه وفضائل إحسانه ما لا يحصر فيكون قوله: ((وكلتا يديه يمين)) تذييلا للكلام السابق، فعلي هذا اللام في ((المقسطين)) للتعريف كما في الرجل والفرس، ويجوز أن تكون موصولة، وتكون الظروف كلها متصلات بالصلة، وخبر ((إن)) قوله: ((الذين يعدلون))، وقوله: ((وكلتا يديه يمين)) متعرضة بين اسم ((إن)) وخبره صيانة لجلال الله وعظمته عما لا يليق به. قال أبو الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فإنيا

والتثنية في اليدين للاستيعاب، كما في قوله تعالي: {ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ} ولبيك وسعديك والخير كل بيديك. ((مح)): العرب تنسب الفعل الذي يحصل بالجهد والقوة إلي اليمين، وكذا الإحسان والإفضال إلها وضدهما إلي اليسار. وقالوا: اليمين مأخوذ من اليمن. ((قض)): ((وكلتا يديه)) دفع لتوهم من يتوهم أن له يميناً من جنس أيماننا التي يقابلها يسار، وأن من سبق إلي التقرب إليه حتى فاز بالوصول إلي مرتبة من المراتب الزلفي من الله، عاق غيره عن أن يفوز بمثله كالسابق إلي محل مجلس السلطان، بل جهاته وجوانبه التي يتقرب إليها العباد سواء. قوله: ((الذين يعدلون)) ((مح)): معناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما يقلده من خلافة وإمارة أو قضاء أو حسبة، أو نظر علي يتيم أو صدقة أو وقف، فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك. قال: ((وما ولوا)) بفتح الواو وضم اللام المخففة أي كانت لهم عليهم ولاية. ((مظ)): وليوا علي وزن علموا انقلبت ضمة الياء إلي اللام، وحذفت لالتقاء الساكنين. والمراد بقوله: ((وما ولوا)) أي يعدلون فيما تحت أيديهم من أموال اليتامى مثل الجد؛ فإنه ولي الطفل، والوصي؛ فإنه حاكم في التصرف في أموال اليتامى. أقول: قوله: ((الذين يعدلون)) يحتمل وجوهاً من الإعراب أن يكون خبراً لـ ((إن)) كما سبق، وأن يكون صفة ((للمقسطين)) علي تأويل ذوات لها الأقساط، كما يقال: شجاع باسل، وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتي؛ إذ قال: وقد فسر ((المقسطين)) في الحديث بما وصفهم به من قوله: ((الذين يعدلون)) إلي آخر الحديث. وأن يكون بدلا أو نصباً علي المدح أو رفعاً عليه، وأن يكون استئنافاً، كأنه قيل: من هؤلاء السادة المقربون، وقد فازوا بالقدح المعلي والمنحة الكبرى؟ فقيل: هم الذين يعدلون إلي آخره، فإذ جعل صفة فالتعريف في ((المقسطين)) يحتمل العهد المتعارف بين الناس من الحكام، وأن يكون للجنس، فبين بقوله: ((الذين يعدلون)) أن المراد به الثاني. ولما كان المراد به استغراق الجنس مشتملا علي التعدد قال: أولا ((في حكمهم)) ليدخل فيه من بيده أزمة حكم الشرع من الخلفاء والأمراء والقضاة وغيرهم. وثإنياً ((وأهليهم)) ليدخل فيه كل من تحت يده أحد من أهله وعياله ونحو ذلك، وثالثاً ((وما ولوا)) ليستوعب جميع من يتولي أمراً من الأمور فيدخل فيه نفسه أيضاً. ((شف)): فالرجل يعدل مع نفسه بأن لا يضيع وقته في غير ما أمر الله تعالي به بل يمتثل أوامر الله وينزجر عن نواهيه علي الدوام، كما هو دأب الأولياء المقربين، أو غالباً كما هو ديدن المؤمنين الصالحين. أقول: قسم الله تعالي عباده المصطفين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق، فالمقتصد من عدل ولم يتجاوز إلي حد الظلم علي نفسه، ولم يترق إلي مرتبة السابق الذي جمع بين العدل والإحسان.

3691 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله)) رواه البخاري. 3692 - وعن أنس، قال: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: إذا بين ((المقسطين)) بالذين جمعوا بين هذه الخصال فكيف حال من انفرد بخصلة من هذه الخصال، هل يترتب عليه تلك المراتب العلية والمنازل السنية؟ قلت: إذا سلك بالتعريف في ((الذين يعدلون)) الجنس من حيث هي هي، لا. وإذا سلك به الاستغراق كما ذهبنا إليه، نعم. ونحوه قولك: الرجل خير من المرأة، إذا أريد بالتعريف الحقيقة من حيث هي هي، فلا تدخل أفراد الجنس في هذا الحكم، وإن أريد به الاستغراق لزم أن يكون أدنى رجل خيراً من أشرف النساء. والله أعلم. الحديث الحادي والثلاثون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((بطانة)) ((نه)): بطانة الرجل صاحب سره وداخلة أمره الذي يشاوره في أحواله. الكشاف في قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}: بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بحوائجه ثقة به، شبه ببطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري. فإن قلت: البطانة في الحديث علي هذا المعنى قد تتصور في بعض الخلفاء ولكنها منافية لحال الأنبياء، وكيف لا؟ وقد نهي الله تعالي عامة المؤمنين عن ذلك في الآية السابقة. قلت: الوجه ما روى الأشرف عن بعضهم أن المراد بأحدهما الملك، وبالثاني الشيطان، ويؤيده قوله: ((والمعصوم من عصمه الله)) فإنه بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأسلم)) في قوله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله! قال: وإياي، إلا أن الله تعالي أعانني، فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)). الحديث الثاني والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بمنزلة صاحب الشرط)) ((تو)): هو جمع شرطة وشرطي، وهو الذي يتقدم بين يدي الأمير لتنفيذ أوامره، وهو الحاكم علي الشرط للأمور السياسية سموا بذلك؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، وكان قيس بن سعيد ابن عبادة الأنصاري سيد الخزرج وابن سيدها، أحد دهاة العرب وأهل الرأي ورئاسة الجيوش، وكان من ذوي النجدة والبسالة والكرم والسخاء، وكان مع ذلك جسيماً طويلا، وكان منتصباً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ ما يأمر به وما يريده.

3693 - وعن أبي بكرة، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى. قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري. الفصل الثاني 3694 - عن الحارث الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بخمس: بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله. وإنه من خرج من الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع. ومن دعا بدعوى الجاهلية؛ فهو من جثي جهنم، وإن صام وصلي وزعم أنه مسلم)) رواه أحمد والترمذي. [3694] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والثلاثون عن أبي بكرة: قوله: ((ولو أمرهم امرأة)) ((حس)): لا تصلح المرأة أن تكون إماماً ولا قاضياً؛ لأن الإمام والقاضي محتاجان إلي الخروج للقيام بأمر المسلمين، والمرأة عورة لا تصلح لذلك؛ ولأن المرأة ناقصة والقضاء من كمال الولايات فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال. أقول: ((لن يفلح قوم)) إخبار بنفي الفلاح في المستقبل عن أهل فارس علي سبيل التأكيد، وفيه إشعار بأن الفلاح للعرب، وأن الله تعالي سيجعل ملكهم مسخراً لهم فيكون معجزة. الفصل الثاني الحديث الأول عن الحارث: قوله: ((بالجماعة)) المراد بهم الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من سلف الصحابة، أي آمركم بالتمسك بهديهم والانخراط في زمرتهم، والمراد بالسمع الإصغاء إلي الأوامر والنواهي وتفهمهما، وبالطاعة الامتثال بالأوامر والانزجار عن النواهي، وبالهجرة الانتقال من دار الكفر إلي دار الإسلام. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بها ترك المعاصي، والرجوع عنها إلي الطاعات، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) والمراد بالجهاد الجهاد مع الكفار، ويحتمل أن يراد به الجهاد مع النفس بكفها عن شهواتها ومنعها عن لذاتها؛ فإن معاداة النفس مع الشخص أقوى وأضر من معاداة الكفرة معه. وقوله: ((وإنه من خرج)) اسم ((إن)) ضمير الشأن، والجملة بعده تفسره كالتعليل للأمر بالتمسك بهدي الجماعة، والواو مثلها في قوله تعالي: {وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ} بعد قوله: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا} في الإخبار عن الجملتين وتفويض الترتيب بينهما إلي ذهن السامع.

3695 - وعن زياد بن كسيب العدوي، قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق. فقال أبو بلال: انظروا إلي أميرنا يلبس ثياب الفساق. فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3695] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ومن دعا بدعوى الجاهلية)) عطف علي الجملة التي وقعت مفسرة لضمير الشأن؛ للإيذان بأن التمسك بالجماعة وعدم الخروج عن زمرتهم من شأن المؤمنين، والخروج من زمرتهم من هجيري الجاهلية، كما قال صلوات الله عليه: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) فعلي هذا ينبغي أن تفسر دعوى الجاهلية بسننها علي الإطلاق؛ لأنها تدعو إليها، وهو أحد وجهي ما قال القاضي، والوجه الآخر أن الدعوى تطلق علي الدعاء وهو النداء، والمعنى من نادى في الإسلام بنداء الجاهلية، وهو أن الرجل منهم إذا غلب عليه خصمه، نادى بأعلي صوته قومه يا آل فلان! فيبتدرون إلي نصره ظالما كان أو مظلوماً جهلاً منهم وعصبية. وحاصل هذا الوجه يرجع أيضاً إلي الوجه السابق، وينصره ما روى في شرح السنة في آخر هذا الحديث: ((فادعوا المسلمين بما سماهم الله المسلمون المؤمنون عباد الله)). قوله: ((قيد شبر)) ((قض)): أي قدره، يريد به أي قدر خالف وانحرف عن الجماعة وخرج عن وافقتهم. و ((الربق)) بالكسر حبل فيه عدة عرى يشد به إليهم الواحدة من تلك العرى ربقة، شبه ذمة الإسلام وعهده بالربقة التي تجعل في أعناق البهائم، من حيث أنه يقيده فيمنعه أن يتخطى حدود الله ويرتع مراتع حرماته. والمعنى أن من فارق الجماعة بترك السنة وارتكاب البدعة ولو بشيء يسير، نقض عهد الإسلام ونزع اليد عن الطاعة. أقول: لما شبه صلوات الله عليه الإمام بالراعي، وسوء مراعاته الرعية بالحطمة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن شر الرعاء الحطمة)) ضرب في هذا الحديث مثلاً للرعية بـ ((البهم)) التي جمعها الربق في سلك واحد، فرشح الاستعارة بالقيد والشبر. وإنما قيل: ((أن يراجع)) علي صيغة المفاعلة دون بـ ((رجع))، إما مبالغة وإما أن يكون الرجوع من الجماعة ومن الخارج عنهم. قوله: ((من جثي جهنم)) ((فا)): واحدتها جثوة بضم الجيم أي من جماعات جهنم، وهي في الأصل ما جمع من تراب أو غيره فاستعير للجماعة. الحديث الثاني عن زياد: قوله: ((ثياب الفساق)) يحتمل أن تكون ثياباً محرمة من الحرير والديباج؛ لأن الغالب منها أن تكن رقاقاً، وأن لا تكون محرمة لكن لما كان لبس الثياب الرقاق من دأب المتنعمين لا المتقشفين، نسبه إلي الفسق تغليظاً، والظاهر هذا؛ لأن أبا بكرة

3696 - وعن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) رواه في ((شرح السنة)). [3696] 3697 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أمير عشرة، إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، حتى يفك عنه العدل أو يوبقه الجور)) رواه الدارمي. [3697] ـــــــــــــــــــــــــــــ رده بقوله: ((من أهان سلطان الله)) يعني تفسيقك إياه بسبب لبسه هذه الثياب التي يصون بها عزته ليس بحق؛ لأن المعنى من أهان من أعزه الله وألبسه خلع السلطنة، أهانه الله، و ((في الأرض)) متعلق بـ ((سلطان الله)) تعلقها في قوله تعالي: {إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} والإضافة في ((سلطان الله)) إضافة تشريف كبيت الله. ويحكى عن جعفر الصادق رضي الله عنه: أنه دخل عليه سفيان الثوري، وعلي جعفر جبة خز دكناء، فقال يا بن رسول الله! هذا ليس من لباسك فحسر عن ردن جبته، فإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل والردن عن الردن، فقال: يا ثوري! لبسنا هذا الله وهذا لكم فما كان الله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه. ذكره صاحب جامع الأصول في كتاب مناقب الأبرار. والدكناء بالدال المهملة تإنيث الأدكن، وهو ثوب مغبر اللون. الحديث الثالث عن النواس قوله: ((لمخلوق)) صفة ((طاعة)) و ((في معصية الخالق)) خبر ((لا))، وفيه معنى النهي، يعني لا ينبغي ولا يستقيم ذلك، وتخصيص ذكر المخلوق والخالق مشعر بعلية هذا الحم. ((حس)): اختلفوا فيما يأمر به الولاة من العقوبات، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: ما أمر به الولاة من ذلك غيرهم يسعهم أن يفعلوه فيما كانت ولايته إليهم. وقال محمد بن الحسن: لا يسع المأمور أن يفعله حتى يكون الذي يأمره عدلاً وحتى يشهد عدل سواه علي أن المأمور ذلك. الكشاف: عن أبي حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالي: {وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}؟ قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالي: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللَّهِ والرَّسُولِ}؟ أقول: يريد أن قوله: {وأَطِيعُوا الرَّسُولَ} عطف علي ((أطيعوا الله)) وكرر الفعل ليدل علي استقلال طاعة الرسول، ولم يؤت وأطيعوا في {أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} دلالة علي عدم استقلالهم، وعلله بقوله: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلي اللَّهِ والرَّسُولِ} فكأنه قيل: إذا لم يكن أولوا الأمر مستقلين وشاهدتم منهم خلاف الحق، فردوه إلي الحق ولا يأخذكم في الله لومة لائم. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو يوبقه)) أي يهلكه، وهو عطف

3698 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملاً)) رواه في ((شرح السنة)) ورواه أحمد، في روايته: ((أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا علي شيء)). [3698] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي ((يفك)) فيكون غاية قوله: ((يؤتى به يوم القيامة مغلولاً)) أي لم يزل مغلولا حتى يحله العدل أو يهلكه الظلم، أي لا يفك عن الغل إلا الهلاك، يعني يرى بعد الغل ما الغل في جنبه السلامة، كما قال تعالي: {وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلي يَوْمِ الدِّينِ} يعني ترى يوم الدين من العذاب ما اللعنة بالنسبة إليه سهلة يسيرة. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ويل للأمراء)) مبتدأ وخبر، كقوله: ((سلام عليك)) وهو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب. ((قض)): العرفاء جمع عريف وهو القيم بأمر قبيلة أو محلة يلي أمرهم، ويتعرف منه الأمير أحوالهم، من عرف يعرف عرافة، مثل كتب يكتب كتابة إذا عمل ذلك، وعرف بالضم عرافة بالفتح إذا صار عريفاً، والمراد بالأمناء من ائتمنه الإمام علي الصدقات والخراج وسائر أموال المسلمين، ويدل عليه عطفه علي ((الأمراء والعرفاء)) وقوله: ((وأنهم لم يلوا عملاً))، أو كل من ائتمنه غيره علي مال أو غيره. أقول: قوله: ((ليتمنين أقوام)) كالتخصيص للعام والتقييد للمطلق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما عمم التهديد وبالغ في الوعيد، أراد أن يستدرك ويخرج من قام بها حق القيام، وتجنب فيها عن الظلم والحيف، واستحق به الثواب وصار ذا حظ مما وعد به ذو سلطان عادل. قال: ((ليتمنين أقوام)) إلي آخره، أي ليتمنين طائفة من هؤلاء وذلك لينبه بالمفهوم علي أن طائفة أخرى حكمهم علي عكس ذلك، وهم علي منابر من نور عن يمين الرحمن، إنما لم يعكس ولم يصرح بمنطوق المدح للمقسطين، ليدل بالمفهوم علي ذم الجائرين؛ لأن المقام مقام التهديد والزجر عن طلب الرياسة؛ لأنها وإن كانت مهمة لا ينظم صلاح حال الناس ومعاشهم دونها، لكن أمرها خطير والقيام

3699 - وعن غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العرافة حق ولابد للناس من عرفاء، ولكن العرفاء في النار)) رواه أبو داود. [3699] 3700 - وعن كعب بن عجرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعيذك بالله من إمارة السفهاء)). قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمراء سيكونون من بعدي، من ـــــــــــــــــــــــــــــ بحقوقها عسير، فلا ينبغي للعاقل أن يقتحم عليها ويميل بطبعه إليها؛ فإن من زلت قدمه فيها عن متن الصواب قد يندفع إلي فتنة تؤدي به إلي عذاب عظيم. واللام في ((ليتمنين)) لام القسم، والتمني طلب ما لا يمكن حصوله. والمتمني قوله: ((أن نواصيهم معلقة)) وأنهم لم يلوا، أو تمنوا يوم القيامة أنهم في الدنيا لم يلوا، وكانت نواصيهم معلقة بالثريا يعني: تمنوا أنه لم تحصل لهم تلك العزة والرياسة والترفع علي الناس بل كانوا أذلاء ورءوسهم معلقة بنواصيهم في أعال تتحرك وتجلجل، ينظر إليهم الناس ويشهدون مذلتهم وهوانهم، بدل تلك الرياسة والعزة والرفعة، وذلك أن التعليق بالناصية مثل للمذلة والهوان؛ فإن العرب إذا أرادوا إطلاق أسير جزوا ناصيته مذلة وهواناً، وأنشدوا: إذا جزت نواصي آل بدر فأدوها، وأسرى في الوثاق وهذا التمني هو المعني بالندامة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستحرصون علي الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة)). الحديث السادس عن غالب: قوله ((إن العرافة حق)) ((تو)): قوله: ((حق)) وقع هاهنا موقع المصلحة، والأمر الذي تدعو إليه الضرورة في ترتيب البعوث والأجناد وما يلم به شعثهم من الأرزاق والأعطيات والإحاطة بعددهم لاستخراج السهمان ونحوه. وقوله: ((ولكن العرفاء في النار)) أي فيما يقربهم إليها، ورد هذا القول مورد التحذير عن التبعات التي تتضمنها والآفات التي لا تؤمن فيها والفتن التي تتوقع منها، والأمر بالتيقظ وغير ذلك من البليات التي قلما يسلم منها الواقع فيها. أقول: قوله: ((ولكن العرفاء في النار)) مظهر أقيم مقام المضمر ليشعر بأن العرافة علي خطر ومن باشرها علي شفا حفرة من النار، فهو كقوله تعالي: {إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فينبغي للعاقل أن يكون علي تيقظ وحزم وحذر منها لئلا تورطه في الفتنة وتؤدي به إلي عذاب النار، وهذا تلخيص كلام الشيخ. الحديث السابع عن كعب: قوله: ((من إمارة السفهاء)) السفهاء: الخفاف الأحلام. ((نه)): السفه

دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم علي ظلمهم؛ فليسوا مني ولست منهم، ولن يردوا علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم علي ظلمهم؛ فأولئك مني وأنا منهم، وأولئك يردون علي الحوض)) رواه الترمذي، والنسائي. [3700] ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأصل الخفة والطيش، وسفه فلان رأيه إذا كان مضطرباً لا استقامة له والسفيه الجاهل. أقول: ((وما ذاك)) إشارة إلي معنى إمارة السفهاء، وهو فعلهم المستعاذ منه من الظلم والكذب وما يؤدي إليه جهلهم وطيشهم. فإن قلت: كيف أجاب عن السؤال عن وصقهم بذواتهم؟ قلت: يحتمل أن تؤخذ الزبدة والخلاصة من الجواب فيعبر عنه كأنه لما قيل: ما ذلك الفعل المستعاذ به؟ فأجيب ما يرغب فيه سفهاء مثلهم، ويتجنب عنه الألباء وأرباب العقول من الكذب والظلم. ويحتمل أن يؤول قوله: ((من إمارة السفهاء)) بقوله: ((بالأمراء السفهاء)). قوله: ((وما ذاك)) بمعنى ((من هم)) لإرادة الوصفية فيهم كقوله: ((سبحان ما سخركن لنا))، فيكون الجواب حينئذ من الأسلوب الحكيم حيث زاد في الجواب بقوله: ((من دخل)) أي لا تسأل عنهم وعماهم فيه فحسب، بل سل عمن يتقرب إليهم ويتوصل بهم، فيصدقهم بكذبهم ويعينهم علي ظلمهم ما حالهم؟ فإن حال أولئك قد يتجاوز عن حد البيان ويتحاشى عن ذكره اللسان. وقال سفيان: لا نخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال: صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض. وروي أن خياطاً سأل عالماً عن خياطته للحكام هل أنا داخل في قوله تعالي: {ولا تَرْكَنُوا إلي الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: لا، بل يدخل فيه من يبيعك الإبرة، قال ابن مسعود: من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده وتلا الآية. قوله: ((فأولئك منى)) أدخل الفاء في الخبر ((من)) لتضمنه معنى الشرط وزاد فيه ((أولئك)) وكرره لمزيد تقرير العلة؛ لأن اسم الإشارة في هذا المقام مؤذن بأن ما يرد عقيبه جدير بمن قبله لا تصافه بالخصال المذكورة، كقوله تعالي: {أُوْلَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} بعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلي ما يتصل به استحماداً علي فعلهم من الاجتناب عنهم وعن تصديقهم ومعاونتهم.

3701 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)) رواه أحمدن والترمذي، والنسائي. وفي رواية أبي داود: ((من لزم السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا)). [3701] 3702 - وعن القدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب علي منكبيه، ثم قال: ((أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا، ولا كاتبا، ولا عريفا)) رواه أبو داود. [3702] 3703 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة صاحب مكس)) يعني: الذي يعشر الناس. رواه أحمد، وأبو داود، والدارمي. [3703] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جفا)) ((قض)): جفا الرجل إذا غلظ قلبه وقسا ولم يرق لبر وصلة رحم، وهو الغالب علي سكان البوادي لبعدهم عن أهل العلم وقلة اختلاطهم بالناس، فصارت طباعهم كطباع الوحوش، وأصل التركيب للنبو عن الشيء، وغفلة التابع للصيد إما لحرصه الملهي أو لتشبهه بالسبع وانجذابه عن الترحم والرقة، وافتنان المتقرب إلي السلطان مما لا يخفي؛ فإنه إن وافقه فيما يأتيه ويذره، فقد خاطر علي دينه، وإن خالفه فقد خاطر علي روحه. ((مظ)):يعني من التزم البادية ولم يحضر صلاة الجمعة ولا الجماعة ولا مجلس العلماء فقد ظلم نفسه، ومن اعتاد الاصطياد للهو والطرب يكون غافلا؛ لأن بعض الصحابة كانوا يصطادون، ومن دخل علي السلطان وداهنه وقع في الفتنة، وأما من لم يدلهن ونصحه وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر فكان دخوله عليه أفضل. الحديث التسع والعشر عن عقبة: قوله: ((صاحب مكس)) ((نه)): المكس الضريبة التي يأخذها الماكس. ((حسن)) وهو العشار أراد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا مكسا باسم العشر، وأما الساعي الذي يأخذ الصدقة، ومن يأخذ من أهل الذمة العشر الذي صولحوا عليه فهو محتسب ما لم يتعد فيأثم بالتعدي والظلم.

3704 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الناس إلي الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل. وإن أبغض الناس إلي الله يوم القيامة وأشدهم عذابا)). وفي رواية: ((وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3704] 3705 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3705] 3706 - ورواه أحمد والنسائي عن طارق بن شهاب. [3706] 3707 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره. وإن ذكر أعانه. وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)) رواه أبو داود، والنسائي. [3707] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((من قال كلمة حق)) أي جهاد من قال، يعني: من تكلم كلمة حق. وإنما قلنا: أن ((قال)) بمعنى تكلم؛ لأن كلمة ((حق)) ليست بجملة. ((خط)): إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان مترددا بين الرجاء والخوف لا يدري هل يغلب، أو يغلب، وصاحب السلطان مقهور في يده، فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف. ((مظ)): وإنما كان أفضل؛ لأن ظلم السلطان يسري في جميع من تحت سياسته وهو جم غفير، فإذا نهاه عن الظلم فقد أوصل النفع إلي خلق كثير بخلاف قتل كافر. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: الأمر بالمعزوف مع السلاطين التعريف والوعظ. وإما المنع والقهر فليس ذلك لآحاد الرعية؛ لأن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر؛ ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشن في القول كقولك: يا ظالم! يا مت لا يخاف الله! وما يجري مجراه، فذلك إن كان يتعدى شره إلي غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا علي نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار، والتصريح بالأنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة؛ لعلهم بأن ذلك جهاد وشهادة. الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وزير صدق)) أصله وزير صادق ثم

3708 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)) رواه أبو داود. [3708] 3709 - وعن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك إذا اتبعت عورات الناس أفسدتهم)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3709] ـــــــــــــــــــــــــــــ وزير صدق علي الوصف به؛ ذهابا إلي أنه نفس الصدق ومجسم عنه، ثم أضيف إليه لمزيد الاختصاص به، ولم يرد بالصدق الاختصاص بالقول فقط بل بالأفعال والأقوال. ((غب)): يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق، ويضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به، نحو قوله تعالي: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} {قَدَمَ صِدْقٍ} وعلي عكس ذلك وزير سوء. الحديث الرابع عشر عن أبي أمامة: قوله: ((إذا ابتغى الريبة)) ((غب)): الريب أن يتوهم بالشيء أمرا، فينكشف عما يتوهمه فيه، والإرابة أن يتوهم فيه أمرا فلا ينكشف عما يتوهمه فيه، والارتياب يجري مجرى الإرابة، وريب الدهر صروفه، وإنما قيل ريب لما يتوهم فيه المكر، والريبة السم من الريب، قال تعالي: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي يدل علي [دغل] * وقلة يقين منهم – انتهي كلامه. والريبة في الحديث من هذا؛ فإن الأمير إذا كان ذا دغل ودخل في قلبه من الرعية، ابتغى عيوبهم ويتهمهم بالمعايب فيتجسس أحوالهم ومفاسدهم؛ فإن الإنسان قلما سلم من عيب. قال: ولست بمستبق أخا لا تلمه علي شعث أي الرجال المهذب فلو عاملهم بكل ما قالوا وفعلوا لاشتدت عليهم الأحوال، بل ينبغي أن يستر عليهم عيوبهم ويعفو عنهم. الحديث الخامس عشر عن معاوية: قوله: ((عورات الناس)) العورة الخلل، ومها أعور الفارس، إذا ظهر للقرن فيه موضوع ضربة وطعنة، وأعور المكان إذا ظهر موضوع خلل فيه. والأعور المختل العين، كنى في الحديث الأول عن العيوب بالريبة، وهنا بالعورة إيذانا بان عيوب الماس كعورات مستورات، فيحرم كشفها والريبة فيها كما يحرم كشف المخدرات عن سترها. وإنما خص في هذا الحديث الخطاب بقوله: ((إنك)) وعم في الحديث السابق بقوله: ((إن الأمير)) لئلا يتوهم أن النهي مختص بالأمير بل لكل من يتأتى منه اتباع العورات من الأمير وغيره. ولو قلنا: إن المخاطب معاوية علي إرادة أنه سيصير أميرا فيكون معجزة، لكان وجها، وينصر هذا الوجه الحديث الخامس في الفصل الثالث.

3710 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف انتم وأئمة من بعدي، يستأثرون بهذا الفيء؟)) قلت: أما والذي بعثك بالحق، أضع سيفي علي عاتقي، ثم اضرب به حتى ألقاك. قال: ((أولا أدلك علي خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقإني)) رواه أبو داود. [3710] الفصل الثالث 3711 - عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أتدرون من السابقون إلي ظل الله عز وجل يوم القيامة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم)). [3711] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر عن أبي ذر: قوله: ((كيف أنتم))؟ كيف سؤال عن الحال وعامله محذوف، أي كيف تصنعون؟ فلما حذف الفعل أبرز الفاعل كقوله تعالي: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} والحال المسؤل عنه أتبصرون أم تقاتلون يدل عليه قوله: ((أضع سيفي)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تصبر حتى تلقإني))، وقوله: ((وأئمة)) مفعول معه ((ويستأثرون)) جملة حالية والعامل هو المحذوف. قوله: ((بهذا الفيء)) المغرب: الفيء بالهمز ما نيل من أهل الشرك بعد ما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار الإسلام. وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. والغنيمة ما نيل منهم عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمس وسائر ما بعد الخمس للغانمين خاصة. والنفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا علي سهمه – انتهي كلامه. والفيء في الحديث يشملها إظهار لظلمهم واستئثارهم ما ليس من حقهم، ومن ثمة جاء باسم الإشارة لمزيد تصوير ظلمهم، وبينه قول المظهر: يعني يأخذون مال بيت المال، وما حصل من الغنيمة ويستخلصونه لأنفسهم ولا يعطونه لمستحقيه. و ((ثم)) في قوله: ((ثم أضرب به)) لتراخي رتبة الضرب عن الوضع، وعبر عن كونه شهيدا بقوله: ((حتى ألقاك)) ((حتى)) يحتمل أن تكون بمعنى كي وبمعنى الغاية، و ((أولا أدلك)) دخلت حرف العطف بين كلمة التنبيه المركبة من همزة الاستفهام و ((لا)) النافية، وجعلتها جملتين أي أتفعل هذا ولا أدلك علي خير من ذلك. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من السابقون؟)) ((من)) استفهامية علقت عمل الدراية وسدت بما بعده مسد مفعوليه. قوله: ((إذا أعطوا الحق)) ((غب)): أصل الحق المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه علي استقامة. والحق يقال علي أوجه

3712 - وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة أخاف علي أمتي: الاستسقاء بالأنواء، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر)). [3712] ـــــــــــــــــــــــــــــ لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة؛ ولذلك قيل في الله تعالي: هو الحق، ولما يوجد بحسب مقتضى الحكمة؛ ولهذا يقال: فعل الله تعالي كله حق، وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، وللفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب كقولنا: فعلك حق وقولك حق. قال تعالي: {وكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} ويقال: أحققت كذا أي أثبته حقا أو حكمت بكونه حقا. أقول: يمكن أن ينزل هذا الحديث علي أكثر هذه المعإني: احدها علي الفعل الحق والقول الحق، والمراد ب ((السابقون)) العادلون من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل)) يعني إذا نصحهم ناصح واظهر كلمة الحق العادلة قبلوها وفعلوا مقتضاها من البذل للرعية ومن الحكم بالسوية. وثإنيها: علي الواجب للإنسان من الأعطيات يعني إذا ثبت له حق ثابت إذا أعطى قبل، ثم بذل للمستحقين لينال درجة الأسخياء والأصفياء، الذين ينفقون أموالهم سرا وعلإنية يرجون تجارة لن تبور. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((خذه فتموله وتصدق به)) الحديث. وثالثها: علي ما يوجد بحسب مقتضى الحكمة, وعليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها)) لأنه يعلمها ويعمل بها ويعلمها غيره, فعلمه بها هو القبول وتعليم الغير هو البذل, والعمل بها هو الحكم, ولعمري إن هذا الحديث من الكلمات التي هي ضالة كل حكيم, فالمراد بالسابقين علي الوجهين الاخيرين هم السابقون السابقون أولئك المقربون. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((بالأنواء)) ((نه)): الأنواء هي ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها, ويسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة, وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطرا, وينسبونه إليها فيقولون مطرنا بنوء كذا, وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب فالطالع بالشرق ينوء نواءا, أي ينهض ويطلع. وقيل: أراد بالنوء الغروب, وهو من الأضداد, وإنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء؛ لأن العرب كانت تنسب المطر إليها, فأما من جعل المطر من فعل الله تعالي وأراد بقوله: ((مطرنا بنوء كذا)) أي في وقت كذا وهو هذا النوء الفلإني. فإن ذلك جائز, أي أن الله تعالي قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات. 3713 - وعن أبي ذر, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستة أيام اعقل يا أبا ذر! ما يقال لك بعد)). فلما كان اليوم السابع. قال: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلإنيته, وإذا أسأت فأحسن, ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك, ولا تقبض أمانة, ولا تقض بين اثنين)). [3713] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ولعله إنما خاف من هذه الخصال الثلاث؛ لأن من اعتقد أن الأسباب مستقلة, وترك النظر إلي المسبب وقع في شرك الشرك, ومن كذب بالقدر وقال: ((الأمر انف)) وقع حرف التعطيل, ومن افتتن بالسلطان الجائر تاه في تيه الضلال.

الحديث الثالث عن أبي ذر: قوله: ((اعقل)) مقول القول, و ((ستة أيام)) ظرف القول واعقل أي تفكر وتأمل واعمل بمقتضى ما أقول لك, وعليه قوله تعالي: {وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ومَا يَعْقِلُهَا إلاَّ العَالِمُونَ} , وإنما فعل ذلك لينبه أن ما بعده معني به جدا يجب تلقيه بالقبول والقيام بحقه, ولعمري إن الكلمة الأولي لو أدى حقها، لكفي بها كلمة جامعة ونحوه قوله تعالي: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي تنزه عما يشغل سرك عن الحق وتبتل إليه بشرا شرك تبتيلا, وهذا هو التقوى الحقيقية التي لا غاية لها. وقوله: ((وإذا أسأت فأحسن)) إشارة إلي أن الإنسان مجبول علي الشهوات ومقتضى البهيمة والسبعية والملكية, فإذا ثارت من تلك الرذائل رذيلة يطفئها بمقتضى الملكية, كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اتبع السيئة الحسنة تمحها)) وقوله: ((ولا تسألن أحدا شيئا)) انتهاء درجة التوكل وتفويض الأمور إلي الله تعالي. وقوله: ((وإن سقط سوطك)) تتميم له. وقوله: ((ولا تقبض أمانة)) يدل علي ثقل تحملها وصعوبة أدائها؛ ولذلك مثل الله تعالي ماله علي المخلوقات، بقوله تعالي: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. قوله: ((ولا تقض بين اثنين)) إشارة إلي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين)) ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهي أبا ذر عن قبض الأمانة, والحكم بين اثنين لضعفه عن القيام بهما, كما سبق في الفصل الأول أنه لما طلب الإمارة قال له صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم)).

3714 - وعن أبي أمامة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك, إلا أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه فكه بره, أو أوبقه أثمه, أولهما ملامة, وأوسطها ندامة, وآخرها خزي يوم القيامة)). [3714] 3715 - وعن معاوية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاوية! إن وليت أمرا فاتق الله واعدل)) قال: فما زالت اظن إني مبتلي بعمل, لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت. [3715] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((أولها ملامة)) إشارة إلي أن من يتصدى للولاية فالغالب أن يكون غرا غير مجرب للأمور ينظر إلي ملاذها ظاهرا فيحرص في طلبها ويلومه أصدقاؤه, ثم إذا باشرها وتلحقه تبعاتها وما يؤل إليه من وخامة عاقبتها يندم, وفي الآخرة خزي ونكال, هذا علي رأي من قال: إن الجمل المتناسقة إذا أتى بقيد بعدها يختص بالأخير, وأما من قال: إنه مشترك بينهما تكون الندامة والملامة والخزي يوم القيامة. ويؤيد الأول قوله: ((أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه)) فان إتيانه مغلولا يده إلي عنقه هو الخزي والذل والهوان, يقال: خزي يخزى خزاية أي استحي، وخزي يخزى خزيا أي ذل وهان. وقوله: ((أتاه الله)) أي أمر الله أو ملائكته. وقوله: ((يده)) يحتمل أن يكون مرفوعا بمغلولا و ((إلي عنقه)) حالا, وعلي هذا يكون ((يوم القيامة)) متعلقا ب ((مغلولا)). ويحتمل أن يكون مبتدأ و ((إلي عنقه)) خبره والجملة إما مستأنفة أو حال بعد حال, وحينئذ ((يوم القيامة)) إما ظرف ل ((أتاه)) وهو الأوجه, أو ل ((مغلولا)) وإذا كانت مستأنفة كانت بيانا ل ((مغلولا)) , والجملتان مستأنفتان مبينتان للجموع, كأن سائلا سال أولا عن كيفية هيئة المغلول, فأجيب: يده إلي عنقه, ثم سال ثإنيا فماذا يجري عليه بعد ذلك فأجيب: فكه بره. فان قلت: آخر الشيء مقتضاه فلا يصح أن يتخلل بينه وبين ما هو آخره غيرهما, ولا شك أن الإمارة تنقضي في الدنيا فكيف يكون الخزي يوم القيامة آخره؟ قلت: نحن نعتبر صفة الإمارة مستمرة إلي يوم الدين علي سبيل المجاز. الحديث الخامس عن معاوية: قوله: ((فما زلت)) الفاء فيه للتسبب, يعني تسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحصول ظني, فان حمل ((إن)) في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن وليت)) علي الجزم كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: ((إن يكن هذا من عند اله يمضه)) – وكان الملك أخبره بالقضية كان الظن بمعنى اليقين كما في قوله تعالي: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} فيكون معنى

3716 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من رأس السبعين, وإمارة الصبيان)). [3716] 3717 - وعن يحيى بن هشام, عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كما تكونون, كذلك يؤمر عليكم)). [3717] 3718 - وعن ابن عمر [رضي الله عنه] , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن السلطان ظل الله في الأرض, يأوي إليه كل مظلوم من عباده, فإذا عدل كان له الأجر, وعلي الرعية الشكر, وإذا جار, كان عليه الإصر وعلي الرعية الصبر)). [3718] ـــــــــــــــــــــــــــــ الغاية في ((حتى)) نقلا من علم اليقين إلي حق اليقين، وإن حمل علي الترديد فالظن مجرى علي معناه؛ لأن ترديد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا راجحا عند أمته, فمعنى الغاية في ((حتى)) النقل من الظن إلي علم اليقين. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإمارة الصبيان)) حال أي تعوذوا من فتنة تنشأ من بعد السبعين من تاريخ الهجرة أو وفاته, والحال أن الصبيان يكونون أمراء ويدبرون أمر أمتي وهم أغيلمة من قريش, رآهم صلى الله عليه وسلم في منامه يلعبون علي منبره صلى الله عليه وسلم, وقد جاء في تفسير قوله تعالي: {} أنه صلى الله عليه وسلم رأي في المنام أن ولد الحكم, يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة. الحديث السابع عن يحيى: قوله: ((كما تكونون)) الكاف مرفوع المحل علي الابتداء, والخبر ((يؤمر)) ولذلك جيء به تاكيدا وتقريرا للتشبيه وفي معناه قوله: ((أعمالكم عمالكم)) والحديث يوضحه الحديث الآتي لأبي الدرداء. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((السلطان ظل الله)) تشبيه, وقوله: ((يأوي إليه كل مظلوم)) جملة مبينة لما شبه به السلطان بالظل, كما أن الناس يستروحون إلي برد الظل من حر الشمس, كذلك يستروحون إلي برد عدله من حر الظلم. وأضافه إلي الله تشريفا له كبيت الله وناقة الله, وإيذانا بأنه ظل ليس كسائر الظلال, بل له شان ومزيد اختصاص بالله لما جعل خليفة الله في أرضه, ينشر عدله وإحسانه في عباده, ولما كان هو في الدنيا ظل الله يأوي إليه كل ملهوف, يأوي هو في الآخرة إلي ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله. فإن قلت: دلت الإضافة وقوله: ((يأوي إليه كل مظلوم)) أن السلطان عادل, فكيف يستقيم

3719 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة, إمام عادل رفيق. وإن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة, إمام جائر خرق)). [3719] 3720 - وعن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نظر إلي أخيه نظرة يخيفه, أخافه الله يوم القيامة)) روى الأحاديث الأربعة البيهقي في ((شعب الإيمان)) , وفال في حديث يحيى هذا: منقطع, وروايته ضعيف. [3720] ـــــــــــــــــــــــــــــ علي هذا أن يقال: ((وإذا جار كان عليه الإصر))؟ قلت: قوله: ((السلطان ظل الله)) بيان لشأنه, وأنه مما ينبغي أن يكون كذلك, فإذا جار كأنه خرج عما من شأنه أن يكون ظل الله تعالي, وعليه قوله تعالي: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى} فرتب علي الحكم بالوصف المناسب ونهاه عما لا يناسب. الحديث التاسع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((خرق)) صفة مشبهة من الخرق وهو ضد الرفق. وفي الحديث ((الرفق يمن والخرق شؤم)) , وفيه أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه, وجعل الرفيق رديفا للعادل من باب التكميل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما وصفه بالعادل رأي أن الوصف بمجرد العدل غير واف؛ لأنه قد يكون العادل جافيا غليظ القلب فكمله بالرفيق. قال الشاعر: حليم إذا ما الحلم زين لأهله مع الحلم في عين العدو مهيب فإنه رأي أن الوصف بمجرد الحلم غير واف, فكمل بقوله: في عين العدو مهيب. وقال تعالي في حق الصحابة رضي الله عنهم: {أَذِلَّةٍ عَلي المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلي الكَافِرِينَ} وجعل الجائر مردفا بالخرق من باب التتميم؛ لأن الثاني زاد مبالغة في معنى الأول؛ لأن الحفاء والغلظة نزيد في جوره وظلمه. قال امرؤ القيس: حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان فإن النار المشتعلة إذا لم يتصل بها دخان كانت أشد تقويا مما كان معها دخان. الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((يخفيه)) يجوز أن يكون حالا من فاعل ((نظر)) وان يكون صفة للمصدر علي حذف الراجع, أي بها, وهذا الحديث كالاستطراد لمعنى قوله في

3721 - وعن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك, وملك الملوك, قلوب الملوك في يدي, وإن العباد إذا أطاعوني, حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرحمة والرأفة. وإن العباد إن عصوني حولت قلوبهم بالسخطة والنقمة, فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء علي الملوك, ولكن أشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع كي أكفيكم ملوككم)) رواه أبو نعيم في ((الحلية)). [3721] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابق: ((إمام جائر خرق)) كما مر شرحه, وذكر أخيه للاستعطاف, يعني أن الأخوة تقتضي الأمن لاسيما أخوة الإسلام, والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. الحديث الحادي عشر عن أبي الدرداء: قوله: ((أنا الله)) علي أسلوب قوله: ((إما أبو النجم)) أي أنا المعروف المشهور بالوحدإنية أو المعبود و ((لا إله إلا أنا)) حال مؤكدة لمضمون هذه الجملة. و ((ملك الملوك)) بعد قوله: ((مالك الملوك)) من باب الترقي؛ فإن الملك أعظم من المالك وأقوى تصرفا منه؛ لأن المالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة, والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين. وقيل: المالك أجمع وأوسع لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء, ولا يقال إلا ملك الناس, والمعنى يملك جنس الملوك ويتصرف فيهم تصرف الملاك فيما يملكون. وقوله: ((قلوب الملوك في يدي)) استئناف علي سبيل البيان, ويدل علي التصرف التام فيهم. وقوله: ((إن العباد)) الواو فيه بمنزلة الفاء التفصيلية, وقد روي بالفاء. وقوله: ((فساموهم)) من سامه خسفا إذا أولاه ظلما, واصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى عذبوهم سوء العذاب, وأذاقهم أشد النكال. قوله: ((والنقمة)) الجوهري: نقمته إذا كرهته وانتقم الله منه أي عاقبه, والاسم منه النقمة والجمع النقمات, والنقم مثل كلمة وكلمات وكلم – انتهي كلامه. فالنقمة إذا حملت علي الكراهة تكون تقريرا لمعنى السخطة التي هي سبب للسوم، وإذا حملت علي المعاقبة تكون الفاء في ((فساموهم)) كما في قوله تعالي: {فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} و ((أكفيكم)) منصوب ب ((كي)) والمضاف من ((ملوككم)) محذوف أي شر ملوككم.

(1) باب ما علي الولاة من التيسير

(1) باب ما علي الولاة من التيسير الفصل الأول 3722 - عن أبي موسى, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره. قال: ((بشروا ولا تنفروا, ويسروا ولا تعسروا)) متفق عليه. 3723 - وعن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا)) متفق عليه. 3724 - وعن ابن أبي بردة, قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلي اليمن. فقال: ((يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ما علي الولاة من التيسير الفصل الأول الحديث الأول عن أبي موسى: قوله: ((بشروا ولا تنفروا)) من باب المقابلة المعنوية إذا الحقيقة أن يقال: بشروا ولا تنذروا, واستأنسوا ولا تنفروا, فجمع بينهما ليعم البشارة والنذارة الاستئناس والتنفير. الحديث الثاني والثالث عن أبي بردة: قوله: ((وتطاوعا)) يعني كونا متفقين في الحكم ولا تختلفا؛ فإن اختلافكما يؤدي إلي اختلاف أتباعكما, وحينئذ تقع العداوة والمحاربة بينهم. أقول: والأحاديث الثلاثة متعاضدة علي معنى عدم الحرج والتضييق في أمور الملة الحنيفة السمحة, كما قال تعالي: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} من حرج مفعول أول ((وفي الدين)) ثان, و ((من)) زيدت للاستغراق والتنكير في ((حرج)) للشيوع, و ((عليكم)) متعلق به, قدم للاختصاص, كأنه قيل: وسع الله عليكم دينكم يا أمة نبي الرحمة خاصة, ورفع عنكم الحرج ايا كان, فظهر من هذا ترجيح فعل الأولين من السلف الصالح علي رأي المتكلمين, فيما نقله الشيخ محي الدين النواوي في الروضة من الشرح الكبير, من أنه لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون, وإذا دونت المذاهب فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلي مذهب؟ , إن قلنا يلزمه الاجتهاد في طلب الأعم وغلب علي ظنه أن الثاني أعلم, ينبغي أن يجوز بل يجب, وإن خيرناه فينبغي أن يجوز أيضا, كما لو قلد في القبلة هذا أياما وهذا أياما. ولو قلد مجتهدا

3725 - وعن ابن عمر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة, فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) متفق عليه. 3726 - وعن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)) متفق عليه. 3727 - وعن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)). وفي رواية: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره, ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ في مسائل وآخر في مسائل أخرى واستوي المجتهدان عنده خيرناه. فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز, وكما أن الأعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الأوإني والثياب, له أن يقلد في الثياب واحدا وفي الأوإني آخر. لكن الأصوليون منعوا منه للمصلحة, وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحاق فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه أنه يفسق به, وعن أبي هريرة أنه لا يفسق, ويعض هذا الترجيح قول الإمام مالك رضي الله عنه حين أراد الرشيد الشخوص من المدينة إلي العراق, قال له: ينبغي أن تخرج معي؛ فإني عزمت أن أحمل الناس علي الموطأ كما حمل عثمان الناس علي القرآن، فقال: إما حمل الناس علي الموطأ فليس إلي ذلك سبيل؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا, فعند كل أهل مصر علم, وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((اختلاف أمتي رحمة)). الحديث الرابع إلي آخر الفصل عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((هذه غدرة فلان)) أي هذه علامة غدرة فلان فيشتهر بين الناس ويفتضح علي رءوس الأشهاد, وينصره قوله: ((يرفع له بقدر غدرة)) قوله: ((لكل غادر لواء)) ((قض)): الغدر في الأصل ترك الوفاء وهو شائع في أن يغتال الرجل من في عهده وأمنه, والمعنى أن الغادر ينصب وراءه لواء غدره يوم القيامة تشهيرا بالغدر وإخزاء وتفضيحا علي رءوس الأشهاد. وإنما قال: ((عند استه)) استخفافا بذكره واستهانة لأمره, أو لأنه لما كان أمارة الوفاء وحسن العهد رواء الوجه وبهاؤه, ناسب أن تكون علامة الغدر ولواءه فيما هو كالمقابل له وعنده. يريد ب ((أمير العامة)) من قدمه العوام وسفلات الناس, ولم يكن له استحقاق ولا لأهل الحل والعقد, من خواص الناس عليه اتفاق, وإنما عظم غدره وفضله علي سائر أنواع الغدر؛ لأن نقض عهد

الفصل الثاني 3728 - عن عمرو بن مرة انه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين, فاحتجب دون حاجتهم, وحلتهم, وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته, وخلته, وفقره)). فجعل معاوية رجلا علي حوائج الناس. رواه أبو داود, والترمذي. وفي رواية له ولأحمد: ((أغلق الله له أبواب السماء دون خلته, وحاجته, ومسكنته)). [3728] ـــــــــــــــــــــــــــــ الله ورسوله بتولي ما لا يستعده ومنعه عمن يستحقه, وعهود المسلمين, بالخروج علي إمامهم والتغلب علي نفوسهم وأموالهم. ((مح)): وفيه بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلي خلق كثير, والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر, وغدره للأمانة التي قلدها لرعيته والتزام القيام بها والمحافظة عليها, فمتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم والرفق بهم فقد غدر بعهده, ويحتمل أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام, فلا يشق عليهم العصا, ولا يتعرض لما يخاف حصول فتنة بسببه, والصحيح الأول. أقول: إذا جعل سياق الكلام للأمير وغدره, ويجعل الكلام السابق كالمقدمة والتمهيد لذكر غدر الإمام, كما يقتضيه هذا الباب كان ما قاله, والصحيح الأول مستقيما, وإذا جعل ذكر غدر الإمام كالاستطراد لا الأصالة لذكر الغدر العام كلن الاحتمال الثاني أرجح وهو الظاهر لعمومه فيدخل غدر الإمام فيه دخولا أوليا, ويؤيده الحديثان السابقان عليه وعلي هذا التفسير الإضافة في أمير عامة إضافة محضة, وعلي التفسير الثاني إضافة إلي الفاعل وهي غير محضة. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمرو: قوله: ((فاحتجب)) ((قض)): والمراد باحتجاب الوالي أن يمنع أرباب الحوائج والمهمات, أن يلجوا عليه فيعرضوها ويعسر عليهم إنهاؤها, واحتجاب الله تعالي أن لا يجيب دعوته ويخيب آماله. والفرق بين الحاجة والخلة والفقر, أن الحاجة ما يهتم به الإنسان وإن لم يبلغ حد الضرورة بحيث لو لم يحصل لاختل به أمره. والخلة ما كان كذلك, مأخوذ من الخلل, ولكن ربما لم يبلغ حد الاضطرار بحيث لو لم يوجد لامتنع التعيش, والفقر هو الاضطرار إلي ما لا يمكن التعيش دونه, مأخوذ من الفقار كأنه كسر فقاره؛ ولذلك فسر الفقير بالذي لا شيء له أصلا, واستعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر. ((مظ)): يعني من احتجب دون حاجة الناس وخلتهم فعل الله به يوم القيامة ما فعل بالمسلمين

الفصل الثالث 3729 - عن أبي الشماخ الأزدي, عن ابن عم له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, أنه أتى معاوية, فدخل عليه, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي من أمر الناس شيئا, ثم أغلق بابه دون المسلمين, أو المظلوم, أو ذي الحاجة؛ أغلق الله دونه أبواب رحمته عند حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه)). [3729] 3730 - وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] , أنه كان إذا بعث عماله شرط عليهم: أن لا تركبوا برذونا, ولا تأكلوا نقيا, ولا تلبسوا رقيقا, ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس, فإن فعلتم شيئا من ذلك؛ فقد حلت بكم العقوبة, ثم يشيعهم. رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3730] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ولعل هذا الوجه أعنى التقييد بيوم القيامة أرجح؛ لأن الترقي في قوله: ((حاجته وخلته وفقره)) في شأن الملوك والسلاطين يؤدون بسد باب فوزهم بمطالبهم ونجاح حوائجهم بالكلية, وليس ذلك إلا في العقبى , ونحوه قوله تعالي: {كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} تغليظا عليهم وتشديدا, ولما كان جزاء المقسطين يوم القيامة أن يكونوا علي منابر من نور علي يمين الرحمن كان جزاء القاسطين البعد, والاحتجاب عنهم والإقناط عن مباغيهم, ويؤيده قوله في الحديث الذي يليه: ((أفقر ما يكون)). الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي الشماخ: قوله: ((من أمر الناس)) التعريف فيه لاستغراق الجنس, فيدخل فيه المسلم والذمي والمعاهد. وقوله: ((دون المسلمين أو المظلوم أو ذي الحاجة)) تفصيل لهم، فيفهم أن المسلم لا يمنع مطلقا, سواء كان مظلوما أو ذا حاجة, وغيرهم لا يدخل إلا للتظلم أو لحاجة ماسة. وقوله: ((أفقر ما يكون)) قد مر أن ((ما)) مصدرية والوقت مقدر, و ((أفقر)) حال في المضاف إليه في ((فقرة)) وجاز لأنه أضاف المصدر إلي الفاعل, وليس هذا الافتقار الكلي في وقت من الأوقات إلا وقت القيامة كما سبق في الحديث السابق. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((برذونا)) المغرب: البرذون التركي من الخيل والجمع البراذين, وخلافها العراب والأنثى برذونة. أقول: إذا جعل علة النهي عن ركوب البراذين الخيلاء والتكبر كان النهي عن ركوب العراب أحرى وأولي.

(2) باب العمل في القضاء والخوف منه

(2) باب العمل في القضاء والخوف منه الفصل الأول 3731 - عن أبي بكرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)) متفق عليه. 3732 - وعن عبد الله بن عمرو, وأبي هريرة, قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب؛ فله أجران, وإذا حكم فاجتهد فأخطأ؛ فله أجر واحد)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((غب)): الخيلاء الكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه, ومنها يتأول لفظ الخيل لما قيل: إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة. انتهي كلامه. والنهي عن ركوب البراذين نهي عن التكبر, وعن أكل النقي ولبس الرقيق, عن التنعم والترف, والنهي عن الاحتجاب, نهي عن تقاعدهم من قضاء حوائج الناس, والاشتغال منهم بخويصة نفسه. والله اعلم. باب العمل في القضاء والخوف منه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((وهو غضبان)) ((مظ)): أي لا ينبغي للحاكم أن يحكم في حال الغضب؛ لأنه يمنعه من الاجتهاد والفكر, وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد والجوع والعطش والمرض, فإن حكم في هذه الأحوال نفذ حكمه مع الكراهة. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((فاجتهد)) عطف علي الشرط علي تأويل أراد أن يحكم فاجتهد. وقوله: ((فأصاب)) عطف علي ((فاجتهد)) و ((فله أجران)) جزاء الشرط. ((خط)): إنما يؤجر المخطئ علي اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر علي الخطأ, بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان جامعا لآلة الاجتهاد وعارفا بالأصول عالما بوجوه القياس. وأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف, ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر, ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة, واحد في الجنة, واثنان في النار)). وهذا إنما هو في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه, ولا مدخل فيها للتأويل؛ فإن من أخطأ فيها غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردودا. ((مح)): اختلفوا في أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ , وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالي, والآخر مخطئ, والأصح عند الشافعي وأصحابه الثاني؛ لأنه سمي مخطئا ولو كان مصيبا لم يسم مخطئا لأنه محمول علي من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه

الفصل الثاني 3733 - عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جعل قاضيا بين الناس؛ فقد ذبح بغير سكين)) رواه أحمد, والترمذي, وأبو داود, وابن ماجه. [3733] ـــــــــــــــــــــــــــــ الاجتهاد, ومن ذهب إلي الأول قال: قد جعل للمخطئ أجرا, فلولا إصابته لم يكن له اجر, وقال أيضا: ومن ليس بأهل حكم فلا يحل له الحكم ولا ينفذ, سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية فهو عاص في جميع أحكامه. أقول: ومن ذهب إلي الأول لم يقل: إن كلا منهما مصيب من كل الوجوه, بل إن احدهما مصيب من وجه كونه آتيا بالعبادة, كما قال الخطابي, ومخطئ من وجه كونه لم يوافق الحكم الذي عند الله تعالي, ويؤيده حكاية ابن الأثير في الكامل في حكم داود وسليمان عليهما السلام في الحرث الذي نفشت فيه الغنم عن بعض العلماء, في الآية دليل علي أن كل مجتهد في الأحكام الفرعية مصيب؛ فإن داود أخطأ الحكم الذي عند الله تعالي، وأصابه سليمان فقال تعالي: {وكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا} يريد أن هذه الخاتمة كالتكميل لما سبق من توهم النقص في شأن نبي الله داود عليه السلام جيء بها جبرانا له بذلك. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فقد ذبح بغير سكين)) يحتمل وجوها: الأول: ((قض)): يريد به القتل بغيره كالخنق والتفريق والإحراق والحبس عن الطعام والشراب؛ فإنه أصعب وأشد من القتل بالسكين؛ لما فيه من مزيد التعذيب وامتداد مدته. الثاني: أن الذبح إنما يكون في العرف بالسكين, فعدل به إلي غيره ليعلم أن الذي أراد به ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه. قال صاحب الجامع: وهو قريب من قوله: تحية بينهم ضرب وجيع جعل جنس الذبح نوعين: المتعارف وهو إزهاق الروح بآلة مخصوصة, وغير المتعارف وهو ما يخاف عليه من هلاك دينه. ((تو)): وشتان بين الذبحين؛ فإن الذبح بالسكين عناء ساعة, والآخر عناء عمر بله ما يعقبه من الندامة يوم القيامة.

3734 - وعن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتغى القضاء وسأل؛ وكل إلي نفسه, ومن أكره عليه؛ أنزل الله عليه ملكا يسدده)) رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [3734] 3735 - وعن بريدة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة, واثنان في النار. فأما الذي في الجنة؛ فرجل عرف الحق فقضى به, ورجل ـــــــــــــــــــــــــــــ الثالث: ((شف)) *:يمكن أن يقال: المراد منه أن من جعل قاضيا فينبغي أن [يموث] ** جميع دواعيه الخبيثة وشهواته الرديئة, فهو مذبوح بغير سكين. أقول: فعلي هذا القضاء مرغوب فيه ومحثوث عليه, وعلي الوجهين الأولين تحذير علي الحرص عليه, وتنبيه علي التوقي منه لما تضمن من الأخطار المردية والله أعلم. ((مظ)) ... :خطر القضاء كثير وضرره عظيم؛ لأنه قلما عدل القاضي بين الخصمين؛ لأن النفس مائلة إلي من تحبه أو تخدمه أو من له منصب يتوقع جاهه أو يخاف سلطته, وربما يميل إلي قبول الرشوة وهو الداء العضال. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من ابتغى القضاء وسأل)) إنما جمع بينهما إظهارا لحرصه؛ فإن النفس مائلة إلي حب الرياسة وطلب الترفع علي الناس, فمن منعها سلم من هذه الآفة, ومن اتبع هواها وسأل القضاء هلك, فلا سبيل إلي الشروع فيه إلا بالإكراه, وفي الإكراه قمع هوى النفس فحينئذ يسدد ويوفق لطريق الصواب. والي هذا نظر من قال: من جعل قاضيا فينبغي أن يموث جميع دواعيه الخبيثة وشهواته الرديئة. الحديث الثالث عن بريدة: قوله: ((ورجل عرف الحق)) قرينه لقوله: ((فأما الذي في الجنة)) وترك أداة التفصيل فيها ظاهرا؛ لئلا يسلكها في مسلك واحد لبعد ما بينهما. وإنما قلنا: ظاهرا: لأن التقدير: فأما الذي في النار فرجل كذا, نحوه قوله تعالي: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} أي فأما الراسخون فيقولون, وهو من فصيح الكلام وبليغه. والفاء في قوله: ((فرجل)) جواب ((أما)) وفي ((فقضى)) مسبب عن ((عرف)) والسبب والمسبب صفة ((رجل)) والفاء في ((فجار)) مثلها في ((فقضى)) لكن علي التعكيس, يعني عرفان الحق سبب لقضاء الحق, فعكس وجعله مسببا للجور كقوله تعالي: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب, وهو موجب للتصديق, وقوله: ((فهو في النار)) خبر ((رجل)) وهو جواب ((أما)) المقدرة علي أن المبتدأ نكرة موصوفة, و ((علي جهل)) حال من فاعل ((قضى)) أي قضى للناس جاهلا.

عرف الحق فجار في الحكم؛ فهو في النار، ورجل قضى للناس علي جهل, فهو في النار)) رواه أبو داود, وابن ماجه. [3735] 3736 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب قضاء المسلمين حتى يناله, ثم غلب عدله جوره؛ فله الجنة. ومن غلب جوره عدله؛ فله النار)). رواه أبو داود. [3736] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى يناله)) غاية الطلب و ((حتى)) للتدرج, فيفهم منه أنه بالغ في الطلب وبذل المجهود فيه ثم ناله, فمثل هذ موكول إلي نفسه فلا ينزل عليه ملك يسدده. وقال في الحديث السابق: ((من ابتغى القضاء وسأل وكل إلي نفسه)) فكيف الجمع بينهما؟ ويمكن أن يقال: إن الطالب رجلان رجل مؤيد بتأييد الله محدث ملهم, كالصحابة ومن بعدهم من التابعين, فإذا طلبه بحقه فمثل هذا لا يكون موكلا إلي نفسه وهو يقضي بالحق. وهذا هو الذي غلب عدله جوره, ورجل ليس كذلك وهو الذي وكل إلي نفسه فيغلب جوره عدله. ((تو)): سبق إلي فهم بعض من لا يتحقق القول, أن المراد من الغلبة أن يزيد ما عدل فيه علي ما جار, وهذا باطل. أقول: وفي تأويله وجوه أحدها: ((تو)): المراد من الغلبة في كلتا الصيغتين أن تمنعه إحداهما عن الأخرى فلا يجوز في حكمه ولا يعدل. وثإنيها: ((مظ)): من قوى عدله بحيث لا يدع أن يصدر منه جور. وثالثها: ((قض)): الإنسان خلق في بدء فطرته بحيث يقوى علي الخير والشر والعدل والجور, ثم إنه يعرض له دواع داخلة وأسباب خارجة, تتعارض وتتصارع فيجذبه هؤلاء مرة وهؤلاء أخرى, حتى يفضي التطارد بينهما إلي أن يغلب أحد الجزئين ويقهر الآخر فينقاد له بالكلية ويستقر ما يدعوه إليه, فالحاكم إن وفق له حتى غلب له أسباب العدل, وتمكن فيه دواعيه صار بشراشره مائلا إلي العدل, مشغوفا به متحاشيا عما ينافيه فنال به الجنة, وإن خذل بأن كان حاله علي خلاف ذلك, جار بين الناس ونال بشؤمه النار. أقول: قد سبق أن الطالب رجلان: محدث ملهم وغير ذلك, فالملهم من غلب لمة الملكية علي لمة الشيطإنية, فإذا عن له حكم وقضى بين الناس يستمر علي ذلك ويجري قضاؤه علي المنهج. وهو المراد من قوله: ((ثم غلب عدله جوره)) ((فثم)) فيه كما في قوله تعالي: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} المعنى ثم ثبتوا علي الإقرار ومقتضياته,

3737 - وعن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلي اليمن قال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟)). قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله؟)). قال: اجتهد رأي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي صدره, وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي به رسول الله)) رواه الترمذي, وأبو داود، والدارمي. [3737] ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن لم يغلب ملكيته علي شيطإنيته, إذا عن له حكم وتميل نفسه إلي أحد الخصمين لغرض من الأغراض الفاسدة, ويضم إليه لمة الشيطان يوقعه في مهواة سحيق. والواو في ((ومن غلب)) إنيب مناب ((ثم)) وليس للانسحاب بل للتقرير, أي من طلب قضاء المسلمين حتى يناله, ثم غلب جوره عدله – والله أعلم. الحديث الخامس عن معاذ: قوله: ((أجتهد رأيي)) المبالغة قائمة في جوهر اللفظ وبنائه؛ لأن الافتعال للاعتمال والسعي وبذل الوسع ونسبته إلي الرأي أيضا ترقية للمعنى. ((غب)): الجهد والجهد الطاقة والمشقة, والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة, يقال: جهدت رأيي واجتهدت أتعبته بالفكر. ((خط)): لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله علي غير أصل من كتاب أو سنة, بل أراد رد القضية إلي معنى الكتاب والسنة من طريق القياس. وفي هذا إثبات للحكم بالقياس. ((مظ)): أي إذا وجدت مشابهة بين المسألة التي أنا بصددها وبين المسألة التي جاء نص فيها من الكتاب والسنة, أحكم فيها بحكمها. مثاله: جاء النص بتحريم الربا في البر ولم يجئ نص في البطيخ. قاس الشافعي البطيخ علي البر لما وجد بينهما من علة المطعومية. وقاس أبو حنيفة الجص علي البر لما وجد بينهما من علة الكيلية, ((ولا آلو)) أي لا أقصر. قوله: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله)) استصواب منه صلى الله عليه وسلم لرأيه في استعمال رأيه وهذا معنى قولهم: كل مجتهد مصيب. ولا ارتاب أن المجتهد إذا كدح في التحري وأتعب القريحة في الاستنباط استحق أجرا لذلك, هذا بالنظر إلي أصل الاجتهاد, فإذا نظر إلي الجزئيات فلا يخلو من أن يصيب في مسألة من المسائل أو يخطئ فيها, فإذا أصابت ثبت له

3738 - عن علي [رضي الله عنه]؛ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن قاضيا, فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن, ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: ((إن الله سيهدي قلبك, ويثبت لسانك, إذا تقاضى إليك رجلان؛ فلا تقض للاول حتى تسمع كلام الآخر, فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)). قال: فما شككت في قضاء بعد. رواه الترمذي, وأبو داود, وابن ماجه. [3738] وسنذكر حديث أم سلمة: ((إنما اقضي بينكم برأيي)) في باب: ((الأقضية والشهادات)) إن شاء الله تعالي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أجران, أحدهما باعتبار أصل الرأي والآخر باعتبار الإصابة, وإذا أخطأ فله اجر واحد باعتبار الأصل, ولا شيء عليه باعتبار الخطأ. الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ولا علم لي بالقضاء)) ((مظ)): لم يرد به نفي العلم مطلقا, وإنما أراد انه لم يجرب سماع المرافعة بين الخصماء, وكيفية دفع كلام كل واحد من الخصمين ومكرهما. أقول: السين في قوله: ((سيهدي قلبك)) كما في قوله تعالي: {إني ذَاهِبٌ إلي رَبِّي سَيَهْدِينِ} فإن السين فيهما صحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه. ولا شك أنه رضي الله عنه حين بعثه قاضيا كلن عالما بالكتاب والسنة كمعاذ رضي الله عنه. وقوله: ((أنا حديث السن)) اعتذار من استعمال الفكر واجتهاد الرأي من قلة تجاربه؛ ولذلك أجاب بقوله: ((سيهدي قلبك)) أي يرشدك إلي طريق استنباط القياس بالرأي الذي محله قلبك, فيشرح صدرك ويثبت لسانك, فلا تقضي إلا بالحق, ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) فإنك [لم] * تتمكن من الاستنباط وتمييز الحق من الباطل بسماع كلام أحد الخصمين. فقوله: ((إذا تقاضى إليك رجلان)) مقدمة للإرشاد وأنموذج منه. ((خط)): فيه دليل علي أن الحاكم لا يقضي علي غائب وذلك أنه صلى الله عليه وسلم إذا منعه من أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران, حتى يسمع كلام الآخر ففي الغائب أولي بالمنع. وذلك لإمكان أن يكون مع الغائب حجة تبطل دعوى الآخر وتدحض حجته. ((شف)): لعل مراد الخطابي بهذا الغائب عن مجلس الحكم فحسب, دون الغائب إلي مسافة القصر؛ فإن القضاء علي الغائب إلي مسافة القصر جائز عند الشافعي.

الفصل الثالث 3739 - عن عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من حاكم يحكم بين الناس, إلا جاء يوم القيامة وملك آخذ بقفاه, ثم يرفع رأسه إلي السماء, فإن قال: ألقه ألقاه في مهواة أربعين خريفا)) رواه أحمد, وابن ماجه, والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [3739] 3740 - وعن عائشة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ((ليأتين علي القاضي العدل يوم القيامة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط)) رواه أحمد. [3740] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((ما من حاكم)) هو نكرة في سياق النفي, و ((من)) زائدة للاستغراق فيشمل العادل والظالم. وقوله: ((وملك آخذ بقفاه ثم يرفع رأسه)) يدل علي كونه مقهورا في يده كمن رفع رأسه الغل مقحما, قال تعالي: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إلي الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} وقوله: ((فإن قال: ألقه)) الفاء فيه للتفصيل, و ((إن)) الشرطية تدل علي أن غيره لا يقال في حقه ذلك, بل يكون حكمه عكس ذلك, فيقال في حقه: أدخله الجنة. فعلي هذا يتفق هذا الحديث وحديث أبي أمامة في الفصل الثالث من باب الإمارة. وهو قوله: ((ما من رجل يلي عشرة فما فوق ذلك, إلا أتاه الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلي عنقه, فكه بره أو أوبقه إثمه)). قوله: ((أربعين)) مجرور المحل صفة ((مهواة)) أي مهواة عميق, فكنى عنه إذ لم يرد التحديد بل المبالغة في العمق. والمراد بالخريف السنة. ((نه)): الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء, ويريد به أربعين سنة, لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يوم القيامة)) قيل: هو الفاعل ((ليأتين)) و ((يتمنى)) حال من المجرور. والأوجه أن يكون حالا من الفاعل. والراجع محذوف أي يتمنى

3741 - وعن عبد الله بن أبي أوفي, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وفي رواية: ((فإذا جار وكله إلي نفسه)). [3740] 3742 - وعن سعيد بن المسيب: أن مسلما ويهوديا اختصما إلي عمر, فرأي الحق لليهودي, فقضى له عمر به. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق, فضربه عمر بالدرة, وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة انه ليس قاض يقضي بالحق, إلا كان عن يمينه ملك, وعن شماله ملك, يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق, فإذا ترك الحق؛ عرجا وتركاه. رواه مالك. [3742] 3743 - وعن ابن موهب: أن عثمان بن عفان [رضي الله عنه] , قال لابن عمر: اقض بين الناس. قال: أوتعافيني؟ يا أمير المؤمنين! قال: وما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: لأتي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان قاضيا فقضى بالعدل؛ فبالحري أن ينقلب منه كفافا)). فما راجعه بعد ذلك. رواه الترمذي. [3743]. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه. ويجوز أن يكون يوم القيامة منصوبا علي الظرف, أي ليأتين عليه يوم القيامة من البلاء ما يتمنى أنه لم يقض, فإذا الفاعل يتمنى بتقدير ((أن)) وقد عبر عن السبب بالمسبب؛ لأن البلاء سبب التمني. والتقيد بالعادل والثمرة تتميم لمعنى المبالغة مما نزل به البلاء. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((وكله)) الجوهري: وكله إلي نفسه وكلا ووكولا, وهذا الأمر موكول إلي رأيك, وفرس واكل, يتكل علي صاحبه في العدو, وواكلت فلانا موكلا إذا اتكلت عليه واتكل هو عليك. الحديث الرابع عن سعيد: قوله: ((فضربه عمر بالدرة)) فإن قلت: لم ضربه وليس بمستحق به لأنه صدقه, وكيف يطابق جواب اليهودي: ((والله إنا نجد في التوراة)) إلي آخره لقوله: ((وما يدريك))؟. قلت: لم يضربه ضربا مبرحا للتأديب بل لإصابته كما يجري بين الناس علي سبيل المطايبة. وتطبيق الجواب أن عمر رضي الله عنه لو مال عن الحق لقضى للمسلم علي اليهودي, فلم يكن مسددا فلما قضى له عرف بتشديده وثباته وعدم ميله من غير تغيير أنه موفق مسدد. الحديث الخامس عن ابن موهب: قوله: ((أوتعافيني)) أي أترحم علي وتعافيني؟ وهو استعطاف علي سبيل الدعاء, و ((فقضى بالعدل)) عطف علي الشرط, وقوله: ((فبالحري أن ينقلب))

(3) باب رزق الولاة وهداياهم

3744 - وفي رواية رزين, عن نافع, أن ابن عمر قال لعثمان: يا أمير المؤمنين! لا أقضي بين رجلين. قال: فإن أباك كان يقضي. فقال: إن أبي لو أشكل عليه شيء سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو أشكل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سأل جبريل عليه السلام, وإني لا أجد من أسأله, وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من عاذ بالله, فقد عاذ بعظيم)) وسمعته يقول: ((من عاذ بالله؛ فأعيذوه)). وإني أعوذ بالله أن تجعلني قاضيا فأعفاه, وقال: لا تخبر أحد. [3744] (3) باب رزق الولاة وهداياهم الفصل الأول 3745 - عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أعطيكم ولا أمنعكم, أنا قاسم أضع حيث أمرت)) رواه البخاري ـــــــــــــــــــــــــــــ جوابه. يقال: فلان حري بكذا أو حر بكذا بالحري أن يكون كذا، أي جدير وخليق. قيل: ((حري)) إن كان اسم فاعل يكون مبتدأ خبره ((أن ينقلب)) والباء زائدة نحو بحسبك درهم, أي الخليق والجدير كونه منقلبا منه كفانا. وإن جعلته مصدرا, فهو خبر والمبتدأ ما بعده, والباء متعلق بمحذوف أي كونه منقلبا ثابت بالاستحقاق. قوله ك ((كفافا)) ((مظ)): الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه, وهو نصب علي الحال. وقيل: أراد مكفوفا عنه شره. وقيل: معناه أن لا ينال من القضاء ولا ينال منه أي يكف هو من القضاء ويكف القضاء عنه. أقول: يعني أن من تولي القضاء واجتهد في تحري الحق, واستفرغ جهده فيه, حقيق أن لا يثاب ولا يعاقب, فإذا كان كذلك فأي فائدة في توليه؟ وفي معناه أنشد: علي أنني راض بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا علي ولا ليا وقوله: ((فما راجعه)) أي فما رد عليه الكلام وما رجع إلي ما طلب منه. والله أعلم. باب رزق الولاة وهداياهم وهو من إضافة المصدر إلي الفاعل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقا)) والرزق ما يعطى الأجناد من بيت المال. المغرب: الفرق بين الرزق والعطاء أن العطاء ما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين, والرزق ما يخرج له كل شهر. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا قاسم)) جملة مبينة للكلام السابق.

3746 - وعن خولة الأنصارية, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه معنى الاختصاص لتقديم الفاعل المعنوي كقولك: أنا كفيتك مهمتك. ولو لم يذهب إلي الاختصاص لم يستقم أن يكون بيانا؛ لأن المعنى ما أعطيتكم ما أعطيتكم, وما أمنعكم ما منعتكم, وإنما المعطي والمانع هو الله, وإنما أنا قاسم أقسم عليكم بأمر الله, وأضع حيث أمرت بيانا للبيان. وفيه حجة علي من قال: إن مثل: (إنما أنا عارف) لا يفيد الاختصاص؛ لأنه ليس بفعل مثل: أنا عرفت. الحديث الثاني عن خولة: قوله: ((يتخوضون)) ((غب)): الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه, ويستعار في الأمور وأكثر ما ورد فيما يذم الشروع فيه, نحو قوله تعالي: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. قوله: ((فلهم النار)) خبر ((إن)) وأدخل الفاء لأن اسمها نكرة موصوفة. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لقد علم قومي)) قيل: أراد ب (قومي) قريشا, والأظهر أنه أراد به المسلمين لقوله: ((ويحترف للمسلمين فيه)) واللام في ((لقد علم)) قسمية أقسم أنه كان مشتهرا بين المسلمين في كونه كسوبا ومحصلا لمؤنة أهله وعياله بحرفة التجارة, ولم يكن عاجزا عن ذلك, وهذا تمهيد واعتذار منه في أخذه قدر ما يحتاج إليه أهله من بيت المال؛ ومن ثمة أتى بالفاء في قوله: ((فيأكل)) لأنها فاء النتيجة. ((تو)): آل أبي بكر أهله وعياله. ويجوز أن يراد نفسه, وفي نسق الكلام من الدليل علي أنه أراد بآل أبي بكر نفسه, وهو قوله: ((ويحترف للمسلمين)) أي يكتسب بالتصرف في أحوال المسلمين بدل ما يتناول ذلك. أقول: أراد بنسق الكلام أن ((يحترف)) مسند إلي ضمير ((أبي بكر)) وهو عطف علي ((فسيأكل)) فإذا أسند إلي الأهل تنافر وانخرم النظم. ((قض)): وآل أبي بكر أهله عدل عن التكلم إلي الغيبة علي طريقة الالتفات. وقيل: نفسه والآل مقتحم لقوله: ((ويحترف)) وليس بشيء بل المعنى إني كنت أكسب لهم فيأكلونه, والآن اكسب للمسلمين بالتصرف في أموالهم, والسعي في مصالحهم ونظر أحوالهم, فسيأكلون من مالهم المعد لمصالحهم, وهو مال بيت المال. أقول: لابد في الانتقال من التكلم إلي الغيبة علي ما سماه التفاتا من فائدة. فقوله: ((آل أبي بكر)) من باب التجريد, جرد من نفسه شخصا متصفا بصفة أبي بكر من كونه كسوبا محصلا لمؤنة الأهل بالتجارة, ثم تكفل بهذا الأمر العظيم من تولي أمور المسلمين وامتنع من الاكتساب

3747 - وعن عائشة, قالت لما استخلف أبو بكر [رضي الله عنه] قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي, وشغلت بأمر المسلمين, فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال, ويحترف للمسلمين فيه. رواه البخاري. الفصل الثاني 3748 - عن بريدة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: من استعملناه علي عمل, فرزقناه رزقا, فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود. [3748] ـــــــــــــــــــــــــــــ لمؤنة أهله وجعله غيره, وهو هو. وفيه إشعار بالعلية وأن من اتصف بتلك الصفات حقيق بأن يأكل هو وأهله من بيت المال, وإذا كان كذلك فكيف يخالف المعنى الذي ذهب إليه الشيخ ونحوه في إطلاق آل مقحما كقوله تعالي: {وبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هَارُونَ} الكشاف ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون, و ((آل)) مقحم لتفخيم شأنهما. ومثله في الالتفات علي سبيل التجريد, {فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} بعد قوله: {إني رَسُولُ اللَّهِ} الكشاف: عدل عن الضمير إلي الاسم الظاهر ليجرى عليه الصفات التي أجريت عليه؛ ليعلم أن الذي وجب الإيمان به وإتباعه هو هذا الشخص المستقل, بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان أنا أو غيري إظهارا للنصفة وتفاديا عن العصبية لنفسه؛ إذ لو قال: ((آمنوا بالله وبي)) لم يقع هذا الموقع. وخص الأكل من بين المنافع بالذكر لكونه أعظمها وأهمها. ((تو)): فرض رضي الله عنه لنفسه مدين من طعام وإداما زيتا أو نحوه, وإزار ورداء في الصيف وفروة أو جبة في الشتاء, وظهر بعير لحاجته في السفر والحضر. قوله: ((ويحترف للمسلمين)) فيه الضمير المجرور راجع إلي معنى قوله: ((فسيأكل)) أي فيما أكل من المال عوضا له وجيء بالحرفة مشاكلة لوقوعه في صحبته وقوله: ((إن حرفتي)) ((نه)): المراد باحترافه للمسلمين نظره في أمورهم وتثمير مكاسبهم وأرزاقهم. والحرفة الصناعة وجهة الكسب, وحريف الرجل معامله في حرفته. ((مظ)): وفيه بيان أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر ما يستحقه لعمالته, إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة. الفصل الثاني الحديث الأول عن بريدة: قوله: ((فما أخذ بعد ذلك)) جزاء الشرط, و ((ما)) موصولة والعائد

3749 - وعن عمر [رضي الله عنه] , قال: عملت علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعملني. رواه أبو داود. [3749] 3750 - وعن معاذ, قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن, فلما سرت, أرسل في أثري, فرددت. فقال: ((أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني, فإنه غلول, ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة, لهذا دعوتك فامض لعملك)) رواه الترمذي. [3750] 3751 - عن المستورد بن شداد, قا: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة, فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما, فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا)). وفي رواية: ((من أتخذ غير ذلك فهو غال)). رواه أبو داود. [3751] ـــــــــــــــــــــــــــــ محذوف, فهو خبره وجيء بالفاء لتضمنه معنى الشرط. ويجوز أن نكون موصوفة. و ((الغلول)) الخيانة في الغنيمة وفي مال الفيء. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فعملني)) ((تو)): أي أعطإني عمالتي وأجرة عملي وكذا أعملني. وقد يكون عملني بمعنى ولإني وأمرني. أقول: الوجه الأول إذا التقدير عملت في أمور المسلمين ومصالحهم عملا فأعطإني عمالتي, والثاني لا يناسب الباب واللفظ ينبو عنه. الحديث الثالث عن معاذ: قوله: ((في اثري)) ((تو)): أثر الشيء حصول ما يدل علي وجوده, ومن هذا يقال للطريق المستدل به علي من تقدم أثار. قوله: ((لا تصيبن)) فيه إضمار تقديره بعثت إليك لأوصيك فأقول لك: لا تصيبن. قوله: ((يأت بما غل)) أراد بما غل ما ذكره في قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته بعير له رغاء)) *. الحديث الرابع عن المستورد: قوله: ((فليكتسب زوجة)) ((مظ)): أي يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من مال بيت المال قدر مهر زوجته ونفقتها وكسوتها, وكذلك ما لابد منه من غير إسراف وتنعيم, فإن اخذ أكثر ما يحتاج إليه ضرورة فهو حرام. أقول: وإنما وضع الاكتساب موضع العمالة والأجرة حسما لطمعه, وانه فاز بحظ جزيل يكتسب منه أنواع المنافع فقيل:

3752 - وعن عدي بن عميرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يأيها الناس من عمل منكم لنا عمل, فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غال, يأتي به يوم القيامة)). فقام رجل من الأنصار, فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك. قال: ((وما ذاك؟)) قال: سمعتك تقول كذا وكذا قال: ((وأنا أقول ذلك, من استعملناه علي عمل؛ فليأت بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذه, وما نهي عنه انتهي)) رواه مسلم, رواه داود, واللفط له. [3752] 3753 - وعن عبد الله بن عمرو, قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. رواه أبو داود, وابن ماجه. [3753] ـــــــــــــــــــــــــــــ ليس كسبك إلا هذا. ويفهم من تقييد القرينتين الأخيرتين بالشرط أن القرينة الأولي مطلقة, فإن كانت له زوجات يجوز أن يضيف إليها واحدة أو استغني بتقييد الأخيرتين عن تقييد القرينة الأولي, فهي مقيدة أيضا وفائدة ذكرها أن له مؤونة زوجة واحدة. الحديث الخامس عن عدي: قوله: ((فما فوقه)) الفاء للتعقيب الذي يفيد الترقي, أي فوق المخيط في الحقارة نحو قوله تعالي: {إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} ((واقبل عني عملك)) أي أقلني منه ((وما ذاك)) إشارة إلي ما في الذهن, أي ما الذي حملك علي هذا القول. والإشارة بقوله: ((ذاك)) إلي ما سبق من قوله: ((من عمل منكم)) الحديث: ((ومن استعملنا)) إلي آخره تكرير للمعنى ومزيد للبيان, يعني أنا أقول ذلك ولا أرجع عنه, فمن استطاع أن يعمل فليعمل ومن لم يستطع فليترك. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((الراشي والمرتشي)) ((فا)): الرشوة الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة, من الرشاء وقد رشاه رشوا فارتشى, كما يقال: كساه فاكتسى. وقيل: هو من قولهم: رشا الفرخ إذا مد عنقه إلي أمه لتزقه. ((خط)): الراشي المعطي والمرتشي الآخذ, وإنما تلحقهما العقوبة إذا استويا في القصد والإرادة فرشا المعطي لينال به باطلا ويتوصل به إلي الظلم. فأما إذا أعطى ليتوصل به إلي حق أو ليدفع عن نفسه مضرة فإنه غير داخل في هذا الوعيد. ((تو)): وروي فيه أن ابن مسعود أخذ في شيء بأرض الحبشة, فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.

3754 - ورواه الترمذي عنه وعن أبي هريرة. [3754] 3755 - ورواه أحمد, والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن ثوبان وزاد: ((والرائش)) يعني الذي يمشي بينهما. [3755] 3756 - وعن عمرو بن العاص, قال: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن اجمع عليك سلاحك وثيابك, ثم ائتني)) قال: فأتيته وهو يتوضأ. فقال: ((يا عمرو! إني أرسلت إليك لأبعثك في وجه يسلمك الله ويغنمك, وأزغب لك زغبة من المال)). فقلت: يا رسول الله ما كانت هجرتي للمال, وما كانت إلا لله ولرسوله. قال: ((نعما بالمال الصالح للرجل الصالح)). رواه في (شرح السنة)). وروى أحمد نحوه. وفي روايته: قال: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)). [3756] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عمرو: قوله: ((أن اجمع عليك سلاحك)) ((أن)) يحتمل أن تكون مفسرة لما في ((أرسل)) من معنى القول, ومصدرية, أي أرسل إلي لجمع سلاحي. ويقال: زعبت زعبة من المال – بالزاي المنقوطة والعين المهملة – أي رفعت لك قطعة منه, والزعب بفتح الزاي وضمها الدفعة من المال. وقوله: ((نعما بالمال)) ((ما)) في ((نعما)) غير موصولة ولا موصوفة. قالابن جنى: ((ما)) في ((نعما)) منصوبة لا غير, والتقدير نعم شيئا من المال الصالح. والباء زائدة مثلها في قوله: ((كفي بالله)) وإنما قلنا: أنها ليست بموصولة ولا موصوفة لتعين الأول بالصلة والثانية بالصفة. والمراد الإجمال ثم التبيين, فما هنا بمنزلة تعريف الجنس في نعم الرجل؛ فإنه إذا قرع السمع أولا مجملا ذهب بالسامع كل مذهب. ثم إذا بين تمكن من ذهنه فضل تمكن, واخذ بمجامع القلب. وفي هذا مدح عظيم للمال الصالح, والصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال, وقوبل تارة في القرآن بالفساد وتارة بالسيئة, قال تعالي: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا} وقال: {ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا} وخلاصته أن الشيء إذا كان منتفعا به كان صالحا, والفساد بخلافه, فالرجل الصالح من علم الخير وعمل به, والمال الصالح ما يكسب من الحلال وينفق في وجوه الخيرات.

(4) باب الأقضية والشهادات

الفصل الثالث 3757 - عن أبي أمامة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من شفع لأحد شفاعة, فأهدى له هدية عليها, فقبلها؛ فقد أتى بابا عظيما من أبوبا الربا)) رواه أبو داود. [3757] (4) باب الأقضية والشهادات الفصل الأول 3758 - عن ابن عباس [رضي الله عنهما] , عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم, لادعى ناس دماء رجال وأموالهم, ولكن اليمين علي المدعي عليه)). رواه مسلم. وفي ((شرحه للنووي)) أنه قال: وجاء في رواية ((البيهقي)) بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس مرفوعا: ((لكن البينة علي المدعي, واليمين علي من أنكر)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث ظاهر باب الأقضية والشهادات الأقضية وهي ما يرفع إلي الحاكم. قال الأزهري: القضاء في الأصل إحكام الشيء والفراغ منه. فيكون القضاء أمضاء الحكم. ومنه قوله تعالي: {} ويسمى الحاكم قاضيا؛ لأنه يمضي الأحكام ويحكمها ويكون قضى بمعمى أوجب, فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم علي من يجب عليه, وسمي حاكما لمنعه الظالم من الظلم. ومنه حكمة الدابة لمنعها من ركوبها رأسها, وتسمى الحكمة حكمة لمنعها النفس من هواها. والشهادات: ((غب)): الشهود والشهادة والمشاهدة الحضور مع المشاهدة أما بالبصر أو بالبصيرة, وشهدت حار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة, ويقال: أشهد بكذا ولا يرضي من الشاهد أن يقول: أعلم, بل يحتاج أن يقول: أشهد. المغرب: الشهادة الإخبارية بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان, يقال: شهد عند الحاكم لفلان علي فلان بكذا شهادة فهو شاهد وهم شهود وأشهاد وهو شهيد وهم شهداء. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((كن البينة)) المغرب: البينة الحجة

3759 - وعن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف علي يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم, لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان)). فأنزل الله تصديق ذلك: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إلي آخر الآية. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيعلة من البينونة أو البيان. ((مح)): هذا الحديث قاعدة شريفة كلية من قواعد إحكام الشرع, ففيه لأنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه, بل يحتاج إلي بينة أو تصديق المدعى عليه, فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك, وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة من كونه لا يعطى بمجرد دعواه؛ لأنه لو أعطي بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح, ولا يتمكن المدعى عليه من صون ماله ودمه. وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور علي أن اليمين تتوجه علي المدعى عليه, سواء كان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا. وقال مالك وأصحابه والفقهاء السبعة وفقهاء المدينة: إن اليمين لا تتوجه إلا علي من بينه وبينه الخلطة؛ لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد؛ فاشترطت الخلطة دفعا لهذه المفسدة. واختلفوا في تفسير الخلطة فقيل: هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو شاهدين. وقيل: تكفي الشبه. وقيل: هي أن تليق به الدعوى بمثلها علي مثله. ودليل الجمهور هذا الحديث, ولا أصل لتلك الشرطة في كتاب ولا سنة ولا إجماع. الحديث الثاني عن ابن مسعود: قوله: ((علي يمين)) ((نه)): الحلف هو اليمين فخالف بين اللفظين تأكيد لعقده, وهذا أولي مما ذهب إليه الشيخ التوربشتي حيث قال: أقام اليمين مقام المحلوف عليه؛ لما جاء في حديث عبد الله بن إنيس في الفصل الثاني ((وما حلف حالف بالله يمين صبر)). ((مح)): يمين صبر بالإضافة. ((نه)): أي ألزم بها وحبس عليها, وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم. وقيل لها: مصبورة, وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور؛ لأنه إنما صبر من اجلها أي حبس, فوصفت بالصبر وأضيف إليه مجازا. قوله: ((فاجر)) فيه أن الكذب في الشهادة نوع من أنواع الفجور و ((يقتطع بها)) حال من الراجع إلي المبتدأ في ((فاجر)) فهي حال مؤكدة تصويرا لشناعتها, وهو المعنى باليمين الغموس, وذلك لأن من ارتكب هذه الجريمة قد بلغ في الاعتداء الغاية القصوى, حيث انتهك حرمة بعد حرمة إحداها: اقتطاع المال لم يكن له ذلك. والثانية: الاستحقاق بحرمة وجب عليه رعايتها, وهي حرمة الإسلام وحق الأخوة. والثالثة: الإقدام علي اليمين الفاجرة [وقوله: ((وهو عليه غضبان)) أي ينتقم منه لأن الغضب إذا أطلق علي الله كان محمولا علي الغاية.

3760 - وعن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ فقد اوجب الله له النار, وحرم الله عليه الجنة)). فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبا من أراك)). رواه مسلم. 3761 - وعن أم سلمة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا بشر, وإنكم تختصمون إلي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فاقضي له علي نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه؛ فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي أمامة:] * قوله: ((من اقتطع)) ((تو)): أي ذهب بطائفة من ماله ففصلها عنه, قال: اقتطعت من الشيء قطعته. ((مح)): فيدخل في قوله: ((حق امرئ مسلم)) أن من حلف علي غير مال كجلد الميتة والسرجين, وير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها, وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحق القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك. قوله: ((وحرم عليه الجنة)) يدل علي التأبيد بعد احتمال الخروج من قوله: ((أوجب الله عليه النار)). قيل: في تأويله وجهان أحدهما: أنه محمول علي المستحيل لذلك وإذا مات عليه. وثإنيهما: أنه قد استحق النار ويجوز العفو عنه, وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين. وأما تقييده صلى الله عليه وسلم بالمسلم فلا يدل علي عدم تحريم حق الذمي, بل لتفظيع شأن مرتكب هذه الفظيعة, كما مر؛ لأن أخوة الإسلام تقتضي القيام بحقه ومراعاة جانبه في سائر ما له وعليه. وهذه الفائدة كافية في التقييد فلا يذهب إلي العمل بالمفهوم. الحديث الرابع عن أم سلمة: قوله: ((ألحن)) ((غب)): اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه, إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم, وذلك أكثر استعمالا, وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلي تعريض وفحوى, وهو محمود من حيث البلاغة, وإياه قصد الشاعر بقوله: وخير الحديث ما كان لحنا وكذا قوله تعالي: {ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} ومنه قيل للفطن لما يقتضي فحوى الكلام: لحن. ومنه الحديث ((ألحن بحجته)) أي ألسن وأفصح وأبين كلاما وأقدر علي الحجة.

((مح)): وإنما ابتدأ في الحديث بقوله: ((إنما أنا بشر)) تنبيها علي أن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان, وان الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها, وأنه خلق خلقا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء. ومن الجائز أن يسمع الشيء فيسبق إلي وهمه أنه صدق, ويكون الأمر بخلاف ذلك, بمعنى: إني إن تركت علي ما جبلت عليه من القضايا البشرية, ولم أأيد بالوحي السماوي طرأ علي منها ما يطرأ علي سائر البشر. فإن قيل: أو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مصونا في أقواله وأفعاله معصوما علي سائر أحواله؟ قلت: إن العصمة تتحقق فيما يعد عليه دينا ويقصد قصدا, وما نحن فيه فليس بداخل في جملته؛ فإن الله تعالي لم يكلفه فيما لم ينزل عليه إلا ما كلف غيره وهو الاجتهاد في الإصابة. يدل عليه ما روى عنه في الحديث الذي ترويه أم سلمة من غير هذا الوجه, وهو في حسان هذا الباب ((إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي)). ((مح)) فيه تنبيه علي حاله البشرية وان البشر لا يعلم من الغيب وبواطن الأمور شيئا, إلا أن يطلعه الله علي شيء من ذلك, وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز علي غيره, وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولي السرائر, فيحكم بالبينة واليمين مع إمكان خلاف الظاهر. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس – إلي قوله – وحسابهم علي الله)) ولو شاء الله لأطلعه صلى الله عليه وسلم علي باطن أمر الخصمين, فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلي شهادة أو يمين, ولكن لما أمر الله تعالي أمته بإتباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه, أجرى عليه حكمهم من عدم الاطلاع علي باطن الأمور؛ ليكون للأمة أسوة به في ذلك؛ وتطييبا لنفوسهم في الانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلي الباطن. فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه يقع منه صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن, وقد اتفق الأصوليون علي أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر علي الخطأ في الأحكام. فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصول؛ لأن مرادهم فينا حكم فيه باجتهاده فهل يجوز أن يقع فيه خطأ؟ فيه خلاف, الأكثرون علي جوازه. وأما الذي في الحديث فليس من الاجتهاد في الشيء؛ لأنه حكم بالبينة واليمين, فلو وقع منه ما يخالف الباطن لا يسمى الحكم خطأ, بل الحكم صحيح بناء علي ما استقر به التكليف, وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك, فالتقصير منهما, وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه, بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد, وفيه دلالة علي أن حكم الحاكم لا يحل حراما, فإذا شهد شاهد زور لإنسان بمال, فحكم به الحاكم له, لم يحل للمحكوم له ذلك المال, ولو شهد عليه بقتل لم يحل للوالي قتله مع علمه بكذبهما, وإن شهدا علي أنه طلق امرأته, لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها. انتهي كلامه. وإليه

3762 - وعن عائشة [رضي الله عنها] , قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغض الرجال إلي الله الألد الخصم)) متفق عليه. 3763 - وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإشارة بقوله: ((فمن قضيت له بشيء)) إلي أخره, يعني إن قضيت له يظاهر يخالف الباطن فهو حرام, فلا يأخذن ما قضيت له؛ لأنه اخذ ما يؤول به إلي قطعة من النار. فوضع المسبب – وهو قطعة من النار – موضع السبب وهو ما حكم به له. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الألد الخصم)) تو)): الألد الشديد الخصومة, والأصل في الألد الشديد اللديد, وهو صفحة العنق. وذلك لما لا يمكن صرفه عما يريده, والخصم المختص بالخصومة, فالأول منبئ عن الشدة, والثاني عن الكثرة. أقول: هذا إذا قيد الألد بالخصومة فرارا عن التكرار وإذا ترك علي أصله يكون المعنى أنه شديد في نفسه بليغ في خصومته, فلا يلزم التكرار, وعليه قوله تعالي: {وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} الكشاف: أي شديد الجدال. وإضافة ((الألد)) بمعنى ((في)) أو جعل الخصام ألد علي المبالغة. الحديث السادس عن ابن عباس: قوله: ((بيمين وشاهد)) ((مظ)): يعني كان للمدعي شاهد واحد, فأمره رسول الله ص أن يحلف علي ما يدعيه بدلا من الشاهد الآخر, فلما حلف قضى واحد, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ادعاه. وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الحكم بالشاهد واليمين, بل لابد من شاهدين, وخلافهم في الأموال. فأما إذا كانت الدعوى في غير الأموال, فلا يقبل شاهد ويمين بالاتفاق. ((تو)): وجه هذا الحديث عند من لا يرى القضاء باليمين والشاهد الواحد علي المدعي عليه, أنه يحتمل أن يكون قضى بيمين المدعى عليه بعد أن أقام المدعي شاهدا واحدا, وعجز عن أن يتم البينة وذلك لأن الصحابي لم يبين في حديثه صفة القضاء, وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بطرق مرضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد, وهذه الرواية تقوي ذلك الاحتمال, فلا يترك مع وجود ذلك الاحتمال ما ورد به التنزيل, قال الله تعالي: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ} فلما ورد التوفيق بذلك, لم يروا أن يحكموا بأقل من ذلك إلا بدليل مقطوع به.

3764 - وعن علقمة بن وائل, عن أبيه, قال: جاء رجل من حضرموت, ورجل من كندة إلي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني علي أرض لي فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي, ليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ واستدلوا أيضا بحديث علقمة بن وائل الذي يتلو حديث ابن عباس هذا. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألك بينة)) قال: لا. قال: ((فلك يمينه)). فلما أعاد عليه القول, قال: ((ليس لك منه إلا ذلك)). أقول: قوله: إلا بدليل مقطوع به يقال له: هل يجاء بأقطع من هذا الحديث صحة ونصا, أما الصحة فقد رواه مسلم في صحيحة. قال الشيخ محي الدين: وجاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة من رواية علي وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعمارة بن حزم وسعد بن عبادة وعبد الله ابن عمرو والمغيرة رضوان الله عليهم أجمعين, وهو حجة جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار. وأما ظاهر النص فإن ((قضى)) يستعمل بالباء واللام وعلي, والباء للسببية, فإذا قلت: قضى للمدعي علي المدعى عليه بسبب البينة واليمين استقام وصح. ولو قلت: قضى للمدعى عليه بسبب يمينه وشاهد للمدعي أبعدت المرمى وركبت شططا, ولكن أولائك الرامية في حذف البان الحائزة بصب السبق في حلبة الميدان, السابقون والمصلون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أصابوا المخبر وركبوا متن الصواب, فعلي هذا أنى يكون للاحتمال فيه مجال. وأما قوله: ((ألك بينة)) التنكير فيه للشيوع أي ألك بينة ما, فقوله: ((لا)) يريد به أن ليس لي بينة أصلا, فكيف يستدل بهذا علي المطلوب؟ إذ لو كان له شاهد واحد لم يقل للمدعي فلك يمينه, بل فعليك اليمين. الحديث السابع عن علقمة: قوله: ((وهو عنه معرض)) هو مجاز عن الاستهانة به والسخط عليه والإبعاد عن رحمته] *, نحوه قوله تعالي: {ولا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ولا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} و ((غلبني علي أرض)) أي غصبها مني قهرا. ((مح)) وفي رواية ((علي أرض لأبي)). وفيه أنواع من الفوائد منها: أن صاحب اليد أولي من أجنبي يدعي عليه. ومنها: أن المدعي عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر, ومنها: أن البينة تقدم علي اليد ويقضى بها لصاحبها بغير يمين. ومنها أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل, ويسقط عنه المطالبة بها.

للحضرمي: ((ألك بينة؟)) قال: لا. قال: ((فلك يمينه)) قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر, لا يبالي علي ما حلف عليه, وليس يتورع من شيء قال: ((ليس لك منه إلا ذلك)). فانطلق ليحلف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: ((لئن حلف علي ماله ليأكله ظلما؛ ليلقين الله وهو عنه معرض. رواه مسلم. 3765 - وعن أبي ذر [رضي الله عنه] , أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ادعى ما ليس له؛ فليس منا, وليتبوأ مقعده من النار)) رواه مسلم. 3766 - وعن زيد بن خالد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن أحد الخصمين إذا قال لصاحبه: إنه ظالم أو فاجر أو نحوه في حال المخاصمة يحتمل ذلك منه. ومنها: أن الوارث إذا ادعى شيئا لمورثه, وعلم الحاكم أن مورثه مات ولا وارث له سواه, جاز الحكم له به ولم يكلفه حال الدعوى ببينة علي ذلك, وموضوع الدلالة أنه قال: ((غلبني علي أرض لي كانت لأبي)) فقد أقر بأنها كانت لأبيه, فلولا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بأنه ورثها وحده, لطالبه ببينة علي كونه وارثا وبينة أخرى علي كونه محقا في دعواه علي خصمه. الحديث الثامن والتاسع عن زيد: قوله: ((يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) ((مح)): فيه تأويلان أصحهما وأشهرهما تأويل مالك وأصحاب الشافعي, أنه محمول علي من عنده شهادة لإنسان بحق, ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد, فيأتي إليه, فيخبره بأنه شاهد له؛ لأنها أمانة له عنده. والثاني أنه محمول علي شهادة الحسبة في غير حقوق الآدميين, كالطلاق والعتق والوقف والوصايا العامة والحدود ونحو ذلك, فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلي القاضي وإعلامه به, قال تعالي: {وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} , وحكي تأويل ثالث أنه محمول علي المبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها, كما يقال: الجواد يعطي قبل السؤال, أي يعطي سريعا عقيب السؤال من غير توقف, وليس هذا في الحديث مناقضة للحديث الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم: ((يشهدون ولا يشهدون)). قال أصحابنا: إنه شاهد زور فيشهد بما لا أصل له, ولم يستشهد. وقيل: هو الذي انتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة.

3767 - وعن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني, ثم الذي يلونهم, ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه, ويمينه شهادته)) متفق عليه. 3768 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] , أن انبي صلى الله عليه وسلم عرض علي قوم اليمين, فأسرعوا, فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف. رواه البخاري. الفصل الثاني 3769 - عن عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة علي المدعي، واليمين علي المدعى عليه)).رواه الترمذي [3769] 3770 - وعن أم سلمه [رضي الله عنها] , عن النبي صلى الله عليه وسلم: في رجلين اختصما إليه في مواريث لم تكن لهما بينة إلا دعواهما. فقال: ((من قضيت له بشيء من حق ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن ابن مسعود: قوله: ((خير الناس قرني)) ((نه)): القرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار كل زمان, مأخوذ من الاقتران, وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. قوله: ((تسبق شهادة أحدهم يمينه)) ((قض)): هم الذين يحرصون علي الشهادة مشغوفين بترويجها, يحلفون علي ما يشهدون به, فتارة يحلفون قبل أن يأتوا بالشهادة وتارة يعكسون. ((مظ)): هذا يحتمل أن يكون مثلا في سرعة الشهادة واليمين, وحرص الرجل عليهما والشروع فيهما, حتى لا يدري لأنه بأيهما يبتدئ, فكأنه تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته من قلة مبالاته بالدين. ((مح)): واحتج به المالكية في رد شهادة من لف معها, والجمهور علي أنها لا ترد. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأمر أن يسهم بينهم)) ((مظ)): صورة المسالة أن رجلين إذا تداعيا متاعا في يد ثالث, ولم يكن لهما بينة, أو لكل واحد منهما بينة, وقال الثالث: لم أعلم بذلك. فحكمها أن يقرع بين المتداعيين, فأيهما خرجت له القرعة يحلف معها, ويقضي له بذلك المتاع, وبهذا قال علي رضي الله عنه. وعند الشافعي يترك في يد الثالث, وعند أبي حنيفة يجعل بين المتداعيين نصفين. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أم سلمه: قوله: ((إلا دعواهما)) هو من باب التعليق بالمحال مبالغة, كقوله تعالي: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلاَّ المَوْتَةَ الأُولي} أي لم تكن لهما بينة إلا الدعوى, وقد علم أن الدعوى ليست ببينة فيلزم أن لا يكون لهم بينة قط. وقوله: ((كل واحد منهما)) بدل من ((الرجلان)) أي قال كل واحد من الرجلين.

أخيه؛ فإنما اقطع له قطعة من النار)). فقال الرجلان كل واحد منهما: يا رسول الله حقي هذا لصاحبي فقال: لا, ولكن اذهبا, فاقتسما, وتوخيا الحق, ثم أستهما, ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه)). وفي رواية, قال: ((إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل علي فيه)) رواه أبو داود. [3770] 3771 - وعن جابر بن عبد الله: أن رجلين تداعيا دابة, فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها, فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي في يده. رواه في ((شرح السنة)). [3771] 3772 - وعن أبي موسى الأشعري: أن رجلين ادعيا بعيرا علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعث كل واحد منهما شاهدين, فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين. رواه أبو داود وفي رواية له وللنسائي, وابن ماجه: أن رجلين ادعيا بعيرا ليست لواحد منهما بينة, فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. [3772] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((توخيا الحق)) ((نه)): يقال: توخيت الشيء أتوخاه توخيا إذا قصدت إليه وتعمدت فعله وتحريت فيه. أي اقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة, وليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة قبل أمرها بالتوخي في معرفة مقدار الحق. وذلك يدل علي أن الصلح لا يصح إلا في الشيء المعلوم ثم ضم إليه القرعة؛ لأن التوخي طلب الظن, والقرعة نوع من البينة فهي أقوى, ثم أمر بالتحليل ليكون افتراقهما عن يقين براءة وطيبة نفس. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((أن رجلين تداعيا)) ((حس)): قالوا: إذا تداعى رجلان دابة أو شيئا وهو في يد احدهما فهو لصاحب اليد, ويحلف عليه إلا أن يقيم الآخر بينة فيحكم له به, فلو أقام كل واحد بينة ترجح بينة ذي اليد. وذهب أصحاب أبي حنيفة إلي أن بينة ذي اليد غير مسموعة وهو للخارجي, إلا في دعوى النتاج إذا ادعى كل واحد أن هذه الدابة ملكه نتجها, وأقام بينة علي دعواه يقضي بها لصاحب اليد. وإن كان الشيء في أيديهما فتداعيا حلفا, وكان بينهما مقسوما بحكم اليد, وكذلك لو أقام كل واحد بينة, ومعنى ((نتجها)) أي ولدها ومصدره النتج. الحديث الرابع عن أبي موسى: قوله: ((فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما)) هذا مطلق يحمل علي المقيد الذي يليه في قوله: ((أستهما علي اليمين)).

3773 - وعن أبي هريرة, أن رجلين اختصما في دابة, وليس لهما بينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أستهما علي اليمين)) رواه أبو داود, وابن ماجه. [3773] 3774 - وعن ابن عباس: أن انبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل حلفه: ((احلف بالله الذي لا إله إلا هو, ماله عندك شيء)) يعني للمدعي. رواه أبو داود. [3774] 3775 - وعن الأشعث بن قيس, قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض, فجحدني, فقدمته إلي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ((ألك بينة؟)) قلت: لا. قال لليهودي: ((احلف)) قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي, فأنزل الله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآية, رواه أبو داود, وابن ماجه. [3775] 3776 - وعنه, أن رجلا من كندة, ورجلا من حضر موت, اختصما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن. فقال الحضرمي: يا رسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا, وهي في يده. قال: ((هل لك بينة؟)) قال: لا, ولكن أحلفه, والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه؟ فتهيأ الكندي لليمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع أحد مالا بيمين إلا لقي الله وهو أجذم)) فقال الكندي: هي أرضه. رواه أبو داود. [3776] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلي السابع عن الأشعث: قوله: ((فأنزل الله تعالي)) فإن قلت: كيف يطابق نزول هذه الآية قوله: ((إذن يحلف ويذهب بمالي))؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: كأنه قيل للأشعث: ليس لك عليه إلا الحلف فإن كذب فعليه وباله. وثإنيهما: لعل الآية تذكار لليهود بمثلها في التوراة من الوعيد. ((حس)): فيه دليل علي أن الكافر يحلف في الخصومات كما يحلف المسلم. أقول: قد جاء في آخر هذا الحديث في أكثر نسخ المصابيح ((صح)) أو ((صحيح)) وليس في سنن أبي داود وابن ماجه وشرح السنة ذلك. الحديث الثامن عن الأشعث: قوله: ((والله ما يعلم)) ما هو اللفظ المحلوف به أي أحلفه بهذا. والوجه أن تكون الجملة القسمية منصوبة المحل علي المصدر, أي أحلفه هذا الحلف. وقوله: ((وهو أجذم)) أي أجذم الحجة لا لسان له يتكلم ولا حجة في يده. الحديث التاسع عن عبد الله: قوله: ((واليمين الغموس)) ((نه)): هي اليمين الكاذبة الفاجرة التي

3777 - وعن عبد الله بن إنيس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر الشرك بالله, وعقوق الوالدين, واليمين الغموس, وما حلف حالف بالله يمين صبر, فأدخل فيها مثل جناح بعوضة, إلا جعلت نكتة في قلبه إلي يوم القيامة)). رواه الترمذي, وقال: هذا حديث غريب. [3777] 3778 - وعن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلف أحد عند منبري هذا علي يمين آثمة, ولو علي سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار, أو وجبت له النار)). رواه مالك, وأبو داود, وابن ماجه. [3778]. ـــــــــــــــــــــــــــــ يقتطع بها الحالف مال غيره. سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وفعول للمبالغة. ((مظ)): قوله: ((فأدخل فيها)) أي فأدخل في تلك اليمين شيئا من الكذب. أقال: ذكر صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشياء وخص الأخيرة منها بالوعيد ليؤذن بأنها مثلها, وداخلة في أكبر الكبائر حذرا من احتقار الناس لها, وإنها ليست من الكبائر مثلها, ونحوه في الإلحاق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خريم بن فاتك: ((عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله)) ومعنى الانتهاء في قوله ((إلي يوم القيامة)) أن اثر تلك النكتة التي هي من الرين يبقي أثرها إلي يوم القيامة, ثم بعد ذلك يترتب عليه وبالها والعقاب عليها, فكيف إذا كان كذبا محضا. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((عند منبري هذا)) ((تو)): وجه ذكر المنبر فيه عند من يري ذلك تغليظا في اليمين ظاهر. وأما عند من لا يرى التغليظ يتأتي في شيء من الأزمنة والأمكنة, فالوجه فيه أن يقال: إنما جرى ذكر المنبر؛ لأنهم كانوا يتحاكمون ويتحالفون يومئذ في المسجد, فاتخذوا الجانب الأيمن منه وهناك المنبر محلا للأقضية, فذكر في الحديث علي ما كان. وارى هذا تأويلا حسنا لا يرى العدول عنه؛ لئلا يفتقر أن يعدل بالحلف بالله شيئا, واليمين الآثمة موجبة لسخط الله ونكاله علي أية صيغة كانت. أقول: ولناصر القول الأول أن يقول: وصف المنبر باسم الإشارة بعد إضافته إلي نفسه ليس إلا للتعظيم, وان للمكان مدخلا في تغليظ اليمين. وقوله: ((أخضر)) تتميم لمعنى التحقير في السواك؛ لأنه لا يستعمل إلا يابسا, يعني أن مثل هذا المحلوف عليه الذي لا يعتد به لليمين, بل يعد لغوا بسبب العرف, ولا يؤاخذ بها إذا ترتب عليه هذا الوعيد الشديد لأجل هذا المكان الرفيع فكيف بما هو فوقه؟ وفيه أن الإيمان إنما تصير مغلطة بحسب المكان والزمان, لا بحسب المحلوف عليه وإن كان عظيما.

3779 - وعن خريم بن فاتك, قال: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح, فلما انصرف, قام قائما, فقال: ((عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله)) ثلاث مرات, ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ} رواه أبو داود, وابن ماجه. [3779] 3780 - ورواه أحمد, والترمذي عن أيمن بن خريم, إلا أن ابن ماجه لم يذكر القراءة. [3780] 3781 - وعن عائشة [رضي الله عنها] , قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجوز شهادة خائن, ولا خائنة, ولا مجلود حدا, ولا ذي غمر علي أخيه, ولا ظنين في ولاء ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن خريم بن فاتك: قوله: ((قام قائما)) هو اسم الفاعل أقيم مقام المصدر, وقد تقرر في علم المعإني أن كل عدول عن الظاهر لابد فيه من عكسه وفي عكسه, فكأن قيامه صلى الله عليه وسلم صار قائما علي الإسناد المجازي, كقولهم: نهاره صائم وليله قائم, وذلك يدل علي عظم شأن ما قام له وتجلد وتشمر بسببه. و ((الزور)) من الزور والإزورار وهو الانحراف, وإنما ساوي قول الزور الشرك بالله؛ لأن الشرك من باب الزور؛ لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة. وفي التنزيل عطف قول الزور علي عبادة الأوثان, وكرر الفعل استقلالا فيما هو مجتنب عنه في كونهما من وادي الرجس, الذي يجب أن يجتنب عنه فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور. واجتنبوا قول الزور كله, ولا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيل عبادة الأوثان, وسمي الأوثان رجسا علي طريق التشبيه, يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبوه, فعليكم أن تنفروا من الأوثان مثل تلك النقرة. وقرر هذا المعنى تقريرا بعد تقرير بقوله: {حُنَفَاءَ} فإنه حال مؤكدة من الفاعل, واتبعه بقوله: {لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ} دلالة علي أن لا فرق بين الإشراك بالله وقول الزور. وإنهما سيان في الرجس الذي يجب أن يجتنب عنه, وفيه أن مراعاة حق العباد معادلة لحق الله تعالي. الحديث الثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا تجوز شهادة خائن)) ((قض)): الخائن الذي يخون قيما ائتمنه عليه الناس, ويحتمل أن يكون المراد به الأعم منه, وهو الذي

ولا قرابة, ور القانع مع أهل البيت)). رواه الترمذي, وقال: هذا حديث غريب. ويزيدبن زياد الدمشقي الراوي منكر الحديث. [3781] 3782 - وعن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تجوز شهادة الخائن, ولا خائنة, ولا زان, ولا زإنية, ولا ذي غمر علي أخيه)). ورد شهادة القانع لأهل البيت. رواه أبو داود. [3782] ـــــــــــــــــــــــــــــ يخون فيما ائتمن عليه سواء ما ائتمنه الله عليه من إحكام الدين, أو الماس من الأموال, قال الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} ويكون إفراد المجلود حدا وعطفه عليه لعظم خيانته, وهو يتناول الزإني غير المحصن والقاذف والشارب. ((مظ)): قال أبو حنيفة: إذا جلد قاذف لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب, وأما قبل الجلد فتقبل شهادته. وقال غيره: القذف من جملة الفسوق ولا يتعلق بإقامة الحدود بل إن تاب قبلت شهادته سواء جلد أو لم يجلد, وإن لم يتب لا تقبل شهادته سواء جلد أو لم يجلد. و ((الغمر)) بكسر الغين الحقد, أي لا تقبل شهادة عدو, سواء كلن أخاه من النسب أو أجنبيا. وعلي هذا إنما قال: ((علي أخيه)) تليينا لقلبه وتقبيحا لصنيعه. و ((الظنين)) المتهم, يعني من قال: أنا عتيق فلان وهو كاذب فيه بحيث يتهمه الناس في قوله ويكذبونه, ولا تقبل شهادته لأنه فاسق؛ لأنه قطع الولاء عن المعتق وإثباته لمن ليس بعتيقه كبيرة, وراكبها فاسق. وكذلك الظنين في القرابة وهو المدعي القائل أنا ابن فلان أو أنا اخو فلان من النسب والناس يكذبونه فيه. والقانع السائل المقتنع الصابر بأدنى قوت, والمراد به هاهنا أن من كان في نفقة أحد كالخادم والتابع لا تقبل شهادته؛ لأنه يجر نفعا بشهادته إلي نفسه؛ لأن ما حصل للمشهود له من المال يعود نفعه إلي الشاهد؛ لأنه يأكل من نفقته. وكذلك لا تقبل شهادة من جر نفعا بشهادته إلي نفسه, كالوالد يشهد لولده أو الولد لوالده أو الغريم يشهد بمال المفلس علي أحد, وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر خلافا لأبي حنيفة وأحمد. وتقبل شهادة الأخ لأخيه خلافا لمالك. الحديث الثالث عشر عن عمرو: قوله: ((شهادة القانع لأهل البيت)) معنى ((مع)) في الحديث السابق بمعنى هذه اللام فيكزن حالا من القانع. والعامل الشهادة, أي لا تجوز شهادة القانع

3783 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجوز شهادة بدوي علي صاحب قرية)) رواه أبو داود، وابن ماجه. [3783] 3784 - وعن عوف بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي يلوم علي العجز ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)) رواه أبو داود. [3784] 3785 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة. رواه أبو داود، وزاد الترمذي والنسائي: ثم خلي عنه. [3785] ـــــــــــــــــــــــــــــ مقارنة لأهل البيت. ويجوز أن يكون صفة للقانع، واللام موصولة وصلة الشهادة محذوف، أي لا يجوز شهادة الذي يقنع مع أهل البيت لهم. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تجوز شهادة بدوي)) ((مظ)): إنما لا تجوز شهادة البدوي لجهالتهم بأحكام الشريعة، وبكيفية تحمل الشهادة وأدائها وغلبة النسيان عليهم فإن علم كيفية تحمل الشهادة وأدائها بغير زيادة ونقصان، وكان عدلا من أهل قبول الشهادة جازت شهادته خلافا لمالك – انتهي كلامه -. قيل: إن كانت العلة جهالتهم بأحكام الشريعة لزم أن لا يكون لتخصيص قوله: ((علي صاحب قرية)) فائدة. والوجه أن تكون العلة ما قاله التوربشتي وهو قوله: لحصول التهمة ببعد ما بين الرجلين. ويؤيده تعدية الشهادة بـ ((علي)) وفيه أنه لو شهد له تقبل، وقيل: لا يجوز لأنه يعسر طلبه عند الحاجة إلي أداء الشهادة. الحديث الخامس عشر عن عوف: قوله: ((ولكن عليك بالكيس)) هو استدراك من العجز والمراد بالكيس هنا التيقظ في الأمر وإتيانه بحيث يرجى حصوله، فيجب أن يحمل العجز علي ما يخالف الكيسن وما هو سبب له من التقصير والغفلة، يعنى كان ينبغي لك أن تتيقظ في معاملتك، ولا تقصر فيها قيل من إقامة البينة ونحوها بحيث إذا حضرت القضاء كنت قادرا علي الدفع، وحين عجزت عن ذلك قلت: حسبي الله. وإنما يقال: حسبي الله إذا بولغ في الاحتياط، وإذا لم يتيسر له طريق إلي حصوله كان معذورا فيه، فليقل حينئذ: حسبي الله ونعم الوكيل، فمعنى قوله: ((إن الله يلوم علي العجز)) أي

كتاب الجهاد

الفصل الثالث 3786 - عن عبد الله بن الزبير [رضي الله عنهما] قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم)) رواه أحمد، وأبو داود. [3786] كتاب الجهاد الفصل الأول 3787 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقا علي الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها)). قالوا: أفلا نبشر الناس؟. قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء ـــــــــــــــــــــــــــــ علي التقصير والتهاون في الأمور، ولكن يحمد علي التيقظ والحزم، وحاصل معنى الاستدراك: لا تكن عاجزا. وتقول: حسبي الله، ولكن كن متيقظا حازما فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله: قوله ((قضى)) ليس قضى هنا بمعنى حكم أو فصل، بل بمعنى أوجب، وإنما يقال ذلك في أمر يعظم شأنه، كقوله تعالي: {وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ} وليس علي القاضي أمر أشق ولا أخوف من التسوية بين الخصمين. كتاب الجهاد ((المغرب)): جهده حمله فوق طاقته، والجهاد مصدر جاهدت العدو إذا قابلته في تحمل الجهد، إذا بذل كل منكما جهده أي طاقته في دفع صاحبه، ثم غلب في الإسلام علي قتال الكفار. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قال: إن في الجنة)) ((شف)): لما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه، وهو المراد بالجلوس في أرضه التي ولد فيها في دخول المؤمن بالله ورسوله، المقيم للصلاة الصائم لرمضان في الجنة.

والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلي الجنة، وفوقه عرش الرحن، ومنه تفجر أنهار الجنة)). رواه البخاري. 3788 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورأي صلى الله عليه وسلم استبشار الراوي بما سمعه لسقوط مشاق الجهاد عنهم وعدم امتيازه في نيل الجنة، استدرك النبي صلى الله عليه وسلم قوله الأول بقوله الثاني. أقول: الجواب من الأسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخول الجنة بالإيمان والصوم والصلاة وإيجابها لهم بحسب الأجر علي سبيل الوعد، ولم يكتف بذلك بل زاد علي تلك البشارة البشارة الأخرى، وهو الفوز بدرجات الشهداء فضلا من الله تعالي وزيادة علي ذلك، ولم يقنع بهذا أيضا فبشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها وأوسطها. وفيه الحث علي ما يحصل به أقصى درجات الجنان وهي الفردوس الأعلي، من المجاهدة مع العدو والنفس والشيطان. وإليه الإشارة بقوله تعالي: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين ما ورد في صفة أهل الجنة: ((مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها)). قلت: هو مطلق محمول علي هذا المقيد أو تفسير للمجاهدين بالعموم، والدرجات بحسب مراتبهم في الجهاد، فيكون الفردوس لمن جاهد حق جهاده. ((مح)): قال القاضي عياض: يحتمل أن تجري الدرجات علي ظاهره محسوسا كما جاء في أهل الغرف، أنهم يتراؤن كالكوكب الدري، وأن تجري علي المعنى. والمراد كثرة النعيم وعظم الإحسان مما لم يخطر علي قلب بشر. قوله: ((أوسط الجنة)) النكتة في الجمع بين الأعلي والأوسط، أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي؛ فإن أوسط الشيء أفضله وخياره، وإنما كان كذلك؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعواز، والأوساط محمية محفوظة. قال الطائي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفت الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((القانت بآيات الله)) ((نه)) القنوت في الحديث يرد بمعان متعددة: كالطاعة والخشوع والصلاة والصوم والدعاء، والعبادة والقيام وطول القيام والسكوت. أقول: يحتمل أن يراد بالقانت ها هنا القائم، فيكو نتعلق الباء به

3789 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انتدب اله لمن خرج في سبيله ـــــــــــــــــــــــــــــ كتعلقه في قولك: قام بالأمر إذا جد فيه وتجلد له. فالمعنى القائم بما يجب عليه من استفراغ الجهد في معرفة كتاب الله، والامتثال بما أمر الله والانتهاء عما نهي الله، وأن يراد به طول القيام فيكون تابعا للقائم، أي المصلي الذي يطول قيامه في الصلاة وتكثر قراءته فيها، ويؤيد الوجه الثاني قوله: ((لا يفتر من صيام ولا صلاة)). فإن قلت: فبم شبهت حال المجاهد بحال الصائم؟ قلت: في نيل الثواب الجزيل بكل حرمة وسكون في كل حين وأوان؛ لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة من ساعاته آناء الليل وأطراف النهار من صيامه وصلاته، شبه المجاهد الذي لا يضيع لمحة من لمحاته من أجر وثواب، سواء كان قائما أو نائما يقاتل العدو أم لا، وبالصائم القائم الذي لا يفتر عما هو فيه، فهو من التشبيه الذي المشبه به مفروض غير محقق، وهو من قوله تعالي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ ولا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ (120) ولا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا إلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((انتدب الله)) ((نه)): أي أجابه إلي غفوانه، يقال: ندبته فانتدب، أي بغيته ودعوته فأجاب. ((تو)): وفي بعض طرقه ((تضمن الله)) وفي بعضها ((تكفل الله)) وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله: ((انتدب الله)) وكل ذلك صحاح. أقول: أراد أن قوله: ((أن أرجعه)) متعلق بـ ((انتدب)) بحذف الجار علي تضمين ((تكفل)) أي تكفل الله بأن يرجعه فأرجعه حكاية قول الله تعالي. ولعل ((انتدب)) أشبه وأبلغ؛ لأنه مسبوق بدعوة الداعي مثل صورة خروج المجاهد في سبيل الله بالدعي الذي يدعو الله ويندبه لنصرته علي أعداء الدين وقهره أحزاب الشياطين ونيل أجوره والفوز بالغنيمة علي الاستعارة التمثيلية. وكان المجاهد في سبيل الله الذي لا غرض له في جهاده سوى التقرب إلي الله تعالي، والإيمان به والتصديق برسله فيما أخبروا به، أنه قربة إلي الله تعالي ووصلة ينال بها الدرجات العلي، تعرض بجهاده لطلب النصر والمغفرة، فأجابه الله تعالي إلي بغيته، ووعد له إحدى الحسنيين: إما السلامة والرجوع بالأجر والغنيمة، وإما الوصول إلي الجنة والفوز بمرتبة الشهادة. وقوله: ((بما نال)) علي لفظ الماضي وأرد علي تحقق وعد الله تعالي وحصوله. قوله: ((إلا إيمان بي)) بالرفع. ((مح)): ((إيمانا وتصديقا)) بالنصب في جميع نسخ مسلم علي أنه مفعول له، أي لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا إيمانا وتصديقا. أقول: علي رواية

لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي؛ أن أرجعه بما نال من أجر وغنيمة، أو أدخله الجنة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرفع المستثنى منه أعم عام الفاعل، أي لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا إيمان وتصديق، وعلي رواية النصب المستثنى منه أعم عام المفعول له، أي لا يخرجه المخرج ولا يحركه المحرك لشيء من الأشياء إلا للإيمان والتصديق. ((شف)): قوله: ((لا يخرجه إلا إيمان بي)) فيه إضمار أي انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا لا يخرجه إلا إيمان بي. أقول: هذا أحد قولي المالكي، والآخر أن الضمير في ((سبيله)) راجع إلي ((من)) و ((سبيله)) نعت محذوف أي في سبيله المرضية، والنعت يحذف كثيرا إذا كان مفهوما، نحو قوله تعالي: {لَرَادُّكَ إلي مَعَادٍ} تحبه، ثم أضمر بعد ((سبيله)) قولا حكى به ما بعد ذلك لا موضع له من الإعراب، يعني أن الجملة الثانية استئنافية، كأن قائلا قال: وما ذاك بالانتداب وكيف انتدب؟ أجيب: قال: ((لا يخرجه)) لكن علي هذا التقدير لا يلتئم قوله: ((أن أرجعه)) بـ ((انتدب)). والأشبه أن يكون التفاتا؛ إذ لو قيل: ((إلا إيمان بي)) لكان مجرى علي الظاهر ولم يفتقر إلي الإضمار فعدل تفخيما لشأن المخرج ومزيدا لاختصاصه وقربه، والجار من ((أن أرجعه)) محذوف، أي أجاب الله دعاءه بأن قال: إما أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة. ((تو)): ويروى ((أو غنيمة)) وهو لفظ الكتاب، ويروى بالواو وهو أوجه الروايتين وأسدهما معنى. ((مح)): قالوا معناه أرجعه إلي مسكنه مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة معا إن غنموا. وقيل: إن ((أو)) هنا بمعنى الواو أي من أجر وغنيمة. ووقع بالواو في رواية أبي داود وكذا في صحيح مسلم في رواية يحيى بن يحيى. أقول: ((أو)) بمعنى الواو ورد في التنزيل منه قوله تعالي: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} كذا ذكره القتيبي. وقوله: ((أو غنيمة)) عطف علي ((أجر)) و ((أو)) داخلة علي ((أن أرجعه)) فيكون صلة ((أن)) والتقدير أن الله تعالي أجاب الخارج في سبيله إما بأن يرجعه إلي مسكنه مع أجر بلا غنيمة أو أجر مع غنيمة، وإما أن يستشهد فيدخله الجنة. ((مح)): قال القاضي عياض: يحتمل أن يدخله عند موته كما قال تعالي في الشهداء: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وأن يراد دخوله الجنة مع السابقين المقربين بلا حساب ولا عذاب، وتكون الشهادة مكفرة لذنوبه.

3790 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه؛ ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل: ثم أحيى، ثم أقتل)) متفق عليه. 3791 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها)). متفق عليه. 3792 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) متفق عليه. 3793 - وعن سلمان الفارسي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رباط ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثم أحيى ثم أقتل)) ((ثم)) وإن دل علي التراخي في الزمان هنا، لكن الحمل علي التراخي في الرتبة هو الوجه؛ لأن المتمني حصول درجات بعد القتل، والإحياء لم يحصل قبل؛ ومن ثمة كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلي أن ينتهي إلي الفردوس الأعلي كما سبق. انظر أيها المتأمل وتفكر في إيثاره صلى الله عليه وسلم صحبة أولئك الكملة علي هذه المراتب العلية؛ ليعلم فضلهم ومكانتهم عند الله تعالي. ومن ثمة كرر ((رجالا)) تعظيما وتفخيما وهم أشهر الناس، ولأمر ما خوطب حبيب الله صلوات الله عليه بالجلوس إليهم والصبر معهم في قوله تعالي: {واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ} وبالمفارقة عنهم بقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ}. ((مح)): فيه فضيلة الغزو والشهادة والخير وما لا يمكن في العادة من الخيرات. وفيه أن الجهاد من فروض الكفاية لا من العين. وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة علي المسلمين والرأفة، وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين، وأنه إذا تعارضت المصالح يؤثر أهمها. الحديث الخامس إلي السابع عن سلمان: قوله: ((رباط يوم وليلة)) ((نه)): الرباط في الأصل الإقامة علي جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. والمرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثغر كل منهما معد لصاحبه. وسمي المقام في الثغور رباطا، ويكون الرباط مصدر رابطت أي

يوم وليلة في سبيل الله، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) رواه مسلم. 3794 - وعن أبي عبس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله؛ فتمسه النار)) رواه البخاري. 3795 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لازمت. قوله: ((وإن مات جرى عليه عمله)) الضمير في ((مات)) راجع إلي المرابط، وإن لم يجر له ذكر لدلالة الرباط عليه. ((مح)): هذه فضيلة مختصة بالمرابط لا يشاركه فيها غيره، وقد جاء صريحا في غير مسلم: ((كل ميت يختم له علي عمله إلا المرابط، فإنه ينمي له عمله إلي يوم القيامة)). ((وأمن الفتان)) ضبطوه من وجهين: أحدهما بفتح الهمزة وكسر الميم. والثاني: ((أومن)) بضم الهمزة وإثبات الواو، و ((الفتان)) رواية الأكثر بضم الفاء جمع فاتن، ورواية الطبري بالفتح، وفي سنن أبي داود ((وفتنة القبر)). أقول: إذا روى بالفتح فالوجه ما قيل: إن المراد منه الذي يفتن المقبور بالسؤال فيعذبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيقيض له أعمى وأصم)) وإن روى بالضم فالأولي أن يحمل علي أنواع من الفتن بعد الإقبار من ضغطة القبر والسؤال والتعذيب في القبر، وبعده من أهوال القيامة. ومعنى ((جرى عليه عمله)) كقوله: جرى عليه القضاء، أي يقدر له من العمل بعد الموت، كما جرى منه قبل الممات. فجرى هنا بمعنى قدر ونحوه في المريض قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان علي طريقة حسنة من العبادة ثم مرض، قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا)) ولما كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأجري عليه رزقه)) تلميحا إلي قوله: ((يرزقون)) أجرى مجراه في البناء للمفعول. الحديث الثامن عن أبي عبس: قوله: ((فتمسه النار)) مسبب عن قوله: ((اغبرت)) والنفي منصب علي القبيلتين معا، وفائدته أن غير المذكور محال حصوله، فإذا كان مس الغبار قدميه دافعا لمس النار إياه، فكيف إذا سعى فيها واستفرغ جهده، وألقى النفس عليها بشراشره فقتل وقتل. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في النار أبدا)) ((مح)): قال القاضي: يحتمل أن هذا مختص بمن قتل كافرا في الجهاد، فيكون ذلك مكفرا لذنوبه حتى لا يعاقب

3796 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير علي متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها،، وأن يكون عقابه بغير النار أو يعاقب في غير مكان عقاب الكفار، ولا يجتمعان في إدراكها. أقول: والأول هو الوجه، وهو من الكناية التلويحية، نفي الاجتماع فيلزم منه نفي المساواة بينهما فيلزم أن لا يدخل المجاهد النار أبدا، فإنه لو دخلها لساواه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الفصل الثاني: ((ولا يجتمع علي عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) وفي رواية ((في منخري مسلم)). وقوله: ((أبدا)) بمعنى ((قط)) في الماضي، وعوض في المستقبل تنزيلا للمستقبل منزلة الماضي. ((الجوهري)): يقال: لا أفعله أبد الآباد وأبد الآبدين، كما يقال: دهر الداهرين وعوض العائضين، والمقام يقتضيه لأنه ترغيب في الجهاد وحث عليه، ونحوه قوله: ((ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)). الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خير معاش الناس)) ((قض)): المعاش والتعيش، يقال: عاش الرجل معاشا ومعيشا وما يعاش به، فيقال له: معاش ومعيش كمعاب ومعيب ومحال ومحيل. وفي الحديث يصح تفسيره بهما و ((جل)) رفع بالابتداء علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي معاش رجل هذا شأنه من خير معاش الناس لهم. ((يطير علي متنه)) أي يسرع راكبا علي ظهره مستعار من طيران الطائر. و ((الهيعة)) الصيحة التي يفزع منها ويجبن، من هاع يهيع هيعا إذا جبن. و ((الفزعة)) ها هنا فسر بالاستغاثة من فزع إذا استغاث، وأصل الفزع شدة الخوف فيبتغي القتل والموت مظانه، أي لا يبالي ولا يحترز منه بل يطلبه حيث يظن أنه يكون)). و ((مظان)) جمع مظنة وهي الموضع الذي يعهد فيه الشيء ويظن أنه فيه، ووحد الضمير في ((مظانه)) إما لأن الحاصل والمقصود منهما واحد، أو لأنه اكتفي بإعادة الضمير إلي الأقرب، كما اكتفي بها في قوله تعالي: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} ((أو رجل في غنيمة)) أي معاشة، والظرف متعلق به إن جعل مصدرا أو بمحذوف هو صفة لرجل، و ((غنيمة)) تصغير غنم وهو مؤنث سماعي؛ ولذلك صغرت بالتاء، و ((الشعفة)) رأس الجبل ((من هذه الشعف))، يريد به الجنس لا العهد، و ((اليقين)) الموت. سمي به لتحقق وقوعه. أقول: قوله: ((يطير)) إما صفة بعد صفة أو حال من الضمير في ((ممسك)) و ((طار)) جواب ((كلما)) وهو مع جوابه حال من ضمير ((يطير)). وفيه تصوير حالة هذا الرجل وشدة اهتمامه بما

الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين؛ ليس من الناس إلا في خير)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وهو أنه عادته ودأبه ولا يهتم ولا يلتفت إلي غير ذلك. نحوه قول حاتم: ولله صعلوك يساور همه ويمضي علي الأحداث والدهر مقدما في طلبات لا يرى الخمص ترحة ولا شبعة إن نالها عد مغنما إذا ما رأي يوما مكارم أعرضت تيمم كبراهن ثمت صمما يرمي رمحه ونبله ومجنه وذا شطب غضب الضريبة مخذما وأحناء سرج فاتر ولجامه عتاد أحيي هيجاء وطرفا مسوما فذلك إن يهلك فحسن ثناؤه وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما وعطف قوله: ((والموت)) علي ((القتل)) لما أريد به الأهوال والأفزاع في مواطن الحرب، كقول الحماسي: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها فتكون ((مظانه)) بدل اشتمال من الموت، كقوله تعالي: {واذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انتَبَذَتْ} أي اذكر وقت انتباذها، فيكون مفعولا به علي الاتساع كقوله ويوم شهدنا، ومظان الموت في الحديث بمنزلة غمرات الموت في البيت. وذهب الشارحون إلي أنه منصوب علي الظرفية من قوله: ((يبتغي)). و ((هذه)) من قوله: ((من هذه الشعف)) و ((هذه الأودية)) للتحقير كما في قوله تعالي: {ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا} وقوله: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ومن ثمة صغر ((غنيمة)) وصفا لقناعة هذا الرجل بأنه سكن في أحقر مكان ويجتزئ بأدنى قوت، واعتزال الناس يكفهم شره عنهم، ويستكفي شرهم عنه، ويشتغل بعبادة ربه حتى يجيئه الموت. وعبر عن الموت باليقين ليكون نصب عينيه مزيدا للتسلي؛ فإن في ذكر هادم اللذات ما يعرضه عن أغراض الدنيا، ويشغله عن ملاذها بعبادة ربه حتى يحيه ألا ترى كيف سلي حبيبه صلوات الله عليه حين لقي ما لقي من

3797 - وعن زيد بن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من جهز غازيا في سبيل الله؛ فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله؛ فقد غزا)) متفق عليه. 3798 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمة نساء المجاهدين علي ـــــــــــــــــــــــــــــ أذى الكفار بقوله تعالي: {ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ}. ((مح)): في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة علي الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعي وأكثر العلماء، أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن. ومذهب طوائف من الزهاد أن الاعتزال أفضل، واستدلوا بالحديث. وأجاب الجمهور بأنه محمول علي زمان الفتن والحروب، أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر علي أذاهم. وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضي وحلق الذكر وغير ذلك. أقول: وفي تخصيص ذكر المعاش تلميح، فإن العيش المتعارف بين أبناء الدهر هو استيفاء اللذات والانهماك في الشهوات، كما سميت البيداء المهلكة بالمفازة والمنجاة، واللديغ بالسليم، وتلميح إلي قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)). وفيه أن لا عيش ألذ وأمرأ وأشهي وأهنأ مما يجد العبد من طاعة ربه ويستروح إليها، حتى يرفع تكاليفها ومشاقها عنه، بل إذا فقدها كان أصعب عليه مما إذا وتر أهله وماله، وإليه ينظر قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا يا بلال)) وقوله: ((وجعل قرة عيني في الصلاة)) وتعريض بذم عيش الدنيا لما ورد: ((تعس عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة)) إلي قوله: ((طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله)) الحديث. وجماع معنى الحديث الحث علي مجاهدة أعداء الدين، وعلي مجاهدة النفس والشيطان والإعراض عن استيفاء اللذات العاجلة. الحديث الحادي عشر عن زيد: قوله: ((ومن خلف غازيا)) ((قض)): يقال: خلفه في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم، أي من تولي أمر الغازي وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته، شاركه في الثواب؛ لأن فراغ الغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه مسبب من فعله. الحديث الثاني عشر عن بريدة: قوله: ((فيخونه فيهم)) الضمير المفعول عائد إلي ((رجلا)) وفي ((فيهم)) إلي الأهل تعظيما وتفخيما لشأنهن، كقول الشاعر:

القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم؛ إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟)). رواه مسلم. 3799 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((وإن شئت حرمت النساء سواكم)) وإنهن ممن تجب مراعاتهن وتوقيرهن وإلي هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كحرمة أمهاتهم)) والضمير في ((له)) يعود إلي ((رجلا)). والأظهر أن يكون بمنزلة اسم الإشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق يعني وقف الخائي لأجل ما فعل من سوء الخلافة للغازي في أهله. وقوله: ((فما ظنكم؟)) فيه تهديد عظيم. ((مح)): معناه ما تظنون في رغبة المجاهد في أخذ حسناته، والاستكثار منها في ذلك المقام، أي لا يبقى منها شيء إلا أخذه. ((مظ)): أي ما ظنكم بالله مع هذه الخيانة؟ هل تشكون في هذه المجازاة أم لا؟ يعني إذا علمتم صدق ما أقول فاحذروا من الخيانة في نساء المجاهدين. ((تو)): أي فما ظنكم بمن أحله الله بهذه المنزلة، وخصه بهذه الفضيلة وبما يكون وراء ذلك من الكرامة. أقول: الأقرب قول المظهر؛ فإن سياق الكلام جاء في حرمة نساء المجاهدين، وتوقير شأنهن وتنزيلهن منزلة الأمهات، وأن الخيانة معهن منافية للدين والمروءة، يعني ما تظنون في ارتكابكم هذه الجريمة العظيمة، هل تتركون مع تلك الخيانة أم ينتقم الله منكم؟ ويلزم من هذا تعظيم شأن المجاهدين. الحديث الثالث عشر عن أبي مسعود: قوله: ((بناقة مخطومة)) ((نه)): خطام البعير أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان، فيجعل في أحد طرفيه حلقة ثم يشد به الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة ثم يقلد البعير ثم يثنى علي مخطمه. وأما الذي يجعل في الأنف دقيقا فهو الزمام ((مح)): يحتمل أن يكون المراد له اجر سبعمائة ناقة في غير سبيل الله، وأن يكون علي ظاهره، ويكون له في الجنة بها سبعمائة ناقة، كما جاء في خيل الجنة.

3800 - وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلي بني لحيان من هذيل. فقال: ((لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما)). رواه مسلم. 3801 - وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)) رواه مسلم. 3802 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد قوله: ((بعث بعثا)) البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثته فانبعث، وقد يسمى الجيش بعثا؛ لأنه ينبعث ثم يجمع. وقوله: ((فقال: لينبعث)) أي أراد أن يبعث بعثا فقال: لينبعث. ((مح)): ((لحيان)) بكسر اللام وفتحها والكسر أفصح، يعني بعث جيشا إليهم ليغزوهم، فقال لهم: ليخرج من كل قبيلة نصف عددها. وكون الأجر بينهما محمول علي ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير. الحديث الخامس عشر عن جابر: قوله: ((يقاتل عليه)) جملة مستأنفة بيانا للجملة الأولي، وعداه بـ ((علي)) لتضمينه معنى تظاهر، أي يظاهرون بالمقاتلة علي أعداء الدين، يعني أن هذا الدين لم يزل قائما بسبب مقاتلة هذه الطائقة. وما أظن هذه العصابة إلا الفئة المنصورة بالشام والمغرب. ((مح)): ورد في الحديث: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين علي الحق حتى تقوم الساعة)) قيل: هم أهل الشام وما وراء ذلك، وفيه معجزة ظاهرة؛ فإن هذا الوصف لم يزل بحمد الله تعالي من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلي الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله تعالي. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((والله أعلم بمن يكلم في سبيله)) جملة معترضة بين المستثنى منه، والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه، وتفخيم بشأن من يكلم في سبيل الله. ومعناه – والله أعلم – تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله. ونظيره قوله تعالي: {قَالَتْ رَبِّ إني وضَعْتُهَا أُنثَى واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} قوله: {واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وضَعَتْ} معترض بين كلامي أم مريم تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها، ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور. ويجوز أن يكون تتميما للصيانة من الرياء والسمعة. ((مح)): هذا تنبيه علي الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا الفضل وإن كان ظاهرا في قتال الكفار، لكن يدخل فيه من

3808 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلي الدنيا وله ما في الأرض من شيء، إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلي الدنيا. فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)) متفق عليه. 3804 - وعن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية. قال: ((إنا قد سألنا عن ذلك. فقال: ((أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل ـــــــــــــــــــــــــــــ خرج في قتال البغاة وقطاع الطريق، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. قوله: ((وجرحه يثعب دما)) ((تو)): ثعبت الماء فجرته فانثعب، إضاف الفعل إلي الجرح؛ لأنه السبب في فجر الدم و ((دما)) يكون مفعولا. ولو أراد به التمييز لكان من حقه أن يقول: ينبعث دما أو يثعب، علي بناء المجهول، ولم أجده رواية. أقول: مجيئه متعديا نقل عن الجوهري. وظاهر كلام صاحب النهاية أنه لازم حيث فسره بقوله: ((يجري)) ولأنه جاء في حديث آخر: ((وجرحه تشخب دما)) والشخب السيلان وقد شخب يشخب، فحينئذ يكون من قوله تعالي: {وأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} فإن الظاهر أن يقال: إن الدمع تفيض من العين، فجعل العين فائضة مبالغة، كذلك الدم السائل من الجرح لا الجرح سائل. ((مح)): فيه دليل علي أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا بغيره، والحكمة فيه أنه يجيء يوم القيامة علي هيأته ليكون معه شاهدا. الحديث السابع عشر والثامن عشر عن مسروق: قوله: (إنا قد سألنا عن ذلك فقال)) ((مح)): الحديث مرفوع؛ لقوله: ((إنا قد سألنا عن ذلك فقال)) يعني النبي صلى الله عليه وسلم (قض)): المسئول والمجيب هو الرسول صلوات الله عليه، وفي ((فقال)) ضمير له، ويدل عليه قرينة الحال؛ فإن ظاهر حال الصحابي أن يكون سؤاله واستكشافه من الرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تأويل آية هي من المتشابهات وما هو من أحوال المعاد؛ فإنه غيب صرف لا يمكن معرفته إلا بالوحي؛ ولكونه بهذه المثابة من التعين أضمر من غير أن يسبق ذكره. وقوله: ((أرواحهم في أجواف طير خضر)) أي يخلق لأرواحهم بعد ما فارقت أبدانهم هياكل علي تلك الهيئة تتعلق بها، وتكون خلفا عن أبدانهم فيتوسلون بها إلي نيل ما يشتهون من اللذائذ الحسية. واطلاع الله عليهم واستفهامه عما يشتهونه مرة بعد أخرى مجاز عن مزيد تلطفه بهم، وتضاعف تفضله عليهم. وإنما قال: ((اطلاعة)) ليدل علي أنه ليس من جنس اطلاعننا علي

معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلي تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شيءنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركزا من أن يسألوا. قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأي أن ليس لهم حاجة تركوا)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأشياء وعداه بـ ((إلي)) وحقه أن يعدى بـ ((علي)) لتضمنه معنى الانتهاء. والمراد بقوله: (0فلما رأوا أنهم لم يتركوا)) إلي آخره، أنه لا يبقى لهم متمنى ولا مطلوب أصلا غير أن يرجعوا إلي الدنيا، فيستشهدوا ثإنيا؛ لما رأوا بسببه من الشرف والكرامة هذا. وإن الحديث تمثيل لحالهم وما هم عليه من البهجة والسعادة، وشبه لطافتهم وبهاءهم وتمكنهم من التلذذ من أنواع المشتهيات والتبوء من الجنة حيث شاءوا، وقربهم من الله تعالي وانخراطهم في غمار الملأ الأعلي الذين هم حول عرش الرحمن، بما إذا كانوا في أجواب طير خضر تسرح إلي الجنة حيث شاء، وتأوي إلي قناديل معلقة بالعرش. وشبه حالهم في استجماع اللذائذ وحصول جميع المطالب، بحال من يبالغ ويشدد عيه ربه المتفضل المشفق عليه غاية التفضل والإشفاق، القادر علي جميع الأشياء، بأن يسأل منه مطلوبا ويكرر عليه مرة بعد أخرى، بحيث لا يرى بدا من السؤال فمل ير شيئا ليس له أن يسأله إلا أن يرد إلي الدنيا، فيقتل في سبيل اله مرة أخرى. والعلم عند الله تعالي. ((مح)): قال القاضي عياض: واختلفوا فيه قيل: ليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله أن يجعل الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أو جوف طير خضر، أو حيث شاء كان ذلك ووقع، ولم يبعد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام فغير مستحيل أن يصور جزء من الإنسان طائرا، أو يجعل في جوف طائر في قناديل تحت العرش. وقد اختلفوا في الروح فقال كثير من أرباب المعإني وعلم الباطن والمتكلمين: لا يعرف حقيقته ولا يصح وصفه وهو مما جهل العباد علمه. واستدلوا بقوله تعالي: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة. وقال آخرون: هو أجسام لطيفة مشابكة للجسم تحيى بحياته، وأجرى الله تعالي العادة بموت الجسم عند فراقه؛ ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم. قال الشيخ: هذا هو المختار. وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح، وتنعيمها في صور

3805 - وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله، يكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟)) فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: ((نعم؛ وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك)) رواه مسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحسان المرفهة وتعديبها في الصور الفبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب وهذا باطل مردود لإبطال ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشب والنشر والجنة والنار؛ ولهذا قال في حديث آخر: ((حتى يرجعه الله إلي جسده يوم يبعث الأجسام))، وفيه بيان أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة وهي التي أهبط منها آدم، وينعم فيها المؤمنون في الآخرة. وفيه أن مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، وأن الأرواح باقية لا تفنى فيتنعم المحسن ويعذب المسيء، وهو مذهب أهل السنة وبه نطق التنزيل والآثار، خلافا لطائقة من المبتدعة. قال الله تعالي: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًا وعَشِيًا ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ}. قوله: ((من أن يسألوا)) ((من)) زائدة لوقوعها في سياق النفي، و ((أن يسألوا)) بدل من ((ما)) أقيم مقام الفاعل في ((يتركوا)) يعني لن يترك سؤالهم. الحديث التاسع عشر عن أبي قتادة: قوله: ((مقبل غير مدبر)) ((مح)): ((غير مدبر)) احتراز ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت. و ((المحتسب)) هو المخلص لله تعالي وإن قاتل عصبية أو لأخد غنيمة ونحو ذلك فليس له الثواب، أقول: ويجوز أن يكون ((غير مدبر)) تأكيدا علي منوال قولهم: أمس الدابر لا يعود؛ لأن الكر والفر في المبارزة محمود. وقوله: ((إلا الدين)) استثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا، أي الدين الذي لا ينوي أداؤه. ((تو)): أراد بـ ((الدين)) هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين؛ إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجإني والقاصب والخائن والسارق – انتهي كلامه. فإن قلت: كيف قال صلى الله عليه وسلم: ((كيف قلت؟)) وقد أحاط بسؤاله علما وأجاب بذلك الجواب؟. قلت: ليسأل ثإنيا ويجيبه بذلك الجواب ويعلق به إلا الدين استدراكا بعد إعلام جبريل عليه السلام إياه صلى الله عليه وسلم.

3806 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين)) رواه مسلم. 3807 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يضحك الله تعالي إلي رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله علي القاتل فيستشهد)) متفق عليه. 3808 - وعن سهل بن حنيف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء. وإن مات علي فراشه)) رواه مسلم. 3809 - وعن أنس، أن الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر. أصابه سهم غرب، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. فقال: ((يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلي)) رواه البخاري. 3810 - وعنه، قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلي بدر، وجاء المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلي جنة عرضها السماوات ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يضحك الله تعالي إلي رجلين)) عدى ((يضحك)) بـ ((إلي)) لتضمنه معنى الانبساط والإقبال، مأخوذ من قولهم: ضحكت إلي فلان إذا انبسطت إليه وتوجهت إليه بوجه طلق وأنت راض عنه. ((مح)): ويحتمل أن يراد ضحك ملائكة الله تعالي المتوجهين بقبض روحه كما يقال: قتل السلطان فلانا إذا أمر بقتله. الحديث الثاني والعشرون والثالث والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سهم غرب)) أي لا يعرف راميه، وهو بفتح الراء وسكونها وبالإضافة والوصف. وقيل: بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره. قوله: ((إنها جنان في الجنة)) هو ضمير مبهم يفسره ما بعده من الخبر كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء *، ويجوز أن يكون الضمير للشأن، و ((جنان)) مبتدأ والتنكير فيه للتعظيم. والمراد بالجنان الدرجات فيها؛ لما ورد ((في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها)). الحديث الرابع والعشرون عن انس رضي الله عنه: قوله: ((إلي بدر)) ((بدر)) موضع يذكر

والأرض)). قال عمير بن الحمام: بخ بخ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك علي قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) قال: فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل، رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤنث، وهو اسم ماء. وقال الشعبي: بئر بدر كانت لرجل يدعى بدرا، ومنه يوم بدر. قتل عمير هذا أول من قتل من الأنصار في الإسلام. قوله: ((قوموا إلي جنة)) عداه بـ ((إلي)) لإرادة معنى المسارعة كما في قوله تعالي: {وسَارِعُوا إلي مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ووصف الجنة بالعرض مبالغة عرفا. وتخصيص العرض بها دون الطول دلالة علي أن العرض إذا كان كذلك فما بال الطول؟. ((تو)) ((بخ)) كلمة تقال عند المدح والرضي بالشيء، وكررت للمبالغة. وسبق إلي فهم الرجل من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك علي قولك: بخ بخ؟)) أنه يوهم أن قوله ذلك صدر عنه من غير رؤية ونية، شبيها بقول: من سلك مسلك الهزل والمزاح، فنفي ذلك عن نفسه بقوله: ((لا والله) أي ليس الأمر علي ما توهمت. وقوله: ((إلا رجاء)) أي ما قلت ذلك إلا رجاء. أقول قوله: شبيها بقول من سلك مسلك المزاح. وقوله: ((ليس الأمر علي ما توهمت)). ليسا بمرضيين بل يحمل ((بخ بخ)) علي ما فسر في الفريبين من قوله: قال أبو بكر: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه وكذا في شرح مسلم، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ((قوموا إلي جنة)) أي سارعوا إليها وابذلوا مهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ولا تقاعسوا عنها. عظم عمير ذلك وفخمه بقوله: ((بخ بخ)). فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك علي هذا التعظيم؟ أخوفا قلت هذا؟ فقال: لا بل رجاء. والفاء في قوله: ((فإنك)) جزاء شرط أي إذا كان الأمر علي ما قلت؛ فإن الله تعالي يجيبك إلي ما ترومه وترجوه. ((والقرن)) بفتح القاف والراء جعبة النشاب. وقوله: ((لئن أنا حييت)) اللام موطئه للقسم، و ((إن)) شرطية و ((أنا)) فاعل فعل (*) مضمر يفسره ما بعده. و ((إنها لحياة)) جواب القسم، واكتفي به عن جواب الشرط. ويمكن أن يذهب إلي مذهب أصحاب المعإني، فيقال: إن الضمير المنفصل قدم للاختصاص، وهو علي منوال قوله تعالي: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ} فكأنه وجد نفسه مختارة للحياة علي الشهادة فأنكر عليها ذلك الإنكار. وإنما قال ذلك استبطاء للانتداب بما ندب به من قوله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلي جنة)) أي سارعوا إليها، ومما ارتجز به عمير يومئذ قوله:

3811 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟)) قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: ((إن شهداء أمتي اذن لقليل: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ركضا إلي إلي الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله علي الجهاد وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد أي اركض ركضا وأسرع إسراعا مثل ركض الخيل وإسراعه، وركضه خفف في القول كما حفف في الأكل مبادرة إلي ما انتدب إليه. الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما تعدون الشهيد)) قال المالكي: العد يوافق الظن في المعنى والعمل، ويشهد له ما روي عن جبريل عليه السلام جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين. ((فما)) من قوله: ((فما تعدون)) استفهامية في موضع نصب مفعول ثان، و ((أهل بدر)) مفعول أول، وإجراء عد مجرى ظن معنى وعملا مما أغفله النحويون، ومن شواهده قول الشاعر: فلا تعدد المولي شريكك في الغنى ولكن المولي شريكك في العدم وقال الآخر: لا تعدد المرء خلا قبل تجربة فرب ذي ملق في قلبه أحسن ((تو)): ((ما)) استفهامية ويسأل بكلمة ((ما)) عن جنس ذات الشيء ونوعه [وعن صفات جنس الشيء ونوعه] *، وقد يسأل بها عن الأشخاص الناطقي. ولما كانت حقيقة الاستفهام هاهنا السؤال عن الحالة التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، استفهم عنها بكلمة ((ما)) لتكون أدل علي وصفها وعلي المعنى المراد منها، ثم إنها مع ذلك تسد مسد ((من)) ولهذا أجابوا عنها بقولهم: من قتل في سبيل الله. أقول: ((ما)) هنا سؤال عن وصف من له كرامة وقرب عن الله، قال الله تعالي: {والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ} فيشتمل علي ما ذكره صلى الله عليه وسلم من قوله: ((من قتل في سبيل الله)) إلي آخره. فلما لم يطابق جوابهم سؤاله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله: ((إن شهداء أمتي إذن لقليل)) وكان يكفي علي ظنهم أن يقولوا: من قتل في سبيل الله. فأطنبوا وأتوا في الخبر بالفاء؛ دلالة علي أن صلة الموصول علة للخبر فخصوا ما أريد العموم فيه. ((قض)): الشهيد فعيل من الشهود بمعنى المفعول؛ لأن الملائكة تحضره وتبشره بالفوز والكرامة، أو بمعنى فاعل؛ لأنه يلقى ربه ويحضر عنده كما قال تعالي: {والشُّهَدَاءُ عِندَ

3812 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من غازية، أو سرية. تغزو، فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم. وما من غازية، أو سرية، تخفق وتصاب، إلا تم أجورهم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ رَبِّهِمْ} أو من الشهادة فإنه بين صدقة في الإيمان والإخلاص في الطاعة ببذل النفس في سبيل الله، أو يكون تلو الرسل في الشهادة علي الأمم يوم القيامة. ومن مات بالطاعون أم بوجع في البطن ملحق بمن قتل في سبيل الله؛ لمشاركته إياه في بعض ما ينال من الكرامة بسبب ما كابده من الشدة، لا في جملة الأحكام والفضائل. قال المالكي ((في)) من قوله: ((في الطاعون والبطن)) بمعنى بالباء الدالة علي السببية كقوله تعالي: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. أقول: ((في)) في مواقعها الأربعة ظرف لكن الأخيرتين علي المجاز، ولما كان الطاعون والبطن لقابليتهما وتمكينهما الموت فيهما جعلا ظرفا لهما، فكأنهما تمكنا منهما تمكن المظروف في الظرف، فجريا لذلك مجرى سببين؛ ولهذا السر ذهب أهل الأصول إلي أن قولهم: سال الوادي. من المجاز الذي العلاقة في السببية؛ لقابلية الوادي سيلان الماء فيه. الحديث السادس والعشرون عن عبد الله: قوله: ((ما من غازية)) ((نه)): الغازية تإنيث الغازي، وهي هاهنا صفة لجماعة غازية، وقد غزا غزوا فهو غاز والغزوة المرة من الغزو، والاسم الغزاء وجمع الغازي غزاة. والسرية قطعة من الجيش، وإنما أتى صلى الله عليه وسلم بـ ((أو)) تنبيها علي إثبات الحكم المذكور في الكثير من الغزاة والقليل منهم. وإن كان هذا اللفظ من الراوي فلشكه في عبارة النبي صلى الله عليه وسلم. و ((الإخفاق)) أن يغزو فلا يغنم شيئا، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم تقض له، وأصله من الخفق وهو التحرك أي صارت الغنيمة خافقة غير ثابتة مستقرة. ((قض)): والمعنى أن من غزا الكفار فرجع سالما غانما، فقد تعجل واستوفي ثلثي أجره، وهما السلامة والغنيمة في الدنيا، وبقي له ثلث الأجر يناله في الآخرة؛ بسبب ما قصد بغزوه محاربة أعداء الله ونصرة دينه. ومن غزا فأصيب في نفسه بقتل أو جرح، ولم يصادف غنيمة فأجره باق بكماله، لم يستوف منه شيئا فيوفر عليه بتمامه في الآخرة. أقول: ولفظ ((تعجلوا)) يستدعي أن يكون لكل غازي في غزائه ثواب فمن أصاب السلامة والغنيمة، استوفي ثلثي ثوابه في الدنيا بدل ما كان له في الآخرة، وإليه الإشارة بقوله: ((تعجل)). ومن لم يغنم وقتل أتم أجره حيث لم يعجل بشيء. بقي قسمان: من سلم وأخفق

3813 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه؛ مات علي شعبة من نفاق)). رواه مسلم. 3814 - وعن أبي موسى، قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقد تعجل بثلثه، وبقي له ثلثان في الآخرة. ومن رجع مجروحا يقسم علي هذا التقسيم بحسب جرحه، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. الحديث السابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مات علي شعبة من نفاق)) ((مح)): قال عبد الله بن المبارك: نرى أن ذلك علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقد قال غيره: إنه عام. والمراد أن من فعل فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف؛ فإن ترك الجهاد إحدى شعب النفاق. وفيه أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعها، لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه علي من مات ولم ينوها، وقد اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها فأخرها بنية أن يفعلها ومات، أو أخر الحج كذلك. قيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج دون الصلاة. الحديث الثامن والعشرون عن أبي موسى: قوله: ((والرجل يقاتل للذكر)) ((نه)): أي ليذكر بين الناس ويوصف بالشجاعة، والذكر الشرف والفخر والصيت. قوله: ((ليرى مكانه)) ((شف)): هو من باب الإفعال، فإن قرئ معلوما ففاعله ضمير الرجل والمفعول الأول محذوف، أي يقاتل ذلك الرجل ليرى هو مكانه أن منزلته ومكانته من الشجاعة الناس، فالقرق علي هذا بين قوله: (يقاتل للذكر)) وبين هذا، أن الأول سمعة والثاني رياء، أي من الغزاة من سمع ومنهم من راءى، وإن قرئ مجهولا فالذي أقيم مقام الفاعل ضمير الرجل و ((مكانه)) نصب علي المفعول الثاني، أي قاتل ذلك الرجل ليبصر هو منزلته من الجنة، وتحقيقه أنه قاتل للجنة لا لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. ((مظ)): أي ليرى منزلته من الجنة، أي لتحصل له الجنة. أقول: قوله: فالذي أقيم مقام الفاعل ضمير الرجل، و ((مكانه)) نصب علي المفعول الثاني غير صحيح، بل المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل، وكذا في نسخة صحيحة للبخاري وجامع الأصول مضبوط بالرفع، ايليرى الناس منزلته في سبيل الله، وأيضا لا فرق بين السمعة والرياء. المغرب: يقال: فعل ذلك سمعة ليريه أي ليريه الناس من غير أن يكون قصد به التحقيق، وسمع بكذا شهره تسميعا، ومنه الحديث: ((من سمع الناس بعمله سمع الله به أسامع

3815 - وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: ((إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)). وفي رواية: ((إلا شركوكم في الأجر)). قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر)). رواه البخاري. 3816 - ورواه مسلم عن جابر. ـــــــــــــــــــــــــــــ خلقه وحقره وصغره)) نوه الله لريائه وملأ به أسماع خلقه فيفتضح. ولعل الأظهر أن يراد بالذكر الصيت والسمعة، وبالرؤية علم الله، ونحوه قوله تعالي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} يعني المجاهد منكم للغنيمة والذكر، والمجاهد الصابر الذي يستفرغ جهده في سبيل الله. ويجوز أن يراد بالرؤية رؤية المؤمنين في القيامة منزلته عند الله تعالي، كما سيجيء في الفصل الثالث في حديث فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة)) هكذا الحديث. فيكون الرجل قد سأل عن أحوال المجاهدين بأسرها ومقاتلتهم، إما للغنيمة أو للذكر والصيت والفخر رياء، أو ليحمده الله تعالي، فكنى صلى الله عليه وسلم عن الثالث بقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)) إحمادا عليه وشكرا لصنيعه، وإلا كان يكفيه في الجواب أن يقول: ((من يقاتل ليرى مكانه)) والمكان ها هنا بمنزلة المكانة في قوله تعالي: {اعْمَلُوا عَلي مَكَانَتِكُمْ}. ((الكشاف)): المكانة تكون مصدرا، يقال: مكن مكانه إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان يقال: مكان ومكانة ومقام ومقامة، أي اعملوا علي تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا علي جهتكم وحالكم التي انتم عليها. و ((كلمة الله)) عبارة عن دين الحق؛ لأن الله تعالي دعا إليه وأمر الناس بالاعتصام به، كما قيل لعيسى كلمة الله. و ((هي)) فصل والخبر ((العليا)) فأفاد الاختصاص أي لم يقاتل لغرض من الأغراض إلا لإظهار الدين. والله أعلم. الحديث التاسع والعشرون عن أنس: قوله: ((إلا شركوكم في الأجر)) يدل هذا علي أن القاعدين من الأضراء يشاركون المجاهدين في الأجر، ولا يدل علي استوائهما فيه، والدال علي نفي الاستواء قوله تعالي: {فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ عَلي القَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي

3817 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد. فقال: ((أحي والداك؟)). قال: نعم. قال: ((ففيهما فجاهد)). متفق عليه. وفي رواية: ((فارجع إلي والديك فأحسن صحبتهما)). 3818 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يوم الفتح: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي الأضراء منهم، وقوله تعالي: {وفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلي القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ} أي علي غير الأضراء منهم، وفضل الله تعالي المجاهدين علي القاعدين الأضراء درجة وهي الغنيمة ونصرة دين الله في الدنيا، وفضل الله عليهم درجات في العقبى. ((مح)):: فيه فضيلة النية في الخير، وأن من نوى غزوا أو غيره من الطاعات، فعرض له عذر منعه، حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أثر من التأسف علي فوات ذلك، وتمنى كونه من الغزاة ونحوهم كان أكثر ثوابا. الحديث الثلاثون عن عبد الله: قوله: ((ففيهما فجاهد)) فيهما متعلق بالأمر، قدم للاختصاص، الفاء الأولي جزاء شرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط أي إذا كان الأمر كما قلت، فاختص المجاهدة في خدمة الوالدين، نحوه قوله تعالي: {فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي إذا لم تخلصوا إلي العبادة في ارض فأخلصوها في غيرها، فحذف الشرط وعوض منه تقديم المفعول المفيد للاختصاص ضمنا. وقوله: ((فجاهد) جيء به مشاكلة. ((حس)) *:هذا في جهاد التطوع لا يخرج إلا بإذن الوالدين إذا كانا مسلمين، فإن كان الجهاد فرضا متعينا فلا حاجة إلي إذنهما، وإن معناه عصاهما وخرج، وإن كانا كافرين فيخرج دون إذنهما فرضا كان الجهاد أو تطوعا. وكذلك لا يخرج إلي شيء من التطوعات الحج والعمرة والزيارة، ولا يصوم التطوع إذا كره الوالدان المسلمان أو أحدهما إلا بإذنهما. الحديث الحادي والثلاثون عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ((خط)): كانت الهجرة علي معنيين: أحدهما: الهجرة من دار الكفر إلي دار الإسلام، فأمر من أسلم منهم بالهجرة عنهم ليسلم دينهم؛ وليزول أذى المشركين عنهم ولئلا يفتتنوا. والمعنى الثاني: الهجرة من مكة إلي المدينة، فإن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين يومئذ، فأوجبت الهجرة إلي النبي صلى الله عليه وسلم، علي كل من أسلم يومئذ في أي موضع كان؛ ليستعين النبي صلى الله عليه وسلم بهم إن حدث حادث؛ وليتفقهوا في الدين فيعلموا أقوامهم أمر الدين وأحكامه. فلما فتحت

الفصل الثاني 3819 - عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون علي الحق، ظاهرين علي من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)). رواه أبو داود. [3819] ـــــــــــــــــــــــــــــ مكة وأسلموا، استغنى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك إذ كان معظم خوف المؤمنين من أهل مكة، فلما أسلموا أمكن المسلمين أن يقروا في قعر دارهم، فقيل لهم: أقيموا في أوطانكم وقروا علي نية الجهاد. أقول: تقتضي ((لكن)) مخالفة ما بعدها لما قبلها، فالمعنى أن مقارقة الأوطان لله ورسوله التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميزة لأهلها من سائر الناس امتيازا ظاهرا انقطعت، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالي، كطلب العلم والفرار بدينه من دار الكفر، أو مما لا يقام فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزيارة بين الله وحرم رسوله والمسجد الأقصى وغيرها، أو بسبب الجهاد في سبيل الله باقية مدى الدهر. ((مح)): معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، لكن حصوله بالجهاد والنية الصالحة. وفيه حث علي نية الخير وأنه يثاب عليها. ((وإذا استنفرتم)) معناه إذا طلبكم الإمام للخروج إلي الجهاد فاخرجوا. وهذا دليل علي أن الجهاد ليس فرض عين بل هو فرض كفاية، إذا فعله من يحصل بهم الكفاية سقط الخروج * عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا أجمعون. قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين، فيتعين عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية، وجب علي من يليهم تتميم الكفاية. أقول: وقد خص الاستنفار بالجهاد، ويمكن أن يحمل علي العموم أيضا أي إذا استنفرتم إلي الجهاد فانفرا، وإذا استنفرتم إلي طلب العلم وشبهه فانفروا؛ قال تعالي: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} أي هلا نفروا حين استنفروا. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمران: قوله: ((ظاهرين علي من ناوأهم)) ((تو)): أي غالبين علي من عاداهم، والمناوأة المعاداة، والأصل فيه الهمز؛ لأنه من النوء وهو النهوض. وربما ترك همزه، وإنما استعمل ذلك في المعاداة؛ لأن كل واحد من المتعاديين ينهض إلي قتال صاحبه انتهي كلامه. وقد سبق في الفصل الأول أن تنزيل أمثال هذا الحديث علي الطائقة المنصورة من أهل الشام أولي وأحرى.

3820 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من لم يغز، ولم يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)). رواه أبو داود. [3820] 3821 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم)). رواه أبو داود، والنسائي، والدارمي. [3821] 3822 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افشوا السلام، وأطعموا الطعام، واضربوا الهام؛ تورثوا الجنان)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [3822] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) أي لا تنقطع تلك الطائفة المنصورة، بل تبقى إلي أن يقاتل آخرهم الدجال. أي إلي قيام الساعة؛ فإن خروج الدجال من أشراط الساعة. ويمكن أن يراد بالآخر عيسى بن مريم ومن تابعه؛ فإنه عليه السلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهزودتين، ((فيطلبه)) أي الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((أو يخلف)) هو عطف علي ((يجهز)) وإنما لم يعد الجازم لئلا يتوهم استقلاله؛ وليؤذن بأن تجهيز الغازي وكونه خليفة للغازي في أهله ليس بمثابة الشخوص بنفسه إلي الغزو. وقوله: ((بقارعة)) أي بشدة من الشدائد. والباء في للتعدية، تقرعه أي تدقه؛ ولذلك سميت القيامة قارعة. وقوله: ((بخير)) متعلق بـ ((يخلف)) حال من فاعله أتى به صيانة عما عسى أن ينوي الخيانة فيهم. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((وألسنتكم)) ((مظ)): أي جاهدوهم بها بأن بذموهم وتصيبوهم وتسبوا أصنامهم ودينهم الباطل، وبأن تخوفوهم بالقتل والأخذ وما أشبه ذلك. فإن قلت: هذا يخالف قوله تعالي: {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قلت: كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا؛ لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالي، والنهي منصب علي الفعل المعلل، فإذا لم يؤد السب إلي سب الله تعلي يجوز. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أفشوا السلام)) ((قض)): إفشاء السلام إظهاره ورفع الصوت به، أو إشاعته بأن تسلم علي من تراه فرفته أو لم تعرفه. والمراد بضرب

3823 - وعن فضالة بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((كل ميت يختم علي عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله؛ فإنه ينمى له عمله إلي يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3823] 3824 - ورواه الدارمي عن عقبة بن عامر. [3824] 3825 - وعن معاذ بن جبل، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ فقد وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب ـــــــــــــــــــــــــــــ الهام الجهاد، ولما كانت أفعالهم هذه تخلف عليهم الجنان فكأنهم ورثوها. أقول: الحديث من باب التكميل، كقوله تعالي: {أَشِدَّاءُ عَلي الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} و {أَذِلَّةٍ عَلي المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلي الكَافِرِينَ} فإن تخصيص ذكر الهام بالضرب يدل علي بطالتهم وتمكنهم من الضرب الشديد، قال: وأضرب هامة البطل المشيح مع مراعاة السجع، وتواطؤ القرائن علي حرف الروى. الحديث الخامس عن فضالة: قوله: ((كل ميت يختم)) الحديث، مضى شرحه في الفصل الأول. الحديث السادس عن معاذ: قوله: ((فواق ناقة)) هو قدر ما بين الحلبتين من الراحة تضم فاؤه وتفتح. ((فا)) هو في الأصل رجوع اللبن إلي الضرع بعد الحلب، سمي فواقا لأنه نزل من فوق. قوله: ((كأغزر)) الكاف زائدة و ((ما)) مصدرية والوقت مقدر، يعني يكون حينئذ غزارة دمه أبلغ من سائر أوقاته، والضمير في ((فإنها)) راجع إلي النكبة وهي ما أصابه في سبيل الله من الحجارة. ((نه)): نكبت إصبعه أي نالته الحجارة، و ((النكبة)) ما يصيب الإنسان من الحوادث انتهي كلامه. وقد سبق بيان الجرح والنكبة، فأعاد الضمير إلي النكبة دلالة علي أن الحكم حكم النكبة إذا كان بهذه المثابة، فما ظنك بالجرح بالسنان والسيف، ونظيره قوله تعالي: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا}. و ((الخراج)) – بالضم – ما يخرج من البدن من القروح. و ((الطابع)) بالفتح الخاتم، والكسر لغة فيه، أي عليه علامة الشهداء وأمارتهم، ونسبة هذه

نكبة؛ فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك. ومن خرج به خراج في سبيل الله؛ فإن عليه طابع الشهداء)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3825] 3826 - وعن خريم بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق نفقة في سبيل الله؛ كتب له بسبعمائة ضعف)). رواه الترمذي، والنسائي. [3826] 3827 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله)). رواه الترمذي. [3827] 3828 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى تعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع علي عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم)). رواه الترمذي. وزاد النسائي في أخرى: ((في منخري مسلم أبدا)). وفي أخرى: ((في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)). [3828] ـــــــــــــــــــــــــــــ القرينة مع القرينتين الأوليين؛ للترقي في المبالغة من الإثابة بآثار ما يصيب المجاهد في سبيل الله من العدو تارة ومن غيره أخرى وطورا من نفسه. الحديث السابع والثامن عن أبي أمامة: قوله: ((ظل فسطاط)) ((فا)): الفسطاط هو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق. و ((الطروقة)) الناقة التي يطرق الفحل عليها أي يضربها. قوله: ((ومنحة خادم)) ((نه)): منحه اللبن أي يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها زمانا ويعيدها، وقد تقع المنحة علي الهبة مطلقا لا قرضا ولا عارية. أقول: فقوله: ((أو طروقة فحل)) عطف علي ((منحة خادم)) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أي منحة ناقة، وكان من الظاهر أن يقال: منحة فسطاط كما في القرينتين، فوضع الظل موضعها؛ لأن غاية منفعتها الاستظلال بها. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يجتمع الشح والإيمان)) الكشاف: ((الشح)) – بالضم والكسر – اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة علي المنع كما قال:

3829 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)). رواه الترمذي. [3829] ـــــــــــــــــــــــــــــ يمارس نفسا بين جنبيه كزة إذا هم بالمعروف قالت له مهلا وقد أضيف إلي النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه. أقول: فإذن البخل أعم؛ لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة ولا ينعكس، وعليه ما ورد في شرح السنة: جاء رجل إلي ابن مسعود قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: اسمع الله يقول: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا يكاد أن يخرج من يدي شيء فقال ابن مسعود: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل وبئس السيء * البخل. وقال ابن جبير: الشح إدخال الحرام ومنع الزكاة، فظهر من هذا أن البخل هو مطلق المنع، والشح المنع مع الظلم مطلقا من أكل مال الغير ومنع الزكاة، وهو معنى ** الكز في تفسير الكشاف. والكزازة الانقباض واليبس؛ لأن المنع إذا انضم إلي الكزازة والحرص حمل الإنسان علي رذائل الأخلاق، بخلاف المنع مطلقا، روينا عن مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم)). واعلم أن حقيقة الإنسان علي ما أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي: عبارة عن روح ونفس وقلب. وإنما سمي القلب قلبا؛ لأنه تارة يميل إلي الروح ويتصف بصفتها فيتنور ويفلح، وأخرى إلي النفس فيصير مظلما، فإذا اتصف بصفة الروح تنور وكان مقرا للإيمان والعمل الصالح ففاز وأفلح. قال تعالي: {أُولَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. وإذا اتصف بصفة النفس أظلم، وكان مقرا للشح الهالع فخاب وخسر ولم يفلح، قال تعالي: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} فأنى يجتمعان في قلب واحد. الحديث العاشر عن ابن عباس: قوله: ((عين بكت من خشية الله)) كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه، كقوله تعالي: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} حيث حصر الخشية فيهم غير متجاوزة عنهم، فحصلت النسبة بين العينين: عين مجاهدة مع النفس والشيطان، وعين مجاهدة مع الكفار. والخوف والخشية مترادفان. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: الخوف سوط الله تعالي يسوق به عباده إلي المواظبة علي العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالي.

3830 - وعن أبي هريرة، قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)). رواه الترمذي. [3830] 3831 - وعن عثمان [رضي الله عنه]، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)). رواه الترمذي، والنسائي. [3831] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من ماء)) صفة عيينة جيء بها مادحة؛ لأن التنكير فيها يدل علي نوع من ماء صاف تروق به الأعين وتبهج به الأنفس. و ((عذبة)) صفة أخرى مميزة للطعم الألذ، السائغ في المرئ، ومن ثم أعجب الرجل وتمنى الاعتزال عن الناس. ويجوز ان تكون ((لو)) امتناعية. وقوله: ((فأقمت)) عطف علي ((اعتزلت)) وجواب لو محذوف، أي لكان خيرا لي. ((تو)) وجدنا في سائر النسخ ((فيه غيضة)) وليس ذلك بسديد ولم تشهد به رواية. ((قض)): في أكثر النسخ ((غيضة من ماء)) فإن صحت الرواية بها فالمعنى غيضة كائنة من ماء، وهي الأجمة من غاض الماء إذا نضب؛ فإنها مغيض ماء يجتمع فيه الشجر، والجمع غياض وأغياض. قوله: ((ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟)) يؤذن أن اعتزال الرجل والاشتغال بعبادة الرب في ذلك الشعب؛ لا يوجب الغفران ولا إدخال الجنة وليس بذلك. والجواب أن المار بالشعب كان في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القاصدين للغزو، وقد وجب الغزو وكان اعتزاله للتطوع معصية لاستلزامه ترك الواجب، ولذلك تمم الخطاب بقوله: ((ألا تحبون))؟ تعريضا بغيره ممن صحبه يومئذ. والله أعلم. الحديث الثاني عشر عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((من المنازل)) فإن قلت: هو جمع محلي بلام الاستغراق، فيلزم أن تكون المرابطة أفضل من المجاهدة في المعركة، ومن انتظار الصلاة بعد الصلاة في المساجد، وقد قال فيه: ((فذلكم الرباط فذلك الرباط)) وقد شرحناه ثمة. قلت: هذا في حق من فرض عليه المرابطة، وتعين بنصب الإمام علي ما سبق في الحديث السابق.

3832 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)). رواه الترمذي. [3832] 3833 - وعن عبد الله بن حبشي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: ((طول القيام)). قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل)). قيل: فأي الهجرة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أول ثلاثة)) أضاف افعل إلي النكرة للاستغراق، وإن أول كل ثلاثة من الداخلين في الجنة هؤلاء الثلاثة. وأما تقديم أحد الثلاثة علي الآخرين، فليس في اللفظ إلا التنسيق عند علماء المعإني. قوله: ((عفيف)) ((تو)): أي عفيف عما لا يحلن متعفف من السؤال. ((نه)): التعفف هو الكف عن الحرام والسؤال من الناس، أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال: عف يعف عفة فهو عفيف. أقول علي ما ذهب إليه الشيخ التوربشتي: الصفة جيء بها تكميلا؛ لأن العفيف الذي تنزه عما لا يحل قد لا يكون متعففا عن السؤال، فاستدركه بقوله: ((متعففا)). وعلي ما ذهب إليه صاحب النهاية من باب التتميم؛ لأن المتعفف علي تفسيره مبالغة لمعنى عفيف و ((أحسن عبادة الله)) أي أخلص عبادته من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)). ونصح العبد مواليه أن يقيم علي ما وجب عليه من الخدمة والأمانة والشفقة. وأطلق الشهادة وقيد العفة والعبادة؛ ليشعر بأن مطلق الشهادة أفضل منهما، فكيف إذا قرن بالإخلاص والنصيحة؟ والوجه أن الشهادة مستغنية عن التقيين؛ فإن من شروطها الإخلاص والنصيحة، والخصلتان مفتقرتان إليه فقيدهما وأطلقها وفيه دلالة علي فضلها وأنه أحرى بالتقديم، ودونها العفيف المتعفف إذا أريد بالعفيف الصابر المتنزه عما لا يليق به، والمتعفف تابع له علي سبيل المبالغة. الحديث الرابع عشر عن عبد الله: قوله: ((أي الأعمال أفضل)) سبق بيان ذلك في أول الكتاب، ووجه الجميع بينه وبين ما يخالفه في الترتيب. ((وجهد المقل)) مجهوده؛ لأنه يكون بجهد ومشقة لقلة ماله. وإنما يجوز له الإنفاق إذا قدر علي الصبر، ولم يكن له عيال تضيع بإنفاقه. ولا بد من قوله: ((من هجر ما حرم الله))، ((ومن جاهد المشركين))، ((ومن أهريق دمه)) من تقدير مضاف أي هجرة من هجر وجهاد من جاهد وقتل من أهريق، ولعل تغيير العبارة في قوله: ((فأي القتل أشرف))؟ إنما كان لاهتمام هذه الخصلة؛ لأن معنى الشرف هو القدر والقيمة والرفعة. وذلك أن منزلة درجة الشهيد الذي نال من درجات الشهادة أقصاها وغايتها، هو

أفضل؟ قال: ((من هجر ما حرم الله عليه)). قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: ((من جاهد المشركين بماله ونفسه)) قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: ((من أهريق دمه وعقر جواده. رواه أبو داود. وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة)). قيل: فأي الصلا أفضل؟ قال: ((طول القنوت)). ثم اتفقا في الباقي. [3833] 3834 - وعن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع علي رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من اقربائه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3834] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفردوس الأعلي وهذا الشهيد هو الذي بذل نفسه وماله وجواده في سبيل الله. وقطع عقر الجواد كناية عن غاية شجاعته وبطالته، وأنه مما لا يطاق أن يظفر به إلا بعقر جواده. الحديث الخامس عشر عن المقدام: قوله: ((في أول دفعة)) الجوهري: الدفعة من المطر وغيره بالضم مثل الدفقة وفتح المرة الواحدة. أي يغفر له في أول دفعة وصبة من دمه. قوله: ((ويأمن من الفزع الأكبر)) إشارة إلي قوله تعالي: {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ}. الكشاف: قيل: هي النفخة الأخيرة لقوله تعالي: {ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ}. وعن الحسن الانصراف إلي النار. وعن الضحاك حين يطبق علي النار. وقيل: حين ذبح الموت. قوله: ((تاج الوقار)) ((نه)): التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجواهر، والوقار الحلم والرزانة، وقد وقر يقر وقارا انتهي كلامه. ثم الإضافة إذا كانت بمعنى ((من)) لا يكون التاج مما

3835 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [3835] 3836 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة)). رواه الترمذي والنسائي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [3836] ـــــــــــــــــــــــــــــ يتعارف بين الناس، وإذا كانت بمعنى اللام كان التاج هو المتعارف بينهم. ويؤيد الثاني قوله: ((الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها)) وقوله: ((يشفع)) أي تقبل شفاعته. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بغير أثر)) ((مظ)): أي بغير علامة من جراحة أو تعب نفسإني أو بذل مال أو تهيئة أسباب المجاهدين، فإن لم تكن له هذه الآثار في الغزو يكن له ثلمة، أي نقصان يوم القيامة. أقول: قوله: ((من جهاد)) صفة ((أثر)) وهي نكرة في سياق النفي فيعم في كل جهاد مع العدو والنفس والشيطان، وكذلك الأثر بحسب اختلاف المجاهدة، قال الله تعالي: {سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. و ((الثلمة)) ها هنا مستعارة للنقصان، وأصلها أن تستعمل في الجدار، ولما شبه الإسلام بالبناء في قوله: ((بني الإسلام علي خمس)) جعل كل خلل فيه ونقصان ثلمة علي سبيل الترشيح، وهذا يدل أيضا علي العموم وينصره حديث أبي أمامة. وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله. الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((القرصة)) القرص الأخذ بأطراف الأصابع. وأتى في قوله: ((لا يجد ألم القتل)) بأداة الحصر؛ دفعا لتوهم من يتصور أن ألمه يفضل علي ألمها، وذلك في شهيد، دون شهيد يتلذذ ببذل مهجته في سبيل الله طيبا به نفسه، كعمير ابن الحمام وإلقاء تمراته ولقائه الموت. وأنشد حبيب الأنصاري حين قتل: ولست أبالي حين أقتل مسلما علي أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك علي أوصال شلو ممزع الشلو: عضو من أعضاء الجسد، المزعة: القطعة من اللحم، والمزعة: الشحم. الأوصال: المفاصل.

3837 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليس شيء أحب إلي الله من قطرتين، وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم يراق في سبيل الله. وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالي)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [3837] 3838 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تركب البحر إلا حاجا، أو معتمرا، أو غازيا في سبيل الله؛ فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا)). رواه أبو داود. [3838] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن أبي أمامة: قوله: ((قطرة دموع)) أي قطراتها، فلما أضيفت إلي الجمع أفردت؛ ثقة بفهم السامع مثل: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. وإنما أفرد الدم وجمع الدمع تنبيها علي تفضيل إهراق الدم في سبيل الله علي تقاطر الدموع بكاء. قوله: (وأثر في فريضة)) ((قض)): الأثر بفتحتين ما بقي من الشيء دالا عليه. والمراد بالأثرين آثار خطي الماشي في سبيل الله، والساعي في فريضة من فرائضه أو ما يبقى علي المجاهدين من أثر الجراحات، وعلي الساعي المتعب في أداء الفرائض والقيام بها والكد فيها، من علامة ما أصابه فيها، كاحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها وانفطار الأقدام من برد الماء الذي يتوضأ به. والله أعلم. الحديث التاسع عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((لا تركب البحر)) ((قض)): يريد أن العاقل لا ينبغي أن يلقي نفسه إلي المهالك ويوقعها مواقع الأخطار، إلا لأمر ديني يتقرب به إلي الله تعالي ويحسن بذل النفس فيه وإيثاره علي الحياة. وقوله: ((فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) يريد به تهويل شأن البحر وتعظيم الخطر في ركوبه؛ فإن راكبه متعرض للآفات والمهالك المتراكمة بعضها فوق بعض، لا يؤمن من الهلاك عليه ولا يرجى خلاصه، فإن أخطأته ورطة منها جذبته أخرى بمخالبها، فكأن الغرق رديف الحرق، والحرق خليف الغرق. الكشاف في قوله تعالي: {والْبَحْرِ المَسْجُورِ}: قيل: الموقد من قوله تعالي: {وإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ}. وعن علي رضي الله عنه أين موضع النار في كنانكم؟ قال: البحر، قال علي رضي الله عنه: ((ما أراه إلا صادقة لقوله)): {والْبَحْرِ المَسْجُورِ}. والله أعلم.

3839 - وعن أم حرام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين)). رواه أبو داود. [3839] 3840 - وعن أبي مالك الأشعري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من فصل في سبيل الله، فمات، أو قتل، أو وقصه فرسه أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات علي فراشه بأي حتف شاء الله؛ فإنه شهيد، وإن له الجنة)). رواه أبو داود. [3840] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العشرون عن أم حرام: قوله: ((المائد)) ((نه)): هو الذي يدار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج، يقال: ماد يميد إذا مال وتحرك. ((مظ)): يعني من ركبه وأصابه دوران فله أجر شهيد إن ركبه لطاعة، كالغزو والحج وتحصيل العلم والتجارة إن لم يكن له طريق سواه، ولم يتجر لطلب زيادة المال بل للقوت. أقول: ((الذي يصيبه القيء)) ليست بصفة مخصصة بل هي مبينة. الحديث الحادي والعشرون عن أبي مالك: قوله: ((من فصل)) هو من قوله تعالي: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}. الكشاف: فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه. وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا انتهي كلامه. والمعنى من فصل عن بلده مجاهدا في سبيل الله أي قاصدا الغزو. ((مظ)): وقصه صرعه ودق عنقه، والوقص الدق والكسر ونحوهما. ((نه)): الهامة كل ذات سم يقتل والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور. وقد تقع الهوام علي ما يدب من الحيوان كالحشرات. والحتف الهلاك، ويقال: مات حتف أنفه إذا مات علي فراشه، كأنه سقط لأنفه فمات. قوله: ((وإن له الجنة)) تقرير معنى حصول الشهادة بسبب المقاتلة في سبيل الله، وأن له بدله الجنة فهو تلميح إلي قوله تعالي: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}. الحديث الثاني والعشرون عن عبد الله: قوله: ((قفلة)) هو المرة من القفول وهو الرجوع عن سفره. وفيه وجوه: أحدها: أن أجر المجاهد في انصرافه إلي أهله بعد غزوه كأجره في إقباله إلي الجهاد؛ لأن في قفوله إراحة للنفس واستعدادا بالقوة للعود وحفظا لأهله برجوعه إليهم.

3841 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قفلة كغزوة)). رواه أبو داود. [3841] 3842 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي)) رواه أبو داود. [3842] ـــــــــــــــــــــــــــــ وثإنيا: أراد به التعقيب وهو رجوعه ثإنيا في الوجه الذي جاء منه منصرفا، وإن لم يلق عدوا ولم يشهد قتالا، وقد يفعل ذلك الجيش إذا انصرفوا من مغزاهم لأحد أمرين: أحدهما: أن العدو إذا رآهم قد انصرفوا عنهم أمنوهم، وخرجوا من أمكنتهم. فإذا قفل الجيش إلي دار العدو، نالوا الفرصة منهم، فأغاروا عليهم. والآخر: أنهم إذا انصرفوا ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهو غارون، فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع علي أدراجهم، فإن كان للعدو طلب كانوا مستعدين للقائهم، وإلا فقد سلموا وأحرزوا ما معهم من الغنيمة. وثالثها: أن يكون صلى الله عليه وسلم سئل عن قوم قفلوا لخوفهم أن يدهمهم من عدوهم من هو أكثر عددا منهم، فقفلوا ليستضيفوا إليهم عددا آخر من أصحابهم ثم يكروا علي عدوهم. ((تو)): والأول أقوم؛ لأن القفول إنما يستعمل في الرجوع عن الوجه الذي ذهب إليه لحاجة إلي حيث توجه منه. أقول: التشبيه إنما يذهب إليه إما لإلحاق الناقص بالكامل أو لبيان المساواة. فالتنكير إما للتعظيم فيكون معناه رب قفلة تساوي غزوة لمصلحة ما، كما ذكر في الوجه الأول، بل يمكن أن تكون القفلة أرجخ من الغزوة إذا لم يكن في الغزو مصلحة للمسلمين، وفي القفلة مصلحة لهم كما ذكر في الوجه الثالث، ولا يبعد أن تستعار القفلة للكرة. الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((أجره)) وأجر الغازي)) تقرر في علم البيان أن المعرفة إذا أعيدت كان الثاني عين الأول، فالمراد بالغازي الأول، هو الذي جعل له جعل، فمن شرط للغازي جعلا فله أجر بذل المال الذي جعله جعلا، وأجر غزاء المجعول له فإنه حصل بسببه كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)). ((حس)): فيه ترغيب للجاعل ورخصة للمجعول له. واختلفوا في جواز أخذ الجعل علي الجهاد فرخص فيه الزهري ومالك وأصحاب أبي حنيفة، ولم يجوزه قوم. وقال الشافعي: لا يجوز أن يغزو بجعل، فإن أخذه فعليه رده. ((قض)): وعلي هذا فتأويل الحديث أن يحمل الجاعل علي المجهز للغازي والمعين له ببذل ما يحتاج إليه، ويتمكن به من الغزو من غير استئجار وشرط.

3743 - وعن أبي أيوب، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستفتح عيكم الأمصار، وستكون جنود مجندة، يقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل البعث، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، من أكفيه بعث كذا ألا وذلك الأجير إلي آخر قطرة من دمه)) رواه أبو داود. [3843] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والعشرون عن أبي أيوب: قوله: ((ستفتح عليكم)) ((مظ)): يعني إذا بلغ الإسلام في كل ناحية، يحتاج الإمام إلي أن يرسل في كل ناحية جيشا؛ ليحارب من يلي تلك الناحية من الكفار؛ لئلا يغلب كفار تلك الناحية علي من في تلك الناحية من المسلمين. أقول: ذهب إلي أن كونهم جنودا مجندة بعد فتح البلاد لهم، والأوجه أن تكون الجنود مبعوثين لفتح البلاد نفسها، فيجب أن يضمن ((فتح)) معنى ((وقل وأطلع))؛ لتعديته بـ ((علي)) كقوله تعالي: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي أطلعكم ووفقكم. أخبر صلى الله عليه وسلم بأنهم سيوقفون فيطلعون علي فتح الأمصار لهم، وكذا أخبر بأنهم سيكونون جنودا مجندة، فحينئذ لا يفتقر أن يقال: إن البعث كان قبل الفتح، وذلك أصعب عليهم من أن يكون بعد الفتح. قوله: ((جنود مجندة)) ((نه)): أي مجموعة كما يقال: ألوف مؤلفة وقناطر مقنطرة. قوله: ((يقطع عليكم فيها بعوث)) أي يقدر عليكم في تلك الجنود جيوش، بمعنى تلزمون أن تخرجوا بعوثا تنبعث من كل قوم إلي الجهاد. ((فيتخلص)) أي يخرج منهم طالبا لخلاصه من أن يبعث، ثم يتصفح القبائل أي يتفحص عنها، ويتأمل فيها من أكفيه بعث كذا أي من يعطيني أو يشترط لي شيئا فأبتعث بدله وأكفيه البعث. وقوله: ((يعرض عليهم)) بدل من قوله: ((يتصفح)) ويجوز أن تكون الجملة في محل النصب علي الحال من الضمير المرفوع في ((يتصفح)). وكذا ((من)) يجوز أن تكون حالا من المستتر في ((عارضا)) أي قائلا لهم من أكفيه. وقوله: ((ألا وذلك الأجير)) إشارة إلي ذلك الرجل الذي يكره البعث في سبيل الله، بل يرغب فيه للأغراض الدنيوية. و ((ذلك)) مبتدأ و ((الأجير)) خبره وهو معرفة يدل علي الحصر. وفي اسم الإشارة إشعار بأن ما بعده جدير بمن قبله؛ لاتصافه بالصفة المذكروة، كما في قوله تعالي: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلي هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}. ثم في الحصر وجهان: أحدهما: أن يكون تخصيصا للصفة بالموصوف، أي ليس الأجير إلا هذا فيلزم منه أن يكون المجعول في الحديث السابق هذا الأجير، وهذا هو الذي وجهه

3844 - وعن يعلي بن أمية، قال: آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، فوجدت رجلا سميت له ثلاثة دنإنير فلما حضرت غنيمة، أردت أن أجري له سهمه، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له. فقال: ((ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنإنيره التي تسمى)) رواه أبو داود. [3844] 3845 - وعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أجر له)). رواه أبو داود. [3845] 3846 - وعن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد فإن نومه ـــــــــــــــــــــــــــــ الشيخ التوربشتي حيث قال: أراد بقوله هذا من حضر القتال؛ رغبة فيما عقد عليه من المال لا رغبة في الجهاد، ولهذا سماه أجيرا. وثإنيهما: أن يكون تخصيصا للموصوف بالصفة، أي ليس هذا الرجل غير الأجير وأن صفة الأجير إن تصورت وتحققت ما هي فذلك الرجل لا تتعداه تلك الحقيقة. وقد جاء الوجهات في قوله تعالي: {وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}، وينصر الثاني معنى انتهاء الغاية في ((إلي)) أي هو الأجير من ابتداء بعثه وسعيه وبذل مهجته إلي أن يموت فينقطع دمه، فلا يسمى بغير الأجير البتة، ولا يقال له الغازي في حالة من تلك الحالات، فلا يلزم أن لا يسمى غيره أجيرا، وهذا الوجه يدل علي مذهب الشافعي كما دل الوجه الأول علي مذهب أبي حنيفة ويؤيد مذهب الشافعي الحديث اللاحق، والحديث السابق مؤول كما سبق, الحديث الخامس والعشرون عن يعلي: قوله: ((آذن)) أي أعلم. قوله: ((ليس لي خادم)) صفة بـ ((شيخ)) أي ليس لي من يخدمني في الغزو ويعاونني. ((حس)): اختلفوا في الأجير للعمل وحفظ الدواب يحضر الوقعة، هل يسهم له؟ فقيل: لا سهم له قاتل أو لم يقاتل إنما له أجرة عمله. وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأحد قولي الشافعي. وقال مالك وأحمد: يسهم له وإن لم يقاتل، إذا كان مع الناس عند القتال. وقيل: يخير بين الأجرة والسهم. الحديث السادس والعشرون عن معاذ: قوله: ((الغزو غزوان)) ((قض)): الغزو عزوان: غزو علي ما ينبغي، وغزو علي ما لا ينبغي، فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها

ونبهه أجر كله. وأما من غزا فخرا، ورياء، وسمعة وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم برجع بالكفاف)). رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [3846] ـــــــــــــــــــــــــــــ وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين، وشرح كل واحد منهما مفصلا. قوله: ((وأطاع الإمام)) أي في غزوه فأتى به علي نحو ما أمره. و ((أنفق الكريمة)) أي المختارة من ماله. وقيل: نفسه، و (ياسر الشريك)) أي ساهل الرفيق، واستعمل اليسر معه نفعا بالمعونة وكفاية للمؤنة. ((واجتنب الفساد)) أي لم يتجاوز المشروع في القتل والنهب والتخريب. ((فإن نومه ونبهه)) – أي يقظته – ((أجر كله)) أي ذو أجر وثواب. والمعنى أن من كان هذا شأنه كان جميع حالاته من الحركة والسكون، والاستراحة والانتباه مقتضية للأجر، جالبة للثواب، وأن من حاله علي خلاف ذلك لم يرجع بالكفاف، أي الثواب، مأخوذ من كفاف الشيء وهو خياره، أو من الرزق أي لم يرجع بخير أو ثواب يغنيه يوم القيامة. أقول: قوله: ((أجر كله)) جملة ((كله)) مبتدأ و ((أجر)) خبره. ولا يصح أن يكون كله تأكيد لـ ((أجر)) علي ما لا يخفي. والمعنى كل من ذلك أجر. وهذا التركيب مشعر باهتمام حمل الأجر علي النوم، و ((النبه)) مبالغة في بيان كونهما سببين مستقلين غاية الاستقلال. ((مظ)): ((لم يرجع بالكفاف)) أي لم يعد من الغزو رأسا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا عليه وزر بل وزره أكثر؛ لأنه لم يغز لله، وأفسد في الأرض يقال: دعني كفافا أي تكف عني وأكف عنك. أقول: الوجه ما قاله القاضي؛ لأن الكفاف علي هذا المعنى يقتضي أن يكون له ثواب أيضا وإثم، ويزيد إثمه علي ثوابه، كما قال عمر رضي الله عنه: وددت إني سلمت من الخلافة كفافا، لا علي ولا لي. والمرائي المفسد ليس له ثواب ألبتة. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: المرائي الذي لا يبتغي وجه الله بل يعمل فخرا ورياء وسمعة تبطل عبادته؛ لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس يقصد العبادة. ثم لا يقتصر علي إحباط عبادته حتى يقول: صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم. ((شف)): ولا بد في قوله: ((فأما من ابتغى وجه الله)) وفي قوله: ((وأما من غزا)) من إضمار مضاف تقديره، فأما غزو من ابتغى، وأما غزو من غزا فإنهما قسمان لمورد القسمة. أقول: ولا يستتب علي هذا التقدير إجراء الخبر علي المبتدأ، فينبغي أن يقدر: الغزو غزوان غزو من ابتغى وجه الله، وغزو من لم يبتغ. فأما من ابتغى وجه الله فحكمه كذا، وأما من غزا فخرا فحكمه كذا. فيكون مع باب الجمع مع التفريق والتقسيم، كقوله تعالي: {يَوْمَ يَأْتِ

3847 - وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد. فقال يا عبد الله بن عمرو! إن قاتلت صابرا محتسبا؛ بعثك الله صابرا محتسبا. وإن قاتلت مرائيا مكاثرا؛ بعثك الله مرائيا مكاثرا. يا عبد الله بن عمرو! علي أي حال قاتلت، أو قتلت؛ بعثل الله علي تلك الحال)) رواه أبو داود. [3847] ـــــــــــــــــــــــــــــ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} الآيتين فحذف التفريق لدلالة التقسيم عليه. هذا معنى قول القاضي: فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة عن ذكر القسمين. وقوله: ((أطاع الإمام)) إلي آخره نتيجة الإخلاص وابتغاء وجه الله. وقوله: ((فخرا ورياء وسمعة)) مقابل لقوله: ((ابتغى وجه الله)) فيكون ما بعده نتيجة عنه. الحديث السابع والعشرون عن عبد الله: فقوله: ((أخبرني عن الجهاد)) وهو مطلق يحتمل أنه سأل عن حقيقته وعن ثوابه وعن كونه مقبولا عند الله، أو غير مقبول. والجواب ينبئ أنه سأل عن الثالث. والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها، وقد يكون هذا في الأنفس والأموال، قال تعالي: {وتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ}. فالرجل يجاهد للغنيمة وإكثار المال ليباهي به؛ ولأن يكثر رجاله وأعوانه وأجناده ولإعلاء كلمة الله وإظهار دينه. وأعاد ((صابرا محتسبا)) في الجزاء ليؤذن بالتكثير فيهما علي أنه له أجرا لا يقادر قدره، أي: بعثك الله صابرا كاملا فيه فيوقي أجرك بغير حساب. و ((محتسبا)) أي مخلصا متناهيا في إخلاصه راضيا مرضيا، ورضوان من الله أكبر، وفي عكسه قوله: ((بعثك الله مرائيا مكاثرا)) ولترقية المعنى فيه وضع المظهر، وهو قوله: ((الله) موضع الضمير، ونظيره قوله تعالي: {ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلي اللَّهِ مَتَابًا}. ((الكشاف)): من يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح؛ فإنه بذلك تائب إلي الله متابا مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب، والي الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل لهم ما يستوجبون. والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين، فقوله: ((مرضيا عنده إلي قوله: محصلا للثواب)) هو معنى التنكير في ((متابا)) المعاد في الجزاء بعد الشرط، وقوله: ((الذي يعرف – إلي قوله – يحب التوابين)) هو معنى وقوع اسم الله الأعظم الجامع لجميع الصفات في هذا المقام)).

3848 - وعن عقبة بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعجزتم إذا بعثت رجلا فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟)). رواه أبو داود. [3848] وذكر حديث فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه)). في ((كتاب الإيمان)). الفصل الثالث 3749 - عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فمر رجل بغار فيه شيء من ماء وبقل، فحدث نفسه بأن يقيم فيه ويتخلي من الدنيا، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرإنية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله؛ خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف؛ خير من صلاته ستين سنة)). رواه أحمد. [3849] 3850 - وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى)) رواه النسائي. [3850] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والعشرون عن عقبة: قوله: ((فلم يمض لأمري)) أي إذا أمرت أحدا أن يذهب إلي أمر فلم يذهب إليه فأقيموا مكانه غيره، أو إذا بعثته لأمر ولم يمض لإمضاء أمري وعصإني فاعزلوه. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((ولكني بعثت بالحنيفية السمحة)) ((لكن)) تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها كما تقرر، أي ما بعثت بالرهبإنية الشاقة بل بعثت بالحنيفية السمحة، فوضع قوله: ((باليهودية ولا بالنصرإنية)) موضع قوله: ((الرهبإنية الشاقة)). ((مح)): الظاهر أن الغدوة والروحة غير مختصين بالغدو والرواح، بل كل لمحة وساعة هي في سبيل الله خير له من الدنيا وما فيها لو ملكها وتصور تنعمه فيها؛ لأنه زائل ونعيم الآخرة باق. وقيل: لو ملكها وأنفقها في أمور الآخرة. وبقية الحديث مضى شرحه في الفصل الثاني في حديث أبي هريرة. الحديث الثاني عن عبادة: قوله: ((إلا عقالا)) والعقال حبل صغير تشد به ركبتي البعير لئلا

3851 - وعن أبي سعيد [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا؛ وجبت له الجنة)). فعجب لها أبو سعيد. فقال: أعدها علي يا رسول الله! فأعادها عليه، ثم قال: ((وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)). قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)). رواه مسلم. 3852 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)). فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى! أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. فرجع إلي أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلي العدو فضرب به حتى قتل. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ينفر، وهو مبالغة في قطع الطمع عن الغنيمة بل يكون خالصا لله تعالي غير مشوب بأغراض دنيوية، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لامرئ ما نوى)). الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((وأخرى)) صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ ((ويرفع الله)) خيره، أو منصوب علي إضمار فعل، أي ألا أبشرك ببشارة أخرى. وقوله: ((يرفع الله)) صفة أو حال. وقيل: أي وخصلة أخرى. وينصر التقدير الأول قوله: ((فعجب لها)). وفي هذا الأسلوب تفخيم أمر الجهاد وتعظيم شأنه فإن قوله: ((من رشي بالله ربا وبالإسلام دينا)) مشتمل علي جميع ما أمر الله به ونهي عنه ومنه الجهاد. وكذا إبهامه بقوله: ((وأخرى)) وإبرازه في صورة البشارة ليسأل عنها فيجاب بما بجاب؛ لأن التبيين بعد الإبهام أوقع في النفس، وكذا تكراره ثلاث مرات. ونظير الحديث قوله تعالي: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلي تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ (12) وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}. الحديث الرابع عن أبي موسى: قوله: ((تحت ظلال السيوف)) ((مح)): معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلي الجنة وسبب لدخولها. أقول: هو كناية تلويحية عن إعلاء كلمة الله ونصرة دينه؛ فإن ((تحت ظلال السيوف)) مشعر بكونها مشهرة غير مغمدة، ثم هو مشعر بكونها رافعة فوق رءوس المجاهدين كالمظلات. ثم هو علي التسايف والتضارب في المعارك. ثم هو علي إعلاء كلمة الله العليا، ونصرة دينه القويم الموجبة لأن يفتح لصاحبها أبواب الجنة كلها،

3853 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد؛ جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلي قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش؛ فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم. قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة، لئلا يزهدوا في الجنة، ولا ينكلوا عند الحرب. فقال الله تعالي: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالي: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} إلي آخر الآيات)) رواه أبو داود. 3854 - وعن أي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمنون في الدنيا علي ثلاثة أجزاء: الذي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس علي أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف علي طمع تركه لله عز وجل)) رواه أحمد. [3854] ـــــــــــــــــــــــــــــ ويدعى أن يدخل من أي باب شاء، وهو أبلغ في الكرامة من أن يقال: الجنة تحت ظلال السيوف؛ ومن ثم سلم الرجل علي أصحابه تسليم توديع وكسر جفن سيفه ومضى. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ومقيلهم)) المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح وقت الظهيرة والنوم فيه، وهو هنا كناية عن التنعم والترفه؛ لأن المتفرفهين في الدنيا يعيشون فيها متنعمين. وقوله: ((ولا تنكلوا)) يقال: نكل عن العمل ينكل إذا جبن وفتر. ((نه)): وفي حديث علي رضي الله عنه: ((غير نكل في قدم)) أي بغير جبن وإحجام في الإقدام. الحديث السادس عن أبي سعيد: قوله: ((علي ثلاثة أجزاء)) الأجزاء إنما تقال فيما يقبل التجزئة من الأعيان، فجعل المؤمنين كنفس واحدة في التعاطف والتواد، كما جعلوا يدا واحدة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهم يد علي من سواهم)). و ((ثم)) في ((ثم لم يرتابوا)) كما في قوله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} للتراخي في الرتبة؛ لأن الثبات علي الاستقامة وعلي عدم الارتياب أشرف وابلغ من مجرد الإيمان والعمل الصالح. وكذا في قوله: ((ثم الذي إذا أشرف علي طمع)). والطمع هنا يراد به انبعاث هوى النفس إلي ما تشتهيه فتؤثره علي متابعة الحق فترك مثله منتهي غاية المجاهدة. قال تعالي: {وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهي النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}.

3855 - وعن عبد الرحمن بن أبي عميرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نفس مسلمة يقبضها ربها، تحب أن ترجع إليكم، وأن لها الدنيا وما فيها، غير الشهيد)). قال ابن أبي عميرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقتل في سبيل الله؛ أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر)). رواه النسائي. [3855] 3856 - وعن حسناء بنت معاوية، قالت: حدثنا عمي، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: من في الجنة؟ قال: ((النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة)). رواه أبو داود. [3856] 3857 - وعن علي، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، رضي الله عنهم أجمعين، كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال: ((من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته؛ فله بكل درهم سبعمائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله، وأنفق في وجهه ذلك؛ فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم)) ثم تلا هذه الآية: {واللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}. رواه ابن ماجه. [3857] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عبد الرحمن: قوله: ((وأن لها الدنيا وما فيها)) يجوز أن يكون معطوفا علي ((أن ترجع)) وأن يكون حالا إن روى بكسر ((إن)). و ((غير الشهيد)) بدل من فاعل ((تحب)) والمراد بـ ((أهل الوبر)) سكان البوادي؛ لأن خباءهم من الوبر غالبا، وبـ ((أهل المدر)) سكان القرى والأمصار، واراد به الدنيا وما فيها كما سبق. فغلب العقلاء علي غيرهم كما في قوله تعالي: {رَبَّ العَالَمِينَ} في أحد وجهيه، وأسند المحبة إلي نفسه الزكية صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب)) إلخ. الحديث الثامن عن حسناء: قوله: ((والمولود في الجنة)) الظاهر أنه أراد جنس من هو قريب العهد من الولادة سواء من أولاد الكفار أو غيرهم. و ((الوئيد)) الموءود وهو الذي يدفن حيا من البنات، وقد سبق في باب القدر الخلاف في ذلك. الحديث التاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((في وجهه ذلك)) أي في جهته وقصده. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ} المغرب: أي جهته التي أمر بها تعالي ورضيها.

3858 - وعن فضالة بن عبيد، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا)) ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوته، فما أدري اقلنسوة عمر أراد، أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((ورجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو، كأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن، أتاه سهم غرب فقتله؛ فهو في الدرجة الثانية. ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذلك في الدرجة الثالثة. ورجل مؤمن أسرف علي نفسه، لقي العدو فصدق الله حتى قتل؛ فذاك في الدرجة الرابعة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [3858] 3859 - وعن عتبة بن عبد السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القتلي ثلاثة: مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل)). قال النبي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن فضالة: قوله: ((فصدق الله)) يعني أن الله تعالي وصف المجاهدين الذين قاتلوا لوجهه صابرين محتسبين، فيجزي هذا الرجل بفعله، وقاتل صابرا محتسبا فكأنه صدق الله تعالي بفعله. قال تعالي: {} وقوله: ((هكذا)) مصدر قوله: ((يرفع)) أي رفعا مثل رفع رأسي هكذا كما تشاهدون. وهذا القول كناية عن تناهي رفعة منزلته. وقوله: ((ضرب جلده بشوك طلح)) إما كناية عن كونه يقف شعره من الفزع والخوف، أو عن ارتعاد فرائصه وأليتيه. قال: متى ما نلتقي فردين ترجف روانف أليتيك وتستطارا و ((من الجبن)) بيان التشبيه. والفرق بين هذا وبين الأول – مع أن كلاهما جيد الإيمان – أن الأول صدق الله في إيمانه لما فيه من الشجاعة، وهذا بذل مهجته في سبيل الله ولم يصدق لما فيه من الجبن. والفرق بين الثاني والرابع أن الثاني جيد الإيمان غير مصدق بفعله، والرابع عكسه. فعلم من وقوعه في الدرجة الرابعة، أن الإيمان والإخلاص لا يوازيه شيء، ومبنى الأعمال علي الإخلاص. الحديث الحادي عشر عن عتبة: قوله: ((مؤمن)) بين القتلي بقوله: ((مؤمن)) باعتبار ما يؤول إليه بقوله: ((يقتل)). وقوله: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم)) ذكره في أثناء الحديث مرتين احتياطا؛ لئلا يلتبس

صلى الله عليه وسلم فيه: ((فذلك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ومؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، إذا لقي الغدو قاتل حتى يقتل)) قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء. ومنافق جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل؛ فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق)) رواه الدارمي. [3859] 3860 - وعن ابن عائذ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل، فلما وضع قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: لا تصل عليه يا رسول الله! فإنه رجل فاجر، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي الناس، فقال: ((هل رآه أحد منكم علي عمل الإسلام؟)) فقال رجل: نعم، يا رسول الله! حرس ليلة في سبيل الله، فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثا عليه التراب، وقال: ((أصحابك يظنون أنك من أهل النار، وأنا أشهد أنك من أهل الجنة)) وقال: ((يا عمر! إنك لا تسأل عن أعمال الناس؛ ولكن تسأل عن الفطرة)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3860] ـــــــــــــــــــــــــــــ نص النبي بروايته اهتماما بشأن المقول. وقوله: ((الشهيد)) يجوز أن يكون خبر ((ذلك)) و ((الممتحن)) صفة ((الشهيد)) و ((في خيمة الله)) خبر بعد خبر، وأن يكون الشهيد صفة ((ذلك)) وكذا ((الممتحن)) صفة لـ ((ذلك)) و ((في خيمة الله)) خبر. والممتحن المجرب من قولهم: امتحن فلان لأم كذا جرب له ودرب للنهوض به، فهو مضطلع غير وأن عنه. والمعنى أنه صابر علي الجهاد قوي علي احتمال مشاقه. ((فا)) ((ممصمصة)) أي مطهرة من دنس الخطايا من قولهم: مصمصت الإناء بالماء إذا رقرقته فيه وحركته حتى يطهر، ومنه مصمصة الفم وهو غسله بتحريك الماء فيه كالمضمضة. وقيل: هي بالصاد غير المعجمة بطرف اللسان وبالضاد بالفم كله. وإنما أنث لأنه في معنى الشهادة، أو أراد خصلة ممصمصة، فأقام الصفة مقام الموصوف. الحديث الثاني عشر عن ابن عائذ: قوله: ((ولكن تسأل عن الفطرة)) أي عن الإسلام وأعمال الخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد علي الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه)). يعني أنت يا عمر! ومثلك لا يخبر في مثل هذا الموطن عن أعمال الشر للموتى، بل أخبر عن أعمال الخير

(1) باب إعداد آلة الجهاد

(1) باب إعداد آلة الجهاد الفصل الأول 3861 - عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقو علي المنبر يقول: (({وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، إلا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)). رواه مسلم. 3862 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله؛ فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قال: ((اذكروا موتاك بالخير)) فوضع ((لا تسأل)) موضع لا تخبر لئلا يسأل أحد عن ذلك. ولا تخبر نفيا للسؤال بالكلية فينتفي الإخبار أيضا؛ ولذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال الخير، بقوله: ((هل رآه أحد علي عمل الإسلام)) وشهد عليه بالجنة لحراسته، فاكتفي بالحراسة عن غيرها من الأعمال الصالحة؛ ترجيحا للفطرة علي الأعمال السيئة. باب إعداد آلة الجهاد الفصل الأول الحديث الأول عن عقبة: قوله: ((من قوة)) ((الكشاف)): هي كل ما يتقوى به في الحرب من موصولة، والعائد محذوف و ((من قوة)) بيان له، فالمراد بها نفس القوة وفي هذا البيان والمبين إشارة إلي أن هذه العدة لا تستتب بدون المعالجة والإدمان الطويل، وليس شيء من عدة الحرب وأداتها أحوج إلي المعالجة والإدمان عليها مثل القوس والرمي بها؛ ولذلك كرر صلى الله عليه وسلم تفسير القوة بالرمي. وقوله في الحديث الآتي: ((فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه)) إشارة إلي هذا. ((مح)): وفيه وفي الحديث بعده فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله والمراد بهذا التمرن علي القتال والتدرب فيه ورياضة الأعضاء بذلك. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((فلا يعجز أحدكم)) ((مظ)): يعني أهل الروم غالب حربهم بالرمي، وأنتم تتعلمون الرمي ليمكنكم محاربة أهل الروم، وستفتح عليكم، ويدفع الله عنكم شر أهل الروم، فإذا فتح لكم الروم فلا تتركوا الرمي وتعلمه، بأن تقولوا: لم نكن نحتاج في

3863 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من علم الرمي ثم تركه؛ فليس منا، أو قد عصى)) رواه مسلم. 3864 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علي قوم من أسلم يتناضلون بالسوق. فقال: ((ارموا بني إسماعيل! فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان)) لأحد الفريقين. فأمسكوا بأيهديهم، فقال: ((ما لكم؟)) قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: ((ارموا وأنا معك كلكم)). رواه البخاري. 3865 - وعن أنس، قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلي موضع نبله. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قتالهم إلي الرمي بل تعلموا الرمي وداوموا عليه؛ فإن الرمي مما يحتاج إليه أبدا. ((شف)): أي لا ينبغي أن يعجز أحدكم عن تعلم الرمي، حتى إذا حان وقت فتح الروم أمكنه العون علي الفتح، وهذا حث وتحريض منه صلى الله عليه وسلم علي تعلم الرمي، والمعنى له أن يلعب بها وليس ممنوعا عنه. أقول: لعل الأوجه التوجيه الثاني؛ فإن الفاء في قوله: ((فلا يعجز)) سببية كأنه قيل: إن الله سيفتح لكم عن قريب الروم وهم رماة ويكفيكم الله تعالي بواسطة الرمي شرهم، فإذن لا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه، أي عليكم أن تهتموا بشأن النضال وتمرنوا فيه، وعضوا عليه بالنواجذ حتى إذا زاولتم محاربة الروم تكونوا متمكنين منه وإنما أخرجه مخرج اللهو إمالة للرغبات إلي تعلم الرمي وإلي الترامي والسابقة؛ فإن النفوس مجبولة علي ميلها إلي اللهو. الحديث الثالث عن عقبة: قوله: ((فليس منا)) أي فليس بمتصل بنا ومعدود في زمرتنا، وهو أشد مما لم يتعلم؛ لأنه لم يدخل في زمرتهم، وهذا دخل ثم خرج كأنه رأي النقص فيه أو استهزأ به. وكل ذلك كفران لتلك النعمة الخطيرة. الحديث الرابع عن سلمة: قوله: ((بالسوق)) وهو معروف وقيل: هم اسم موضع. ((قض)): السوق جمع ساق استعمله للأسهم علي سبيل الاستعارة. – انتهي كلامه. ((ولأحد الفريقين)) متعلق بقوله: ((فقال)) أي قال: لأجل أحد الفريقين أنا معهم. وقوله: ((فأمسكوا بأيديهم)) الباء زائدة في المفعول أي امتنعوا من الرمي. الحديث الخامس عن انس رضي الله عنه: قوله: ((تشرف)) ((نه)): أي تحقق نظره وتطلع عليه، وأصل الاستشراف أن تضع يدك علي حاجبك، وتنظر كالذي يستظل الشمس حتى

2866 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البركة في نواصي الخيل)) متفق عليه. 3867 - وعن جرير بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرس بأصبعه، ويقول: ((الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة: الأجر والغنيمة)) رواه مسلم. 3868 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده؛ فإن شبعه، وريه، وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ يستبين الشيء. أقول: والفاء في ((فكان)) سببية أي لأجل أنه كان حسن الرمي يتبع النبي صلى الله عليه وسلم بصره لسهمه؛ لينظر المصاب من الأعداء من هو؟؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتترس بترسه وقاية واستشرافا. الحديث السادس والسابع عن جرير: قوله: ((ناصية فرس)) ((مح)): أراد بـ ((الناصية)) هنا الشعر المسترسل علي الجبهة. ((خط)): قالوا: وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس. يقال: فلان مبارك الناصية ومبارك الغرة أي الذات. قوله: ((معقود)) ((نه)): أي ملازم لها كأنه معقود فيها. أقول: ويجوز أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة استعارة مكنية، شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود بخيل علي مكان رفيع ليكون منظورا للناس ملازما لنظره، فنسب الخير إلي لازم المشبه به، وذكر ((الناصية)) تجريدا للاستعارة. ((حس)): فيه الترغيب في اتخاذ الخيل للجهاد، وأن الجهاد لا ينقطع أبدا. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من احتبس)) ((تو)): حبسته وأحبسته واحتبس أيضا بنفسه يتعدى ولا يتعدى. والمعنى أنه يحبسه علي نفسه لسد ما عسى أن يحدث في ثغر من الثغور من ثلمة، قوله: ((إيمانا)) مفعول له أي ربطه خالصا لله تعالي امتثالا لأمره، وقوله: ((تصديقا بوعده)) عبارة عن الثواب المرتب علي الاحتباس. تلخيصه أنه احتبس امتثالا واحتسابا، وذلك؛ أن الله تعالي وعد الثواب علي الاحتباس، فمن احتبس فكأنه قال: صدقت فيما وعدتني. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يكره الشكال)) ((نه)): الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم منه محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال، أي الذي تشكل به الخيل؛ لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا. وقيل: هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة. وقيل: هو أن تكون إحدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين.

3869 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال في الخيل. والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. رواه مسلم. 3870 - وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وبينهما ستة أميال، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلي مسجد بني زريق، وبينهما ميل. متفق عليه. 3871 - وعن أنس، قال: كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي علي قعود له، فسبقها، فاشتد ذلك علي المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن حقا علي الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما كرهه لأنه كالمشكول صورة تفاؤلا. ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة. وقيل: إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال. الحديث العاشر عن عبد الله: قوله: ((أضمرت)) ((نه)): الضمير الهزال وخفة اللحم، وأراد بالإضمار التضمير، وهو أن يعلف الفرس حتى يسمن ثم يرده إلي القوت، وذلك في أربعين يوما وقد كانوا يشدون عليه السرج ويجللونه بالجل، حتى يعرق تحته فيذهب هزاله ويشتد لحمه. وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه أيضا مضمار. والرواية علي ما ذكرنا؛ والمشهور من كلام العرب التضمير؛ فلعله من بعض الرواة أقام الإضمار موضع التضمير، أو كانوا يستعملون ذلك. و ((الحفياء)) – بفتح الحاء وسكون الفاء – بمد ويقصر. وأضيف (الثنية)) إلي ((الوداع))؛ لأنها موضع التوديع. الحديث الحادي عشر عن أنس: قوله: ((العضباء)) ((نه)): هو علم لها منقول من قولهم: ناقة عضباء أي مشقوقة الأذن ولم تكن مشوقة الأذن. قال: بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. قال الزمخشري: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء وهي القصيرة اليد، والقعود من الإبل ما أمكن أن يركب وأدناه أن يكون له سنتان، ثم هو قعود إلي السنة السادسة ثم هو جمل. قوله: ((علي الله)) متعلق بـ ((حقا)) و ((أن لا يرتفع)) خبر ((إن)) و ((أن)) مصدرية فتكون معرفة والاسم نطرة، فيكون من باب القلب، أي أن عدم الارتفاع حق علي الله نحو قوله: كان مزاجها عسل وماء. ويمكن أن يتمحل بأن يقال: ((علي الله)) صفة ((حقا)) أي حقا ثابتا واجبا علي الله وفيه وفي الذي قبله جواز المسابقة بالخيل والإبل.

الفصل الثاني 3872 - عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالي يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، فارموا واركبوا، وأن ترموا أحب الي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته؛ فإنهن من الحق)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وزاد أبو داود، والدارمي: ((ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها)). أو قال: ((كفرها)). [3872] 3873 - وعن أبي نجيح السلمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بلغ بسهم في سبيل الله؛ فهو له درجة في الجنة، ومن رمى بسهم في سبيل الله؛ ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عقبة: قوله: ((ومنبله)) ((نه)): يقال: نبلت الرجل بالتشديد إذا ناولته النبل ليرمي به. وكذلك أنبلته. قال أبو عمرو الزاهد: نبلته وأنبلته ونبلته، ويجوز أن يراد بالمنبل الذي يرد النبل علي الرامي من الهدف. قوله: ((واركبوا)) عطف و ((اركبوا)) يدل علي المغايرة وأن الرامي يكون راجلا والراكب رامحا، فيكون معنى قوله: ((وأن ترموا)) أن الرمي بالسهم أحب إلي من الطعن بالرمح. قال ابن عباد: ومكان ضنك علي الفارس والراجل ضيق علي الرامح والنابل وفي هذا الكلام لف ونشر. الحديث الثاني عن أبي نجيح: قوله: ((من بلغ بسهم)) ((مظ)): أي أوصل سهما إلي كافر فهو له درجة، ومن رمى سهما كان له من الثواب مثل عدل رقبة وإن لم يوصل إليه. أقول: فعلي هذا في الكلام تنزل من الأعلي إلي الأدنى. ويمكن أن يحمل علي الترقي فيقال: إن مفعول ((بلغ)) محذوف يقال: بلغت المكان إذا وصلت إليه، والباء حال أي من بلغ مكان الحرب مع سهمه ومصاحبا له يكون له درجة، وإن رمى به تكون له درجات. والرواية الثانية وهي ((من شاب شيبة في سبيل الله)) أنسب بهذا المقام. ومعناه من مارس المجاهدة حتى تشيب طاقة من شعره فله ما لا يوصف من الثواب. دل عليه تخصيص ذكر النور والتنكير فيه. ومن روى ((في الإسلام)) بدل ((في سبيل)) أرد بالعام الخاص، أو سمي الجهاد إسلاما؛ لأنه عموده وذروة سنامه.

فهو له عدل محرر. ومن شاب شيبة في الإسلام؛ كانت له نورا يوم القيامة)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). وروى أبو داود الفصل الأول، والنسائي الأول والثاني، والترمذي الثاني والثالث، وفي روايتهما: ((من شاب شيبة في سبيل الله)) بدل ((في الإسلام)). 3874 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3874] 3875 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدخل فرسا بين فرسين، فإن كان يؤمن أن يسبق؛ فلا خير فيه، وإن كان لا يؤمن أن يسبق؛ فلا بأس به)). رواه في ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا سبق)) ((نه)): هو بفتح الباء. ما يجعل من المال رهنا علي المسابقة. وبالسكون مصدر سبقت أسبق. وقال الخطابي: الرواية الفصيحة بفتح الباء. المعنى: لا يحل أخذ المال في المسابقة إلا في هذه الثلاثة: وهي الإبل والخيل والسهام. ولا بد فيه من تقدير أي ذي خف وذي نصل وذي حافر. ((حس): ويدخل في معنى الخيل البغال والحمير وفي معنى الإبل الفيل. قيل: لأنه أغنى من الإبل في القتال، وألحق بعضهم الشد علي الإقدام والمسابقة عليها.، وفيه إباحة أخذ المال علي المناضلة لمن نضل، وعلي المسابقة علي الخيل والإبل لمن سبق. وإليه ذهب جماعة من أهل العلم؛ لأنها عدة لقتال العدو، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد. قال سعيد بن المسيب: ليس برهان الخيل بأس إذا أدخل فيها محلل، والسباق بالطير والرجل وبالحمام، وما يدخل في معناها مما ليس من عدة الحرب ولا من باب القوة علي الجهاد، فأخذ المال عليه قمار محظور وسئل ابن المسيب عن الدحو بالحجارة. فقال: لا بأس به. يقال: فلان يدحو بالحجارة أي يرمي بها. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يؤمن أن يسبق)) أي يعلم ويعرف أن هذا الفرس سابق غير مسبوق، فلا خير فيه. بخلافه إذا لم يعلم ولم يعرف. ((مظ)): اعلم أن المحلل ينبغي أن يكون علي فرس مثل فرس المخرجين أو قريبا من فرسيهما في العدو، فإن كان فرس المحلل جوادا بحيث يعلم المحلل أن فرسي المخرجين لا يسبقان فرسه لم بجز. بل وجوده كعدمه وإن كان لا يعلم أنه يسبق فرسي المخرجين يقينا. أو أنه يكون مسبوقا جاز.

((شرح السنة)). وفي رواية أبي داود، قال: ((من أدخل فرسا بين فرسين، يعني وهو لا يأمن أن يسبق؛ فليس بقمار. ومن أدخل فرسا بين فرسين، وقد أمن أن يسبق؛ فهو قمار)). [3875] 3876 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا جلب ولا جنب)). زاد يحيى في حديثه: ((في الرهان)) رواه أبو داود، والنسائي، ورواه الترمذي مع زيادة في باب ((الغضب)). [3876] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): ثم في المسابقة إن كان المال من جهة الإمام، أو من جهة واحد من عرض الناس شرط للسابق من الفارسين مالا معلوما فجائز، فإذا سبق استحقه، وإن كان من جهة الفارسين، فقال أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك علي كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك فهو جائز أيضا، فإذا سبق استحق المشروط. وإن كان المال من جهة كل واحد منهما بأن قال لصاحبه: وإن سبقتك فلي عليك كذا وإن سبقتني فلك علي كذا، فهذا لا يجوز إلا بمحلل يدخل بينهما إن سبق المحلل أخذ السبقين، وإن سبق فلا شيء عليه. وسمي محللا؛ لأنه محلل للأسبق أخذ المال. فبالمحلل يخرج العقد عن أن يكون قمارا؛ لأن القمار أن يكون الرجل مترددا بين الغنم والغرم، فإذا دخل بينهما لم يوجد فيه هذا المعنى. ثم إذا جاء المحلل أولا ثم جاء المتسابقان معا أو أحدهما بعد الآخر أخذ المحلل السبقين. وإن جاء المستبقان معا ثم المحلل فلا شيء لأحد، وإن جاء أحد المستبقين أولا، ثم المحلل، والمستبق الثاني. أما معا أو أحدهما بعد الآخر صور السابق سبقه وأخذ سبق الثاني وإن جاء المحلل وأحد المستبقين معا ثم جاء الثاني مصليا، أخذ السابقان سبق المصلي. الحديث الخامس عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((لا جلب)) مضى شرحه في باب الزكاة. قوله: ((زاد يحيي في حديثة)) هو قول أبي داود، وروى هذا الحديث بإسنادين إسناد ليس فيه يحيي بن خلف هذا ولا هذه الزيادة، وإسناد فه يحيي والزيادة. وأما ما في المصابيح من قوله: ((يعني في الرهان)) فهو تفسير مؤلفه، كما قال الشيخ التوربشتي: لعله فسر الحديث الذي ليس فيه هذه الزيادة؛ لدلالة ما فيه عليه، وكان من حقه أن يذكر ما هي فيه. الحديث السادس عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((الأدهم)) ((تو)): الأدهم الذي يشتد سواده. و ((الأقرح)) الذي في وجهه القرحة بالضم، وهي ما دون الغرة. و ((الأرثم)) الذي في -

* وعن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم، ثم الأقرح المحجل طلق اليمين، فإن لم يكن أدهم؛ فكميت: علي هذه الشية)) رواه الترمذي، والدارمي. [3877] 3878 - وعن أبي وهب الجشمين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بكل كميت أغر محجل، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر محجل)) رواه أبو داود، والنسائي. [3878] 3879 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمن الخيل في الشقر)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3879] 3880 - وعن (عتبة) * بن عبد السلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ حجفلته العليا بياض. والتحجيل بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها أو في رجليه، قل أو كثر بعد أن يجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين. ((طلق)) بضم الطاء واللام إذا لم يكن في إحدى قوائمه تحجيل. ((والكميت)) من الخيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمصدر الكمية وهي حرة يدخلها قترة. وقال الخليل: إنما صغر لأنه بين السواد والحمرة لم يخلص له واحد منهما، فأرادوا بالتصغير أنه قريب منهما. و ((الشية)) كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره، فالهاء فيه عوض من الواو الذاهبة من أوله، وهمزها خطأ. الحديث السابع عن أبي وهب: قوله: ((أو أشقر)) الفرق بين الكميت والأشقر بقترة تعلو الحمرة وبسواد العرف والذنب في الكميت. الحديث الثامن والتاسع عن عتبة رضي الله عنه قوله: ((ولا معارفها)) ((قض)): أي شعور عنقها جمع عرف علي غير قياس. وقيل: هي جمع معرفة وهي المحل الذي ينبت عليها العرف، فأطلقت علي الأعراف مجازا. ((ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها)) أي مراوحها تذب بها الهوام عن أنفسها. و ((معارفها دفاؤها)) أي كساها الذي تدفأ به. قوله: ((معقود فيها الخير)) قد

((لا تقصوا نواصي الخيل، ولا معارفها، ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير)) رواه أبو داود. [3880] 3881 - وعن أبي وهب الجشمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارتبطو الخيل، وامسحوا بنواصيها وأعجازها – أو قال: كفالها – وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار)) رواه أبو داود، والنسائي. [3881] 3882 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا مأمورا، ما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارا علي فرس. رواه الترمذي، والنسائي. [3882] ـــــــــــــــــــــــــــــ سبق أنه من الاستعارة المكنية؛ لأن الخير ليس بمحسوس حتى يعقد عليه الناصية، فكيف جعله محسوسا هاهنا ونهي عن قطعها؟ يقال: إنهم قد يدخلون المعقول في جنس المحسوس، ويحكمون عليه بما يحكم علي المحسوس مبالغة في اللزوم قال: ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة في السماء وقال الآخر: هي الشمس مسكنها في السماء فعز الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعود ولن تستطيع إليك النزولا الحديث العاشر عن أبي وهب رضي الله عنه: قوله: ((وقلدوها)) ((نه)): أي قلدوها طلب أعداء الدين والدفاع عن المسلمين، ولا تقلدوها طلب أوتار الجاهلية ودخولها التي كانت بينكم. والأوتار جمع وتر – بالكسر – وهو الدم وطلب الثأر. يريد اجعلوا ذلك لازما لها في أعناقها لزوم القلائد للأعناق. وقيل: أراد بالأوتار جمع وتر القوس، أي لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق؛ لأن الخيل ربما رع الأشجار فتشبثت الأوتار ببعض شعبها فتخنقها. وقيل: إنما نهاهم عنها لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخليل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى فيكون كالعوذة لها فنهاهم، أعلمهم أنها لا تدفع ضرا ولا تصرف حذرا. الحديث الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((عبدا مأمورا)) ((قض)): أي مطواعا غير مستبد في الحكم ولا حاكم بمقتضى ميله وتشهيه، حتى يخص من شاء بما شاء من الأحكام. ((ما اختصنا)) يريد به نفسه سائر أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ((دون الناس بشيء إلا

بثلاث)) أي ما اختصنا بحكم لم يحكم به علي سائر أمته، ولم يأمرنا بشيء لم يأمرهم به إلا بثلاث خصال. والظاهر أن قوله: ((أمرنا)) إلي آخره تفصيل لها. وعلي هذا ينبغي أن يكون الأمر أمر إيجاب، وإلا لم يكن فيه اختصاص؛ فإن إسباغ الوضوء مندوب علي غيرهم. وإنزاء الحمار علي الفرس مكروه مطلقا، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه: ((إنما يفعل ذلك الذي لا يعلمون)). والسبب فيه قطع النسل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فإن البغلة لا تصلح للكر والفر؛ ولذلك لا يسهم لها في الغنيمة ولا سبق فيها علي وجه؛ ولأنه علق بأن لا يأكل الصدقة هو واجب، فينبغي أن يكون قرينة أيضا لذلك، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، اللهم إلا أن تفسر الصدقة بالتطور أو الأمر المشترك بين الإيجاب والندب. ويحتمل أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم ما اختصنا بشيء إلا بمزيد الحث والمبالغة في ذلك. أقول: قد تقرر عند علماء البيان أنهم يقدمون علي ما سبق الكلام له تنبيهات ومقدمات، كقرع العصا بأن ما يتولها أمور عظام وخطوب جسام، ينبغي أن يتلقاها السامع بشراشره، فافتتاح ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: ((كان عبدا مأمورا)) يدل علي فخامة ما بعده من قوله: ((ما اختصنا)) إلي آخره. ونظيره في تمهيد المقدمة والعرض والأسلوب ما سبق في تفسير قول علي رضي الله عنه، حين سئل هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال: ((والذي فلق الحبة وبرأن النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى الرجل في كتابه وما في الحصيفة)) الحديث؛ فإن القسيمة في حديث علي رضي الله عنه وقعت موقع قوله: ((كان عبدا مأمورا)). فقول ابن عباس أيضا من ذلك الوادي، يعني ما اختصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معاشر أهل البيت من بين سائر الناس إلا بهذه الخلاف المعلومة المشهورة، بعضها سنة مشتركة بين سائر الناس، كإسباغ الوضوء مثلا، وبعضها مكروهة كإنزاء الحمار مثلا، وبعضها مختصة بأهل البيت كحرمة الصدقة المغصوبة في الكتاب والسنة مثلا. فإن عدت هذه الأمور وتلك الأوامر من العلوم المختصة بنا فهو ذاك. فلما لم يكن مختصا بنا علمها، فيلزم أن لم يكن استأثرنا بشيء من العلوم دون الناس. ردا للشيعة أبلغ رد؛ لأنه من باب إرخاء العنان وإجراء الكلام مع الخصم علي سنن يبعث للمنصف أن يتفكر فيه ويذعن للحق، كقوله تعالي: {وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلي هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}. وتلخيص الكلام وتحريره أن سياق الكلام وارد لنفي التهمة عن أنفسهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختصهم بشيء من العلوم دون الناس، فتعداد تلك الخصال ليست لبيان الواجب أو الندب أو الكراهة، بل لمجرد خلال معدودة علي غير ترتيب والتئام، ولذلك حسن موقعها في النظام وإلا كان كالجمع بين الضب والنون، والأروى والنعام، عرف ذلك من رزق الذوق، وإلا فلا حيلة مع من حرمها.

3883 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، فركبها، فقال علي: لو حملنا الحمير علي الخيل فكانت لنا مثل هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون)) رواه أبو داود، والنسائي. [3883] 3884 - وعن أنس، قال: كانت فبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، والدارمي. [3884] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقريب من هذا قول الشيخ التوربشتي حيث قال: ومن تدبر هذا القول – يعني قول ابن عباس: أمرنا بإسباغ الوضوء – عرف من طريق الفهم أنه من أعلام النبوة، وذلك أن الآخرين ممن ينتمي إلي بيت النبوة نسبا، أو يدعي موالاة أهل البيت عصبية قد أحدثوا في الإسلام بدعة، وهي القول بمسح الأرجل دون الغسل اختلافا وافتراء علي الأولين من أهل بيت النبوة صدقا وعدلا – ومعاذ الله – أن يظن بألئك السادة مثل ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنا أمرهم بالإسباغ نفيا لهذه البدعة عنهم. الحديث الثاني عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((الذين لا يعلمون)) مطلق يحتمل أن يقدر مفعوله بدلالة الحديث السابق، أي لا يعلمون كراهيته وعلتها كما سبق. وأن لا يقدر ويجري مجرى اللازم للمبالغة، أي الذين ليسوا من أهل المعرفة في شيء وأنهم غير عارفين أنه بعيد من الحكمة، وتغيير لخلق الله تعالي. ومال المظهر إلي كراهة ذلك حيث قال: وإنزاء الحمار علي الفرس جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البغل وجعله تعالي من النعم، ومن علي عباده بقوله: {والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً}. أقول: لعل الإنزاء غير جائز والركوب والتزين به جائزان كالصور؛ فإن عملها حرام واستعمالها في الفرش والبسط مباح. وقوله: ((فكانت لنا)) عطف علي ((حملنا)) وجواب ((لو)) محذوف أي لكان صوابا. الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قبيعة)) ((نه)): هي التي تكون علي رأس قائم السيف. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف. والجوهري: قبيعة السيف ما علي طرف مقبضه من فضة أو حديدة. ((حس)): فيه دليل علي جواز تحلية السيف بالقليل من الفضة وكذلك المنطقة. ((حس)): اختلفوا في تحلية اللجام والسرج فأباحه بعضهم كالسيف، وحرم بعضهم لأنه من زينة الدابة. وكذلك اختلفوا في تحلية سكين الحرب والمقلمة بقليل من الفضة. فأما التحلية بالذهب فغير مباح في جميعها. ((تو)): حديث مزيدة لا تقوم به حجة إذ ليس له سند يعتد به؛ ذكر صاحب الاستيعاب حديثه، وقال: إسناده ليس بالقوي.

3885 - وعن هود بن عبد الله بن سعد، عن جده مزيدة، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلي سيفه ذهب وفضة. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريبز 3886 - وعن السائب بن يزيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه يوم أحد درعان قد ظاهر بينهما. رواه أبو داود، وابن ماجه. [3886] 3887 - وعن ابن عباس، قال: كانت راية نبي الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. رواه الترمذي، وابن ماجه. [3887] 3888 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض. رواه الترمذي وأبو داود، وابن ماجه. [3889] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عشر عن السائب: قوله: ((قد ظاهر بينهمما)) ((نه)): أي جمع بينهما، ولبس أحدهما فوق الأخرى كأنه من التظاهر، التعاون والتساعد. الحديث السادس عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((راية)) ((نه)): الراية العلم الضخم. وكان اسم راية النبي صلى الله عليه وسلم العقاب. ويقال: ربيت الراية أي ركزتها. المغرب: اللواء علم الجيش وهو دون الراية؛ لأنه شقة ثوب تلوى وتشد إلي عود الرمح. والراية علم الجيش ويكنى أم الحرب وهو فوق اللواء. قال الأزهري: والعرب لا تهمزها وأصلها الهمز، أنكر أبو عبيد والأصمعي الهمز. ((تو)): الراية هي التي يتولاها صاحب الحرب ويقاتل عليها، وإليها تميل المقاتلة، واللواء علامة كبكبة الأمير يدور معه جيشه حيث دارت. الحديث السابع والثامن عشر عن موسي: قوله: ((كانت سوداء)) ((قض)): أراد بالسوداء ما غالب لونه سواد، بحيث يرى من البعد أسود، لا مما لونه سواد خالص؛ لأنه قال: ((من نمرة)) وهي بردة من صوف من سواد يلبسها الأعراب، فيها تخطيط من سواد وبياض، ولذلك سميت نمرة تشبيها بالنمر، ويقال لها العباء أيضا.

الفصل الثالث 3890 - عن أنس، قال: لم يكن شيء أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. رواه النسائي. [3890] 3891 - وعن علي، قال: كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس عربية فرأي رجلا بيده قوس فارسية، قال: ((ما هذه؟ ألقها، وعليكم بهذه وأشباهها ورماح القنا فإنها يؤيد الله لكم بها في الدين ويمكن لكم في البلاد)) رواه ابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من الخيل)) ذكر الخيل هنا كناية عن الغزو والمجاهدة في سبيل الله. وقرانه مع النساء هنا لإرادة التكميل كما جاء في حديث آخر: ((حبب إلي الطيب والنساء، وجعل قرة عيني في الصلاة)) * فإنه لما أخبر أن النساء كانت أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصلحة العباد علي ما مر في حديث الاستغفار، أحس في نفسه أن هذا الوصف يوهم أنه صلى الله عليه وسلم، كان مائلا إلي معاشرة أرباب الخدور ومشتغلا بهن معالي الأمور، فكمل بقوله: ((من الخيل)) ليؤذن بأنه مع ذلك مقدام بطل في الكر والفر مجاهد مع أعداء الله، كما كمل في الحديث الآخر بقوله: ((وجعل قرة عيني في الصلاة)) فأذن بأنه صلى الله عليه وسلم مجاهد مع نفسه واصل إلي مخدع القرب. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فإنها)) اسم ((إن)) ضمير القصة كقوله تعالي: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} ولعل الصحابي رأي أن القوس الفارسية أقوى وأشد وابعد مرمى. فآثرها علي العربية زعما بأنها أعون في الحرب وفتح البلاد، فأرشده صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كما زعمت، بل إن الله تعالي هو الذي ينصركم في الدين، ويمكنكم في البلاد بعونه لا بقوتكم وقوة إعدادكم. قوله: ((ويمكن لكم)) يقال: مكنته في الأرض أثبته فيها.

(2) باب آداب السفر

(2) باب آداب السفر الفصل الأول 3892 - عن كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس. رواه البخاري. 3893 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم؛ ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخاري. 3894 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب آداب السفر الفصل الأول الحديث الأول عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((تبوك)) (((مخيم اليرموك))): التبوك تثوير الماء بعود ونحوه ليخرج من الأرض. وبه سميت غزوة تبوك. ((تو)): اختياره صلى الله عليه وسلم يوم الخميس للخروج محتمل لوجوه: أحدها: أنه يوم مبارك ترفع فيه أعمال العباد إلي الله تعالي، وقد كانت سفراته لله وفي الله والي الله، فأحب أن يرفع له فيه عمل صالح. وثإنيها: أنه أتم أيام الأسبوع عددا. وثالثها: أنه كان يتفاءل بالخميس في خروجه، وكان من سنته أن يتفاءل بالاسم الحسن. والخميس الجيش لأنهم خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. فيرى في ذلك من الفأل الحسن حفظ الله له وإحاطة جنوده به حفظا وحماية. وزاد القاضي: ولتفاؤله بالخميس عى أنه يظفر علي الخميس الذي هو جيش العدو ويتمكن عليهم. والأشرف: أو لأنه يخمس فيه الغنيمة. الحديث الثاني عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((ما في الوحدة)) ((ما)) الأولي استفهامية علق العلم علي العمل، والثانية موصولة والثالثة نافية. ((مظ)) *: فيه مضرة دينية إذ ليس من يصلي معه بالجماعة، وضرة دنيوية؛ إذ ليس معه من يعينه في الحوائج. أقول: وكان من حق الظاهر أن يقال: ما سار أحد وحده. فقيد بالراكب والليل؛ لأن الخطر بالليل أكثر، وأن انبعاث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفي للويل. وقولهم: أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العذر لا سيما إذا كان راكبا؛ فإنه له خوف جفلة المركوب ونفوره من أدنى شيء، والتهوي في الوهدة بخلاف الراجل. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رفقة)) ((مح)): هي بكسر الراء

3895 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الجرس مزامير الشيطان)) رواه مسلم. 3896 - وعن أبي بشير الأنصاري: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا: ((لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر – أو قلادة – إلا قطعت)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وضمها. والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة لا الحفظة، وسبب الحكمة في عدم مصاحبة الملائكة مع الجرس أنه شبيه بالنواقيس، أو لأنه من المعاليق المنهي عنها لكراهة صوتها، ويؤيده قوله: ((مزامير الشيطان)) وهو مذهبنا ومذهب مالك. وهي كراهة تنزيه. وقال جماعة من متقدمي علماء الشام: يكره الجرس الكبير دون الصغير. ((حس)): روى أن جارية دخلت علي عائشة رضي الله عنها وفي رجلها جلاجل، قالت عائشة رضي الله عنها: أخرجوا عني مفرقة الملائكة. وروى أن عمر رضي الله عنه قطع أجراسا في رجل الزبير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مع كل جرس شيطانا)). قوله: ((ولا جرس)) جاز عطفه علي قوله: ((فيها كلب)) وإن كان مثبتا لأنه في سياق النفي. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مزامير الشيطان)) أخبر عن المفرد بالجمع إما إرادة للجنس أو أن صوتها لا ينقطع كلما تحرك المعلق به، لا سيما في السفر، بخلاف المزامير المتعارفة كقول الشاعر: معي جياعا. وصف المفرد بالجمع ليشعر بأن كل جزء من أجزاء المعي بمثابته لشدة الجوع. وأضاف إلي الشيطان لأن صوته لم يزل يشغل الإنسان عن الذكر والفكر. والله أعلم. الحديث الخامس عن أبي بشير: قوله: ((لا تبقين)) إما صفة لـ ((رسولا)) أي أرسل رسولا آمرا له أن ينادي في الناس بهذا، أو حال من فاعل ((أرسل)) أي أرسل رسولا آمرا له أن ينادي بهذا، والأول أظهر. ومعنى الاستثناء إنما يستقيم إذا فسر ((لا يبقين)) بـ ((لا يتركن)). والاستثناء مفرغ، والمستثنى منه أعم عام الأحوال. ((حس)): تأويل مالك رضي الله عنه أمره صلى الله عليه وسلم بقطع القلائد علي أنه من أجل العين؛ وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والقلائد التمائم، ويعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا. وقال غيره: إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون عليها الأجراس. وقد سبق هذا في باب أدب الخلاء. و ((أو)) من شك الراوي. ((مح)): قال محمد بن الحسن وغيره: معناه لا تقلدوها أوتار القسي لئلا تضيق علي عنقها فتخنقها.

3897 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير، وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا لطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل)). وفي رواية: ((إذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حقها من الأرض)) ((قض)): أي حظها من نباتها، يعني دعوها ساعة فساعة ترعى؛ إذ حقها من الأرض رعيها فيها. وفيه ((وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير)) أي إذا كان الزمان زمان قحط فأسرعوا السير عليها، ولا تتوقفوا في الطريق ليبلغكم المنزل قبل أن يضعف. وقد صرح بهذا في الرواية الأخرى: ((وهي إذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها)) أي أسرعوا عليها السير ما دامت قوته باقية. ((النقي)) هو المخ. أقول: وإنما أثبت لها الحق وصرح بها في القرينة الأولي علي الأرض؛ لأن الله تعالي أنزل من السماء ماء فأخرج الكلأ والعشب لرعيها، فلا ينبغي أن يهضم حقها منها. وخص النقي وكنى في الثانية دلالة علي أن المخ أيضا من حقها، بخلاف اللحم فإن السير سواء كان في الخصب أو في القحط ينقص من اللحم، فإذا كان المخ الذي منه القوة وعليه قيامها باقيا، لا يتطرق إليها ما ينقص من حقها، وفي إذهابه الظلم. ((تو)): ومن الناس من يرويه ((نقبها)) بالباء الموحدة بعد القاف، ويرى الضمير فيه راجعا إلي الأرض، ويفسر النقب بالطريق وليس ذلك بشيء، ومن التصحيفات التي لم يزل فيها العالم فضلا عن الجاهل. ((شف)): قال في الصحاح: نقب البعير – بالكسر – إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس إذا تخرقت. ويمكن أن يجعل هذا اللفظ بهذا المعنى فلا يكون تصحيفا. أقول: قد ضبطه الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم، وقال: نقيها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ. ولم يبين إعرابه، ويحتمل الحركات الثرث أن يكون منصوبا مفعولا به. قال في أساس البلاغة: بدر إلي الخير وبادره الغاية والي الغاية، قال: فبادروها ولجات الخمر أي مواضع الولوج، وفلان يبادر في أكل مال اليتيم بلوغه بدارا، وتبادروا الباع وابتدروها. وقيل: تبادر الباع من خصال الكرام، ومنه: إذا الكرام ابتدروا الباع. بدر عداه إلي المفعول الأول بالواسطة وبغيرها والي المفعول الثاني بالواسطة وبغيرها، وهذا من القسم الأخير. وجعل ذهاب النفي بمنزلة المبادر إلي الغاية وجاء بالمفاعلة. و ((بها)) حال منه، أي بادروا نقيها إلي المقصد ملتبسا بها، أو من الفاعل أي ملتبسين بها. ويجوز أن تكون الباء

3898 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل علي راحلة فجعل يضرب يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له)) قال: فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ سببية أي بادروا بسبب سيرها نقيها، وأن تكون للاستعانة، أي بادروا نقيها مستعينين بسيرها، ومنه الحديث: ((بادروا بالأعمال ستاً الدخان والدجال)) الحديث. ويجوز أن يكون مرفوعاً فاعلا للظرف وهو حال، أي بادروا إلي المقصد ملتبسين بها نقيها، أو مبتدأ والجار والمجرور خبره والجملة حال كقولهم: فوه إلي في. وأن يكون مجروراً بدلاً من الضمير المجرور، المعنى: بادروا سارعوا بنقيها إلي المقصد باقية النفي، فالجار والمجرور حال. وليت شعري كيف يستقيم المعنى مع إرادة نقب الخف؟ قوله: ((وإذا عرستم)) ((مح)): التعريس النزول في آخر الليل للنوم والراحة، وقيل: هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار، والمراد في الحديث الأول أرشد إليه صلوات الله عليه وسلامه؛ لأن الحشرات ودواب الأرض وذوات السموم والسباع وغيرها تطرق في الليل علي الطرق لتلتقط ما سقط من المارة من مأكول ونحوه. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فجعل يضرب يميناً وشمالاً)) ((مظ)): أي طفق يمشي يميناً وشمالا، أي يسقط من التعب أن كان راحلته ضعيفة لم يقدر أن يركبها فمشى راجلا. ويحتمل أن تكون راحلته قوية إلا أنه قد حمل عليها زاده وأقمشته، ولم يقدر أن يركبها من ثقل حملها فطلب له صلوات الله عليه من الجيش فضل ظهر أي دابة زائذة علي حاجة صاحبها. أقول: في توجيهه إشكال؛ لأن ((علي راحلة)) صفة ((رجل)) أي راكب عليها. وقوله: ((فجعل)) عطف علي جاء بحرف التعقيب، اللهم إلا أن يتمحل ويقال: إنه عطف علي محذوف، أي فنزل فجعل يمشي، والأوجه أن يقال: إن ((يضرب)) مجاز عن أن يلتفت لا عن يمشي أي فطفق يلتفت يميناً وشمالاً، وبهذا أيضاً يسقط الاحتمال الثاني الذي يأباه المقام، ويشهده ما روى في صحيح مسلم. قال الشيخ محيي الدين: جاء رجل علي راحلة فجعل يلتفت يصرف بصره يميناً وشمالاً، هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: يميناً وشمالاً وليس فيها ذكر بصره. وفي بعضها ((يضرب)) – بالضاد المعجمة – المعنى يصرف بصره متعرضاً بشيء يدفع به حاجته. وفيه حث علي الصدقة والمواساة والإحسان إلي الرفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالحهم والسعي في قضاء حاجة المحتاج يتعرض للعطاء وتعريضه من غير سؤال، وإن كان له راحلة

3899 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى نهمته من وجهه فليجعل إلي أهله)). متفق عليه. 3900 - وعن عبد الله بن جعفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه، قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة علي دابة. رواه مسلم. 3901 - وعن أنس، أنه أقبل هو وأبو طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية مردفها علي راحلته. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعليه ثياب أو كان موسراً في وطنه، يعطي من الزكاة في هذا الحال. والله أعلم. قوله: ((فليعد به)) أي فليرفق به ويحمله علي ظهره. قال في أساس البلاغة: تقول: عاد إلينا فلان بمعروفه، وهذا الأمر أعود عليك أي أرفق بك من غيره. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نهمته)) ((تو)): النهمة بلوغ الهمة في الشيء، وقد نهم بكذا فهو منهوم أي مولع به انتهي كلامه. و ((من وجهه)) متعلق بـ ((قضى)) أي إذا حصل مقصوده من جهته وجانبه الذي توجه إليه. ((خط)): فيه الترغيب في الإقامة لئلا تفوته الجمعات والجماعات والحقوق الواجبة للأهل والقرابات، وهذا في الأسفار غير الواجبة، ألا تراه يقول صلى الله عليه وسلم: ((فإذا قضي نهمته فليعجل إلي أهله)) أشار إلي السفر الذي له نهمة وأرب من تجارة أو تقلب دون السفر الواجب كالحج والغزو. انتهي كلامه. ((حس)): فيه دليل علي تغريب الزإني؛ قال الله تعالي: {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ} والتغريب عذاب كالجلد. ((مح)): سمي الفطر قطعة من العذاب؛ لما فيه من المشقة والتعب ومعاناة الحر والبرد والخوف والسري، ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش. الحديث التاسع عن عبد الله: قوله: ((ثلاثة علي دابة)) حال موطئة أي ثلاثة كائنة علي دابة كقوله تعالي: {لِّسَانًا عَرَبِيًا}. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أقبل)) أكد المستتر ليعطف المظهر عليه، و ((مع النبي)) ظرف ((أقبل)) أو حال أي مصاحبين النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((مردفها)) حال من ((النبي)) والعامل متعلق الظرف كأنهم أقبلوا من سفر علي هذه الهيئة والحالة. وكذا صرح في شرح السنة عن أنس قال: أقلبنا من خيبر وبعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم رديفه.

3902 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلاً، وكان لا يدخل إلا غدوة أو عشية. متفق عليه. 3903 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً)). متفق عليه. 3904 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت ليلاً فلا تدخل علي أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)) متفق عليه. 3905 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة. رواه البخاري. 3906 - وعن كعب بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلي فيه ركعتين، ثم جلس فيه للناس. متفق عليه. 3907 - وعن جابر، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي: ((ادخل المسجد فصل فيه ركعتين)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا غدوة أو عشية)) لم يرد بالعشية الليل كقوله: ((لا يطرق أهله ليلا)) وإنما المراد بعد العصر كقوله تعالي: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الكشاف: {وَعَشِيًّا} صلاة العصر ((وتظهرون)) صلاة الظهر. ((نه)): الظروف من الطرق وهو الدق، وسمي الآتي بالليل طارقاً لحاجته إلي دق الباب. ((حس)): عن ابن عباس أنه قال: فطرق رجلان بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم فوجد كل واحد منهما مع امرأته رجلا. الحديث الثالث عشر إلي السادس عشر عن جابر رضي الله عنها: قوله: ((تستحد المغيبة)). ((تو)): الاستحداد حلق شعر العانة، وأغابت المرأة إذا غاب عنها زوجها فهي مغيبة بالهاء وشذ بلا هاء وأراد بالاستحداد أن تعالج شعر عانتها بما منه المعتاد من أمر النساء، ولم بد به استعمال الحديد؛ فإن ذلك غير مستحسن في أمرهن. والشعثة المتفرقة الشعر. ((مح)): هذه كلها تكره لمن طال سفره، فأما من سفره قريب يتوقع إتيانه ليلا فلا بأس؛ لقوله: ((إذا أطال الرجل الغيبة)) وكذا إذا كان في قفل عظيم أو عسكر ونحوهم، واشتهر قدومهم، وعلمت امرأته وأهله أنه قادم فلا بأس بقدومه ليلاً؛ لزوال المعنى الذي هو سببه، فإن المراد التهيؤ وقد حصل ذلك. الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((جزوراً أو بقرة)) أي السنة لمن قدم من سفر أن يضيف بقدر وسعه. والله أعلم.

الفصل الثاني 3908 - عن صخر بن وداعة الغامدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً. فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله. رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [3908] 3909 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوي بالليل)) رواه أبو داود. [3909] 3910 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)) رواه مالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي. [3910] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن صخر: قوله: ((في بكورها)) ((مظ)): المسافرة سنة في أول النهار، وكان صخر هذا يراعي هذه السنة وكان تاجراً يبعث ماله في أول النهار للتجارة، فكثر ماله ببركة مراعاة السنة؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مقبول لا محالة. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالدلجة)) ((مظ)): الدلجة بضم الدال وسكون اللام اسم من أدلج القوم – بسكون الدال – إذا سافروا أول الليل، والدلجة أيضاً اسم من ادلجوا – بفتح الدال وتشديدها – إذا ساروا آخر الليل. يعني لا تقنعوا بالسير نهاراً، بل سيروا بالليل أيضاً؛ فإنه يسهل بحيث يظن الماشي أنه سار قليلاً وقد سار كثيراً. الحديث الثالث عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((الراكب شيطان)) ((مظ)): يعني مشي الواحد منفرداً منهي، وكذلك مشي الاثنين. ومن ارتكب منهياً فقد أطاع الشيطان، ومن أطاعه فكأنه هو؛ فلهذا أطلق صلى الله عليه وسلم اسمه عليه. ((حس)): معنى الحديث عندي ما روي عن سعيد بن المسيب مرسلاً: الشيطان يهم بالواحد وبالاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم. روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل سافر وحده: أرأيتم إن مات من أسأل عنه؟.

3911 - وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) رواه أبو داود. [3911] 3912 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [3912] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): المنفرد في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه ولا عنده من يوصى إليه في ماله، ويحتمل تركته إلي أهله ويورد خبره عليهم، ولا معه في السفر من يعينه علي الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة، وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ فيها. الحديث الرابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فليؤمروا أحدهم)) ((حس)): إنما أمر بذلك ليكون أمرهم جميعاً ولا يقع بينهم خلاف فيتبعوا فيه. وفيه دليل علي أن الرجلين إذا حكما رجلاً بينهما في قضية فقضى بالحق نفذ حكمه. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((خير الصحابة أربعة)) قال أبو حامد: المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج إلي حفظه وعن حاجة يحتاج إلي التردد فيها، ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد واحداً فيبقى بلا رفيق، فلا يخلو عن خطر وضيق قلب لفقد الإنيس. ولو تردد اثنان لكان الحافظ وحده. ((مظ)): يعني الرفقاء إذا كانوا أربعة خير من أن يكونوا ثلاثة لأنهم إذا كانوا ثلاثة ومرض أحدهم وأراد أن يجعل أحد رفيقيه وصى نفسه لم يكن هناك من يشهد بإمضائه إلا واحد فلا يكفي، ولو كانوا أربعة كفي شهادة اثنين؛ ولأن الجمع إذا كان أكثر تكون معاونة بعضهم بعضاً أتم، وفضل صلاة الجماعة أيضاً أكثر، فخمسة خير من أربعة، وكذا كل جماعة خير ممن أقل منهم لا من فوقهم. أقول: جميع قرائن الحديث دائرة علي الأربع، واثنا عشر ضعفاً أربع، ولعل الإشارة بذلك إلي الشدة والقوة واشتداد ظهرإنيهم تشبيهاً بأركان البناء؛ ولذلك قال لوط عليه السلام: {أَوْ

3913 - وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسر، فيرجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم. رواه أبو داود. [3913] 3914 - وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)) فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلي بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم. رواه أبو داود. [3914] ـــــــــــــــــــــــــــــ آوِي إلي رُكْنٍ شَدِيدٍ} فهو أبلغ من قوله تعالي: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} لأن البنيان إنما يشتد بالأركان وأركان العبادات جوانبها التي عليها مبناها وبتركها بطلانها. وفي أساس البلاغة: ولقوة الحبل قيل حبل مربوع مفتول علي أربع قوى. ورجل ربعة مربوع ومرتبع وسيط القامة. ومر بقوم يربعون حجراً ويرتبعون وتبربعون وهذه ربيعة الأشداء وهي الحجر المرتبع. ورابعني فلان حاملني، وهو أن يأخذ بأيديهما حتى يرفع الحمل علي ظهر الجمل. وفلان مستربع للحمل وغيره مطيق. واستربع الأمر أطاقه. قال الأخطل: لعمري لقد ناطت هوازن أمرها مستربعين الحرب ثم المناخر وفلان علي رباعة قومه إذا كان سيدهم. وتربع في جلوسه. ومن المجاز: جاء فلان وعيناه تدمعان بأربعة، إذا جاء باكياً أشد البكاء. أي تسيلان بأربعة إماق. وقوله: ((لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) أي لو صاروا مغلوبين لم يكن للقلة بل لأمر آخر سواها، وإنما لم يكونوا قليلين والأعداء مما لا تعد ولا تحصى؛ لأن كل واحد من هذه الأثلاث جيش قوبل بالميمنة، أو بالميسرة، أو القلب فيكفيها؛ ولأن الجيش الكثير المقاتلة منهم بعضهم وهؤلاء كلهم مقاتلون. ومن ذلك قول بعض الصحابة يوم حنين وكانوا اثنا عشر ألفاً: لن نغلب اليوم من قلة، وإنما غلبوا من إعجاب منهم، قال تعالي: {ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا}. الحديث السادس عن جابر: قوله: ((فيزجي)) ((نه)): أي يسوقه ليلحقه بالرفاق. الحديث السابع عن أبي ثعلبة رضي الله عنه: قوله: ((إنما ذلكم)) وقع موقع خبر ((إن)) كقوله

3915 - وعن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه]، قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة علي بعير، فكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: نحن نمشي عنك. قال: ((ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)) رواه في ((شرح السنة)). [3915] 3916 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالي إنما سخرها لكم لتبلغكم إلي بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم)) رواه أبو داود. [3916] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالي: {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} والتركيب من باب الترديد للتعليق، كقوله الشاعر: لو مسها حجر مسته سراء أي لو مسها حجر لسرته فإن ((إن)) زيدت للتوكيد وطول الكلام و ((ما)) لتكفها عن العمل، وأصل التركيب إن تفرقكم في هذه الشعاب ذلكم من الشيطان. الحديث الثامن عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((زميلي)) ((نه)): الزميل العديل الذي حمله مع حملك علي البعير، وقد زاملني عازلني والزميل أيضاً الرفيق. و ((العقبة)) النوبة، ومنه أن كل غازية غزت يعقب بعضها بعضاً. أي يكون الغزو بينهم نوناً. قوله: ((نمشي عنك)) ضمن المشي معنى الاستغناء أي نستغنيك عن المشي يعني نمشي بدلك. وفيه إظهار غاية التواضع منه صلوات الله عليه، والمواساة مع الرفقاء والافتقار إلي الله تعالي. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((منابر)) كناية عن القيام عليها لأنهم إذا خطبوا علي المنابر قاموا. ((خط)): قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب علي راحلته واقفاً عليها، فدل ذلك علي أن الوقوف علي ظهرها إذا كان لأرب أو بلوغ وطر لا يدرك مع النزول إلي الأرض مباح، وأن النهي إنما انصرف إلي الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه، فيتعب الدابة من غير طائل. وكان مالك بن أنس يقول: الوقوف علي ظهور الدواب بعرفة سنة والقيام علي الأقدام رخصة.

3917 - وعن أنس، قال: كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال. رواه أبو داود. [3917] 3918 - وعن بريدة: قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ جاءه رجل معه حمار، فقال: يا رسول الله اركب! وتأخر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، أنت أحق بصدر دابتك، إلا أن تجعله لي)) قال: جعلته لك، فركب. رواه الترمذي، وأبو داود. [3918] 3919 - وعن سعيد بن أبي هند، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين)). فأما إبل الشياطين فقد رأيتها: يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلوا بعيراً منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها، كان سعيد يقول: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج. رواه أبو داود. [3919] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا بشق الأنفس)) ((نه)): الشق بالكسر من المشقة يقال: هم قوم بشق من العيش إذا كانوا في جهد. قوله: ((فعليها فاقضوا)) الفاء الأولي للسببية والثانية للتعقيب، أي إذا كان كذلك فعلي الأرض اقضوا حاجاتكم لا علي الدواب، ثم عقبه بقوله: ((فاقضوا حاجاتكم)) تفسيراً للمقدر، ففيه توكيد مع التخصيص. وجمع الحاجات وأضافها إلي سائر المخاطبين؛ ليفيد العموم يعني خصوا الأرض بقضاء حاجاتكم المختلفة الأنواع، ويكفيكم من الدواب أن تبلغكم إلي بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا نسبح)) قيل: أراد بالتسبيح صلاة الضحى. المعنى: أنهم كانوا مع اهتمامهم بأمر الصلاة لا يباشرونها، حتى يحطوا الرحال ويريحوا الجمال رفقاً بها وإحساناً إليها. الحديث الحادي عشر عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((لا)) هنا حذف و ((أنت أحق)) تعليل له أي لا ركب وأنت تأخرت لأنك أحق بصدر دابتك. وفيه بيان إنصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعه وإظهار لحق المرء؛ حيث رضي أن يركب خلفه. الحديث الثاني عشر عن سعيد رضي الله عنه: قوله ((بنجيبات)) ((نه)): النجيب من الإبل

3920 - وعن سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: ((إن من ضيق منزلاً، أو قطع طريقاً، فلا جهاد له)) رواه أبو دواد. [3920] 3921 - وعن جابر [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أحسن ما دخل الرجل أهله إذا قدم من سفر أول الليل)) رواه أبو داود. ـــــــــــــــــــــــــــــ القوي منها الخفيف السريع. والنجيب الفاضل الكريم الخسي. ((قض)): يريد بها ما تكون معدة للتفاخر والتكاثر ولم يقصد بها أمر مشروع، ولم يستعمل فيما تكون فيه قربة، فعين الصحابي من أصناف هذا النوع من الإبل صنفاً، وهو نجيبات سمان يسوقها الرجل معه في سفره فلا يركبها ولا يحتاج إليها في حمل متاعه، ثم إنه يمر بأخيه المسلم قد انقطع به من الضعف والعجز فلا يحمله، وعين التابعي صنفاً من البيوت وهو الأقفاص المجللة بالديباج يريد بها المحامل التي يتخذها المترفون في الأسفار. ((شف)): وليس في الحديث ما يدل عليه بل نظم الحديث دليل علي أن جميعه إلي قوله: ((فلم أرها)) من متن الحديث، من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي هذا فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((فأما إبل الشياطين فقد رأيتها)) – إلي قوله – ((فلا يحمله، وأما بيوت الشياطين فلم أرها)) فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير من الهوادج المستورة بالديباج والمحامل التي يأخذها المترفون في الأسفار. ومما يدل علي ما ذكرنا قول الراوي بعد قوله ((فلم أرها)): كان سعيد يقول: إلي آخره. أقول: وهذا توجيه غير موجه يعرف بأدنى تأمل والتوجيه ما عليه كلام القاضي. الحديث الثالث عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((فضيق الناس)) قيل: التضييق هنا بسبب أخذ منزل لا حاجة له إليه أو فوق حاجته. وقطع الطريق تضييقها علي المارة ((فلا جهاد له)) أي لا كمال ثواب الجهاد لإضراره الناس. الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إن أحسن ما دخل)) ((قض)): ((ما)) موصولة والراجع إليه محذوف، والمراد به الوقت الذي يدخل فيه الرجل علي أهله. و ((أهله)) منصوب بنزع الخافض وإيصال الفعل إليه علي سبيل الاتساع. ويحتمل أن تكون مصدرية علي تقدير مضاف، أي أن أحسن دخول الرجل علي أهله دخول أول الليل. أقول: والأحسن أن تكون موصوفة أي أحسن أوقات دخل الرجل فيها أهله أول الليل. و ((إذا)) هذا مرفوع محلاً خبر لـ ((إن)).

الفصل الثالث 3922 - عن أبي قتادة، قال: كان رسول الله، إذا كان في سفر فعرس بليل اضطجع علي يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه علي كفه. رواه مسلم. 3923 - وعن ابن عباس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه، وقال: أتخلف وأصلي مع رسو الله صلى الله عليه وسلم، ثم ألحقهم، فلما صلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال: ((ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟)) فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم. فقال: ((لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم)). رواه الترمذي. [3923] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): و ((قض)): والتوفيق بينه وبين ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً)) أن يحمل الدخول علي الخلو بها وقضاء الوطر منها، لا القدوم عليها. وإنما اختار ذلك أول الليل؛ لأن المسافر لبعده عن أهله يغلب عليه الشبق ويكون ممتلئاً تواقاً، فإذا قضى شهوته أول الليل خف بدنه وسكن نفسه وطاب نومه. أقول: قد سبق عن الشيخ محيي الدين أنه قال: يكره لمن طال سفره طروق الليل. فأما من كان سفره قريباً يتوقع إتيانه ليلاً، وكذا إذا طال واشتهر قدومه وعلمت امرأته قدومه. فلا بأس بقدومه ليلاً لزوال المعنى الذي هو سببه؛ فإن المراد التهيؤ وقد حصل ذلك. انتهي كلامه. والأحسن أن ينزل الحديث علي الثاني؛ لأن من طال سفره وبعد مدة الفراق طار قلبه اشتياقاً، وخصوصاً إذا قرب من الدار ورأي منها الآثار قال: إذا دنت المنازل راد شوقي ولا سيما إذا بدت الخيام ولأنه يكره للمسافر الذي طال سفره أن يقرب من الأهل إلا بعد أيام، لأنه يتضرر به. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فوافق)) الفاء فيه كما في قولك: أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول، فهو للتعقيب؛ فإن التفصيل يعقب المجمل. وقوله: ((لو أنفقت ما في الأرض)) الظاهر أن يقال: غدوتهم أفضل من صلاتك هذه. فعدل إلي المذكور مبالغة كأنه قيل: لا يوازيها شيء من الخيرات. وذلك أن تأخره ذاك ربما يفوت عليه مصالح كثيرة؛ ولذلك ورد: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)).

(3) باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلي الإسلام

3924 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر)) رواه أبو داود. [3924] 3925 - وعن سهل بن سعد [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سيد القوم في السفر خادمهم، فمن سبقهم بخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [3925] (3) باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلي الإسلام الفصل الأول 3926 - عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي قيصر يدعوه إلي الإسلام، وبعث بكتابه إليه دحية الكلبي، وأمره أن يدفعه إلي عظيم بصرى ليدفعه إلي قيصر، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((سيد القوم في السفر خادمهم)) فيه وجهان: أحدهما: أنه ينبغي أن يكون السيد كذلك لما وجب عليه من الإقامة بمصالحهم ورعاية أحوالهم ظاهراً وباطناً. نقل عن عبد الله المروزي: أنه صحبه أبو علي الرباطاي فقال أبو علي: أتكون أنت الأمير أم أنا؟ فقال: بل أنت. فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي علي ظهره، وأمطرت السماء ليلة، فقام عبد الله طوال الليل علي رأس رفيقه وفي يده كساء يمنع المطر منه، فكلما قال له: الله الله لا تفعل. فيقول: ألم تقل إن الإمارة مسلمة لك فلا تحكم علي. حتى قال أبو علي: وددت إني مت ولم أؤمره. كذا في الإحياء. وثإنيهما: أخبر أن من يخدمهم وإن كان أدناهم ظاهراً فهو في الحقيقة سيدهم؛ لأنه يثاب بعمله لله تعالي، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن سبقهم بخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة)) وذلك لأنه شريكهم فيما يزاولونه من الأعمال بوساطة خدمته. باب الكتاب إلي الكفار ودعائهم إلي الإسلام الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إلي قيصر)) هو لقب ملك الروم. وبصرى بضم الباء مدينة خوران ذات قلعة وأعمال قريبة من طرف البرية بين الشام والحجاز،

فإذا فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلي هرقل عظيم الروم. سلام علي من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بداعية الإسلام. أسلم تسلم. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلي كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ})) متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((من محمد رسول الله)) وقال: ((إثم اليريسيين)) وقال: ((بدعاية الإسلام)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وعظيم بصرى أميرها. والداعية مصدر بمعنى الدعوة كالعافية والعاقبة، ويروى ((بدعاية الإسلام)) أي بدعوته. وهي كلمة الشهادة التي يدعى إليها أهل الملل الكافرة. قوله: ((الأريسيين)) ((مح)): اختلفوا في ضبطة علي أوجه: أحدها: بيائين بعد السين. والثاني: بياء واحدة بعدها، وعلي الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة. والثالث: بكسر الهمزة وتشديد الراء وياء واحدة بعد السين. ووقع في الرواية الثانية في مسلم، في أول صحيح البخاري ((إثم اليريسيين)) بياء مفتوحة في أوله ويائين بعد السين. ثم اختلفوا في المراد بهم علي أقوال: أصحها وأشهرها: أنهم الأكارون أي الفلاحون والزراعون، ومعناه أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك. ونبه بهؤلاء علي جميع الرعايا لأنهم الأغلب؛ ولأنهم أسرع انقياداً فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا. وقد جاء مصرحاً به في رواية ((دلائل النبوة)) للبيهقي قال: ((عليك إثم الأكارين)). والثاني: أنهم النصارى وهم الذي اتبعوا أريس الذي ينسب إليه الأروسية من النصارى. وفي هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد. منها: أن قوله: ((سلام علي من اتبع الهدى)) فيه دليل لمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الكافر لا يبدأ بالسلام. ومنها: دعاء الكفار إلي الإسلام قبل قتالهم، وهو واجب والقتال قبله حرام، وإن لم يكن بلغتهم دعوة الإسلام. ومنها: وجوب العمل بخير الواحد؛ لأنه بعثه مع دحية الكلبي وحده. ومنها: استحباب تصدير الكلام بالبسملة وإن كان المبعوث إليه كافراً. ومنها: جواز المسافرة إلي أرض العدو بآية أو آيتين أو نحوهما، والنهي عن المسافرة بالقرآن محمول علي ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار. وجواز مس المحدث والكافر آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن.

3927 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلي كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلي عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلي كسرى ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: أن السنة في المكاتبة بين الناس أن يبدأ بنفسه، فيقول: من زيد إلي عمرو. سواء فيه تصدير الكتاب به أو العنوان، قال تعالي: {إنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وإنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وقيل: الصواب أن يكتب في العنوان إلي فلان ولا يكتب لفلان؛ لأنه إليه لا له. ومنها: أن لا يفرط ولا يفرط في المدح والعظيم؛ ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((إلي هرقل عظيم الروم)) ولم يقل: ملك الروم؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أذن له، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما فيها الضرورة. ولم يقل: ((إلي هرقل)) فحسب بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: ((عظيم الروم)) أي الذي يعظمونه ويقدمونه، وقد أمر الله تعالي بالإنة القول لمن يدعى إلي الإسلام، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا}. ومنها: استحباب استعمال البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم في غاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعإني، مع ما فيه من بديع التجنيس فإن ((تسلم)) شامل لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال ومن عذاب الآخرة. ومنها: أن من أدرك من أهل الكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به له من أجران. ومنها: أن من كان سبب ضلال ومنع هداية كان أكثر إثماً، قال الله تعالي: {ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}. ومنها: استحباب ((أما بعد)) في الخطب والمكاتبات. ((شف)): تقديم لفظ العبد علي لفظ الرسول دال علي أن العبودية لله تعالي أقرب طرق العباد إليه، وكرر لفظ أسلم إيذاناً منه صلى الله عليه وسلم إياه علي شفقته بإيمانه. أقول: وفي هذا التقديم تعريض بالنصارى وقولهم في عيسى بالإلهية، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إني عَبْدُ اللَّهِ آتَإني الكِتَابَ وجَعَلَنِي نَبِيًا} وصدر هذا الحديث سيذكر في باب علامات النبوة في الفصل الثالث. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أن يمزقوا)) ((تو)): أي يفرقوا كل نوع

فلما قرأ مزقه. قال ابن المسيب: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق. رواه البخاري. 3928 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي كسرى وإلي قيصر وإلي النجاشي وإلي كل جبار يدعوهم إلي الله، وليس بالنجاشي الذي صلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 3929 - وعن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً علي جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ((اغزوا بسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ـــــــــــــــــــــــــــــ من التفريق، وأن يبددوا من كل وجه. والممزق مصدر كالتمزيق، والذي مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إبرويز بن هرمز بن نوشروان قتله ابنه شيرويه، ثم لم يلبث بعد قتله إلا ستة أشهر يقال: إن إبرويز لما أيقن بالهلاك – وكان مأخوذاً عليه – فتح خزانة الأدوية وكتب علي حقة السم ((الدواء النافع للجماع))، وكان ابنه مولعاً بذلك فاحتال في هلاكه. فلما قتل أباه فتح الخزانة فرأي الحقة فتناول منها فمات من ذلك السم. ويزعم الفرس أنه مات أسفاً علي قتله أباه ولم يقم لهم بعد الدعاء عليهم بالتمزيق أمر نافذ بل أدبر عنهم الإقبال، ومالت عنهم الدولة وأقبلت عليهم النحوسة حتى انقرضوا عن آخرهم. والفاء في ((فدفعه)) معطوف علي مقدرات معدودة، أي فذهب إلي عظيم البحرين فدفعه إليه، ثم بعثه العظيم إلي كسرى فدفعه إليه. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وإلي كل جبار)) أتى به اختصاراً أي كسرى وأمثاله. ((مح)): كسرى لقب كل ملك من الفرس، وقيصر من ملك الروم، والنجاشي الحبشة، وخاقان الترك، وفرعون القبط، والعزيز مصر، وتبع حمير. الحديث الرابع عن سليمان رضي الله عنه: قوله: ((في خاصته)) متعلق ((بتقوى الله)) وهو ((بأوصي)) و ((خيراًً)) نصب علي نزع الخافض، [و ((من)) في محل الجر] وهو من باب العطف علي عاملين مختلفين، كأنه قيل: أوصى بتقوى الله في خاصة نفسه وأوصى بخير فيمن معه من المسلمين. وفي اختصاص التقوى بخاصة نفسه، والخير بمن معه من المسلمين إشارة إلي أن عليه أن يشدد علي نفسه فيما يأتي ويذر. وأن يسهل علي من معه من المسلمين، ويرفق بهم كما ورد: ((يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا)).

ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلي التحول من دارهم إلي دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما علي المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري علي المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: ((ومن معه)) مجرور عطف علي الضمير المجرور في ((خاصته)). وقوله: ((بسم الله في سبيل الله)) متعلقان بـ ((اغزوا))، ويجوز أن يكون الثاني ظرفاً له والأول حالاً، ويجوز أن يتعلق الثاني بالحال. أي: اغزوا مستعينين بالله في سبيل الله. وقوله: ((قاتلوا)) جملة معترضة موضحة لـ ((اغزوا)) أعاد ((اغزوا)) ليعقبه بالمذكورات بعده. وقوله: ((وإذا لقيت عدوك)) إلي آخره، كان من الظاهر أن يجاء به بعد قوله: ((اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله)). وقوله: ((اغزوا فلا تغلوا)) إلي آخره كالاستطراد وقع بين الكلامين اهتماماً به. والخطاب في قوله: ((وإذا لقيت)) من باب تلوين الخطاب، خاطب أولا عاماً يدخل فيه الأمير دخولاً أوليا، ثم خص الخطاب به فدخلوا فيه علي سبيل التبعية، كقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعم بالخطاب. و ((ما)) في ((ما أجابوك)) زائدة والفاء في ((فاقبل)) جزاء الشرط. ((مح)): قوله: ((ثم ادعهم إلي الإسلام)) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ((ثم ادعهم)). قال القاضي عياض: الصواب الرواية ((ادعهم)) بإسقاط ((ثم)) وقد جاء بإسقاطها علي الصواب في كتاب أبي عبيد. وفي سنن أبي داود وغيرهما؛ لأنه تفسير للخصال الثلاث، وليست غيرها. وقال المازري: ثم هاهنا زائدة، وردت لاستفتاح الكلام والأخذ فيه. أقول في تحرير قول المازري: إن الخصال الثلاث هي الإسلام وإعطاء الجزية والمقاتلة، كما في حديث أبي وائل في الفصل الثالث من هذا الباب. فقوله: ((ثم ادعهم إلي الإسلام)) إشارة إلي الخصلة الأولي. وقوله: ((ثم ادعهم إلي التحول)) إلي قوله: ((إلا أن يجاهدوا مع المسلمين)) متفرع علي هذه الخصلة. وقوله: ((فإن هم أبوا فسلهم الجزية)) بيان للخصلة الثانية.

وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعين بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم علي حكم الله فلا تنزلهم علي حكم الله، ولكن أنزلهم علي حكمك فإنك لا تدري: أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فإن هم أبوا فاستعن)) إشارة إلي الخصلة الثالثة، فعلي هذا قوله: ((ثم ادعهم)) مكرر زيد لمزيد التقرير، ولينبه علي أن الدعوة إلي الإسلام هي المطلوبة الأولية وأشرف الخصال، ونظيره في التكرير قوله تعالي حكاية عن نوح عليه السلام: {رَبِّ إني دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً ونَهَارًا} - إلي قوله – {ثُمَّ إني دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إني أَعْلَنتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا}. قصد بقوله: {لَيْلاً ونَهَارًا} اشتمال دعوته علي الأزمنة كلها، وبقوله: ((جهازاً وإسراراً)) كيفية دعوته في الأزمنة، وبتكرار ((ثم)) والدعاء التلويح إلي التفاوت بين الأحوال. ((خط)): في قوله: ((فأخبرهم)) أي أخبرهم أن حكمهم حكم المهاجرين مع حصول الثواب والأجر، وأنه كان ينفق علي المهاجرين مما آتاه الله من الفيء، ولم يعطوا شيئاً لأعراب المسلمين. وقوله: ((وعليهم ما علي المهاجرين)) يعني يجب عليهم الخروج إلي الجهاد إذا أمرهم الإمام سواء كان بإزاء العدو من به الكفاية [أو لم يكن، بخلاف غير المهاجرين، فإنه لم يجب عليهم الخروج إلي الجهاد، إذا كان بإزاء العدو من به كفاية]. ((حس)): تقديم الدعوة ليس بشرط إذا كانت الدعوة قد بلغتهم قبل ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلق وهم غارون. ((مح)): في الحديث فوائد: وهي تحريم الغدر والغلول وقتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة، واستحباب رصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله والرفق بمتابعتهم، وتعريفهم بما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم وما يكره وما يستحب، وأنه لا يعطي الفيء والغنيمة لأهل الصدقات نحو هؤلاء الأعراب الذين لم يتحولوا وكانوا فقراء مساكين، ولا تعطي الصدقات أهل الفيء والغنيمة. وقال مالك وأبو حنيفة: المالان سواء يجوز صرف كل منهما إلي النوعين. والحديث مما يستدل به مالك والأوزاعي ومن وافقهما علي جواز أخذ الجزية من [كل كافر عربياً أو عجمياً كتابياً أو غير كتابي. وقال أبو حنيفة: تؤخذ الجزية من] جميع الكفار

3930 - وعن عبد الله بن أبي أوفي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: يأيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلا مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس أعراباً كانوا أو أعاجم. ويحتج بمفهوم آية الجزية وبحديث: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)). وتأول هذا الحديث علي أن المراد بهؤلاء أهل الكتاب؛ لأن اسم المشرك يطلق علي أهل الكتاب وغيرهم، وكان تخصيصه معلوماً عند الصحابة. وقوله: ((أن تخفروا ذممكم)) والذمة العهد، ويقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته أمنته وحميته. قالوا: وهذا النهي تنزيه، أي لا تجعل لهم ذمة الله فإن قد ينقضها من لا يعرف حقها، ويهتك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش. وكذا قوله: ((فلا تنزلهم علي حكم الله)) نهي تنزيه. وفيه حجة لمن يقول: ليس كل مجتهد مصيباً بل المصيب واحد. وهو الموافق لحكم الله تعالي في نفس الأمر، ومن يقول: إن كل مجتهد مصيب يقول معنى قوله: ((فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالي فيهم؟)) إنك لا تأمن أن ينزل علي وحي بخلاف ما حكمت، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وتحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله)) وهذا المعنى منتف بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كل مجتهد مصيباً. قوله: ((فإنكم)) إلي آخره علي الخطاب كذا في صحيح مسلم وكتاب الحميدي وجامع الأصول، وفي نسخ المصابيح ((فإنهم)) علي الغيبة والأول أصح دراية أيضاً كما سبق في قول الشيخ محيي الدين: ((لا تجعل لهم ذمة الله فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها)) إلي آخره. قوله: ((أن تخفروا)) الظاهر بفتح الهمزة كما في بعض نسخ المصابيح ((أن)) مع صلتها في تأويل المفرد بدل من ضمير المخاطب، وخبر ((أن)) قوله: ((أهون)) وقد وقع في نسخة ((إن)) بالكسر علي الشرطية، وهو مشكل. الحديث الخامس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((تحت ظلال السيوف)) ((نه)): هو كناية عن الدنو من الضراب في الجهاد حتى يعلوه السيف، ويصير ظله عليه. والظل الفيء الحاصل الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان. وقيل: هو مخصوص بما كان منه إلي زوال الشمس وما كان بعده فهو الفيء. ((مح)): معناه ثواب الله والسبب الموصل إلي الجنة عند الضرب بالسيوف، ومشي المجاهدين في سبيل الله فاحضروا فيه بصدق النية واثبتوا، وإنما نهي عن تمني لقاء العدو لما

3931 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر إليهم، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلي خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدامي لتمس قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد، والله محمد والخميس، فلجئوا إلي الحصن، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الله أكبر الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه من صورة الإعجاب والاتكال علي النفس والوثوق بالقوة، وأيضاً هو يخالف الحزم والاحتياط. وأول بعضهم [التمني] في صورة خاصة وهي إذا شك في المصلحة والقتال، فيمكن حصول ضرر وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة والصحيح الأول. أقول: وفي قوله: ((انتظر حتى مالت الشمس)) إشارة إلي الفتح والنصرة؛ لأنه وقت هبوب الرياح ونشاط النفوس، وقالوا: سببه فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها، والوجه الجمع بينهما لما نص عليه في الحديث الآخر من هذا الفصل والأول من الفصل الثاني. ((تو)): ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا)) وفيه استحباب الدعاء والاستغفار عند القتال. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إذا غزا بنا قوماًً)) الباء بمعنى المصاحبة أي إذا غزونا وهو معنا. ((تو)): ((لم يكن يغز بنا)) هكذا هو في المصابيح، وأرى الواو قد سقط من قلم الكاتب، وصوابه إثباتها، ولو جعل من الإغزاء علي أنه يلهينا لم يستقم؛ لأن معناه يجهزنا للغزو. ((قض)): وهو يستقيم لأن معناه لم يرسلنا إليه ولم يحملنا عليه علي سبيل المجاز. أقول: لابد أن يجعل الثاني عين الأول؛ لأن المعنى إذا أراد الغزو بنا قوماً لم يغز بنا حتى يصبح. قوله: ((وينظر)) ((قض)): أي كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة؛ حذراً من أن يكون فيهم مؤمن فيغير عليه غافلاً عنه جاهلا بحاله. ((خط)) فيه بيان أن الأذان شعار لدين الإسلام لا يجوز تركه، فلو أن أهل بلد اجتمعوا علي تركه كان للسلطان قتالهم عليه. قوله: ((قال: فخرجوا)) الفاء عطف علي محذوف أي ركب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشعروا به فخرجوا بمكاتلهم، والمكاتل جمع مكتل بكسر الميم وهو الزنبيل الكبير، والمساحي جمع مسحاة وهي المجرفة من الحديد والميم زائدة؛ لأنه من السحو أي الكشف لما يكشف به الطين عن وجه

3932 - وعن النعمان بن مقرن، قال: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة. رواه البخاري. الفصل الثاني 3933 - وعن النعمان بن مقرن، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر. رواه أبو داود. [3933] 3934 - وعن قتادة، عن النعمان بن مقرن، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل حتى العصر، ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل. قال: قتادة: كان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرض. ((تو)): وقوله: ((محمد والله)) أي هذا محمد والله ومعه الجيش أو أتانا محمد. ((مح)): و ((الخميس)) معطوف علي قوله: ((محمد)) وروى منصوباً علي أنه مفعول معه. أقول علي الأول: ((والخميس)) حال والخبر مقدر، والعامل معنى اسم الإشارة. وقوله: ((إنا إذا نزلنا)) جملة مستأنفة بيان لموجب خراب خيبر. وقوله: ((الله أكبر الله أكبر)) فيه معنى التعجب من أنه تعالي يقدر نزوله بساحتهم بعد ما أنذروا ثم أصبحهم وهم غافلون عن ذلك. ((مح)): فيه استحباب التكبير عند لقاء العدو، وفيه جواز الاستشهاد في مثل هذا الشأن بالقرآن في الأمور المحققة، وقد جاء له نظائر منها عند فتح مكة وطعن الأصنام قال: {جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ}. قال العلماء: ويكره من ذلك ما كان علي سبيل ضرب المثل في المحاورات ولغو الحديث تعظيماً لكتاب الله تعالي. الحديث السابع عن النعمان رضي الله عنه: قوله: ((الأرواح)) ((نه)): الأرواح جمع ريح لأن أصلها الواو وتجمع علي أرياح قليلا وعلي رياح كثيراً. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني والثالث عن قتادة رضي الله عنه: قوله: ((فكان)) ما أظهره من دليل علي وجود الفاء التفصيليلة؛ لأن قوله: ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) مشتمل مجملاً علي جيمع ما

3935 - وعن عصام المزني، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فقال: ((إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)) رواه الترمذي، وأبو داود. [3935] الفصل الثالث 3936 - عن أبي وائل، قال: كتب خالد بن الوليد إلي أهل فارس: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلي رستم ومهران في ملاء فارس. سلام علي من اتبع الهدى. أما بعد فإنا ندعوكم إلي الإسلام، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن أبيتم فإن معي قوماً يحبون القتل في سبيل الله كما يحب فارس الخمر، والسلام علي من اتبع الهدى. رواه في ((شرح السنة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ذكر بعد مفصلاً. قوله: ((تهيج رياح النصر)) وينصره قوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا)). وقوله: ((في صلاتهم)) إشارة إلي أن تركه صلى الله عليه وسلم القتال حتى في الأوقات المذكورة، كان لاشتغالهم بها فيها. اللهم إلا بعد العصر؛ فإن هذا الوقت يستثنى منها لحصول النصر فيه لبعض الأنبياء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((غزا نبي من الأنبياء فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه)) رواه البخاري عن أبي هريرة. ولعل لهذا السر خص في الحديث هذا الوقت بالفعل المضارع حيث قال: ((ثم يقاتل)) وفي سائر الأوقات ((قاتل)) علي لفظ الماضي استحضاراً لتلك الحالة في ذهن السامع؛ تنبيهاً علي أن قتاله في هذا الوقت كان أشد، وتحريه فيه أكمل. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي وائل: قوله: ((في ملاء)) حال من المجرورين أي كائنين في زمرة أكابر فارس، والملاء أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم، وهم الذين يرجع إلي قولهم، وجمعه أملاء. وقوله: ((فإن معي قوماً)) وضع موضع فهيئواً للقتال، وشبه محبتهم الموت ولقاء العدو بمحبتهم الخمر إيذاناً بشجاعتهم وأنهم من رجال الحرب. قال: فوارس لا يملون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون وأنهم ليسوا منها في شيء بل هم قوم مشتغلون باللهو والطرب كالمخدرات. فخرت بأن لك مأكولاً ولبساً وذلك فخر ربات الحجول

(4) باب القتال في الجهاد

(4) باب القتال في الجهاد الفصل الأول 3937 - عن جابر، قال: قال رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت، فأين أنا؟ قال: ((في الجنة)) فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل. متفق عليه. 3938 - وعن كعب بن مالك، قال: لم يكن رسول اله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة – يعني غزوة تبوك – غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلي للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد. رواه البخاري. 3939 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحرب خدعة)) متفق عليه. 3940 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه، إذا غزا يسقين الماء ويدوين الجرحى. رواه مسلم. 3941 - وعن أم عطية، قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم علي المرضي. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب القتال في الجهاد الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن كعب رضي الله عنه: قوله ((إلا ورى)) ((نه)): ورى بغيره أي ستره وكنى عنه، وأوهم أنه يريد غيره، وأصله من الوراء أي ألقى البيان وراء ظهره، والمفاز والمفازة البرية القفر والجمع المفاوز سميت بذلك؛ لأنها مهلكة من فوز إذا مات. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((خدعة)) ((تو)): روى ذلك من وجوه ثلاثة: بفتح الخاء وسكون الدال أي أنها خدعة واحدة من تيسرت حق له الظفر، وبضم الخاء وسكون الدال أي معظم ذلك المكر والخديعة، وبضم الخاء وفتح الدال أي أنها خداعة للإنسان بما يخيل إليه ويمينه، ثم إنه إذا لابسها وجد الأمر بخلاف ما خيل إليه. ((مح)): أفصح اللغات فيها فتح الخاء وإسكان الدال وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا علي جواز الخداع مع الكفار في الحرب كيف اتفق، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان. وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء. وقال الطبري: إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض وحقيقته لا تجوز، والظاهر إباحة حقيقة الكذب لكن الاقتصار علي المعاريض أفضل.

3942 - وعن عبد الله بن عمر، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. متفق عليه. 3943 - وعن الصعب بن جثامة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار يبيتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: ((هم منهم)) وفي رواية: ((هم من آبائهم)) متفق عليه. 3944 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان: وهان علي سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير وفي ذلك نزلت {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلي أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ}. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن أنس قوله: ((ونسوة)) إن روى بالجر عطفاً علي ((أم سليم)) لم يكن لقوله: ((معه)) زيادة فائدة؛ لأن الباء في ((بأم سليم)) بمعناه، والوجه أن يكون مرفوعاً علي الابتداء و ((معه)) خبره والجملة حالية ((مح)) هذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس البشرة إلا في موضع الحاجة. الحديث الخامس إلي السابع عن الصعب: قوله: ((يبيتون)) هو علي صيغة المجهول حال من ((أهل الدار)) و ((من المشركين)) حال أخرى و ((من)) بيإنية. ((نه)): أي يصابون ليلا وتبييت العدو هو أن يقصد بالليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة وهو البيات. قوله: ((هم منهم)) أي النساء والصبيان من الرجال. ((قض)): أراد به تجويز سبيهم واسترقاقهم، كما لو أتوا أهلها نهاراً وحاربوهم جهاراً، أو أن من قتل منهم في ظلمة الليل اتفاقاً من غير قصد وتوجه إلي قتله فهدر لا حرج في قتله؛ لأنهم أيضاً كفار، وإنما يجب التحرز عن قتلهم حيث تيسر، وكذلك لو تترسوا بنسائهم وذراريهم لم يبال بهم. ((مح)): أما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلهم، وإلا ففيهم وفي الرهبان خلاف. قال مالك وأبو حنيفة: لا يقتلون، والأصح في مذهب الشافعي قتلهم. وفيه أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا كحكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاث مذاهب: الصحيح أنهم في الجنة، والثاني: في النار، والثالث: لا يجزم فيهم بشيء. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بالبويرة)) ((مح)): هي – بصم الباء الموحدة – موضع نخل لبنى النضير، و ((السراة)) بفتح السين أشراف القوم ورؤساؤهم. والمستطير المنتشر، وقصتهم مذكورة في سورة الحشر. واللينة المذكورة في القرآن هي أنواع

3945 - وعن عبد الله بن عون: أن نافعاً كتب إليه يخبره أن ابن عمر أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلق غارين في نعمهم بالمريسيع فقتل المقاتلة وسبى الذرية. متفق عليه. 3946 - وعن أبي أسيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا: ((إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل)). وفي رواية: ((إذا أكثبوهم فارموهم واستبقوا نبلكم)) رواه البخاري. وحديث سعد: ((هل تنصرون))، سنذكره في باب ((فضل الفقراء)). وحديث البراء: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً في باب ((المعجزات)) إن شاء الله تعالي. الفصل الثاني 3947 - عن عبد الرحمن بن عوف، قال: عبأنا النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ليلاً. رواه الترمذي. [3947] 3948 - وعن المهلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بيتكم العدو: فليكن شعاركم: حم لا ينصرون)). رواه الترمذي، وأبو داود. [3948] ـــــــــــــــــــــــــــــ التمر كلها إلا العجوة. وقيل: كل كرام النخل، وقيل: كل النخل، وقيل: كل الأشجار، وقيل: إن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعاً. وفيه جواز قطع شجر الكفار وإحراقه وبه قال الجمهور. وقيل: لا يجوز. الحديث التاسع عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((غارين)) حال من ((بني المصطلق)) والغار الغافل. والمريسيع اسم ماء لنبى المصطلق بالعصب وهو من نواحي قديد. الحديث العاشر عن أبي أسيد: ((تو)): والراوي هو أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين، ومنهم من فتح الهمزة وكسر السين، والأول أصح وأشهر. قوله: ((إذا أكثبوكم)) ((نه)): وفي رواية ((إذا كثبوكم)) والكثب القرب، والهمزة في ((أكثبوكم)) للتعدية فلذلك عداها إلي ضمير ((كم)) قوله: ((واستبقوا نبلكم)) النبل السهام العربية وهي ليست بالطوال كالنشاب. ((مظ)): أي لا ترموها كلها فإنكم إن رميتموها بقيتم بلا نبال. الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((عبأنا)) ((تو)): عبأنا يهمز ولا يهمز يقال: عبأت الجيش وعبيتهم تعبية وتعبئة، أي هيأتهم في مواضعهم وألبستهم السلاح. الحديث الثاني عن المهلب: قوله: ((شعاركم حم لا ينصرون)) ((قض)): أي علامتكم التي

3949 - وعن سمرة بن جندب، قال: كان شعار المهاجرين: عبد الله، وشعار الأنصار: عبد الرحمن. رواه أبو داود. [3949] 3950 - وعن سلمة بن الأكوع، قال غزونا مع أبي بكر زمن النبي صلى الله عليه وسلم فبيتناهم ـــــــــــــــــــــــــــــ تعرفون بها أصحابكم هذا الكلام. والشعار في الأصل العلامة التي تنصب ليعرف الرجل بها رفقته. و ((حم لا ينصرون)) معناه بفضل السورة المفتتحة بـ ((حم)) ومنزلتها من الله لا ينصرون. وقيل: إن الحواميم السبع سور لها شأن، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات)) فنبه صلى الله عليه وسلم علي أن ذكرها لعظم شأنها وشرف منزلتها عند الله تعالي مما يستظهر به المسلمون علي استنزال النصر عليهم والخذلان علي عدوهم، فأمرهم أن يقولوا: ((حم)) ثم استأنف وقال: ((لا ينصرون)) جواباً لسائل عسى أن يقول: ماذا يكون إذا قلت هذه الكلمة؟ فقال: لا ينصرون. وقيل: ((حم)) من أسماء الله تعالي وأن المعنى: اللهم لا ينصرون. وفيه نظر؛ لأن ((حم)) لم تثبت في أسماء الله تعالي؛ ولأن جميع أسمائه مفصحة عن ثناء وتمجيد، و ((حم)) ليس إلا اسمى حرفين من الحروف المعجمة ولا معنى تحته يصلح لأن يكون بهذه المثابة، ولأنه لو كان اسما كسائر الأسماء، لأعرب كما أعربه الشاعر حيث جعله اسماً للسورة فقال: يذكرني حم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم ومنعه الصرف للعلمية والتإنيث، وقد نسب هذا الوجه إلي ابن عباس رضي الله عنهما، فإن صح عنه فتوجيهه أن يقال: أراد بـ ((حم)) منزل حم وهو الله تعالي، فلما حذف المضاف وأقام ((حم)) مقامه وأجرى علي الحكاية صار ((حم)) كالمطلق علي الله تعالي والمستعمل فيه، فعد من أسمائه بهذا التأويل. ((مظ)): بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى عنه، فقال: معناه الخبر ولو كان بمعنى الدعاء لكان ((لا ينصروا)) مجزوماً، كأنه قال: والله لا ينصرون. أقول: ويمكن أن يقال: نزل علي صيغة الإخبار تفاؤلا كأنه دعا فاستجيب له، ثم يخبر عن وقوعه كما يقول: يرحمك الله ويهديك ونحوه، لكن في معنى النهي كقوله تعالي: {لا تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ}. ((الكشاف)): ((لا تعبدون)) إخبار في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، كأنه سورع إلي الانتهاء فهو يخبر عنه. الحديث الثالث عن سلمة رضي الله عنه: قوله: ((أمت أمت)) قيل: المخاطب هو الله تعالي يعني أمت العدو وفي شرح السنة ((يا منصور أمت)) فالمخاطب كل واحد من المقاتلين.

نقتلهم، وكان شعارنا تلك الليلة: أمت أمت. رواه أبو داود. [3950] 3951 - عن قيس بن عباد، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال. رواه أبو داود. [3951] 3952 - وعن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم)) أي صبيانهم. رواه الترمذي، وأبو داود. [3952] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن قيس رضي الله عنه: قوله: ((يكرهون)) ((مظ)): عادة المحاربين أن يرفعوا أصواتهم إما لتعظيم أنفسهم، وإظهارهم كثرتهم بتكثير أصواتهم، أو لتخويف أعدائهم أو لإظهار الشجاعة بأن يقول: أنا الشجاع الطالب للحرب، والصحابة كانوا يكرهون رفع الصوت بها بشيء منها؛ إذ لا يتقرب بها إلي الله تعالي بل يرفعون الأصوات بذكر الله؛ فإن فيه فوز الدنيا والآخرة. الحديث الخامس عن سمرة رضي الله عنه: قوله: ((شيوخ المشركين)) قال أبو عبيد: أزاد بالشيوخ الرجال والشبان أهل الجلد منهم والقوة علي القتال، ولم يرد الهرمي الذين إذا سبوا لم ينتفع بهم للخدمة، وأراد بالشرخ الشبان أهل الجلد الذين يصلحون للملك والخدمة. قال أبو بكر: الشرخ أول الشباب فهو واحد يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، يقال: رجل صوم ورجلان صوم ورجال صوم، وامرأة صوم وقوم صوم. وقيل: إن الشرخ جمع شارخ كصاحب وصحب وراكب وركب. ((تو)): وفي الشيوخ وجه آخر وهو أن يقول: لم يرد استبقاء هؤلاء لملك والخدمة؛ لما في نفوسهم من العصبية ولاستمرارهم علي الكفر طوال العمر، ثم لما فيهم من المكر، والدهاء فلا تؤمن إذا غائلتهم ودخلتم وما يتولد منهم من فساد في الدين أو ثلمة في الإسلام، وهؤلاء غير الفتاة الذين لا يعبأ بهم ولا يكترث لهم، وهذا أولي مما يؤول عليه هذا الحديث؛ لئلا يخالف حديث أنس الذي في هذا الباب. وذلك ما روى عنه: ((لا تقتلوا شيخاً فإنياً)) الحديث. وقال أيضاً: قوله: ((أي صبيانهم)) ليس من متن الحديث، ولا من كلام الصحابي، فلعل بعض الرواة في بعض طرقه أدرجه في الحديث فوجده المؤلف فيما بلغه فذكره، والظاهر أنه من عند المؤلف. أقول: إنما فسر الشرخ بالصبيان ليقابل الشيوخ، فيكون المراد بالشيوخ الشبان وأهل الجلد فيصح التقابل.

3953 - وعن عروة، قال: حدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه قال: ((أعز علي أبنى صباحاً وحرق)) رواه أبو داود. [3953] 3954 - وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((إذا أكثبوكم فأرموهم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)) رواه أبو داود. [3954] 3955 - وعن رباح بن الربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأي الناس مجتمعين علي شيء، فبعث رجلاً فقال: انظروا علي ما اجتمع هؤلاء؟)) فقال: علي امرأة قتيل. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)) وعلي المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: ((قل لخالد: لا تقتل امرأة ولا عسيفاً)). رواه أبو داود. [3955] 3956 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله، وبالله وعلي ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فإنياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، أصلحوا، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين)) رواه أبو داود. [3956] 3957 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عروة رضي الله عنه: قوله: ((عهد إليه)) أي أوصاه. قوله: ((علي أبنى)) ((نه)): هي بضم الهمزة والقصر اسم موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة ويقال لها: يبنى بالياء. ((تو)): بضم الهمز موضع من بلاد جهينة. ومن الناس من يجعل بد الهمزة لا ما ولا عبرة به. الحديث السابع إلي الثامن عن رباح: قوله: ((لتقاتل)) اللام هي الداخلة في خبر ((كان)) للتأكيد، كقوله تعالي: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ} و ((العسيف)) الأجير. الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بسم الله وبالله)) الأول اشمل لأنه مشتمل علي أسماء الله تعالي كلها و ((بالله)) مختص بهذا اللفظ، والثاني أبلغ لأنه ترق من الاسم إلي المسمى. وعطف ((علي ملة رسول الله)) صلى الله عليه وسلم وعلي ما قبله يأبي أن يكونا متعلقين بالفعل ويوجب أن يكونا حالين كأنه قيل: انطلقوا متبركين باسم الله مستعينين بالله ثابتين علي ملة رسول الله. والأحوال يجوز أن تكون مترادفات أو متدخلات. وقوله: ((وأصلحوا وأحسنوا)) تذييل للكلام السابق أي أصلحوا فيما بينكم من أمور دينكم ودنياكم؛ وأحسنوا أي وأخلصوا لله تعالي واعلموا أنه علي كل شيء وكيل. وقوله: ((فإن الله يحب المحسنين)) تتميم كالتعليل.

وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه. فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم يا حمزة! قم يا علي! قم يا عبيدة بن الحارث)) فأقبل حمزة إلي عتبة، وأقبلت إلي شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا علي الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة. رواه أحمد وأبو داود. [3957] 3958 - وعن ابن عمر، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فحاص الناس حيصة فأتينا المدينة، فاختفينا بها، وقلنا: هلكنا، ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! نحن الفرارون. قال: ((بل أنتم العكارون وأنا فئتكم)). رواه الترمذي. وفي رواية أبي داود نحوه وقال: ((لا، بل أنتم العكارون)) قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: ((أنا فئة المسلمين)). [3958] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فانتدب له)) ((نه)): يقال: ندبته فانتدب أي بغيته ودعوته فأجاب. قوله: ((فأقبل حمزة إلي عتبة وأقبلت إلي شيبة)) كذا في سنن أبي داود وشرح السنة، وفي بعض نسخ المصابيح ((إلي عتبة فقتله وأقبلت إلي شيبة فقتلته)). وقوله: ((فأثخن)) أي أثقل بالجراح، والإثخان في الشيء المبالغة فيه والإكثار منه، يقال: أثخنه المرض أي أثقله ووهنه ((ثم ملنا علي الوليد)) أي حملنا مائلين أو ملنا حاملين عليه. ((حس)): فيه إباحة المبادرة في جهاد الكفار ولم يختلفوا في جوازها إذ أذن الإمام، واختلفوا فيها إذا لم تكن من إذن الإمام فجوزها جماعة، وإليه ذهب مالك الشافعي؛ لأن الأنصاريين كانوا قد خرجوا قبل حمزة وعلي وعبيدة رضي الله عنهم من غير إذن. وفيه دليل علي أن معونة المبارز جائزة إذا ضعف أو عجز عن قرينه، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الأزاعي: لا يعينونه لأن المبارزة إنما تكون هكذا. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فحاص الناس حيصة)) ((قض)): أي فمالوا ميلة من الحيص وهو الميل، فإن أراد بالناس أعداءهم فالمراد بها الحملة، أي حملوا علينا حملة وجالوا فانهزمنا عنهم وأتينا المدينة. وإن أراد به السرية فمعناها الفرار والرجعة أي مالوا عن العدو ملتجئين إلي المدينة. ومنه قوله تعالي: {ولا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي محيداً ومهرباً.

وسنذكر حديث أمية بن عبد الله: كان يستفتح. وحديث أبي الدرداء ((ابغوني في ضعفائكم)) في باب ((فضل الفقراء)) إن شاء الله تعالي. الفصل الثالث 3959 - عن ثوبان بن يزيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق علي أهل الطائف. رواه الترمذي مرسلاً. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: المعنى الأول لا تساعد عليه اللغة؛ الجوهري: حاص عنه يحيص حيصاً أي عدل وحاد، يقال للأولياء حاصوا عن الأعداء، والأعداء انهزموا. وفي الفائق: فحاص حيصة أي انهزم وانحرف، وروى ((فجاص جيضة)) بالجيم والضاد المعجمة وهي الحيدودة حذراً. وفي النهاية فحاص المسلمون حيصة أي جالوا جولة يطلبون الفرار، والمحيص المهرب والمحيد، اللهم إلا أن يعدل إلي المجاز إما بوضع أحد الضدين موضع الآخر أو لما أن في الحيدودة والجولة نوع ميلان. ولعله حمله علي ذلك إطلاقه وعدم تقييده بعن، والاختلاف في العبارة؛ حيث عدل من الغيبة إلي التكلم وجعله قرينة للمجاز ولم يلتفت إلي الالتفات الذي طبق المفصل وأصاب المخبر. فقال أولا: ((الناس)) إيذاناً بأنه لم يكن الفرار منه ولم يرض به، وثإنياً ((فأتنيا)) دلالة وإشعار بأن التحيز والاعتصام كان منه وهو السبب فيه. قوله: ((العكارون)) ((نه)): الكرارون إلي الحروب العطافون نحوها، يقال للرجل الذي تولي عن الحرب ثم لم يكن راجعاً إليها عكر واعتكر. و ((الفئة)) الفرقة والجماعة من الناس في الأصل، والطائفة التي تقيم وراء الجيش، فإن كان عليهم خوف أو هزيمة التجأوا إليه. ((فا)): ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((وأنا فئتكم)) إلي قوله تعالي: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إلي فِئَةٍ} يمهد بذلك عذرهم في الفرار، أي تحيزهم إلي فلا حرج عليكم. ((حس)): قال عبد الله بن مسعود: من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر، والفرار من الزحف من الكبائر، فمن فر من اثنين فليس له أن يصلي بالإيماء في الفرار؛ لأنه عاص كقاطع الطريق. الفصل الثالث الحديث الأول عن ثوبان: قوله: ((المنجنيق)) ((نه)): المنجنيق مؤنثة وتفتح الميم وتكسر، وهي والنون الأولي زائدتان في قوله: قولهم: جنق يجنق إذا رمى. وقيل: الميم أصلية لجمعه علي مجإنيق، وقيل: هو أعجمي معرب. والله أعلم.

(5) باب حكم الأسراء

(5) باب حكم الأسراء الفصل الأول 3960 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)). وفي رواية: ((يقادون إلي الجنة بالسلاسل)). رواه البخاري. 3961 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوه واقتلوه)) فقتلته فنفلني سلبه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب حكم [الأسراء] الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عجب الله)) ((قض)) قد سبق غير مرة من أن صفات العباد إذا أطلقت علي الله تعالي أريد بها غايتها، فغاية التعجب والاستبشار بالشيء الرضي به واستعظام شأنه. والمعنى عظم الله شأن قوم يؤخذون عنوة في السلاسل، فيدخلون في الإسلام، فيصيرون من أهل الجنة ورضي عنهم، وأحلهم محل ما يتعجب [منه]. وقيل: أراد بالسلاسل ما يرادون به من قتل الأنفس وسبي الأزواج والأولاد وتخريب الديار، وسائر ما يلجئهم إلي الدخول في الإسلام الذي هو سبب دخول الجنة، فأقام المسبب مقام السبب. ويحتمل أن يكون المراد بها جذبات الحق التي يجذب بها خالصة عباده من الضلالة إلي الهدى، ومن الهبوط في مهاوي الطبيعة إلي العروج بالدرجات العلي إلي جنة المأوى. الحديث الثاني عن سلمة: قوله: ((عين)) ((قض)): العين الجاسوس سمى به؛ لأن عمله بالعين أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها، كأن جميع بدنه صار عيناً. ((ثم انفتل)) أي انصرف يقال: فتلته فانفتل. ((فنفلني)) أي أعطإني نفلا، وهو ما يخص به الرجل من الغنيمة، ويزداد علي سهمه، ويريد بسلبه ما كان عليه من الثياب والسلاح، سمي به لأنه يسلب. ((حس)): فيه دليل علي أن من دخل دار الإسلام من أهل الحرب من غير أمان حل قتله، ومن تجسس للكفار من أهل الذمة كان ذلك نقضاً منه للعهد وإن فعله مسلم فلا يحل قتله بل يعزو، فإن ادعى جهالة بالحال ولم يكن متهما يتجافي عنه. هذا قول الشافعي، وفيه دليل علي أن السلب للقاتل.

3962 - وعنه، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل علي جمل أحمر، فأناخه، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة من الظهر، وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله، فأثاره فاشتد به الجمل، فخرجت أشتد حتى أخذت بخطام الجمل، فأنخته ثم اخترطت سيفي، فضربت رأس الرجل، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه، فاستقبلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس. فقال: ((من قتل الرجل؟)) قالوا: ابن الأكوع فقال: ((له سلبه أجمع)) متفق عليه. 3963 - وعن أبي سيعد الخدري، قال: لما نزلت بنو قريظة علي حكم سعد ابن معاذ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فجاء علي حمار، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن سلمة: قوله: ((نتضحى)) ((نه)): أي نتغدى والأصل فيه أن العرب كانوا يسيرون في ظعنهم، فإذا مروا ببقعة من الأرض فيها كلأ وعشب، قال قائلهم: ألا ضحوا رويداً أي ارفقوا بالإبل حتى تتضحى، أي تنال من هذا المرعى. ثم وضعت التضحية مكان الرفق لتصل الإبل إلي المنزل وقد شبعت، ثم اتسع فيه حتى قيل لكل من يأكل في وقت الضحى: هو يتضحى، أي يأكل في هذا الوقت كما يقال: يتغدى ويتعشى. وقيل: معناه نصلي الضحى. قوله: ((ضعفة)) ((مح)): ضبطوه علي وجهين، الصحيح المشهور بفتح الضاد وإسكان العين أي حالة ضعف وهزال. والثاني بفتح العين جمع ضعيف، وفي بعض النسخ بحذف الهاء. أقول: ويؤيد الوجه الأول عطف قوله: ((ورقة)) عليه. وقوله: ((من الظهر)) صفة لها أي رقة حاصلة من قلة المركوب. والاشتداد العدو، ومنه الحديث: ((لا يقطع الوادي إلا شداً)) أي عدوا. و ((اخترطت سيفي)) أي سللته من غمده وهو افتعل من الخرط، يقال: خرط العنقود واخترطه إذا وضعه في فيه ثم يأخذ حبه ويخرج عرجونه عارياً [عنه]. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله: ((لما نزلت بنو قريظة)) ((قض)): إنما نزلوا بحكمه بعد ما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين يوماً وجهدهم الحصار، وتمكن الرعب في قلوبهم؛ لأنهم كانوا حلفاء الأوس فحسبوا أنه يراقبهم ويتعصب لهم، فأبي إسلامه وقوة دينه أن يحكم فيهم بغير ما حكم الله فيهم، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة في شوالها حين نقضوا فيهم بغير ما حكم الله فيهم، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة في شوالها حين نقضوا [عهد الرسول صلوات الله عليه] ووافقوا الأحزاب، روى أنهم لما انكشفوا عن المدينة وكفي الله المؤمنين شرهم، أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في ظهر اليوم الذي تفرقوا في ليلته، فقال: أوضعتم السلاح والملائكة لم يضعوه؛ فإن الله يأمركم بالسير إلي بني قريظة فائتهم عصرهم.

((قوموا إلي سيدكم)) فجاء فجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هؤلاء نزلوا علي حكمك)). قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبي الذرية. قال: ((لقد حكمت فيهم بحكم الملك)). وفي رواية: ((بحكم الله)) متفق عليه. 3864 - وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهماتهم العظام، ولم يخالف في هذا الإجماع إلا الخوارج؛ فإنهم أنكروا علي علي رضي الله عنه التحكيم، وإذا حكم الحاكم العدل في شيء لزمه حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع عنه بعد الحكم. وفي قوله: ((قوموا إلي سيدكم)) إكرام أهل الفضل وتلقيهم والقيام لهم إذا أقبلوا. واحتج به الجمهور. قال القاضي عياض: ليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذاك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويتمثلون قياماً طول جلوسه. وسيجيء تمام بحثه في موضعه. وإنما فوض الحكم إلي سعد؛ لأن الأوس طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم العفو عنهم؛ لأنهم كانوا حلفاءهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟)) فرضوا به، والرواية المشهورة ((الملك)) بكسر اللام، ويؤيده الرواية الأخرى. قال القاضي: وضبطه بعضهم في صحيح البخاري بكسر اللام وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد به جبريل عليه السلام أي الحكم الذي جاء به جبريل من الله تعالي. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خيلا)) هو علي حذف المضاف أي فرسان الخيل. وفي الحديث: ((يا خيل الله اركبي)) أي يا فرسان خيل الله، وسميت الجماعة خيلا؛ لأنهم تجردوا لما لا يتم إلا بها، كما سميت الربيئة [عيناً]. قوله: ((ماذا عندك)) فيه وجهان: أن تكون ((ما)) استفهامية و ((ذا)) موصولا، و ((عندك)) صلته أي ما الذي استقر عندك من الظن فيما أفعل بك. فظن خيراً وقال: عندي يا محمد خير؛ لأنك لست ممن يظلم بل ممن يحسن وينعم، وأن تكون ((ماذا)) بمعنى أي شيء مبتدأ و ((عندك)) خبره. وقوله: ((إن تقتل تقتل)) إلي آخره تفصيل لقوله: ((خير)) لأن فعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل علي فخامة الأمر. قوله: ((ذا دم)) ((مح)): فيه وجوه:

المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد، فقال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم علي شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم علي شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطلقوا ثمامة)) فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدها: معناه إن تقتل تقتل صاحب دم لدمه موضع يشتفي بقتله قاتله، ويدرك قاتله به ثأره أي لرياسته وفضله. وثإنيها: إن تقتل تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك. وثالثها: ((ذا ذم)) بالذال المعجمة وتشديد الميم أي ذا ذمام وحرمة في قومه، ورواها بعضهم في سنن أبي داود. قال القاضي: وهي ضعيفة لأنها تقلب المعنى فإن احترامه يمنع القتل. قال القاضي: ويمكن تصحيحها بأن تحمل علي الوجه الأول، أي يقتل رجلا جليلا يحتفل قاتله بقتله، بخلاف ما إذا قتل حقيراً مهيناً فإنه لا فضيلة ولا يدرك به قاتله ثأره. أقول: واختار الشيخ التوربشتي الوجه الثاني، حيث قال: المعنى إن تقتل تقتل من توجه عليه القتل بما أصاب من دم، وأراه أوجه للمشاكلة التي بينه وبين قوله: ((وإن تنعم تنعم علي شاكر)). ((شف)): في تقديم ثمامة قوله: ((إن تقتل تقتل ذا دم)) علي قسميه في اليوم الأول وتوسيطه بينهما في اليوم الثاني والثالث، ما يرشد إلي حذاقته وحدسه؛ فإنه لما رأي غضب النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول قدم فيه القتل تسلية، فلما رأي أنه لم يقتله رجا أن ينعم عليه، فقدم في اليوم الثاني والثالث قوله: ((إن تنعم)). أقول: ويمكن أن يقال: إنه لما نفي الظلم عن ساحته صلوات الله عليه، ونظر إلي استحقاقه القتل قدمه، وحين نظر إلي إحسانه ولطفه صلوات الله عليه أخر القتل. وهذا أدعى للاستعطاف والعفو كما قال عيسى عليه السلام: {إن تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}. قوله: ((حتى كان بعد الغد)) اسم ((كان)) ضمير عائد إلي ما هو مذكور حكما، أي حتى كان ما هو عليه ثمامة بعد الغد، نحو قولهم: إذا كان غداً فأتنى، أي إذا كان ما نحن عليه غداً.

محمد! والله ما كان علي وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، ووالله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم، واختصره البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أبغض إلي من وجهك)) وجد بالرفع علي أنه صفة وجه وهو اسم ((كان)) و ((علي وجه الأرض)) خبره، وهذا ليس بصحيح؛ لأن قوله: ((أحب الوجوه)) خبر ((أصبح)) قطعاً، وقد قوبل، به؛ ولأن ((أبغض)) في القرينتين الأخيرتين وقع خبراً ((لكان))؛ ولأنه أخبر عن الوجه بالأبغضية لا أن وجها أبغض كائنا علي وجه الأرض، فإذا قلنا: بجواز وقوع الحال عن اسم ((كان)) فقوله: علي وجه الأرض)) كان صفة لقوله: ((وجه)) فقدم فصار حالا، وإذا منعناه قلنا: إنه ظرف لغو قدم للاهتمام ليؤذن في بدء الحال باهتمام العموم والشمول، كما في قوله: {والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ}. قوله: ((فبشره)) ((مح)): بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام وأنه يهدم ما كان قبله – قوله: ((أصبوت)) وهو مهموز. ((فا)): صبأ إذا خرج من دين إلي دين، صبأ ناب البعير إذا طلع وصبأ النجم. قوله: ((فقال: لا)) فإن قلت: كيف قال: ((لا)) وهو قد خرج من الشرك إلي التوحيد؟ قلت: هو من الأسلوب الحكيم، كأنه قال: ما خرجت من الدين لأنكم لستم علي دين، فأخرج منه بل استحدثت دين الله، وأسلمت مع رسول اله صلى الله عليه وسلم رب العالمين. فإن قلت: ((مع)) تقتضي استحداث المصاحبة؛ لأن معنى المعية المصاحبة وهي مفاعلة، وقد قيد الفعل بها فيجب الاشتراك فيه كذا نص عليه صاحب الكشاف في الصافات. قلت: لا يبعد ذلك فلعله صلى الله عليه وسلم وافقه فيكون منه صلوات الله عليه استدامة، ومنه استحداثاً. وقوله: ((ولا والله)) لا يقتضي منفياً، والواو معطوفاً عليه أي لا أوفقكم في دينكم ولا أرفق: بكم في هذه السنين المجدبة، ثم أقسم عليه بقوله: ((والله لا يأتيكم من اليمامة)). ((حس)) فيه دليل علي جواز المن علي الكافر وإطلاقه بغير مال. ((مح)): فيه جواز ربط

3965 – * وعن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أساري بدر: ((لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)). رواه البخاري. 3966 - وعن أنس: أن ثمإنين رجلاً من أهل مكة هبطوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلماً، فاستحياهم. وفي رواية: فأعتقهم، فأنزل الله تعالي {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الأسير وحبسه وإدخال الكافر المسجد. وفيه إذا أراد الكافر الإسلام يبادر به ولا يؤخره للاغتسال، ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، ومذهبنا أن اغتساله واجب، إن كان عليه جنابة في الشرك كان اغتسل منها أم لا. قال بعض أصحابنا: إن اغتسل قبل الإسلام أجزأه، وإن لم يكن عليه جنابة فالغسل مستحب. وقال أحمد وآخرون: يلزمه الغسل. وفي تكرير سؤاله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تأليف لقلبه، والملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى الذين يتبعهم علي الإسلام كثير من الخلق والله أعلم. الحديث السادس عن جبير: قوله: ((المطعم بن عدي)): ((قض)): هو مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد مناف ابن عم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له يد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجاره حين رجع من الطائف وذب المشركين عنه، فأحب أنه كان حياً فكافأه عليها بذلك. ويحتمل أنه قد أراد تطييب قلب ابنه جبير وتأليفه علي الإسلام. وفيه تعريض بالتعظيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقير حال هؤلاء الكفرة، من حيث أنه لا يبالي بهم ويتركهم لمشرك كانت له عنده يد. و ((نتني)) جمع نتن بالتحريك بمعنى منتن كهرمي وزمني، وإنما سماهم ((نتني)) إما لرجسهم الحاصل من كفرهم علي التمثيل؛ أو لأن المشاركة إليه أبدانهم وجيفهم الملقاة في قليب بدر. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((غرة النبي)) ((مح)): أي غفلته. و ((سلما)) ضبطوه بوجهين: أحدهما بفتح السين واللام وبإسكان اللام مع كسر السين وفتحها. قال الحميدي: معناه الصلح، قال القاضي: هكذا ضبطه الأكثرون، قال: والرواية الأولي أظهر أي أسرهم. وجزم الخطابي علي فتح السين واللام، قال: والمراد به الاستسلام والإذعان، كقوله تعالي: {وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي الانقياد، وهو مصدر يقع علي الواحد والاثنين والجمع. قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقضية؛ فإنهم لم يؤخذوا صلحاً وإنما أخذوا قهراً وأسلموا

3967 - وعن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر علي قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته، فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، حتى قام علي شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: ((يا فلان بن فلان! ويا فلان بن ـــــــــــــــــــــــــــــ أنفسهم عجزاً، قال: وللوجه الآخر وجه وهو أنه لما لم يجر [معهم] قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم، فرضوا بالأسر كأنهم قد صولحوا علي ذلك. أقول: لما كان سلامة المسلمين من أولئك ومجازاتهم بالكف عنهم بعد ما أرادوا الغرة والفتك بهم من الأمور العظام، ولولا أن الله تعالي ألقى في قلوبهم الرأفة والرحمة بهم، وأن الله تعالي قهرهم وذبهم عنهم لم تحصل السلامة، أسند الفعلين إليه تعالي علي سبيل الحصر حيث قال: {وهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} أي الكف إنما صدر منه تعالي لا منكم. ونظيره قوله تعالي: {ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وإنما فصل الآية بقوله: {وكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} وعداً لهم بجزاء ما صدر منهم من العفو بعد الظفر جبراناً لما نفي عنهم بالكلية إثباتاً للكسب بعد نفي القدرة. الحديث الثامن عن قتادة: قوله: ((من صناديد)) ((نه)): صناديد قريش أشرافهم وعظماؤهم ورؤساؤهم، الواحد صنديد، وكل عظيم غالب صنديد. و ((الطوى)) في الأصل صفة فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك جمعوه علي الأطواء كشريف وأشراف، وإن كان قد انتقل إلي الاسمية. وقوله: ((خبيث مخبث)) أي فاسد مفسد لما يقع فيه. وفي الحديث: ((أعوذ بك من الرجس الخبيث المخبث)) الخبيث ذو الخبث في نفسه، والمخبث الذي أعوانه [خبث]. وقيل: هو الذي يعلمهم الخبث ويوقعهم فيه. ((تو)): فإن قيل: كيف التوفيق بين الطوى والقليب، والقليب البئر التي لم تطو؟ قلنا: يحتمل أن الراوي رواه بالمعنى ولم يدر أن بينهما فرقاً: ويحتمل أن الصحابي حسب أن البئر كانت مطوية وكانت قليباً. ويحتمل أن بعضهم ألقى في طوى، وبعضهم في قليب. أقول: إنهم قد يطلقون علي حقيقة مقيدة بقيد اسم الحقيقة التي هي غير مقيدة بها توسعاً في الكلام، فإن المرسن اسم لأنف فيه رسن، وقد يطلق علي أنف الإنسان، وكذا المشفر

فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا؛ فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟)) فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)). وفي رواية: ((ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون)) متفق عليه. وزاد البخاري: قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً. ـــــــــــــــــــــــــــــ والجحفلة اسم لشفة البعير والفرس، وقد يراد بهما شفة الإنسان، وعليه قوله تعالي في وجه: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}. و ((العرصة)) كل موضع واسع لا بناء فيه، و ((شفة الركي)) أي حافة البئر، وهو جنس الركية وجمعها ركايا. قوله: ((أيسركم أنكم)) ((مظ)): أي هل تتمنون أن تكونوا مسلمين بعد ما وصلتم إلي عذاب الله. أقول: ينبغي أن يفسر هذا بما يترتب عليه قوله: ((فإنا قد وجدنا))؛ لأنه كالتعليل له، فالمسرة هنا مستعارة لضدها من الحزن والكآبة تهكماً وسخرية، كما أن البشارة في قوله تعالي: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مستعارة لضدها، وكالتحية في قول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع ومقام الشماتة والحسرة والنقمة يقتضيه؛ وينصره قول قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً؛ فالمعنى أتحزنون وتتحسرون علي ما فاتكم من طاعة الله ورسوله أم لا؟ وتذكرون قولنا لكم: إن الله سيظهر دينه علي الدين كله، وينصر أولياءه ويخذل أعداءه، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. قوله: ((ما تكلم)) ((مظ)): ((ما)) استفهامية، ويجوز أن تكو موصولة. أقول: علي الأول الاستفهام فيه معنى الإنكار، ومن في ((من أجساد)) زائدة؛ لأن في الاستفهام معنى النفي. وعلي الثاني ((ما)) مبتدأ و ((من)) بيان له، والخبر محذوف، أي الذين تكلمهم لا يسمعون كلامك، أو ((من)) زائدة علي مذهب الأخفش، وأجساد خبر له. قوله: ((ما أنتم بأسمع)) ((مح)) قال المازري: قيل: إن الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث، وفيه نظر؛ لأنه خاص في حق هؤلاء، ورد عليه القاضي وقال: يحمل سماعهم علي ما يحمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لا مدفع لها. وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون في الوقت الذي يريده الله تعالي. قال الشيخ: هذا هو المختار.

3968 - وعن مروان، والمسور بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يراد إليهم أموالهم، وسبيهم. فقال: ((فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال)). قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى علي الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد؛ فإن أخوانكم قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد أليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون علي حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)) فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)). فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. رواه البخاري. 3969 - وعن عمران بن حصين، قال: كان ثقيف حليفاً لبنى عقيل فأسرت ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن مروان: قوله: ((قام حين جاءه)) كذا في كتاب الحميدي وجامع الأصول وشرح السنة، وفي نسخ المصابيح: ((قال حين جاءه فقال)) والفاء في ((فاختاروا)) جزاء شرط محذوف أي إذا جئتم مسلمين فاختاروا. قوله: ((إما السبي وإما المال)) جعل المال طائفة إما علي المجاز أو علي التغليب. ((غب)): الطوف المشي حول الشيء، ومنه الطائف لمن يدور حول البيت ومنه استعير الطائف للخيال والحادثة وغيرها، والطائفة من الناس جماعة ومن الشيء القطعة منه. قوله: ((أن يطيب ذلك)) ((ذلك)) إشارة إلي ما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأي وهو رد السبي. والمعنى من يطيب علي نفسه الرد حتى يعطيه الله أجره في الآجلة فليفعل، ومن لم يطب علي نفسه الرد وأراد أن يدوم علي [حظ] الآجلة فيترقب حتى نعطيه من الغنيمة فليفعل. وقوله: ((حتى يرفع إلينا)) الظاهر أن ((حتى)) هذه غير ((حتى)) السابقة لأن الأولي ما بعدها للمستقبل وهي بمعنى ((كي))، وهذه ما بعدها في معنى الحال فيكون مرفوعاً، كقولهم: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه. ((مظ)): إنما استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة في رد سبيهم لأن أموالهم وسبيهم صار ملكاً للمجاهدين، ولا يجوز رد ما ملكوا إلا بإذنهم. الحديث العاشر عن عمران: قوله: ((عقيل)) ((تو)): علي صيغة المصغر قبيلة كانوا حلفاء

ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه فطرحوه في الحرة، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناداه: يا محمد يا محمد فيم أخذت؟ قال: ((بجريرة حلفائكم ثقيف)) فتركه ومضى، فناداه: يا محمد يا محمد فرحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع، فقال: ((ما شأنك؟)) قال: إني مسلم. فقال: ((لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح)) قال: ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. رواه مسلم. الفصل الثاني 3970 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها علي أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: ((إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها)) فقالوا: نعم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ ثقيف. و ((الحرة)) أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة. ((نه)): والجريرة الجناية والذنب. وذلك أنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ثقيف موادعة، فلما نقضوها ولم ينكر عليهم بنو عقيل وكانوا معهم في العهد صاروا مثلهم في نقض العهد، فأخذه بجريرتهم. وقيل: معناه أخذت لندفع بك جريرة حلفائك من ثقيف، ويدل عليه أنه فدى بعد بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف من المسلمين. قوله: ((وأنت تملك)) ((خط)): يريد أنك لو تكلمت بكلمة الإسلام طائعا راغبا قبل [الأسر] *، أفلحت في الدنيا بالخلاص من الرق وفي العقبى بالنجاة من النار. ((حس)): فيه دليل علي أن الكافر إذا وقع في الأسر فادعى أنه كان قد أسلم لا يقبل قوله إلا ببينة تقوم، وإذا أسلم بعد ما وقع في الأسر حرم قتله، وجاز استرقاقه، وإذا قبل الجزية بعد الأسر هل يحرم قتله؟ فيه خلاف. وفيه دليل علي جواز الفداء بعد الإسلام الذي بعد الأسر، وعلي أنه لا يجب إطلاقه. الفصل الثاني الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((رق لها)) أي تذكر غربتها ووحدتها وتذكر صلى الله عليه وسلم عهد خديجة وصحبتها؛ فإن القلادة كانت لها، فلما زوجتها من أبي العاص أدخلت القلادة مع زينب عليه. وقوله: ((إن رأيتم)) المفعول الثاني ((لرأيتم)) وجواب الشرط محذوفان، أي إن

أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: ((كونا ببطن يأحج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها)). رواه أحمد، وأبو داود. [3970] 3971 - وعنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسر أهل بدر قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، ومن علي أبي عزة الجمحي. رواه في ((شرح السنة)) والشافعي وابن إسحاق في ((السيرة)). [3971] 3972 - وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي معيط، قال: من للصبية؟ قال: ((النار)). رواه أبو داود. [3972] 3973 - وعن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن جبريل هبط عليه ـــــــــــــــــــــــــــــ رأيتم الإطلاق والرد حسنا فأطلقوه. ((قض)): ((أخذ عليه)) يريد به العهد بتخليته سبيلها أن يرسلها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزينب هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، وكانت تحت أبي العاص زوجها منه قبل المبعث. وبطن يأحج من بطون الأودية التي حول الحرم، والبطن المنخفض من الأرض. ((شف)): فيه دليل علي جواز المن علي الأسير من غير أخذ فداء، وعلي أن للإمام الأعظم أن يرسل اثنين فصاعدا من الرجال مع امرأة أجنبية في طريق عند الأمن من الفتنة. الحديث الثاني والثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((من للصبية؟)) أي من يتصدى لكفالة أطفالي وأنت تقتل كافلهم. وقوله في جوابه: ((النار)) يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون النار عبارة عن الضياع يعني إن صلحت النار أن تكون كافلة فهي هي. وثإنيهما: أن الجواب من الأسلوب الحكيم أي لك النار، يعني اهتم بشأن نفسك وما هيء لك من النار، ودع أمر الصبية فإن كافلهم هو الله الذي ما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها وهذا هو الوجه. الحديث الرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((قابلا مثلهم)) أي في السنة القابلة الآتية، والمراد بها السنة التي وقعت فيها غزوة أحد وإنما اختاروا ذلك رغبة منهم في إسلام أسارى بدر، وفي نيلهم درجة الشهادة في السنة القابلة في مقابلة الكفار إياهم. ورقة منهم عليهم لقرابة بينهم. ((تو)): هذا الحديث مشكل جدا لمخالفته ما يدل [عليه] ظاهر التنزيل؛ ولما صح من الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيا رأوه فعوتبوا عليه، ولو كان هناك تخيير

فقال له: خيرهم – يعني أصحابك – في أسارى بدر: القتل والفداء علي أن يقتل منهم قابلا مثلهم)) قالوا: الفداء ويقتل منا. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [3972] ـــــــــــــــــــــــــــــ بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليهم. وقد قال الله تعالي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ولما أظهر لهم شأن العاقبة بقتل سبعين منهم بعد غزوة أحد عند نزول قوله سبحانه: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا}. وممن نقل عنه هذا التأويل من الصحابة علي رضي الله عنه فلعل عليا ذكر هبوط جبريل في شأن نزول هذه الآية وبيانها، فاشتبه الأمر فيه علي بعض الرواة. وما جرأنا علي هذا التقدير سوى ما ذكرناه، وأن الحديث تفرد به يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان من بين أصحابه فلم يروه غيره، والسمع قد يخطئ، والنسيان كثيرا يطرأ علي الإنسان. ثم إن الحديث روى عنه متصلا وروى عن غيره مرسلا، وكان ذلك مما يمنع القول بظاهره. أقول وبالله التوفيق: لا منافاة بين الحديث والآية، وذلك أن التخيير في الحديث وارد علي سبيل الاختبار والامتحان، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، امتحن الله تعالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} الآيتين. وامتحن الناس بتعليم السحر في قوله تعالي: {ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} امتحن الناس بالملكين وجعل المحنة في الكفر والإيمان، بأن يقبل العامل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه، ولعل الله تعالي امتحن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين أمرين: القتل والفداء، وأنزل جبريل عليه السلام بذلك هل هم يختارون ما فيه رشا الله تعالي من قتله أعداءه. أم يؤثرون الأعراض العاجلة من قبوله الفدية؟ فلما اختاروا الثاني عوتبوا بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} ويعضده سبب النزول: روى مسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم لما أسروا الأسارى يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: ((ما ترون في هؤلاء الأسارى؟)) فقال أبو بكر: يا رسول الله، بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة علي الكفار. فعسى أن يهديهم الله إلي الإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأي أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي

3974 - وعن عطية القرظي، قال: كنت في سبي قريظة عرضنا علي النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السبي. رواه أبو داود، وابن ماجة، والدارمي. [3974] 3975 - وعن علي رضي الله عنه قال: خرج عبدان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني يوم الحديبية قبل الصلح – فكتب إليه مواليهم قالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق. فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((ما أراكم تنتهون ما معشر قريش! حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم علي هذا)) وأبي أن يردهم وقال: ((هم عتقاء الله)) رواه أبو داود. [3975] ـــــــــــــــــــــــــــــ وصاحبك؟ فقال: ((أبكي للذي عرض علي من أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)). وأنزل الله تعالي الآية. وأما قوله: ((ثم إن الحديث روى عنه متصلا وروى عن غيره مرسلا، وكان ذلك مما يمنع القول بظاهره)) ففيه بحث؛ فإن المرسل إذا اعتضد بضعيف متصل يحصل فيه نوع قوة فيدخل في جنس الحسن، فكيف يقال عند ذلك؟: ((وكان ذلك مما يمنع القول بظاهره)). وقول الترمذي: هذا حديث غريب لا يشعر بالطعن فيه؛ لأن الغريب قد يكون صحيحا. الحديث الخامس عن عطية: قوله: ((ومن لم ينبت لم يقتل)) ((تو)): إنما اعتبر الإنبات في حقهم لمكان الضرورة؛ إذ لو سئلوا عن الاحتلام أو عن مبلغ سنهم؛ لم يكونوا ليحدثوا بالصدق إذا رأوا فيه الهلاك. والسن إنما تتبع علي ما وجدت في موضعها ولا تصرف عن جهتها. الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((عبدان)) بكسر العين وضمها. وبسكون الباء وبكسرها مع تشديد الدال جمع عبد، وقد روى في الحديث بالصيغتين الأوليين. وقوله: ((ما أراكم تنتهون)) فيه تهديد عظيم حيث نفي العلم بانتهائهم وأراد ملزومه وهو انتهاؤهم، كقوله تعالي: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} أي بما لا ثبوت له ولا علم الله متعلق به. وقوله: وقال: ((هم عتقاء الله)) عطف علي قوله: وقال ((ما أراكم)).

الفصل الثالث 3976 - عن ابن عمر، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلي بني جذيمة، فدعاهم إلي الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلي كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((وأبي أن يردهم)) من قول الراوي معترض بينهما علي سبيل التاكيد. ((تو)): وإنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين. وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادعوه أنهم خرجوا هربا من الرق لا رغبة في الإسلام، فكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحرارا، وكانت معاونتهم لأوليائهم تعاونا علي العدوان. ((خط)): في إن عبدا لأهل الحرب لو دخل دار الإسلام مسلما فهو حر، ولا يجوز رده إليهم, ولو أن العبد غلب علي سيده في دار الحرب ثم خرج به إلينا مسلمين، ويد العبد ثابتة علي السيد كان السيد مملوكا والمملوك مالكا، ولو خرج إلينا وفي يده عبد له فأسلما قبل أن نقدر عليهما، فالحكم السابق مقرر علي ما كان. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((حتى إذا كان يوم)) معناه محذوف و ((كان)) تامة، أي دفع إلينا الأسير وأمرنا بحفظ إلي يوم يأمرنا بقتله، فلما وجد ذلك اليوم أمرنا بقتلهم. وكذا ((حتى)) في قوله: ((حتى قدمنا)) فإن التقدير: لا يقتل رجل من أصحابي أسيره، بل يحفظه حتى يقدم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظنا حتى قدمنا. وقوله: ((إني أبرأ إليك)) ضمن ((أبرأ)) معنى أنهي فعداه بـ ((إلي)) أي أنهي إليك براءتي وعدم رضائي من فعل خالد، نحو قولك: أحمد إليك فلانا. ((خط)): إنما نقم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد موضع العجلة، وترك التثبت في أمرهم إلي أ، يستبين المراد من قولهم: صبأنا؛ لأن الصبأ معناه الخروج من دين إلي دين؛ وكذلك كان المشركون يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابئ، وذلك لمخالفته دين قومه، فقولهم: صبأنا صبأنا يحتمل أن يراد به خرجنا من ديننا إلي دين آخر غير الإسلام من يهودية أو نصرإنية أو غيرهما. فلما لم يكن هذا القول صريحا في الانتقال إلي دين الإسلام نفذ خالد فيهم القتل؛ إذ لم توجد شريطة حقن الدم بصريح الاسم. وقد يحتمل أنه ظن إنما عدلوا عن اسم الإسلام أنفة من الاستسلام والانقايد. أقول: ولعل الاحتمال الثاني أوجه؛ لأن صبأ كلام ذو وجهين؛ فإنه إذا نظر في اللغة لم

(6) باب الأمان

خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدما علي النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع يديه، فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) مرتين. رواه البخاري. (6) باب الأمان الفصل الأول 3997 - عن أم هانئ بنت أبي طالب، قالت: ذهبت إلي رسول الله عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت، فقال: ((من هذه؟)) فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: ((مرحبا بأم هانئ)). فلما فرغ من غسله، قام فصلي ثمإني ركعات ملتحفا في ثوب، ثم انصرف، فقلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان بن هبيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ!)) قالت أم هانئ: وذلك صحى. متفق عليه. وفي رواية للترمذي، قالت: أجرت رجلين من أحمائي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أمنا من أمنت)) ـــــــــــــــــــــــــــــ يكن في ذم، وكان مراد القوم هذا، وإذا نظر إلي استعمالهم كان ذما، ولذلك سموا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابئ، وثمامة لما قيل له: ((أصبوت))، استنكف وقال: ((لا ولكني أسلمت)) ولما كان هذا الوجه أظهر وأشهر حمل خالد عليه فبدا منه ما بدا. ومنه قوله تعالي: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا} فإن معنى ((راعنا)) راقبنا، وهي كلمة سريإنية أو عبرإنية، كانت اليهود يتسابون بها، فلما سمعوا من المسلمين اقترضوها وخاطبوا وقالوا: راعنا وعنوا به تلك المسبة. والله أعلم. باب الأمان الفصل الأول الحديث الأول عن أم هانئ: قوله: ((أجرت رجلين)) ((غب)): تصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره جاره، ولما استعظم حق الجابر عقلا وشرعاً عبر عن كل من يعظم حقه، [ويستعظم] حق غيره بالجار، ويقال: استجرت فلاناً فأجارني.

الفصل الثاني 3978 - عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المرأة تأخذ للقوم)) يعني تجير علي المسلمين. رواه الترمذي. [3978] 3979 - وعن عمرو بن الحمق، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أمن رجلاً علي نفسه فقتله؛ أعطى لواء الغدر يوم القيامة)). رواه في ((شرح السنة)). [3979] 3980 - وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد، أغار عليهم، فجاء رجل علي فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يعني تجير علي المسلمين)) يقال: أجرت فلاناً علي فلان إذا [أغشته] منه ومنعته. وإنما فسره به لإبهامه؛ فإن مفعول قوله: ((لتأخذ)) محذوف، أي الأمان، والدال عليه قرائن الأحوال. الحديث الثاني عن عمرو: قوله: ((لواء الغدر)) استعارة ومجموع الكلام كناية عن فضيحته علي رءوس الأشهاد. الحديث الثالث عن سليم: قوله: ((علي فرس أو برذون)) المراد بالفرس هنا العربي، وبالبرذون التركي من الخيل. وقوله: ((وفاء لا غدر)) فيه اختصار وحذف لضيق المقام. أي ليكن منكم وفاء لا غدر، يعني بعيد من أهل الله وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ارتكاب الغدر؛ وللاستبعاد صدر الجملة بقوله: ((الله أكبر)) وكرره. ((حس)): وإنما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنه إذا هادنهم إلي مدة وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة ميسرة بعد انقضاء المدة المضروبة، كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها. فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعد ذلك عمرو غدراً. وأما إن نقض أهل الهدنة، بأن ظهرت منهم خيانة، له أن يسير إليهم علي غفلة منهم.

عهد، فلا يحلن عهداً ولا يشدنه، حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم علي سواء)) قال: فرجع معاوية بالناس. رواه الترمذي، وأبو داود. [3980] 3981 - وعن أبي رافع، قال: بعثني قريش إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبداً. قال: ((إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع فإن كان في نفسك ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فلا يحلن عهداً ولا يشدنه)) هكذا بجملته عبارة عن عدم التغيير في العهد فلا يذهب إلي اعتبار معإني مفرداتها. قوله: ((علي سواء)) هو حال. ((خط)): أي يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع، فيكون الفريقان في علم ذلك علي السواء. الحديث الرابع عن أبي رافع: قوله: ((ألقي في قلبي الإسلام)) فيه أن إلقاء الإسلام لم يتخلف عن الرؤية، وأنشد في معناه: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبئك عن خبره فدل علي فراسته ودهائه ونظره الصائب. وأن في رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى المعجزات ما لو نظر إليه الناظر الثابت النظر الفطن لآمن. وقوله: ((والله لا أرجع إليهم أبداً)) كناية عن تمكن الإسلام من قلبه؛ ولذلك أكده بالقسم وذيله بقوله: ((أبداً)) وإليه الإشارة بقوله: ((فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع)) كأنه أراد أن يظهر الإسلام بعد أخذه بمجامع قلبه، قيل له: لا تظهر لأنه متضمن لنقض العهد أو لضررك برجوعك إليهم. قوله: ((لا أخيس)) ((نه)): أي لا أنقضه. يقال: خاس بعهده إذا نقضه. وخاس بوعده إذا أخلفه. قوله: ((ولا أحبس البرد)) أي الرسل وهو جمع بريد. ((فا)): البريد في الأصل البغل وهي كلمة فارسية أي بريدة دم. وهو المحذوف الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فعربت وخففت. ثم سمى الرسول الذي يركب البريد باسمه، والمسافة التي بين السكتين بريداً. والسكة الموضع الذي كان يسكنه الفيوج المرتبون من رباط أو قبة أو بيت أو نحو ذلك. وبعد ما بين السكتين فرسخان، وكان يرتب في كل سكة بغال. أقول: المراد بالعهد هنا العادة الجارية المتعارفة بين الناس، من أن الرسل لا يتعرض لهم بمكروه، ويدل عليه قوله في الحديث الآتي بعده: ((أما والله لولا أن الرسل لا تقتل)) الحديث. ألا ترى كيف صدر الجملة بلفظة ((أما)) التي هي من طلائع القسم ثم عقبها به دلالة علي أن

الذي في نفسك الآن فارجع)) قال: فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت. رواه أبو داود. [3981] 3982 - وعن نعيم بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة: ((أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)) رواه أحمد، وأبو داود. [3982] 3983 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة: أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده – يعني الإسلام – إلا شدة، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام)) رواه الترمذي من طريق ابن ذكوان عن عمرو وقال: حسن. [3983] وذكر حديث علي: ((المسلمون تتكافأ)) في ((كتاب القصاص)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ارتكاب هذا الأمر من عظائم الأمور. فلا ينبغي أن يرتكب. وقوله: ((ولكن ارجع)) استدراك عن مقدر أي لا تقم هاهنا ولا تظهر الإسلام ((ولكن ارجع)) إلي آخره. الحديث الخامس عن نعيم: قوله: ((لولا أن الرسل لا تقتل)) ((تو)): وذلك لأنهم كما حملوا تبليغ الرسالة حملوا بتبليغ الجواب، فلزمهم القيام بكلا الأمرين فيصيرون برفض بعض ما لزمهم موسومين بسمة الغدر، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن ذلك، ثم إن في تردد الرسل المصلحة الكلية، ومهما جوز حبسهم أو التعرض لهم بمكروه، صار ذلك سبباً لانقطاع السبيل بين الفئتين المختلفتين. وفي ذلك من الفتنة والفساد ما لا يخفي علي ذي اللب موقعه. وقوله: ((لضربت أعناقكما)) إنما قال لهما ذلك؛ لأنهما قالا بحضرته: نشهد أن مسيلمة رسول الله. الحديث السادس عن عمرو: قوله: ((فإنه لا يزيده)) اسم ((إن)) ضمير الشأن وفاعل ((يزيده)) مضمر فسره بالإسلام. ((نه)): أصل الحلف المعاقدة علي التعاضد والتساعد والإنفاق. فما كان منه في الجاهلية علي الفتن والقتال بن القبائل، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حلف في الإسلام)) وما كان منه في الجاهلية علي نصرة المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما يجري مجراه، فذلك قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)). قوله: ((ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام)) والتنكير فيه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون للجنس أي لا تحدثوا حلفاً ما. والآخر أن يكون للنوع.

(7) باب قسمة الغنائم والغلول فيها

الفصل الثالث 3984 - عن ابن مسعود، قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ((أتشهدان إني رسول الله؟)) فقالا: نشهد أن مسليمة رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((آمنت بالله ورسوله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما)) قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسول لا يقتل. رواه أحمد. [3984] (7) باب قسمة الغنائم والغلول فيها القسم الأول 3985 - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله رأي ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): يعني إن كنتم حلفتم في الجاهلية بأن يعين بعضكم، بعضا، ويرث بعضكم من بعض، فإذا أسلمتم فأوفوا به؛ فإن الإسلام يحرضكم علي الوفاء به، ولكن لا تحدثوا مخالفة في الإسلام بأن يرث بعضكم من بعض. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن مسعود: قوله: ((قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله)) جواب غير مطابق للسؤال ولا لنفس الأمر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: ((أتشهدان إني رسول الله)) إني قد ادعيت الرسالة وصدقتها بالمعجزة، فأقرا بذلك، فقولهما: ((نشهد أن مسيلمة)) رد لهذا المعنى كأنهما أنكرا أن الرسالة تثبت بالمعجزة. وكان جوابهما من الأسلوب الأحمق، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بعد ذلك: ((آمنت بالله ورسوله)) إشارة إلي هذا المعنى حيث لم يقل: آمنت بالله وربي. بل قال: ((ورسوله)) أي لمن ادعى الرسالة، وأثبتها بالمعجزة كأننا من كان، وهو من الكلام المنصف. وكأنهم ترقبوا أن يشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيلمة في الرسالة، فنفاه بقوله: ((ورسوله)) أي إنه ليس من معنى الرسالة في شيء، فيكون كلامه صلى الله عليه وسلم من الأسلوب الحكيم. وقوله: ((فمضت السنة)) معناه جرت السنة علي العادة الجارية فجعلتها سنة. باب قسمة الغنائم والغلول فيها المغرب: الغنيمة ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة، وهو أعم من النفل، والفيء أعم من الغنيمة؛ لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال الشرك. قال أبو بكر الرازي:

3986 - وعن أبي قتادة، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فضربته من ورائه علي حبل عاتقه بالسيف، فقطعت الدرع، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب، فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم رجعوا وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من قتل ـــــــــــــــــــــــــــــ الغنيمة فيء والجزية فيء ومال أهل الصلح فيء والخراج فيء؛ لأن ذلك كله مما أفاء الله علي المسلمين من المشكرين، وعند الفقهاء كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيء. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلم تحل)) الفاء عاطفة علي كلام سابق لرسول الله صلى الله عليه وسلم علي هذا، ولفظة ((قال)) للراوي يوضحه حديث أبي هريرة في الفصل الثالث، والمشار إليه بـ ((ذلك)) ما في الذهن يبينه الخبر. وهو استقرار حل يوجبه الضعف والعجز. ((مظ)): ((ذلك)) إشارة إلي تحليل الله الغنائم. الحديث الثاني عن أبي قتادة: قوله: ((جولة)) ((نه)): يقال: جال واجتال إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب، والجائل الزائل عن مكانه. ((تو)): أي الصحابي كره لهم لفظ الهزيمة فكنى عنها بالجولة. ولما كانت الجولة مما لا استقرار عليه. استعملها في الهزيمة؛ تنبيها علي أنهم لم يكونوا استقروا عليها. ((مح)): وإنما كانت الهزيمة من بعض الجيش، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه فلم يزالوا، والأحاديث الصحيحة في ذلك مشهورة. ولم يرو أحد قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم في موطن من المواطن، بل ثبت فيها بإقدامه وثباته في جميع المواطن. وحبل العاتق ما بين العنق والكتف، وريح الموت استعارة من أثره أي وجدت منه شدة كشدة الموت. قوله: ((ما بال الناس؟)) يحتمل وجهين: أحدهما: ما بالهم منهزمين فكان جوابه: أمر الله، أي كان ذلك من قضاء الله وقدره. وثإنيهما: ما بال الناس؟ أي ما حال المسلمين بعد الإنهزام؟ فكان جوابه: أمر الله غالب - أي النصرة للمسلمين. ومعنى قوله: ((ثم رجعوا)) علي الأول: ثم رجع المسلمون بعد الهزيمة. وعلي الثاني: رجعوا بعد انهزام المشركين، وينصر الثاني قوله: وجلس النبي صلى الله عليه وسلم .... إلي آخره. قوله: ((قتيلا)) أوقع القتل علي المقتول باعتبار مآله، كقوله تعالي: {أَعْصِرُ خَمْرًا}.

قتيلا له عليه بينة فله سلبه)) فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقمت، فقال: ((ما لك يا أبا قتادة؟)) فأخبرته، فقال رجل: صدق، وسلبه عندي فأرضه مني. فقال أبو بكر: لا ها الله، إذا لا يعمد أسد من أسد الله يقاتل عن ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): السلب ما يأخذه احد الفارسين في الحرب من قرينه مما عليه ومعه من سلاح وثياب ودابة وغيرها، وهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض. ((مح)): اختلفوا فيه فقال مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وغيرهم: يستحق القاتل السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك هذا القول أم لا. قالوا: وهذه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن حكم الشرع. وقال أبو حنيفة والشافعي ومن تابعهما: لا يستحق بمجرد القتل إلا أن يقول الأمير قبل القتال: من قتل قتيلا فله سلبه. وجعلوا هذا إطلاقا من النبي صلى الله عليه وسلم وليس بفتوى منه ولا إخبار عام. وهذا الذي قالوه ضعيف؛ لأنه صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بعد الفراغ من القتال. أقول: ويؤيده حديث عوف بن مالك في الفصل الثاني؛ لأنه مطلق والأصل عدم التقييد. قال الأوزاعي والشافعيون: لا يستحق السلب إلا في كل قتيل قتله قبل التحام الحرب. وفي قوله: ((عليه بينة)) دليل للشافعي والليث، أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتل ولا يقبل قوله. وقال مالك: يقبل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه بقول واحد ولم يحلفه. والجواب: أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالبينة فلا يكفي الواحد. واحتج بعضهم بأنه استحق بإقرار من هو في يده وهو ضعيف؛ لأن الإقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبا إلي من هو في يده. فينسب بإقراره وهنا منسوب إلي جميع الجيش. قوله: ((فأرضه مني)) ((من)) ابتدائية أي أرض أبا قتادة لأجلي ومن جهتي. وذلك إما بالهبة أو بأخذه شيئا يسيرا مني بدله. قوله: ((لا ها الله إذا)) ((مح)): في جميع روايات المحدثين في الصحيحين وغيرهما ((إذا)) بالألف قبل الذال، وأنكره الخطابي وأهل العربية. انتهي كلامه. قال النحويون: وقد يعوض عن واو القسم في ((والله) هاء التنبيه وهمزة الاستفهام فيجران الله كالواو. وقال المالكي: ليستا عوضا عنها وإن جر ما بعدهما بمقدر لم يلفظ به، كما ((أن)) نصب المضارع بعد الفاء ونحوه بمقدر. وفي ((ها الله)) لغات: أن يذكر بعد الهاء ألف وبعد همزة الوصل لأن لهمزة الله شأنا ليس لغيرها. بدليل يا الله بقطعها فيقال: ها الله، وأن يحذفا معا، فحذف الهمزة للوصل والألف للساكنين. وأن يحذف الهمزة؛ لأنها للوصل دون الألف نظرا إلي أنه جعل كجزء الله وأن تبقى الهمزة لما مر. وتحذف الألف نظرا إلي أن الهمزة محذوفة حكما. والدليل علي أنهما [عوضان] * عن حرف القسم امتناع اجتماعهما معه إذ يمتنع ((ها والله واو الله)) ووجوب الجر بعدهما، ولا يلزم من امتناع اجتماعهما مع الواو وكونهما عوضين، إذ

الله ورسوله فيعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق فأعطه)) فأعطإنيه، فابتعت به مخرفا في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يمتنع اجتماع أن الناصبة مع الفاء في جواب الأشياء الستة، وليست الفاء عوضا من حرف النصب، وإنما نشأ هذا الحكم الوهمي من أن العوض والمعوض عنه لا يصح اجتماعهما، فذهب الوهم إلي العكس الكلي وليس كذلك. ثم قال الخليل: ((ذا)) في ((لا ها الله ذا)) وفي ((ها لعمر الله ذا)) مقسم عليه، وأصله: والله للأمر هذا، فقدم ((ها)) وجعل عوضا عن الواو لكثرة القسم بالله. وقال الأخفش: هو من جملة القسم تكيد له كأنه قال: ذا قسمي لأمرين الأول: أنهم يذكرون المقسم عليه بعده نحو لاها الله ذا لقد كان كذا، وهذا يدل علي أنه من جملة القسم. الثاني: أنهم يأتون بالمقسم عليه منفيا، ولو كان ذا من المقسم عليه وهو مثبت لكان المقسم عليه إذا ذكر طائفة في الإثبات. قال الحاجبي: كلا القولين باطل، أما قول الخليل فلأن المقسم عليه علي ما قاله في هذا الكلام مثبت، وقد علم بالاستقراء أنه منفي؛ إذ لا نزاع في أن ((لا)) في ((لا ها الله)) للنفي. وأما قول الأخفش فلأنه أيضا قدره مثبتا، وأجاز حذفه بأسره، وهو خلاف الأصل وجعل ((ذا)) إشارة إلي القسم ولم يوجد له نظير في كلامهم. ثم قال: والمستقيم أن يجعل ذا مقسم عليه لا علي ما ذكره الخليل، بل علي معنى ((لا ها الله)) يكون الأمر، فيسلم من المحذورات المتقدمة. قال الدار الحديثي [استقراؤهما] * أقوى من استقرائه. ونص الزمخشري أن ((لا)) في ((لا ها الله)) زائدة للتوكيد، كقوله تعالي: {لا أُقْسِمُ} كما قال الخليل والأخفش، وما ورد في هذا الحديث حمله بعض النحويين علي أنه غلط من بعض الرواة، إذ العرب لا تستعمل ((لا ها الله)) بدون ((ذا)) وإن سلم استعماله بدون ذا فليس هذا موضع ((إذن))؛ لأنه للجزاء. وهو ها هنا علي نقيضه ومقتضى الجزائية أن لا يذكر ((لا)). ويقال: إذا ((يعمد إلي أسد)) ليصح جوابا لطالب السلب، وليس بعامل فقالوا: الظاهر أن الحديث ((لا ها الله إذا لا تعمد)) فصحف ثم نقل كذلك، قال: الحديث صحيح، ولا يجب أن تلازم ذا ها القسم كما لا يجب أن تلازم ذا ها غيرها من حروفه. وتحقيق الجزائية (بإذن لا تعمد) أصح؛ إذ معناه إذا صدق أسد غيرك لا يعمد النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال حقه وإعطاء سلبه إياك. أقول: وفي شرح مسلم للشيخ محيي الدين عن أبي زيد ما يشعر بأن ((إذن)) زائدة، ونظيره في الزيادة قول الحماسي: إذا لقام بنصري. قال أبو البقاء: قيل: جواب لو لم تستبح. وقوله: ((لقام)) بدل منه. فيكون التقدير: والله لا يعمد إلي أسد، كقولك: والله إذن لا أفعل. والعجب من الذين يعتنون بشرح الحديث، كيف يرجحون نقل بعض الأدباء علي أولئك الجهابذة من المحدثين وينسبون الغلط والتصحيف إليهم. ولا أقول: عم أعدل وأتقن ونقلهم أوثق؛ إذ هو يقتضي المشاركة بينهم. ولله در الدار الحديثي حيث ذب عنهم بما هو الحق الصريح والصدق المحض.

3987 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): فيه دليل علي أن هذه اللفظة تكون يمينا. قال أصحابنا: إن نوى اليمين كانت يمينا وإلا فلا؛ لأنها ليست متعارفة في الأيمان. قوله: ((عن الله)) فيه وجهان: أحدهما أن تكون ((عن)) صلة، فيكون المعنى يصدر قتاله عن رضي الله ورسوله، أي بسببهما كقوله تعالي: {ومَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وقول الشاعر: وينهون عن أكل وعن شرب وثإنيهما: أن يكون حالا أي يقاتل ذابا عن دين الله أعداء الله ناصرا لأولياء الله. ((مح)): المعنى يقاتل لنصرة دين الله وشريعة رسوله؛ لتكون كلمته هي العليا. وفيه دلالة ظاهرة علي فضل الصديق رضي الله عنه ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لإفتائه بحضرته صلوات الله عليه وتصديقه له وعلي منقبة أبي قتادة؛ فإنه سماه أسدا من أسد الله. والمخرف بفتح الميم والراء الوعاء الذي يجعل فيه ما يجتنى من الثمار. وقوله: ((تأثلته)) أي اقتنيته وتأصلته. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((سهما له)) ((مظ)): اللام في قوله: ((سهما له)) لام التمليك. وفي ((لفرسه)) لام النسبة. ((حس)): لفنائه بفي الحرب و [لما] * يلزمه مونته إذا كان معلوما أن مؤنة الفرس متضاعفة علي مؤنة صاحبه. ((تو)): هذا الحديث صحيح لايرون خلافه. وإنما ترك أبو حنيفة العمل بهذا الحديث لا لرأيه بل لما يعارضه من حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للفارس سهمان وللراجل سهم)). وأبو حنيفة أخذ بهذا الحديث لحديث مجمع بن حارثة وهو مذكور في الحسان. ((مح)): اختلفوا فيه فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون: للفارس ثلاثة أسهم. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط، سهم له وسهم لها. ولم يقل بقوله هذا أحد إلا ما روى عن علي وأبي موسى رضي الله عنهما. وحجة الجمهور هذا الحديث وهو صريح. وأما الحديث المذكور فيه: ((قسم من النفل للفارس سهمين وللرجل سهما)) هكذا في أكثر الروايات. وفي بعضها: ((للفرس سهمين وللراجل سهما)) بالألف وفي بعضها للفارس سهمين، والمراد بالنفل هنا الغنيمة لغة؛ فإن النفل في اللغة الزيادة والعطية والغنيمة عطية من الله تعالي، ومن روى للراجل بالألف فروايته محتملة، فيتعين حملها علي موافقة الأول جمعا بين الروايتين.

3988 - وعن يزيد بن هرمز، قال: كتب نجدة الحروري إلي ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم، هل يقسم لهما؟ فقال ليزيد: اكتب إليه أنه ليس لهما سهم، إلا أن يحذيا. وفي رواية: كتب إليه ابن عباس: إنك كتبت إلي تسألني: هل كان رسول اله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهم بسهم؟ فقد كان يغزو بهن يداوين المرضي ويحذين من الغنيمة، وأما السهم فلم يضرب لهن بسهم. رواه مسلم. 3989 - وعن سلمة بن الأكوع، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار علي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت علي أكمة، فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا: يا صباحاه ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل. وارتجز وأقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: يريد أنه لما تعارض الروايتان في هذا الحديث أعني فارس وفرس وراجل ورجل، فينبغي أن ترجح إحدى الروايتين علي الأخرى فرجحنا الأولي لحديث ابن عمر [علي] * أن رواية إحدى الروايتين أكثر من الأخرى. وإن تأول الأخرى بأن المراد بالسهم النصيب علي الإجمال، أي للفارس نصيبان، نصيب له ونصيب لفرسه فيكون البين الرواية الأخرى، وحديث ابن عمر يبينه الحديث الذي يتلوه في حديث ابن الأكوع: ((أعطإني صلى الله عليه وسلم سهمين)) إذ لم يرد به المساواة؛ لقوله: ((سهم للفارس وسهم للراجل)). وأما حديث مجمع فعليه كلام سيجيء. الحديث الرابع عن يزيد: قوله: ((اكتب إليه أنه)) أنه بالفتح ظاهر ويجوز الكسر علي الحكاية أي اكتب معنى هذا القول. وقوله: ((إنك كتبت)) الظاهر فيه الكسر، ويجوز الفتح علي المعنى أي اكتب معنى هذا القول. قوله: ((إلا أن يحذيا)) أي إلا أن يعطيا. ((نه)): في الحديث ((إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه)) أي إن لم يعطك، يقال: أحذيته أحذية وهي الحذيا والحذية، وكذا قوله: ((يحذين من الغنيمة)) أي يعطين. ((حس)) العمل علي هذا عند أكثر أهل العلم أن العبيد والصبيان والنسوان إذا حضروا القتال يرضخ لهم ولا يسهم. الحديث الخامس عن سلمة: قوله: ((بظهره)) ((نه)): الظهر الإبل التي يحمل عليها ويركب، يقال: عند فلان ظهر أي إبل. و ((الأكمة)) هي الرابية. و ((يا صباحاه)) كلمة يقولها المستغيث وأصلها إذا صاحوا للغارة؛ لأنهم أكثر ما يغيرون عند الصباح، فكان المستغيث يقول: قد غشينا العدو، وقيل: هو نداء المقاتل عند الصباح يعني قد جاء وقت الصباح فتأهبوا للقتال.

أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فما زلت أرميهم، وأعقر بهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، ثم ابتعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا، يستخفون، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فقلته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة)). قال: ثم أعطإني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس وسهم ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((اليوم يوم الرضع)) ((مح)): أي يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم راضع أي راضع اللؤم في بطن أمه. وقيل: لأنه يمص حلمة الشاء والناقة لئلا يسمع السؤال والضيفان صوت الحلاب فيقصدوه. وقيل: اليوم يعرف من أرضعته كريمة فأشجعته، أو لئيمة فأجبنته. وقيل: معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها ويعرف غيره. قوله: ((وأعقر بهم)) ((نه)): أي اقتل مركوبهم، يقال: عقرت به إذا قتلت مركوبه وجعلته راجلا. أقول: يريد أنه كناية عن جعل الفارس راجلا؛ لأنه إذا أعقر دابته وهو عليها سقط منها، فيبقى راجلا والباء في ((بها)) مثلها في قول الشاعر: تدوس بنا الجماجم والتريبا قوله: ((من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) بيان قوله: ((من بعير)) و ((من)) فيه زائدة تفخيما لشأنها؛ ولذلك قال: ((خلق الله)) كأنه أخذته العزة والحمية علي أن يغير أولئك اللئام أمثال هذه الشرائف، ألا ترى كيف ارتجز بقوله: ((اليوم يوم الرضع)) وكرر اليوم في الخبر أي يوم له شأن. يوم يظهر لمن أرضعته الحرب شجاعنه. قوله: ((آراما)) ((نه)): الآرام الأعلام وهي الحجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدى بها، واحدها إرم كعنب، وكان من عادة الجاهلية إذا وجدوا شيئا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه. قوله: ((سهم الفارس وسهم الراجل)) ((نه)): يشبه أن يكون إنما أعطاه من الغنيمة سهم الراجل فحسب؛ لأن سلمة كان راجلا في ذلك اليوم وأعطاه الزيادة نفلا لما كان من حسن بلائه. ((مح)): فيه فضيلة الشجاعة ومنقبة لسلمة وأبي قتادة، وجواز الثناء علي من فعل جميلا،

الراجل فجمعهما إلي جميعا، ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه علي العضباء راجعين إلي المدينة. رواه مسلم. 3990 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش. متفق عليه. 3991 - وعنه، قال: نفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلا سوى نصيبنا من الخمس، فأصابني شارف، والشارف: المسن الكبير. متفق عليه. 3992 - وعنه، قال: ذهبت فرس له فأخذها العدو، فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أبق عبد له، فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 3993 - وعن جبير بن مطعم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن يمنزلة واحدة منك؟! فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد)). قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئا رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ واستحقاق ذلك إذا ترتب عليه مصلحة، وجواز عقر خيل العدو في القتال، واستحباب الرجز في الحرب، وجواز القول بإني أنا ابن فلان بن فلان، وجواز المبارزة بغير إذن الإمام، وحب الشهادة والحرص عليها، وإلقاء النفس في غمرات الموت. الحديث السادس والسابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((نفلا سوى نصيبنا)) ((حس)): النفل اسم لزيادة يعطيها الإمام بعض الجيش علي القدر المستحق، ومنه سميت النافلة لما زاد علي الفرائض من الصلوات. وقد اختلفوا في إعطاء النفل وفي أنه من أين يعطى. وتمام تحريره مذكور في شرح السنة. الحديث الثامن عن ابن عمر: قوله: ((ذهبت فرس له)) ((حس)): فيه دليل علي أن الكفار إذا أحرزوا أموال المسلمين واستولوا عليها لا يتملكونها. وإذا استنقذها المسلومن من أيديهم ترد إلي ملاكها. وهو قول الشافعي سواء كان قبل القسمة أو بعدها خلافا لجماعة إذا كان بعد القسمة. الحديث التاسع عن جبير: قوله: ((ونحن بمنزلة واحدة)) أي من كوننا بني عبد مناف، وذلك أن هاشما والمطلب ونوفلا وعبد شمس هم أبناء مناف، وجبير من بني نوفل

3994 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها، فسهمكم فيها. وأيما قرية عصت الله ورسوله؛ فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)) رواه مسلم. 3995 - وعن خولة الأنصارية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجالا يختوضون من مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وعثمان من بني عبد شمس. ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)) معناه ما ذكر في شرح السنة: أراد الحلف الذي كان بين بني هاشم وبني المطلب في الجاهلية. وذلك أن قريشا وبني كنانة حالفت علي بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وفي غير هذه الرواية ((إنا لم نفترق في جاهلية ولا في الإسلام)) وكان يحيى بن معين يرويه: ((سي واحد)) – بالسين المهملة 0 أي مثل سواء يقال: هذا سي، أي مثله ونظيره. الحديث العاشر عن بي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أيما قرية أتيتموها)) ((مح)): قال القاضي: يحتمل أن يكون المراد بالاولي الفيء الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، بل جلا عنه أهله وصالحوا عليه، فيكون سهمهم فيها، أي حقهم من العطاء كما يصرف الفيء. ويكون المراد بالثانية ما أخذ عنوة فيكون غنيمة يخرج منه الخمس ولا خمس في الفيء بهذا الحديث، وقد أوجب الشافعي الخمس في الفيء كما أوجبوه كلهم في الغنيمة. وقال جميع العلماء سواه: لا خمس إلا في الفيء. ((شف)): أي كل قرية غزوتموها واستوليتم عليها ولم أكن أنا فيكم، وقسمتم الغنائم بأنفسكم فسهمكم في تلك الغنائم. ((وأيما قرية عصت الله ورسوله)) أي وأنا قد حضرت قتالها بنفسي فأنا أخمس الغنائم وأقسم عليكم بنفسي. أقول: ثم في قوله: ((ثم هي لكم)) للتراخي في الإخبار. والضمير في ((فإن خمسها)) للقرية والمراد هي وما فيها وكذلك ((هي)) راجعة إلي القرية، أي القرية وما فيها بعد إخراج الخمس لكم، وكنى عن مقاتلتهم بقوله: ((عصت الله ورسوله)) تعظيما لشأن المخاطبين، وأنهم إنما يقاتلون في الله ويجاهدون في الله فمن قاتله فقد عصى الله ورسوله. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فذكر الغلول)) ((مح)): قال أبو عبيد: هو الخيانة في الغنيو خاصة. وقال غيره: هو أعلم ((وعظم أمره)) عطف علي قوله: ((فعظمه)) علي طريقة أعجبني زيد وكرمه أي كرم زيد. وقوله تعالي: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي يخادعون الذين آمنوا بالله. وقوله: ((فعظمه)) عطف علي ((فذكر الغلول))

3996 - وعن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره، ثما قال: ((لا ألفين أحدكم يجيء سوم القيامة علي رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: ((لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة علي رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك)). متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وهو أتم. 3997 - وعنه، قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له: مدعم فبينما مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئا له ـــــــــــــــــــــــــــــ علي هذا المنوال. ((ولا ألفين أحدكم)) كقوله: لا أرينك ها هنا، نهي نفسه عن أن يجدهم علي هذه الحالة، والمراد نهيهم عن ذلك، وهو أبلغ. وقوله: ((يجيء)) حال من ((أحدكم)) ((وعلي رقبته)) من الضمير في ((يجيء))، و ((بعير)) فاعل الظرف لاعتماده أي هذه حالة فظيعة شنيعة لا ينبغي لي أن أراكم عليها لفضيحتكم علي رءوس الأشهاد، ويدل علي هذا التأويل حديث عبادة بن الصامت في الفصل الثاني من قوله: ((فإنه عار علي أهله يوم القيامة)). قوله: ((رغاء)) ((نه)): الرغاء صوت الإبل يقال: رغا يرغو رغاء. والحمحمة صوت الفرس دون الصهيل، والصامت الذهب والفضة خلاف الناطق. قوله: ((نفس لها صياح)) ((تو)): يريد بالنفس المملوك الذي يكون قد غله من السبي، وأراد بالرقاع الثياب يغلها من الغنيمة، و ((تخفق)) أي يضطرب اضطراب الراية. قوله: ((وهو أتم)) أي لفظ مسلم أتم تفصيلا من لفظ البخاري. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سهم عائر)) ((حس)): هو الجائز عن قصده ومنه عار الفرس إذا ذهب علي وجهه كأنه منقلب. والشملة كساء يشتمل به الرجل ويجمع علي الشمال. قوله: ((إن الشملة)) إلي آخره جوابا عن قولهم: ((هنيئا له الجنة)) مشعر

الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم؛ لتشتغل عليه نارا)). فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((شراك من نار أو شراكان من نار)). متفق عليه. 3998 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: كان علي ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو في النار)) فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها. رواه البخاري. 3999 - وعن ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأنهم قطعوا علي أنه الآن في الجنة يتنعم فيها، وأدخل ((كلا)) ليكون ردعا لحكمهم وإثباتا لما يعده، وينصره الرواية الأخرى، ((إني رأيته في النار)). وقوله: ((نارا)) تمييز وفيه مبالغة أي الشملة اشتعلت وصارت بجملتها نارا، كقوله تعالي: {واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}. قوله: ((شراكين من نار)) ((نه)): الشراك أحد سيور النعل التي تكون علي وجهها. ((مح)): فيه تنبيه علي المعاقية بهما، إما بنفسهما أي يغلي بهما وهما من نار أو هما سببان لعذاب النار. وفيه غلظ تحريم الغلول، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره في التحريم حتى الشراك، وأن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة علي من غل، وجواز الحلف بالله من غير ضرورة، وأن من رد شيئا مما غل يقبل منه ولا يحرق متاعه. وأما حديث: ((من غل فأحرقوا متاعه)) فضعيف بين ابن عبد البر وغيره ضعفه، قال الطحاوي: لو كان صحيحا لكان منسوخا. الحديث الرابع عشر عن عبد الله: قوله: ((علي ثقل النبي صلى الله عليه وسلم)) ((فا)): هو بالتحريك المتاع المحمول علي الدابة، في الغريبين: العرب تقول: لكل خطير نفيس ثقل. قوله: ((كركرة)) ((مح)): هو بفتح الكاف الأولي وكسرها والثانية مكسورة فيهما. قوله: ((فذهبوا)) الفاء عاطفة علي محذوف، أي سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحققوا أن سبب وروده النار هو الغلول، مع كونه علي ثقله فذهبوا ينظرون. قوله: ((عباءة)) الجوهري: العباء والعباءة ضرب من الأكسية والجمع العباءات. الحديث الخامس عشر عن عبد الله: قوله: ((ولا نرفعه)) يحتمل أن يريد أنا لا نرفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونستأذنه في أكله؛ لما سبق منه الإذن، وأن يريد نأكله ولا ندخره. الحديث السادس عشر عن عبد الله بن مغفل: قوله: ((من شحم)) ((من)) بيان وهو صفة

4000 - وعن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم الي. متفق عليه. وذكر حديث أبي هريرة ((ما أعطيكم)) في باب ((رزق الولاة)). الفصل الثاني 4001 - عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله فضلني علي الأنبياء – أو قال: فضل أمتي علي الأمم – وأحل لنا الغنائم)) رواه الترمذي. [4001] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((جرابا)) أي جرابا مملوءا من شحم. وفي قوله: ((اليوم)) إشعار بأنه كان مضطرا إليه وبلغ الاضطرار إلي أن يستأثر نفسه علي الغير، ولم يكن ممن قيل فيه: {ويُؤْثِرُونَ عَلي أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومن ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((مح)): فيه إباحة أكل الطعام في دار الحرب. قال القاضي عياض: أجمع العلماء علي جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب علي قدر حاجتهم، ولم يشترط أحد من العلماء استئذان الإمام إلا الزهري، وجمهورهم علي أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئا إلي عمارة دار الإسلام، فإنه أخرجه لزمه رده إلي المغنم، وعلي أنه لا يجوز أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب، ويجوز أن يركب دوابهم ويلبس ثيابهم ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بغير الاستئذان، وشرطه الأوزاعي. وفيه دليل علي جواز أكل شحوم ذبائح اليهود وإن كانت محرمة عليهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي أمامة: قوله: ((وأحل لنا الغنائم)) عطف ((أحل)) علي ((فضل)) علي طريقة الحصول والوجود، وفوض ترتيب الثاني علي الأول إلي ذهن السامع، كما في قوله تعالي: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ}. وفي ((لنا)) علي التقديرين تعظيم، أما علي الأول فظاهر؛ لأن العدول إلي ضمير الجمع مشعر بالتعظيم، وعلي الثاني فإنه صلى الله عليه وسلم أدخل نفسه الزكية في غمار الأمة، وفي هذا الحديث وفي الحديث الأول من الباب وهو قوله: ((ذلك بأن الله رأي ضعفنا وعجزنا)) أن الفضيلة عند الله تعالي هي إظهار الضعف والعجز بين يدي الله تعالي.

4402 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ – يعني يوم حنين -: ((من قتل كافرا فله سلبه)). فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم. رواه الدارمي. [4002] 4003 - وعن عوق بن مالك الأشجعي، وخالد بن الوليد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل. ولم يخمس السلب. رواه أبو داود. [4003] 4004 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيف أبي جهل، وكان قتله. رواه أبو داود. [4004] 4005 - وعن عمير مولي آبي اللحم، قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلموه إني مملوك فأمرني فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع، وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجإنين، فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها. رواه الترمذي، وأبو داود إلا أن روايته انتهت عند قوله: المتاع. [4005] 4006 - وعن مجمع بن جارية، قال: قسمت خيبر علي أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمإنية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة، فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما. رواه أبو داود. وقال: حديث ابن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن عوف: قوله: ((ولم يخمس السلب)) تكلم الشيخ التوربشتى فيه وأطال، وقد سبق بيان الاختلاف فيه بين العلماء في حديث أبي قتادة في الفصل الأول. الحديث الرابع عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((نفلني)) يجيء بحثه في الفصل الثالث. الحديث الخامس عن عمير: قوله: ((وكلموه)) عطف علي قوله: ((فكلموا في)) أي كلموا في حقي وشإني أولا بما هو مدح لي، ثم أتبعوه بقولهم: إني مملوك. وقوله: ((حرثى المتاع)) هو أثاث البيت وأسقاطه، وإنما رضخه بهذا؛ لأنه كان مملوكا. الحديث السادس عن مجمع: قوله: ((فأعطى الفارس سهمين)) ((قض)): هذا الحديث مشعر بأنه قسمها ثمإنية عشر سهما، فأعطى ستة أسهم منها الفرسان علي أن يكون لكل مائة منهم سهمان، وأعطى الباقي وهو اثنا عشر سهما للرجالة، وهم كانوا ألفا ومائتين، فيكون لكل مائة سهم فيكون للراجل سهم وللفارس سهمان. وإليه ذهب أبو حنيفة ولم يساعده في ذلك أحد من مشاهير الأئمة حتى القاضي أبو يوسف ومحمد، لأنه صح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل

عمر أصح فالعمل عليه، وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال: إنه قال: ثلثمائة فارس، وإنما كانوا مائتي فارس. [4006] 4007 - وعن حبيب بن مسلمة الفهري، قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة رواه أبو داود. [4007] 4008 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل. رواه أبو داود. [4008] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه؛ فإنه حديث متفق علي صحته مصرح بأنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم. وليس في هذا الحديث ما يدل صريحا بل ظاهرا علي أن للفارس سهمين؛ فإن ما ذكرناه شيء يقتضيه الحساب والتخمين، مع أن أبا داود السجستإني هو الذي أورده في كتابه وأثبته في ديوانه، وهو قال: وهذا وهم، وإنما كانوا مائتي فارس، فعلي هذا يكون مجموع الغانمين ألفا وأربعمائة نفر. ويؤيد ذلك قوله: ((قسمت خيبر علي أهل الحديبية)) وهم كانوا ألفا وأربعمائة. علي ما صح عن جابر والبراء بن عازب وسلمة بن الأكوع وغيرهم، فيكون للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم علي ما يقتضيه الحساب. وأما ما روي عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للفرس سهمان وللراجل سهم)) فلا يعارض ما رويناه، فإنه يرويه أخوه عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع عن ابن عمر، وهو أحفظ وأثبت باتفاق أهل الحديث كلهم؛ ولذلك أثبته الشيخان في جامعيهما، ورويا عنه ولم يلتفتا إلي رواية عبد الله. الحديث السابع والثامن عن حبيب: قوله: ((ينفل الربع)) ((قض)): النفل اسم لزيادة يخص بها الإمام بعض الجيش علي ما يعإنيه من المشقة لمزيد سعي واقتحام خطر، والتنفيل إعطاء النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الربع أي في البدأة كما صرح به في حديثه الآخر وهي ابتداء سفر الغزو، وكان إذا نهضت سرية من جملة العسكر، وابتدروا إلي العدو وأوقعوا بطائفة منهم، فما غنموا كان يعطيهم منها الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه، وكان ينفل الثلث في الرجعة، وهي قفول الجيش من الغزو، فإذا قفلوا ورجعت طائفة منهم، فأوقعوا بالعدو مرة ثإنية، كان يعطيهم مما غنموا الثلث؛ لأن نهوضهم بعد القفل أشق، والخطر فيه أعظم. وحكى عن مالك أنه كان يكره التنفيل. وقوله: ((بعد الخمس)) يدل علي أنه يعطى من الأخماس الأربعة التي هي للغانمين. وإليه

4009 - وعن أبي الجويرية الجرمي، قال: أصبت بأرض الروم جرة حمراء، فيها دنإنير في إمرة معاوية، وعلينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني سليم، يقال له: معن بن يزيد، فأتيته بها، فقسمها بين المسلمين وأعطإني منها مثلما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا نفل إلا بعد الخمس) لأعطيتك. رواه أبو داود. [4009] 4010 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا – أو قال: فأعطانا منها – وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا جعفرا وأصحابه، أسهم لهم معهم. رواه أبو داود. [4010] ـــــــــــــــــــــــــــــ ذهب أحمد وإسحاق. وقال سعيد بن المسيب والشافعي وأبو عبيد: إنما يعطي النفل من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك. وعلي هذا فقوله: (الخمس)) وهم من الراوي أو زيادة من بعض الرواة، ويؤيد ذلك عدمها في حديثه الآخر المساوي له في المعنى. وقال أبو ثور: يعطي النفل من أصل الغنيمة كالسلب. الحديث التاسع عن أبي الجويرية: قوله: ((لا نفل إلا بعد الخمس)) ((قض)): ظاهر هذا الكلام يدل علي أنه لم ينفل أبا الجويرية من الدنإنير التي وجدها، لسماعه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نفل إلا بعد الخمس)) وأنه المانع لتنفيله، ووجهه أن ذلك يدل علي أن النفل إنما يكون من الأخماس الأربعة التي هي للغانمين كما دل عليه الحديث السابق. ولعل التي وجدها كانت من عداد الفيء فلذلك لم يعط النفل منه. الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((حين افتتح خيبر)) تنازع فيه الفعلان السابقان عليه، وأصحاب السفينة جعفر بن أبي طالب مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هاجروا من مكة إلي الحبشة، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة وقوي دينه، فلما سمع جعفر ومن معه بذلك، هاجروا من الحبشة إلي المدينة، وكانوا راكبين في سفينة، فلما وافق قدومهم فتح خيبر، فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم وأعطاهم من غنيمة خيبر سهامهم. قوله: ((إلا لمن شهد معه)) استثناء منقطع للتأكيد و ((إلا أصحاب سفينتنا)) استثناء متصل من قوله: ((لأحد))، ووهم بعضهم وزعم أن المراد بمن شهد معه أصحاب الحديبية، فيكون الاستثناء متصلا وليس بذلك؛ لأن من حضر فتح خيبر هم أصحاب الحديبية لا غير. ((قض)): وإنما أسهم لهم لأنهم وردوا عليه قبل حيازة الغنيمة؛ ولذلك قال الشافعي في أحد

4011 - وعن يزيد بن خالد: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((صلوا علي صاحبكم)) فتغيرت وجوه الناس لذلك. فقال: ((إن صاحبكم غل في سبيل الله)) ففتشنا متاعة فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين. رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [4011] 4012 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة، أمر بلالا فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوما بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله! هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة. قال: ((أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟) قال: نعم قال: ((فما منعك أن تجيء به؟)) فاعتذر. قال: ((كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك)). رواه أبو داود. [4012] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوليه: من حضر بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة شارك فيها الغانمين، ومن لم ير ذلك حمله إلي أنه أسهم لهم بعد استئذان أهل الحديبية ورضاهم. أقول: هذا التأويل أظهر مما ذهب إليه من أنه إنما أعطاهم صلى الله عليه وسلم من الخمس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الواقعة؛ لأن قوله: ((فأسهم)) يقتضي القسمة من نفس الغنيمة، وما يعطى من الخمس ليس بسهم، وأيضا الاستثناء في قوله: ((إلا أصحاب سفينتنا)) يقتضي إثبات القسمة لهم. والقسمة لا تكون من الخمس؛ ولأن سياق كلام أبي موسى وارد علي الافتخار والمباهاة. فيستدعي اختصاصهم بما ليس لأحد غيرهم. والرضخ * والخمس مشترك فيه اليتامى والمساكين وغيرهما فلا مزية لهم فيه. وإذا تقرر هذا ظهر أن قسمة خيبر زادت علي ثمإنية عشر سهما. وهذا وهم آخر في حديث مجمع عليه؛ فلا ينهض دليلا علي أن للفارس سهمان. والله أعلم. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن عبد الله: قوله: ((فيجيئون)) حكاية حال ماضية استحضارا لتلك الحالة. وهي امتثالهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بإحضار الغنائم لم يمكثوا ولم يلبثوا. ولما مكث الرجل وتخلف عنهم عاد إلي مقتضى الظاهر، وقال: فجاء رجل يوما بعد ذلك. ((مظ)): إنما لم يقبل ذلك منه؛ لأن لجميع الغانمين فيه شركة وقد تفرقوا، وتعذر إيصال نصيب كل واحد منهم إليه، فتركه في يده؛ ليكون إثمه عليه لأنه هو الغاصب. قوله: ((كن أنت تجيء)) فيه أنواع من التأكيد وهي تأكيد الضمير المستتر، وبناء الخبر عليه علي سبيل التقوى وتخصيص الكينونة. والأنسب أن يكون ((أنت)) مبتدأ ((وتجيء)) خبره، والجملة خبر كان، فقدم الفاعل المعنوي للتخصيص، أي أنت تجيء به لا غيرك. ((غب)): وقد تستعمل ((كان)) في جنس الشيء متعلقا بوصف له هو موجود فيه، فبينه أن

4013 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. رواه أبو داود. [4013] 4014 - وعن سمرة بن جندب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يكتم غالا فإنه مثله)). رواه أبو داود. [4014] 4015 - وعن أبي سعيد، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شري المغانم حتى تقسم. رواه الترمذي. [4015] 4016 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: نهي أن تباع السهام حتى تقسم. رواه الدارمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك، منه قوله تعالي: {وكَانَ الإنسَانُ كَفُورًا}. انتهي كلامه. وهذا وارد علي سبيل التغليظ لا أن توبته غير مقبولة، ولا أن رد المظالم علي أصحابها أو الاستحلال منهم غير ممكن. الحديث الثالث عشر عن عمرو: قوله: ((حرقوا)) ((حس)): هذا حديث غريب، وذهب بعض أهل العلم إلي ظاهر هذا الحديث، منهم الحسن قال: يحرق ماله إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا، وكذلك قال أحمد وإسحاق، قالوا: ولا يحرق ما غل؛ لأنه حق الغانمين يرد عليهم، فإن استهلكه غرم قيمته. وقال: الأوزاعي: يحرق متاعه الذي غزا به وسرجه وإكافه *، ولا تحرق دابته ولا نفقته ولا سلاحه ولا ثيابه التي عليه. وذهب آخرون إلي أنه لا يحرق رحله، لكنه يعزر علي سوء صنيعه، وإليه ذهب مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وحملوا الحديث علي الزجر والوعيد دون الإيجاب. قال البخاري: قد روى في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. الحديث الرابع عشر عن سمرة: قوله: ((غالا)) أي غلول غال فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. الحديث الخامس والسادس عشر عن أبي سعيد: قوله: ((حتى تقسم)) ((قض)): المقتضي للنهي عدم الملك عند من يرى أن الملك يتوقف علي القسمة. وعند من يرى الملك قبل القسمة المقتضي له الجهل بعين المبيع وصفته، إذا كان في المغنم أجناس مختلفة. ((مظ)): يعني لو باع أحد من المجاهدين نصيبه من الغنيمة لا يجوز؛ لأن نصيبه مجهول؛ ولأنه ملك ضعيف يسقط بالإعراض. والملك المستقر لا يسقط بالإعراض.

4017 - وعن خولة بنت قيس، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذه المال خضرة حلوة، فمن أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار)). رواه الترمذي. [4017] 4018 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر. رواه أحمد، وابن ماجه، وزاد الترمذي: وهو الذي رأي فيه الرؤيا يوم أحد. [4018] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن خولة: قوله: ((إن هذه المال)) أنث المال علي تأويل الغنيمة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم بعده: ((من مال الله ورسوله)) والفاء في ((فمن أصابه)) تفصيلية، وكان من الظاهر أن يقال: فمن أصابه كذا ومن لم يصب بحقه فليس له إلا النار، فعدل إلي قوله: ((فرب ((متخوض)) إشارة إلي أن من يأخذها بحقه قليل. والأكثرون من يتخوض فيها بغير حق؛ ولذلك قيل في الأول: ((حلوة خضرة)) أي مشتهاة والنفوس إليها مائلة جدا، وفي القرينة الثانية قيل: فيما شاءت به نفسه. و ((من مال الله) مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله والتصرف فيها بمجرد التشهي. قوله: ((ليس له يوم القيامة إلا النار)) حكم مرتب علي الوصف المناسب له وهو الخوض في مال الله تعالي، فيكون مشعرا بعليته. الحديث الثامن عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((تنفل)) ((تو)): أي أخذه زيادة لنفسه، والمراد منه أنه اصطفاه لنفسه، ومنه الصفي وهو ما يتخيره من المغنم، ولم أجد تنفل مستعملا في المعنى الذي ذكرناه، والرواية وجدناها كذلك. أقول: وقد وجدناه في الكشاف في قوله تعالي: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} حيث قال: وقرأ طاوس {يُصَوِّرُكُمْ} أي صوركم لنفسه ولتعبده كقولك: أثلت مالا إذا جعلته أثلة أي أصلا، وتأثلته إذا أثلته لنفسه. قوله: ((ذا الفقار)) ((فا)): هو بفتح الفاء، والعامة يكسرونها وسميت بذلك؛ لأنه كان في شفرته خزوز شبهت بفقار الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج فتنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((رأي فيه الرؤيا)) ((تو)): والرؤيا التي رأي فيه في منامه يوم أحد، أنه هز ذا الفقار فانقطع من وسطه، ثم هزه هزة أخرى فعاد أحسن ما كان. وقيل: الرؤيا هي ما قاله فيه: ((رأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كإني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة)) الحديث.

4019 - وعن رويفع بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة في فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا في فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه)). رواه أبو داود. [4019] 4020 - وعن محمد بن أبي المجالد، عن عبد الله بن أبي أوفي، قال: قلت: هل كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فياخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف. رواه أبو داود. [4020] 4021 - وعن ابن عمر: أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منهم الخمس. رواه أبو داود. [4021] 4022 - وعن القاسم مولي عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنا نأكل الجزور في الغزو، ولا نقسمه، حتى إذا كنا لنوجع إلي رحالنا وأخرجتنا منه مملوؤة. رواه أبو داود. [4022] 4023 - وعن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول، فإنه عار علي أهله يوم القيامة. رواه الدارمي. [4023] 4024 - ورواه النسائي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. [4024] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر عن رويفع: قوله: ((حتى إذا أعجفها)) ((حتى)) هي الداخلة علي الجملة الشرطية، أشعر بأن الركوب إذا لم يؤد إلي الهزال يجوز. وقد سبق بحثه في الحديث الرابع عشر من الفصل الأول. الحديث العشرون إلي الثاني [والعشرين) * عن القاسم: قوله: ((لنرجع)) اللام المتصلة هي اللام الجاعلة الفعل المضارع حالا. قوله: ((وأخرجتنا)) ((تو)) **: الأخرجة جمع الخراج الذي هو من الأوعية. والصواب فيه الخرجة بكسر الخاء وتحريك الراء بالفتح علي مثال حجرة. الحديث الثالث والعشرون عن عبادة: قوله: ((فإنه عار علي أهله)) أي فضيحة وتشهير علي رءوس الأشهاد. وهي ما سبق في حديث أبي هريرة في الفصل الأول من قوله: ((علي رقبته بغير له رغاء)) الحديث.

4025 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: دنا النبي صلى الله عليه وسلم من بغير فأخذ وبرة من سنامه، ثم قال: ((يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا – ورفع اصبعه – إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط)) فقام رجل في يده كبة من شعر، فقال: أخذت هذه لأصلح بها بردعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك)) فقال: أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها، ونبذها. رواه أبو داود. [4025] 4026 - وعن عمرو بن عبسة، قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ((ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم)). رواه أبو داود. [4026] 4027 - وعن جبير بن مطعم، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والعشرون عم عمرو: قوله: ((ولا هذا)) تأكيد وهو إشارة إلي الوبرة علي تأويل شيء، والمستثنى بالرفع علي البدل وهو الأفصح ويجوز النصب. قوله: ((كبة)) ((المغرب)): الكبة من الغزل بالضم والجر وهق*، وكذا في الصحاح. قوله: ((وأما ما كان لي)) ((أما)) للتفصيل وقرينتها محذوفة، أي وأما ما كان لي فهو حل لك. وما كان للغانمين فعليك بالاستحلال من كل واحد. وقوله: ((أما إذا بلغت)) هذه الكبة إلي ما أرى من الضايقة فلا حاجة لي إليها، أو إذا بلغت القضية إلي هذه الغاية. الحديث الخامس والعشرون عن عمرو: قوله: ((إلي بعير)) أي مستقبلا إليه ((ولا يحل)) عطف علي محذوف وهو مقول القول، أي لا أنصرف ولا يحل. الحديث السادس والعشرون عن جبير: قوله: ((لمكانك)) كنى ((بمكانك)) عن ذاته الزكية صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالي: {ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} علي قول، وكما تقول: أخاف جانب فلان وفعلت هذا لمكانك. وحق الظاهر أن يقال: الذي وضعه؛ ليرجع إلي الموصول، فأقام ضمير الخطاب مقام ضمير الغائب نظرا إلي لفظ ((مكانك)) وقريب منه: أنا الذي سمتني أمي حيدره و ((من)) في ((منهم)) ابتدائية متعلقة بوضع، أي أنشأ وأصدر وضعك منهم، أي لا ننكر فضلهم لأن الله تعالي أنشأك منهم لا منا.

إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا)) وشبك بين أصابعه. رواه الشافعي. وفي رواية أبي داود، والنسائي نحوه وفيه: ((إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد)). وشبك بين أصابعه. [4027] الفصل الثالث 4028 - عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إني واقف في اصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: من أي قبيل هو من فن البيان؟ قلت: من فن التعريض علي سبيل الكناية، فإنهم قد يعبرون عن المسمى بالمجلس والجانب والمكان إجلالا له وتنويها لشأنه وأنشد في معناه لزهير: فعرض إذا ما جئت بالباب والحمى وإياك أن تنسى فتذكر زينبا سيكفيك من ذاك المسمى إشارة فدعه مصونا بالجمال محجبا ونظيره مثلك يجود بمعنى أنت تجود لا يريدون بالمثل الشبيه والنظير، وإنما المراد من هو بمنزلته من الأريحية والسماحة يجود. قوله: ((إخواننا)) يجوز النصب علي شريطة التفسير يعني أعطيت إخواننا. وقوله: ((من بين المطلب)) حال، والرفع علي الابتداء و ((من بني المطلب)) خبره ((وأعطيتهم)) هو المستخبر عنه والجملة موطئة. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((بين أضلع منهما)) ((نه)): أي بين رجلين أقوي من الرجلين الذين كنت بينهما وأشد. أقول: لعله لما رأي نفسه بين الغلامين وهما حديثا السن، استشعر وتمنى أن يكون بين أقوى منهما يدل عليه ((فغموني)) لأن الغمز العصر والكبس باليد. قوله: ((سوادي سواده)) أي شخصي شخصه، وفيه استهانة لنفسه وأنه يفيدها لله))، وفداء في رسوله صلى الله عليه وسلم ((حتى يموت الأعجل منا)) أي الأقرب منا أجلا. وقوله ((لم أنشب)) أي لم أمكث. وقوله: ((صاحبكما)) يجوز أن يكون منصوبا بدلا من ((هذا)) أي ألا تنظران إلي صاحبكما، وأن يكون مرفوعا علي أن يكون ((هذا)) مبتدأ وهو خبره. ((وتريان)) مفوله لا يقدر إذ المراد إيجاد الرؤية كقوله تعالي: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} الكشاف: ترك المفعول غير مذكور؛ لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. وقوله: ((كلاكما قتله)) أفرد الضمير في ((قتله)) نظرا إلي لفظه ((كلا)) كما في قوله تعالي: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}.

نعم، فما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلي أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألإني عنه. قال: فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه، فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) فقالا: لا. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي السيفين، فقال: ((كلاكما قتله)). وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء. متفق عليه. 4029 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((من ينظر لنا ما صنع ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن عمرو بن الجموح)) ((مح)): اختلفوا في معناه فقال أصحابنا: اشترك هذان الرحلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو أثخنه أولا فاستحق السلب، وإنما قال صلى الله عليه وسلم: ((كلاكما قتله)) تطييبا لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا، وإنما وجد من معاذ ابن عمرو فلهذا قضى له بالسلب. وإنما أخذ السيفين؛ ليستدل بهما علي حقيقة كيفية قتلهما، فعلي أن ابن الجموح أثخنه ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب. وقال أصحاب مالك: إنما أعطاه لأحدهما؛ لأن الإمام مخير في السلب يفعل فيه ما شاء، وذكر في صحيح البخاري في حديث إبراهيم بن سعد أن الذي ضربه ابن عفراء، وفي روايه أن انبي عفراء ضرباه حتى برد. وذكر غيره أن ابن مسعود هو الذي أجهز عليه وأخذ رأسه. قال الشيخ: يحمل هذا علي أن الثلاثة اشتركوا في قتله، وكان الإثخان من عمرو بن الجموح، وجاء ابن مسعود بعد ذلك وفيه رمق فحز رأسه. وفيه من الفوائد: المبادرة إلي الخيرات والغضب لله ولرسوله. وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يحتقر أحدا لصغره ونحافة جسمه أن يصدر عنه أمر خطير. واحتج به المالكية علي استحقاق القاتل السلب فهو له بلا بينة. والجواب أنه صلى الله عليه وسلم لعله عرف ذلك ببينة أو غيرها. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما صنع)) ((ما)) استفهامية علي معنى ((ينظر))،

أبو جهل؟)) فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. قال: فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبو جهل. فقال: وهل فرق رجل قتلتموه. وفي رواية: قال: فلو غير أكار قتلني. متفق عليه. 4030 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى رسول لله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلا وهو أعجبهم إلي، فقمت، فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو مسلما)) ذكر سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار علي وجهه)). متفق عليه. وفي رواية لهما: قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل الصالح. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي من يتأمل لأجلنا ما حال أبي جهل؟. ((مح)): وسبب السؤال أن يسر المسلمون بذلك. قوله: ((حتى برد)) مات وهنا محمول علي المشارفة؛ لقوله بعده: ((فأخذ بلحيته)) إلي آخره. وبدليل رواية أخرى: ((حتى برك)) بالباء الموحدة والكاف. ((مح)): في بعض النسخ ((ترك)): بالكاف، والمراد به سقط يعني أن ابني عفراء تركاه عقيرا. قوله: ((وهل فوق رجل قتلتموه؟)) ولما بالغ في إهانته وتحقيره بأخذ لحيته ونبزه بأبي جهل أجابه بهذا الجواب. قوله: ((أكار)) ((نه)): الأدار الزراع أراد به احتقاره وانتقاصه كيف مثله يقتل مثله؟. ((مح)) أشار أبو جهل به إلي ابني عفراء الذي قتلاه، وهما من الأنصار وهما أصحاب زرع ونخل. ومعناه: لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشإني. أقول: ((وغير)) ينبغي أن يكون مرفوعا بفعل يفسره ما بعده؛ لأن مدخول لو فعل كقوله تعالي: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ}، ويجوز أن يحمل لو علي التمني، فلا يقتضي جوابا. الحديث الثالث عن سعد: قوله: ((أعجبهم)) أي أرضاهم عندي دينا، وقوله: ((عن فلان)) حال، أي مالك متجاوزا عن فلان؟. وقوله: ((أو مسلما)) ((أو)) بمعنى ((بل)) كما في قوله: أو أنت في العين أملح أضرب عن كلامه وترقى أي أنا أعلم فوق ما تعلم. ((غب)): الإسلام في الشرع علي ضربين أحدهما: دون الإيمان وهو الاعتراف باللسان وبه

4031 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام – يعني يوم بدر – فقال: ((إن عثمان انطلق في حاجة الله، وحاجة رسوله وإني أبايع له)) فضرب له رسول الله بسهم، ولم يضرب بشيء لأحد غاب غيره. رواه أبو داود. [4031] 4032 - وعن رافع بن خديج، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل في قسم المغنم عشرا من الشاء ببعير. رواه النسائي. [4032] 4033 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا ينبغي رجل ملك بعض امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن لها، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ يحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}. والثاني: فوق الإيمان وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستلام لله تعالي في جميع ما قضى وقدر كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالي: {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}. ((مح)): معناه أن سعدا رأي النبي صلى الله عليه وسلم يعطي ناسا وترك من هو أفضل منهم في الدين، فظن أن العطاء بحسب الفضائل في الدين، وظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان فأعلمه به. ولم يفهم سعد عن قوله: ((أو مسلما)) هيه عن الشفاعة، فكرر فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس علي حسب الفضائل في الدين، وقال: ((إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله تعالي في النار)). يعني إني أعطي أناسا مؤلفة في إيمانهم ضعف، لو لم أعطهم لكفروا، وأترك قوما هم أحب إلي من الذين أعطيهم، ولا أتركهم احتقارا لهم ولا لنقص دينهم بل أكلهم إلي ما جعل الله تعالي في قلوبهم من النور والإيمان التام. وأما تأويل الزهري فيجب حمل ((أو)) علي التنويع كما في قوله تعالي: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} أي مؤمن مسلم جمع بين الإيمان والإسلام ظاهرا وباطنا. الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((في حاجة الله)) توطئة لقوله: ((حاجه رسوله))؛ لقوله تعالي: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} وكرر الحاجة لزيادة تأكيد. وعثمان رضي الله عنه تخلف في المدينة لتمريض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زوجته. ((وإني أبايع له)) أي لأجله. فضرب بيمينه صلى الله عليه وسلم علي شماله. وقال: هذا يد عثمان. الحديث الخامس والسادس عن أبي هريرية رضي الله عنه: قوله: ((فقال)) عطف علي ((غزا))

أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت – يعن النار – لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها، فجاءت النار فأكلتها)). زاد في رواية: ((فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل الله لنا الغنائم، رأي ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ علي معنى أراد أن يغزو فقال، يدل عليه قوله: [((لا يبتغي))] *، والبضع يطلق علي عقد النكاح والجماع معا وعلي الفرج. والخلفات جمع الخلفة بفتح الخاء وكسر اللام الحامل من النوق. وأخلفت إذا حملت، ويحتمل أن يرجع الضمير في ((ولادها)) إلي الطائفتين من الغنم والإبل علي سبيل التغليب. قوله: ((فدنا)) كذا في البخاري، وفي مسلم (فأدنى)). ((مح)) **: هكذا في جميع النسخ بهمزة القطع، وكذا عن القاضي عياض أيضا إما أن يكون تعدية ((لدنا)) أي قرب أدنى جيوشه إلي القرية، وإما أن يكون بمعنى حان أي حان فتحها من قولهم: أدنت الناقة إذا حان وقت نتاجها ولم يقل في غير الناقة. ((نه)): ((فأدنى بالقرية)) هكذا جاء في مسلم وهو افتعل من الدنو، وأصله ادتنى فأدغم التاء في الدال. قوله: ((فحبست)) ((مح)): قال القاضي عياض: اختلفوا في حبس الشمس فقيل: ردت علي أدراجها. وقيل: وقفت بلا رد، وقيل: بطء تحركها، وذلك من معجزات النبوة. قال: ويقال: إن الذي حبست عليه يوشع بن نون عليه السلام. وقال القاضي: قد روى أن نبينا صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين: إحداهما: يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردها الله تعالي عليه حتى صلي العصر. قاله الطحاوي وقال: رواته ثقات، والثانية: صبيحة الإسراء حتى انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس. قوله: ((فلم تطعمها)) ((مح)): وكانت عادة الأنبياء صلوات الله عليهم أن يجمعوا الغنائم فتجيء نار من السماء فتأكلها علامة لقبولها وعدم الغلول فيها؛ وكذلك كان أمر قرابينهم، وفيه أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلي أولي الحزم وفراغ البال لها، ولا تفوض إلي متعلقي القلب بغيرها؛ لأن ذلك يضعف عزمه. وفيه إباحة الغنائم لهذه الأمة زادها الله شرفا وأنها مختصة بذلك.

(8) باب الجزية

4034 - وعن ابن عباس، قال: حدثني عمر، قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شيهد، وفلان شهيد، حتى مروا علي رجل، فقالوا: فلان شهيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا إني رأيته في النار في بردة غلها - أو عباءة -)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ثلاثا)) قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ثلاثا. رواه مسلم. (8) باب الجزية الفصل الأول 4035 - عن بجالة، قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب. رضي الله عنه، قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. رواه البخاري. وذكر حديث بريدة: إذا أمر أميرا علي جيش في ((باب الكتاب إلى الكفار)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن ابن عباس: قوله: ((لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)) فإن قلت: الكلام في الشهادة لا في الإيمان فما معنى هذا القول؟ قلت: هو تغليظ وارد علي سبيل المبالغة، يعني جزمتم أنه من الشهداء وأنه من أهل الجنة، وقد رأيته في النار فدعوا هذا الكلام؛ لأن الكلام في إيمانه زجرا وردعا عن الغلول. والله أعلم. باب الجزية ((غب)): الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها به للاجتزاء بها في حقن دمهم، قال تعالي: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ} الفصل الأول الحديث الأول عن بجالة: قوله: ((لجزء بن معاوية)) هو بفتح الجيم وسكون الزاي وبعدها همزة وهو الصحيح، وكذا يرويه أهل اللغة وسيجيء الخلاف في موضعه في أسماء الرجال. وقوله: ((ذي محرم)) هو مصدر ميمي ومعناه: الذي يحرم أنذاك عليه. ((نه)) *: كل مسلم علي مسلم محرم يقال: إنه لمحرم عنك أي محرم أذاك عليه، يقال: مسلم محرم، وهو الذي لم يحل من نفسه شيئا يوقع به. قيل: معناه بعدوا أهل الكتاب من المجوس و ((هجر)) هي بلدة من

الفصل الثاني 4036 - عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلي اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم – يعني محتلم – دينارا أو عدله من المعافري: ثياب تكون باليمن. رواه أبو داود. [4036] 4037 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلح قبلتان في أرض واحدة، وليس علي المسلم جزية)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4037] ـــــــــــــــــــــــــــــ اليمن تلي البحرين بينهما عشرة مراحل. واستعماله علي التذكير والصرف، والنسبة إليه هاجرى علي خلاف القياس. ((حس)): اتفقوا علي أخذ الجزية من المجوس، وذهب أكثرهم إلي أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أخذت الجزية منهم بالسنة، كما أخذت من اليهود والنصارى بالكتاب. وقيل: هم من أهل الكتاب روى ذلك عن علي رضي الله عنه قال: كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسري علي كتابهم فرفع من بين أظهرهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن معاذ: قوله: ((أو عدله)) ((تو)): أي ما يساويه وهو ما يعادل الشيء من غير جنسه، فتحوا عينه للتفريق بينه وبين العدل، الذي هو المثل، ومعافر علم قبيلة من همدان، لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؛ لأنه جاء علي مثال ما لا ينصرف من الجمع، وإليهم تنسب الثياب المعافرية، تقول: ثوب معافري فتصرفه. انتهي كلامه. وقوله: ((معافر)) كذا في نسخ المصابيح، وفي كتاب أبي داود وجامع الأصول ((من المعافري)) كم في المتن وهذا أولي. ((قض)): فيه دليل علي أن أقل الجزية دينار، ويستوي فيه الغني والفقير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عمم الحكم ولم يفصلن وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: يؤخذ من الموسر أربعة دنإنير، ومن المتوسط ديناران، ومن المعسر دينار. وقوله: ((من كل حالم)) يدل من طريق المفهوم علي أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجل البالغ. الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((لا تصلح قبلتان)) ((تو)): أي لا يستقيم دينان بأرض علي سبيل المظاهرة والمعادلة، أما المسلم فليس له أن يختار الإقامة بين ظهرإني قوم كفار؛ لأن المسلم إذا صنع ذلك فقد أحل لنفسه فيهم محل الذمي فينا، وليس له أن يجر إلي نفسه

4038 - وعن أنس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلي أكيدر دومة فأخذوه، فأتوا به، فحقن له دمه، وصالحه علي الجزية. رواه أبو داود. [4038] 4039 - وعن حرب بن عبيد الله، عن جده، أبي أمه، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما العشور: علي اليهود والنصارى. وليس علي المسلمين عشور)). رواه أحمد، وأبو داود. [4039] ـــــــــــــــــــــــــــــ الصفار، ويتوسم بسمة من ضرب عليه الجزية، وأنى له الصغار والذلة {ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ}، وأما الذي يخالف دينه دين الإسلام فلا يمكن من الإقامة في بلاد الإسلام إلا ببذل الجزية، ثم لا يؤذن له في الإشاعة بدينه، ووجه التناسب بين الفصلين أن الذمي إنما أقر ما هو عليه ببذله الجزية، فالذمي عليه الجزية وليس علي المسلم جزية، فصار ذلك رافعا لإحدى القبلتين واضعا لإحداهما. وقد ذهب بعضهم إلي أن معناه راجع إلي إجلاء اليهود والنصارى من جزية العرب. وليس لفظ الحديث بمنبئ عما ادعاه؛ لأن قوله: ((بأرض واحدة)) يقتضي معنى العموم. وذهب بعضهم إلي أن معنى ((ليس علي مسلم جزية)): الخراج الذي وضع علي الأراضي التي تركت في أيدي أهل الذمة. والأكثرون علي أن المراد منه أن من أسلم من أهل الذمة قبل أداء ما وجب عليه من الجزية فإنه لا يطالب به؛ لأنه مسلم وليس علي المسلم جزية، وهذا قول سديد لو صح لنا وجه التناسب بين الفصلين. الحديث الثالث عن انس: قوله: ((أكيدر دومة)) ((قض)): هو أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة بضم الدال، وهي قلعة من الشام قريب تبوك أضيف إليها، كما أضيف زيد إلي الخيل ومضر إلي الحمراء وكان نصرإنيا؛ ولذلك صالحه علي الجزية ثم إنه أسلم وحسن إسلامه وذكر قصته في أسماء الرجال. قوله: ((فحقن له دمه)) المغرب: حقن دمه إ ذا منعه أن يسفك. وذلك إذا حل به القتل فأنقذه. الحديث الرابع عن حرب: قوله: ((إنما العششور)) ((مظ)): لا يؤخذ من المسلم شيء من ذلك دون عشر الصدقات، فأما اليهود والنصارى فالذي يلزمهم من العشور هو ما صالحوا عليه وقت العقد، فإن لم يصالحوا علي شيء فلا عشور عليهم ولا يلزمهم من العشور هو ما صالحوا عليه وقت العقد، فإن لم يصالحوا علي شيء فلا عشور عليهم ولا يلزمهم شيء أكثر من الجزية، وأما عشور أراضيهم وغلاتهم فلا يؤخذ مههم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن أخذوا منا عشورا في بلادهم إذا ترددنا إليهم في التجارات أخذنا [منهم]

4040 - وعن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نمر بقوم، فلا هم يضيفونا، ولا هم يضيفونا، ولا هم يؤدون ما لنا عليهم من الحق، ولا نحن نأخذ منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبوا إلا أن تأخذوا كرها فخذوا)). رواه الترمذي. [3030] الفصل الثالث 4041 - عن أسلم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية علي أهل الذهب أربعة دنإنير، وعلي أهل الورق أربعين درهما، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. رواه مالك. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإن لم يأخذوا، لم نأخذ. ((حس)): إذا دخل أهل الحرب بلاد الإسلام تجارا فإن دخلوا بغير أمان ولا رسالة غنموا، وإن دخلوا بأمان وشرط أن يؤخذ منهم عشر أو أقل أو أكثر، أخذ المشروط، فإذا طافوا في بلاد الإسلام فلا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة. الحديث الخامس عن عقبة: قوله: ((إنا نمر بقوم)) قال الترمذي في جامعه: معنى الحديث أنهم كانوا يخرجون في الغزو فيمرون بقوم، ولا يجدون من الطعام ما يشترون بالثمن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن أبوا أن يبيعوا من الطعام ما يشترون)) هذا مفسر لقوله: ((ولا هم يؤدون ما لنا عليهم من الحق)) علي معنى إنا إذا حملنا الاضطرار إلي الطعام الذي عندهم، وكان حقا عليهم أن يؤثروا علينا إما بالبيع أو بالضيافة، فإذا امتنعو من ذلك فكيف نفعل بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن أبوا)) إلي آخره. وفيه معنى النفي المصحح للاستثناء، أي إن لم يحصل الأخذ بشيء من الأشياء إلا أن تأخذوا كرها فخذوه. الفصل الثالث الحديث الأول عن أسلم: قوله: ((مع ذلك)) يجوز أن يكون حالا من الجزية والراجع إلي صاحبها، ((مع ذلك)) أي مع ضربها. و ((أرزاق المسلمين)) فاعلة، وأن يكون أرزاق المسلمين مبتدأ وهو خبره. ((حس)): يجوز إن يصالح أهل الذمة علي أكثر من دينار، وأن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين زيادة علي أصل الجزية، ويبين عدد الضيفان من الرجالة والفرسان وعدد أيام الضيافة، ويبين جنس أطعمتهم وعلف دوابهم، وتفاوت بين الغنى والوسط في القدر دون جنس الأطعمة.

(9) باب الصلح

(9) باب الصلح الفصل الأول 4042 - عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة، قلد الهدي، وأشعر، وأحرم منها بعمرة، وسار حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) ثم قال:: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)) ثم زجرها، فوثبت، فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية علي ثمد قليل الماء يتربصه ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الصلح المغرب: الصلاح خلاف الفساد، والصلح اسم بمعنى المصالحة، والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم. الفصل الأول الحديث الأول عن المسور: قوله: ((عام الحديبية)) ((نه)): الحديبية قرية قريبة من مكة سميت ببئر هناك وهي مخففة الباء، وكثير من المحدثين يشددونها، وقد روينا في صحيح البخاري أن الحديبية خارج من الحرم. ((قض)): إنما أضاف العام إليها لنزوله صلى الله عليه وسلم فيه حين صد عن البيت في بضع عشرة مائة من أصحابه، أي مع ألف ومائة. وقد سبقت الرواية عن جمع من أكابر الصحابة بأنهم كانوا ألفا وأربعمائة رجل، وعن مجمع بن حارثة بأنهم كانوا ألفا وخمسمائة. انتهي كلامه. وهذا التمييز من الغرائب التي لم تعهد. قوله: ((حل حل)) ((خط)): هي كلمة معناها الزجر، يقال لزجر البعير ((حل)) بالتخفيف، وحلحلت الإبل إذا قلت لها: حل حل لتنبعث. قوله: ((خلأت القصواء)) ((فا)): الخلأ للناقة كالجران للفرس، ولا يقال الخلأ إلا للنوق. قوله: ((خلأت القصواء)) ((فا)): الخلأ للناقة كالجران للفرس، ولا يقال الخلأ إلا للنوق. قوله: ((ولكن حبسها حابس الفيل)) أي الله تعالي. ((قض)): روى أن أبرهة لما هم بتخريب الكعبة واستباحة أهلها توجه إليها في عسكر جم، فلما وصل إلي ذي المجاز امتنعت الفيلة من التوجه إلي مكة، وإذا صرفت عنها إلي غيرها أسرعت مشيا. قوله: ((خطة)) (نهه)): الخطة الحال والأمر والخطب. ((قض)): المعنى لا يسألوني خصلة يريدون به تعظيم ما عظمه الله، وحرم هتك حرمته إلا أسعفتهم إليها، ووضع الماضي موضع المضارع مبالغة في الإسعاف. قوله: ((فعدل عنهم)) أي مال عنهم وتوجه غير جانبهم، و ((الثمد)) الماء القليل الذي لا مادة له،

الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينا هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، ثم أتاه عروة بن مسعود. وساق الحديث إلي أن قال: إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)). فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب: محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب: محمد بن عبد الله)) فقال سهيل: وعلي أن لا يأتيك منا رجل وإن كان علي دينك إلا رددته علينا. فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((قوموا فانحروا، ثم احلقوا)) ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية، فنهاهم الله تعالي أن يردوهن، وأمرهم أن ـــــــــــــــــــــــــــــ وأثمد الرجل إذا ورد الثمد، وسمى قوم صالح ثمود لنزولهم علي ثمد. والظاهر أنه أراد به محله علي سبيل المجاز؛ ليحسن وصفه بقليل الماء. قوله: ((يتبرضه)) ((نه)): أي يأخذه الناس قليلا قليلا، والبرض الشيء القليل، وكذلك البراض بالضم، يقال: ماء برض أي قليل، والجمع براض وبروض وأبراض. قوله: ((يجيش)) أي يفور ماؤه ويرتفع. قوله: ((بالري)) أي بما يرويهم أو بالماء الكثير من قولهم: عين رية أي كثيرة الماء. قوله: ((ما قاضى)) ((نه)): هو فاعل من القضاء أي الفصل والحكم؛ لأنه كان بينه وبين أهل مكة، وأصل القضاء القطع والفصل يقال: قضى يقضي قضاء قاض إذا حكم وفصل. قوله: ((قوموا فانحروا)) ((شف)): فيه دليل علي أن من أحرم بحج أو عمرة فأحصر فإنه ينحر الهدي مكانه ويحل، وإن لم يكن بلغ هديه الحرم. قوله: ((أن يردوا الصداق)) أي الصحابة صداقهن إلي أزواجهن من المشركين. ((حس)): اختلفوا في أن الصلح هل وقع علي رد النساء أم لا؟. قيل: إنه وقع علي رد الرجال والنساء جميعا لما روينا: ((أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته))، ثم صار الحكم في النساء منسوخا بقوله تعالي: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلي الكُفَّارِ}. وقيل: إن الصلح لم يقع علي رد

يردوا الصداق، ثم رجع إلي المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فدفعه إلي الرجلين، فخرجا به، حتى إذا بلغا ذا الحليفة، نزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذه يا فلان جيدا، أرني انظر إليه. فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لقد رأي هذا ذعرا)) قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد)) فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف ـــــــــــــــــــــــــــــ النساء؛ لقوله في هذا الحديث: ((لا يأتيك منا رجل)) وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة. قوله: ((حتى برد)) ((قض)): أي مات، ويقال: برده فلان إذا قتله علي سبيل الكناية؛ فإن البرودة من توابع الموت ولوازمه، ومنه السيوف البوادر. قوله: ((لقد رأي هذا ذعرا)) أي ما خاف منه. قوله: ((ويل أمة)) ((نه)): الويل في الأصل الحزن والمشقة والهلاك، وقد يرد الويل بمعنى التعجب وهو المراد هاهنا، وقيل: ((وى)) كلمة مفردة ولامه مفردة، وهي كلمة تفجع وتعجب. وحذفت الهمزة من أمه تخفيفا، وألقيت الحركة علي اللام. والمسعر والمسعار ما تحرك به النار من آلة الحديد، يقال: سعرت النار الحرب إذا أوقدتههما يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة. ((قض)): لما شبه الحرب بالنار مثل الذي يهيجه بمسعر التنور. أقول: تقريره أنه شبه الحرب بالنار الهامدة تشبيها بليغا، ثم أثبت للحرب ما يلازم النار من المسعر؛ ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة. ولما كانت القرينة في الاستعارة المكنية مستعارة. قيل: مثل أي شبه أبو بصير بالمسعر ثم حذف المشبه وأقيم المشبه به مقامه. قوله: ((عرف أنه سيرده)) ((قض)): إنما عرف ذلك من قوله: ((مسعر حرب لو كان له أحد)) فإنه يشعر بأنه لا يؤويه ولا يعينه، وإنما خلاصة عنهم بأن يستظهر بمن يعينه علي محاربتهم. أقول: قد سبق أن أبا بصير شبه بالمسعر، ووجه التشبيه إثارة ما هو ساكن، وهذا المعنى في المشبه، هو إثارة الحرب الساكنة بالمهادنة، (ولو) يقتضي الجواب، والسابق يدل عليه، يعني إن فرض له معين وناصر لأثار الفتنة وأفسد الصلح، فعلم من هذا أنه سيرده إليهم. قوله: ((سيف البحر) أي ساحله، والإضافة لمجرد البيان لا للعهد. الأساس: قال: نزلوا بالسيف بالساحل وهم أهل أسياف وأرياف. والعير يقال للإبل بأحمالها. قوله: ((تناشده

البحر، قال: وانفلت أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلي الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلي النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. رواه البخاري. 4043 - وعن البراء بن عازب، قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية علي ثلاثة أشياء: علي أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلي أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلا إلا بجلبان السلاح والسيف والقوس ونحوه، فجاء أبو جندل يحجل في قيوده، فرده إليهم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الله والرحم)) ((نه)): نشدتك الله والرحم أي سألتك بالله وبالرحم، يقال: نشدتك الله وأنشدتك الله وبالله وناشدتك الله وبالله، أي سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة، وتعديته إلي مفعولين إما لأنه يمنزلة دعوت حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، أو لأنه ضمنوه معنى ذكرت. قوله: ((لما أرسل)) ((تو)): الرواية في ((لما)) بالتشديد وهي في موضع ((إلا)) كقوله تعالي: {إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} علي قراءة من قرأ بالتشديد. والعرب لا تستمل هذا الحرف في كلامهم علي الوجه الذي في الحديث، إذا أرادو المبالغة في المطالبة، كأنهم يبتغون من المسئول، أن لا يهتم بشيء إلا بذلك، أقول: ((فمن أتاه)) الفاء جواب شرط محذوف، المعنى: أي أرسلت قريش ما تطلب منه صلى الله عليه وسلم شيئا إلا ردهم إلي المدينة، فإذا فعلت ذلك فمن أتاه صلى الله عليه وسلم من مكة مسلما بعد، فهو آمن من الرد إلي قريش. الحديث الثاني عن البراء: قوله: ((لم يردوه)) فإن قلت: كيف أتى بالجزاء هنا بلفظ المضارع وفيما سبق بالماضي، وما فائدته عند علماء المعإني؟. قلت: اهتمامهم بشأن رد المسلمين من أتاهم من المشركين أشد وأولي من ردهم المسلمين إليهم. وقوله: ((علي أن من أتاه)) بدل من قوله: ((ثلاثة أشياء)) ((ومن أتاهم من المسلمين)) عطف علي ((من أتاه)) علي سبيل تقدير أن لا الانسحاب.

4044 - وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا علي النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله! أنكتب هذا؟ قال: ((نعم! إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا)) رواه مسلم. 4045 - وعن عائشة، قالت في بيعة النساء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها: ((قد بايعتك)) كلاما يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): شرط رد المسلم إلي الكفار فاسد يفسد الصلح، إلا إذا كان بالمسلمين خور وعجز ظاهر؛ ولذلك شرطه صلوات الله عليه في صلح الحديبية. و ((الجلبان)) جراب من الأدم يوضع فيه السلاح. وقد يقال لغاشية السرج الجلبانة. ولما كان من ديدن العرب أن لا يفارقوا السلاح في السلم والحرب شرطوا عليهم أن لا يجردوا السلاح، ولا يدخلها متأهبا للحرب. فأتاه ((أبو جندل)) هو ابن سهيل بن عمرو بن بد شمس بن عبد ود، أسلم بمكة فقيده المشركون ((يحجل في قيوده)) أي يمشي علي وثبة كما يمشي الغراب. والحجل مشى الغراب، فرد إليهم محافظة للعهد ومراعاة للشرط. الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((أن من جاءنا منكم)) إلي آخره، حكاية ما تلفظوا به واشترطوا عليه، وقوله: ((إنه من ذهب منا إليهم)) بيان لـ ((نعم)) علي الاستئناف وهو جواب لإنكارهم في قولهم: ((أنكتب؟)) كأنهم استبعدوا هذا الشرط فرفع صلى الله عليه وسلم شبهتهم بما ذكر. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فمن أقرت بهذا الشرط)) أي من قبلته وقررته والباء زائدة، و ((كلاما)) حال من فاعل ((قال)) ويجوز أن يكون منصوبا علي التمييز من ((بايعتك)) والعامل ((قال)) وأن يكون مفعولا مطلقا، و ((يكلمها)) إما مستأنفة أو صفة مؤكدة لدفع توهم التجوز.

الفصل الثاني 4046 - عن المسور، ومروان: أنهم اصطلحوا علي وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وعلي أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال رواه أبو داود. [4046] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن المسور: قوله: ((عشر سنين)) ((قض)): إنما هادنهم عشر سنين لضعف المسلمين، وهي أقصى مدة المهادنة عند الشافعي فلا تجوز الزيادة عليها؛ لأنه تعالي أمر بقتال الكفار في عموم الأحوال والأوقات، فلا يستثنى منه إلا القدر الذي استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل: لا يجوز أكثر من ثلاث سنين إذ الصلح لم يبق بينهم أكثر من ذلك؛ فإن المشركين نقضوا العهد في السنة الرابعة، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الفتح، وضعفه ظاهر. وقيل: لا حد لها وإن تقدير مدتها موكول إلي رأي الإمام واقتضاء الحال، هذا إذا كان ضعف، وأما في حال القوة فيجوز الصلح إلي أربعة أشهر؛ لقوله تعالي: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم جعل لصفوان بعد فتح مكة يسير أربعة أشهر، ولا يجوز يهدنهم سنة بلا جزية وفيما بينهما خلاف، والأصح المنع. وقوله: ((علي أن بيننا عيبة مكفوفة)) أي صدرا نقيا من الغل والخداع مطويا علي حسن العهد والوفاء، والعيبة تستعار للقلوب والصدور من حيث أنها مستودع الأسرار، كما أن العياب مستودع الثياب والمتاع. وقيل: معناه أن تكون بيننا موادعة ومصادقة تكون بين المتصادقين المتشاورين في الأمور، فيكون كل منا صاحب مشورة للآخر وعيبة سره، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأنصار كرشي وعيبتي)). وقيل: معناه: علي أن يكون ما سلف منا في عيبة مكفوفة، أي مشروحة مشدودة لا يظهره أحد منا ولا يذكره، كما قال الله تعالي: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ}. وقيل: علي أن يكون بيننا كتاب صلح نحفظه ولا نضيعه كالمتاع المضبوط في العيبة المشدودة. و ((الإسلال)) السرقة الخفية، وكذلك السلة. و ((الإغلال)) الخيانة. أقول: فإن قلت: لم خص الإسلال والإغلال بالذكر من بين سائر الفساد، وأتى بضمير الشأن؟. قلت: لما نفي الدخول التي كانت بينهم وأن لا ينشروها، بل يتكافون عنها، أتبعه ما يتعلق بالظاهر، وإنما خصهما بالذكر للاستيعاب؛ ومن ثم كرر ((لا)) التي لنفي الجنس وحذف الخبر نسيا منسيا، نحوه قوله تعالي: {لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيًا}، كأنه قيل: ينبغي أن

4047 - عن صفوان بن سليم, عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن آبائهم, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدا, أو انتقصه, أو كلفه فوق طاقته, أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)). رواه أبو داود. [4047] 4048 - وعن أميمة بنت رقيقة, قالت: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة, فقال لنا: ((فيما استطعتن وأطقتن)) قلت: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا, قلت يا رسول الله! بايعنا – تعني صافحنا – قال: ((إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)).رواه. [4048] الفصل الثالث 4049 - عن البراء بن عازب, قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبي ـــــــــــــــــــــــــــــ تكون بواطننا خالية عن جميع الفساد ظواهرنا كذلك. ((حس)): معناه أن بعضنا يأمن بعضا, فلا يتعرض لدمه ولا ماله سرا ولا جهرا. الحديث الثاني عن صفوان: قوله: ((أو انتقصه)) قال في الاساس: استنقصه وانتقصه عابه وما فيه نقيصة ومنقصة. وقوله: ((فأنا حجيجه)) ((نه)): أي محاجه ومغالبه بإظهار الحجج عليه, والحجة الدليل والبرهان, يقال: حاججته حجاجا ومحاجة وأنا حجاج, وحجيج فعيل بمعنى فاعل. الحديث الثالث عن أميمة: قوله: ((فيما استطعتن)) متعلق بمحذوف أي أبايعكن فيما استطعتن كأنه صلى الله عليه وسلم أشفق عليهن؛ حيث قيد المبايعة في التكاليف بالاستطاعة؛ ومن ثمة قالت: الله ورسوله أرحم بنا منا, و ((بنا)) متعلق بقوله: ((أرحم)) , وبأنفسنا تأكيد له. فإن قلت: كيف يطابق قوله: ((إنما قولي لمائة امرأة)) جوابا عن قولها: صافحنا؛ لأنها طلبت المصافحة باليد فأجابها بالقول, وطلبت المصافحة لسائرهن فقال: ((قولي لمائة امرأة كقولي لمرأة واحدة)). قلت: قوله: ((إنما قولي)) رد لقولها: صافحنا بوجهين أحدهما: أن المبايعة مقصورة علي القول دون الفعل. وثإنيهما: أن قولي لك بمحضر النساء كقولي لسائرهن. والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن البراء: قوله: ((يدخل مكة)) مفعول به أي لم يذروه أن يدخل, فحذف

أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة, حتى قاضاهم علي أن يدخل – يعني من العام المقبل – يقيم بها ثلاثة أيام. فلما كتبوا الكتاب, كتبوا: هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله. قالوا: لا نقر بها, فلو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعناك, ولكن أنت محمد بن عبد الله. فقال: ((أنا رسول الله, وأنا محمد بن عبد الله)). ثم قال لعلي بن أبي طالب: ((امح رسول الله)) قال: لا والله, لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس يحسن يكتب, فكتب: ((هذا ما قاضي عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة بالسلاح إلا السيف في القراب, وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه, وأن ـــــــــــــــــــــــــــــ ((أن)) فارتفع الفعل. قوله: ((فلو نعلم)) فإن قلت: ((لو)) تقتضي أن يليها الماضي فما فائدة العدول إلي المضارع؟ قلت: ليدل علي الاستمرار أي استمرار عدم علمنا برسالتك في سائر الأزمنة بل الماضي والمضارع, كقوله تعالي: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وقولك: لو تحسن إلي لشكرت. قوله: ((أنا محمد بن عبد الله)) هو من الأسلوب الحكيم يعني استدراككم بقولكم: ((أنت محمد بن عبد الله)) بدل قولي: ((محمد رسول الله)) يؤذن بأن الجمع بينهما غير مستقيم, وليس كذلك لأن الرسالة تثبت بدعواها وإثبات المعجزة, وقد حصل ذلك, وهو كقول الرسل: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} جوابا علي قولهم: {مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}. قوله: ((وليس يحسن يكتب)) أي وليس يحسن أن يكتب, فحذف أن وهو جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه, أي فأخذ الكتاب فكتب, كذا في بعض رواية البخاري. وقوله: ((ليس يحسن يكتب)) يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون من باب قوله: علي لا حب لا يهتدي بمنارة, وقوله تعالي: {ولا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي لا كتابة ولا إجادة فيها وعلي هذا وقع الاختلاف. ((مح)): قال القاضي عياض: احتج بهذا أناس علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده, وقالوا: إن الله تعالي أجرى ذلك علي يده, إما بأن كتب القلم بيده وهو غير عالم بما كتب, أو بأن الله تعالي علمه ذلك حينئذ, زيادة في معجزته كما علمه ما لم يعلم, وجعله تاليا بعدما لم يكن يتلو بعد النبوة, وهو لا يقدح في وصفه بالأمي. واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي وبعض

(10) باب إخراج اليهود من جزيرة العرب

لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها)) فلما دخلها, ومضى الأجل, أتوا عليا ـــــــــــــــــــــــــــــ السلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب. قال القاضي: والي جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمنإني وأبي ذر وغيرهما. وذهب الأكثرون إلي المنع مطلقا, هذا الذي زعموا يبطله وصف الله تعالي إياه بالنبي الأمي. وقوله تعالي: {ومَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)). قالوا: ومعنى ((كتب)) أمر بالكتابة كما يقال: رجم ماعزا وقطع السارق وجلد الشارب. قال القاضي: فأجاب الأولون أن معنى الآية: لو كنت تقرأ وتكتب قبل الوحي لشك المبطلون, وكما جاز أن يتلو جاز أن يخط, ولا يقدح هذا في كونه أميا؛ إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا, فإن المعجزة حاصلة بكونه أولا كذلك, ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون. والجواب عن قولهم: ((كتب: أي أمر)) أنه عدول عن الظاهر ولا ضرورة إليه؛ لأن قوله: ((وليس يحسن يكتب فكتب)) كالنص أنه كتب بنفسه. أقول: ويمكن أن يقال: سبيل هذه الكتابة مع هذه الآية وكونه أميا, سبيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((هل أنت إلا أصبع دميت* وفي سبيل الله ما لقيت)) ونحوه مع قوله تعالي: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَا يَنْبَغِي لَهُ} قالوا: ما هو إلا كلام من جنس الكلام الذي يرمي علي السليقة من غير صنعة أو قصد إلي ذلك ولا التفات منه إليه. ((مح)): فيه دليل علي استحباب الكتبة في أول الوثاق وكتب الأملاك والصداق, ونحوهما: هذا ما اشترى فلان أو هذا ما أصدق فلان أو أعتق أو نحوها. وعلي أنه يكفي في الاسم المشهور أن يضم مع الأب خلافا لمن قال: لابد من أربعة: أبيه وجده ونسبه. وهذا الذي فعله علي رضي الله عنه من عدم الامتثال من باب الأدب المستحب؛ لأنه لم يهم من الأمر التحتم؛ ولهذا لم ينكر, ولو أجب عليه نحوه لم يجز له الترك. وفيه دلالة علي أن مكث ثلاثة أيام للمسافر في موضوع ليس له حكم الإقامة. قوله: ((هذا ما قاضي)) ((هذا)) إشارة إلي ما في الذهن, و ((ما قاضي)) خبره مفسر له. وقوله: ((لا يدخل)) إلي آخره تفسير للتفسير. وقوله: ((ومضى الأجل)) أي قرب انقضاء الأجل أو شارف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه قضاء الأجل, كقوله تعالي: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ فقالوا: قل بصاحبك: اخرج عنا, فقد مضى الأجل, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. (10) باب إخراج اليهود من جزيرة العرب الفصل الأول 4050 - وعن أبي هريرة, قال: بينا نحن في المسجد, خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ

بِمَعْرُوفٍ} ولابد من هذا التأويل لئلا يلزم عدم الوفاء بالشرط؛ ولإظهار كراهة المشركين إقامته صلوات الله عليه فيها, قالوا ذلك قبل انقضاء الأجل. ((مح)): فيه أن للإمام أن يعقد الصلح علي ما رآه مصلحة للمسلمين, وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي. وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع مضرة كبيرة, أو لجلب منفعة أعظم منها. ومن مصالح هذا الصلح وثمراته الباهرة, وفوائده المتظاهرة فتح مكة وإسلام أهلها, ودخول الناس في دين الله أفواجا, وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين, ولا تتظاهر أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي عندهم. ولما حصل الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلي المدينة, وذهب المسلمون إلي مكة وسمعوا منهم أحواله صلى الله عليه وسلم مفصلة, فوقفوا علي معجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته, وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت نفوسهم إلي الإيمان, حتى بادر خلق منهم إلي الإسلام قبل فتح مكة, وازداد الآخرون ميلا إلي الإسلام, فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم, وكانت العرب في البوادي ينتظرون إسلام أهل مكة, فلما أسلموا أسلمت العرب كلهم. والله أعلم. باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ((نه)): الجزيرة اسم موضوع من الأرض وهو ما بين خفر أبي موسى الأشعري إلي أقصى اليمن في الطول, وما بين رمل يزين إلي منقطع السماوة في العرض. وقيل: هو من أقصى عدن إلي ريف العراق طولا, ومن جدة وساحل البحر إلي أطراف الشام عرضا. قال الأزهري: سميت جزيرة؛ لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها, وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بيت المدارس)) ((قض)): المدارس

((انطلقوا إلي يهود)) فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس, فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر يهود! أسلموا تسلموا, اعلموا أن الأرض لله ولرسوله, وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض, فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مفعال من الدراسة إما للمبالغة كالمكثار والمعطار, والمراد به صاحب دراسة كتبهم التي يدارسها الناس, وإما بمعنى المدرس, والمراد به الموضوع الذي يقرأ فيه أهل الكتاب كتبهم ويدرسونها فيه. وإضافة البيت إليه كإضافة المسجد إلي الجامع, ويدل علي المعنى الثاني أن بعض روايات الصحاح: ((حتى أتى المدارس)) وفيه ((إني أريد أن أجليكم)) أي أخرجكم من منازلكم هذه, والخطاب مع من بقي في المدينة وحرماتها بعد قتل قريظة وإجلاء بني النضير كيهود بني قينقاع؛ فإن إجلاء بني النضير كان في السنة الرابعة من الهجرة, وقتل قريظة في خامستها وإسلام أبي هريرة في السنة السابعة, فيكون ما ذكره بعد ذلك بسنتين. قوله: ((أسلموا)) جملة مستأنفة فإنه صلى الله عليه وسلم لما خاطبهم بقوله: ((أسلموا تسلموا)) اتجه لهم أن يقولوا: لماذا تخاطبنا بهذا وما سنح لك من الرأي؟. قال: ((أسلموا)) فقوله: ((تسلموا)) من العلم الذي خص منه البعض بقينه الحال, أي تسلموا من الإجلاء, وفائدته أن أول ما تسلمون من الآفات هو الإجلاء ومفارقة الأوطان المألوفة التي هي أشد البلاء؛ ومن ثم فسر قوله تعالي: {والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ} بالإخراج من الوطن؛ لأنه عقب بقوله: {وأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وأنشد: لقتل بحد السيف أهون موقعا علي النفس من قتل بحد فراق وقال: يقولون: إن الموت صعب وإنما مفارقة الأوطان والله أصعب ومعنى قوله: ((إن الأرض لله ولرسوله)) كما في قوله تعالي: {إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي أرضكم هذه تعلقت مشيئة الله تعالي بأن يورثها المسلمين ففارقوها. وإنما أسند الإجلاء إلي نفسه صلوات الله عليه؛ لأنه خليفة الله في أرضه تعظيما لشأنه, وأن إجلاءه إجلاؤه تعالي, نحو قوله تعالي: {قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ} والباء في ((بماله)) للبدل كما في قولهم: بعت هذا بهذا ((مظ)): أي فمن وجد شيئا مما لا يتيسر له نقله, فليبعه مثل الأرض والأشجار. ((خط)): استدل بهذا الحديث أبو عبد الله البخاري في جواز بيع المكره, وهذا ببيع المضطر أشبه, فأما

4051 - وعن ابن عمر, قال: قام عمر خطيبا, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهودي خيبر علي أموالهم, وقال: ((نقركم ما أقركم الله)). وقد رأيت إجلاءهم, فلما أجمع عمر علي ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين! أتخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا علي الأموال؟ فقال عمر: أظننت إني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر, تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟)) فقال: هذه كانت هزيلة من أبي القاسم. فقال: كذبت ياعدو الله! فأجلاهم عمر, وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا, وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ المكره علي البيع فهو الذي يحمل علي بيع الشيء شاء أو أبي, واليهود لو لم يبيعوا أراضيهم لم يحملوا عليه, وإنما أشفقوا علي أموالهم فاختاروا بيعها, فصاروا كأنهم اضطروا إلي بيعها كمن اضطر إلي بيع ماله فيكون ذلك جائزا ولو أكره عليه لم يجز. ((مح)): أوجب مالك والشافعي وغيرهما من العلماء إخراج الكفار من جزيرة العرب, وقالوا: لا يجوز تمكينهم سكانها, ولكن الشافعي خص هذا الحكم بالحجاز, وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره. وقالوا: لا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز, ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام. قال الشافعي: إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخولها بحال, فإن دخلها بخفية وجب إخراجه, فإن مات ودفن فيها نبش وأخرج منها ما لم يتغير, وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم. وحجة الجماهير قوله تعالي: {إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وقد رأيت إجلاءهم)) بيان انتهاء المدة المستفادة من قوله: ((ما أقركم الله)) وقوله: ((أجمع عمر)) أي صمم عزمه واتفق آراؤه علي إجلاء يهود خيبر. والإجماع والإزماع تصميم العوم, ((وعاملنا علي الأموال)) أي جعلنا عاملين علي أرض خيبر بالمساقاة و ((كيف بك)) , ((مظ)): كيف يكون حالك؟ انتهي كلامه. ويجوز ايقدر: كيف تراك, والباء زائدة في المفعول, وأن يقدر: كيف تصنع بك وقت إخراجك؟. وقوله: ((بك)) حال من الفاعل أي كيف تعدو قلوصك ملابسا بك؟ كقوله: تدوس بنا الجماجم والتريبا

4052 - وعن ابن عباس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة: قال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب, وأجيزوا الوفد بنحو ماكنت أجيزهم)) قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة – أو قال: فأنسيتها – متفق عليه. 4053 - وعن جابر بن عبد الله, قال: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب, حتى لا أدع فيها إلا مسلما)) رواه مسلم. وفي رواية: ((لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب)) الفصل الثاني ليس فيه إلا حديث ابن عباس ((لا تكون قبلتان)) وقد مر في باب الجزية. الفصل الثالث 4054 - عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أجلي اليهود ـــــــــــــــــــــــــــــ والجملة حال من فاعل ((أخرجت)) ((وهزيلة)) تصغير هزلة وهي المراد من الهزل الذي هو نقيض الجد. وقوله: ((مالا)) بدل من قوله: ((قيمة ما كان لهم)) و ((الأقتاب)) جمع قتب وهي للجمل كالإكاف لغيره. الحديث الثالث والرابع عن ابن عباس: قوله: ((وأجيزوا الوفد)) ((نه)): أي أعطوهم والجائزة العطية يقال: أجازه يجيزه إذا أعطاه. والوفد هم الذين يقصدون الأمراء لزيارة أو استرفاد وانتجاع وغير ذلك. يقال: وفد وفدا فهو وافد وأوفدته فوفد. ((تو)): وإنما أخرج ذلك بالوصية عن عموم المصالح؛ لما فيه من المصلحة العظمى, وذلك أن الوافد سفير قومه, وإذا لم يكرم رجع إليهم من سفارته [بما] * يفتر دونه رغبة القوم في قبول الطاعة والدخول في الإسلام. ثم إن الوافد يفد علي الإمام فتجب رعايته من مال الله الذي أقيم لمصالح العباد والبلاد, وإضاعته تفضي إلي الدناءة التي أجار الله عنها أهل الإسلام. قوله: ((وسكت عن الثالثة)) ((مح)): قال القاضي عياض: ويحتمل أن الثالث قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد)) فذلك مالك في [الموطأ إجلاء] ** اليهود من حديث ابن عمر رضي الله عنه. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تيماء وأريحاء)) ((مح)): هما ممدودتان

(11) باب الفيء

والنصارى من أرض الحجاز, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر علي أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها, وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين, فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم علي أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نقركم علي ذلك ما شيءنا)) فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلي تيماء وأريحاء. متفق عليه. (11) باب الفيء الفصل الأول 4055 - عن مالك بن أوس بن الحدثان, قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره, ثم قرأ {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْهُمْ} إلي قوله قدير فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق علي أهله نفقة سنتهم من هذا المال, ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قريتان معروفتان. وفيه دليل علي أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها, وهو الحجاز خاصة؛ أن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز. باب الفيء المغرب: الفيء ما نيل من الكفار بعد ما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار الإسلام, وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. الفصل الأول الحديث الأول عن مالك: قوله: ((لم يعطه أحد غيره)) إشارة إلي قوله تعالي {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ} , ومعنى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} جعله فيئا له خاصة, أي انتم ما أوجفتم علي تحصيله وتغنيمه خيلا ولا ركابا ولا تعبتم في القتال عليه, فهو له خاصة, يضعه حيث أمره الله تعالي, هذا معنى قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْهم} والآية علي هذا مجملة تبينها الآية الثانية, وهي {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى}.

4056 - وعن عمر, قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله علي رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب, فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, ينفق علي أهله نفقة سنتهم, ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. متفق عليه. الفصل الثاني 4057 - وعن عوف بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه في ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): مذهب الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له في الفيء أربعة أخماس وخمس خمس الباقي, فكان له أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين, والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وفيه جواز الادخار فيما يحصل من قريته, وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لعياله, فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز, بل يشتري قوت أيام أو شهر. قوله: ((وكانت هذه)) المشار إليه الفيء باعتبار الأقسام المذكورة آنفا. وإنما كرر قوله: ((من هذا المال)) لبيان أن نفقته كانت منه, وأن ما يبقى منه يصرفه مصروف مال الله. فقوله: ((ينفق علي أهله)) استئناف بيانا للكلام الأول, وتفصيلا للإجمال كما سبق في الآية. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((مما لم يوجف)) الإيجاف من الوجيف وهو السير السريع, والكراع اسم لجميع الخيل. قوله: ((خاصة)) أي في حياته صلى الله عليه وسلم. ((حس)): في الحديث دليل علي أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في مصروفها من بعده. ((قض)): قيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مردود إلي المصالح كخمس الخمس المضاف إليه من الفيء والغنيمة. والثاني: أنه يقسم علي الجهات كما يقسم الخمس فعلي هذا يكون جملة مال الفيء مقسومة علي المذكورين في الآية علي ما يدل عليه ظاهرها. والثالث وهو الأظهر: أنه للمرتزقة المترصدين للقتال, كما أن أربعة أخماس الغنيمة للحاضرين فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذها؛ لما أن تلك الأموال تحصل من الكفار لحذرهم منه وخوفهم, والآن تحصل لحذرهم من جنود المسلمين. الفصل الثاني الحديث الأول عن عوف: قوله: ((الآهل)) هو الذي له أهل اسم فاعل من أهل يأهل – بكسر العين وضمها – أهولا إذا تزوج. يومه, فأعطى الآهل حظين, وأعطى الأعزب حظا, فدعيت فأعطإني حظين, وكان لي أهل, ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظا واحدا. رواه أبو داود. [4057] 4058 - وعن ابن عمر, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين. رواه أبو داود. [4058]

4059 - وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بظبية فيها خرز, فقسمها للحرة والأمة. قالت عائشة: كان أبي يقسم للحر والعبد. رواه أبو داود. [4059] 4060 - وعن مالك بن أوس بن الحدثان, قال: 1كر عمر بن الخطاب يوما الفيء, فقال: ما أنا أحق بهذا الفيء منكم, وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا علي منازلنا من كتاب الله عز وجل وقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالرجل وقدمه, والرجل وبلاؤه, والرجل وعياله, والرجل وحاجته. رواه أبو داود. [4060] 4061 - وعنه, قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والْمَسَاكِينِ} حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} حتى بلغ {وابْنِ السَّبِيلِ} ثم قال هذه لهؤلاء. ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} حتى بلغ {لِلْفُقَرَاءِ} ثم قرأ {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة, فلئن عشت فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. رواه في ((شرح السنة)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((أول)) منصوب ظرف ((لبدأ)) وهو المفعول الثاني ((لرأيت)). ((مظ)): ((المحررين)) المعتوقين, وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم, وإنما يدخلون في جملة مواليهم. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((بظبية)) ((نه)): الظبية جراب صغير عليه شعر, وقيل: [هي تشبه] * الخريطة والكيس. الحديث الرابع والخامس عن مالك: قوله: ((ما أنا أحق)) روي مرفوعا وهو علي مذهب تميم, والنصب أجه بدليل إعمال ((ما)) في قوله: ((وما أحد منا أحق)).

ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا أنا علي منازلنا)) مستثنى من أعم عام المفعول له, أي لشيء من الأشياء إلا أنا علي منازلنا. و ((من كتاب الله)) حال من ((منازلنا)) أي حاصلة منه. ((تو)): كان رأي عمر رضي الله عنه أن الفيء لا يخمس وأن جملته لعامة المسلمين يصرف في مصالحهم لا مزية لأحد منهم علي أحد في أصل الاستحقاق وإنما التفاوت في التفاصيل بحسب اختلاف المراتب والمنازل, وذلك إما بتنصيص الله تعالي علي استحقاقهم كالمذكورين في الآية, وخصوصا منهم من كان من المهاجرين والأنصار؛ لقوله تعالي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} الآيتان. ولقوله تعالي: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ} أو بتقديم الرسول وتفضيله, إما لسبق إسلامه, وإما لحسن بلائه أي سعيه وعنائه في سبيل الله, وإما لشدة احتياجه وكثرة عياله. وقوله: ((فالرجل وقدمه)) بكسر القاف أي الرجل وقدمه يعتبران كقولهم: الرجل وضيعته, والفاء تفصيلية لقوله: ((إلا علي أنا منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسوله)) والسرو من ناحية اليمن, وإنما أضافه إلي حمير؛ لأنه محلتهم, وذكر سرو حمير لما بينه وبين المدينة من المسافة الشاقة, وذكر الراعي مبالغة في الأمر لذي أراده؛ وذلك لأن الراعي يشغله الرعية عن طلب حقه, ثم إنه غامض في الناس قلما يعرف أو يؤبه به. وأراد بقوله: ((لم يعرق فيه جبينه)) أنه يأتيه عفوا صفوا لم يمازجه كد ولم يكدر منه. ((حس)): ذهب عمر رضي الله عنه إلي أن هذه الآيات مسوق بعضها مع بعض وأن جملة الفيء لجميع المسلمين يصرفها الإمام إلي مصالحهم علي ما يراه من الترتيب وهو قول عامة أهل الفتوى. واختلفوا في التفضيل علي السابقة والنسب, فذهب أبو بكر رضي الله عنه لي التسوية بين الناس, ولم يفضل بالسابقة حتى قال عمر رضي الله عنه: أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم, وهاجروا من ديارهم كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال: إنما عملوا لله, وإنما أجورهم علي الله وإنما الدنيا بلاغ. وكان عمر رضي الله عنه يفضل بالسابقة والنسب, فكان يفضل عائشة علي حفصة ويقول: إنها كانت أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم منك, وأبوها كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. وعن ابن عمر أنه قال: فرض عمر لأسامة بن زيد أكثر مما فرض لي, فقلت: إنما هجرتي وهجرته واحدة, قال: إن أباه كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك, وإنه كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم منك, وإنما هاجر بك أبوك. ومال الشافعي إلي التسوية وشبه بالميراث يسوى

4062 - وعنه، قال: كان فيما احتج فيه عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بنو النضير وخيبر وفدك: فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزء نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين. رواه أبو داود. [4062] الفصل الثالث 4063 - عن المغيرة، قال: إن عمر بن عبد العزيز جمع بني مروان حين استخلف، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك، فكان ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله، فلما ولي أبو بكر عمل فيها ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه بين الولد البار والعاق، وسهم الغنيمة يسوى فيه بين الشجاع الذي حصل الفتح على يديه، وبين الجبان إذا شهدا جميعاً الوقعة. الحديث السادس عن مالك: قوله: ((ثلاث صفايا)) ((مظ)): الصفي ما يصطفيه الإمام من عرض الغنيمة من سبى قبل أن يقسم، من عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرهما. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بذلك مع الخمس له خاصة، وليس ذلك لواحد من الأئمة بعده. قالت عائشة رضي الله عنها: كانت صفية من الصفي. أي كانت صفية بنت حيي بن أحطب زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفي المغنم. قوله: ((فكانت حبساً)) هو بالضم أي محبوسة لحوائجه، والنوائب جمع نائبة وهي ما ينوب الإنسان أي ينزل به من المهمات والحوائج. قوله: ((ثلاثة أجزاء)) ((حس)): إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن خيبر كانت لها قرى كثيرة فتح بعضها عنوة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منها خمس الخمس، وفتح بعضها صلحاً من غير قتال وإيجاف خيل وركاب، فكان فيئاً خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يضعه حيث أراه الله تعالى من حاجته ونوائبه ومصالح المسلمين. فاقتضت القسمة والتعديل أن يكون الجميع بينه وبين الجيش أثلاثاً. الفصل الثالث الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((ويعود منها على صغير بني هاشم)) قال في أساس

كتاب الصيد والذبائح

بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته حتى مضى لسبيله، فلما أن ولي عمر بن الخطاب، عمل فيها بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله، ثم اقتطعها مروان، ثم صارت لعمر بن عبد العزيز، فرأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني رددتها على ما كانت. يعني على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. رواه أبو داود. [4063] كتاب الصيد والذبائح الفصل الأول 4064 - عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله،: ((إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فلكه، وإن أكل فلا تأكل؛ فإنما أمسك على نفسه، فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتل. وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله؛ فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ البلاغة: يقال: عاد علينا فلان بمعروفه وهذا الأمر أعود عليك، أي أرفق بك من غيره، وما أكثر عائدة فلان على قومه؛ وإنه لكثير العوائد عليهم. قوله: ((مضى لسبيله)) أي لما هيأ له من الكرامة والنعيم والوصول إلى لقاء الله تعالى. وقوله: ((اقتطعها)) القطيعة الطائفة من أرض الخراج يقطعها السلطان من يريد. وإنما وضع قوله: ((لعمر بن عبد العزيز)) موضع ((لي)) ملتفتاً ليشعر بأن نفسه غير راضية بهذا. كتاب الصيد والذبائح الفصل الأول الحديث الأول عن عدي: قوله: ((فإن أمسك عليك)) أي إن حبسه لك كما قال في أساس البلاغة: أمسك عليك زوجك وأمسكت عليه ماله حبسته. ((حس)): هذا الحديث يتضمن فوائد من أحكام الصيد، منها: أن من أرسل كلباً على صيد فقتله يكون حلالا. وكذلك جميع الجوارح المعلمة من الفهد والبازي والصقر ونحوها، والشرط أن تكون الجارحة معلمة، ولا يحل قتل غير المعلم. والتعليم أن يوجد فيه ثلاث شرائط: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر

4065 - وعنه، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نرسل الكلاب المعلمة، قال: ((كل ما أمسكن عليك)) قلت: وإن قتلن؟ قال: ((وإن قتلن)) قلت: إنا نرمي بالمعراض. قال: ((كل ما خزق، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل)) متفق عليه. 4066 - وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا نبي الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم: وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ـــــــــــــــــــــــــــــ انزجر، وإذا أخذ الصيد أمسك ولم يأكل. فإذا فعل ذلك مراراً وأقلها ثلاثة كان معلما يحل بعد ذلك قتيله. قوله: ((إذا أرسلت كلبك)) دليل على أن الإرسال من جهة الصائد شرط، حتى لو خرج الكلب بنفسه وأخذ صيداً وقتله لا يكون حلالا، وفيه بيان أن ذكر اسم الله شرط على الذبيحة حالة ما تذبح أو في الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم. فلو ترك التسمية؟ اختلفوا فيه: فذهب جماعة إلى أنه حلال. روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد. وقالوا: المراد من ذكر اسم الله ذكر القلب، وهو أن يكون إرساله الكلب على قصد الاصطياد به لا على وجه اللعب. وذهب قوم إلى أنه لا يحل سواء ترك عامداً أو ناسياً، وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة. روى ذلك عن ابن سيرين والشعبي. وبه قال أبو ثور وداود. وذهب قوم إلى أنه لو ترك التسمية عامداً لا يحل وإن ترك ناسياً يحل، وهو قول الثوري وأصحاب أبي حنيفة وإسحاق. الحديث الثاني عن عدي: قوله: ((بالمعراض)) ((مح)): هو بكسر الميم خشبة ثقيلة أو عصى في طرفها حديدة. وقد تكون بغير حديدة هذا هو الصحيح في تفسيره. وقال الهروي: هو سهم لا ريش فيه ولا نصل. وقيل: سهم طويل له أربع قدد رقاق، فإذا رمى به اعترض. وقيل: هو عودة رقيق الطرفين غليظ الوسط إذا رمى به ذهب مستوياً. و ((الخزق)) بالخاء والزاي المعجمتين معناه نفذ. والوقيذ والموقوذ هو الذي يقتل بغير محدود من عصى أو حجر أو غيرهما. واتفقوا على أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحده حل، فإن قتله بعرضه لم يحل، وقالوا: لا يحل ما قتله بالبندقة مطلقاً لحديث المعراض. وقال مكحول والأوزاعي وغيرهما من فقهاء الشام: يحل ما قتل بالمعراض والبندقة. الحديث الثالث عن أبي ثعلبة قوله: ((أفنأكل)) الهمزة يجوز أن تكون مقحمة؛ لأن الكلام سيق للاستخبار. وقوله: ((أفنأكل)) معطوف على ما قبل الهمزة، وأن يكون على معناه فيقدر

وبكلبي المعلم، فما يصلح؟ قال: ((أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل)) متفق عليه. 4067 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن)) رواه مسلم. 4068 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: ((فكله ما لم ينتن)) رواه مسلم. 4069 - وعن عائشة، قالت: قالوا: يا رسول الله! إن هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: ((اذكروا أنتم اسم الله وكلوا)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ معطوف عليه بعدها، أي: أتأذن لنا فنأكل في آنيتهم؟. وقوله: ((فذكرت اسم الله)) عطف على ((صدت بقوسك)) على تقدير القصد والإرادة أو تفسير للمجمل. ((مح)): ذكر هذا الحديث البخاري ومسلم مطلقاً، وذكره أبو داود مقيداً. قال: ((إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدرهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر. فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها)) الحديث. وقد يقال: هذا الحديث مخالف لقول الفقهاء؛ فإنهم يقولون: إن استعمال أواني المشركين لا كراهة فيها بعد الغسل، سواء وجد غيرها أم لا. والحديث يقتضي الكراهة مطلقاً؟. فالجواب إنما نهى عن الأكل فيها؛ لأنهم يطبخون فيها الخنزير ويشربون فيها الخمر. فالنهي بعد الغسل للاستقذار كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة. وأما الفقهاء فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات. الحديث الرابع والخامس عن أبي ثعلبة: قوله: ((فكله)) الفاء جزاء شرط محذوف، أي قال صلى الله عليه وسلم في شأن المدرك: ((إذا أدركت فكله)) و ((ما لم ينتن)) روي بضم الياء وفتحها من أنتن الشيء ونتن إذا صار ذا نتن. ((مح)): النهي عن أكل المنتن محمول على التنزيه لا على التحريم، وكذا سائر الأطعمة المنتنة إلا أن يخاف منه ضرر. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((اذكروا أنتم اسم الله)) ((حس)): احتج من لم يجعل التسمية شرطاً بهذا الحديث؛ لأنه لو كانت التسمية شرط الإباحة، لكان الشك

4070 - وعن أبي الطفيل، قال: سئل علي: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا بشيء لم يعم به الناس إلا ما في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة فيها: ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض – وفي رواية من غير منار الأرض – ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً)) رواه مسلم. 4071 - وعن رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله! إنا لاقو العدو غداً، وليست معنا مدي أفتذبح بالقصب؟ قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله؛ فكل ـــــــــــــــــــــــــــــ في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح، واحتج من شرط التسمية بقوله تعالى: {ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ} فتأوله من لم يرها شرطاً على أن المراد منه ما ذكر عليه غير اسم الله بدليل أنه قال: ((وإنه لفسق)) والفسق في ذكر غير اسم الله كما قال في آخر السورة: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا - إلى قوله - أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. أقول: ((حديث عهدهم)) إما جملة اسمية قدم خبرها على اسمها ووقعت صفة ((لأقواما)) أو يكون ((حديث)) خبراً ثانياً لـ ((إن)) و ((عهدهم)) فاعلا له. قوله: ((اذكروا أنتم اسم الله وكلوا)) من الأسلوب الحكيم كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك ولا تسألوا عنها، فالذي يهمكم الآن أن تذكروا اسم الله عليها، نظيره قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ} ومنه قول محمد بن الحنيفة: كل الجبن عرضا. قال الأصمعي: يعني اعتراضه، واشتر ممن وجدته، ولا تسأل عن عمله: أمن عمل أهل الكتاب أم من عمل المجوس؟ الحديث السابع عن أبي الطفيل: قوله: ((ما خصنا بشيء)) سبق القول فيه وفي بيان التخصيص. قوله: ((منار الأرض)) ((تو)): المنار العلم والحد بين الأرضين، وذلك بأن يسويه أو يغيره ليستبيح بذلك ما ليس له بحق من ملك أو طريق. و ((محدثا)) بكسر الدال وهو الذي جني على غيره جناية. وإيواؤه إجارته من خصمه والحيلولة بينه وبين ما يحق استيفاؤه. ويدخل في ذلك الجاني على الإسلام بإحداث بدعة، إذا جماه عن التعرض له والأخذ على يده لدفع عاديته. ((وآوى)) يجوز بقصر الألف أيضاً فإنه يتعدى ولا يتعدى. الحديث الثامن عن رافع: قوله: ((مدى)) هي جمع مدية. قوله: ((ما أنهر)) الإنهار الإسالة

ليس السن والظفر، وسأحدثك عنه: ((أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبش)) وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والصب بكثرة وهو مشبه بجري الماء في النهر، يقال: أنهر الدم وأنهرته، و ((ما)) يجوز أن تكون شرطية أو موصولة. وقوله: ((فكل جزاء أو خبر، واللام في ((الدم)) بدل من المضاف إليه أي دم صيد. و ((ذكر اسم الله)) حال منه. وقوله: ((أصبنا)) عطف على قلت، على تقدير الحصول والوجود، أي حصل منا القول والإصابة، والسين في سأحدثك لتأكيد الإثبات في المضارع. قوله: ((ليس السن)) ((فا)): ((ليس)) تقع في كلمات الاستثناء، يقولون: جاء القوم ليس زيداً بمعنى إلا زيداً، وتقديره عند النحويين: ليس بعضهم زيداً، ولا يكون بعضهم زيداً، [ومؤاده مؤدى] إلا. قوله: ((أما السن فعظم)) ((قض)): هو قياس حذف عنه المقدمة الثانية لتقررها وظهورها عندهم، وهي أن كل عظم لا يحل الذبح به، وذكره دليلا على استثناء السن. ((مح)): قال أصحابنا: فهمنا أن العظام لا يحل الذبح بها؛ لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أم السن فعظم)) فهذا تصريح بأن العلة كونه عظما، وكل ما صدق عليه اسم العظم لا يجوز الزكاة به، وبه قال الشافعي وأصحابه وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ويجوز بالمنفصلين. وعن مالك روايات: أشهرها جوازه بالعظم دون السن كيف كان. و ((أما الظفر فمدى الحبش)) معناه أنهم كفار وقد نهيتكم عن [التشبه] بهم وبشعارهم. أقول: فإن قلت: إن كان الذبح بالظفر محرماً؛ لكونه تشبهاً بالكفار فكان ينبغي تحريمه بالسكين أيضاً. قلت: إنهار الدم بالسكين هو الأصل. وأما المحلقات المتفرعة عليه فيعتبر فيه التشبه لضعفها. قوله: ((فند)) أي نفر واستعصى. و ((الأوابد)) جمع آبدة وهي التي تأبدت به أي توحشت. ((حس)): فيه دليل على أن الحيوان الإنسي إذا توحش ونفر فلم يقدر على قطع مذبحه، يصير جمع بدنه في حكم المذبح، كالصيد الذي لا يقدر عليه. وكذلك لو وقع بعير في بئر منكوساً. فلم يقدر على قطع حلقومه فطعن في موضع في بدنه فمات كان حلالا. روى في حديث أبي العشراء وهو الحديث الثاني من أحاديث حسان هذا الباب أنه قال: ((لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك)) وأراد به غير المقدور عليه، وعلى عكسه لو استأنس الصيد وصار مقدوراً عليه لا يحل إلا بقطع مذبحه باتفاق أهل العلم. قوله: ((إن لهذه الإبل)) ((تو)) ((هذه)) إشارة إلى جنس الإبل. واللام فيه تفيد معنى ((من)). أقول:

4072 - وعن كعب بن مالك، أنه كان له غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاً فكسرت حجراً فذبحتها به، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلها. رواه البخاري. 4073 - وعن شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) رواه مسلم. 4074 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل. متفق عليه. 4075 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن تحمل اللام على معناه، والبعضية تستفاد من اسم ((إن))؛ لأنه نكرة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي بعض الليل. الحديث التاسع عن كعب: قوله: ((بسلع)) هو بفتح السين وسكون اللام، اسم جبل بالمدينة. وقوله: ((موتا)) أي أثر موت على حذف المضاف. الحديث العاشر عن شداد: قوله: ((كتب)) أي أوجب وفرض مبالغة؛ لأن الإحسان هنا مستحب وضمن ((الإحسان)) معنى التفضل. وعداه بـ ((على)) والمراد بالتفضل إراحة الذبيحة بتحديد الشفرة وتعجيل إمرارها وغيره. و ((القتلة)) بكسر القاف: الحالة التي عليها القاتل في قتله كالجلسة والركبة. والمراد بقوله: ((وليرح)) أي ليتركه حتى يستريح ويبرد من قولهم: أراح الرجل إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء، والاسم الراحة. ((مح)): قوله: ((فأحسنوا الذبح)) ((يروى بفتح الذال بغير هاء في أكثر النسخ، وفي بعضها بكسر الذال، وبالهاء كالقتلة. ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدة بحضرة الأخرى ولا يجرها إلى مذبحها. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فأحسنوا القتلة)) عام في كل قتيل من الذبائح، والقتل قصاصاً وحداً ونحو ذلك. وهذا الحديث من الجوامع. الحديث الحادي عشر إلى الثالث عشر عن ابن عمر: قوله: ((أن تصبر بهيمة)) ((حس)): أراد به أن يحبس الحيوان فيرمي به إليه حتى يموت، وأصل الصبر الحبس، والغرض الهدف. وقوله: ((لا تتخذوا)) هذا النهي للتحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من فعل هذا))؛ ولأنه تعذيب

4076 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) رواه مسلم. 4077 - وعن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه. رواه مسلم. 4078 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار وقد وسم في وجهه، قال: ((لعن الله الذي وسمه)). رواه مسلم. 4079 - وعن أنس، قال: غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه، فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة. متفق عليه. 4080 - وعن هشام بن زيد، عن أنس، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مربد فرأيته يسم شاء)) حسبته قال: في آذانها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للحيوان وإتلاف لنفسه وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته إن كان مذكي، ولمنفعته إن لم يكن مذكي. الحديث الرابع والخامس عشر عن جابر: قوله: ((لعن الله الذي وسمه)) يحتمل أن يكون الواسم كافراً، وأن يكون للتغليط كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً)). ((مح)): الوسم في الوجه منهي عنه بالإجماع، فأما وسم الآدمي فحرام لكراهته؛ ولأنه لا حاجه إليه فلا يجوز تعذيبه، وأما غيره فقال جماعة من أصحابنا: يكره، وقال البغوي: لا يجوز فأشار إلى تحريمه وهو الأظهر لهذا الحديث. واللعن يقتضي التحريم، وأما غير الوجه فمستحب في نعم الزكاة والجزية وجائز في غيرها، وإذا وسم فمستحب أن يسم الغنم في آذانها، والإبل والبقر في أصول أفخاذها، وفائدة الوسم [التمييز]. الحديث السادس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ليحنكه)) ((فا)): التحنيك أن يمضغ التمر ثم يدلكه بحنكه. يقال: حنكته مخففاً ومشدداً. قوله: ((الميسم)) الميسم: الحديدة التي [يكوى] بها، والوسم الكي للعلامة. الحديث السابع عشر عن هشام: قوله: ((في مربد)) هو بكسر الميم وسكون الراء: الموضع الذي يحبس فيه الإبل وهو مثل الحظيرة للغنم، والمربد هنا يحتمل أن يراد به حظيرة الغنم مجازاً، ويحتمل أنه على ظاهره، وأنه أدخل الغنم في مربد الإبل ليسمها. وضمير المفعول في

الفصل الثاني 4081 - عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت أحدنا أصاب صيداً وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: ((أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم الله)). رواه أبو داود، والنسائي. [4081] 4082 - وعن أبي العشراء عن أبيه، أنه قال: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: ((لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك)). رواه الترمذي، أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي وقال أبو داود: وهذه ذكاة المتردي. وقال الترمذي: هذا في الضرورة. [4082] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حسبته)) راجع إلى ((أنس)) و [((شيئاً))] ظرف بمعنى ((يسم في شيء)) و ((في آذانها)) بدل من محله أي آذان الغنم؛ لما سبق استحباب وسم الغنم في الآذان. الفصل الثاني الحديث الأول عن عدي: قوله: ((أرأيت أحدنا)) أي أخبر أحدنا والمستخبر عنه قوله: ((أيذبح بالمروة)) و ((المروة)) الحجارة البيضاء وبها سميت مروة مكة، ((وشقة العصا)) شظية تشظى منها. قوله: ((أمرر الدم)) ((تو)): يلحن كثير من المحدثين في هذا اللفظ فيشدون الراء ويحركون الميم ظناً منهم أنه من الإمرار، وليس بقويم، وإنما هو بتخفيف الراء من مرى يمرى إذا مسح الضرع ليدر، والمعنى استخراج الدم وسيله وهو من قول الخطابي. قال صاحب الجامع: والذي قرأته في كتاب أبي داود براءين مظهرتين بغير إدغام، وفي إحدى روايات النسائي كذلك. وقال في النهاية: في حديث آخر: ((كإمرار الحديد على الطست الجديد)) أمررت الشيء أمره إمراراً إذا جعلته يمر أي يذهب، يريد كجر الحديد على الطست. انتهى كلامه. فعلى هذا يكون جر الدم عبارة عن سيلانه؛ لأن سيلانه مستلزم لإمراره والله أعلم. الحديث الثاني عن أبي العشراء: قوله: ((أما تكون)) أما هنا ليست بحرف التنبيه، بل الهمزة للاستفهام وما هي النافية، وإن كانت حرف التنبيه مركبة منهما، ومجعولة كلمة واحدة. سأل أن الذكاة منحصرة في الحلق واللبة دائماً؟ فأجيب: لا، إلا في حال الضرورة. واللبة هي اللهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل. ((حس)): قال أبو عيسى: لا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث.

4083 - وعن عدي بن حاتم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما علمت من كلب، أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك)). قلت: وإن قتل؟ قال: ((إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك)). رواه أبو داود. [4083] 4084 - وعنه، قال: قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد فأجد فيه من الغد سهمي. قال: ((إذا علمت أن سهمك فتله ولم تر فيه أثر سبع فكل)). رواه أبو داود. [4084] 4085 - وعن جابر، قال: نهينا عند صيد كلب المجوس. رواه الترمذي. [4085] 4086 - وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا رسول الله! إنا أهل سفر، نمر باليهود والنصارى والمجوس، فلا نجد غير آنيتهم. قال: ((فإن لم تجدوا غيرها، فاغلسوها بالماء ثم كلوا فيها واشربوا)). رواه الترمذي. [4086] 4087 - وعن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام النصارى – وفي رواية: سأله رجل، فقال: إن من الطعام طعاماً أتحرج منه – فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عدي: قوله: ((إذا قتله)) جيء ((بإذا)) الشرطية جواباً عن قوله: ((وإن قتل))؛ لأن السؤال كان عن تردد؛ لأن إن الشرطية تقتضي عدم الجزم. وأجاب ((بإذا)) التي تقتضي الجزم والتحقيق. وأعاد قوله: ((فإنما أمسكه عليك)) دلالة على تحقق المسئول عنه. وأنه مما لا يحوم الشك حوله. الحديث الرابع عن عدي: قوله: ((من الغد)) ((من)) فيه زائدة كما في قوله تعالى: {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، الكشاف: قرئ ((من قبل ومن بعد)) على الجر، كأنه قيل: قبلاً وبعداً. الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((نهينا عن صيد كلب المجوس)) فيه دليل على أن من لا تحل ذبيحته من الكفرة لا يحل صيد جارحة أرسلها هو. ((حس)): يحل ما اصطاد المسلم بكلب المجوسي ولا يحل ما اصطاده المجوسي بكلب المسلم إلا أن يدركه المسلم حياً فيذبحه. وإن اشترك مسلم ومجوسي في إرسال كلب أو سهم على صيد فأصابه وقتله فهو حرام. الحديث السادس عن أبي ثعلبة: قوله: ((أهل سفر)) يجوز بالرفع على أنه خبر ((إن)) وبالنصب على الاختصاص والخبر ((نمر)). الحديث السابع عن قبيصة: قوله: ((أتحرج)) أي أتجنب. ((نه)): الحرج في الأصل الضيق

((لا يتخلجن في صدرك شيء ضارعت فيه النصرانية)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4087] 4088 - وعن أبي الدرداء، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل المجثمة وهي التي تصبر بالنبل. رواه الترمذي. [4088] 4089 - وعن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير، وعن لحوم الحمر الأهلية، وعن المجثمة، وعن الخليسة، وأن توطأ الحبلى حتى يضعن ما في بطونهن. قال محمد بن يحيى: سئل أبو عاصم عن المجثمة، فقال: أن ينصت الطير أو الشيء فيرمى، وسئل عن الخليسة، فقال: الذئب أو السبع يدركه الرجل فيأخذ منه، فيموت في يده قبل أن يذكيها. رواه الترمذي. [4089] ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقع على الإثم والحرام. وقيل: أضيق الضيق. قوله: ((لا يتخلجن)) ((تو)): يروى بالحاء المهملة وبالخاء المعجمة، فمعناه بالمهملة لا يدخلن قلبك منه شيء؛ فإنه مباح نظيف، وبالمعجمة لا يتحركن الشك في قلبك. أقول: الأول أبلغ وهو نظير قوله تعالى: {فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} وقوله: ((ضارعت)) جواب شرط محذوف، الجملة الشرطية مستأنفة لبيان الموجب. أي لا يدخلن في قلبك ضيق وحرج، لأنك على الحنيفية السمحة؛ فإنك إذا شددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية؛ فإن ذلك دأبهم وعادتهم. قال تعالى: {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} الآية. الحديث الثامن عن أبي الدرداء: قوله: ((المجثمة)) ((نه)): هي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل. إلا أنه يكثر في الطير والأرنب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض، أي يلزمها ويلتصق بها. الحديث التاسع عن العرباض: قوله: ((عن كل ذي ناب)) ((حس)): أراد به ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم كالذئب والأسد والكلب ونحوها، وأراد بذي مخلب ما يقطع ويشق كالنسر والصقر والبازي ونحوها. قوله: ((وأن توطأ الحبالى)) ((مظ)): إذا حصلت جارية لرجل من السبي لا يجوز له أن يجامعها حتى تضع حملها إذا كانت حاملة، وحتى تحيض وينقطع دمها إن لم تكن حاملة. قوله: ((الذئب والسبع)) فيه تقديم وتأخير. ((الخليسة)) هي التي تؤخذ من الذئب والسبع فتموت في يده قبل أن يذكيها. من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته وهي فعيلة بمعنى مفعولة، ولا بد فيه من تقدير مفعول محذوف أي فيأخذ المختلسة منه. والضمير في ((فتموت)) و ((ويذكيها)) راجع إليها.

4090 - وعن ابن عباس، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان. زاد ابن عيسى: هي الذبيحة يقطع منها الجلد ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. [4090] 4091 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)). رواه أبو داود، والدارمي. [4091] 4092 - ورواه الترمذي، عن أبي سعيد. [4092] 4092 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله! ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: ((كلون إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [4093] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((شريطة الشيطان)) ((نه)): قيل: هي الذبيحة التي لا تقطع اوداجها ولا يستقصي ذبحها، وهو من شرط الحجام، وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حلقها ويتركونها حتى تموت، وإنما أضافها إلى الشيطان؛ لأنه هو الذي حملهم على ذلك وحسن هذا الفعل لديهم وسوله لهم. ((ولا تفرى الأوداج)) أي لا يشقها ولا يقطعها حتى يخرج ما فيها من الدم. والأوداج ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح. واحدها ودج بالتحريك. ((تو)): ويحتمل أنه من الشرط الذي هو العلامة أي شارطهم الشيطان فيها على ذلك. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي سعيد: قوله: ((فإن ذكاته ذكاة أمه)) ((فا)): الذكاة هي التذكية أي ذكاة الأم كافية في حل الجنين. ((نه)): التذكية الذبح والنحر. ويروى الحديث الأول بالرفع والنصب فمن رفع جعله خبر المبتدأ الذي هو ذكاة الجنين، فتكون ذكاة الأم هي ذكاة الجنين، فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف، ومن نصب كان التقدير: ذكاة الجنين كذكاة أمه، فلما حذف الجار نصب، أو على تقدير: يذكى تذكية مثل ذكاة أمه، فحدف المصدر وصفته وأقام المضاف إليه مقامه، فلا بد عنده من ذبح الجنين إذا خرج حيا، ومهم من يروى بنصب الذكاتين.

4094 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها؛ سأله الله عن قتله)). قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: ((أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها)). رواه أحمد، والنسائي، والدارمي. [4094] 4095 - وعن أبي واقد الليثي، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يجبون أسمنة الإبل، ويقطعون اليات الغنم. فقال: ((ما يقطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة لا تؤكل)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4095] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: لعل أصل الكلام ذكاة الأم بمنزلة ذكاة الجنين في الحل، أي مغنية عن ذكاة الجنين فقدم وأخر كقوله: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ونحوه قول العرب في الحلف: ((سلمى سلمك وحربى حربك وهدامى هدمك)). وقريب منه قول محمد بن علي: ((ذكاة الأرض يبسها)) يريد طهارتها من النجاسة، جعل يبسها من النجاسة الرطبة في تطهير بمنزلة تذكية الشاة في الإحلال. ((شف)): وذلك أن الجنين الذي في البطن حالة ذكاة الأم كالعضو المتصل بالأم؛ فإن كل عضو من أعضائه يحل بذكاته، ولا يحتاج إلى ذكاة، كذلك الجنين المتصل به حالة الذبح إذا انفصل ميتا. ((حس)): فيه دليل على أن من ذبح حيوانا فخرج من بطنها جنين ميت، يكون حلالا وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وإليه ذهب الشافعي. وشرط بعضهم الإشعار، فأما إذا خرج الجنين حيا فاتفقوا على أن ذبحه شرط حتى يحل. وقال أبو حنيفة: لا يحل أكل الجنين إلا أن يخرج حيا ويذبح. الحديث الثالث والرابع عشر: عن عبد الله: قوله: ((سأله الله عن قتله)) أي عاتبه وعذبه عليه. وقوله: (0فما فوقها)) يحتمل فوقها في الحقارة والصغر وفوقها في كبر الجثة والعظم، وأنث ضمير العصفورة تارة نظرا إلى الجنس، وذكرها أخرى اعتبارا للفظ. وحقها عبارة عن الانتفاع بها كما أن قطع الرأس والرمي عبارة عن ضياع حقها وإتلافها، فيكون قوله: ((ولا يقطع)) الخ: كالتأكيد للسابق. ((حس)): فيه كراهة ذبح الحيوان لغير الأكل.

الفصل الثالث 4096 - عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني حارثة، أنه كان يرعى لقحة بشعب من شعاب أحد، فرأي بها الموت، فلم يجد ما ينحرها به، فأخذ وتدا فوجأ به في لبتها حتى أهراق دمها، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها. رواه أبو داود، ومالك. وفي روايته: قال: فذكاها بشظاظ. [4096] 4097 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من دابة إلا وقد ذكاها الله لبني آدم)). رواه الدارقطني. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان عند قدوم الملوك والرؤساء وأوان حدوث نعمة تتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور. الفصل الثالث الحديث الأول عن عطاء: قوله: ((فوجأ به)) ((نه)) يقال: وجأته بالسكين وغيره وجاء إذا ضربته به. و ((الشظاظ)) خشبة محددة الطرف تدخل في عروتى الحوالق، ليجمع بينهما عند حملهما على البعير والجمع أشظة. الحديث الثاني عن جابر قوله: ((قد ذكاها الله لبني آدم)) كناية عن كونه تعالى أحلها لبني آدم من غير تذكيتهم. ((مح)) تباح ميتات البحر كلها، سواء في ذلك ما مات بنفسه أو باصطياده، وقد أجمعوا على إباحة السمك، قال أصحابنا: يحرم الضفدع لحديث النهي عن قتلها. قالوا: وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه: أصحها: يحل جميعه لمثل هذا الحديث. والثاني: لا يحل. والثالث: يحل ما له نظير مأكول في البر دون ما لا يؤكل نظيره. فعلى هذا يؤكل خيل البحر وغنمه وظباؤه دون كلبه وخنزيره وحماره. [وممن] قال بالقول الأول أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس رضوان الله عليهم. وأباح مالك الضفدع والجميع. وقال أبو حنيفة: لا يحل غير السمك. دليلنا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ}. قال عمر رضي الله عنه: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به. قال ابن عباس: طعامه ميتة إلا ما قذرت منها. ((حس)): ركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء، ولم ير الحسن بالسلحفات بأسا. وقال سفيان الثوري: أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس,

(1) باب ذكر الكلب

(1) باب ذكر الكلب الفصل الأول 4098 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضار، نقص من عمله كل يوم قيراطان)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ذكر الكلب المقصود منه بيان ما يجوز اقتناؤه من الكلاب وما لا يجوز فهو كالتتمة والدريف للباب السابق. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلا كلب)) ((إلا)) هنا بمعنى غير، صفة ((لكلب)) لا استثناء لتعذره. ويجوز أن تنزل النكرة منزلة المعرفة فيكون استثناء لا صفة، كأنه قيل: من اقتنى الكلب. قال ابن جني في قوله: ((كان مزاجها عسل وماء)): إنما جاز ذلك من حيث كان عسل وماء من جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء؛ لأن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته. قوله: ((أو ضار)) ((تو)): الضاري من الكلاب ما يهيج بالصيد يقال ضري الكلب بالصيد ضراوة أي تعوده، ومن حق اللفظ ((أو ضاريا)) عطفا على المستثنى وهو كذلك في بعض الروايات. فتحقق من تلك الرواية أن ترك التنوين فيه خطأ من بعض الرواة. ((مح)): في معظم النسخ: ((ضاري)) بالياء، وفي بعضها: ((ضاريا)) بالألف. قال القاضي عياض: فأما ضاريا فهو ظاهر الإعراب، وأما ضار وضاري مجروران على العطف على ((ماشية))، ويكون من إضافة الموصوف إلى صفته، كما البارد ومسجد الجامع أو بثبوت الياء في ضاري على اللغة القليلة في إثباتها في المنقوص من غير ألف ولام. وقيل: إن لفظة ((ضار)) هنا صفة للرجل الصائد صاحب الكلاب المعتاد للصيد، فسماه ضاريا استعارة. واختلفوا في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب، فقيل: لامتناع الملائكة من دخول بيته. وقيل: لما يلحق المارين من الأذى من ترديع الكلب لهم وقصده إياهم. وقيل: إن ذلك عقوبة لهم لاتخاذهم ما نهى عن اتخاذه وعصيانهم في ذلك. وقيل: لما يبتلى به من ولوغه في الأواني عند غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب. ((قض)): وإضافة ((الكلب)) إلى ((ضار)) على قصد الإبهام والتخصيص؛ فإن الكلب قد يكون ضاريا وقد لا يكون.

4099 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع؛ انتقص من أجره كل يوم قيراط)). متفق عليه. 4100 - وعن جابر، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: ((عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان)). رواه مسلم. 4101 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قيراط)) فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث والحديث السابق حيث ذكر هنا قيراط وهناك قيراطان؟ قلت: ذكر الشيخ محيي الدين في جوابه أنه يحتمل أن يكونا في نوعين من الكلاب: أحدهما أشد أذى من الآخر أو يختلف باختلاف المواضيع، فيكون القيراطان في المدينة خاصة؛ لزيادة فضلها، والقيراط في غيرها، أو القيراطان في المدائن والقرى والقيراط في البوادي، أو يكون ذلك في زمانين فذكر القيراط أولا ثم زاد التغليظ، فذكر القيراطين، والقيراط هنا مقدار معلوم عند الله، والمراد نقص جزء من أجزاء عمله. الحديث الثالث والرابع عن جابر قوله: ((حتى إن المرأة)) ((حتى)) هي الداخلة على الجملة وهي غاية لمحذوف. أي أمرنا بقتل الكلاب فقتلنا، ولم ندع في المدينة كلبا إلا قتلناه. حتى لنقتل كلب المرأة من أهل البادية، كذا نص في حديث آخر. ((حس)): قيل: في تخصيص كلاب المدينة بالقتل من حيث إن المدينة كانت مهبط الملائكة بالوحي وهو لا يدخلون بيتا فيه كلب. وجعل الأسود البهيم شيطانا لخبثها؛ فإنه أضر الكلاب وأعقرها والكلب أسرع إليه منه إلى جميعها، وهي مع هذا أقلها نفعا وأسوأها حراسة؛ لبعدها من الصيد وأكثرها نعاسا. وحكى عن أحمد وإسحاق أنهما قالا: لا يحل صيد الكلب الأسود. ((مح)): أجمعوا على قتل العقور، واختلفوا فيما لا ضرر فيه، فال إمام الحرمين: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولا بقتلها كلها ثم نسخ ذلك إلا الأسود البهيم، ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم. الحديث الخامس عن ابن عمر: قوله: ((أو كلب غنم أو ماشية)) ((أو)) الأولى للتنويع والثانية للترديد وشك الراوي.

(2) باب ما يحل أكله وما يحرم

الفصل الثاني 4102 - عن عبد الله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم)). رواه أبو داود، والدارمي. وزاد الترمذي, النسائي: ((وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم)). [4102] 4103 - وعن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم)). رواه الترمذي. [4103] (2) باب ما يحل أكله وما يحرم الفصل الأول 4104 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل ذي ناب من السباع فأكله حرام)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((أمة من الأمم)) ((مظ)): معنى هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق؛ لأنه ما من خلق الله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا ولا سبيل إلى قتلهن كلهن فاقتلوا أشرارهن، وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة. أقول: قوله: ((أمة من الأمم)) إشارة إلى قوله تعالى: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} أي أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له، قال تعالى: {وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي يسبح بلسان القال أو الحال حيث يدل على الصانع، وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عما لا يجوز عليه، فبالنظر إلى المعنى لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. لكن إذا كان لدفع مضرة كقتل الفواسق الخمس، أو جلب منفعة كذبح الحيوانات المأكولة، جاز ذلك، وينصر هذا التأويل الحديث الآخر من الفصل الأول من الباب الثاني من قوله: ((أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟)) فأنكر إحراق قريتها لكونها مسبحة. الحديث الثاني عن ابن عباس قوله: ((عن التحريش)) ((مخ)): هو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها.

41050 - وعن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. رواه مسلم. 4106 - وعن أبي ثعلبة، قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية. متفق عليه. 4107 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه. 4108 - وعن أبي قتادة، أنه رأي حمارا وحشيا فعقره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل معكم من لحمه شيء؟)) قال: معنا رجله، فأخذها فأكلها. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ما يحل أكله وما يحرم الفصل الأول الحديث الأول والثاني قد مر تفسيرهما في الفصل الثاني من باب الصيد والذبائح في حديث العرباض. الحديث الثالث عن أبي ثعلبة: قوله: ((لحوم الحمر الأهلية)) ((حس)): كل حيوان لا يحل أكله فلا يحل شرب لبنه إلا الآدميات، وكل طير لا يحل لحمه لا يحل بيضه. الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((وأذن في لحوم الخيل)) ((حس)): اختلفوا في إباحة لحوم الخيل فذهب جماعة إلى إباحته، روى ذلك عن شريح والحسن وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وذهب جماعة إلى تحريمه روى ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب أبي حنيفة. ((مح)): واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: {والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً} ولم يذكر الأكل. وذكر الأكل من الأنعام وفي الآية التي قبلها، وبحديث خالد بن الوليد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وأجاب الأصحاب عن الآية بأن ذكر الركون والزينة لا يدل على أن منفعتها مقصورة عليهما، وإنما خصتا بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزِيرِ}، فذكر اللحم لأنه معظم المقصود. وقد أجمعوا على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه؛ ولهذا سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: {وتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} ولم يلزم من هذا منع حمل الأثقال على الخيل. وعن الحديث

4109 - وعن أنس، قال: انفجنا أرنبا بمر الظهران، فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله. متفق عليه. 4110 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الضب لست آكله ولا أحرمه)). متفق عليه. 4111 - وعن ابن عباس: أن خالد بن الوليد أخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا، فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الضب. فقال خالد: أحرام الضب يا رسول الله؟ فقال: ((لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه)) قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بأن علماء الحديث اتفقوا على أنه ضعيف؛ قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ. وقال النسائي: حديث الإباحة أصح، ويشبه إن كان هذا صحيحا أن يكون منسوخا. واحتج الجمهور بأحاديث الإباحة التي ذكرها مسلم وغيره، وهي صحيحة ولم يثبت في النهي حديث صحيح. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أنفجنا)) ((حس)): أنفجت الأرنب من جحره أي أثرته فثار، وأنفجت الأرنب وثبت، واختلفوا في الأرنب، فذهب أكثرهم إلى إباحته، وكرهه جماعة وقالوا: إنها تدمى. ((مح)): ((مر الظهران)) بفتح الميم والظاء موضع قريب من مكة. قوله: ((فقبله)) الضمير راجع إلى المبعوث أو بمعنى اسم الإشارة كما في قول رؤية شعرا: فيه سواد وبياض وبلق كأنه في الجلد توليع البهق الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لست بآكله)) فيه بيان إظهار الكراهة مما يجد في نفسه؛ لقوله في حديث آخر: ((فأجدني أعافه)). الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((محنوذا)) أي مشويا، وقيل: المشوى على الرضف وهي الحجارة المحماة. ((مح)): أجمعوا على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته. قال القاضي عن قوم: هو حرام، وما أظنه يصح عن أحد.

4112 - وعن أبي موسى، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج، متفق عليه. 4113 - وعن ابن أبي أوفي، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل معه الجراد. متفق عليه. 4114 - وعن جابر، قال: غزوت جيش الخبط، وأمر علينا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا، فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، فلما قدمنا ذكرنا ذلك للنبي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع والعاشر عن ابن أبي أوفي: قوله: ((نأكل معه الجراد)) ((تو)): رواية من روى ((معه)) تأول على أنهم أكلوه وهم معه فلم ينكر عليهم. وهذا يدل على إباحته ولو صرفه مؤول إلى الأكل فإنه محتمل، وإنما رجحنا التأويل الأول خلو أكثر الروايات من هذه الزيادة. ثم لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الجراد، وذكر ذلك من حديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم – وقد سئل عن الجراد – فقال: ((أكثر جهود الله، لا آكله ولا أحرمه)). فإن قيل: كيف يترك الحديث الصحيح بمثل هذا الحديث؟. قلنا: لم نتركه وإنما أولناه لما فيه من الاحتمال؛ كي يوافق سائر الروايات، ولا نرد الحديث الذي أوردناه وهو من الواضح الجلي بما فيه خفاء والتباس. أقول: التأويل الأول وهو قوله: ((أكلوه وهم معه)) بعيد لأن المعية تقتضي المشاركة في الفعل، كما في قوله: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وقد صرح به صاحب الكشاف وقد مر بيانه. والرواية الخالية عنه مطلقة تحتمل الأمرين، وهذه مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد. وقوله في الحديث الآخر: ((وقد سئل عن الجراد)) الحديث ضعفه محيي السنة. ورواية الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الجراد، إخبار عن عدم الأكل بأنه لم يكن معه فلم يشاهد، فبقي الكلام في لفظة ((معه)). الحديث الحادي عشر عن جابر: قوله: ((جيش الخبط)) منصوب على انتزاع الخافض أي غزوت مصاحبا لجيش الخبط، والخبط – بتحريك الباء – ورق الشجر يضرب بالعصا فيسقط، وهو فعل بمعنى مفعول وبالسكون المصدر، وهو الهش بضرب العصا، وسموا بجيش الخبط؛ لأنهم أكلوه من الجوع حتى قرحت أشداقهم. وقوله: ((فقال: كلوا)) كأنه صلى الله عليه وسلم استحضر تلك

صلى الله عليه وسلم فقال: ((كلوا رزقا أخرجه الله إليكم، وأطعمونا إن كان معكم)) قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. متفق عليه. 4115 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحالة واستحمدهم عليها فأمرهم بالأكل؛ ومن ثم صرح بقوله: ((رزقا)) ووصفه بقوله: ((أخرجه الله)) وعقبه بقوله: ((أطعمونا)). ((مح)): وإنما طلب صلى الله عليه وسلم منه تطييبا لقلوبهم ومبالغة في حله؛ وليعلم أنه لا شك في إباحته، وقصد به البركة في كونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم الله تعالى بها. وفيه استحباب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي، إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي. وكان فيه طمأنينة للمستفتي. قوله: ((فأكلنا منه نصف شهر)) وفي رواية أخرى: ((قمنا عليه شهرا)) وفي أخرى: ((فأكل منه الجيش ثماني عشرة يوما)). ووجه الجمع أن من روى شهرا هو الأصل لأن معه زيادة علم، ومن روى دونه لم ينف الزيادة ولو نفاها لقدم المثبت. وقد ثبت عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له فلا يلزم نفي الزيادة لو لم يعارضه إثبات الزيادة، فكيف وقد عارضه؟ فوجب قبول الزيادة، وقد مر ما يتعلق بأحكام هذا الحديث في الفصل الثالث من كتاب الصيد والذبائح. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا وقع الذباب)) ((تو)): قد وجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء والآخر دواء فيما أقامه الله تعالى لنا من عجائب خلقه وبدائع فطرته شواهد ونظائر، فمنها النحلة يخرج من بطنها الشراب النافع وينبت من إبرتها السم الناقع، والعقرب تهيج الداء بإبرتها، ويتداوى من ذلك بجرمها. وأما إتقاؤه بالجناح الذي فيه الداء على ما ورد في غير هذه الرواية، وهو في الحسان من هذا الباب؛ فإن الله تعالى ألهم الحيوان بطبعه الذي جبله عليه ما هو أعجب من ذلك، فلينظر المتعجب من ذلك إلى النملة التي هي أصغر وأحقر من الذباب كيف تسعى في جمع القوت؟ وكيف تصون الحب عن الندى باتخاذ الريعة على نشز من الأرض، ثم لينظر إلى تجفيفها الحب في الشمس إذا أثر فيه الندى، ثم إنها تقطع الحب؛ لئلا ينبت وتترك الكزبرة بحالها؛ لأنها لا تنبت وهي صحيحة، فتبارك الله رب العالمين. وأي حاجة بنا إلى الاستشهاد، على ما أخبر غنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، لولا الحذر من اضطراب الطبائع والشفقة على عقائد ذوي الأوضاع الواهية، وإلى الله اللجأ ومنه العصمة.

4116 - وعن ميمونة، أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألقوها وما حولها وكلوه)). رواه البخاري. 4117 - وعن ابن عمر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين، والأبتر فإنهما يطمسان البصر، ويستسقطان الحبل. قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حية أقتلها، ناداني أبو لبابة: لا تقتلها. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحيات. فقال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهن العوامر. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): وفيه دليل على أن الذباب طاهر، وكذلك أجسام جميع الحيوانات إلا ما دلت عليه السنة من الكلب والخنزير. وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة، إذا مات في ماء قليل أو شراب لا ينجسه، وذلك مثل الذباب والنمل العقرب والخنفساء والزنبور ونحوها؛ وهذا لأن غمس الذباب في الإناء قد يأتي عليه، فلو كان ينجسه إذا مات فيه لم يأمره بالغمس؛ للخوف من ننجيس الطعام، وهذا قول عامة الفقهاء. الحديث الثالث عشر من ميمونة: قوله: ((أن فأرة وقعت في السمن)) ((حس)): فيه دليل على أن غير الماء من المائعات إذا وقعت فيه نجاسة تنجس، قل ذلك المائع أو كثر، بخلاف الماء حيث لا ينجس عند الكثرة ما لم يتغير بالنجاسة. واتفقوا على أن الزيت إذا مات فيه فأرة أو وقعت فيه نجاسة أخرى، أنه ينجس ولا يجوز أكله. وكذلك لا يجوز بيعه عند أكثر أهل العلم، وجوز أبو حنيفة بيعه. واختلفوا في الانتفاع به، فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز الانتفاع به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تقربوه)) وهو أحد قولي الشافعي، وذهب قوم إلى أنه يجوز الانتفاع به بالاستصباح وتدهين السفن ونحوه. وهو قول أبي حنيفة، وأظهر قولي الشافعي. والمراد قوله: ((فلا تقربوه)) أكلا وطعما لا انتفاعا. الحديث الرابع عشر عن ابن عمر: قوله: ((ذا الظفيتين)) ((نه)): الطفية خوصة المقل في الأصل. وجمعها طفي، شبه الخطين اللذين على ظهر الحية بخوصتين من خوص المقل. قوله: ((والأبتر)) قيل: هو الذي يشبه المقطوع الذنب لقصر ذنبه، وهو من أخبث ما يكون من الحيات. قوله: ((يطمسان)) ((قض)): أي يعميان البصر ويسقطان الحبل عند النظر إليهما بالخاصية، جعل ما يفعلان بالخاصية كالذي يفعلانه بقصد وطلب، وفي خواص الحيوان عجائب لا تنكر. وقد ذكر في خواص الأفعى أن الحبل يسقط عند موافقة النظرين، وفي خواص بعض الحيات أن رؤيتها تعمى. ((مح)): ((يطمسان البصر)) يخطفانه بمجرد نظرهما إليه بخاصية جعلها الله تعالى في بصرها إذا وقع على بصر الإنسان. ويؤيد هذه الرواية الأخرى لمسلم: ((يخطفان)).

4118 - وعن أبي السائب قال: دخلنا على أبي سعيد الخدري، فبينما نحن جلوس إذا سمعنا تحت سريره حركة فنظرنا، فإذا فيه حية، فوثبت لأقتلها وأبو سعيد يصلي، فأشار إلي أن أجلس، فجلست، فلما انصرف، أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذ عليك سلاحك فإنس أخشى عليك قريظة)) فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني! فدخل، فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح، فانتظمها به، ثم خرج فركزه في ـــــــــــــــــــــــــــــ قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر، إذا وقع نظره على عين إنسان مات من ساعته. قوله: ((وهن الموامر)) ((نه)): العوامر الحيات التي تكون في البيوت واحدها عامرة، وقيل: سميت عوامر لطول عمرها. ((تو)): عمار البيوت وعوامرها سكانها من الجن. الحديث الخامس عشر عن أبي السائب: قوله: ((حديث عهد)) يجوز بالرفع على أنه صفة تعد صفة ((لفتى))، وبالنصب على أنه حال من الضمير في ((منا)). قوله: ((بأنصاف النهار)) ((مح)): هو بفتح الهمزة أي منتصفه، وكأنه وقت آخر النصف الأول وأول حاجاتهم ويؤنس امرأته؛ فإنها كانت عروسا. أقول: يحتمل أن يراد بالنهار الجنس وأن يكون عكس قوله: ((كلوا في بعض بطنكم تعفوا)) أي بأنصاف النهار فأتى بالإفراد اعتمادا على القرينة. قوله: ((خذ عليك سلاحك)) أي احمل عليك السلاح آخذا حذرك من قريظة. وقوله: ((وأصابته غيرة)) حال من المستكن في ((أهوى)). وقوله: ((فانتظمها)) ((نه)): أي غرز الرمح في الحية حتى طواها فيه، فشبهه بالسلك الذي يدخل في الخرز. وفي الأساس: رمى صيدا فانتظمه بسهم، وطعنه بانتظمه ساقيه أو جنبيه. وقوله: ((عليه)) حال أي اضطربت الحية صائلة على الفتى. وقوله: ((فقال: استغفروا)) يريد أن الذي ينفعه هو استغفاركم لا الدعاء بالإحياء لأنه مضى لسبيله.

الدار، فاضطربت عليه، فما يدري أيهما كان أسرع موتا: الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا. فقال: ((استغفروا لصاحبكم)) ثم قال: ((إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فخرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر)) وقال لهم: ((اذهبوا فادفنوا صاحبكم)). وفي رواية قال: ((إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان)). رواه مسلم. 4119 - وعن أم شريك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزع وقال: ((كان ينفخ على إبراهيم)). متفق عليه. 4120 - وعن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فريسقا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فحرجوا عليها)) ((نه)): أي قولوا لها: أنت في حرج أي ضيق إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل. ((مح)): قال القاضي عياض: روى ابن الحبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه يقول: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذونا ولا تظهروا لنا)) ونحوه عن مالك. قوله: ((فآذنون)) أي فأعلموا وأنذروا. ((مح)): قال العلماء: إذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيوت، ولا ممن أسلم من الجن بل هو شيطان فلا حرمة له عليكم فاقتلوه، ولن يجعل الله له سبيلا للإضرار بكم. الحديث السادس عشر عن أم شريك: قوله: ((الوزع)) ((نه)): الوزغ جمع وزعة بالتحريك وهي التي يقال لها: سام أبرص وجمعها أوزاغ ووزعات. ((قض)): ((وكان ينفخ على إبراهيم)) بيان لخبث هذا النوع وفساده، وأنه بلغ في ذلك مبلغا استعمله الشيطان، فحمله على أن ينفخ في النار التي ألقي فيها خليل الله صلوات الله عليه، وسعى في اشتعالها، وهو في الجملة من ذوات السموم المؤذية. الحديث السابع عشر عن سعد: قوله: ((فويسقا)) ((مح)): تسميته فويسقا؛ لأنه نظير للفواسق الخمسة التي تقتل في الحل والحرم، وأصل الفسق الخروج عن الطريق المستقيم، وهذه المذكورات خرجن عن خلق معظم الحشرات بزيادة الضرر والأذى. انتهى كلامه. وأما تصغيره فللتعظيم كما في قوله: ((دويهية)) على ما ذهب إليه الشيخ التوربشتي، أو للتحقير لإلحاقه صلى الله عليه وسلم بالفواسق الخمس.

4121 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك)). رواه مسلم. 4211 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟)). متفق عليه. الفصل الثاني 4123 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقعت الفأرة في السمن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في أول ضربة)) ((مح)): سبب تكثير الثواب في قتله أول ضربة، الحث على المبادرة بقتله، والاعتناء به والحرص عليه؛ فإنه لو فاته ربما انفلت وفات قتله. والمقصود انتهاز الفرصة بالظفر على قتله. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة: قوله: ((قرصت)) القرص الأخذ بأطراف الأصابع وهنا يراد به العض. وقوله: ((أن قرصتك)) الجملة هي الموحى بها أي أوحى الله تعالى بهذا الكلام، يعني: لأن قرصتك نملة أحرقت امة مسبحة لله تعالى وإنما وضع المضارع موضع المسبحة، ليدل على الاستمرار ومزيد الإنكار كقوله تعالى: {إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} الكشاف: فيه الدلالة على حدوث تسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع يحاضر تلك الحال ويسمعها، والظاهر أن يقال: ((فأحرقت)) إلا أنه أراد بقرية النمل مسكنها ومنزلها. سمى قرية لاجتماعة فيها، ومنه القرية المتعارفة لاجتماع الناس فيها. قوله: ((فأمر بقرية النمل)) أي بإحراق قرية النمل، ويفهم من قوله: ((أحرقت أمة)) جواز إحراق تلك النملة القارصة. ((مح)): هذا محمول على أن شرع ذلك النبي كان فيه جواز قتل النمل والإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق، بل في الزيادة على نملة واحدة. وأما في شرعنا فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار إلا بالاقتصاص، وسواء في منع الإحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور: ((لا يعذب بالنار إلا الله تعالى)) وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب وسيجيء في الفصل الثاني. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلا تقربوه)) مضى بيانه في الحديث الثالث عشر من الفصل الأول.

فإن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه)). رواه أحمد، وأبو داود. [4123] 4124 - ورواه الدارمي عن ابن عباس. 4125 - وعن سفينة، قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى. رواه أبو داود. [4125] 4126 - وعن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. رواه الترمذي. وفي رواية أبي داود: قال: نهى عن ركوب الجلالة. [4126] 4127 - وعن عبد الرحمن بن شبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. رواه أبو داود. [4127] 4128 - وعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها. رواه أبو داود، والترمذي. [4128] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن سفينة: قوله: ((حبارى)) الجوهري: حبارى طائر يقع على الذكر والأنثى واحدهما وجمعهما سواء. وإن شئت قلت: الجمع حباريات، وألفه ليست للتأنيث ولا للإلحاق، وإنما بني الاسم لها فصارت كأنها من نفس الكلمة لا تنصرف في معرفة ولا نكرة. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((عن أكل الجلالة)) في الغريبين يعني التي تأكل العذرة، يقال جل يجل واجتل يجتل إذا التقط البعر. ((فا)): كنى عن العذرة بالجلة وهي البعر فقيل لأكلها: ((جلالة))، وقد جل الجلة وأجلها التقطها. ((حس)): الحكم في الدابة التي تأكل العذرة أن ينظر فيها، فإن كانت تأكلها أحيانا فليست بجلالة ولا يحرم بذلك أكلها كالدجاج، وإن كان غالب علفها منها حتى ظهر ذلك على لحمها ولبنها، فاختلفوا في أكلها، فذهب قوم إلى أنه لا يحل أكلها إلا أن تحبس أياما، وتعلف من غيرها حتى يطيب لحمها. وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد. وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل الجلالة، وهو قول مالك. وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن تغسل غسلا جيدا. وإنما كره ركوبها لأنها إذا عرقت تنتن رائحتها كما ينتن لحمها. الحديث الرابع والخامس عن جابر: قوله: ((أكل الهرة)) أكل الهرة حرام بالاتفاق، وأما جواز بيعها وأكل ثمنها ففيه خلاف مضى في باب البيع.

4129 - وعنه، حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني يوم خيبر – الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. [4129] 4130 - وعن خالد بن الوليد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. رواه أبو داود، والنسائي. [4130] 4131 - وعنه، قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فأتت اليهود، فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى خضائرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يحل أموال المعاهدين إلا بحقها)). رواه أبو داود [4131] 4132 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحلت لنا ميتتان ودمان. الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال)). رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني. [4132] 4133 - وعن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ألقاه البحر وجزر عنه الماء فكلوه. وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه)). رواه أبو داود، وابن ماجه. وقال محيي السنة: الأكثرون على أنه موقوف على جابر. [4133] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع مضى ما يتعلق بالحديثين من معنى الأول وضعف الثاني ونسخه. الحديث الثامن عن خالد: قوله: ((إلى خضائرهم)) الجوهري: الخضيرة النخلة التي ينتشر بسرها وهو أخضر. الحديث التاسع والعاشر عن أبي الزبير: قوله: ((وجزر عنه)) ((نه)): ما جزر عنه البحر أي ما انكشف عنه الماء من حيوان البحر، يقال: جزر الماء يجزر جزرا إذا ذهب ونقص. ومنه الجزر رجوع الماء. والطافي الذي يعلو ويظهر على رأس الماء. ((حس)): اختلفوا في إباحة السمك الطافي، فأباحه جماعة من الصحابة والتابعين وبه قال مالك والشافعي، وكرهه جماعة، روى ذلك عن جابر وابن عباس وأصحاب أبي حنيفة.

4134 - وعن سلمان، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجراد، فقال: ((أكثر جنود الله، لا آكله ولا أحرمه)). رواه أبو داود. وقال محيي السنة: صعيف. [4134] 4135 - وعن زيد بن خالد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الديك، وقال: ((إنه يؤذن للصلاة)). رواه في ((شرح السنة)). [4135] 4136 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة)). رواه أبو داود. [4136] 4137 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: قال أبو ليلي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها: إنا نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود أن لا تؤذينا، فإن عادت فاقتلوها)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4137] 4138 - وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا أعلمه إلا رفع الحديث: أنه كان يأمر بقتل الحيات، وقال: ((من تركهن خشية ثائر فليس منا)). رواه في ((شرح السنة)). [4138] 4139 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما سالمناهم منذ حاربناهم، ومن ترك شيئا منهم خيفة فليس منا)). رواه أبو داود. [4139] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن سلمان: قوله: ((عن الجراد)) يحتمل أن يكون لفظ السائل أتأكل الجراد أم لا؟. أو هو حرام أم لا؟ فينطبق عليه الجواب أي لا آكله ولا أحرمه. وقوله: ((أكثر جنود الله)) كالتوطئة للجواب والتعليل له كأنه قيل: هو جند من جنود الله يبعثه أمارة لغضبه إلى بعض البلاد، فإذا نظر إلى هذا المعنى ينبغي أن لا يؤكل، وإذا نظر إلى كونه يقوم مقام الغذاء يحل. الحديث الثاني عشر إلى الخامس عشر عن عكرمة: قوله: ((لا أعلمه إلا رفع)) أي رفع ابن عبسا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن قوله: ((أنه كان يأمر)) محتمل لأن ينسب إلى ابن عباس فيكون موقوفا. قوله: ((خشية ثائر)) ((نه)): الثائر طالب الثأر وهو طلب الدم، يقال: ثأرت القتيل وثأرت به فأنا ثائر أي قتلت قاتله. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة: قوله: ((ما سالمناهم)) ((قض)): أي المعاداة بين

4140 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا الحيات كلهن، فمن خف ثأرهن فليس مني)). رواه أبو داود، والنسائي. [4140] 4141 - وعن العباس رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! إنا نريد أن نكنس زمزم وإن فيها من هذه الجنان – يعني الحيات الصغار – فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهن. رواه أبو داود. [4141] 4142 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقتلوا الحيات كلها إلا الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة)). رواه أبو داود. [4142] 4143 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فاملقوه، فإن في أحد جناحية داء وفي الآخر شفاء، فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله)). رواه أبو داود. [4143] ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنسان والحية جبلية لا تقبل الزوال؛ فإن كل واحد منهما قاتل للآخر بالطبع [إذا] وقع الحرب بينهما من لدن آدم، [ولم يرفعها بعد] بعد. وقوله: ((ومن ترك شيئا منهم خيفة)) أي من ترك التعرض لها مخافة أن يلحقه منها أو من صاحبها ضرر فليس منا، أي من المقتدين بنا والتابعين لهدينا، فإن من زعمات الجاهلية أن الحية إذا قتلت طلب ثأرها من القاتل فاقتص منه. أقول: الضمير في قوله: ((ما سالمناهم)) للحيات، والقرينة ما رواه أبو داود أيضا عن ابن عباس: ((من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمناهن منذ حاربناهن)) وإنما أتى بضمير العقلاء في الحديث الذي في المتن لإجراء أوصافهم عليها من المحاربة والمسالمة، كقوله تعالى: {والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. الحديث السابع عشر والثامن عشر عن العباس: قوله: ((من هذه الجنان)) ((من)) التبعيضية منصوبة لأنها اسم ((إن)) أي إن فيها بعض الجنان نحوه قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي بعضها. و ((الجنان)) بالتشديد جمع ((جان)). ((فا)): كغيطان وغائط وحيطان وحائط، وإنما أمر بقتلهن هنا ونهى في الحديث الآتي تطهيرا لماء زمزم منهن.

4144 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وقع الذباب في الطعام فامقلوه فإن في أحد جناحيه سما، وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء)). رواه في ((شرح السنة)). [4144] 4145 - وعن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد. رواه أبو داود، والدارمي. [4145] الفصل الثالث 4146 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا} الآية. رواه أبو داود. [4146] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر والعشرون والحادي والعشرون عن أبي سعيد: قوله: ((فامقلوه)) المقل الغمس، وقد سبق في الحديث الثاني عشر من الفصل الأول. الحديث الثاني والعشرون عن ابن عباس: قوله: ((عن قتل أربع من الدواب)) ((مظ)): إن النهي إنما جاء في قتل النمل عن نوع خاص منه وهو الكبار ذات الأرجل الطوال؛ لأنها قليلة الأذى والضرر، وأما النحلة فما فيها من المنفعة وهو العسل والشمع، وأما الهدهد والصرد فلتحريم لحمهما؛ لأن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لاحترامه أو لضرر فيهن كان لتحريم لحمه. ألا ترى أنه نهى عن قتل الحيوان لغير مأكلة. ويقال: إن الهدهد منتن الريح، فصار في معنى الجلالة، والصرد يتشأم به العرب ويتطير بصوته وشخصه. وقيل: إنما كرهوه من اسمه من التصريد وهو التقليل. ((نه)): الصرد هو طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه اسود. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وأحل حلاله)) حلاله مصدر وضع موضع المفعول، أي أظهر بالبعث والإنزال ما أحله الله تعالى. وقوله: ((فهو عفو)) أي متجاوز عنه لا تؤاخذون به. وتلا أي ابن عباس ردا لفعلهم وأكلهم ما يشتهونه وتركهم ما يكرهونه

(3) باب العقيقة

4147 - وعن زاهر الأسلمي، قال: إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر. رواه البخاري. 4148 - وعن أبي ثعلبة الخشني، يرفعه: ((الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون)) رواه في ((شرح السنة)). [4148] (3) باب العقيقة الفصل الأول 4149 - عن سلمان بن عامر الضبي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقذرا، كأنه قيل: المحلل ما أحله الله ورسوله، والمحرم ما حرمه الله ورسوله، وليس بهوى النفس. الحديث الثاني والثالث عن أبي ثعلبة: قوله: ((صنف)) مبتدأ وخبره محذوف، أي منهم صنف كذا وصنف كذا إلى آخره والله أعلم بالصواب. باب العقيقة المغرب: العق الشق والقطع ومنه عقيقة المولود، وهي شعره لأنه يقطع عنه يوم أسبوعه، وبها سميت الشاة التي تذبح عنه. الفصل الأول الحديث الأول عن سلمان: قوله: ((مع الغلام عقيقة)) ((قض)): أي مع ولادته عقيقة مسنونة وهي شاة تذبح عن المولود اليوم السابع من ولادته، سميت بذلك؛ لأنها تذبح حين يحلق عقيقته، وهو الشعر الذي يكون على المولود حين يولد، من العق وهو القطع؛ لأنه يحلق ولا يترك، وأراد بإماطة الأذى عنه حلق شعره. وقيل: تطهيره عن الأوساخ والأضار التي تلطخ به عند الولادة. وقيل: الختان، وهو حاصل كلام الشيخ التوربشتي. أقول: قوله: ((فأهريقوا)) حكم مرتب عليه الوصف المناسب المشعر بالعلية، أي مقرون مع الغلام ما هو سبب لإهراق الدم، فالعقيقة هي ما تصحب المولود من الشعر. والمراد بإهراق الدم

4150 - وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم، ويحنكهم. رواه مسلم. 4151 - وعن أسماء بنت أبي بكر، أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فولدت بقباء ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، ثم حنكه، ثم دعا له وبرك عليه، فكان أول مولود ولد في الإسلام. متفق عليه. الفصل الثاني 4152 - عن أم كرز، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أقروا الطير على مكانتها)). قالت: وسمعته يقول: ((عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، ولا يضركم ـــــــــــــــــــــــــــــ العقيقة من الشاة، فيكون ذبح الشاة وإزالة الشعر مرتبان على ما يصحب الغلام. والتعريف في الأذى للعهد والمعهود الشعر. وإليه أشار محيي السنة بقوله: العقيقة اسم للشعر الذي يحلق من رأس الصبي عند ولادته، فسميت الشاة عقيقة على المجاز، إذ كانت إنما تذبح عند حلاق الشعر. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فيبرك عليهم)) قال في أساس البلاغة: بارك الله فيه وبارك عليه وبارك له وباركه وبرك على الطعام، وبرك فيه إذا دعا له بالبركة. أقول: بارك عليه أبلغ؛ فإنه فيه تصوير صب البركات وإفاضتها من السماء، كما قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ}. الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((ثم تفل في فيه)) ((نه)): التفل النفخ معه أدنى بزاق، وهو أكثر من النفث. ((ثم حنكه)) أي مضغ التمر وذلك به حنكه. قوله: ((فكان أول مولود في الإسلام)) الفاء جزاء شرط محذوف، يعني إن أنا هاجرت من مكة، وكنت أول امرأة هاجرت حاملا، ووضعته بقباء وكان أول مولود بعد الهجرة. ((مح)): يعني أول من ولد في الإسلام بالمدينة بعد الهجرة من أولاد المهاجرين، وإلا فالنعمان بن بشير الأنصاري ولد قبله بعد الهجرة. وفيه مناقب كثيرة لعبد الله بن الزبير: منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليه وبارك عليه ودعا له، وأول من دخل في جوفه ريقه صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أم كرز: قوله: ((على مكناتها)): بفتح الميم وكسر الكاف جمع مكنة، وهي بيضة الضب، ويضم الحرفان منها أيضا. ((فا)): المكنات يعني الأمكنة، يقال: الناس على

ذكرانا كن أو إناثا)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من قوله: يقول: ((عن الغلام)) إلى آخره .. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. [4152] 4153 - وعن الحسن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع، ويسمى، ويحلق رأسه)). رواه أحمد، والترمذي، ـــــــــــــــــــــــــــــ مكناتهم وسكناتهم ونزلاتهم وربعاتهم، أي على أمكنتهم ومساكنهم ومنازلهم ورباعهم. وقيل: المكنة من التمكن كالتبعة والطلبة من التتبع والتطلب، يقال: إن بني فلان لذوو مكنة من السلطان أي ذوو تمكن، والمكنات أيضا الأمكنة جمع المكان ثم على مكن، ثم على مكان كقولهم: حمر وحمرات وصعد وصعدات. والمعنى أن الرجل كان يخرج في حاجته فإن رأي طيرا طيره، فإن أخذ ذات اليمين ذهب، وإن أخذ ذات الشمال لم يذهب، فأراد: اتركوها على مواقعها ولا تطيروها، نفيا عن الزجر. أو على مواضعها التي وضعها الله بها: من أنها لا تضر ولا تنفع، أو أراد له تذعروها ولا ترموها بشيء تنهض بها عن أوكارها. [وإنكار أبي زياد الكلابي المكنات] وقوله: ((لا يعرف للطير مكنات، وإنما هي الأعشاش ذهاب منه إلى النهي عن التحذير. وكذلك من فسر المكنات بالبيض وهي في الأصل بيض الضب فاستعير. قال الأزهري: المكن بيض الضب الواحدة مكنة كلبن ولبنة؛ وكأنه أصل والمكن مخفف منه. قوله: ((وللترمذي والنسائي من قوله: يقول ((عن الغلام)) تصريح باستقلال كم من الحديثين. وقولها: ((وسمعته يقول)) مشعر بذلك، فبقي الكلام على المؤلفين في بيان الربط بين الحديثين في هذا الباب ونظمها في سلك واحد. ويمكن أن يقال: إنهم كانوا يتطيرون ويرون الخير والشر منه في كل ما سنح لهم من الأحوال، فنهوا عن التطير في شأن المولود وحثوا على الصدقة. الحديث الثاني عن الحسن: قوله: ((مرتهن بعقيقته)) ((تو)): وفيه نظر؛ وهو أن المرتهن هو الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين، ولم نجد فيما يعتمد عليه من كلامهم بناء المفعول من الارتهان. فلعل الراوي أتى به مكان الرهينة من طريق القياس. أقول: طريق المجاز غير مسدود وليس بموقوف على السماع، ولا يستراب أن الارتهان هنا ليس مأخوذا بطريق الحقيقة. يدل عليه قول الزمخشري في أساس البلاغة في قسم المجاز: فلان رهن بكذا أو رهين ورهينة ومرتهن به: مأخوذ به. وقال صاحب النهاية: معنى قوله: ((رهينة بعقيقته)) أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبه في

وأبو داود والنسائي لكن في روايتهما ((رهينة)) بدل ((مرتهن)). وفي رواية لأحمد وأبي داود: ((ويدمي)) مكان: ((ويسمي)). وقال أبو داود: ((ويسمي)) أصح. [4153] ـــــــــــــــــــــــــــــ لزومها له وعدم انفكاكه منه بالرهن في يد المرتهن. والهاء في الرهينة للمبالغة لا للتأنيث كالشتيمة والشتم. ((حس)): قد تكلم الناس فيه، وأجودها ما قاله أحمد بن حنبل: معناه: إذا مات طفلا ولم يعق عنه لم يشفع في والديه، وروى عن قتادة: أنه يحرم شفاعتهم. ((تو)): ولا أدري بأي سبب تمسك، ولفظ الحديث لا يساعد المعنى الذي أتى به، بل بينهما من المباينة ما لا يخفي إلى عموم الناس فضلا عن خصوصهم. والمعنى إنما يؤخذ عن اللفظ، وعند اشتراك اللفظ عن القرينة التي يستدل بها عليه، والحديث إذا استبهم معناه فأقرب السبب إلى إيضاحه استيفاء طرقه؛ فإنها قلما تخلو عن زيادة أو نقصان أو إشارة بالألفاظ المختلف فيها رواية، فيستكشف بها ما أبهم منه. وفي بعض طرق الحديث: ((كلا غلام رهينة بعقيقته)) أي مرهون، والمعنى أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع والاستمتاع به دون فكه. والنعمة إنما تتم على المنعم عليه بقيامه بالشكر، ووظيفة الشكر في هذه النعمة ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يعق عن المولود شكرا لله تعالى وطلبا لسلامة المولود. ويحتمل أنه أراد بذلك أن سلامة المولود ونشؤه على النعت المحبوب رهينة بالعقيقة، هذا هو المعنى، اللهم إلا أن يكون التفسير الذي سبق ذكره متلقى من قبل الصحابي، ويكون الصحابي قد اطلع على ذلك من مفهوم الخطاب أو قضية الحال، ويكون التقدير شفاعة الغلام لأبويه مرتهن بعقيقته. أقول: ولا ريب أن الإمام أحمد ما ذهب إلى هذا القول إلا بعد ما تلقى من الصحابة والتابعين، على أنه إمام من أئمة الكتاب، يجب أن يتلقى كلامه بالقبول ويحسن الظن به، فقوله: لا يتم الانتفاع والاستمتاع به دون فكه، يقتضي عمومه في الأمور الأخروية والدنيوية. ونظر الألباء مقصور على الأول. وأولى الانتفاع بالأولاد في الآخرة شفاعة الوالدين. ألا ترى إلى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وقوله: {آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} قدم الوصية على الدين، والدين مقدم إخراجه على الوصية، وعلله بقوله: {آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ} إشارة إلى أن الوصية وإنفاذها أنفع مما ترك لكم ولم يوص به، الكشاف: أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون أم من أوصى منهم أم من لم يوص، يعني أن من أوصى ببعض ماله وعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى، ممن ترك

4154 - وعن محمد بن علي بن حسين، عن علي بن أبي طالب، قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن بشاة، وقال: ((يا فاطمة! احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة)) فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بمتصل، لأن محمد بن علي بن حسين لم يدرك علي بن أبي طالب. [4154] 4155 - وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا. رواه أبو داود، وعند النسائي: كبشين كبشين. [4155] ـــــــــــــــــــــــــــــ الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر؛ لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. قوله: ((ويسمي ويحلق رأسه)) ((حس)): روى عن الحسن أنه قال: يطلى رأس المولود بدم العقيقة، وكان قتادة يصف الدم ويقول: إذا ذبجت العقيقة تؤخذ صوفة منها، فيستقبل بها أوداج الذبيحة، ثم يوضع على يافوخ الصبي، حتى إذا سال شبه الخيط غسل رأسه ثم حلق بعده. وكره أكثر أهل العلم لطخ رأسه بدم العقيقة، وقالوا: كان ذلك من عمل الجاهلية، وضعفوا رواية من روى ((يدمي)) وقالوا: إنما هو ((يسمي)) ويروى لطخ الرأس بالخلوق والزعفران مكان الدم. الحديث الثالث عن محمد: قوله: (عن الحسن بشاة)) ((حس)): اختلفوا في التسوية بين الغلام والجارية، وكان الحسن وقتادة لا يريان عن الجارية عقيقة. وذهب قوم إلى التسوية بينهما عن كل واحد بشاة واحدة لهذا الحديث. وعن ابن عمر كان يعق عن ولده بشاة شاة الذكور والإناث، ومثله عن عروة بن الزبير. وهو قول مالك، وذهب جماعة إلى أن يذبح عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة. الضمن في ((كن)) عائد إلى الشاتين والشاة المذكورة، وغلب الإناث على الذكور تقديما للنعاج في النسل. وفيه إشعار بأن نحو شاة ونملة وحمامة مشترك بين الذكور والإناث، وإنما يتبين المراد بانتهاض القريقة. الحديث الرابع عن ابن عباس: قوله: ((كبشا كبشا)) عق إذا لم يكن متعديا كان منصوبا بنزع الخافض، والتكرير باعتبار ما عق عنه من الولدين، أي عق عن كل واحد بكبش.

4156 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة. فقال: ((لا يحب الله العقوق) كأنه كره الاسم، وقال: ((من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة)). رواه أبو داود، والنسائي. [4156] 4157 - وعن أبي رافع، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي، حين ولدته فاطمة بالصلاة. رواه الترمذي، وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [4157] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عمرو: قوله: ((كأنه كره الاسم)) ((تو)): هو كلام غير سديد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العقيقة في عدة أحاديث، ولو كان يكره الاسم لعدل عنه إلى غيره، ومن سنته تغيير الاسم إذا كرهه وكان يشير إلى كراهة الشيء بالنهي عنه، كقوله: ((لا تقولوا للعنب الكرم))، ونحوه من الكلام، وإنما الوجه فيه أن يقال: يحتمل أن السائل إنما سأله عنها لاشتباه تداخله بين الكراهة، والاستحباب أو الوجوب والندب، وأحب أن يعرف الفضيلة فيها. ولما كانت العقيقة من الفضيلة بمكان لم يخف على الأمة موقعة من الله، أجابه بما ذكر تنبيها على أن الذي يبغضه الله من هذا الباب هو العقوق لا العقيقة. ويحتمل أن يكون السائل ظن أن اشتراك العقيقة مع العقوق في الاشتقاق مما يوهن أمرها، فأعلمه أن الأمر بخلاف ذلك. ويحتمل أن يكون العقوق في هذا الحديث مستعارا للوالد، كما هو حقيقة في حق المولود؛ وذلك أن المولود إذا لم يعرف حق أبويه وأبى عن أدائه صار عاقا، فجعل إباء الوالدين عن أداء حق المولود عقوقا على الاتساع، فقال: لا يحب الله العقوق أي ترك ذلك من الوالد مع قدرته عليه، يشبه بإضاعة المولود حق أبويه ولا يحب الله ذلك. أقول: قوله: ((سئل عن العقيقة)) يحتمل أن يكون لفظ ما سأل عنه: ولد لي مولود أحب أن أعق عنه فما تقول؟. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفظه بأعق؛ لأنه مشترك بين العقيقة والعقوق فتكون الكراهية راجعة إلى ما تلفظ به لا إلى نفس العقيقة, وقد تقرر في علم الفصاحة الاحتراز عن لفظ يشترك فيه معنيان، أحدهما مكروه فيجاء به مطلقا، كما لو قيل: لقيت فلانا فعزرته لاحتمالها أنك ضربته أو أكرمته، ولو قيد لجاز؛ ومن ثمة علمه كيفية السؤال بالفعل بقوله: ((من ولد له ولد وأحب أن ينسك)) إلى آخره. الحديث السادس عن أبي رافع: قوله: ((أذن)) ((حس)): روي أن عمر بن عبد العزيز كان يؤذن

كتاب الأطعمة

الفصل الثالث 4158 - عن بريدة، قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح الشاة يوم السابع، ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. رواه أبو داود، وزاد رزين: ونسميه. [4158] كتاب الأطعمة الفصل الأول 4159 - عن عمر بن أبي سلمة، قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في اليمنى ويقيم في اليسرى إذا ولد الصبي. ((مح)) في الروضة: ويستحب أن يقول في أذنه: {وإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. أقول: ولعل مناسبة الآية بالأذان أن الأذان أيضا طرد للشيطان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين)) الحديث. وذكر الأذان والتسمية في باب العقيقة وارد على سبيل الاستطراد والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن بريدة: قوله: ((كنا نذبح الشاة)) فإن قلت: كان يقتضي التقدم بالزمان الكثير فكيف يستقيم هنا ((كنا))؟ قلت: كما تجيء للتقديم بزمان كثير تجيء بزمان قليل وآن واحد، كقوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًا} والله أعلم بالصواب. كتاب الأطعمة الفصل الأول الحديث الأول عن عمر: قوله: ((في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) هو كناية عن كونه ربيبا له، وأنه في حضنه يربيه تربية الأولاد، وكان عمر هذا هو ابن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((تطيش)) أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد. والصحفة دون القصعة وهي ما تشبع خمسة، والقصعة ما تشبع عشرة.

4160 - وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه)). رواه مسلم 4161 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه؛ قال: أدركتم المبيت والعشاء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): وفيه استحباب التسمية في ابتداء الطعام وحمد الله في آخره، وأن يجهر بها ليسمع غيره. ولو ترك التسمية في الأولى وتذكر في أثنائه، يقول: بسم الله أوله وآخره، والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام. وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين. فإن سمى واحد منهم حصل أصل السنة نص عليه الشافعي، ويستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وهو قد ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن المقصود يحصل بواحد. واستحباب الأكل والشرب باليمين وكراهيتهما بالشمال؛ لأن الشيطان يأكل بالشمال، وإن كان عذر يمنع من ذلك فلا كراهة. واستحباب الأكل مما يليه؛ لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة؛ لنفوره لا سيما في الأمراق وأشباهها. فإن كان تمرا فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق، والذي ينبغي تعميم النهي حملا على عمومه حتى يثبت دليل مخصص. أقول: كان الظاهر أن يقال: كنت أطيش بيدي، فأسند الطيش إلى اليد مبالغة، وأنه لم يكن يراعي آداب الأكل فأرشده لذلك إلى التسمية والأكل باليمين أيضا. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((يستحل الطعام)) فيه وجهان: ((مح)): معناه أنه يتمكن من أكل الطعام، وهو محمول على ظاهره؛ فإن الشيطان يأكل حقيقة؛ إذ العقل لا يحيله والشرح لم ينكره بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده. ((تو)): المعنى أن يجد سبيلا إلى تطيير بركة الطعام بترك التسمية عليه في أول ما يتناوله المتناولون، وذلك حظه من ذلك الطعام. ومعنى الاستحلال هو أن تسمية الله تمنعه عن الطعام، كما أن التحريم يمنع المؤمن عن تناول ما حرم عليه، والاستحلال استنزال الشيء المحرم محل الحلال وهو في الأصل مستعار من حل العقدة. أقول: كأنه أراد أن ترك التسمية في الطعام إذن للشيطان من الله تعالى في تناوله كما أن التسمية منع له منه، فيكون استعارة تبعية. و ((أن)) في أن لا يذكر)) مصدرية واللام مقدرة أو الوقت. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((لا مبيت لكم ولا عشاء)) ((قض)): المخاطب به أعوانه أي

4162 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذ شرب فليشرب بيمينه)). رواه مسلم. 4163 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها)). رواه مسلم. 4164 - وعن كعب بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاثة أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها. رواه مسلم. 4165 - وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: ((إنكم لا تدرون في أية البركة؟)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لاحظ لكم ولا فرصة لكم الليلة من أهل هذا البيت؛ فإنهم قد أحرزوا عنكم طعامهم وأنفسهم. وتحقيق ذلك أن انتهاز الشيطان فرصة من الإنسان، إنما تكون حال الغفلة ونسيان الذكر، فإذا كان الرجل متبقظا محتاطا متذكرا لله في جملة حالاته، لم يتمكن الشيطان من إغوائه وتسويله وأيس عنه بالكلية. ((مظ)) ((وشف)): ويجوز أن يكون المخاطب به الرجل وأهل بيته على سبيل الدعاء عليهم من الشيطان. أقول: وهو بعيد لقوله: ((قال الشيطان: أدركتم المبيت)) والمخاطبون أعوانه، وأما تخصيص المبيت والعشاء، فلغالب الأحوال؛ لأن ذلك صادق في عموم الأحوال. الحديث الرابع والخامس عن ابن عمر: قوله: ((فإن الشيطان يأكل بشماله)) ((تو)): المعنى أنه يحمل أولياءه من الإنس على ذلك الصنيع ليضاد به عباد الله الصالحين، ثم إن من حق نعمة الله والقيام بشكره أن تكرم ولا يستهان بها، ومن حق الكرامة أن تتناول باليمين ويميز بها بين ما كان من النعمة وبين ما كان من الأذى. أقول: تحريره أن يقال: لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها؛ فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم أولياء الشيطان؛ فإن الشيطان يحمل أولياءه من الإنس على ذلك. ((مح)): فيه أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين وأن للشيطان يدين. أقول: حمل الحديث على ظاهره كما سبق في الحديث السابق. الحديث السادس عن كعب: قوله: ((ويلعق يده)): من سنن الأكل لعق اليد محافظة على بركة الطعام وتنظيفا لها. والأكل [بثلاثة] أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر. الحديث السابع عن جابر: قوله: ((في أية)) المضاف إليه محذوف أي أية أكلة أو طعمة.

4166 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها)). متفق عليه. 4167 - وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري: في أي طعامه يكون البركة؟)). رواه مسلم. 4168 - وعن أبي جحيفة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا آكل متكئا)). رواه البخاري. 4169 - وعن قتادة، عن أنس، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان، ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق. قيل لقتادة: على ما يأكلون؟ قال: على السفر. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((يلعقها)) ((مح)): أي يلعقها غيره ممن لم يقذره كالزوجة والجارية والولد والخادم لأنهم يتلذذون بذلك. وفي معناهم التلميذ ومن يعتقد التبرك بلعقها. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((من شأنه)) ((صفة)) ((لشيئ)) أي شيء كائن من شأن الشيطان حضوره عنده، قوله: ((لا يدعها للشيطان)) ((تو)): إنما صار تكركها للشيطان، لأن فيه إضاعة نعمة الله والاستحقار بها من غير ما بأس، ثم إنه من أخلاق المتكبرين والمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر وذلك من عمل الشيطان. ((مح)): إذا وقعت اللقمة على موضع نجس، يجتنب منها، ولا بد من غسلها إن أمكن فإن تقذر أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان. الحديث العاشر عن أبي جحيقة: قوله: ((لا آكل متكئا)) ((خط)): يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه، وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه، وأن المتكئ ها هنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته. وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ، والمعنى: [إني إذا] أكلت لم أقعد متمكنا على الأوطئة فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة، ولكنى آكل علقة من الطعام فيكون قعودي مستوفزا له. الحديث الحادي عشر عن قتادة: قوله: ((على خوان)) ((تو)): الخوان الذي يؤكل عليه، معرب،

4170 - وعن أنس، قال: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأي رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأي شاة سميطا بعينه قط. رواه البخاري. 4171 - وعن سهل بن سعد، قال: ما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. وقال: ما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلا من حين ابتعثه الله ـــــــــــــــــــــــــــــ والأكل عليه لم يزل من دأب المترفين وصنيع الجبارين؛ لئلا يفتقروا إلى التطأطؤ عند الأكل. ((ولا في سكرجة)) الرواة يضمون الأحرف الثلاثة من أولها. وقيل: إن الصواب فتح الراء منها وهو الأشبه؛ لأنه فارسي معرب، والراء في الأصل منه مفتوحة، والعجم كانت تستعملها في الكوامخ وما أشبهها من الجواشيات على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل على هذه الصفة قط. قوله: ((على السفر)) هو جمع السفرة. ((نه)): السفرة الطعام يتخذه المسافر أكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد، وسمي به كما سميت المزادة رواية، وغير ذلك من الأسماء المنقولة. أقول: قوله: ((ولا خبز له مرقق)) عبارة عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يأكل خبزا مرققا بعد مبعثه قط. قوله: ((ولا خبز له)) يحتمل معنيين أحدهما: أنه أكله إذا خبز لغيره وأنه لم يأكله قط سواء خبز له أو لغيره، يدل عليه حديث سهل بن سعد: ((ما [رأي] رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل النقي من حين ابتعثه الله تعالى)). وقوله: ((على ما يأكلون)) الظاهر أن يسأل على ما يأكل وفيم يأكل وما يأكل، فلم عدل عن السؤال إلى الجماعة واقتصر على الأول منها؟. فيقال: علم السائل أن الصحابة رضوان الله عليهم يقتدون بسنته ويقتفون آثاره فاستغنى به عن ذلك. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأي رغيفا)) نفي العلم وأراد نفي المعلوم على طريقة قوله تعالى: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} وهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه. وإنما صح هذا من أنس رضي الله عنه؛ لأنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم ولزمه ولم يفارقه. و ((السميط)) المسموط وهو الذي أزيل شعره ثم شوى، من السمط وهو إزالة الشعر، وما شوي بعد السلخ فهم الخمط. وقوله: ((بعينه)) تأكيد لنفي الرؤية ودفع احتمال التجوز، كما تقول: مشيت برجلي وقبضت بيدي ورأيت بعيني. الحديث الثالث عشر عن سهل: قوله: ((النفي)) هو الخبز الحزاري، وهو ما نقى دقيقه من النخالة. ((وثريناه) أي بللناه بالماء، وأصله من الثرى وهو التراب الندي.

حتى قبضه الله. قيل: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه، فأكلناه. رواه البخاري. 4172 - وعن أبي هريرة، قال: ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه. متفق عليه. 4173 - وعنه، أن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا، فأسلم، فكان يأكل قليلا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما عاب)) ((مح)): هو أن يقول هذا مالح، قليل الملح، حامض، رقيق، غليظ، غير ناضج ونحو ذلك. وأما قوله للضب قال ((لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)) فبيان لكراهته لا إظهار عيبة. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في سبعة أمعاء)) عداه بـ ((في)) على معنى أوقع الأكل فيها وجعلها أمكنة للمأكول؛ ليشعر بامتلائها كلها حى لم يبق للنفس فيه مجال، كقوله تعالى: {إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي ملء بطونهم. وتخصيص السبعة للمبالغة والتكثير كما في قوله تعالى: {والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}. ((قض)): أراد به أن المؤمن يقل حرصه وشرهه على الطعام ويبارك له في مأكله ومشربه فيشبع من قليل، والكافر يكون كثير الحرص شديد الشره لا مطمح لبصره إلا إلى المطاعم والمشارب كالأنعام، فمثل ما بينهما من التفاوت في الشره بما بين ما يأكل في معي واحد ومن يأكل في سبعة أمعاء وهذا باعتبار الأعم والأغلب. ((مح)): فيه وجوه: أحدها: قيل: إنه في رجل بعينه فقيل له على جهة التمثيل. وثانيها: أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه فلا يشركه فيه الشيطان، والكفر لا يسميه فيشاركه الشيطان. وثالثها: أن المؤمن يقصد في أكله فيشبعه امتلاء بعض أمعائه، والكافر لشرهه وحرصه على الطعام لا يكفيه إلا امتلاء كل الأمعاء. ورابعها: يحتمل أن يكون هذا في بعض المؤمنين وبعض الكفار. وخامسها: أن يراد بالسبعة صفات الحرص والشره، وطول الأمل والطمع، وسوء الطبع والحسد والسمن. وسادسها: أن يراد بالمؤمن تام الإيمان المعرض عن الشهوات المقتصر على سد خلته. وسابعها المختار: وهو أن بعض المؤمنين يأكل في معي واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة، ولا يلزم أن كل واحد من السبعة مثل معي المؤمن.

4174 - و 4175 * وروى مسلم عن أبي موسى، وابن عمر المسند منه فقط. 4176 - وفي أخرى له عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت، فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى، فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء)). 4177 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: جماع القول أن من شأن المؤمن الكامل إيمانه أن يحرص في الزهادة وقلة الغذاء ويقنع بالبلغة، بخلاف الكافر فإذا وجد من المؤمن والكافر على خلاف هذا الوصف فلا يقدح في الحديث، كقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ}. ((مح)): قالوا: مقصود الحديث التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجل وكثرة الأكل بضدها. وأما قول ابن عمر رضي الله [عنهما] في المسكين الذي أكل عنده كثيرا: ((لا يدخلن هذا علي)) إنما قال هذا؛ لأنه أشبه الكفار ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة. قوله: ((المسند منه)) اللام فيه موصولة والضمير في ((منه)) راجع إليه، أي الذي أسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديث، وهو قوله: ((إن المؤمن يأكل)) الحديث. و ((فقط)) ساكنة الطاء بمعنى فحسب. قوله: ((ضافه ضيف)) ((نه)): ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته، وأضفته إذا أنزلته، وتضيفته إذا نزلت به، وتضيفني إذا أنزلني. قوله: ((فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة)) أي بإحلاب شاة والحلاب اللبن الذي يحلبه، والحلاب أيضا المحلب الذي يحلب فيه. الحديث السادس والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يكفي الاثنين)). ((حس)): حكي عن إسحاق بن راهويه عن جرير قال: تأويله شبع الواحد قوت الاثنين، وشبع الاثنين قوت الآربعة. قال عبد الله بن عروة: تفسير هذا ما قال عمر رضي الله عنه عنه عام

4178 - وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) رواه مسلم. 4179 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((التلبينة مجمة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)) متفق عليه. 4180 - وعن أنس، أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، فذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذ. متفق عليه. 4181 - وعن عمرو بن أمية أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يجتز من كتف شاة في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها، ثم قام فصلى، ولم يتوضأ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ [الرمادة]: لقد هممت أن انزل على أهل كل بيت مثل عددهم؛ فإن الرجل لا يهلك على نصف بطنه. ((مح)):فيه الحث على المواساة في الطعام، فإن هوإن كان قليلا حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين. الحديث الثامن عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((التلبينة)) ((نه)): التلبينة حسو رقيق يتخذ من الدقيق واللبن. وقيل: من الدقيق والنخالة، وقد يجعل فيه العسل، سميت بذلك تشبيها باللبن لبياضها ورقتها، وهو مرة من التلبين، مصدر لبن القوم إذا أسقاهم اللبن. وقوله: ((مجمة)) أي مريحة من الجمام وهو الراحة ومنه فرس جمام أي ذو جمام. الحديث التاسع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يتتبع الدباء)) ((حس)): فيه دليل على أن الطعام إذا كان مختلفا يجوز أن يمد يده إلى ما لا يليه، إذا لم يعرف من صاحبه كراهة. قوله: ((بعد يومئذ)) يحتمل أن يكون بعد مضافا إلى ما بعده، كما جاء في شرح السنة: ((بعد ذلك اليوم)). وأن يكون مقطوعا عن الإضافة، وقوله: ((يومئذ)) بيان للمضاف إليه المحذوف. ((مح)): وإنما نهى عن ذلك لئلا يتقذره جليسهن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد بل يتبركون بآثاره. ألا ترى أن أنسا كيف قال: ((فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه)) في الرواية الأخرى؟. وقد كانوا يتركون ببصاقه ونخامته صلى الله عليه وسلم ويتلذذون بذلك وشرب بعضهم بوله وبعضهم دمه. والدباء وهو اليقطين وهو بالمد المشهور. وحطى فيه القصر أيضا الواحدة دباءة أو دباة. الحديث العشرون عن عمرو: قوله: ((يحتز)) ((تو)): هو بالحاء المهملة والزاي بعدها، وهكذا أورده صاحب النهاية في باب الحاء المهملة والزاي.

4182 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. رواه البخاري. 4183 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم. فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به، فجعل يأكل به ويقوم: ((نعم الإدام الخل، نعم الإدام الخل)) رواه مسلم. 4184 - وعن سعيد بن زيد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((من المن الذي أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام)). 4185 - وعن عبد الله بن جعفر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء. متفق عليه. 4186 - وعن جابر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجني الكباث، فقال: ((عليكم بالأسود منه؛ فإنه أطيب)) فقيل: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((نعم، وهل من نبي إلا رعاها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن جابر: قوله: ((الأدم)) هو جمع الإدام ككتب وكتاب ((فا)): الإدام اسم لكل ما يؤتدم به ويصطبغ، وحقيقته ما يؤتدم به الطعام أي يصلح، وهذا يجيئ لما يفعل به كثيرا كالركاب لما يركب به، والحرام لما يحرم به. ((خط)): فيه مدح الاقتصاد في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة. ((مح)): وفي معناه ما يخف مؤنته ولا يعز وجوده، وفيه أن من حلف أن لا يأتدم، فأتدم بخل حنث. الحديث الثالث والعشرون عن سعيد: قوله: ((الكمأة)) ((نه)): الكمأة معروفة واحدتها كموء على غير قياس، وهي من النوادر؛ فإن القياس هو العكس. قيل: هو نبت يكون بالبرية تنشق عنه الأرض، وسيجيء بحثه في الحديث الرابع في الفصل الثالث من كتاب الطب والرقي. الحديث الرابع والعشرون عن عبد الله: قوله: ((بالقثاء)) ((مح)): فيه جواز أكل الطعامين معا والتوسع في الأطعمة، ولا خلاف بين العلماء في جواز هذا، وما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا، محمول على كراهية اعتياد التوسع والترفه والإكثار منه لغير مصلحة دينية. الحديث الخامس والعشرون عن جابر: قوله: ((نجني الكباث)) ((مح)): الكباث بفتح الكاف وبعدها باء موحدة مخففة ثم ألف ثم تاء مثلثة، قيل: هو من ثمر الأراك.

4187 - وعن أنس، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعيا يأكل تمرا. وفي رواية يأكل منه أكلا ذريعا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وهل من نبي إلا رعاها)) ((خط)): يريد أن الله تعالى لم يضع النبوة في أبناء الدنيا وملوكها، لكن في رعاء الشاء وأهل التواضع من أصحاب الحرف، كما روى أن أيوب كان خياطا وزكريا كان نجارا. وقد قص الله تعالى من نبأ موسى وكونه أجيرا لشعيب في رعي الغنم ما قص. ((مح)): فيه فضيلة رعي الغنم قالوا: والحكمة في رعاية الأنبياء لها؛ ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفي قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة. روى الشيخ أبو القاسم في التخيير: أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، فقال له: تدري لم رزقتك النبوة؟ فقال: يا رب أنت أعلم به، فقال: تذكر اليوم الذي كنت ترعى الغنم بالموضع الفلاني فهربت شاة، فعدوت خلفها فلما لحقتها لم تضربها وقلت: أتعبتني وأتعبت نفسك، فحين رأيت منك تلك الشفقة على ذلك الحيوان رزقتك النبوة. ((مظ)): يعني أكنت ترعى الغنم حتى عرفت أطيب الكباث؟ لأن راعي الغنم يكثر تردده تحت الأشجار. الحديث السادس والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((مقعيا)) أي جالسا على أليتيه ناصبا ساقيه، وهو في معنى الحديث الآخر في صحيح البخاري: ((لا آكل متكئا)) على ما فسره الإمام الخطابي، يعني لا آكل أكل من يريد الاستكثار من الطعام ويقعد له متمكنا، بل أقعد مستوفزا وآكل قليلا. وقوله: ((أكلا ذريعا)) مستعجلا وكان استعجاله لاستيفائه لأمر أهم من ذلك، فأسرع في الأكل ليقضي حاجته منه ويرد الجوعة ثم يذهب في ذلك الشغل. الحديث السابع والعشرون عن ابن عمر: قوله: ((حتى يستأذن أصحابه)) ((حس)): فيه دليل على جواز المناهدة في الطعام وهي أن يخرجوا نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، وكان المسلمون لا يرون بها بأسا، وإن تفاوتوا في الأكل عادة، إذا لم يقصد مغالبة صاحبه. ((مظ)): إنما جاء النهي عن القران لعلة معلومة، وهي ما كان القوم فيه من شدة العيش وضيق المقام. فأما اليوم مع اتساع الحال فلا حاجة إلى الإذن. ((مح)): وليس كما قال الخطابي، بل الصواب التفصيل كما سنذكره؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لو ثبت، فكيف وهو غير ثابت؟، وذلك أن الطعام إذا كان مشتركا بينهم فالإقران حرام إلا برضاهم إما تصريحا منهم أو ظنا قويا منهم، وإن شك فيه فهو حرام، وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه القران. ثم إن كان في الطعام قلة فلا يحسن القران بل يساويهم. وإن كان كثيرا بحيث يفضل عنهم فلا بأس به، لكن الأدب مطلقا التأدب في الأكل وترك الشره إلا أن يكون مستعجلا كما سبق.

4188 - وعن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه. متفق عليه. 4189 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجوع أهل بيت عندهم التمر)). وفي رواية: قال: ((يا عائشة! بيت لا تمر فيه، جياع أهله)) قالها مرتين أو ثلاثا. رواه مسلم. 4190 - وعن سعد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) متفق عليه. 4191 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في عجوة العالية شفاء، وإنها ترياق أول البكرة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لا تمر فيه جياع أهله)) ((مح)):فيه فضيلة التمر وجواز الادخار للعيال والحث عليه. أقول: يمكن أن يحمل على الحث على القناعة في بلاد يكثر فيه التمر، يعني بيت فيه تمر وقنعوا به لا يجوع أهله. وإنما الجائع من ليس عنده تمر، وينصره الحديث الآتي قوله: ((كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء)). الحديث التاسع والعشرون عن سعد: قوله: ((من تصبح)) ((نه)): هو تفعل من ((صبحت القوم)) إذا سقيتهم الصبوح، وصبحت بالتشديد لغة فيه فاستعير للأكل. والعجوة نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني، يضرب إلى السواد من غرس النبي صلى الله عليه وسلم. ((مظ)): يحتمل أن يكون في ذلك النوع من التمر خاصية تدفع السم والسحر، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لذلك النوع من التمر بالبركة، وبما يكون فيه من الشفاء. ((مح)) فيه فضيلة تمر المدينة وعجوتها وفضيلة التصبح بسبع تمرات فيه، وتخصيص عجوة المدينة وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها فيجب الإيمان بها واعتقاد فضلها والحكمة فيها. وهذا كأعداد الصلوات ونصب الزكوات وغيرها. الحديث الثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ترياق)) ((مح)): هو بكسر التاء وضمه لغتان. ويقال: درياق أيضا. والعالية ما كان من الحوائط والقرى والعمارات من جهة المدينة العليا مما يلي نجدا، والسافلة من الجهة الأخرى مما يلي تهامة. وأدنى العالية ثلاثة أميال، وأبعدها ثمانية من المدينة.

4192 - وعنها، قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء، إلا أن يؤتى باللحيم. متفق عليه. 4193 - وعنها، قالت: ما شبع آل محمد يومين من خبز بر إلا وأحدهما تمر. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أول البكرة)) ظرف للخبر على تأويل أنها نافعة للسم، كقوله تعالى: {وهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} أي معبود فيها. وهذه الجملة معطوفة على الأولى إما على سبيل البيان، كما في قوله تعالى: {وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أو على أنه من عطف الخاص على العام اختصاصا ومزية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها)). الحديث الحادي والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلا أن يؤتى باللحيم)) ((مظ)): أي لا نطبخ شيئا إلا أن يؤتى باللحم فحينئذ نوقد النار، ولو قيل: أن يؤتى منصوب بنزع اللام على أنه مفعول له لكان وجها حسنا، لا غبار عليه من التكلف البعيد أي لا نوقد لشيء من الأشياء إلا أن يؤتى، ولا يحملنا على ذلك إلا إتيان اللحيم، وإنما لم نقل منصوب على المفعول له مطلقا، بل قيدنا بنزع الخافض. لفقدان الشرط وهو انتفاء كونه فعلا لفاعل الفعل المعلل. أقول: ظاهره مشعر بأنه استثناء منقطع، والأظهر أن يكون متصلا؛ لأن ((أن يؤتى)) مصدر والوقت مقدر، فيكون المستثنى منه المجرور في ((فيه)) العائد إلى ((الشهر))، ويجوز أن يكون مستثنى مما يفهم من قوله: ((إنما هو التمر والماس)). والمعنى: ما المأكول إلا تمر وماء، إلا أن يؤتى باللحيم، فحينئذ يكون المأكول لحما. الحديث الثاني والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلا وأحدهما تمرا)) إما مستثنى من أعم عام الأحوال أو الأوصاف على مذهب صاحب الكشاف، يعني استقرئت من آل محمد يومين يومين، فلم أجد يومين موصوفين بصفة من الأوصاف إلا بأن أحد اليومين يوم تمر والآخر يوم خبز. وقد عرف عرفا أن ذلك ليس بشبع، فلا يكون ثمة شبع. وينصره قوله: ((ما شبعنا من الأسودين)) وهو على لغة بني تميم. قال المالكي في شرح التسيهل: لغة بني تميم إعطاء المنقطع المؤخر من مستثنيات إلا في

4194 - وعنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبعنا من الأسودين. متفق عليه. 4195 - وعن النعمان بن بشير، قال: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه. رواه مسلم. 4196 - وعن أبي أيوب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل منه، وبعث بفضله إلي، وإنه بعث إلي يوما بقصعة لم يأكل منها لأن فيها ثوما، فسألته: أحرام هو؟ قال: ((لا، ولكن أكرهه من أجل ريحه)) قال: فإني أكره ما كرهت. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ غير الإيجاب من الإتباع ما للمتصل، فيقولون: ما فيها أحد إلا زيد، كما يقول الجميع. وعلى لغتهم قول الآخر: وبلدة ليس فيها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ويلحق بهذا إتباع أحد المتباينين الآخر نحو: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، فقوله في الحديث: ((بخبز شعير)) واقع موقع زيد في هذا المثال للتأكيد. الحديث الثالث والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من الأسودين)) ((تو)): الأسودان التمر والماء، والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد. والعرب تفعل ذلك في الشيئين يصطحبان ويسميان معا باسم الأشهر منهما. هذا قول أصحاب الغريب، وقد بقي عليه بقية؛ وذلك أنهم لم يبينوا وجه التسوية بين الماء والتمر في العوز، ومن المعلوم أنهم كانوا في سعة من الماء. وإنما قالت ذلك؛ لأن الري من الماء لم يكن ليحصل لهم من دون الشبع من الطعام؛ فإن أكثر الأمم لا سيما العرب، يرون شرب الماء على الريق بالغا في المضرة فقرنت بينهما لعوز التمتع بأحدهما بدون الإصابة من الآخر، وعبرت عن الأمرين – اعني الشبع والري – بفعل واحد كما عبرت عن التمر والماء بوصف واحد. ((مظ)): يعني ما شبعنا من التمر والماء من التقوى لا من العوز. الحديث الرابع والثلاثون عن النعمان: قوله: ((ما شئتم)) صفة مصدر محذوف، أي ألستم منغمسين في طعام وشراب مقدار ما شئتم من التوسعة والإفراط فيه؟. فـ ((ما)) موصولة وبجوز أن تكون مصدرية، والكلام فيه تعيير وتوبيخ؛ ولذلك أتبعه بقوله: ((لقد رأيت نبيكم)) و ((رأيت)) إذا كان بمعنى النظر يكون ((وما يجد)) حالا، وإن كان بمعنى العلم فيكون مفعولا ثانيا. وأدخل الواو تشبيها له بخبر ((كان)) وأخواتها على مذهب الأخفش والكوفي، ((والدقل)) رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص. الحديث الخامس والثلاثون عن أبي أيوب: قوله: ((بعث إلي يوما بقصعة لم يأكل منها)) كذا

4197 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل ثوما أو بصلا، فليعتزلنا)) أو قال: ((فليعتزل مسجدنا. أو ليقعد في بيته)). وإن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا، فقال: ((قربوها)) – إلى بعض أصحابه، وقال: (0كل، فإني أناجي من لا تناجي)) متفق عليه. 4198 - وعن المقدام بن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه)) رواه البخاري ـــــــــــــــــــــــــــــ في صحيح مسلم، وفي بعض نسخ المصابيح وفي سائرها لفظة ((قصعة)) و ((منها))، ساقطتان. قوله: ((أحرام هو؟)) السؤال راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما بعثه إليه ليأكله فلا يكون عليه حراما، ولذلك قال: ((لا ولكن أكرهه)). وقوله: ((أكرهه من أجل ريحه)) هذا ليس بعيب للطعام بل بيان للمانع من الحضور في المسجد ومخالطة الكبار. ((مح)): فيه تصريح بإباحة الثوم لكن يكره لمن أراد حضور الجماعة، ويلحق به كل ماله رائحة كريهة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترك الثوم دائما؛ لأنه يتوقع مجيء الملائكة والوحي كل ساعة. واختلفوا في الثوم والبصل والكراث في حقه صلى الله عليه وسلم، فقال بعض أصحابنا: هي محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا)) في جواب قوله: ((أحرام هو؟)). ومن قال بالأول يقول: معناه ليس بحرام في حقكم. وفيه أنه يستحب للآكل والشارب أن يفضل مما يأكل ويشرب. الحديث السادس والثلاثون عن جابر: قوله: ((بقدر)) ((تو)): رواية البخاري في كتابه بالقاف. وقيل: إن الصواب فيه ((أتى ببدر)) بالباء أي بطبق وهو طبق يتخذ من الخوص. ولعله سمي بذلك باستدارته استدارة البدر. ((مح)): ((أتى بقدر)) هكذا هو في نسخ صحيح مسلم، ووقع في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ((أتى ببدر)) ببائين موحدتين. قال العلماء: هذا هو الصواب وفسر الرواة وأهل اللغة والغريب البدر بالطبق. و ((خضرات)) بفتح الخاء وكسر الضاد، أي بقول خضرات، ورواه بعضهم بضم الخاء وفتح الضاد. قوله: ((إلى بعض أصحابه)) لعل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم قربوها إلى فلان بقرينة قوله: ((كل))، فأتى الراوي معنى ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم؛ لكونه لم يتذكر التصريح باسمه فعبر عنه ببعض أصحابه. الحديث السابع والثلاثون عن المقدام: قوله: ((كيلوا طعامكم)) ((مظ)): الغرض من كيل الطعام معرفة مقدار ما يستغرض الرجل ويبيع ويشتري؛ فإنه لو لم يكل لكان ما يبيعه ويشتريه

4199 - وعن أبي أمامة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: ((الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا)) رواه البخاري. 4200 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم. وسنذكر حديثي عائشة وأبي هريرة: ما شبع آل محمد، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا في ((باب فضل الفقراء)) إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ مجهولا، ولا يجوز ذلك. وكذلك لو لم يكل ما ينفق على العيار ربما يكون ناقصا عن قدر كفايتهم، فيكون النقصان ضررا عليهم. وقد يكون زائدا على قدر كفايتهم، ولم يعرف ما يدخر لتمام السنة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكيل؛ ليكونوا على علم ويقين فيما يعملون. قمن راعى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد بركة عظيمة في الدنيا وأجرا عظيما في الآخرة. انتهى كلامه. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في زق. فكلته ففنى. قلت: الكيل عند البيع والشراء مأمور به لإقامة القسط والعدل، وفيه البركة والخير، وعند الإنفاق إحصاء وضبط وهو منهي عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا)). الحديث الثاني والثلاثون عن أبي أمامة: قوله: ((غير مكفي)) يروى بالرفع والنصب وكذا ربنا. وفيه وجوه: أحدهما غير مردود ولا مقلوب، والضمير راجع إلى الطعام الذال عليه سياق الكلام. وثانيهما: مكفي من الكفاية فيكون من المعتل، يعني أن الله تعالى هو المطعم والكافي وهو غير مطعم ولا مكفي، فيكون الضمير راجعا إلى الله تعالى. وقوله: ((ولا مودع)) أي غير متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده. وثالثها: أن يكون الكلام راجعا إلى الحمد كأنه قال: ((حمدا كثيرا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه)) أي الحمد. فالضمير راجع إلى الحمد. قوله: ((ربا)) على الأول والثالث منصور على الدعاء وحرف النداء محذوف. وعلى الثاني مرفوع على الابتداء، ((وغير مكفي)) خبره. وهذا من تلخيص كلام ابن السكيت والخطابي من جامع الأصول. الحديث التاسع والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الأكلة)) هو بالفتح للمرة.

الفصل الثاني 4201 - عن أبي أيوب، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقرب طعام، فلم أر طعاما كان أعظم بركة منه أول ما أكلنا، ولا أقل بركة في آخره، قلنا: يا رسول الله! كيف هذا؟ قال: ((إنا ذكرنا اسم الله عليه حين أكلنا، ثم قعد من أكل ولم يسم الله فأكل معه الشيطان)) رواه في ((شرح السنة)). [4201] 4202 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر الله على طعامه؛ فليقل: بسم الله أوله وآخره)). روان الترمذي، وأبو داود. [4202] 4203 - وعن أمية بن مخشى، قال: كان رجل يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة، فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((ما زال الشيطان يأكل معه، فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه)). رواه أبو داود. [4203] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي أيوب: قوله: ((ثم قعد من أكل)) قد سبق عن الشافعي على ما رواه الشيخ محيي الدين: أن واحدا لو سمى في جماعة يأكلون لكفي ذلك وسقط عن الكل، فتنزيله على هذا الحديث أن يقال: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم قعد)) أي قعد بعد فراغنا من الطعام ولم يسم، أو يقال: إن شيطان هذا الرجل جاء معه، فلا تكون تسميتهم مؤثرة فيه ولا هو سمى. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أوله وآخره)) أي آكل أوله وآخره مستعينا باسم الله، فيكون الجار والمجرور حالا من فاعل الفعل المقدر. الحديث الثالث عن أمية: قوله: ((استقاء ما في بطنه)) ((تو)) أي صار ما كان له وبالا عليه مستلبا عنه بالتسمية. وهذا تأويل على سبيل الاحتمال غير موثوق به؛ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلع من أمر الله في بريته على ما لا سبيل لأحد إلى معرفته إلا بالتوقيف من جهته. أقول: وهذا التأويل على ما سبق في حديث حذيفة من الفصل الأول، محمول على ما له حظ من تطيير البركة من الطعام على تفسيره. وأما على تفسير الشيخ محيي الدين فهو ظاهر، والله أعلم.

4204 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)). رواه الترمذي، وأبو داود وابن ماجه. [4204] 4205 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعم الشاكر كالصائم الصابر)) رواه الترمذي. [4205] 4206 - وابن ماجه، والدارمي، عن سنان بن سنة، عن أبيه. 42007 - وعن أبي أيوب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: ((الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مخرجا)) رواه أبو داود. [4207] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كالصائم الصابر)) قد تقرر في علم البيان أن التشبيه يستدعي الجهة الجامعة، والشكر نتيجة النعماء كما أن الصبر نتيجة البلاء. فكيف شبه الشاكر بالصابر؟ وأجاب المظهر بأن هذا تشبيه في أصل استحقاق كل واحد منهما الأجر لا في المقدار. وهذا كما يقال: زيد كعمرو، معناه: زيد يشبه عمرا في بعض الخصال. ولا يلزم المماثلة في جميعها فلا يلزم المماثلة في الأجر أيضا. أقول: قد ورد ((الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر)). وربما يتوهم متوهم أن ثواب شكر الطاعم يقصر عن ثواب صبر الصائم، فأزيل توهمه به، يعني هما سيان في الثواب. ونظيره قولك فعمامة سوداء بحضرة السامع، وهو متردد في لون عمامتك فقلت: لون عمامتي كلون هذه. وفيه وجه آخر وهو أن الشاكر لما رأي النعمة من الله تعالى وحبس نفسه على محبة المنعم بالقلب وأظهرها باللسان نال درجة الصابر. قال: وقيدت نفسي في [ذراك] محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا فيكون التشبيه واقعا في حبس النفس بالمحبة، والجهة الجامعة حبس النفس مطلقا، فأينما وجد الشكر وجد الصبر ولا ينعكس. الحديث السادس عن أبي أيوب: قوله: ((الحمد لله الذي أطعم)) ذكر ها هنا نعما أربعا:

4208 - وعن سلمان، قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4208] 4209 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فقدم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: ((إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي؟ [4209] 4210 - ورواه ابن ماجه، عن أبي هريرة. 4211 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بقصعة من ثريد، فقال: ((كلوا من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها؛ فإن البركة تنزل في وسطها)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي ـــــــــــــــــــــــــــــ الإطعام والسقي والتسويغ وهو تسهيل الدخول في الحلق؛ فإنه خلق الأسنان للمضغ والريق للبلع، وجعل المعدة مقسما للطعام. ولها مخارج: فالصالح منه ينبعث إلى الكبد وغيره يندفع من طريق الأمعاء، وكل ذلك فضل من الله الكريم، ونعمة يجب القيام [بموجبها] * من الشكر بالجنان والثناء باللسان والعمل بالأركان. الحديث السابع عن سلمان: قوله: ((الوضوء قبله)) أراد بالوضوء هنا غسل اليدين وتنظيفهما. وجوابه صلى الله عليه وسلم من الأسلوب الحكيم حيث قرر ما تلقاه به وزاد عليه. ومعنى بركة الوضوء في أول الطعام: النمو والزيادة فيه، وفي آخره: عظم فائدة الطعام باستعمال النظافة. فإذا ترك ذلك ضربه الغم الذي حصل في يده من الطعام، وعاقه عن استمرائه، فالبركة في الأول بمعنى النمو، وفي الآخر بمعنى التعظيم واستدامتها. الحديث الثامن عن ابن عباس: قوله: ((إنما أمرت بالوضوء)) هذا إنما ينطبق على السؤال إذا اعتقد السائل أن الوضوء قبل الطعام واجب، فنفي صلى الله عليه وسلم وجوبه حيث أتى بأداة الحصر وأسند الأمر إلى الله تعالى، فلا ينافي جوابه. والمأمور به هو قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} فلا يتم استدلال الشارحين به على نفي الوضوء قبل الطعام في الحديث السابق.

رواية أبي داود، قال: ((إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن يأكل من أسفلها، فإن البركة تنزل من أعلاها)). [4211] 4212 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط، ولا يطأ عقبه رجلان. رواه أبو داود. [4212] 4213 - وعن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبز ولحم وهو في المسجد، فأكل وأكلنا معه، ثم قام فصلى، وصلينا معه، ولم نزد على أن مسحنا أيدينا بالحصباء. رواه ابن ماجه. [4213] 4214 - وعن أبي هريرة، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها. رواه الترمذي، وابن ماجه. [4214] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن ابن عباس: قوله: ((من أعلى الصحفة)) شبه ما يزيد في الطعام بما ينزل من الأعالي من المائع وما يشبهه، فهو ينصب إلى الوسط ثم ينبث منه إلى الأطراف، فكل ما أخذ من الطرف يجيء من الأعلى بدله، فإذا أخذ من الأعلى انقطع. الحديث العاشر عن عبد الله: قوله: ((ولا يطأ عقبه رجلان)) ((مظ)): يعني من غاية التواضع يمشي في وسط الجمع أو في آخرهم ولا يمشي قدامهم. أقول: لا يساعد هذا التا, يل التشبيه في رجلان، ولعله كناية عن تواضعه صلوات الله عليه، وأنه لم يكن يمشي مشي الجبابرة مع الأتباع والخدم. ويؤيده اقترانه بقوله: ((ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا)) فإنه كان من دأب المترفين. دعا عمر رضي الله عنه على رجل فقال: اللهم إن كان كذب فاجعله موطأ العقب، أي كثير الأتباع، دعا عليه بأن يكون سلطانا أو مقدما أو ذا مال، فيتبعه الناس ويمشون وراءه. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وكانت تعجبه)) ((مح)): [محبته] * صلى الله عليه وسلم للذراع لنضجها وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها وبعدها عن مواضع الأذى. قوله: ((فنهس منها)) ((حس)): فيه استحباب نهس اللهم وهو أخذ ما على العظم من اللحم بأطراف الأسنان، والنهش – بالشين المعجمة – بالأضراس. وقد استحب ذلك تواضعا وطرحا للتكبر، والقطع بالسكين مباح للحديث الذب مر في هذا الباب. وهو قوله: ((يحتز من كتف شاة)) الحديث.

4215 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقطعوا اللحم بالسكين؛ فإنه من صنع الأعاجم، وانهسوه فإنه أهنأ وأمرأ)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقالا: ليس هو بالقوي. [4215] 4216 - وعن أم المنذر، قالت: دخل علي رسول الله ومعه علي، ولنا دوال معلقة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وعلي معه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((مه يا علي! فإنك ناقه)) قالت: فجعلت لهم سلقا وشعيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا علي! من هذا فأصب؛ فإنه أوفق لك)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [4216] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من صنع الأعاجم)) أي من دأبهم وعاداتهم. الكشاف: في قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} كل عامل لا يسمي صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب، يعني لا تجعلوا القطع بالسكين دأبكم وعادتكم كالأعاجم، بل إذا كان نضيجا فانهسوه وإذا لم يكن نضيجا فحزوه بالسكين. ويؤيده قول البيهقي: النهي عن قطع اللحم بالسكين في لحم قد تكامل نضجه، أو على أن ذلك يكون أطيب. قوله: ((أهنأ)) الهني هو اللذيذ الموافق للغرض، وأمرأ، من الاستمراء: وهو ذهاب كظة الطعام وثقله. الحديث الرابع عشر عن أم المنذر: قوله: ((دوال)) واحدتها دالية. ((نه)): الدالية هي العذق من البسر يعلق إذا أرطب أكل، قالوا: الواو فيه منقلبة عن ألف. قوله: ((مه)) الجوهري: هي كلمة بنيت على السكون، وهو اسم سمي به الفعل، ومعناه اكفف. قوله: ((ناقه)) ((قض)): نقه المريض ينقه فهو ناقه إذا برأ وكان قريب العهد بالمرض، ولم ترجع إليه كمال صحته وقوته. قوله: ((فجعلت لهم)) هكذا هو في الأصول الثلاثة وكذا في شرح السنة. وأكثر نسخ المصابيح مغير، جعلوا الضمير في ((لهم)) مفردا ليرجع إلى علي – رضي الله عنه – وهو وهم منهم؛ لأن الضمير راجع إلى أهلها أو الضيفان. وقوله: ((فجعلت)) عطف على ((فقال)) والفاء جواب شرط محذوف، أي إذا منعت عليا من أكل الرطب لكونه ناقها فأعلمكن أني جعلت لأهلي سلقا وشعيرا، فأمره ليصيب منه؛ ومن

4217 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الثفل. رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4217] 4218 - وعن نبيشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أكل في قصعة فلحسها استغفرت له القصهة)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي وقال الترمذي: هذا هديث غريب. [4218] 4219 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بات وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه. [4219] 4220 - (62) وعن ابن عباس، قال: كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز، والثريد من الحيس. رواه أبو داود. [4220] ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أمره صلوات الله عليه بقوله: ((من هذا فأصب)) والفاء فيه جواب شرط محذوف، يعني إذا حصل هذا فخصه بالإصابة، ولا تتجاوز إلى أكل البسر. يدل على الحصر تقديم الجار على عامله، ونظيره قاله تعالى: {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ}، وقوله: ((أوفق)) هنا لمجرد الزيادة. الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الثفل)) هو في الأصل ما يرسب من كل شيء. ((نه)): قال في الحديبية: ((من كان معه ثفل فليصطنع)) أراد بالثفل الدقيق والسويق ونحوهما. وقيل: الثفل هنا الثريد وأنشد: يحلف بالله وإن لم يسأل ما ذاق ثفلا منذ عام أول الحديث السادس عشر عن نبيشة: قوله: ((في قصعة)): جيء ((بفي)) بدل ((من)) مريدا للتمكن من الأكل وإيقاعه في القصهة، كما في قوله: {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ومن ثم أتبعه بقوله: ((فلحسها)). ((تو)): استغفار القصعة عبارة عما تعورف فيها من أمارة التواضع ممن أكل فيها، وبرائته من الكبر، وذلك مما يوجب له المغفرة. فأضاف إلى القصعة لأنها كالسبب لذلك. الحديث السابع عشر عن أي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((غمر)) ((نه)): الغمر بالتحريك الدسم والزهومة من اللحم كالوضر من السمن. وقوله: ((فأصابه شيء)) أي إيذاء من الهوام وذلك؛ لأن الهوام وذوات السموم ربما تقصده في المنام لرائحة الطعام في يده فتؤذيه. الحديث الثامن عشر عن ابن عباس: قوله: ((من الحيس)) هو طعام يتخذ من التمر والدقيق والسمن وأصلح الخلط.

4221 - وعن أبي أسيد الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا الزيت وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة)). رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [4221] 4222 - وعن أم هانئ، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أعندك شيء؟)) قلت: لا، إلا خبز يابس وخل. فقال: ((هاتي، ما أقفر بيت من أدم فيه خل)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4222] 4223 - وعن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز الشعير، فوضع عليها تمرة، فقال: ((هذه إدام هذه)) وأكل. رواه أبو داود. [4223] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عشر والعشرون عن أم هانئ: قوله: ((قلت: لا إلا خبزا)) المستثنى منه محذوف، والمستثنى بدل منه، ونظيره في الصحاح قول عائشة رضي الله عنها: ((لا إلا شيء بعثت به أم عطية)). قال المالكي: فيه شاهد على إبدال ما بعد إلا من محذوف؛ لأن الأصل: لا شيء عندنا إلا شيء بعثت به أم عطية. انتهى كلامه. فإن قلت: من حق أم هانئ أن تجيب بـ ((بلى عندي خبز)) فلم عدلت عنه إلى تلك العبارة؟ قلت: كأنها [عظمت] * شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأت أن الخبز اليابس والخل لا يصلحان أن يقدما إلى مثل ذلك الضيف، فما عدتهما بشيء؛ ومن ثم حسنت المطابقة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أقفر بيت فيه خل)). قوله: ((من أدم)) متعلق بـ ((أقفر)). وقوله: ((فيه خل)) صفة بيت، وقد فصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي، وهو لا يجوز. ويمكن أن يقال: إنه حال، وذو الحال على تقدير الموصوفية أي بيت من البيوت. ((نه)): ((ما أقفر ليت فيه خل)) أي ما خلا من الإدام ولا عدم أهله الأدم. والقفار الطعام بلا ادم. وأقفر الرجل إذا كان الخبز وحده من القفر والقفار، وهي الأرض الخالية التي لا ماء فيها. الحديث الحادي والعشرون عن يوسف: قوله: ((هذه إدام هذه)) لما كان التمر طعاما مستقلا ولم يكن متعارفا بالأدوية فأخبر أنه يصلح لها. ((حس)): من حلف أن لا يأكل خبزا بإدام فأكله بتمر يحنث. وكذلك إذا أكله بملح أو ثوم أو بصل.

4224 - وعن سعد، قال: مرضت مرضا أتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، وقال: ((إنك رجل مفؤود أئت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة، فليجأهن بنواهن، ثم ليلدك بهن)). رواه أبو داود. [4224] 4225 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب. رواه الترمذي. وزاد أبو داود: ويقول: ((يكسر حر هذا ببرد هذا، ويرد هذا بحر هذا)). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4225] 4226 - وعن أنس، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر عتيق، فجعل يفتشه ويخرج السوس منه. رواه أبو داود. [4226] 4227 - وعن ابن عمر، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك، فدعا بالسكين، فسمى وقطع. رواه أبو داود. [4227] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والعشرون عن سعد: قوله: ((رجل مفؤود)) ((تو)): المفؤود الذي أصابه داء في فؤاده. وأهل اللغة يقولون: الفؤاد هو القلب. وقيل: هو غشاء القلب أو كان مصدرا فكنى به لكونه محله. وإنما نعت له العلاج بعدما أحال إلى الطبيب، لما رأي هذا النوع من العلاج أيسر وأنفع، أو ليثق على قول الطبيب إذا رآه موافقا لما نعته. وفيه جواز مشاورة أهل الكفر في الطب؛ لأن الحارث بن كلدة الثقفي مات في أول الإسلام ولم يصح إسلامه. قوله: ((من عجوة المدينة)) ((قض)): هو ضرب من أجود التمر بالمدينة، ونخلها يسمى لينة. وتخصيص المدينة إما لما فيها من البركة التي جعلت فيها بدعائه؛ أو لأن ثمرها أوفق لمزاجه من أجل تعوده بها. وقوله: ((فليجأهن)) أي فليكسرهن بالدق مع نواهن. ((ثم ليلدك)) أي ليسقيك، من لده الدواء إذا صبه في فمه. واللدود ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم. وإنما أمر الطبيب بذلك؛ لأنه يكون أعلم باتخاذ الدواء وكيفية استعماله. الحديث الثالث والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يكسر حر هذا ببرد هذا)) لعل البطيخ كان نيا غير نضيج فهو حيثئذ بارد. الحديث الرابع والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله ((فجعل يفتشه)) ((مظ)): أي فطفق يشق التمر فيعزل عنه الدود. وفيه دليل على أن الطعام لا ينجس بدود يقع فيه. الحديث الخامس والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((بجبنة في تبوك)) ((مظ)):

4228 - وعن سلمان، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)). رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب وموقوف على الأصح. [4228] 4229 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن)) فقام رجل من القوم فاتخذه، فجاء به، فقال: ((في أي شيء كان هذا؟)) قال: في عكة ضب. قال: ((ارفعه)). رواه أبو داود، وابن ماجه. وقال أبو داود: هذا حديث منكر. [4229] 4230 - وعن علي رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم إلا مطبوخا. رواه الترمذي، وأبو داود. [4230] ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه دليل على طهارة الأنفحة لأنها لو كانت نجسه لكان الجبن نجسا؛ لأنه لا يحصل إلا بها. الحديث السادس والعشرون عن سلمان: قوله: ((والفراء)) ((قض)): الفراء بالمد جمع الفراء: وهو حمار الوحش. وقيل: هو هنا جمع الفرو الذي يلبس، ويشهد له أن بعض المحدثين أورده في باب ما يلبس. أقول: يعني بقوله: بعض المحدثين الترمذي؛ فإنه ذكره في باب لبس الفراء، وذكره ابن ماجه في باب السمن والجبن. الحديث السابع والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وددت)) ((قض)): أي تمنيت والسمراء من الصفات الغالبة فلبت على الحنطة فاستعملها ها هنا على الأصل. وقيل: هي نوع من الحنطة فيها سواد خفي، ولعله أحمد الأنواع عندهم. والملبقة بالسمن المبلولة المخلوطة به خلطا شديدا، يقال: ثريدة ملبقة إذا بلت وخلطت خلطا شديدا، من التلبيق وهو التبليل. والعكة القربة الصغيرة. وإنما أمر برفعه لتنفير طبعه عن الضب كما دل عليه حديث خالد، لا لنجاسة جلده وإلا لأمره بطرحه ونهاه عن تناوله. هذا الحديث مخالف لما كان عليه من شيمته صلى الله عليه وسلم وكيف وقد أخرج مخرج التمني، ومن ثم صرح أبو داود بكونه منكرا.

4231 - وعن أبي زياد، قال: سئلت عائشة عن البصل. فقالت: إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام فيه بصل. رواه أبو داود. [4231] 4232 - وعن ابني بسر السلميين، قالا: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمنا زبدا وتمرا، وكان يحب الزبد والتمر. رواه أبو داود. [4232] 4233 - وعن عكراش بن ذؤيب، قال: أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر، فخبطت بيدي في نواحيها، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى. ثم قال: ((يا عكراش! كل من موضع واحد؛ فإنه طعام واحد)) ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر، فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، فقال: ((يا عكراش! كل من حيث شئت؛ فإنه غير لون واحد)) ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه، وقال: ((يا عكراش! هذا الوضوء مما غيرت النار)) رواه الترمذي. [4233] 4234 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع، ثم أمرهم فحسوا منه، وكان يقول: ((إنه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والعشرون والتاسع والعشرون عن أبي زياد: قوله: ((طعام فيه بصل)) ((مظ)): إنما أكله صلوات الله عليه حينئذ؛ ليبين للناس أنه ليس بحرام، وأن نهيه عن الثوم والبصل نهي تنزيه لا نهي تحريم. أقول: قد بين في حديث أبي أيوب على ما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرهه لأجل ريحه، وما كان مطبوخا، لا سيما البصل لم تكن له رائحة. الحديث الثلاثون عن عكراش: قوله: ((والوذر)) هي قطع اللحم التي لا عظم فيها وهي جمع وذرة. قوله: ((فخبطت)) أي ضربت فيها من غير استواء، من قولهم خبط خبط عشواء. وراعى الأدب حيث قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجولان. وقوله: ((ما غيرت النار)) خبر المبتدأ و ((من)) ابتدائية أي هذا الوضوء لأجل طعام طبخ بالنار. الحديث الحادي والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بالحساء)) ((نه)): هو بالفتح والمد طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يحلى، ويكون رقيقا يحسى. وقوله: ((ليرتو)) أي

4235 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العجزة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)). رواه الترمذي. [4235] الفصل الثالث 4236 - عن المغيرة بن شعبة، قال: ضفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأمر بجنب فشوى، ثم أخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى الشفرة، فقال: ((ما له تربت يداه)). قال: وكان شاربه وفاء. فقال لي: ((أقصه على سواك؟ - أو - قصه على سواك)). رواه الترمذي. [4236] 4237 - وعن حذيفة، قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم نضع أيدينا حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ يشده ويقويه. قوله: ((ويسرو)) ((فا)): السرو الكشف. يقال: سروت عنه الثوب وسريته، ومنه سرى عن فلان أي كشف. الفصل الثالث الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((ضفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي نزلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ضيفين له. قال صاحب المغرب: ضاف القوم ويضيفهم نزل عليهم ضيفا، وأضافوه وضيفوه أنزلوه. قوله: ((يؤذنه)) ((نه)): يقال: آذن يؤذن إيذانا وأذن يؤذن تأذينا، والمشدد مختص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة. قوله: ((تربت يداه)) هي كلمة تقولها العرب عند اللوم، ومعناه الدعاء بالفقر والعدم، وقد يطلقونها ولا يريدون وقوع الأمر، كأنه صلى الله عليه وسلم كره تأذينه وهو مشتغل بالطعام. وقال - أي المغيرة - وكان شاربه وفاء)) أي تماما، فقال صلى الله عليه وسلم لي: ((أقصه)) فوضع مكان ضمير المتكلم الغائب إما تجريدا أو التقاتا. ويحتمل أن يكون الضمير في ((شاربه)) لـ ((بلال)) فيكون التقدير: قال بلال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحتم أن يكون الضمير في ((شاربه)) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قوله: ((أفصه لك)) أي لأجلك تتبرك به، وكل هذه تكلفات لا تشفي الغليل؛ ومن ثم تردد الإمام وقال في شرح السنة: قلت: قد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا طويل الشارب فدعا بسواك وشفرة، فوضع السواك تحت شاربه ثم جزه. وهذا الحديث ليس في بعض نسخ المصابيح، وفي بعضها مذكور في قسم الصحاح. وقد ذكر في شرح السنة بإسناد الترمذي، فالحديث ملحق به من غير المؤلف وموضوع في غير موضعه. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((كأنها تدفع)) ((مح)): وفي رواية ((تطرد)) يعني لشدة

يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذه بيده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدى مع يدها)). زاد في رواية: ثم ذكر اسم الله وأكل. رواه مسلم. 4238 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يشتري غلاما، فألقى بين يديه تمرا فأكل الغلام فأكثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كثرة الأكل شؤم)) وأمر برده. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4238] 4239 - وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيد إدامكم الملح)). رواه ابن ماجه. [4239] 4240 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع الطعام فاخلعوا نعالكم؛ فإنه أروح لأقدامكم)). [4240] 4241 - وعن أسماء بنت أبي بكر: أنها كانت إذا أتيت بثريد أمرت به فغطى، حتى تذهب فورة دخانه، وتقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هو أعظم للبركة)). رواهما الدارمي. [4241] ـــــــــــــــــــــــــــــ سرعتها كأنها مطرودة أو مدفوعة. قوله: ((إن يده في يدي مع يدها)) الظاهر يدهما كما جاء في رواية أخرى، أي يد الشيطان مع يد الرجل والجارية في يدي. ((مح)): أما عن رواية يدها بالإفراد فالضمير للجارية وهي أيضا مستقيمة؛ لأن إثبات يدها لا ينفي يد الأعرابي. وإذا صلحت الرواية بالإفراد وجب قبولها وتأويلها والله أعلم. الحديث الثالث والرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سيد إدامكم الملح)) لأنه أقل مؤنة واقرب إلى القناعة؛ ومن ثم اقتنع به أكثر العارفين. الحديث الخامس والسادس عن أسماء: قوله: ((فورة دخانه)) أي غليان بخاره و ((حتى)) ليست بمعنى ((كي)) بل لمطلق الغاية. وقوله: ((أعظم للبركة)) أي عظيم البركة.

(1) باب الضيافة

4242 - وعن نبيشة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل في قصعة ثم لحسها، تقول له القصعة: أعتقك الله من النار كما أعتقتني من الشيطان)). رواه رزين. [4242] (1) باب الضيافة الفصل الأول 4243 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)). وفي رواية: بدل ((الجار)). ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليصل رحمه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن نبيشة: قوله: ((ثم لحسها)) ((ثم)) للتراخي في الرتبة أي لحسها أكمل من مجرد الأكل منها؛ ولهذا عقبه بقوله: ((تقول له)) والقول هنا يحتمل أن يكون حقيقة وأن يكون استعارة، كما في قول الشاعر: تقول الأنساع للبطن الحقي باب الضيافة ((غب)): أصل الضيف الميل يقال: ضفت إلى كذا وأضيفت كذا إلى كذا. والضيف من مال إليك نازلا بك، صارت الضيافة متعارفة في القرى. وأصل الضيف مصدر، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع في عامة كلامهم. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فليكرم ضيفه)) ((حس)): قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ}. قيل: أكرمهم إبراهيم عليه السلام بتعجيل قراهم والقيام بنفسه عليهم، وطلاقة الوجه، وكان سلمان إذا دخل عليه رجل فدعا بما حضر خبزا وملحا، وقال: لولا أنا نهينا أن يتكلف بعضنا بعضا لتكلفت لك. ((مح)): قال القاضي عياض: من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وضيفه وبرهما، وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إلى الجار، والضيافة من محاسن الشريعة ومكارم الأخلاق.

4244 - وعن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقد أوجبها الليث ليلة واحدة، واحتج بحديث عقبة: ((إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)). وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق. وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((جائزته يوم وليلة))، والجائزة العطية والمنحة والصلة، فذلك لا يكون إلا مع الاختيار. وقوله: ((فليكرم ضيفه)) يدل على هذا أيضا؛ إذ ليس يستعمل مثله في الواجب. وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة. واختلف: هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادي خاصة؟ فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أنها عليهما. وقال مالك وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي؛ لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواذع النزول، وما يشتري في الأسواق، هذا كلام القاضي. وأما قوله: ((فليقل خيرا أو ليصمت)) فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلم به خير محققا يثاب عليه، واجبا كان أو مندوبا فليتكلم. وإن لم يظهر له خيره فليمسك عنه سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة من الجرارة إلى الحرام. وقال الشافعي في معنى الحديث: من أراد أن يتكلم فليتفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه، تكلم، وإن ظهر له فيه ضرر أو شك فيه امسك. وقال بعض علماء المالكية: جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) ((ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، وقوله للذي اختصر له الوصية. ((لا تغضب)) وقوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). الحديث الثاني عن أبي شريح: قوله ((جائزته يوم وليلة)) ((فا)): الجائزة من أجازه بكذا إذا أتحفه وألطفه كالفاضلة واحدة الفواضل من أفضل عليه. ((حس)): سئل عن ذلك مالك بن أنس فقال: يكرمه ويتحفه يوما وليلة. قوله: ((والضيافة ثلاثة أيام)) ((نه)): أي يضاف ثلاثة أيام فيتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما حضر ولا يزيد على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة. وهو قدر ما يجوز به المسافة من منهل إلى منهل، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك.

4245 - وعن عقبة بن عامر، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا: ((إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا؛ فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): قد صح عن عبد الحميد عن ابن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة)). قال: وهذا يدل على أن الجائزة بعد الضيافة، وهو أن يقري ثلاثة أيام ويعطي ما يجوز به مسافة يوم وليلة. أقول: ((جائزته)) إلى آخره، جملة مستأنفة بيان للأولى، كأنه قيل: كيف يكرمه؟ فأجيب: جائزته. ولا بد من تقدير مضاف أي: زمان جائزته، أي بره وإلطافه يوم وليلة. وفي هذا الحديث يحمل على اليوم الأول، وفي الحديث الآخر على اليوم الآخر أي: قدر ما يجوز به المسافر ما يكفيه يوما وليلة، فينبغي أن يحمل على هذا عملا بالحديثين. قوله: ((أن يثوى عنده)) ((فا)): هو من الثواء وهو الإقامة، والحراج التضييق. الحديث الثالث عن عقبة: قوله: ((لا يقروننا)) بإثبات النون، وفي أصل المالكي بإسقاطه، قال: حذف نون الرفع موضع الرفع لمجرد التخفيف، ثابت في الكلام الفصيح نثره ونظمه. فمن النثر قول الراوي لعائشة رضي الله عنها: بلغنا أنك تصليهما يعني الركعتين بعد العصر، وقول مسروق لها: لم تأذني له؟ يعني حسان رضي الله عنه. ومنه ما رواه البغوي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنزا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) ومن النظم قول أبي طالب: فإن سرقوا ما بعض ما قد صنعتموا ستحتلبوها [لا قحا] * غير باهل وسبب هذا الحذف كراهية تفضيل النائب على المنوب عنه، وذلك أن النون نائب عن الضمة، والضمة قد حذفت لمجرد التخفيف، كقراءة أبي عمرو بتسكين راء ((يشعركم ويأمركم وينصركم)). قوله: ((ينبغي لهم)) هكذا هو في صحيح مسلم والحميدي وشرح السنة. وقد غيروا في المصابيح إلى ((له))، ولم ينتبهوا على أن الضيف مصدر يستوي فيه الجمع والواحد. قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ} ((مح)): قد حمل أحمد والليث الحديث على ظاهره، وتأوله الجمهور على وجوه: أحدها: أنه محمول على المضطرين فإن ضيافتهم واجبة. ثانيها: أن المعنى إن لكم أن تأخذوا من أعراضكم بألسنتكم وتذكروا للناس لومهم.

4246 - وعن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟)) قالا: الجوع قال: ((وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا)) فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين فلان؟)) قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري ـــــــــــــــــــــــــــــ وثالثها: أن هذا كان في أول الإسلام وكانت المواساة واجبة، فلما أشيع الإسلام نسخ، وهذا التأويل باطل؛ لأن الذي ادعاه المؤول لا يعرف قائله. ورابعها: أنه محمول على من بأهل الذمة الذي شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وهذا أيضا ضعيف إنما صار هذا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الجوع)) ((مح)): فيه جواز ذكر الإنسان ما ناله من ألم ونحوه، لا على التشكي وعدم الرضاء وإظهار الجزع. ولما كانا رضي الله عنهما على المراقبة ولزوم الطاعة، فعرض لهما هذا الجوع المفرط المانع من كمال النشاط بالعبادة وتمام التلذذ بها، سعيا في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح يدفعانه به. وقد نهى عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين وبحضرة الطعام. وقوله: ((فإنا)) بالفاء في بعض النسخ وفي بعضها بالواو. وقوله: ((قوموا فقاموا)) هكذا هو في الأصول بضمير الجمع وهو جائز، فمن قال: بأن أقل الجمع اثنان فظاهر. ومن قال بأن أقله ثلاثة فمجاز. قوله: ((فأتى رجلا)) ((شف)): إفراد الضمير وإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله: ((قوموا فقاموا)) إيان بأنه صلى الله عليه وسلم المطاع، وأنهما كانا مطيعين ومنقادين كمن لا اختيار له. ((مح ((: الرجل هو أبو الهيثم مالك بن التيهان بفتح التاء وكسر الياء المثناة تحت وتشديدها. وفيه جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به واستتباع جماعة إلى بيته. وفيه منقبة له وكفي به شرفا بذلك. وفيه استحباب إكرام الضيف بقوله: ((مرحبا وأهلا)) أي: صادفت رحبا وسعة وأهلا تستأنس بهم، وفيه جواز سماع كلام الأجنبية ومراجعتها الكلام للحاجة. وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها لمن علمت علما محققا أنه لا يكرهه بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة. وقوله: ((فأتى رجلا)) أي بيت رجل أو قصده، فلما بلغ بيته فإذا هو ليس في بيته، أي وقت خلوة من بيته، كقوله تعالى: {إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}

فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياك والحلوب)) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ((والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم)). رواه مسلم. وذكر حديث أبي مسعود: كان رجل من الأنصار في ((باب الوليمة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يستعذب لنا)) أي يأتينا بماء عذب طيب، و ((من)) إما بيانية أو تبعيضية. وقوله: ((إذ جاء الأنصاري)) أي هم في ذلك إذ جاء الأنصاري. ((مح)): في قوله: ((الحمد لله)) استحباب الشكر عند هجوم بغية أو اندفاع نقمة. وفيه استحباب إظهار البشر والفرح بالضيف في وجهه. والعذق هنا بكسر العين الكباسة وهي الغصن من النخل. وفيه استحباب تقديم الفاكهة على الطعام، والمبادرة إلى الضيف بما تيسر، وإكرامه بعده بما يصنع له من الطعام. وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف، وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف. وأما فعل الأنصاري وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه، بل لو ذبح أغناما كان مسرورا بذلك مغبوطا فيه. و ((الحلوب)) ذات اللبن مفعول بمعنى مفعولة. وفي قوله: ((فما أن شبعوا)) دليل على جواز الشبع، وما جاء في كراهته فمحمول على المداومة عليه؛ لأنه يقسي القلب وينسي أمر المحتاجين. قوله: ((أخرجكم من بيوتكم)) إلى آخره جملة مستأنفة بيان لموجب السؤال عن النعيم، يعني حيث كنتم محتاجين إلى الطعام مضطرين إليه، فنلتم غاية مطلوبكم من الشبع والري، يجب أن تسألوا ويقال لكم: هل أديتم شكرها أم لا إله إلا الله. ((مح)): قال القاضي المراد السؤال عن القيام بحق شكره، والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم وإعلام بالامتنان بها وإظهار الكرامة وإشاعتها، لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة. أقول: ويدل على أنه سؤال توبيخ وتقريع الحديث الأول من الفصل الثالث حيث قال: ((فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر)) إلى آخره.

الفصل الثاني 4247 - عن المقدام بن معدي كرب، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيما مسلم ضاف قوما، فأصبح الضيف محروما؛ كان حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ له بقراه من ماله وزرعه)). رواه الدارمي وأبو داود. [4247] وفي رواية له: ((وأيما رجل ضاف قوما فلم يقروه، كان له أن يعقبهم بمثل قراه)). 4248 - وعن أبي الأحوص الجشمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن مررت برجل فلم يقرني ولم يضفني ثم مر بي بعد ذلك، أأقرية أم أجزيه؟ قال: ((بل أقره)) رواه الترمذي. [4248] 4249 - وعن أنس – أو غيره – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة، فقال: ((السلام عليكم ورحمة الله)) فقال سعد: وعليكم السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا، ولم يسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتبعه سعد، فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، ما سلمت تسليمة إلا هي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أحببت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم دخلوا البيت، فقرب له زبيبا، فأكل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال: ((أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون)). رواه في ((شرح السنة)). [4249] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن المقدام: قوله: ((فأصبح الضيف)) مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأن المسلم الذي ضاف قوما يستحق لذاته أن يقرى، فمن منع حقه فقد ظلمه، فحق لغيره من المسلمين نصره. وقوله: ((بقراه)) أي بمثل قراه كما في الرواية الأخرى. وإفراد الضمير في قوله: ((من ماله وزرعه)) باعتبار المنزل عليه والمضيف، وهو واحد. و ((يعقبهم)) أي يتبعهم ويؤاخذهم، وهذا في أهل الذمة من سكان البوادي إذا نول بهم مسلم. الحديث الثاني عن أبي الأحوص: قوله: ((بل أقره)) فيه حث على القرى ودفع السيئة بالحسنة كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الحديث الثالث عن أنس: قوله: ((أحببت أن أستكثر من سلامك)) فيه دليل على استحباب عدم إسماع رد السلام لمثل هذا الغرض الخطير. قوله: ((أكل طعامكم الأبرار)) ((مظ)): يجوز أن

4250 - وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيته يجول ثم يرجع إلى آخيته، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان؛ فأطعموا طعامكم الأتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وأبو نعيم في ((الحلية)). [4250] 4251 - عن عبد الله بن بسر، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة، يحملها أربعة رجال، يقال لها: الغراء، فلما أضحوا وسجدوا الضحى، أتى بتلك القصعة وقد ثرد فيها، ـــــــــــــــــــــــــــــ يكون هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم، وأن يكون إخبارا، وهذا الوصف موجود في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أبر الأبرار [وأما من غيره، يكون دعاء؛ لأنه لا يجوز أن يخبر أحد عن نفسه أنه بر. أقول: ولعل إطلاق ((الأبرار))] وهو جمع على نفسه صلوات الله عليه للتعظيم، كقوله تعالى: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} وقوله: {شِهَابًا رَّصَدًا}. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله: ((في آخيته)) ((نه)): الآخية بالمد والتشديد حبيل أو عويد يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعروة ويشد فيها الدابة، وجمعها الأزاخي مشددا، والأخايا على غير قياس ((قض)): ومعناه أن المؤمن مربوط بالإيمان لا انفصام له عنه، وأنه اتفق أن يحوم حول المعاصي ويتباعد عن قضية الإيمان من ملازمة الطاعة والاجتناب عن المعاصي، فإنه يعود بالآخرة إليها بالندم والتوبة وتلافي ما فرط فيها. أقول: ((وإن المؤمن يسهو)) عطف على قوله: ((يجول)) وخولف بين الجملتين لإرادة التجدد في الأولى والثبوت في الثانية؛ لأن المؤمن لا ينفك عن الإيمان البتة، وكلاهما بيان للسابق كأنه قيل: لم شبهت حال المؤمن بحال الفرس وما حال المشبه به؟ فأجيب يجول أي الفرس والتشبيه تمثيلي؛ لأة الوجه منتزع من عدة أمور متوهمة. والفاء في ((فأطعموا)) جزاء شرط محذوف أي إذا كان حكم الإيمان حكم الآخية، فقووا الوسائل بينكم وبينه. كما ورد عن عبد الله بن عمرو: ((أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتبدأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)). وإنما خص الأتقياء بالطعام؛ لأن الطعام يصير جزء البدن، فيتقوى على الطاعة، فيدعو لك ويستجاب دعاؤه في حقك، وليس كذلك سائر المعروف، وعلى هذا معنى قوله: ((أكل طعامكم الأبرار)) على الدعاء كما سبق. الحديث الخامس والسادس عن عبد الله: قوله: ((وسجدوا الضحى)) أي صلوها.

فالتفوا عليها، فلما كثروا، جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا)) ثم قال: ((كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها يبارك فيها)). رواه أبو داود. [4251] 4252 - وعن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جده: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع. قال: ((فلعلكم تفترقون؟)) قالوا: نعم. قال: ((فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه)). رواه الترمذي. [4252] الفصل الثالث 4253 - عن أبي عسيب، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فمر بي فدعاني، فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر بدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: ((أطعمنا بسرا)) فجاء بعذق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد، فشرب فقال: ((لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة)) قال: فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله! إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: ((نعم، إلا من ثلاث: خرقة لف بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو حجر يتدخل فيه من الحر والقر)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [4253] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ما هذه الجلسة)) هذه نحوها في قوله تعالى: {ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} كأنه استحقرها ورفع منزلته عن مثلها، فأجاب صلى الله عليه وسلم أن هذه جلسة تواضع لا حقارة؟ ولذلك وصف عبدا بقوله: ((كريما)). الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي عسيب: قوله: ((إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟)) يجوز أن يكون

4254 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعت المائدة فلا يقوم رجل حتى ترفع المائدة، ولا يرفع يده وإن شبع حتى يفرغ القوم، وليعذر فإن ذلك يخجل جليسه، فيقبض يده، وعسى أن يكون له في الطعام حاجة)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4254] 4255 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل مع قوم كان آخرهم أكلا. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [4255] 4256 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام فعرض علينا، فقلنا: لا نستهيه. قال: ((لا تجمعن جوعا وكذبا)). رواه ابن ماجه. [4256] 4257 - وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا جميعا ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة)). رواه ابن ماجه. [4257] 4258 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من السنة أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدار)) رواه ابن ماجه. [4258] ـــــــــــــــــــــــــــــ المشار إليه المذكور قبله، وأن يكون المشار إليه العذق المتناثر تحقيرا لشأنه. قوله: ((أو حجر)) لعل الأنسب فيه ضم الجيم وبعده حاء ساكنة ليوافق القرينتين السابقتين في الحقارة تشبيها بحجر اليرابيع ونحوها في الحقارة؛ ومن ثم عقبه بقوله: ((يتدخل)) فإنه يدل على أنه بقدر الحاجة بل أقل، وأقله يدفع عنه الحر والبرد. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((فإن ذلك يخجل)) المشار إليه مقدر أي وليعذر إن رفع يده، فإن رفع يده عن الطعام بلا عذر يخجل صاحبه. ومنه أخذ أبو حامد الغزالي حيث قال: لا يمسك يده قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون الأكل بعده، فإن كان قليل الأكل توقف في الابتداء وقلل الأكل. وإن امتنع لسبب فليعتذر إليهم دفعا للخجلة عنهم. الحديث الثالث والرابع عن أسماء: قوله: ((لا تجمعن جوعا وكذبا)) يعني إباؤكن عن الطعام بقولكن، لا نشتهيه وأنتن جائعات جمع بين الجوع والكذب. وقريب منه قوله: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)).

(2) باب أكل المضطر

4259 - ورواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) عنه وعن ابن عباس؛ وقال: في إسناده ضعف. [4259] 4260 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخير أسرع إلى البيت الذي يؤكل فيه من الشفرة إلى سنام البعير)). رواه ابن ماجه. [4260] (2) باب أكل المضطر وهذا الباب خال عن: الفصل الأول والفصل الثالث الفصل الثاني 4261 - عن الفجيع العامري، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ((ما طعامكم؟)) قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلى السابع عن ابن عباس: قوله: ((من الشفرة إلى سنام البعير)) شبه سرعة وصول الخير إلى البيت الذي يتناوب الضيفان فيه، بسرعة وصول الشفرة إلى السنام؛ لأنه أول ما يقطع ويؤكل لاستلذاذه. ومنه حديث عمر رضي الله عنه: ما أجهل عن كراكر [وأسنمة]، يريد إحضارها للأكل فإنها من أطايب ما يؤكل من الإبل. باب أكل المضطر الفصل الثاني الحديث الأول عن الفجيع: قوله: ((ما يحل لنا من الميتة)) ((تو)): هذا لفظ أبي داود في كتابه، وقد وجدت في كتاب الطبراني وغيره: ((ما يحل لنا الميتة)) وهذا أشبه بنسق الكلام؛ لأن السؤال لم يقع على المقدار الذي يباح له، وإنما وقع عن الحالة التي تفضي به إلى الإباحة. أقول: في قوله: ((السؤال لم يقع عن المقدار)) نظر؛ إذ لا يستقيم المعنى بدونه. وهل يصح تفسير عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، إلا على هذا؟ وبيانه أن القوم جاءوا يشكون الجونـ وأن ليس عندهم ما تسد به جوعتهم، كما ذكر في الحديث الذي يليه: ((إنما نكون بأرض فتصيبنا بها المخمصة)) وكأنهم قالوا: ما عندنا ما نسد به جوعتنا، فما مقدار ما يحل لنا من الميتة؟؛ ولذا سأل عن مقدار طعامهم، فأجابوا قدح لبن غدوة وقدح لبن عشية. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر جوعهم وأقسم عليه بقوله: ((ذاك وأبى الجوع)) فأباح لهم مقدار ما يسد به جوعتهم.

غدوة، وقدح عشيه. قال: ((ذاك – وأبى – الجوع)) فأحل لهم الميتة على هذه الحال، رواه أبو داود. [4261] 4262 - وعن أبي واقد الليثي، أن رجلا قال: يا رسول الله! إنا نكون بأرض فتصيبنا بها المخمصة، فمتى يحل لنا الميتة؟ قال: ((ما لم تصطبحوا وتغتبقوا أو تحتفئوا ـــــــــــــــــــــــــــــ ومما يدل على أن السؤال عن المقدار تفسير أبي نعيم: ((قدح غدوة وقدح عشية)) لقوله: ((نغتبق ونصطبح)) أي قال في تفسيره: هو قدح غدونة وجعل اللبن طعاما؛ لأنه يجزئ منه، يدل على الحديث التاسع في الفصل الأول من باب الأشربة. قوله: ((نغتبق ونصطبح)) ((نه)): الصبوح الغداء والغبوق العشاء، وأصلهما في الشرب ثم استعملا في الأكل. ((تو)): وقد تمسك بهذا الحديث من يرى تناول الميتة مع أدنى شبع، والتناول منه عند [الاضطرار] إلى حد الشبع. وقد خالف هذا الحديث الذي يليه، والأمر الذي يبيح له الميتة هو الاضطرار، ولا يتحقق ذلك مع ما يتبلغ به من الغبوق والصبوح فيمسك الرمق. والوجه فيه أن يقال: الاغتباق بقدح والاصطباح بآخر إنما كان على سبيل الاشتراك بين القوم كلهم، ومن الدليل عليه قول السائل: ((ما يحل لنا))، كأنه كان وافد قوله فلم يسأل لنفسه خاصة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما طعامكم؟)) فلما تبين له أن القوم مضطرون إلى أكل الميتة لعدم الغناء في إمساك الرمق بما وصفه من الطعام أباح لهم تناول الميتة على تلك الحالة، هذا وجه التوفيق بين الحدثين. ((خط)): القدح من اللبن بالغداة والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يشبع الشبع التام، وقد أباح الله تعالى مع ذلك تناول الميتة، وكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت والشبع، وإلى هذا ذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يتناول منه إلا قدر ما يمسك رمقه، وهو القول الآخر للشافعي. وقوله: ((وأبى الجوع)) هي كلمة جارية على ألسنة العرب تستعملها كثيرا في مخاطبتها، يريد بها التوكيد، وقد ورد النهي عن الحلف بالآباء. ويحتمل أن يكون ورود هذا قبل النهي. انتهى كلامه. وقوله: ((وأبى)) جملة قسمية معترضة بين المبتدأ والخبر الدالان على الجواب. الحديث الثاني عن أبي واقد: قوله: ((إن رجلا قال)) أي رجل من الرجال. قوله: ((أو

(3) باب الأشربة

تحتفئوا بها بقلاً، فشأنكم بها)) معناه: إذا لم تجدوا صبوحاً أو غبوقاً ولم تجدوا بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة. رواه الدارمي. [4262] (3) باب الأشربة الفصل الأول 4263 - عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً متفق عليه. وزاد مسلم في رواية ويقول: ((إنه أروى وأبرأ وأمرأ)). ـــــــــــــــــــــــــــــ تحتفئوا بها)) ((نه)): قال أبو سعيد الضرير: صوابه ((ما لم تحتفوا بها)) بغير همز من إحفاء الشعر. ومن قال: ((تحتفئوا)) مهموزاً من الحفاء وهو البردي فباطل؛ لأن البردي ليس من البقول. وقال أبو عبيد: هو من الحفاء مهموز مقصور، وهو أصل البردي الأبيض الرطب منه، وقد يؤكل، يقول: ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. ويروى ((ما لم تختفوا)) بتشديد الفاء من ((أحففت الشيء)): إذا أخذته كله، كما تحف المرأة وجهها من الشعر. ويروى ((ما لم تجتفوا بقلا)) بالجيم أي تقلعوه وترموا به، من ((جفات القدر)): إذا رميت بما يجتمع على رأسها من الزبد والوسخ. ويروى بالخاء فيقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته. أقول: ((أو)) في القرينتين يحتمل أن تكون بمعنى الواو كما في قوله تعالى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} قال القتيبي: هو بمعنى الواو، قال القتيبي: هو بمعنى الواو، فيجب الجمع بين الخلال الثلاث حتى يحل له تناول الميتة. وعليه ظاهر كلام الشيخ التوربشتي. وأن يكون لأحد الأمرين كما عليه ظاهر كلام الإمام في شرح السنة حيث قال: إذا اصطبح الرجل أو تغذى بالطعام لم يحل له نهاره ذلك أكل الميتة. وكذلك إذا تعشى أو شرب غبوقاً لم يحل له ليلته تلك؛ لأنه يتبلغ بتلك الشربة. وقوله: ((ما لم تصطحبوه)) ((ما)) للمدة، والعامل محذوف كأنه قيل: تحل لكم مدة عدم اصطباحكم. والفاء في ((فشأنكم)) جزاء شرط محذوف، ويحتمل أن تكون شرطية، وقوله: جزاؤه أي مهما فقدتم هذه الأشياء فالتزموا تناول الميتة، كقوله تعالى: {ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا}. ((حس)): قال مسروق: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى يموت دخل النار. قال معمر: ولم يسمع في الخمر رخصة، والله أعلم. باب الأشربة الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يتنفس في الشراب)) ((حس)): المراد من هذا

4264 - وعن ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء. متفق عليه. 4265 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية. زاد في رواية: واختناثها: أن يقلب رأسها ثم يشرب منه. متفق عليه. 4266 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً. رواه مسلم. 4267 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي منكم فليستقئ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث أن يشرب ثلاثاً، كل ذلك يبين الإناء عن فيه. ((قض)): الشرب بثلاث دفعات أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقل أثراً في برد المعدة وضعف الأعصاب. ((شف)): ((أروى)) أشد رواء فحذف الوصلة كقوله: ((أذهب للب الرجل الحازم)). ((مظ)): و ((أبرأ)) أي أكثر إبراء أي صحة للبدن ((وأمرأ)) أي أكثر مراءة. الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((من في السقاء)) ((مظ)): وذلك أن جريان الماء دفعة وانصبابه في المعدة مضر بها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدفعات كما سبق. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((عن اختناث الأسقية)) الاختناث أن يكسر شفة القربة ويشرب منها. قيل: إن الشرب منها كذلك، إذ دام مما يغير ريحها، وقد جاء في حديث آخر إباحة ذلك، فيحتمل أن يكون النهي عن السقاء الكبير دون الإداوة ونحوها، أو أنه أباحه للضرورة والحاجة إليه، والنهي لئلا يكون عادة. وقيل: إنما نهاه لسعة فم السقاء لئلا ينصب الماء عليه، أو أنه يكون الثاني ناسخاً للأول. وقيل: لأنه ربما يكون فيه دابة، وقد روى عن أيوب قال: نبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت منه حية. الحديث الرابع عن [أنس]: قوله: ((نهى أن يشرب الرجل قائما)) ((مح)): وفي رواية: ((حذر عن الشرب قائما)). وفي حديث أبي هريرة: ((لا يشربن أحدكم قائماً، فمن نسي فليستقئ)). وعن ابن عباس: ((سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم)) وفي أخرى انه صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم. وروى أن عليا – رضي الله عنه شرب قائما، قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت. وقد أشكل على بعضهم وجه التوفيق بين هذه الأحاديث، وأولوا بما لا جدوى في نقلها. والصواب فيها أن النهي محمول على كراهة التنزيه. وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز. وأما من زعم النسخ أو الضعف فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بينهما لو ثبت التاريخ، وأنى لو بذلك وإلى القول بالضعف مع صحة الكل.

4268 _ * وعن ابن عباس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم، فشرب وهو قائم. متفق عليه. 4269 - وعن علي – رضي الله عنه -: أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بماء، فشرب وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: إن أناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثلما صنعت. رواه البخاري. 4270 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار، ومعه صاحب ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما قوله: ((فمن نسي فليستقئ)) فمحمول على الاستحباب، فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح؛ فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. ((قض)): هذا النهي من قبيل التأديب والإرشاد إلى ما هو الأخلق والأولى، وليس نهى تحريم، حتى يعارضه ما روى أنه فعل خلاف ذلك مرة أو مرتين. الحديث الخامس إلى الثامن عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وذكر رأسه)) أي ذكر الراوي بعد قوله: ((وجهه ويديه)) ((رأسه ورجليه)). وفائدة الذكر أن [راوي الراوي] نسي ما ذكره الراوي الأول في شأن الرأس والرجلين. و ((فشرب)) عطف على ((قام)). وقوله: ((وهو قائم)) حال مؤكدة، وإنما جيء بها لرفع توهم من يزعم أنه بعد القيام قعد فشرب. وقوله: ((إن أناساً)) التنكير فيه للتحقير ذماً لهم لهم على ما زعموا كراهة الشرب في حالة القيام، ومصحح وقوعه اسم إن معنى التنكير فيه كقولهم: شر أهر ذا ناب. والكلام فيه إنكار. وقوله: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم)) حال مقررة لجهة الإشكال كقوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. وهذا الحديث يرد زعم من أثبت النسخ في الشرب قائماً؛ لأنه رضي الله عنه فعل ذلك وهو بالكوفة. ((حس)): ممن رخص في الشرب قائماً علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم. وأما النهي فنهى أدب وإرفاق؛ ليكون تناوله على سكون وطمأنينة فيكون أبعد عن الفساد. الحديث التاسع عن جابر: قوله: ((وهو يحول الماء)) ((تو)): يحول الماء أي ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها. ((مظ)): أي يجري الماء من جانب إلى جانب في بستانه.

له، فسلم فرد الرجل وهو يحول الماء في حائط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا؟)) فقال: عندي ماء بات في شن، فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماءاً، ثم حلب عليه من داجن، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه. رواه البخاري. 4271 - وعن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((في شنة)) ((تو)): الشن والشنة القربة الخلقة، وهو أشد تبريداً للماء من الجديدة، والجمع الشنان. انتهى كلامه. قوله: ((وإلا كرعنا)) ((إن)) فيه شرطية، أدغمت في ((لا)) النافية، أي: إن كان عندك ماء فأتنا به، وإن لم يكن ((كرعناه)): وهو التناول بالفم من غير أن يشرب بكفيه. و ((العريش)) المسقف من البستان بالأغصان، وأكثر ما يكون في الكروم. قال ابن السكيت: شاة داجن: إذا ألفت البيوت واستأنست. الحديث العاشر عن أم سلمة: قوله: ((يجرجر)) ((مح)): اختلفوا في ((نار جهنم)) أمنصوب هي أم مرفوعة؟ , والصحيح المشهور النصب، ورجحه الزجاج والخطابي والأكثرون، ويؤيده الرواية الثالثة ((ناراً من جهنم)). وروينا في مسند الأسفرائني من رواية عائشة رضي الله عنها: ((في جوفه ناراً)) من غير ذكر جهنم. ((فا)): الأكثر النصب فالشارب هو الفاعل والنار مفعوله، يقال: جرجر فلان الماء إذا جرعه جرعاً متواترا له صوت، فالمعنى كأنما يجرع نار جهنم. وأما الرفع فمجاز؛ لأن جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه. والجرجرة صوت البعير عند الضجر، ولكنه جعل صوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة؛ لوقوع النهي عنها، واستحقاق العقاب على استعمالها كجرجرة نار جهنم في بطنه من طريق المجاز. وقد ذكر ((يجرجر)) بالياء للفصل بينه وبين النار. ((مح)): أجمعوا على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة على الرجل والمرأة، ولم يخالف في ذلك أحد إلا ما حكاه أصحابنا العراقيون، أن للشافعي قولا قديماً، أنه يكره ولا يحرم. وحكى عن داود الظاهري تحريم الشرب وجواز الأكل وسائر وجوه الاستعمالات، وهما باطلان بالنصوص والإجماع، فيحرم استعمالها في الأكل والشرب والطهارة، والأكل بالملعقة من أحدهما، والتجمر بمجمره، والبول في الإناء وسائر استعمالها في الأكل والطهارة، والأكل بالملعقة من أحدهما، والتجمر بمجمره، والبول في الإناء وسائر استعمالهما سواء كان صغيراً أو كبيراً. قالوا: وإن ابتلى في طعام فيهما فليخرجه إلى إناء آخر من غيرهما، وإن ابتلى بالدهن في قارورة فضة فليصبه في يده اليسرى، ثم يصبه في اليمنى ويستعمله. ويحرم تزيين البيوت

4272 - وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة)). متفق عليه. 4273 - وعن أنس، قال: حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجن، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح، فشرب وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر: أعط أبا بكر يا رسول الله!، فأعطى الأعرابي الذي عن يمينه، ثم قال: ((الأيمن فالأيمن)) وفي رواية: الأيمنون الأيمنون، ألا فيمنوا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والحوانيت وغيرهما بأوانيهما. قال الشافعي والأصحاب: ولو توضأ أو اغتسل من إناء ذهب أو فضة عصى بالفعل، وصح وضوؤه وغسله. وكذا لو أكل أو شرب منه فعصى، ولا يكون المأكول والمشروب حراماً، وأما إذا اضطر إليهما فله استعمالهما كما يباح له الميتة. وبيعهما صحيح؛ لأن ذلك عين طاهرة ويمكن الانتفاع بها بعد الكسر. الحديث الحادي عشر عن حذيفة: قوله: ((لهم في الدنيا)) الضمير للكفار وإن لم يجر لهم ذكر؛ لدلالة السياق عليه. ((مح)): ليس في الحديث حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصرح فيه بإباحته لهم. وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا، وإن كان حراماً عليهم كما هو حرام على المسلمين. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأعطى الأعرابي الذي على يمينه)) فإن قالت: لم استعمل ((على)) ها هنا و ((عن)) أولا؟. قلت: الوجه فيه أن تجرد ((عن)) و ((على)) عن معنى التجاوز والاستعلاء، ويراد بهما الحصول من اليمين والشمال. ولو قصدت معناهما لركبت شططا. الكشاف في قوله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَن شَمَائِلِهِمْ} المفعول فيه عدى إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به، فكما اختلفت حروف التعدية في ذلك، اختلف في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط. فلما سمعناهم يقولون: جلس على يمينه وعن يمينه وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى ((على يمينه)) أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلي عليه. ومعنى ((عن

4274 - وعن سهل بن سعد، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح، فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره. فقال: ((يا غلام! أتاذن أن أعطيه الأشياخ؟)) فقال: ما كنت لأوثر بفضل منك أحداً يا رسول الله! فأعطاه إياه. متفق عليه. وحديث أبي قتادة [سنذكره] في ((باب المعجزات)) إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ يمينه)) أي جلس متجافيا عن صاحب اليمين، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما في ذكرنا في ((تعال)). قوله: ((الأيمن فالأيمن)) ((مح)): ضبطه بالنصب والرفع وهما صحيحان، النصب على تقدير ((أعطى الأيمن)) والرفع على تقدير ((الأيمن أحق)) أو نحو ذلك. وفي رواية أخرى: ((الأيمنون)) وهو يرجح الرفع. وفيه استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وأن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم، وإن كان صغيراً ومفضولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم الأعرابي والغلام. وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف؛ ولهذا يقدم الأعلم الأقرأ على الأسن النسيب في الإمامة في الصلاة. وقيل: إنما استأذن الغلام دون الأعرابي إدلالا على الغلام وهو ابن عباس؛ وتطييباً لنفسه بالاستئذان نفسه، لاسيما والأشياخ أقاربه، ومنهم خالد بن الوليد. وفي بعض الروايات ((عمك وابن عمك)) وفعل ذلك أيضاً استئناساً لقلوب الأشياخ وإعلاما بودهم وإيثار كرامتهم. وإنما لم يستأذن الأعرابي مخافة إيحاشه وتأليفاً لقلبه لقرب عهده بالجاهلية وعدم تمكنه من معرفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. واتفقوا أنه لا يؤثر في القرب الدينية والطاعات، وإنما الإيثار ما كان في حظوظ النفوس، فيكره أن يؤثر غيره موضعه من الصف الأول مثلا. وفيه أن من سبق إلى موضع مباح أو من مجلس العالم والكبير فهو أحق به ممن يجيء بعده. وأما قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعط أبا بكر)) فإنما قاله للتذكير بأبي بكر؛ مخافة من نسيانه وإعلاماً لذلك الأعرابي الذي على اليمين بجلالة أبي بكر رضي الله عنه. انتهى كلامه. وقوله: ((أصغر القوم)) خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة ((غلام)) واللام في ((لأوثر)) لتأكيد النفي، أي لا ينبغي لي ولا يستقيم مني أن أوثر فضلك هذا، وإنما نكره تعظيماً أو تقليلاً ليعم.

الفصل الثاني 4275 - عن ابن عمر، قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام. رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. [4275] 4276 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً. رواه الترمذي. [4276] 4277 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء، أو ينفخ فيه. رواه أبو داود، وابن ماجه. [4277] 4278 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشربوا واحداً كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم)). رواه الترمذي. [4278] 4279 - وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب. فقال رجل: القذاة أراها في الإناء. قال: ((أهرقها)). قال: فإني لا أروى من نفس واحد. قال: ((فأبن القدح عن فيك، ثم تنفس)). رواه الترمذي، والدارمي [4279] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول إلى الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا تشربوا واحداً كشرب العبير)) موقعه التأخير أي اشربوا مثنى وثلاث، ولا تشربوا واحداً كشرب البعير، فقدم الأمر على النهي اهتماماً كقوله تعالى {ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إسْرَائِيلَ} قدم {فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ} اهتماماً بشأنه؛ ولأن الشرب مراراً لإبانة القدح حذراً عن التنفس في الإناء مسنون لا كشرب البعير؛ فإنه يتنفس عند الكرع فيه.

4280 - وعنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح، وأن ينفخ في الشراب. رواه أبو داود. [4280] 4281 - وعن كبشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائماً، فقمت إلى فيها فقطعته. رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. [4281] 4282 - وعن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد. رواه الترمذي، وقال: والصحيح ما روى عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. [4282] 4283 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه. وإذا سقي لبنا فليقل: اللهم بارك بارك لنا فيه، وزدنا منه؛ فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4283] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): النهي عن التنفس فيه من أجل ما يخاف أن يبرز من ريقه فيقع في الماء، وقد يكون النكهة من بعض من يشرب متغيرة، فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطفه، ثم إنه من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيها ثم عادت فشربت، فيكون الأحسن أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه كما جاء بعده ((فأبن القدح عن فيك)). الحديث الخامس والسادس عن أبي سعيد: قوله: ((من ثلمة القدح)) من موضع الكسر منه. ((خط)): إنما نهى عن الشرب من ثلمة القدح؛ لأنها لا تتماسك عليها شفة الشارب، فإذا شرب منها ينصب الماء على وجهه وثوبه. الحديث السابع عن كبشة: قوله: ((فقطعته)) وفي معناه ما روى عن أم سليم أنها قالت بعد ما قامت إليها: ((فقطعتها لا يشرب منها أحد بعد شرب النبي صلى الله عليه وسلم منه)). والله أعلم. الحديث الثامن والتاسع والعاشر عن ابن عباس: قوله: ((فإنه ليس شيء يجزئ)) ((خط)): هذا لفظ مسدد، وهو الذي روى عنه أبو داود هذا الحديث، فظاهر اللفظ يوهم انه من تتمة

(4) باب النقيع والأنبذة

4284 - وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من السقيا. قيل: هي عين بينها وبين المدينة يومان. رواه أبو داود. [4284] الفصل الثالث 4285 - عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب في إناء ذهب أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)). رواه الدارقطني. [4285] (4) باب النقيع والأنبذة الفصل الأول 4286 - عن أنس، قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشرب كله: العسل، والنبيذ، والماء، واللبن. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((فيه شيء من ذلك)) ((مح)): فيه أوجه: أصحها وأشهرها: إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة، لا يحرم استعماله ولا يكره، وإن كانت كبيرة فوق الحاجة حرم، والرجال النساء سواء في حرمة استعمال أواني الذهب والفضة والمضبب منهما. باب النقيع والأنبذة ((نه)): النقيع هنا شراب يتخذ من زبيب أو غيره، ينقع في الماء من غير طبخ، والنبيذ هو ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إلى فعيل. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كله)) تأكيد للشراب؛ لأن المراد منه الجنس يدل عليه التفصيل، وهذا يدل على جواز تأكيد المفرد المستغرق للجنس بمؤكد الجمع، ونحوه وقوع الحال جمعاً على صاحبها، وهو مفرد في قوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً}.

4287 - وعن عائشة، قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكأ أعلاه، وله عزلاء، ننبذه غدوة، فيشربه عشاء، وننبذه عشاء فيشربه غدوة. رواه مسلم. 4288 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له أول الليل، فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصب. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف: أي وأنت ذلل، وإذا جاز وصف مفرد غير جنس بالجمع في قوله تعالى: {شِهَابًا رَّصَدًا}. أي راصدين. وقول امرئ القيس: أتقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقول الآخر: كأن قتود رحلي حين ضمت حوالب غرزاً ومعاص جياعا فلأن يجوز في المفرد الشائع في جنس أولى وأحرى، فيصح إذا: الفرس الدهم والجمل الصعاب، خلافاً لصاحب المفتاح، وعطف النبيذ على العسل، لمزيته على سائر ما ينبذ. ((مح)): فيه دلالة على جواز شرب النبيذ ما دام حلواً ولم ينته إلى حد الإسكار، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)). الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله ((يوكأ أعلاه)) ((قض)): أي يشد من الإيكاء وهو الشد، والوكاء الشداد، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتغطية الأواني وشد أفواه الأسقية حذراً من الهوام، و ((العزلاء)) فم المزادة الأسفل وهو من السقاء حيث يخرج منه الماء، وجمعها عزالي بفتح اللام وكسرها، مثل صحراء وصحارى بالكسر والفتح. الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((ذلك)) هو صفة قوله ((يومه)) أي يوم الليل الذي ينبذ له فيشربه وقت دخوله في الصباح. و ((الليلة)) عطف على ((يومه)) على سبيل الانسحاب لا التقدير. قوله: ((سقاه)) ((مظ)): إنما لم يشربه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان دردياً ولم يبلغ حد الإسكار. فإذا بلغ صبه. وهذا يدل على جواز شرب المنبوذ ما لم يكن مسكراً، وعلى جواز أن يطعم السيد مملوكه طعاماً أسفل ويطعم هو طعاماً أعلى. ((مح): وحديث عائشة: ((ننبذه غدوة فيشربه عشاء)) لا يخالف هذا الحديث: لأن الشرب في

4289 - وعن جابر، قال: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقائه، فإذا لم يجدوا سقاءاً ينبذ له في تور من حجارة. رواه مسلم. 4290 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن الدباء والحنتم والمزفت، والنقير، وأمر أن ينبذ في أسقية الأدم. رواه مسلم. 4291 - وعن بريدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نهيتكم عن الظروف، فإن ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)) وفي رواية: قال: ((نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ يوم لا يمنع من الزيادة. وقيل: لعل حديث عائشة كان في زمان الحر حيث يخشى فساده، وحديث ابن عباس في زمان يؤمن فيه التغيير قبل الثلاث. وقيل: حديثها محمول على نبيذ قليل يفرغ منه في يومه. [وحديث ((ابن عباس)) كثير لا يفرغ منه في يوم]. الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((في تور)) ((نه)) التور إناء من صفر، أو حجارة كالإجانة وقد يتوضأ منه. الحديث الخامس عن ابن عمر: مضى شرحه في كتاب الإيمان. الحديث السادس عن بريدة: قوله: ((فإن ظرفاً)) الفاء فيه عطف على محذوف تقديره: نهيتكم عن الظروف فظننتم أنها تحل وتحرم وليس كذلك؛ فإن ظرفاً إلى آخره. ((مح)) كان الإنباذ في الحنتم والدباء والمزفت والنقير منهياً عنه في بدء الإسلام خوفاً من أن يصير مسكراً فيها، ولا يعلم به لكثافتها، فلما طال الزمان اشتهر تحريم المنكرات، [وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ بذلك. وأبيح لهم الإنباذ في كل وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكراً]. انتهى كلامه. وقوله: ((إلا في ظروف الأدم)) استثناء منقطع؛ لأن المنهي هي الأشربة في ظروف مخصوصة وليست ظروف الأدم من جنس ذلك. ((مظ)): وذلك أن الجرار أوعية منتنة قد يتغير فيها الشراب ولا يشعر به، نهى عن الانتباذ فيها بخلاف الأسقية من الأدم لرقتها فإذا تغير الشراب، لم يلبث أن ينشق فيكون أمارة يعلم بها تغيره، والفاء في ((فاشربا)) عطف على محذوف، أي نهيتكم أولا عن ذلك؛ فالآن نسخته فاشربوا إلى آخره. و ((غير))؟؟؟؟ على أنه استثناء منقطع. وتقديره أبيح لكم شرب ما في كل إناء غير شرب المسكر و ((؟؟؟؟ للتأكيد.

(5) باب تغطية الأواني وغيرها

الفصل الثاني 4292 - عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [4292] الفصل الثالث 4293 - عن عبد الله بن أبي أوفي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر، قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: ((لا)). رواه البخاري. (5) باب تغطية الأواني وغيرها الفصل الأول 4294 - عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشيطان ينتشر حينئذ, فإذا ذهب ساعة من الليل ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي مالك: قوله: ((ليشربن)) إلى آخره إخبار فيه شائبة إنكار، ((تو)): المراد منه أنهم يتسترون في شربها بأسماء الأنبذة المباحة. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله بن أبي أوفي: قوله: ((الجر الأخضر)) ((نه)): الجر والجرار جمع جرة، وهو الإناء المعروف من الفخار، وأراد بالنهي الجرار المدهونة؛ لأنها أسرع في الشدة والتخمير. ((خط)): إنما جرى ذكر الخضرة من أجل أن الجرار التي كانوا ينتبذون فيها كانت خضرة، والأبيض بمثابته؛ لما سبق من الحديث الآخر في الفصل الأول. باب تغطية الأواني وغيرها الفصل الأول الحديث الأول عن جابر: قوله: ((أو أمسيتم)) شك للراوي و ((جنح الليل)) بالفتح والكسر طائفة من الليل، وأراد به هنا الطائفة الأولى منه عند امتداد فحمة العشاء. وقوله: ((لا يفتح باباً مغلقاً)) أي باباً أغلق مع ذكر اسم الله عليه، يوضحه الحديث الأول من الفصل الثاني في قوله: ((فإن الشيطان لا يفتح باباً إذا أجيف وذكر اسم الله عليه)). فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله؛ فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليه شيئاً وأطفئوا مصابيحكم)) متفق عليه. 4295 - وفي رواية للبخاري قال: ((خمروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن انتشاراً وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)). 4296 - وفي رواية لمسلم، قال: ((غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج؛ فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء. فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم.

4297 - وفي رواية له، قال: ((لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشيطان يبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)). 4298 - وفي رواية له، قال: ((غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولو أن تعرضوا)) هو بضم الراء وكسرها والأول أصح. والمذكور بعد ((لو)) فاعل فعل مقدر، أي ولو ثبت أن تعرضوا عليه شيئاً. وجواب ((لو)) محذوف أي لو خمرتموها عرضاً بشيء، نحو العود وغيره وذكرتم اسم الله تعالى لكان كافياً، والمقصود هو ذكر اسم الله تعالى مع كل فعل؛ صيانة عن الشيطان والوباء والحشرات الهوام؛ على ما ورد: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)). ((وأجيفوا الأبواب)) أي ردوها يقال: أجاف البيت أي رده، ((واكفتوا صبيانكم)) أي ضموهم. وقوله: ((فإن الفويسقة)) أي الفأرة سميت بها لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها. وأضرم النار إذا أوقدها، والضرمة بالتحريك النار؛ و ((الفواشي)) كل شيء منتشر من الأموال كالغنم السائمة والإبل وغيرها؛ يقال: أفشى الرجل إذا كثرت فواشيه؛ و ((فحمة العشاء)) إقباله وأول سواده؛ يقال للظلمة التي بين صلاتي العشاء: الفحمة. وللظلمة التي بين العتمة والغداة

ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء)). 4299 - وعنه، قال: جاء أبو حميد – رجل من الأنصار – من النقيع بإناء من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عوداً)). متفق عليه. 4300 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)). متفق عليه. 4301 - وعن أبي موسى، قال: احترق بين بالمدينة على أهله من الليل، فحدث بشأنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ العسعسة، و ((الوباء)) بالمد والقصر والهمز الطاعون والمرض العام. ((مح)): فيه جمل من أنواع الخير والآداب الجامعة، جماعها تسمية الله تعالى في كل فعل وحركة وسكون لتحصيل السلامة عن الآفات الدنيوية والأخروية. الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((من النقيع)) ((مح)): روى بالنون والباء، والصحيح الأشهر الذي قاله الخطابي والأكثرون بالنون، وهو موضع بوادي العقيق وهو الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((ألا خمرته)) ((ألا)) حرف التحضيض دخل على الماضي للوم على الترك، واللوم إنما يكون على مطلوب ترك، كأن الرجل جاء بالإناء مكشوفاً غير مخمر فوبخه. يقال: عرضت العود على الإناء أعرضه بكسر الراء في قول عامة الناس إلا الأصمعي؛ فإنه قال: أعرضه مضمومة الراء في هذا خاصة. المعنى: هلا تغطيه بغطاء، فإن لم تفعل فلا أقل من أن تعرض عليه شيئاً. الحديث الثالث والرابع عن أبي موسى: قوله: ((على أهله)) إما حال أي ساقطا عليهم أو متعلق باحترق أي ضرره عليه. والمشار إليه بهذه النار نار مخصوصة؛ وهي التي يخاف عليها من الانتشار. قال الشيخ محيي الدين في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)): هذا عام يدخل فيه السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة، فإن خيف منها يدخل في الأمر بالإطفاء؛ وإن أمن منها كما هو الغالب؛ فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالإطفاء بقوله: ((إن الفويسقة تضرم على أهل البيت)).

الفصل الثاني 4302 – عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير من الليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنهم يرين ما لا ترون وأقلوا الخروج إذا هدأت الأرجل؛ فإن الله عز وجل يبث من خلقه في ليلته ما يشاء، وأجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله عليه؛ فإن الشيطان لا يفتح باباً إذا أجيف وذكر اسم الله عليه، وغطوا الجرار، وأكفئوا الآنية، وأوكوا القرب)) رواه في ((شرح السنة)). [4302] 4303 - وعن ابن عباس، قال: جاءت فأرة تجر الفتيلة، فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعداً عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم. فقال: ((إذا نمتم فأطفئوا سرجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا، فيحرقكم)) رواه أبو داود. [4203] وهذا الباب خال عن الفصل الثالث. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر: قوله: ((إذا هدأت الأرجل)) ((نه)): ((الهداءة والهدوء السكون عن الحركات، أي بعد ما يسكن الناس عن المشي والاختلاف في الطرق. قوله: ((ما يشاء)) هو مفعول ((يبث)) وهو عام في كل ذي شر من الشياطين والسباع والهوام. و ((من خلقه)) بيان ((ما)). قوله: ((أكفئوا الآنية)) ((حس)): قال الكسائي: يقال: كفأت الإناء إذا كببته، وأكفأته، وكفأته أيضاً إذا أملته ليفرغ ما فيها، وفي الغريبين: المراد بإكفاء الآنية هاهنا قلبها كيلا يدب عليها شيء ينجسها. ((فا)): الآنية جمع قلة ((كآدمة)) في جمع أديم. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((على الخمرة)) ((فا)): هي السجادة الصغيرة من الحصير لأنها مرملة مخمر خيوطها بسعفها. قوله: ((مثل هذه)) هو مثل قولهم: مثلك لا يبخل، أي مثل هذه الفأرة وما عليه من الإفساد وإخراج الشيء عن كونه منتفعاً به والله أعلم.

كتاب اللباس

كتاب اللباس الفصل الأول 4304 - عن أنس قال: كان أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحبرة. متفق عليه. 4305 - وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين. متفق عليه. 4306 - وعن أبي بردة، قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبداً وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب اللباس الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الحبرة)) خبر كان. وقوله: ((أن يلبسها)) متعلق بـ ((أحب)) أي كان أحب الثياب لأجل اللبس الحبرة لاحتمال الوسخ. ((نه)): الحبرة من البرود ما كان موشياً مخططا، يقال: برد حبر وبرد حبرة بوزن عنبة على الوصف والإضافة، وهو برد يمان والجمع حبر وحبرات. الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((ذات غداة)) ((قض)): ذات الشيء نفسه وحقيقته والمراد به ما أضيف إليه. قوله: ((مرط)) ((مح)): هو بكسر الميم وإسكان الراء كساء من صوف وشعر أو كتان وخز يؤتزر به. و ((المرحل)) بضم الميم وفتح الراء والحاء المهملة، وروى بالجيم أي عليه صور الرجال، والصواب الأول، أي عليه صور رحال الإبل ولا بأس به، وإنما المحرم هو تصوير الحيوان. الحديث الثالث والرابع عن أبي بردة: قوله: ((ملبداً)) ((نه)) أي مرقعاً يقال: لبدت القميص ألبده وألبدته، يقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص اللبدة. والتي يرقع بها قبة القبيلة،

4307 - وعن عائشة، قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدما، حشوه ليف. متفق عليه. 4308 - وعنها، قالت: كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتكئ عليه من أدم، حشوه ليف. رواه مسلم. 4309 - وعنها، قالت: بينا نحن جلوس في بيتنا في حر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً. رواه البخاري. 4310 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((فراش للرجل وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: الملبد الذي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبد. ((مح)): ((في أمثال هذا الحديث بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها، فيجب على الأمة أن يقتدروا به صلى الله عليه وسلم. الحديث الخامس والسادس عن عائشة رضي الله عنه: قوله: ((كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((مح)): فيه جواز اتخاذ الفراش والوساد والنوم عليها والارتفاق بها. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((قالت: بينا نحن جلس في بيتنا)) هو طرف من حديث الهجرة. و ((مقبلاً متقنعاً)) حالان مترادفتان أو متداخلتان، والعامل معنى ((اسم الإشارة)). قال الزجاج: إذا قلت: هذا زيد قائماً إن قصدت أن تخبر به من لم يعرف زيداً لم يجز؛ لأنه لا يكون زيداً ما دام قائماً فإذا زال عن القيام فليس بزيد. وإنما يقول: هذا زيد قائماً لمن يعرف زيداً، فيعمل في الحال التنبيه، أي أنبه لزيد في حال قيامه أو أشير إلى زيد في حال قيامه، لأن ((هذا)) إشارة إلى ما حضر، وقال: هذا من لطيف النحو وغامضه. الحديث الثامن عن جابر: قوله: ((فراش)) مبتدأ مخصصه محذوف يدل عليه. قوله: ((والثالث للضيف)) أي فراش واحد كاف للرجل. ((مح)) في قوله: ((والرابع للشيطان)): أن ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يضاف إلى الشيطان؛ لأنه يرتضيه، وأما تعديد الفراش للزوج فلا بأس به؛ لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه. واستدل بعضهم بهذا أنه لا يلزمه النوم مع امرأته وأن له الانفراد عنها بفراش وهو ضعيف؛

4311 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً)) متفق عليه. 4312 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) متفق عليه. 4313 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) رواه البخاري. 4313 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن النوم مع الزوجة وإن كان ليس بواجب؛ لكنه معلوم بدليل آخر أن النوم معها بغير عذر أفضل وهو ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: ولأن قيامه من فراشها مع ميل النفس إليها متوجها إلى التهجد أصعب وأشق؛ ومن ثمة ورد: عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي الحديث. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بطرا)) ((نه)) البطر الطغيان عن النعمة وطول الغني. الحديث العاشر عن ابن عمر: قوله: ((خيلاء)) ((نه)): الخيلاء بالمد المخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر كلها [متدانية]. يقال: خال الرجل خالا واختال اختيالا إذا تكبر وهو رجل خال متكبر. ومعنى ((لا ينظر الله إليه)) لا يرجمه ولا يلتفت إليه. الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يتجلجل)) ((مح)): أي يتحرك وينزل مضطرباً قيل: يحتمل أن الرجل من هذه الأمة، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع، وأن يكون إخباراً عمن كان قبل هذه الأمة وهو الصحيح؛ ولذلك أدخله البخاري في باب ذكر بني إسرائيل. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما أسفل)) ((شف)): ((ما)) موصولة وصلته محذوفة وهو ((كان)) و ((أسفل)) منصوب خبر لـ ((كان)) ويجوز أن يرفع أسفل، أي الذي هو أسفل من الإزار من الكعبين. ((خط)): يتأول هذا على وجهين: أحدهما أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه في النار عقوبة على فعله، والآخر أن فعله ذلك في النار، أي هو معدود محسوب من أفعال أهل النار. ((مح)): الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة، ولا يجوز الإسبال تحت الكعبين إن كان للخيلاء، وقد نص الشافعي على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، لدلالة ظواهر الأحاديث 4315 - وعن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل الصماء، أو يحتبى في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه. رواه مسلم. 4316 - ، 4317 - *، 4318 - *، 4319 - *. وعن عمر وأنس وابن الزبير، وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لبس الحرير في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة)) متفق عليه.

4320 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليها. فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم وإلا فمنع تنزيه. وأجمعوا على جواز الإسبال للنساء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن لهن في إرخاء ذيولهن. وأما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار فنصف الساقين، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، وبالجملة يكره ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن جابر: قوله: ((في نعل واحدة)) ((مح)): لأنه تشويه ومخالف للوقار، ولأن الرجل المنعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه، وربما كان سببا للعثار. و ((الصماء)) بالمد هو أن يشتمل بالثوب يتجلل به جسده لا يرفع منه جانباً، فلا يبقى ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صماء؛ لأنها سدت المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع، وقال الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه، وإنما يحرم هذا لأنه ينكشف به بعض عورته. و ((الاحتباء)) بالمد أن يقعد الرجل على أليتيه وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب أو نحوه أو بيده وهو عادة بعض العرب في مجالسهم. الحديث الرابع والخامس عشر عن ابن عمر: قوله: ((من لا خلاق له)) الخلاق مما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه. أقول: وفيه وجهان: أحدهما أنه لا نصيب له في الآخرة ولاحظ له في النعيم. وثانيهما: لاحظ. وقيل: من لا دين له، فعل الأول محمول على الكفار وعلى الآخر يتناول المسلم والكافر. أقول: ويحتمل أن يراد بقوله: ((من لا خلاق له)) النصيب من لبس الحرير، فيكون كناية عن دخول الجنة كقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أما في حق الكافر فظاهر، وفي حق المؤمن فعلى سبيل التغليظ.

4321 - وعن حذيفة، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الفضة والذهب وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه. متفق عليه. 4322 - وعن علي رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فبعث بها إلى فلبستها، فعرقت الغضب في وجهه، فقال: ((إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء)) متفق عليه. 4323 - وعن عمر رضي الله عنه أن النبي نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه: الوسطى والسبابة وضمهما متفق عليه. 4324 - وفي رواية لمسلم: أنه خطب بالجابية، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع. 4325 - عن أسماء بنت أبي بكر: أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((سيراء)) ((فا)): السيراء نوع من البرد يخالطه حرير سمى سيراء لتخططه فيه، والثوب المسير الذي فيه سير أي طرائق. [والتسير] أن تخضب المرأة أصابعها خضاباً مخططاً تخضب وتدع خطا. أقول: إنما غضب رسول اله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يتفكر أنها ليست من ثبات المتقين. وكان ينبغي عليه أن يتحرى فيها ويقسمها على الفواطم. ((فا)): الفواطم فطامة الزهراء البتول ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم زوجة أبي طالب أم علي وجعفر وعقيل وطالب، وهي أول هاشمية ولدت بهاشمي، والثالثة فاطمة أم أسماء بنت حمزة، وقيل: الثالثة فاطمة بنت عتبة بن ربيعة وكانت قد هاجرت. وأما فاطمة المخزومية جدة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الأصم، فما أدركتا الوقت الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه لعلي ذلك. انتهى كلامه. وقوله: ((خمراً)) حال مقدرة كقولك: خطته قميصاً، وقوله: ((بين النساء)) يجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب أو صفة لـ ((خمراً)). الحديث الثامن عشر: عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((بالجابية)) هي مدينة بالشام. الحديث التاسع عشر عن أسماء: قوله: ((جبة طيالسة)) ((مح)) هو بإضافة ((جبة)) إلى

ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عند عائشة فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نعسلها للمرضى نستشفي بها. رواه مسلم. 4326 - وعن أنس، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما. متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: إنهما شكوا القمل، فرخص لهما في قمص الحرير. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((طيالسة)). والطيالسة جمع طيلسان بفتح اللام على المشهور. وفي المغرب: الطيلسان تعريب تالسان وجمعه طيالسة، وهو من لباس العجم مدور أسود. وفي جمع التفاريق الطيالسة لحمتها وسداها صوف، والطيلس لغة فيه، تم كلامه، فعلى هذا الإضافة للبيان أي جبة صوف، ويعلم منه أنها كانت سوداء، وقال الزمخشري في أساس البلاغة: جاء [البرود] والطيالسة، وخرج القاضي متقلسا متطلسا. ومن المجاز شققت طيالس الظلام. قال أبو النجم: كم [من فخيم] من أغر كأنه صبح يشق طيالس الظلماء ويحتمل أن يكون منسوباً إلى الأعاجم، قال صاحب الأساس والمغرب: تقول العرب: يا ابن الطيلسان يريدون يا أعجمي، وينصره قوله: ((كسروانية)) وهو منسوب إلى كسرى ملك الفرس وبهذا اندفع جميع الإشكالات. قوله: ((لبنة)) ((نه)): هي بكسر اللام وسكون الباء رقعة تعمل فتوضع في جيب القميص والجبة. ((مح)): ((وفرجيها مكفوفين)) هكذا وقع في جميع النسخ والأصول، وهما منصوبان بفعل محذوف أي ورأيت. ((مح)): ((وفرجيها أي شقيها من خلف وقدام مكفوفين بالديباج، أي خيط شقاها بالديباج. والكفة بالضم عطف الثوب، ونصب ((فرجيها)) بإضمار فعل مثل وجدت. ((مح)): وأما إخراج أسماء جبة النبي صلى الله عليه وسلم المكفوفة بالحرير، فقصدت به بيان أن هذا ليس محرماً ما لم يزد على أربع أصابع. الحديث العشرون عن أنس رضي الله صلى الله عليه وسلم: قوله: ((لحكة بهما)) ((مح)): يجوز لبس الحرير في موضع الضرورة كما إذا فاجأت الحرب أو احتاج إليه لحر أو برد، فيجوز للحاجة كالحرب، وفيه وجه؛ أنه لا يجوز وهو منكر ويجوز لدفع القمل في السفر، وكذا في الحضر على الأصح.

4327 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين فقال: ((إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما)). وفي رواية: قلت: أغسلهما: قال: ((بل أحرقهما)) رواه مسلم. وسنذكر حديث عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة في ((باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون عن عبد الله: قوله: ((بل أحرقهما)) ((قض)): ((قيل)): أراد بالإحراق إفناء الثوبين ببيع أو هبة. ولعله استعار به عنه للمبالغة والتشديد في النكير، إنما لم يأذن في الغسل؛ لأن المعصفر وإن كان مكروهاً للرجال فهو غير مكروه للنساء، فيكون غسله تضييعاً وإتلافاً للمال. ويدل على هذا التأويل ما روى: أنه أتى أهله وهم يسجرون التنور فقذفها فيه، ثم لما كان من الغد أتاه فقال له: ((يا عبد الله؛ ما فعلت؟ فأخبره، فقال: أفلا كسوتها بعض أهلك، فإنه لا بأس بها للنساء)) وإنما فعل عبد الله ما فعل، لما رأي من شدة كراهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لفهمه الظاهر، أو لتوهمه عموم الكراهة. ((مح)): اختلفوا في الثياب التي صبغت بالعصفر، فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، ولكنه قال: غيرها أفضل منها. وفي رواية عنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور وكرهه في المحافل والأسواق. وقال جماعة: هو مكروه كراهة تنزيه. وحملوا النبي على هذا؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالعصفر. وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ بعد النسج، فأما ما صبغ ثم نسج فليس بداخل في النهي، وحمل بعضهم النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة؛ ليكون موافقاً لحديث ابن عمر: ((نهى المحرم أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران)). وأما البيهقي فأتقن المسألة في كتابه ((معرفة السنن)). نهى الشافعي الرجل عن المزعفر وأباح له المعصفر؛ فقال أي الشافعي: وإنما رخصت في المعصفر لأني لم أجد أحداً يحكى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه إلا ما قال علي رضي الله عنه: نهاني ولا أقول نهاكم. قال البيهقي: وقد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم؛ ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هذا، ثم أحاديث أخر ثم قال: لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي رضي الله عنه قال بها، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال: إذا صح حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فاعملوا بالحديث ودعوا قولي فهو مذهبي، وأما الأمر بإحراقها فقيل: هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل، ونظيره أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة [فأرسلها].

الفصل الثاني 4328 - عن أم سلمة، قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص رواه الترمذي، وأبو داود. [4328] 4329 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرضع رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. 4330 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه. رواه الترمذي. [4330] 4331 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار)) قال ذلك ثلاث مرات ((ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً)). رواه أبو داود وابن ماجه. [4331] 4332 - وعن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإسبال في الإزار ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني: الحديث الأول والثاني عن أسماء: قوله: ((إلى الرضع)) هكذا هو في الترمذي وأبي داود وفي الجامع بالسين المهملة. ((نه)): هو بالسين المهملة والصاد لغة فيه، وهو مفصل ما بين الكف والساعد. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بميامنه)) أي بجانب يمين القميص، ولذلك جمعه. الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله: ((إزرة المؤمن)) ((نه)): الإزرة بالكسر: الحالة وهيئة الابتزاز مثل الركبة والجلسة أي الحالة والهيئة التي يرتضي منها في الابتزاز، هي أن تكون على هذه الصفة. يقال: اتزر إزارة حسنة. قوله: ((إلى أنصاف ساقيه)) إنما جمعهما ليشعر بالتوسعة لا التضييق. والضمير ((فيما بينه)) راجع إلى ذلك الحد الذي تقع عليه الإزرة، وبيان الحديث مر في الفصل السابق. الحديث الخامس عن سالم: قوله: ((في الإزار)) هو خبر المبتدأ، أي الإسبال الذي فيه الكلام بالجواز وعدمه كائن في هذه الثلاثة.

والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة)). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [4332] 4333 - وعن أبي كبشة، قال: كان كمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحاً رواه الترمذي، وقال: هذا حديث منكر. 4334 - وعن أم سلمة، قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ((ترخي شبراً)) فقالت: إذا تنكشف عنها. قال: ((فذراعاً لا تزيد عليه)). رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. [4334] 4335 - وفي رواية الترمذي، والنسائي، عن ابن عمر، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن قال: ((فيرخين ذراعاً لا يزدن عليه)). [4335] 4336 - وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي كبشة: قوله: ((كمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((قض)): هي جمع كمة القلنسوة المدورة سميت بها لأنها تغطي الرأس. و ((بطحا)) بضم الباء وسكون الطاء، معناه أنها كانت مبسوطة لازقة برءوسهم غير مرتفعة عنها، وقيل: هي جمع ((كم)) كقفاف جمع قف؛ لأنهم قلما كانوا يلبسون القلنسوة. و (بطحا) معناه أنها كانت عريضة واسعة، وهو جمع أبطح من قولهم للأرض المتسعة: بطحاء. وفي الترمذي ((بطح)) بالرفع وفي الجامع بالنصب. ((تو)): وأصحاب الحديث رووه بغير ألف، كذلك لفظ المصابيح بغير ألف التنوين وهو خطأ. فلعل بعضهم رواه من كتابه كذلك، فاتبع الرواة رسم خطه، وهذا دأبهم، لا يتخطون لفظ المروي عنه وإن كان خطأ. أقول: إذا صحت الرواية فلا يكون للطعن مجال، فعلى المرء أن يوجه الكلام، فيحتمل أن يكون في ((كان)) ضمير الشأن، والجملة خبره مبين للاسم، أو يكون ((بطح)) خبر مبتدأ محذوف، نعم؛ الرواية بالنصب أظهر. وفيه أن انتصاب القلنسوة من السنة بمعزل كما يفعله بعضهم. الحديث السابع عن أم سلمة: قوله: ((فالمرأة)) عطف على الكلام المقدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل المقدر قوله: ((إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه)) أي فما تصنع المرأة أو فالمرأة ما حكمها؟ الأخرى. والمراد بالذراع الذراع الشرعي؛ إذ هو أقصر من المتعارف.

مزينة، فبايعوه وإنه لمطلق الأزرار فأدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم. رواه أبو داود. [4336] 4337 - وعن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البسوا الثياب البيض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم)) رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [4337] 4338 - وعن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4338] 4339 - وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي. رواه أبو داود. [4339] 4340 - وعن ركانة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم. [4340] 4341 - وعن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها)). رواه الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [4341] 4342 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه، عمامة أو قميصاً، أو رداءً، ثم يقول: ((اللهم لك الحمد، كما كسوتنيه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن سمرة: قوله: ((أطهر)) لأن البيض أكثر تأثراً من الثياب الملونة، فتكون أكثر غسلاً منها. الحديث العاشر إلى الثاني عشر عن ركانة: قوله: ((فرق ما بيننا)) أي الفارق بيننا أنا نتعمم على القلانس، وهم يكتفون بالعمائم. الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن أبي سعيد: قوله: ((سماه باسمه)) بأن يقال: عمامة أو قميصاً أو رداء أي هذه العمامة ((اللهم لك الحمد كما كستوتنيه))، والضمير راجع إلى المسمي. ((مظ)): ويحتمل أن تسميته عند قوله: ((اللهم لك الحمد كما كسوتني هذه العمامة))، والأول

أسالك خيره، وخير ما صنع له، وأعوذ لك من شره وشر ما صنع له)). رواه الترمذي، وأبو داود [4342] 4343 - وعن معاذ بن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل طعاماً ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه، من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه)). رواه الترمذي، وزاد أبو داود: ((ومن لبس ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). [4343] 4344 - وعن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة؛ إذا أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان قال محمد بن إسماعيل: صالح بن حسان منكر الحديث. [4344] ـــــــــــــــــــــــــــــ أوجه لدلالة العطف بـ ((ثم)). وقوله: ((كما كسوتنيه)) مرفوع المحل مبتدأ والخبر ((أسألك)) وهو المشبه أي مثلما كسوتنيه من غير حول مني ولا قوة أوصل إلى خيره، ووفقني [على] خير ما صنع له من الشكر بالجوارح والقلب، والحمد لله على موليه باللسان وأعوذ بك من الكفران. ((حس)): عن أنس بن مالك: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً لبسه يوم الجمعة. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي على عمر قميصاً أبيض، فقال: ((أجديد قميصك هذا أم غسيل؟)) قال: بل غسيل، فقال صلى الله عليه وسلم: ((البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً)). الحديث الخامس عشر عن معاذ: قوله: ((ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) هكذا هو في القرينة الأخيرة وليس في القرينة السابقة، و ((ما تأخر)) في الترمذي وأبي داود. وقد الحق في بعض نسخ المصابيح قياساً وليس يثبت. الحديث السادس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولا تستخلقي ثوبا)) أي لا تعديه خلقاً. واستخلق نقيض استجد. والكاف في ((كزاد الراكب)) فاعل ((فليكفك)). ((حس)): قال أنس: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين، وقد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبد بعضها فوق بعض. وقيل: خطب عمر رضي الله عنه وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة.

4345 - عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تسمعون؛ ألا تسمعون: إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان)) رواه أبو داود. [4345] 4346 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لبس ثوب شهرة من الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [4346] 4347 – وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد، وأبو داود. [4347] 4348 - وعن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه – وفي رواية: تواضعاً – كساه الله حلة الكرامة، ومن تزوج لله توجه الله تاج الملك)) رواه أبو داود. [4348] 4349 - وروى الترمذي منه عن معاذ بن أنس حديث اللباس. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن أبي أمامة: قوله: ((إن البذاذة)) ((تو)): البذاذة رثاثة الهيئة وترك ما يدخل في باب الزينة. يقال: رجل بذ الهيئة وباذ الهيئة أي رث اللبسة، وفي هيئته بذاذة. والمراد من الحديث أن في اللباس والتوقي عن [التأنق] في الزينة من أخلاق أهل الإيمان، والإيمان هو الباعث عليه. الحديث الثامن عشر عن ابن عمر: قوله: ((ثوب شهرة)) ((قض)): الشهوة ظهور الشيء في [شنعة] بحيث يشتهر به صاحبه. والمراد بثوب شهرة ما لا يحل لبسه وإلا لما رتب الوعيد عليه، أو ما يقصد بلبسه التفاخر والتكبر على الفقراء، والإذلال بهم وكسر قلوبهم، أو ما يتخذه المساخر ليجعل به نفسه ضحكة بين الناس، أو ما يرائي به من الأعمال، فكنى بالثوب عن العمل الصالح وهو الشائع. أقول: والوجه الثاني أظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألبسه الله ثوب مذلة)) ((نه)): أي يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن. الحديث التاسع عشر عن ابن عمر: قوله: ((من تشبه بقوم)) هذا عام في الخلق والخلق والشعار، وإذ كان الشعار أظهر في التشبه ذكره في هذا الباب. الحديث العشرون عن سويد: قوله: ((من تزوج لله)) يحتمل أن يراد به من تصدق بزوجين

4350 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) رواه الترمذي. [4350] 4351 - وعن جابر، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً، فرأي رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، فقال: ((ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه)). ورأي رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: ((ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه)) رواه أحمد والنسائي. [4351] 4352 - وعن أبي الأحوص، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ثوب دون، فقال لي: ((ألك مال)) قلت: نعم. قال: ((من أي المال؟)) قلت: من كل ـــــــــــــــــــــــــــــ أي بصنفين، وهو من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة)). قيل: وما زوجان؟ قال: ((فرسان أو عبدان أو بعيران)). ((نه)): الأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء، فكل شيئين مقترنين شكلين كانا أو نقيضين فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج. ((شف)): ظاهر الحديث أن المراد بالتزوج الإملاك، أي من قصد من تزوج الزوجة ابتغاء وجه الله بأن نزل عن [درجته] فتزوج من دونه في الكفاءة. قوله: ((تاج الملك)) كناية عن إجلاله وتوقيره، أو أعطى في القيامة تاجاً ومملكة في الجنة. ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجاً يوم القيامة في الجنة)). الحديث الحادي والعشرون عن عمرو: قوله: ((يحب أن يرى أثر نعمته)) ((مظ)): يعني إذا آتى الله عبداً من عباده نعمة من نعم الدنيا، فليظهرها من نفسه، بأن يلبس لباساً يليق بحاله لإظهار نعم الله عليه، وليقصده المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات. وكذلك العلماء فليظهروا عملهم ليستفيدوا من علمهم. الحديث الثاني والعشرون عن جابر: قوله: ((ما يسكن به رأسه)) أي يلم به شعثه ويجمع تفرقه فعبر بالسكون عنهما. قوله: ((ما كان يجد هذا)) ((ما)) نافية وهمزة الإنكار مقدرة، أنكر عليه بذاذته لما يؤدي إلى ذلته، أما قوله: ((البذاذة من الإيمان)) فإثبات التواضع للمؤمن. كما جاء: ((المؤمن متواضع وليس بذليل وله العزة دون الكبر)) ومنه حديث أبي بكر: ((إنك لست ممن يفعله خيلاء)). الحديث الثالث والعشرون عن أبي الأحوص: قوله: ((من كل المال)) أي من كل ما تعورف بالمال بين أبناء الجنس، وقوله: ((قد أعطاني الله من الإبل)) بيان له وتفصيل. قوله: ((فلير أثر نعمة الله)) ((حس)): هذا في تحسين الثياب بالتنظيف والتجديد عند الإمكان، من غير أن يبالغ المال: قد أعطاني الله من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق. قال: ((فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته)). رواه أحمد، والنسائي، وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)). [4352] 4353 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: مر رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه. رواه الترمذي، وأبو داود. [4353]

4354 - وعن عمران بن حصين، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أركب الأرجوان، ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير)) وقال: ((ألا وطيب الرجال ريح لا لون له، وطيب النساء لون لا ريح له)). رواه أبو داود. [4354] ـــــــــــــــــــــــــــــ في النعامة والرقة ومظاهرة الملبس على الملبس على ما هو من عادة العجم وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهي عن كثير من الإرفاه. الحديث الرابع والعشرون عن عبد الله: قوله: ((ثوبان أحمران)) ((مظ)): فيه دلالة على أن من كان مرتكباً منهياً في وقت تسليمه لا يستحق جواب السلام. ويستحب أن ينبهه على ذلك. الحديث الخامس والعشرون عن عمران: قوله: ((لا أركب الأرجوان)) ((نه)): هو معرب من أزغوان وهو شجر له نور أحمر، وكل لون يشبهه فهو أرجوان. وقيل: هو الصبغ الأحمر، والذكر والأنثى فيه سواء، يقال: ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان. والأكثر في كلامهم إضافة الثوب أو القطيفة إلى الأرجوان. وقيل: إن الكلمة عربية، والألف والنون زائدتان. ((خط)): أراه أنه أراد المياثر الحمر، وقد يتخذ من ديباج وحرير. وقد ورد النهي عنها لما في ذلك من السرف، وليس ذلك من لباس الرجال. قوله: ((المكفف بالحرير)) ((نه)): أي الذي عمل على ذيله وأكمامه وجيبه كفاف من حرير. وكفة كل شيء بالضم طرفه وحاشيته، وكل مستدير كفة بالكسر ككفة الميزان وكل مستطيل كفة ككفة الثوب. ((قض)): وهذا لا يعارض حديث أسماء ((لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين. وقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ لأنه ربما لم يلبس القميص المكفف بالحرير؛ لأن فيه مزيد تجمل وترفه ولبس الجبة المكففة الخ. قوله: ((ألا وطيب الرجال ريح)) ((فا)): عن النخعي: كانوا يكرهون المؤنث في الطيب ولا يرون بذكورته بأسا. المؤنث ما يتطبب به النساء من

4355 - وعن أبي ريحانة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشر، والوشم، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريراً مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريراً مثل الأعاجم، وعن النهبي، وعن ركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان)). رواه أبو داود، والنسائي. [4355] 4356 - وعن علي، قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لبس ـــــــــــــــــــــــــــــ الزعفران والخلوق وما له ردع. والذكورة طيب الرجال الذي ليس له ردع كالكافور والمسك والعود وغيرها. والتاء في الذكورة لتأنيث الجمع مثلها في الحزونة والسهولة. الحديث السادس والعشرون عن أبي ريحانة: قوله: ((عن الوشر)) ((نه)): الوشر تحديد الأسنان وترقيق أطرافها، تفعله المرأة الكبيرة تتشبه بالشباب. والمؤتشرة التي تأمر أن يفعل بها ذلك. وكأنه من وشرت الخشبة بالمنشار. والوضع أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشي بكحل أو نيل، فيزرق أثره أو يخضر. قوله: ((والنتف)) ((قض)): يريد نتف الشيب، أو الشعر من اللحية أو الحاجب للزينة، والمقتضي للنهي في هذه الثلاثة تغيير الخلقة. قوله: ((عن مكامعة الرجل)) ((نه)): هي أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد لا حاجز بينهما، والكميع الضجيع، وزوج المرأة كميعها. قوله: ((في أسفل ثيابه حريراً)) ((مظ)): يعني لبس الحرير حرام على الرجال سواء كان تحت الثياب أو فوقها. وعادة جهال العجم أن يلبسوا تحت الثياب ثوباً قصيراً من الحرير [ليلين] أعضاءهم. أقول: ولعل لفظي ((يجعل وأسفل)) [ينبئان] عنه، ولو أريد ذلك لقيل: أن يلبس تحت الثياب. وكذا قوله: ((أو يجعل على منكبيه)) كأنه قيل: لا يجعل أسفل الثياب ولا فوقها حريراً. و ((النهبي)) بمعنى النهب، كالنحلي والنحل العطية. وقد يكون اسما لما ينهب كالرقبي والعمري. والمراد بـ ((النمور)) جلودها، والمقتضي للنهي ما فيه من الزينة والخيلاء أو بنحاسة ما عليها من الشعور فإنها لا تطهر بالدباغ، و ((اللبوس)) اللبس. ((خط)) أباح لبس الخاتم لذي سلطان لأنه يحتاج إليه لختم الكتب، وكرهه لغيره؛ لأنه يكون زينة محضة لا حاجة فيه. انتهى كلامه. واللام في قوله: ((لذي سلطان)) للتأكيد، تقديره نهى عن لبوس الخاتم جميعاً إلا ذا سلطان. الحديث السابع والعشرون عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وعن لبس القسي)) ((نه)): هي

القسي والمباثر. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وفي رواية لأبي داود قال: نهى عن مياثر الأرجوان. [4356] 4357 - وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تركبوا الخز ولا النمار)). رواه أبو داود، والنسائي. [4357] 4358 - وعن البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الميثرة الحمراء. رواه في ((شرح السنة)). [4358] 4359 - وعن أبي رمثة التيمي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر. رواه الترمذي. وفي رواية لأبي داود: وهو ذو وفرة وبها ردع من حناء. [4359] ـــــــــــــــــــــــــــــ ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر يقال لها: القس بفتح القاف. وبعض أهل الحديث يكسرها. وقيل: أصل القسي القزي، بالزاي، منسوب إلى القز وهو ضرب من الإبريسم فأبدل من الزاي سيناً. وقيل هو منسوب إلى القس وهو الصقيع لبياضه. و ((المياثر)) جمع ميثرة بالكسر مفعلة من الوثارة يقال: وثر وثارة فهو وثر أي وطئ لين، وأصلها موثرة فقلبت الواو ياء لكسرة الميم، وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج، وتتخذ كالفراش الصغير وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال أو السروج. أقول: والمياثر مطلق يحمل على المقيد كما في الرواية الأخرى. الحديث الثامن والعشرون عن معاوية: قوله: ((لا تركبوا الخز)) ((نه)): الخز معمول من الإبريسم أو ثياب تنسج من صوف وإبريسم. والثانية مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين. وإن أريد به الأول وهو المعروف الآن فهو حرام؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم. قوله: ((ولا النمار)) ((تو)): يعني بالنمار جلود النمور والصواب فيه النمور. ((نه)): وقيل: هي جمع نمرة وهي الكساء المخطط. ولو صح أنه المراد من فلعله كره ذلك؛ لما فيه من الزينة. أقول: ولعل النمار جاء في جمع نمر كما في هذا الحديث. وما روى في النهاية أنه نهى عن ركوب النمار وفي رواية النمور. الحديث التاسع والعشرون والثلاثون عن أبي رمثة: قوله: ((شعر)) إنما نكره ليدل على القلة

4360 - وعن انس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شاكياً، فخرج يتوكأ على أسامة وعليه ثوب قطر قد توشح به فصلى بهم. رواه في ((شرح السنة)). 4361 - وعن عائشة، قالت: كان على النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان قطريان غليظان، وكان إذا قعد فعرق ثقلا عليه، فقدم بز من الشام لفلان اليهودي. فقلت: لو بعثت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة. فأرسل إليه. فقال: قد علمت ما تريد، إنما تريد أن تذهب بمالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذب، قد علم أني من أتقاهم وآداهم للأمانة)). رواه الترمذي، والنسائي. [4361] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي شعر معدود. ((حس)): عن أنس: ((ما عددت في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. قوله: ((وشيبه أحمر)) أي مصبوغ بالحناء. والوفرة شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن. والردع الصبغ يقال: ثوب رديع أي مصبوغ بالزعفران. الحديث الحادي والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((شاكياً)) أي مريضا، والقطر ضرب من البرود فيه حمرة ولها أعلام، وفيه بعض الخشونة. وقيل: هي حلل جياد تحمل من قبل البحرين. قال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال لها: القطرية. و ((قد توشح به)) أي تغشى والأصل به الوشاح، وهو شيء ينسج عريضاً من أديم. وربما يرصع بالجواهر والخرز وتشده المرأة على عاتقها وكشحها، ويقال فيه: وشاح وإشاح. الحديث الثاني والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إذا قعد عرق ثقلا عليه)) الجملة الشرطية كناية عن لحوق التعب والمشقة من الثوبين، والبز ضرب من الثياب وهو عند أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن، لا ثياب الصوف والخز. وإسناد القدوم إلى البز مجازي، أي قدم أصحاب البز. والفاء في ((فقال)) عطف على محذوف، أي فأرسل رسولا إلى اليهودي يستسلف بزاً إلى الميسرة. فطلب الرسول منه، فقال اليهودي: قد علمت ما تريد الخ. و ((ما)) استفهامية علقت العلم عن العمل. ويجوز أن تكون ((ما)) موصولة، والعلم بمعنى العرفان. ويحتمل أن يكون الخطاب نقلا من الرسول معنى ما قاله اليهودي لا لفظه؛ لأن لفظه هو ((علمت ما يريد)) على الغيبة. ويحتمل أن يكون خطاباً للرسول على الإسناد المجازي. و ((من أتقاهم)) أي من زمرة من يعتقدون أنهم من المتقين. وهذا العلم كالعرفان في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. و ((آداهم)) قال الجوهري: يقال: هو آدى منك للأمانة بمد الألف. وقال في الفائق: هو كقولهم: هو أعطاهم للدينار والدرهم.

4362 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب مصبوغ بعصفر مورداً، فقال: ((ما هذا؟)) فعرفت ما كره، فانطلقت، فأحرقته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما صنعت بثوبك؟)) قلت: أحرقته. قال: ((أفلا كسوته بعض أهلك؟ فإنه لا بأس به للنساء)). رواه أبو داود. [4362] 4363 - وعن هلال بن عامر، عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعلي أمامه يعبر عنه. رواه أبو داود. [4363] 4364 - وعن عائشة، قالت: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة سوداء، فلبسها، فلما عرق فيها وجد ريح الصوف، فقذفها. رواه أبو داود. [4364] 4365 - وعن جابر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة قد وقع هدبها على قدميه. رواه أبو داود. [4365] 4366 - وعن دحية بن خليفة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقباطي، فأعطاني منها قبطية، فقال: ((اصدعها صدعين، فانطع أحدهما قميصاً، وأعط الآخر امرأتك تختمر به)). فلما أدبر، قال: ((وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها)). رواه أبو داود. [4366] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والثلاثون عن عبد الله: قوله: ((موردا)) ((تو)): أي صبغاً مورداً أقام الوصف مقام المصدر الموصوف، والمورد ما صبغ على لون الورد. الحديث الرابع والثلاثون عن هلال: قوله: ((يعبر عنه)) أي يبلغ؛ وذلك أن القول لم يكن ليبلغ أهل الموسم، ويسمع سائرهم الصوت الواحد؛ لما فيهم من الكثرة. الحديث الخامس والسادس والسابع والثلاثون عن دحية: قوله: ((بقباطي)) بفتح القاف جمع قبطية. ((نه)): القبطية ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، كأنه منسوب إلى القبط وهو أهل

4367 - وعن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تختمر فقال: ((لية لاليتين)). رواه أبو داود. [4367] الفصل الثالث 4368 - عن ابن عمر، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء. فقال: ((يا عبد الله! ارفع إزارك)) فرفعته، ثم قال: ((زد)) فزدت. فما زلت أتحراها بعد. فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: ((إلى أنصاف الساقين)). رواه مسلم. 4369 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)). فقال أبو بكر: يا رسول الله! إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك لست ممن يفعله خيلاء)). رواه البخاري. 4370 - وعن عكرمة، قال: رأيت ابن عباس يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهر قدمه، ويرفع من مؤخره قلت: لم تأتزر هذه الإزرة؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزرها. رواه أبو داود. [4370] ـــــــــــــــــــــــــــــ مصر. وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، وأما في الناس فقبطي بالكسر، و ((اصدعها صدعين)) أي شقها شقين. قوله: ((لا يصفها)) أي لا يكشف شعرها وجسدها، وهو استئناف بيان للموجب. ويجوز أن يكون مجزوماً جواباً للأمر. وقوله: ((تختمر)) يجوز بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالجزم على أنه جواب الأمر. الحديث الثامن والثلاثون عن أم سلمة: قوله: ((لية)) ((قض)): أمرها أن تجعل الخمار على رأسها وتحت حنكها، عطفة واحدة لا عطفتين حذراً عن الإسراف والتشبه بالمتعممين. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر: قوله: ((أتحراها)) أي أتحرى الفعلة وهي رفع الإزار شيئاً

4371 - وعن عبادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالعمائم؛ فإنها سيماء الملائكة، وأرخوها خلف ظهوركم)). رواه البيهقي. [4371] 4372 - وعن عائشة، أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: ((يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لن يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا)) وأشار إلى وجهه وكفيه. رواه أبو داود. [4372] 4373 - وعن أبي مطر، قال: إن علياً اشترى ثوباً بثلاثة دراهم، فلما لبسه قال: ((الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي)) ثم قال: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. رواه أحمد. [4373] 4374 - وعن أبي أمامة، قال: لبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثوباً جديداً، فقال: الحمد الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ليس ثوباً جديداً فقال: الحمد الله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به، كان في كنف الله وفي حفظ الله وفي ستر الله حياً وميتاً)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [4374] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلى الرابع عن عبادة: قوله: ((فإنها سيماء الملائكة)) أي علامتهم يوم بدر قال الله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} قال الكلبي: معتمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إذا بلغت المحيض)) أي زمان البلوغ، وخص ((المحيض)) للغالب فيها وجاء بـ ((لن)) لتأكيد النفي، وباسم الإشارة لمزيد التقرير، ولعله كان قبل الحجاب. الحديث السادس عن أبي مطر: قوله: ((من الرياش)) والريش لباس الزينة، استعير من ريش

4375 - وعن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، قالت: دخلت حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة وعليها خمار رقيق، فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً. رواه مالك. [4375] 4376 - وعن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، قال: دخلت على عائشة وعليها درع قطري ثمن خمسة دراهم فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي، انظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت، وقد كان لي منها درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة إلا أرسلت إلى تسعيره. رواه البخاري. 4377 - وعن جابر، قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قباء ديباج أهدي له، ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر، فقيل: قد أوشك ما انتزعته يا رسول الله! فقال: ((نهاني عند جبريل)) فجاء عمر يبكي فقال: يا رسول الله! كرهت أمراً وأعطيتنيه، فما لي؟ فقال: ((إني لم أعطكه تلبسه، إنما أعطيتكه تبيعه)). فباعه بألفي درهم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الطير؛ لأنه لباسه وزينته كقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى}. الحديث السابع إلى التاسع عن عبد الواحد: قوله: ((تزهي)) ((نه)): الزهو التكبر والفخر يقال: زهى الرجل فهو مزهو هكذا يتكلم به على سبيل المفعول، كما يقولون: عني بالأمر ونتجت الناقة، وإن كان بمعنى الفاعل. وزها يزهو قليل، ومعناه أنها تترفع عنها ولا ترضاه أن تلبس في البيت فضلا عن أن تخرج بها. والتقيين التزيين، أي تقين وتزين لزفافها. قوله: ((ثمن خمسة دراهم)) أصله ثمنه خمسة دراهم، فقلب وجعل المثمن ثمنا والضمير في ((منها)) راجع إلى جنس الثياب التي لا يؤبه بها. الحديث العاشر عن جابر: قوله: ((ثم أوشك)) أي أسرع إلى نزعه. وقوله: ((كرهت أمراً)) أي لبس هذا الثوب وأعطيتنيه لألبسه. وقوله: ((لم أعطكه تلبسه)) إشارة إلى هذا المعنى وقوله: ((تلبسه وتبيعه)) مرفوعان على الاستئناف لبيان الغرض من الإعطاء.

4378 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثوب المصمت من الحرير، فأما العلم وسدى الثوب فلا بأس به. رواه أبو داود. [4378] 4379 - وعن أبي رجاء، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)). رواه أحمد. [4379] 4380 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف ومخيلة. رواه البخاري في ترجمة باب. [4380] 4381 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة)). رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه. [4381] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن ابن عباس: قوله: ((المصمت من الحرير)) هو الثوب الصمت الذي يكون سداه ولحمته من الحرير لا شيء غيره. الحديث الثاني عشر عن أبي رجاء: قوله: ((مطرف خز)) ((نه)): هو بكسر الميم وضمها وفتحها الثوب الذي في طرفيه علمان، والميم زائدة. قال الفراء: وأصله الضم؛ لأنه في المعنى مأخوذ من أطراف أي جعل في طرفيه العلمان، ولكنهم استثقلوا الضمة فكسروه. وقوله: ((على عبده)) مظهر أقيم مقام المضمر الراجع إلى المبتدأ؛ إشعاراً بإظهار العبودية من أثر رؤية ما أنعم [عليه] ربه ومالكه. الحديث الثالث عشر عن ابن عباس: قوله: ((ما أخطأتك)) ((ما)) للدوام أي: كل من المباحات ما شئت مدة تجاوز الخصلتين عنك. وقوله: ((مخيلة)) أي كبر وخيلاء. ونفي السرف مطلقاً يستلزم نفي المخيلة، فيكون نفي المخيلة بعده للتأكيد، واستيعاب ما يقرب منهما نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا}.

(1) باب الخاتم

4382 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحسن ما زرتم الله في قبوركم ومساجدكم البياض)). رواه ابن ماجه. [4382] (1) باب الخاتم الفصل الأول 4383 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: اتخذ النبي خاتماً من ذهب. وفي رواية: وجعله في يده اليمنى، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتماً من ورق نقش فيه: محمد رسول الله وقال: ((لا ينقشن أحد على نقش خاتمي هذا)) وكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بظن كفه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عشر عن أبي الدرداء: قوله: ((ما زرتم)) ما يجوز أن تكون موصوفة أو موصولة. والعائد محذوف أي: أحسن شيء زرتم الله فيه البياض. وهذا في المساجد ظاهر؛ لأن المسجد بيت الله. وأما في القبور فالمراد الأكفان؛ فإن المؤمن بعد الموت يلقى الله تعالى ويزوره فينبغي أن يكون على أكمل الحال، والله أعلم. باب الخاتم الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم)) ((حس)): هذا الحديث يشتمل على أمرين تبدل الأمر فيهما من بعد، أحدهما: لبس خاتم الذهب وصار الحكم فيه إلى التحريم في حق الرجال. والثاني: لبس الخاتم في اليمين، وكان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم لبسه في اليسار. قوله: ((على نقش خاتمي)) يجوز أن يكون حالا من الفاعل؛ لأنه نكرة في سياق النفي، أوصفة مصدر محذوف أي نقشاً كائناً على نقش خاتمي هذا ومما ثلا له، أو نقشاً مقيساً على نقش خاتمي هذا. ((مح)): وسبب النهي أنه صلى الله عليه وسلم إنما نقش على خاتمه هذا القول؛ ليختم به كتبه إلى الملوك، فلو نقش غيره مثله لدخلت المفسدة وحصل الخلل. وإنما جعل فصه في باطن كفه؛ لأنه أبعد من الزهو والإعجاب. ولما لم يأمر بذلك جاز جعل فصه ظاهر الكف، وقد عمل السلف بالوجهين. والخاتم فيه لغتان: فتح التاء وكسرها. وأجمعوا على إباحة خاتم الذهب للنساء وعلى تحريمه على الرجال. ولو اتخذ الرجل خواتيم كثيرة؛ ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز على المذهب، وقيل: فيه الوجهان الإباحة وعدمها.

4384 - وعن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي، والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع. رواه مسلم. 4385 - وعن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه، فطرحه، فقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟)) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله، لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 4386 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم. فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً حلقة فضة نقش فيه: محمد رسول الله رواه مسلم. وفي رواية للبخاري: كان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وعن تختم الذهب)) ((حس)): هذا النهي في حق الرجال. وأما النساء فقد رخص لهن في حلى الذهب؛ لما روى عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً، فجعله في يمينه وأخذ ذهباً، فجعله في شماله. قال: ((إن هذين حرام على ذكور أمتي)). وكان على عائشة خواتيم ذهب، حتى ذهب بعضهم إلى أنه يكره للمرأة خاتم الفضة؛ لأنه من زي الرجال، فإن لم تجد إلا خاتم فضة تصفره بزعفران ونحوه. ((خط)): إنما نهى عن القراءة في الركوع؛ لأن محل القراءة هو القيام، والركوع موضع التسبيح دون القراءة. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((يعمد أحدكم)) فيه من التأكيد أنه اخرج الإنكاري مخرج الإخباري. وعمم الخطاب بعد نزع الخاتم من يده وطرحه، فدل على غضب عظيم وتهديد شديد، ومن ثم لما قيل لصاحبه: خذ انتفع به، قال: لا والله. ((مح)): فيه إزالة المنكر باليد لمن قدر عليها. وفي قوله: ((لا آخذه أبداً)) المبالغة في امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة. وكان ترك الرجل أخذ خاتمه، إباحة لمن أراد أخذه من الفقراء، فمن أخذه جاز تصرفه فيه. قوله: ((إلى جمرة)) كذا في صحيح مسلم بالتاء، وضمير المؤنث في ((فيجعلها)) وفي نسخ المصابيح بغير التاء والضمير مذكر. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حلقة فضة)) بدل من ((خاتماً)). ((حس)): كان

4387 - وعنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضة، وكان فصه منه. رواه البخاري. 4388 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه. متفق عليه. 4389 - وعنه، قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى. رواه مسلم. 4390 - وعن علي رضي الله عنه، قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه. قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الخاتم في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعده في يد أبي بكر، ثم كان بعده في يد عمر، ثم كان بعده في يد عثمان حتى وقع في بئر أريس من معيقب. وبئر أريس بفتح الهمزة وتخفيف الراء. بئر معروفة قريباً من مسجد قباء عند المدينة. الحديث الخامس إلى الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فص حبشي)) ((نه)): يحتمل أنه أراد من الجزع أو من العقيق؛ لأن معدنهما اليمن والحبشة أو نوعا آخر ينسب إليها. روى مثل ذلك عن عبد الله بن جعفر وابن عمر وابن عباس وعائشة. وقد روى ثابت عن أنس أنه قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه. وأشار إلى الخنصر في يده اليسرى. وروى نافع عن ابن عمر مثله ولا تعارض بينهما؛ لجواز أنه فعل الأمرين فكان يتختم في اليمين تارة، وفي اليسرى أخرى حسبما اتفق، وليس في شيء منها ما يدل صريحاً على المداومة والإصرار على واحد منهما. ((مح)): قد أجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار. واختلفوا في أيتهما أفضل، والصحيح في مذهبنا أن اليمين أفضل؛ لأنه زينة، واليمين أشرف وأحق بالزينة والإكرام. الحديث التاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أو هذه)) أو هذه ليست للترديد بل هي للتقسيم. كما في قوله تعالى: {ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}. ((مح)): يكره للرجل جعل الخاتم في الوسطى والتي تليها كراهة تنزيه، وأما المرأة فلها التختم في الأصابع كلها.

الفصل الثاني 4391 - عن عبد الله بن جعفر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه. رواه ابن ماجه. [4391] 4392 - ورواه أبو داود، والنسائي عن علي. 4393 - وعن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي)). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. [4394] 4395 - وعن معاوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النمور، وعن لبس الذهب إلا مقطعاً. رواه أبو داود، والنسائي. [4395] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول إلى الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إن هذين حرام)) القياس حرامان، إلا أنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع، أو التقدير كل واحد منهما حرام، فأفرد لئلا يتوهم الجمع. الحديث الرابع عن معاوية: قوله: ((إلا مقطعا)) ((تو)): أوله أبو سليمان الخطابي وأحله محل التنزيه والكراهة، فجعل النهي مع الاستثناء مصروفاً إلى النساء. وقال: أراد بالمقطع الشيء اليسير نحو السيف والخاتم. وكره من ذلك الكبير الذي هو عادة أهل السرف، وزينة أهل الخيلاء والكبر. واليسير ما لا تجب الزكاة فيه. وهذا تقدير جيد غير أن لفظ حديث معاوية ما هو بمنبئ عن ذلك ولا مميز في صيغة النهي بين الرجال والنساء. ثم إنه رتب النهي على لبس الذهب على النهي عن ركوب النمور، وذلك عام في حق الرجال والنساء. فيحتمل أن معاوية روى النهي عن لبس الذهب كما رواه غيره، ثم رأي أن اليسير التافه منه إذا ركب على الفضة التي أبيحت للرجال، فتحلى به قبيعة السيف أو حلقة المنطقة، أو يشد به فص الخاتم، غير داخل في النهي؛ قياساً على اليسير من الحرير، فاستدرك ذلك بالاستثناء من كلامه، والله أعلم بحقيقة ذلك.

4396 – وعن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل عليه خاتم من شبه: ((مالي أجد منك ريح الأصنام؟)) فطرحه. ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال ((مالي أرى عليك حلية أهل النار؟!)) فطرحه. فقال: يا رسول الله! من أي شيء أتخذه؟ قال: ((من ورق ولا تتمه مثقالاً)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [4396] وقال محيي السنة، رحمه الله: وقد صح عن سهل بن سعد في الصداق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((التمس ولوخاتماً من حديد)). 4397 - وعن ابن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال: الصفرة – يعني الخلوق – وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: والخطابي أراد بقوله: ((ما لا تجب الزكاة فيه)) بيان اليسير منه، لا أن في الحلي المباح زكاة، أي قدر كان؛ لأنه خلاف للمذهب. الحديث الخامس عن بريدة: قوله: ((خاتم من شبه)) ((خط)): إنما قال في خاتم الشبه: أجد منك ريح الأصنام؛ لأنها كانت تتخذ من الشبه. قوله: ((حلية أهل النار)) ((نه)): الحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، والجمع حلى بالضم والكسر، وجمع الحلية حلى، كلحية ولحى، وربما ضموا، وتطلق الحلية على الصفة. وإنما جعلها حلية أهل النار؛ لأن الحديد زي بعض الكفار، وهم أهل النار. وقيل: إنما كرهه لأجل نتنه ورهوكته. قوله: ((ولا تتمه مثقالا)) ((خط)): هذا نهي إرشاد على الورع؛ لأنه أبعد من السرف. قوله: ((ولو خاتما من حديد)) ((تو)): هو المبالغة في بذل ما يمكنه تقدمه للنكاح، وإن كان شيئاً يسيراً على ما بيناه في بابه، كقول الرجل: أعطني ولو كفا من التراب. وخاتم الحديد وإن نهي عن التختم به فإنه لم يدخل بذلك في جملة ما لا قيمة له. هذا ويحتمل أن يكون النكير عن التختم بخاتم الحديد بعد قوله في حديث سهل: ((التمس ولو خاتماً من حديد))؛ لأن حديث سهل كان قبل استقرار السنن واستحكام الشرائع، وحديث بريدة بعد ذلك. الحديث السادس عن ابن مسعود: قوله: ((يعني الخلوق)) أي استعماله وهو طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الحمرة والصفرة، وقد ورد تارة بإباحته

محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغير محله، وفساد الصبي غير محرمه. رواه أبو داود، والنسائي. [4397] ـــــــــــــــــــــــــــــ وتارة بالنهي عنه، والنهي أكثر وأثبت، وإنما نهى عنه؛ لأنه من طيب النساء، وكن أكثر استعمالا له منهم، والظاهر أن أحاديث النهي ناسخة. والمراد بتغيير الشيب التسويد الملبس، دون الخضاب بالحناء وما يضاهيه؛ إذ ورد الأمر به. والتبرج بالزينة إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال لغير محلها، أي لغير زوجها. والمحل بالكسر حيث يحل لها إظهار الزينة وهو إذا كان عند الزوج، كما قال تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}. و ((الضرب بالكعاب)) يريد به لعب النرد. ((والمعوذات)) هي المعوذتان وما في معناهما من الأدعية والتعوذ بأسمائه تعالى. والمراد بالتمائم ما يحتوي على رقي الجاهلية. قوله: ((وعزل الماء لغير محله)). ((خط)): سمعت في غير هذا الحديث ((عزل الماء عن محله)) وهو أن يعزل ماءه عن فرج المرأة وهو محل الماء، وإنما كره ذلك؛ لأن فيه قطع النسل. والمكروه منه ما كان من ذلك في الحرائر بغير إذنهن، فأما المماليك فلا بأس بالعزل عنهن، ولا إذن لهن مع أربابهن. أقول: يرجع معنى الروايتين أعني إثبات لفظ الغير وغيره إلى معنى واحد؛ لأن الضمير المجرور في محله إذا روى عن محله يرجع إلى لفظ الماء، وإذا روى لغير محله يرجع إلى لفظ العزل. ((خط)): وفساد الصبي هو أن يطأ المرأة المرضع، فإذا حملت فسد لبنها، وكان في ذلك فساد الصبي. ((قض)): ((غير محرمه)) منصوب على الحال من فاعل ((يكره)) أي يكرهه غير محرم إياه. والضمير المجرور لـ ((فساد الصبي)) فإنه أقرب. قال في جامع الأصول: يعني كره جميع هذه الخصال ولم يبلغ به حد التحريم. ((شف)): ((غير محرمه)) عائد إلى فساد الصبي فقط فإنه أقرب وإلا فالتختم بالذهب حرام. وأيضاً لو كان عائداً إلى الجميع لقال: ((محرمها)). أقول: قد تقرر أن الحال قيد للعقل، فما أمكن تعلقه به يجب المصير إليه، إلا ما يخصه الدليل الخارجي. قال الإمام الرازي في مثل هذا: ترك العمل فيه لدليل الإجماع ولم يترك في الباقي. وأما امتناعه بقوله: ((لو كان عائداً إلى الجميع لقال محرمها))، فجوابه أن الضمير المفرد وضع موضع اسم الإشارة، كما في قول رؤبة:

4398 - وعن ابن الزبير: أن مولاة لهم ذهبت بابنة الزبير إلى عمر بن الخطاب وفي رجلها أجراس، فقطعها عمر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مع كل جرس شيطان)). رواه أبو داود [4398] 4399 - وعن بنانة مولاة عبد الرحمن بن حيان الأنصاري كانت عند عائشة إذ دخلت عليها بجارية، وعليها جلاجل يصوتن. فقالت: لا تدخلنها علي إلا أن تقطعن جلاجلها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)) رواه أبو داود. [4399] 4400 - وعن عبد الرحمن بن طرفة، أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [4400] 4401 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار ـــــــــــــــــــــــــــــ فيه سواد وبياض وبلق كأنه في الجلد توليع البهق وقد سبق بيانه مراراً. الحديث السابع والثامن عن بنانة: قوله: ((لا تدخلها على إلا أن تقطعن)) وإنما أدخل نون التأكيد في المضارع تشبيها له بالأمر، كما أدخلت في قوله تعالى: {لاَّ تُصِيبَنَّ} على تقدير أن يكون جواباً لقوله: ((فاتقوا فتنة)) تشبيهاً له بالنهي. قاله في الكشاف. الحديث التاسع عن عبد الرحمن: قوله: ((يوم الكلاب)) ((تو)): بالضم والتخفيف ماء عن يمين جبلة وشمام، وهما جبلان، ويومه يوم القيامة التي كانت عليه، وللعرب به يومان مشهوران في أيام أكثم بن صيفي، يقال: لهما: الكلاب الأول والكلاب الثاني. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن يحلق حبيبه)) التحليق في الحديث

فليطوقه طوقاً من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب؛ ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها)). رواه أبو داود. [4401] 4402 - وعن أسماء بنت يزيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثلها من النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصاً من ذهب جعل الله في أذنها مثله من النار يوم القيامة)). رواه أبو داود والنسائي. [4402] 4403 - وعن أخت لحذيفة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر النساء! أما لكن في الفضة ما تحلين به؟ أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهباً تظهره إلا عذبت به)). رواه أبو داود، والنسائي. [4403] ـــــــــــــــــــــــــــــ راجع إلى معنى قولهم: إبل محلقة، إذ كان وسمها الحلق. و ((حبيبه)) بالحاء المهملة أراد به من يحبه من ولد أو زوجة. ولا يحمل هذا النكير على التهديد، بل على النظر له: والمعنى أن ذلك يضر بحبيبه مضرة النار. قوله: ((فالعبوا بها)) إشارة إلى أن التحلية المباحة معدودة في اللهو واللعب والأخذ بما لا يعنيه. الحديث الحادي عشر عن أسماء: قوله: ((خرصا)) ((نه)): الخرص بالضم والكسر الحلقة الصغيرة من الحلي وهو من حلي الأذن. ((خط)): وهذا يتأول على وجهين: أحدهما أنه إنما قال ذلك في الزمان الأول، ثم نسخ وأبيح للنساء التحلي بالذهب. وثانيهما أن هذا الوعيد إنما جاء فيمن لا يؤدي زكاة الذهب دون من أداها. ((شف)): لو كان هذا الوعيد للامتناع عن أداء الزكاة، لما خص النبي صلى الله عليه وسلم الذهب بالذكر، ولا رخص في الفضة؛ حيث قال: ((ولكن عليكم بالفضة والعبوا بها))؛ إذ لا فرق في وجوب الزكاة بين الذهب والفضة، والحديثان يناديان بالفرق بينهما. أقول: ويمكن أن يجاب عنه بأن الحلي الذي يصاغ من الذهب، إذا أريد أن يصاغ من الفضة، كان حجمه مثل حجمه، ووزنه أقل من وزنه بقريب من نصفه. فالذهب يبلغ مبلغ النصاب بخلاف الفضة. الحديث الثاني عشر عن أخت لحذيفة: قوله: ((تظهره)) يريد النهي في قوله تعالى: {ولا

الفصل الثالث 4404 - عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنع أهل الحلية والحرير، ويقول: ((إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا)). رواه النسائي. [4404] 4405 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً، فلبسه، قال: ((شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة)) ثم ألقاه رواه النسائي. [4405] 4406 - وعن مالك، قال: أنا أكره أن يلبس الغلمان شيئاً من الذهب، لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التختم بالذهب، فأنا أكره للرجال الكبير منهم والصغير. رواه في ((الموطأ)). [4406] ـــــــــــــــــــــــــــــ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} والنهي منصب على الجزأين معاً، فلا يدل على جواز التبرج بالفضة. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إليه نظرة)) الظرف متعلق بالمصدر والخبر محذوف، تقديره: لي نظرة إليه ولي نظرة إليكم، والجملتان مبنيتان لقوله: ((شغلني)). وقوله: ((اليوم)) هو ظرف ((شغلني)) يضاف إلى جملة حذف صدرها تقديره: منذ كان اليوم، هكذا قال الدار الحديثي. والمشهور أن ((منذ)) مبتدأ، وما بعده خبره؛ لأن معنى قولك: منذ يوم الجمعة ومنذ يومان، أول المدة يوم الجمعة وجميع المدة يومان. وقال الزجاج: ما بعده مبتدأ وهو خبر مقدم. قيل: إنه وهم لأن المعنى يأباه؛ فإنك مخبر عن جميع المدة بأنه يومان وكذا اللفظ، لأن يوماً نكرة لا مصحح له، فلا يكون مبتدأ؛ فإن الظرف إنما يكون مصححاً للمبتدأ إذا كان ظرفاً له، ولو كان ظرفاً له لكان زائداً عليه، فعلى المشهور الجملة مستأنفة على طريق السؤال والجواب. الحديث الثالث عن مالك: قوله: ((فأنا أكره للرجال الكبير منهم)) الرجال هنا قد يراد منه الذكور، أو يحمل على التغليب. ((مح)): هل يجوز إلباس حلي الذهب الأطفال الذكور؟ فيه ثلاثة أوجه، الأصح المنصوص جوازه. والله أعلم.

(2) باب النعال

(2) باب النعال الفصل الأول 4407 - عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر. رواه البخاري. 4408 - وعن أنس، قال: إن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها قبالان. [4408] 4409 - وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها يقول: ((استكثروا من النعال؛ فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)) رواه مسلم. 4410 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع)). متفق عليه. 4411 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، ليحفيهما جميعاً أو لينعلهما جميعاً)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب النعال الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قبالان)) ((نه)): القبال بالكسر زمام النعل، وهو السير الذي يكون بين الإصبعين. وقد أقبل نعله وقابلها: إذا جعل لها قبالان. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((لا يزال راكباً)) ((مح)): معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه وقلة تعبه، وسلامة رجله، مما يلقى في الطريق من خشونة وشوك وأذى، ونحو ذلك. وفيه استحباب [الاستظهار] في السفر بالنعال وغيرها مما يحتاج المسافر. الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أولهما)) متعلق بقوله: ((انتعل)) وهو خبر كان ذكره على تأويل العضو. ويحتمل الرفع على أنه مبتدأ، و ((تنعل)) خبره والجملة خبر كان. قوله: ((ليحفيهما جميعاً)) ((قض)): إنما نهى عن ذلك لقلة المروءة والاختلال والخبط في المشي. وما روى عن عائشة أنها قالت: ((ربما مشي النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة)) إن صح فشئ نادر. لعله اتفق في داره بسبب. وروى ((ليحفيهما)) بفتح الياء والفاء، من حفي يحفي، إذا مشي بلا خف ولا نعل. ((مح)): ((لينعلهما)) بضم الياء. 4412 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انقطع شسع نعله فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد، ولا يأكل بشماله، ولا يحتبي بالثوب الواحد، ولا يلتحف الصماء)). رواه مسلم. الفصل الثاني 4413 - وعن ابن عباس، قال: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان، مثنى شراكهما. رواه الترمذي. [4413] 4414 - وعن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً. رواه أبو داود. [4414]

4415 - ورواه الترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة. [4415] 4416 - وعن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: ربما مشى النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة. وفي رواية: أنها مشت بنعل واحدة. رواه الترمذي، وقال: هذا أصح. [4416] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن جابر: قوله: ((شسع نعله)) ((مح)): هو أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام هو الذي يعقد فيه الشسع. انتهى كلامه. ومعنى ((حتى)) أنه لا يمشي في نعل واحدة إذا قطع شسع نعله الأخرى حتى يصلح شسعه، فيمشي بالنعلين، صحح في جامع الأصول في هذا الحديث. قوله: ((لا يمش)) مرتين على النهي. وقوله: ((ولا يأكل)) إلى آخره على الإخبار في معنى النهي وهو أبلغ من النهي، والفرق ظاهر لمزيد الاعتناء بالأكل واللبس. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون قوله: ((ولا يأكل)) نهياً، عطفا على قوله: ((فلا تمش)) قلت: لا يستقيم معنى؛ إذ لا يجوز أن يقال: إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يأكل. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني إلى آخره عن جابر: قوله: ((أن ينتعل الرجل قائماً)) ((مظ)): هذا فيما يحلقه التعب في لبسه قائماً، كالخف والنعال التي يحتاج إلى شد شراكها. [إن] ((من السنة)) اسم ((إن)) قوله: ((أن يخلع)) و ((إذا جلس)) ظرف له.

(3) باب الترجل

4417 - وعن ابن عباس، قال: من السنة إذا جلس الرجل أن يخلع نعليه فيضعهما بجنبه. رواه أبو داود. 4418 - وعن ابن بريدة، عن أبيه، أن النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما. رواه ابن ماجه. وزاد الترمذي عن ابن بريدة، عن أبيه: ثم توضأ ومسح عليهما. [4418] [وهذا الباب خال عن: الفصل الثالث]. (3) باب الترجل الفصل الأول 4419 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض. متفق عليه. 4420 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الترجل ((نه)): الترجل والترجيل تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه. الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الفطرة خمس)) ((قض)): فسرت الفطرة بالسنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. والمراد بالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة، ونتف الإبط نتف شعوره، كذا في صحيح البخاري ومسلم وجامع الأصول، وبعض نسخ المصابيح، وفي بعضها ((الآباط)) بالجمع. قوله: ((الفطرة خمس)) معناه خمس من الفطرة، كما في الرواية الأخرى: ((عشر من الفطرة)) وليست الفطرة منحصرة في العشر، ثم إن معظم هذه الخصال سنة ليست بواجبة، وفي بعضها خلاف كالختان، ولا يمتنع قران الواجب بغيره كما قال تعالى: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فالإيتاء واجب، والأكل ليس بواجب.

3321 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين: أوفروا اللحى، وأحفوا الشوارب)). وفي رواية: ((أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى)) متفق عليه. 4422 - وعن أنس، قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الختان عند الشافعي واجب على الرجال والنساء، ثم إن الواجب في الرجل أن يقطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف. وفي المرأة يجب قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. ((حس)): كان ابن عباس يشدد في الختان فيقول: الأقلف لا تجوز شهادته ولا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته. وكان العباس بن شريح يقول: لا خلاف أن ستر العورة واجب، فلولا أن الختان فرض لما جاز كشف عورة المختون لأجل الختان. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أوفروا اللحى)) ((قض)): أي اتركوا اللحى كثيراً بحالها، ولا تتعرضوا لها واتركوها لتكثر. وفي معناه: ((وأعفوا اللحى وأحفوا الشوارب قصوها)). قيل: أصل الإحفاء الاستقصاء في الكلام، ثم استعير للاستقصاء في أخذ الشارب. وفي معناه: ((أنهكوا الشوارب)) في الرواية الأخرى. والإنهاك المبالغة في الشيء، وقد يستعمل في الطعام والقتال والعقوبة والشتم. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: في اللحية عشر خصال مكروهة، وبعضها أشد من بعض، وهو: خضابها بالسواد، وتبييضها بالكبريت وغيره، ونتفها ونتف الشيب، والنقصان منها والزيادة فيها، وتسريحها تصنعاً لأجل الرياء، وتركها شعشة إظهاراً للزهد، والنظر إلى سوادها عجباً بالشباب، وإلى بياضها تكبراً بعلو السن، وخضابها بالحمرة [والصفرة] تشبيهاً بالصالحين، لا لاتباع السنة. وزاد الشيخ محيي الدين: وعقدها وتصفيفها طاقة فوق طاقة وحلقها، إلا إذا نبتت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وقت لنا)) المغرب: قولهم: هل في ذلك وقت أي حد بين القليل والكثير. وقد اشتقوا منه فقالوا: وقت الله الصلاة أي بين وقتها وحددها، ثم قيل لكل محدود موقوت وموقت.

4423 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) متفق عليه. 4424 - وعن جابر، قال: أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد)) رواه مسلم. 4425 - وعن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): معناه لا يترك تركاً يتجاوز أربعين لا أنهم وقت لهم الترك أربعين؛ لأن المختار أنه يضبط الحلق والتقليم والقص بالطول، فإذا طال حلق وقص وقلم. ((حس)): عن أبي عبد الله الأغر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ويأخذ من أظفاره في كل جمعة. الحديث الخامس والسادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كالثغامة)) ((نه)): هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه بن الشيب. قال أبو [عبد الله]: وقيل: شجرة تبيض كأنها الثلج. وقوله: (بياضا)) تمييز عن النسبة التي فيها التشبيه. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((فيما لم يؤمر فيه)) ((مح)): اختلفوا في تأويل موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء، فقيل: فعله ائتلافاً لهم في أول الإسلام وموافقة لهم على مخالفة عبدة الأوثان، فلما أغنى الله تعالى عن ذلك، وأظهر الإسلام على الدين كله، خالفهم في أمور، منها صبغ الشيب، وقال آخرون: يحتمل أنه أمر باتباع شرائعهم فيما لو يوح فيه إليه شيء. وإنما كان هذا فيما علم أنهم لم يبدلوه. واستدل بعض الأصوليين بالحديث أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه. وقال آخرون: بل هذا يدل على أنه ليس بشرع لنا؛ لأنه قال: ((يحب موافقتهم)) فأشار أنه كان مخيراً فيه، ولو كان شرعاً لنا لتحتم اتباعه. وأراد بالسدل هنا إرسال الشعر على الجبين وإثخانه، واتخاذه كالناصية. يقال: سدل شعره وثوبه إذا أرسل ولم يضم جوانبه. والفرق فرق الشعر بعضه من بعض قالوا: والفرق سنة لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه إنما رجع إليه بوحي؛ لقوله: ((إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به)). فقال القاضي عياض: نسخ السدل فلا يجوز فعله ولا اتخاذ الناصية والجمة. قال: ويحتمل

4426 - وعن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن القزع. قيل لنافع: ما القزع؟ قال: يحلق بعض رأس الصبي، ويترك البعض. متفق عليه. وألحق بعضهم التفسير بالحديث. 4427 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: ((احلقوا كله أو اتركوا كله)) رواه مسلم. 4428 - وعن ابن عباس، قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم)) رواه البخاري. 4429 - وعنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أن المراد جواز الفرق لا وجوبه، ويحتمل أن الفرق كان اجتهاداً في مخالفة أهل الكتاب لا بوحي، فيكون الفرق مستحباً. وقد جاء في الحديث أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لمة، فإن افترقت فرقها، وإلا تركها. فالحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق، والفرق أفضل. الحديث الثامن عن نافع رضي الله عنه. قوله: ((عن القزع)) ((حس)): أصل القزع قطع السحاب المتفرقة، شبه تفاريق الشعر في رأسه بها. ((مح)): القزع حلق بعض الرأس مطلقاً وهو الأصح؛ لأنه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به. وأجمعوا على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة. إلا أن يكون لمداواة، وهي كراهة تنزيه. الحديث التاسع والعاشر عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((والمترجلات)) ((نه)): يعني بالمترجلات من النساء، المتشبهات منهن بالرجال في زيهم وهيأتهم. أما في العلم والرأي فمحمود، كما روى أن عائشة رضي الله عنها كانت رجلة الرأي، أي كان رأيها كرأي الرجال. ((مظ)): خنث يخنث كعلم يعلم إذا انكسر الشيء ولان وفتر. ((حس)): روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخنث، قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فأمر به فنفي إلى البقيع. ((مح)): المخنث ضربان: أحدهما من خلق كذلك، ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء، وزيهن وكلامهن وحركاتهن، وهذا لا ذم عليه ولا إثم ولا عتب ولا عقوبة؛ لأنه معذور. والثاني من المخنث من تكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيأتهن وكلامهن وزيهن، فهذا هو المذموم الذي جاء في الحديث لعنه.

4430 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة)) متفق عليه. 4431 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المتغيرات خلق الله، فجاءته امرأة، فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله. فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والثاني عشر عن ابن عمر: قوله: ((الواصلة)) ((تو)): الواصلة التي تصل شعرها بشعر آخر زوراً، والمستوصلة التي تأمر من يفعل بها ذلك. ((مح)): الأحاديث صريحة في تحريم الوصل مطلقاً وهذا هو الظاهر المختار. وقد فصله أصحابنا فقالوا: إن وصلت بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف؛ لأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد فهو حرام أيضاً، وإن كان، فثلاثة أوجه: أصحها إن فعلته بإذن السيد والزوج جاز. قال مالك رضي الله عنه والطبري والأكثرون: الوصل ممنوع بكل شيء، شعر أو صوف أو خرف أو غيرها، واحتجوا بالأحاديث. وقال الليث: النهي مختص بالعشر فلا بأس بوصله بصوف وغيره. وقال بعضهم: يجوز بجميع ذلك، وهو مروى عن عائشة بل الصحيح عنها كقول الجمهور. الحديث الثالث عشر عن عبد الله: قوله: ((الواشمات)) ((مح)): الوشم هو أن تغرز إبرة أو نحوها في البدن، حتى يسيل الدم ثم يحشى بالكحل والنورة فيخضر. و ((المستوشمة)) من طلبت فعل ذلك، وهو حرام على الفاعلة والمفعول بها. والموضع الذي وشم يصير نجسا؛ فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خاف منه التلف أو فوات عضو أو منفعة أو شيئاً فاحشاً في عضو ظاهر لم تجب إزالته، وإذا تاب لم يبق عليه إثم، وإن لم يخف شيئاً من ذلك لزمه إزالته ويعصي بتأخيره. و ((المتنمصة)) هي التي تطلب إزالة الشعر من الوجه وهو حرام، إلا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب.

4432 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حق)) ونهى عن الوشم. رواه البخاري. 4433 - وعن ابن عمر، قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبداً)). رواه البخاري. 4434 - وعن أنس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((والمتفلجات)) ((نه)): الفلج بالتحريك فرجة ما بين الثنايا والرباعيات والفرق بين السنين. والمراد بهن النساء اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين. و ((للحسن)) اللام فيه للتعليل، ويجوز أن يكون المتنازع فيه بين الأفعال المذكورة، والأظهر أن يتعلق بالأخير ((مح)): فيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه، فلا بأس به. انتهى كلامه. وقوله: ((المغيرات خلق الله)) كالتعليل لوجوب اللعن. ((ومن هو في كتاب الله)) عطف على قوله ((من لعن)) أي من هو ملعون في كتاب الله. والمراد باللوحين الدفتان، واللام في ((لئن كنت)) موطئة للقسم. والثانية لجواب القسم الذي سد مسد جواب الشرط. والياء في ((قرأتيه)) تولدت من إشباع كسرة التاء، أي لو قرأته بالتدبر والتأمل عرفت أن قوله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} إشارة إلى أن لعن رسول الله الواشمات إلى آخره كلعن الله تعالى فيجب أن يؤخذ به. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((العين حق)) ((نه)): يقال: أصابت فلانا عين، إذا نظر إليه عدو أو حسود، فأثرت فيه فمرض بسببها، يقال: عانه يعينه عينا فهو عائن إذا أصابه بالعين، والمصاب معين. ((مح)): أراد بالعين الإصابة بالعين، ومعنى أنه حق أي كائن مقضي به في الوضع الإلهي، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال. أقول: ولعل اقتران النهي عن الوشم بإصابة العين رد لزعم الواش أنه يرد العين. الحديث الخامس عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((ملبداً)) ((فا)): التلبيد أن يجعل في رأسه لزوقا صمغا أو عسلا، ليتلبد فلا يقمل. الحديث السادس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أن يتزعفر الرجل)) ((حس)): قال أبو عيسى: معنى كراهة التزعفر للرجل أن يتطيب به، والنهي عن التزعفر للرجل يتناول

4435 - وعن عائشة، قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب مانجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته. متفق عليه. 4436 - وعن نافع، قال: كان ابن عمر إذا استجمر؛ استجمر بألوة غير مطرأة، وبكافور يطرحه مع الألوة، ثم قال: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم. الفصل الثاني 4437 - عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص، أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن صلوات الرحمن عليه يفعله. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكثير، أما القليل منه فقد روى الرخصة فيه للمتزوج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأي عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع من زعفران ولم ينكر عليه. وقال ابن شهاب: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلقون ولا يرون بالخلوق بأساً. قال عبد الملك: رأيت الشعبي دخل الحمام فخلق بخلوق ثم غسله. الحديث السابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وبيص الطيب)) ((نه)): الوبيص البريق وقد وبص وبيصا. ((مظ)): ولا يشكل هذا بقوله: ((طيب الرجال ما خفي لونه)) لأن المراد ما له لون يظهر زينة وجمالا كالحمرة والصفرة، وما لم يكن كذلك كالمسك والعنبر فهو جائز. الحديث الثامن عشر عن نافع: قوله: ((إذا استجمر)) أي استعمل المجمر وحصل الجمر فيه للبخور. ((مح)): الاستجمار هنا استعمال الطيب والتبخر به مأخوذ من المجمرة وهو البخور. والألوة بفتح الهمزة وضمها وضم اللام، وحكى الأزهري بكسر اللام وتشدد وتخفف وهي العود الذي يتبخر به. قال الأصمعي: أراها فارسة معربة. وقوله: ((غير مطراة)) أي غير مخلوطة بغيرها من الطيب كالمسك والعنبر. ((تو)): والمطراة هي المرباة بما يزيد في الرائحة من الطيب، يقال: عود مطري ومطير أيضاً وهو مقلوب من مطري. قال الشاعر: إذا مشت نادى بما في ثيابها ذكي الشذا والمندلي المطير أقول: الباء في ((بما في ثيابها)) تجريدية؛ لأن ذكي الشذا والمندلي غير ما في ثيابها، وهي كقولك: رأيت بك أسداً. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وكان إبراهيم)) يعني كان رسول الله

4438 - وعن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي. [4438] 4439 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. رواه الترمذي، وقال هذا حديث غريب. [4439] 4440 - وعن يعلى بن مرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي عليه خلوقاً، فقال: ((ألك امرأة؟)) قال: لا. قال: ((فاغسله. ثم اغسله، ثم اغسله، ثم لا تعد)) رواه الترمذي والنسائي. [4440] 4441 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق)). رواه أبو داود. [4441] 4442 - وعن عمار بن ياسر، قال: قدمت على أهلي من سفر وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فلم يرد على وقال: ((اذهب فاغسل هذا عنك)) رواه أبو داود. [4442] ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم يتبع سنة أبيه إبراهيم عليه السلام كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قيل: الكلمات خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، وغير ذلك. الحديث الثاني والثالث عن عمرو: قوله: ((كان يأخذ من لحيته)) هذا لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعفوا اللحى))؛ لأن المنهي عنه هو قصها كفعل الأعاجم أو جعلها كذنب الحمام. والمراد بالإعفاء التوفير منه كما في الرواية الأخرى. والأخذ من الأطراف قليلا، لا يكون من القص في شيء. الحديث الرابع عن يلعى: قوله: ((ألك امرأة)) ((مظ)): يعني إن كان لك امرأة أصابك من بدنها وثوبها الخلوق من غير أن تقصد استعماله، حتى تكون معذوراً فيه. فقال: ليس لي امرأة فأمر بغسله ثلاث مرات للمبالغة.

4443 - وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه)) رواه الترمذي والنسائي. [4443] 4444 - وعن أنس، قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها. رواه أبو داود. [4444] 4445 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته، ويكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيات. رواه في شرح السنة. [4445] 4446 - وعن أم هانئ، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا بمكة قدمة، وله أربع غدائر. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [4446] 4447 - وعن عائشة، قالت: إذا فرقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه صدعت فرقه عن يافوخه، وأرسلت ناصيته بين عينيه. رواه أبو داود. [4447] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما ظهر لونه)) ((حس)): قال سعد: أراهم حملوا قوله: ((وطيب النساء)) إذا أرادت أن تخرج، فأما إذا كانت عند زوجها فلتتطيب بما شاءت. روى عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل عين زانية، فالمرأة إذا استعطرت بالمجلس فهي كذا وكذا)) يعني زانية. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سكة)) السكة بالضم ضرب من الطيب. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((دهن رأسه)) ((قض)): الدهن بالفتح استعمال الدهن، وتسريح اللحية تمشيطها. والقناع خرقة تلقى على الرأس عند استعمال الدهن؛ لئلا تتسخ العمامة، شبهت بقناع المرأة. والمعنى تكثير اتخاذه واستعماله بعد الدهن. الحديث التاسع عن أم هانئ [رضي الله عنها]: قوله: ((قدمة)) القدمة المرة الواحدة من القدوم، والغدائر الضفائر، الواحدة غديرة. الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((صدعت)) أي فرقت ((فرقة)) بسكون الراء وهو الخط الذي يظهر بين شعر الرأس إذا قسم قسمين. وذلك الخط هو بياض بشرة الرأس، الذي يكون بين الشعر واليافوخ وسط الرأس، وموضع ما يتحرك من رأس الطفل، يعني كان أحد طرفي ذلك الخط عند اليافوخ، والطرف الآخر عند جبهته محاذيا لما بين عينيه.

4448 - وعن عبد الله بن مغفل، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً. رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [4448] 4449 - وعن عبد الله بن بريدة، قال: قال رجل لفضالة بين عبيد: مالي أراك شعثاً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه. قال: مالي لا أرى عليك حذاء؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً. رواه أبو داود. [4449] 4450 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له شعر فليكرمه)) رواه أبو داود. [4450] 4451 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحسن ما غير به الشيب الحناء والكتم)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [4451] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وأرسلت ناصيته بين عينيه)) أي جعلت رأس فرقه محاذياً لما بين عينيه، بحيث يكون نصف شعر ناصيته من جانب يمين ذلك الفرق، والنصف الآخر من جانب يسار ذلك الفرق. الحديث الحادي عشر عن عبد الله: قوله: ((عن الترجل)) ((قض)): أراد به التمشط، و ((الغب)) أن يفعل يوما ويترك يوما. والمراد به النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به؛ لأنه مبالغة في التزين وتهالك به. الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن بريدة: قوله: ((من الإرفاه)) في الغريبين: أصله من ورود الإبل في الماء متى شاءت. وأرفه القوم إذا فعلت إبلهم ذلك، شبه كثرة التدهن وإدمانه به. قال أبو سعيد: الإرفاه التنعم والدعة، ومظاهرة الطعام على الطعام واللباس على اللباس. ((حس)): ومنه أخذت الرفاهية، فكره النبي صلى الله عليه وسلم الإفراط في التنعم من التدهين والترجيل، على ما هو من عادة الأعاجم، وأمر بالقصد في جميع ذلك. وليس معناه ترك الطهارة والتنظيف؛ فإن النظافة من الدين. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((فليكرمه)) يعني فليزينه ولينظفه بالغسل والتدهين، ولا يتركه متفرقا؛ فإن النظافة وحسن المنظر محبوب. الحديث الرابع عشر عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((والكتم)) ((نه)): هو نبت يخلط بالوسمة ويصبغ به الشعر أسود. وقيل: هو الوسمة، ومنه الحديث: ((إن أبا بكر كان يصبغ

4452 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد، كحواصل الحمام، لا يجدون رائحة الجنة)) رواه أبو داود، والنسائي. [4452] 4453 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك. رواه النسائي. [4453] 4454 - وعن ابن عباس، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء. فقال: ((ما أحسن هذا)). قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم. فقال: ((هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحناء والكتم)). ويشبه أن يراد استعمال الكتم مفرداً عن الحناء؛ فإن الحناء إذا خضب به مع الكتم، جاء أسود، وقد صح النهي عن السواد، ولعل الحديث بالحناء أو الكتم على التخيير، ولكن الروايات على اختلافها بالحناء والكتم. ((حس)): سئل أنس بن مالك هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم يشنه الشيب ولكن خضب أبو بكر بالحناء. الحديث الخامس عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بهذا السواد)) قيل: معناه يخضبون الشيب بالسواد، وأراد جنس السواد لا نوعه المعين. والحواصل: الصدور، وإن كانت الحوصلة المعدة، ومعناه كحواصل الحمام في الغالب؛ لأن حواصل بعض الحمامات ليست بسود. وقوله: ((لا يجدون رائحة الجنة)) مبالغة في زجر تغيير الشيب بالسواد. ويجوز أن يكون الإشارة بهذا لأكمل التمييز، والتشبيه بالحواصل لأجل أن لا يشوبه شيء من لون آخر. ونحوه في التشبيه قول ابن المعتز: كأن البرق مصحف قار فانطباقا مرة وانفتاحا لم ينظر إلى شيء من أوصاف المشبه والمشبه به سوى الهيئة من انبساط غب انقباض. الحديث السادس عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((السبتية)) ((نه)): السبت بالكسر جلود البقر المدبوغة بالقرظ، يتخذ منها النعال، سميت ذلك؛ لأن شعرها قد سبت عنها، أي حلق وأزيل وقيل: لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت. وفي تسميتهم النعال المتخذة من السبت سبتياً اتساع، مثل قولهم: فلان يلبس الصوف والقطن والإبريسم أي الثياب المتخذة منها.

أحسن من هذا)). ثم مر آخر قد خضب بالصفرة. فقال: ((هذا أحسن من هذا كله)) رواه أبو داود. [4454] 4455 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود)) رواه الترمذي. [4455] 4456، 4457 - * ورواه النسائي، عن ابن عمر، والزبير. [4456]، [4457] 4458 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم. من شاب شيبة في الإسلام؛ كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعة بها درجة)) رواه أبو داود. [4458] 4459 - وعن كعب بن مرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من شاب شيبة في الإسلام؛ كانت له نوراً يوم القيامة)). رواه الترمذي، والنسائي. [4459] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر إلى التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإنه نور المسلم)) أي وقاره. وعن مالك عن سعيد بن المسيب: أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من رأي الشيب، فقال: رب ما هذا؟. فقال له: وقار، فقال: رب زدني وقاراً. انتهى كلامه. وذلك لأن الوقار يمنع الشخص عن الغرور والطرب والنشاط، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسه عن الشهوات، فيصير ذلك نوراً، يسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن يدخله الجنة. والإضافة في قوله: ((نور المسلم)) لمزيد الاختصاص به، وأما ستره بالخضاب فلأمر عارض وهو إرغام الأعداء وإظهار الجلادة لهم؛ كيلا يظن بهم الضعف في بنيتهم، والقدح في شجاعتهم.

4460 - وعن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة، ودون الوفرة. رواه الترمذي، والنسائي. [4460] 4461 - وعن ابن الحنظلية، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل خريم الأسدي، لولا طول جمته، وإسبال إزاره)) فبلغ ذلك خريماً، فأخذ شفرة، فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه. رواه أبو داود. [4461] 4462 - وعن أنس، قال: كانت لي ذؤابة، فقالت لي أمي: لا أجزها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدها، ويأخذها. رواه أبو داود. [4462] 4463 - وعن عبد الله بن جعفر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم، فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم)). ثم قال: ((ادعوا لي بني أخي)) فجيء بنا كأنا أفرخ. فقال: ((ادعوا لي الحلاق)) فأمره فحلق رءوسنا. رواه أبو داود، والنسائي. [4463] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العشرون والحادي والعشرون والثاني والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((دون الوفرة)) ((حس)): الوفرة الشعر إلى شحمة الأذن، والجمة إلى المنكب، واللمة هي التي ألمت بالمنكبين. الحديث الثالث والعشرون عن ابن الحنظلية: قوله: ((رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)) مجرور على البدل. ويجوز ذلك لكونه موصوفاً. وقوله: ((جمته إلى أذنيه)) ((حس)): هذا في حق الرجال. وأما النساء فإنهن يرسلن شعورهن، لا يتخذن جمة. ((شف)): فيه دليل على أنه يجوز للمسلم أن يذكر أخاه الغائب بما فيه مما يزري به شرعاً، إذا علم أنه يرتدع عنه، ويترك عند سماعه. الحديث الرابع والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا أجزها)) هذا لا يخالف الحديث السابق؛ لأنها عللت عدم الجز بأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها تبركا وتيمنا. الحديث الخامس والعشرون عن عبد الله: قوله: ((أمهل)) أي أمهلهم أن يبكوا ثلاثة أيام.

4464 - وعن أم عطية الأنصارية: أن امرأة كانت تختن بالمدينة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة، وأحب إلى البعل)). رواه أبو داود، وقال: هذا الحديث ضعيف، وراويه مجهول. [4464] 4465 - وعن كريمة بنت همام: أن امرأة سألت عائشة عن خضاب الحناء. فقالت: لا بأس، ولكني أكرهه، كان حبيبي يكره ريحه. رواه أبو داود. والنسائي. 4466 - وعن عائشة، أن هنداً بنت عتبة قالت: يا نبي الله! بايعني. فقال: ((لا أبايعك حتى تغيري كفيك، فكأنهما كفا سبع)). رواه أبو داود. [4466] 4467 - وعنها، قالت: أومت امرأة من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده. فقال: ((ما أدرى أيد رجل أم يد امرأة؟)). قالت: بل يد امرأة. قال: ((لو كنت امرأة لغيرت أظفارك)) يعني بالحناء. رواه أبو داود، والنسائي. [4467] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): إنما قال: ثلاثا عناية لليالي ((وادعوا لي بني أخي)) أراد عبد الله وعونا ومحمداً بني جعفر ابن أبي طالب. وإنما حلق رءوسهم؛ لأنه رأي أمهم أسماء بنت عميس حقيقة بأن تشغل عن ترجيل شعورهم وغسل رءوسهم لما أصابها من الفجيعة. الحديث السادس والعشرون عن أم عطية: قوله: ((لا تنهكي)) ((حس)): أي لا تبالغي في الخفض، ويروى ((أشمى)) أي لا تستقصي. الحديث السابع والعشرون والثامن والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كفا سبع)) شبه يديها حين لم تخضبهما بكفي سبع في الكراهية؛ لأنها جينئذ متشبهة بالرجال. ويؤيده الحديث الذي يجيء بعد: ((لو كنت امرأة لغيرت أظفارك)). وفيه بيان كراهية خضاب الكفين للرجال تشبيهاً بالنساء. الحديث التاسع والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بيدها كتاب)) صفة، ويجوز أن تكون الجملة حالا. والوجه أن تحمل على أن ((كتاب)) فاعل للجار والمجرور لا مبتدأ؛ للزوم أن تكون الجملة الاسمية حالا، بغير واو، وإن جاز على ضعف، قوله: ((لو كنت امرأة)) أي لو كنت تراعين شعار النساء لخضبت يدك.

4468 - وعن ابن عباس، قال: لعنت الواصلة والمستوصلة، والنامصة، والمتنمصة، والواشمة، والمستوشمة من غير داء. رواه أبو داود. [4468] 4469 - وعن أبي هريرة، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل. رواه أبو داود. [4469] 4470 - وعن ابن أبي مليكة، قال: قيل لعائشة: إن امرأة تلبس النعل. قالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء. رواه أبو داود. [4470] 4471 - وعن ثوبان، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليها فاطمة، فقدم من غزاة وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلت الحسن والحسين قلبين من فضة، فقدم فلم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل ما رأي، فهتكت الستر، وفكت القلبين عن الصبيين، وقطعته منهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكيان، فأخذه منهما فقال: ((يا ثوبان! اذهب بهذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثلاثون عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((من غير داء)) ((مظ)): أي أن احتاجت إلى الوشم للمداواة جاز، وإن بقي منه أثر. الحديث الحادي والثلاثون والثاني والثلاثون عن ابن أبي مليكة: قوله: ((من النساء)) بيان ((للرجلة))؛ لأن التاء فيها لإرادة الوصفية. الكشاف في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وانطواء الشجة)): يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفها بالشج، الذي هو وسط الظهر؛ إلا أنه ألحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف. الحديث الثالث والثلاثون عن ثوبان: قوله: ((من أهله فاطمة)) ((فاطمة)) خبر ((كان)) على تقدير مضاف أي عهد فاطمة ليصح الحمل، والجملة جواب الشرط والشرطية خبر ((كان)). والمسح البلاس، والقلب – بالضم – السواران. و ((ما)) في ((أن ما منعه)) موصولة لاكافة. وحقها أن تكتب غير موصولة ((بأن))، ويجوز أن تكون كافة. و ((ما)) في ((ما رأي)) موصولة فاعل ((منعه))، وعلى الأول مصدرية. قوله: ((فأخذه منهما)) ((شف)): أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الرأفة والرقة عليهما. أقول: ويجوز أن يكون الضمير واقعا موقع اسم الإشارة، أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أي القلب المفكك. ويدل على أنه بمعنى اسم الإشارة التصريح بقوله: ((اذهب بهذا)) وهذا للتحقير.

إلى فلان، إن هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. يا ثوبان! اشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج)). رواه أحمد، وأبو داود. [4471] 4472 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اكتحلوا بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر)). وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مكحلة يكتحل بها كل ليلة، ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه. رواه الترمذي. [4472] 4473 - عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتحل قبل أن ينام بالإثمد ثلاثاً في كل عين. قال: وقال: ((إن خير ما تداويتم به: اللدود، والسعوط، والحجامة، والمشي. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن هؤلاء أهلي)) هو استئناف لبيان الموجب للمنع، ((وأهلي)) خبر (لإن)، فالإتيان باسم الإشارة للتعظيم. فالمعنى لا يجوز هذا المحقر في هؤلاء العظماء. وقوله: ((وأكره)) استئناف آخر. قوله: ((من عصب)) ((نه)): قال الخطابي في المعالم: إن لم تكن الثياب اليمانية، فلا أدري ما هو؟ وما أرى أن القلادة تكون منها. وقال أبو موسى: يحتمل عندي أن الرواية إنما هي العصب بفتح الصاد، وهو إطناب مفاصل الحيوانات، وهو شيء مدور، فيحتمل أنهم كانوا يأخذون عصب بعض الحيوانات الطاهرة، فيقطعونه ويجعلونه شبه الخرز فإذا يبس يتخذون منه القلائد. وإذا جاز وأمكن أن يتخذ من عظام السلحفات وغيرها الأسورة، جاز وأمكن أن يتخذ من عصب أشباهها خرز وينظم منها القلائد. قال: ثم ذكر لي بعض أهل اليمن أن العصب من دابة بحرية تسمى فرس فرعون، يتخذ منها الخرز وغير الخرز من نصاب سكين وغيره، ويكون أبيض. قوله: ((من عاج)) [((تو))]: ذكر الخطابي في تفسيره أن العاج هو الذيل وهو عظم أظهر السلحفات البحرية، ونقل ذلك عن الأصمعي. ومن العجب العدول عن اللغة المشهورة إلى ما لم يشتهر بين أهل اللسان، والمشهور أن العاج عظم أنياب الفيلة. ((مح)): طهارة عظم الحيوانات لا تحصل إلا بالذكاة في مأكول اللحم، إلا إذا قلنا بالضعيف أن عظام الميتة طاهرة، ذكره في الروضة. الحديث الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون عن ابن عباس: قوله: ((اللدود)) ما يسقى المريض في أحد شقي فيه، وأصله اللديد لجانب الوادي. والسعوط ما يصب منه في الأنف. والمشي بالفتح الدواء المسهل. ويقال: المشو أيضاً فهما فعيل وفعول من المشي. وأصله

وخير ما اكتحلتم به الإثمد، فأنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة. ويوم إحدى وعشرين)) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به، ما مر على ملأ من الملائكة إلا قالوا: عليك بالحجامة. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4473] 4474 - وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال والنساء عن دخول الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوا بالمئازر. رواه الترمذي، وأبو داود. [4474] 4475 - وعن أبي المليح، قال: قدم على عائشة نسوة من أهل حمص. فقالت: من أين أنتن؟ قلن: من الشام. فلعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: قالت: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تخلع امرأة ـــــــــــــــــــــــــــــ الذهاب والإطلاق. ((نه)): وإنما سمى الدواء المسهل مشياً؛ لأنه يحمل شاربه على المشي والتردد إلى الخلاء. ((تو)): وجه مبالغة الملائكة في الحجامة سوى ما عرفوا فيها من المنفعة التي تعود إلى الأبدان، هو أن الدم مركب من القوى النفسانية الحائلة بين العبد وبين الترقي إلى ملكوت السموات، والوصول إلى الكشوف الروحانية. وبغلبته يزداد جماح النفس وصلابتها، فإذا نزف الدم يورثها ذلك خضوعا وخموداً ولينا ورقة. وبذلك ينقطع الأدخنة المنبعثة عن النفس الأمارة وتحسم مادتها، فتزداد [البصيرة] نوراً إلى نورها. قوله: ((يوم سبع عشرة)) ((يوم)) مرفوع خبر ((إن)). وقوله: ((وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) إلى آخره، جملة مستطردة قالها الراوي حثاً على الحجامة. الحديث السادس والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((نهى الرجال والنساء)) ((مظ)) إنما لم يرخص للنساء في دخول الحمام؛ لأن جميع [أعضائهن] عورة، وكشفها غير جائز إلا عند الضرورة، مثل أن تكون مريضة تدخل للتداوي، أو تكون قد انقطع نفاسها، تدخل للتنظيف، أو تكون جنباً والبرد شديد ولم تقدر على تسخين الماء، وتخاف من استعمال الماء البارد ضرراً. ولا يجوز للرجال الدخول بغير إزار ساتر لما بين سرته وركبته. الحديث السابع والثلاثون عن أبي مليح: قوله: ((من الكورة)) هي المدينة والصقع، والجمع [كور]. وقوله: ((إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)) وذلك أن الله تعالى أنزل لباساً ليوارى به سوآتهن، وهو لباس التقوى، فإذا لم يتقين الله وكشفن سوآتهن، فهتكن الستر بينهن وبين الله تعالى.

ثيابها في غير بنت زوجها؛ إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)). وفي رواية: ((في غير بيتها؛ إلا هتكت سترها بينها وبين الله عز وجل)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4475] 4476 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتاً، يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر، وامنعوها النساء، إلا مريضة، أو نفساء)). رواه أبو داود. [4476] 4477 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يدخل الحمام بغير إزار. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يدخل حليلته الحمام. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يجلس على مائدة تدار عليها الخمر)). رواه الترمذي، والنسائي. [4477] الفصل الثالث 4478 - عن ثابت، قال: سئل أنس عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه؛ فعلت. قال: ولم يختضب. زاد في رواية: وقد اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتاً. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع والثلاثون عن عبد الله: قوله: ((إلا بالأزر)) ((حس)): عن جبير بن نفير: قال: قرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام: لا يدخل الرجل الحمام إلا بمئرز، ولا تدخل المرأة إلا من سقم. واجعلوا اللهو في ثلاثة أشياء: الخيل، والنساء، والنصال. وعن أبي الدرداء: أنه كان يدخل الحما فيقول: نعم البيت الحمام يذهب الصنة ويذكر النار. قال الأزهري أراد بالصنة الصنان. وروى أن ابن عباس دخل حماماً بالجحفة وهو محرم، فقال: ما يعبؤ الله بأوساخنا شيئاً. الفصل الثالث الحديث الأول عن ثابت: قوله: ((شمطات)) ((نه)): الشمطات الشعرات البيض التي كانت في شعر رأسه، يريد قتلها. والبحت الخالص الذي لا يخالطه شيء.

4479 - وعن ابن عمر، أنه كان يصفر لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة فقيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شيء أحب إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها، حتى عمامته. رواه أبو داود والنسائي. [4479] 4480 - وعن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: دخلت على أم سلمة، فأخرجت إلينا شعراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً. رواه البخاري. 4481 - وعن أبي هريرة، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخنث، قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال هذا؟)) قالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى النقيع. فقيل: يا رسول الله! ألا تقتله؟ فقال: ((إني نهيت عن قتل المصلين)). رواه أبو داود. [4481] 4482 - وعن الوليد بن عقبة، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيدعو لهم بالبركة. ويمسح رءوسهم، فجيء بي إليه وأنا مخلق، فلم يمسني من أجل الخلوق. رواه أبو داود. 4483 - وعن أبي قتادة، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جمة، أفأرجلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وأكرمها)). قال: فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، وأكرمها)). رواه مالك. [4483] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((يصفر لحيته بالصفرة)) ((حس)): كان الحسن البصري يصفر لحيته حيناً ثم تركه. وعن أبي أمامة وجرير بن عبد الله والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن بسر أنهم كانوا يصفرون لحاهم، وكان سالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب يفعلان ذلك، ويكرهون الخضاب بالسواد ولم يره بعض. قال سعيد بن جبير: يعمد أحدكم إلى نور جعله الله في وجهه فيطفئه. وكان شديد بياض الرأس واللحية. الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلى النقيع)) هو بالنون موضع بالمدينة كان حمى. الحديث الخامس إلى السابع عن الحجاج: قوله: ((وأنت يومئذ غلام)) حال عن مقدر يعني

4484 - وعن الحجاج بن حسان، قال دخلنا على أنس بن مالك، فحدثتني أختي المغيرة، قالت: وأنت يومئذ غلام، ولك قرنان، أو قصتان، فمسح رأسك، وبرك عليك، وقال: ((احلقوا هذين أو قصوهما؛ فإن هذا زي اليهود)). رواه أبو داود. [4484] 4485 - وعن علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها. رواه النسائي. [4485] 4486 - وعن عطاء بن يسار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل، ثم رجع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم وهو ثائر الرأس كأنه شيطان)). رواه مالك. [4486] 4487 - وعن ابن المسيب سمع يقول: ((إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود؛ فنظفوا – أراه قال: أفنيتكم -، ولا تشبهوا باليهود)). [4487] ـــــــــــــــــــــــــــــ أنا أذكر أنا دخلنا على أنس مع جماعة، ولكني أنسيت كيفية الدخول فحدثتني أختي، وقالت: أنت يوم دخولك غلام .. إلى آخره. والمغيرة هذه رأت أنساً وروت عنه. و ((القصة)) بالقاف المضمومة والضاد المعجمة شعر الناصية، وقرون الشعر الضفائر. الحديث الثامن عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أن تحلق المرأة رأسها)) وذلك أن الذوائب للنساء كاللحى للرجال في الهيئة والجمال. وفيه جواز حلق الرجل. الحديث التاسع والعاشر عن ابن المسيب: قوله: ((فنظفوا)) الفاء فيه جواب شرط محذوف، إذا تقرر ذلك فطيبوا كل ما أمكن تطييبه. ونظفوا كل ما سهل لكم تنظيفه حتى أفنية الدار. وهي متسع أمام الدار، وهو كناية عن نهاية الكرم والجود؛ فإن ساحة الدار إذا كانت واسعة نظيفة طيبة، كانت أدعى لجلب الضيفان الواردين والصادرين. وإليه ينظر قول الحماسي: فإن تمش مهجور الفناء فربما أقام به بعد الوفود وفود

قال: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار، فقال: حدثنيه عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: ((نظفوا أفنيتكم)). رواه الترمذي. 4488 - وعن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان إبراهيم خليل الرحمن أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأي الشيب. فقال: يا رب: ما هذا؟ قال الرب تبارك وتعالى: وقار يا إبراهيم. قال: رب زدني وقاراً. رواه مالك. [4488] ـــــــــــــــــــــــــــــ ومنه حديث أم أبي زرع ((قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك)). والفرق بين الكرم والجود أن الجود بذل المقتنيات. ويقال: رجل جواد وفرس جواد، يجود بمدخر عدوه. والكرم إذ وصف الإنسان به فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم، حتى يظهر ذلك منه. وقوله {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فإنما كان كذلك؛ لأن الكرم الأفعال المحمودة، وأشرف ما يقصد به وجه الله تعالى، فمن قصد ذلك بمحاسن فعله، فهو التقى، فإذن أكرم الناس أتقاهم كل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم. قال تعالى {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} {ومَقَامٍ كَرِيمٍ} {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} قاله الراغب. الحديث الحادي عشر عن يحيى: قوله: ((ضيف)) الضيف هو خبر ((كان)) و ((أول الناس)) ظرف له، وكذا ما بعده. ويحتمل أن يكون ((أول الناس)) خبر ((كان)) و ((ضيف)) يكون مؤولا بمصدر وقع تمييزاً، أي أول الناس تضييفاً، أو يقدر المميز ويكون الفعل المذكور بياناً له. و ((ضيف الضيف)) مجاز باعتبار ما يؤول إليه، كقول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أراد أحدكم الحج، فليعجل؛ فإنه يمرض المريض، وتضل الضالة. فسمى المشارف للضيف، والمرض والضلال ضيفاً ومريضاً وضالة. وسمى الشيب وقاراً؛ لأن زمان الشيب أوان رزانة النفس والسكون والثبات في مكارم الأخلاق. قال الله تعالى: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما لكم لا تخافون لله عاقبة؛ لأن العاقبة حال استقرار الأمور، وثبات الثواب والعقاب، من وقر إذا ثبت واستقر.

(4) باب التصاوير

(4) باب التصاوير الفصل الأول 4489 - وعن أبي طلحة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا تصاوير)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب التصوير الفصل الأول الحديث الأول عن أبي طلحة: قوله: ((فيه كلب ولا تصاوير)) ((خط)): إنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور. وأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة ونحوها، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه. ((مح)): الأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير، كان له فيه عذر ظاهر؛ لأنه لم يعلم به ومع هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت وعلله بالجرو. وقال العلماء: سبب امتناعهم من الدخول في بيت فيه صورة، كونها معصية فاحشة. وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى. وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى، ومن الدخول في بيت في كلب؛ كونه يأكل النجاسة؛ ولأن بعضه يسمى شيطاناً، كما ورد في الحديث، والملائكة ضد الشياطين؛ ولقبح رائحته، ومن اقتناه عوقب بحرمان دخول الملائكة بيته، وصلاتها عليه، واستغفارها له، وهؤلاء الملائكة غير الحفظة؛ لأنهم لا يفارقون المكلفين. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صور الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار وغير ذلك. وأما تصوير صورة الشجر [والرحال] وغير ذلك فليس بحرام. هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ المصور بحيوان فإن كان معلقاً على حائط، سواء كان له ظل أو لا أو ثوباً ملبوساً أو عمامة أو نحو ذلك فهو حرام. وأما الوسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول الملائكة فيه أم لا؟ فقد سبق. قال القاضي عياض: وما ورد في تصوير الشباب للعب البنات فمرخص، لكن كره مالك شراءها للرجل. وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالثياب منسوخ بهذه الأحاديث. قوله: ((ولا تصاوير)) معطوف على قوله: ((كلب))، ومن حق الظاهر أن تكرر ((لا)) ويقال: ((لا 4490 - وعن ابن عباس، عن ميمونة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً واجماً، وقال: ((إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني، أم والله، ما أخلفني)). ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط له، فأمر به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماء، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل. فقال: ((لقد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة)). قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلاب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير. رواه مسلم.

4491 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب، إلا نقضه. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ كلب وال تصاوير))، ولكن لما وقع في سياق النفي جاز كقوله تعالى: {مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ}، وفيه من التأكيد أنه لو لم يذكر لاحتمل أن المنفي الجمع بينهما، نحو قولك: ما كلمت زيداً ولا عمراً، ولو حذفت ((لا)) جاز أن تكلم أحدهما؛ لأن الواو للجمع وإعادة ((لا)) كإعادة الفعل. الحديث الثاني عن ابن عباس: قوله: ((واجما)) ((نه)): أي مهتما، والواجم الذي أسكنه الهم وغلبته الكآبة. وقد وجم يجم وجوما. قوله: ((أم والله)) أي أما والله ما أخلفني جبريل في الوعد قبل ذلك قط، فحذف ألف ((أما)) للتخفيف. ((مح)): فيه أن من تكدر وقته وتنكدت وظيفته، ينبغي أن يتفكر في سببه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا؛ حتى استخرج الكلب، وإليه أشار التنزيل بقوله: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}. قوله: ((يأمر)) حكاية الحال الماضية. وقوله: ((يترك)) معطوف على معنى لم يأمر بقتل كلب الحائط الكبير، وهو مستفاد من وصف الحائط بالكبير. وفيه دليل لمن عمل بالمفهوم نحو ((في الغنم السائمة زكاة)). الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تصاليب)) ((تو)): أخرج الراوي تصاليب مخرج تماثيل، وقد اختلفنا في الأصل؛ فإن الأصل في التصاليب هو التصليب، وكأنهم سموا ما كان فيه صورة الصليب تصليباً بالمصدر، ثم جمعوه كما فعلوا في تصاوير. وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي داود، ولفظه: كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلا قضبه. ومعنى قضبه قطعه، فيحتمل أن يكون اختلاف اللفظين من بعض الرواة، والحديث على ما في كتاب أبي داود أفصح وأقيس. انتهى كلامه.

4492 - وعنها، أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب، فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية. قالت: فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ما أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بدل هذه النمرقة؟)) قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها، وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)). وقال: ((إن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة)). متفق عليه. 4493 - وعنها، أنها كانت اتخذت على سهوة لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت، يجلس عليهما. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه نظر؛ فإن رواه البخاري أوثق وأضبط، والاعتماد على ما رووه أولى وأحرى. ((خط)): ذكر في إعلام السنن وهو شرح البخاري أوثق، وفي سائر الروايات الأقضية. وقوله: ((في سائر الروايات)) يؤذن أنها في كتاب البخاري؛ لأن معنى السائر البقية من الشيء كذا صرح به صاحب النهاية؛ لأنه أخذ من السور. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((نمرقة)) ((مح)): بضم النون وفتح الراء وهي وسادة صغيرة. وقيل: هي مرقعة. قوله: ((ما أذنبت؟)) فيه أدب حسن من الصديقة رضي الله عنها حيث قدمت التوبة على إطلاعها على الذنب، ونحوه قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، قدم العفو تلطفاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأ بالعفو قبل إبداء الذنب، كما قدمت التوبة على عرفان الذنب؛ ومن ثمة قالت: ((ما أذنبت؟)) أي ما اطلعت على ذنب؛ ومن ثم حسن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال هذه النمرقة)). وفي الحديث دليل على أن امتناع دخول الملائكة في بيت فيه صورة، إنما هو لأجلها، سواء كانت مباحة أو حراماً، كما ذهب إليه الشيخ محيي الدين في الحديث السابق. و ((ما خلقتم)) أي ما صورتم فعدل إليه تهكماً بهم، وبمضاهاتهم الخالق في إنشاء الصور. والأمر ((بأحيوا)) تعجيز لهم. ((مح)): نحو قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((على سهوة)) ((حس)): السهوة الكوة بين الدارين. ((فا)): هي كالصفة تكون بين يدي البيت. وقيل: هي بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع منها، شبيه بالخزانة يكون في المتاع. وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيها الشيء، كأنها سميت بذلك؛ لأنها يسهى عنها لصغرها وخفائها.

4494 - وعنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزاة، فأخذت نمطاً فسترته على الباب، فلما قدم، فرأي النمط، فجذبه حتى هتكه، ثم قال: ((إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين)). متفق عليه. 4495 - وعنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)). متفق عليه. 4496 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة)). متفق عليه. 4497 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أشد الناس عذاباً عند الله المصورون)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث والحديث السابق؟. قلت: التماثيل إذا حملت على غير الصور المحرمة يكون علة الهتك ما يجئ في الحديث الذي يتلوه: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين)). وإذا حملت على التصوير يكون استعمالها في النمارق بقطع الرءوس. ((مح)): معنى ((هتكه)) قطعه وأتلف الصور التي فيه. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: ((فرأي النمط)) عطف على محذوف، هو جواب ((لما)) أي دخل فرأي. والنمط ضرب من البسط، له خمل رقيق، والجمع أنماط، ((مح)): وكان فيه صور الخيل ذوات الأجنحة، فأتلف صورها. واستدل به على جواز اتخاذ الوسائد، وعلى أنه يمنع من ستر الحيطان، وهو كراهة تنزيه لا تحريم. قوله صلى الله عليه وسلم: ((لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين)) لا يدل على النهي عنه ولا على الواجب والندب. وفيه تغيير المنكر باليد، والغضب عند رؤية المنكر. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يضاهون)) ((قض)): أي يشابهون فيفعلون ما يضاهي خلق الله، أي مخلوقة أو يشبهون فعلهم لفعله، أي في التصوير والتخليق. الحديث الثامن والتاسع عن عبد الله بن مسعود: قوله: ((أشد الناس عذاباً)) ((شف)): الرواية المشهورة في هذا الحديث ((إن من أشد الناس عذاباً المصورون)) بالرفع، هكذا أورد ابن مالك في شرحه واعتذر عن الرفع فقال: قال الكسائي: ((من)) زائدة. وقال بعضهم: هاهنا ضمير الشأن مقدر، أي: إنه من أشد الناس عذاباً المصورون.

4498 - وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فيعذبه في جهنم)). قال ابن عباس: فإن كنت لابد فاعلاً: فاصنع الشجر وما لا روح فيه. متفق عليه. 4499 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تحلم بحلم لم يره؟ كلف أن يعقد بين شعرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة. ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ذكر الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم روايات كثيرة، وليس فيها لفظة ((إن)). نعم في رواية البخاري: ((إن أشد الناس)) بغير (من). ((مح)): ((أشد عذاباً)) هذا محمول على من صور الأصنام لتعبد، فله أشد عذاب؛ لأنه كافر. وقيل: هذا فيمن قصد المضاهاة بخلق الله، واعتقد ذلك وهو أيضاً كافر، وعذابه أشد. ومن لم يقصدهما فهو فاسق لا يكفر كسائر المعاصي. وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه فلا يحرم صنعته ولا التكسب به. وهذا مذهب العلماء إلا مجاهداً؛ فإنه جعل الشجرة المثمرة من المكروه. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)) فذكر الذرة وهي ذات روح، وذكر الحنطة والشعير وهما جمادان. ووعد عليه وعيداً شديداً؛ حيث أخرج الجملة على سبيل الاستفهام الإنكاري. وذكر الظلم على صيغة التفضيل. واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أحيوا ما خلقتم)) وبالمضاهاة بخلق الله. ويؤيده حديث ابن عباس: ((إن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له)). ((خط)): المصور هو الذي يصور أشكال الحيوان فيحكيها بتخطيط لها وتشكيل، فأما النقاش الذي ينقش أشكال الشجر ويعمل التداوير والخواتيم ونحوها، فإني أرجو أن لا يدخل في هذا الوعيد، وإن كان جملة هذا الباب مكروها وداخلا فيما يلهى ويشغل بما لا يعني. وإنما عظمت العقوبة في الصورة؛ لأنها تعبد من دون الله فالنظر إليها يفتن، وبعض النفوس نحوها تنزع. الحديث العاشر عن ابن عباس: قوله: ((نفساًً)) كذا في جامع الأصول وأكثر نسخ المصابيح، وهو مشكل لاستناد الفعل إلى الجار مع مجروره مع وجود المفعول به. وفي بعضها ((نفس)) بالرفع وهو الظاهر. الحديث الحادي عشر عن ابن عباس: قوله: ((من تحلم بحلم)) ((قض)): الحلم بضمتين الرؤيا، وحلم يحلم – بالضم – حلما رأي الرؤيا، وتحلم إذا ادعى أنه رأي ولم ير. ((كلف أن

4500 - وعن بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)). رواه مسلم. الفصل الثاني 4501 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام قال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر، فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال ـــــــــــــــــــــــــــــ يعقد بين شعيرتين)) أي عذب حتى يفعل ذلك، فيجمع بين ما لم يمكن أن يعقد كما عقد بين ما سرده، واختلق من الرؤيا، ولم يكن يقدر أن يعقد بينهما. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صور صورة، كلف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ)). وقيل: معناه: ليس أن ذلك عذابه وجزاؤه، بل أنه يجعل ذلك شعاره ليعلم به أنه كان يزور الأحلام. ولفظة ((كلف)) يشعر بالمعنى الأول. ((نه)): إن قيل: إن كذب الكاذب في منامه، لا يزيد على كذبه في يقظته، فلم زادت عقوبته ووعيده؟. قيل: قد صح الخبر أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، والنبوة لا تكون إلا وحياً، والكاذب في رؤياه يدعي أن الله تعالى أراه ما لم يره، وأعطاه جزءاً من النبوة لم يعطه إياه. والكاذب على الله تعالى أعظم فرية ممن كذب على الخلق أو على نفسه. أقول: فيه أن هذه الرؤيا مخصوصة فيما يتعلق بالإخبار على الغيوب وأمور الدين. [((مظ))]: إن هذا التغليظ في شأن من يقول: إن الله تعالى جعلني نبياً، وأخبرني بأن فلاناً مغفور أو ملعون أو بكذا وكذا، أو أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، ولم يكن قد رأي ذلك. وأما من يقول: أمرني الله بالطاعة واجتناب المعصية أو بوعظ الناس والبر إليهم، فإنه وإن كان كاذباً في رؤياه إلا أن عذابه لم يكن مثل عذاب الآخر. الحديث الثاني عشر عن بريدة: قوله: ((بالنردشير)) ((نه ومح)): هو النرد وهو عجمي معرب. وشير معناه حلو. وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب به. ومعنى ((صبغ يده في لحم الخنزير ودمه)) أنه في لعبه ذلك كأنه صبغ يده في لحم الخنزير ودمه وأكلها. تم كلامه. وفيه تصوير قبح ذلك الفعل تنفيراً عنه، كما إذا شبهت وجها مجدوراً بسلخة جامدة نقرتها الديكة. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قرام ستر)) ((نه)): ((القرام)) الستر الرقيق. وقيل: الصفيق من صوف ذي ألوان. والإضافة فيه كقولك: ثوب قميص. الذي على باب البيت فيقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج)). ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي، وأبو داود. [4501] 4502 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وكل من دعا مع الله آلهاً آخر، وبالمصورين)). رواه الترمذي. [4502]

4503 - وعن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى حرم الخمر، والميسر، والكوبة، وقال: كل مسكر حرام)). قيل: الكوبة الطبل رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4503] 4504 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر، والميسر، والكوبة، والغبيراء، والغبيراء: شراب يعمله الحبشة من الذرة، يقال له: السكركة. رواه أبو داود. [4504] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: القوم الستر الرقيق وراء الستر الغليظ؛ ولذلك أضاف. ((حس)): فيه دليل على أن الصور إذا غيرت هيئاتها بأن قطعت رءوسها، أو حلت أوصالها، حتى لم يبق منها إلا أثر لا على شبه الصورة فلا بأس به، وعلى أن موضع التصوير إذا نقض، حتى تنقطع أوصاله جاز استعماله. قوله: ((فيقطع)) في جامع الأصول وأكثر نسخ المصابيح بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفي بعضها بالنصب على أنه جواب الأمر؛ فإن أمر الشارع سبب للامتثال والأول ألطف معنى. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عنق من النار)) أي طائفة منها. و ((من)) بيانية والضمير في ((لها)) راجع إلى معنى ((عنق))، ((نه)): الجبار هو المتمرد العاتي، والعنيد الجائر عن القصد، الباغي، الذي يرد الحق مع العلم به. الحديث الثالث والرابع عن ابن عمر: قوله: ((السكركة)) ((نه)): بضم السين والكاف الأولى وسكون الراء، نوع من الخمور يتخذ من الذرة. ((فا)): سميت بالغبيراء؛ لما فيها من غبرة.

4505 - وعن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)) رواه أحمد، وأبو داود. [4505] 4506 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة)). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4506] الفصل الثالث 4507 - عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس، إذ جاءه رجل، فقال: يا بن عباس! إني رجل، إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: ((من صور صورة؛ فإن الله معذبه حتى ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ فيها أبداً)). فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الذرة)) بالتخفيف، الجوهري: الذرة حب معروف وأصله ذرو والهاء عوض. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شيطان يتبع شيطانه)) ((تو)): أي يقفو أثرها لا عبا بها. وإنما سماه شيطاناً؛ لمباعدته عن الحق، واشتغاله بما لا يعنيه. وسماها شيطانة؛ لأنها أورثته الغفلة عن ذكر الله، والشغل عن الأمر الذي كان بصدده في دينه ودنياه. ((مح)): اتخاذ الحمام للفرج والبيض أو الأنس، أو حمل الكتب جائز بلا كراهة. وأما اللعب بها بالتطيير فالصحيح أنه مكروه، فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت الشهادة. الفصل الثالث الحديث الأول عن سعيد: قوله: ((فربا الرجل)) الجوهري: الربو النفس العالي، يقال ربا يربو ربواً إذا أخذه الربو. قوله: ((كل شيء)) يجوز فيه الجر على أنه بيان للشجر؛ لأنه لما منعه عن التصوير وأرشده إلى جنس الشجر، رأي ذلك غير واف بالقصد، فأوضحه به وهو قريب من البدل ويجوز النصب على التفسير.

4508 - وعن عائشة، قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار خلق الله)). متفق عليه. 4509 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً، أو قتله نبي أو قتل أحد والديه، والمصورون، وعالم لم ينتفع بعلمه)). [4509] 4510 - وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: الشطرنج هو ميسر الأعاجم. [4510] 4511 - وعن ابن شهاب، أن أبا موسى الأشعري قال: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. [4511] 4512 - وعنه، أنه سئل عن لعب الشطرنج، فقال: هي من الباطل، ولا يحب الله الباطل. روى البيهقي الأحاديث الأربعة في ((شعب الإيمان)). [4512] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عائشة: قوله: ((كنيسة)) المغرب: يقال لمعبد اليهود والنصارى كنيسة وهي تعريب كنست. تم كلامه. وباعتبار التعبد فيها قال صلى الله عليه وسلم: ((بنوا على قبره مسجداً)). الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((أو قتله نبي)) يعني في سبيل الله، يؤيده التقييد في الرواية الأخرى: ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله)). ((مح)): ((في سبيل الله)) احتراز ممن يقتل في حد أو قصاص؛ لأن من قتله النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله كان قاصداً قتل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((والمصورون، وعالم لم ينتفع)) عدل عن صريح الفعل في القرينتين، ولم يقل: من صور من علم، كما في الأوليين؛ إشارة بأن أدنى ملابسة بقتل نبي أو أحد واليه أعظم منهما، نظيره قوله تعالى: {ولا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} حيث لم يقل: ((إلى الظالم)) إشارة بأن أدنى ميل إلى من صدر منه أدنى ظلم موجب لمس النار، فكيف لمن ينهمك في الظلم ويتمرن فيه؟. الحديث الرابع إلى السادس عن ابن شهاب: قوله: ((هي من الباطل)) أنث الراجع إلى الشطرنج باعتبار التماثيل. ((حس)): اختلفوا في إباحة اللعب بالشطرنج، فرخص فيه بعضهم؛ لأنه قد يتبصر به في أمر الحرب ومكيدة العدو، ولكن بثلاث شرائط: أن لا يقامر، ولا يؤخر

كتاب الطب والرقى

4513 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي دار قوم من الأنصار، ودونهم دار، فشق ذلك عليهم، فقالوا: يا رسول الله! تأتي دار فلان، ولا تأتي دارنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأن في داركم كلباً)). قالوا: إن في دارهم سنوراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((السنور سبع)). رواه الدارقطني. [4513] كتاب الطب والرقى الفصل الأول 4514 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الصلاة عن وقتها، وأن يحفظ لسانه عن الخنا والفحش، فإذا فعل شيئاً منها فهو ساقط المروءة مردود الشهادة. وكره الشافعي اللعب بالشطرنج والحمام كراهة تنزيه، وحرمه جماعة كالنرد. قال مجاهد: القمار كله حتى الجوز يلعب به. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((السنور سبع)) [يجوز أن يحمل على الاستفهام على سبيل الإنكار، وعلى الإخبار وهو الوجه. أي السنور سبع] وليس بشيطان كالكلب النجس. وقد سبق في صدر الباب أن سبب امتناع الملائكة من بيت فيه كلب، كونه يأكل النجاسة؛ ولأن بعضه يسمى شيطاناً والملائكة ضد الشياطين. كتاب الطب والرقى في أساس البلاغة هو طبيب بين الطب وطب ومتطبب، وجاء فلان يستطب لوجعه أي يستوصف الطبيب. قال: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها وهذا طباب هذه العلة. أي ما تطب به. ومن المجاز: أنا طب بهذا الأمر أي عالم به. وفلان مطبوب، مسحور وطب الرجل وهو يشكو الطب. والرقى جمع رقية وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما أنزل الله داء)) أي ما أصاب أحداً بداء إلا قدر له دواء.

4515 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء؛ برأ بإذن الله)). رواه مسلم. 4516 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي)). رواه البخاري. 4517 - وعن جابر، قال: رمى أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر: قوله: ((برأ بإذن الله)) ((نه)): يقال: برأت من المرض إبراء براء بالفتح، وأبرأني الله من المرض. وغير أهل الحجاز يقولون: برئت بالكسر براء بالضم. انتهى كلامه. وإنما قيد البرء بإذن الله أي بتسهيله؛ لئلا يتوهم أن الدواء مستقل بالشفاء. ((مح)): فيه إشارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب جمهور السلف وعامة الخلف، وإلى رد من أنكر التداوي، وقال: كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي. وحجة الجمهور هذه الأحاديث. اعتقدوا أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوي أيضاً من قدر الله وهذا الأمر بالدعاء ويقتال الكفار، وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتأخر، والمقادير لا تتغير. الحديث الثالث عن ابن عباس: قوله: ((شرطة محجم)) المحجم بكسر الميم وهي الآلة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المص، ويراد به ها هنا الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة، والشرطة فعلة من شرط الحاجم يشرط إذا نزه وهو الضرب على موضع الحجامة ليخرج الدم منه. ((خط)): الكي داخل في جملة العلاج والتداوي المأذون فيه، والنهي عن الكي يحتمل أن يكون من اجل أنهم يعظمون أمره، ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه، وإذا لم يفعل هلك صاحبه، ويقولون: آخر الدواء الكي، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك على هذا الوجه، وأباح استعماله على معنى طلب الشفاء والترجي للبرء، مما يحدث الله من صنعه فيه، فيكون الكي والدواء سبباً لا علة. أقول: ويؤيده تخصيص ذكر الأمة أي أنا أنهاهم لئلا يعدوا الكي علة مستقلة. الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((أبي)) ((مح)): هو بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء، هكذا صوابه، وهو أبي بن كعب وصحفه بعضهم، فقال: هو بفتح الهمزة وكسر الباء، وتخفيف الياء وهو غلط؛ لأن أبا جابر استشهد يوم أحد قبل الأحزاب بأكثر من سنة.

4518 - وعنه، قال: رمى سعد بن معاذ في أكحله، فحسمه النبي بيده بمشقص، ثم ورمت، فحسمه الثانية. رواه مسلم. 4519 - وعنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع منه عرقاً، ثم كواه عليه. رواه مسلم. 4520 - وعن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام)). قال ابن شهاب: السام: الموت. والحبة السوداء: الشونيز. متفق عليه. 4521 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسقه عسلاً)). فسقاه، ثم جاء، فقال: سقيته ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الخليل: الأكحل عرق الحياة. وقيل: نهر الحياة، وفي كل عضو شعبة منه، وله فيها اسم مفرد، يقال له في اليد: الأكحل، وفي الفخذ النسا وفي الظهر الأبهر. فإذا قطع في اليد لم يرقأ الدم، وحسمه ليقطع الدم. الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الحبة السوداء)) الشونيز. ((مح)): هذا هو الصواب المشهور الذي ذكره الجمهور قال القاضي: وروى عن الحسن أنها الخردل، وقيل: هي الحبة الخضراء، وهي البطم. والعرب تسمى الأخضر الأسود. ((خط)) في إعلام السنن: وهذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص وليس يجمع في طبع شيء من البنات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء، على اختلافها وتباين طبائعها. وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من آكل الرطوبة والبرودة والبلغم، وذلك أنه حار يابس، فهو شفاء بإذن الله تعالى للداء المقابل له في الرطوبة والبرودة. وذلك أن الدواء أبدا بالمضاد، والغذاء بالمشاكل. أقول: ونظيره قوله تعالى في حق بلقيس: {وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} في إطلاق العموم وإرادة الخصوص. الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((استطلق بطنه)) استطلاق البطن مشيه وهو تواتر

فلم يزده إلا استطلاقاً. فقال له: ثلاث مرات. ثم جاء الرابعة. فقال: ((اسقه عسلاً)). فقال: لقد سقيته، فلم يزده إلا استطلاقاً)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الله، وكذب بطن أخيك))، فسقاه. فبرأ. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسهال. ((خط)): هذا مما يحسب كثير من الناس أنه مخالف لمذهب الطب والعلاج؛ وذلك أن الرجل إنما جاء يشكو إليه استطلاق البطن، فكيف يصف له العسل وهو يطلق؟، ومن عرف شيئاً من أصول الطب ومعانيه علم صواب هذا التدبير؛ وذلك أن استطلاق بطن هذا الرجل إنما كان هيضة حدثت من الامتلاء وسوء الهضم، والأطباء كلهم يأمرون صاحب الهيضة بأن يترك الطبيعة وسوقها لا يمسكها [بشيء] وربما أمدت بقوة مسهلة، حتى تستفرغ تلك الفضول، فإذا فرغت تلك الأوعية من تلك الفضول، فربما أمسكت من ذاتها، وربما عولجت بالأشياء القابضة والمقوية، إذا خافوا سقوط القوة، فخرج الأمر في هذا على مذهب الطب مستقيما؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد الطبيعة بالعسل؛ ليزداد استفراغاً حتى إذا فزعت تلك الفضول وتنقت منها وقفت وأمسكت، وقد يكون ذلك أيضاً من ناحية التبرك تصديقاً لقوله تعالى {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ}، وما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم من الدواء لشخص بعينه، فقد يكون ذلك بدعائه وبركته وحسن أثره، ولا يكون ذلك حكما في الأعيان كلها، فعلى هذا المذهب يجب حمل ما لا يخرج على مذهب الطب القياسي، وإليه يجب توجيهه، وكذا في معالم السنن. وقال في قوله: ((وكذب بطن أخيك)): العرب تضع الكذب موضع الخطأ في كلامها، يقول: كذب سمعي وكذب بصري، أي زل ولم يدرك ما رأي، وما سمع ولم يحط به. قال الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ليس الظلام من الرباب خيالا ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كذب بطن أخيك)) يعني صدق الله في قوله بأن العسل شفاء للناس، وكذب بطن أخيك حيث لم يحصل له الشفاء بالعسل. ((مح)): هذا تصريح بأن الضمير في قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} يعود إلى ((الشراب)) الذي هو العسل. وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم. قال مجاهد: الضمير راجع إلى القرآن، وهو ضعيف مخالف لظاهر القرآن. وتصريح هذا الحديث والآية على الخصوص، أي شفاء من بعض الداء أو لبعض الناس، وفي التنكير دلالة عليه.

4522 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمثل ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري)). متفق عليه. 4523 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، عليكم بالقسط)). متفق عليه. 4524 - وعن أم قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب يسعط من العذرة، ويلد من ذات الجنب)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن أمثل ما تداويتم)) ((نه)): يقال: هذا أمثل من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. والقسط بالضم من العقاقير المعروفة في الأدوية، طيب الريح تتبخر به النفساء والأطفال. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالغمز)) ((نه)): هو أن تسقط اللهاة فتغمز باليد. والعذرة بضم المهملة وسكون الذال المعجمة وجع في الحلق يهيج الدم عن الدم. وقيل: هي قرحة في الجرم الذي بين الأنف والحلق، تعرض للصبيان عند طلوع العذرة فتعمد المرأة إلى إصبعها فتفتلها فتلا شديداً، وتدخلها في أنفه، فتطعن ذلك، فيفجر منه دم أسود، وربما أقرحه. وذلك الطعن سمى الدغر، يقال: دغرت المرأة الصبي، إذا غمزت حلقه من العذرة أو فعلت به ذلك. وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقاً كالعوذة. وقوله: ((عند طلوع العذرة)) هي خمسة كواكب تحت الشعري العبور، وتسمى العذاري وتطلع في وسط الحر. وقوله: ((من العذرة)) أي من أجلها. الحديث الحادي عشر عن أم قيس: قوله: ((علام تدغرن)) والاستعمال الكثير على حذف الألف تخفيفاً، والأصل قليل، وفيه معنى الإنكار. والدغر أن ترفع المرأة العذرة بإصبعها والإعلاق معالجة عذرة الصبي بإصبع أو غيرها. ((تو)): ((بهذا العلاق)) كذلك رواه البخاري ومسلم، وفي كتاب مسلم أيضاً ((بهذا الإعلاق)) وهو أولى الروايتين وأصوبهما. ومن الدليل على صحة هذه الرواية قول أم قيس في بعض طرق هذا الحديث: ((وقد أعلقت عليه))، وفسره يونس بن يزيد، وهو الراوي عن ابن شهاب: ((أعلقت: غمزت)) هذا لفظ كتاب مسلم. ((مح)): العلاق بفتح العين وفي الرواية الأخرى الإعلاق، وهو الأشهر عند أهل اللغة حتى

4525 - وعن عائشة، ورافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الحمى من ـــــــــــــــــــــــــــــ زعموا أنه الصواب، وأن العلاق لا يجوز. قالوا: الإعلاق مصدر أعلقت عنه، ومعناه أزلت عنه العلوق وهي الآفة والداهية. قال ابن الأثير: يجوز أن يكون العلاق هو الاسم منه. أقول: وتوجيهه أن في الكلام معنى الإنكار أي على أي شيء تعالجن هذا الداء، بهذا الداهية والمداواة الشنيعة. وقوله: ((منها ذات الجنب)) أي من الأشفية شفاء ذات الجنب، أو التقدير فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء منها ذات الجنب، وخصه بالذكر؛ لأنه أصعب الأدواء، وقلما يسلم منه من ابتلى به، و ((يسعط)) ابتداء كلام مبين لكيفية التداوي به في الدائين المذكورين. ((مح)): قد اعترض عليه من في قلبه مرض فقال: الأطباء مجمعون على أن مداوة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديد خطر. قال المازري: هذا القول جهالة بينة، وهو كما قال تعالى {} وقد ذكر جالينوس وغيره أن القسط ينفع من وجع الصدر. وقال بعض القدماء من الأطباء: يستعمل حيث يحتاج إلى أن يجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وهذا يبطل ما زعم المعترض الملحد. وأما قوله: ((ففيه سبعة أشفية)) فقد أطلق الأطباء في كتبهم على أنه يدر الطمث والبول، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود، وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف إذا طلى عليه، وينفع من برد المعدة والكبد، ومن حمى الورد والربع وغير ذلك. وهو صنفان: بحري وهندي، والبحري هو القسط الأبيض، والبحري أفضل من الهندي وأقل حرارة منه، وإنما عددنا منافعه من كتب الأطباء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر منها عدداً مجملاً، تم كلامه. وذلك لأن السبعة تطلق ويراد بها الكثرة. الحديث الثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من فيح جهنم)) الفيح سطوع الحر وفورانه. وفيه وجهان: أحدهما: أنه تشبيه. قال المظهر: شبه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له بنار جهنم، فكما أن النار تزال بالماء كذلك حرارة الحمى تزال بالماء البارد. وثانيهما: قال بعضهم: إن الحمى مأخوذة من حرارة جهنم حقيقة: أرسلت إلى الدنيا نذيراً للجاحدين وبشيراً للمقربين؛ لأنها كفارة لذنوبهم وجابرة عن تقصيرهم. أقول: ((من)) ليست بيانية حتى يكون تشبيهاً كقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ

فيح جهنم، فابردوها بالماء)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} هي إما ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية، أي بعض منها. ويدل على هذا التأويل ما ورد في الصحيح: ((اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف)) الحديث. فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها كذلك الحمى. قوله: ((فابردوها)) ((مح)): هو بهمزة وصل وبضم الراء كما جاء في الرواية الأخرى: ((فاطفئوها بالماء)) وهو الصحيح المشهور في الروايات. وحكى القاضي عياض أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة. قال الجوهري: هي لغة رديئة. [((مظ))]: هذا مما قد غلط فيه بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كاد يهلك فيها، فلما خرج من علته قال قولا فاحشاً لا يحسن ذكره. وذلك لجهله بمعنى الحديث وذهابه عنه. وتبريد الحمى الصفراوية بسقي الماء الصادق البرد، ووضع أطراف المحموم فيه من أنفع العلاج، وأسرعه إلى إطفاء نارها وكسر لهيبها، فإنما أمرنا بإطفاء الحمى وتبريدها بالماء على هذا الوجه، دون الانغماس في الماء وغط الرأس فيه. ((مح)): ((أبردوها بالماء)) ليس فيه ما يبين صفته وحالته، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد الشديد بالبرودة، ويسقونه الثلج، ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والغسل، نحو ما قالوه. وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه عن أسماء: أنها تؤتى بالمرأة الموعوكة فيصب الماء في جيبها، وتقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أبردوها بالماء))، فهذه أسماء راوية الحديث، وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم معلوم، تؤول الحديث على نحو ما قلناه، فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب. أقول: أما ما رويناه عن الترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصاب أحدكم الحمى فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، فلستنقع في نهر جار، وليستقبل جريته فيقول: ((بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك)) إلى قوله: ((فإنها لا تكاد تجاوز تسعاً بإذن الله عز وجل)). والحديث بتمامه مذكور في باب صلاة الجنائز، فشيء خارج عن قواعد الطبيعة، داخل في قسم المعجزات الخارقة للعادة. ألا ترى كيف قال في صدر الحديث ((صدق رسولك)) وفي آخره ((بإذن الله))، وقد شوهد وجرب ووجد، كما نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وعلى من اقتفي أثره.

4526 - وعن أنس، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين، والحمة، والنملة. رواه مسلم. 4527 - وعن عائشة، قالت: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسترقي من العين. متفق عليه. 4538 - وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي في بيتها جارية في وجهها سفعة يعني صفرة، فقال: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة)). متفق عليه. 4529 - وعن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمران بن حزم، فقالوا: يا رسول الله! إنه كان عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وأنت نهيت عن الرقى، فعرضوها عليه، فقال: ((ما أرى بها بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)). رواه مسلم. 4530 - وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: ((اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)). رواه مسلم. 4531 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((العين حق، فلو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((تو)): الرخصة إنما تكون بعد النهي، وكان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الرقى؛ لما عسى أن يكون فيها من الألفاظ الجاهلية، فانتهى الناس عن الرقى، فرخص لهم فيها إذا عريت عن الألفاظ الجاهلية. ((نه)): الحمة بالتخفيف السم وقد يشدد، وأنكره الأصمعي، ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم منها يخرج وأصلها حمى أو حمو بوزن صرد، والهاء فيه عوض من الواو والياء المحذوفة. ((والنملة)) هي قروح تخرج بالجنب وغيره، وكأنها سميت نملة؛ لتفشيها وانتشارها، شبه ذلك بالنملة ودبيبها. الحديث الرابع والخامس عشر عن أم سلمة: قوله: ((سفعة)) أي علامة من الشيطان، وقيل: ضربة واحدة منه وهي المرة من السفع وهو الأخذ، يقال: سفع بناصية الفرس ليركبه. المعنى: أن السفعة أدركتها من قبل النظرة، فاطلبوا لها الرقية. وقيل. السفعة العين، والنظرة الإصابة بالعين. أقول: ويؤيد الأول تفسير الراوي يعني صفرة. الحديث السادس عشر إلى الثامن عشر عن ابن عباس: قوله: ((العين حق)) ((تو)): أي

ـــــــــــــــــــــــــــــ الإصابة العين من جملة ما تحقق كونه، وقوله: ((فلو كان شيء سابق القدر)). كالمؤكد للقول الأول. وفيه تنبيه على سرعة نفوذها وتأثيرها في الدواب. وقوله: ((إذا استغسلتم فاغسلوا)) كانوا يرون أن يؤمر العائن فيغسل أطرافه وما تحت الإزار، فتصب غسالته على المعيون يستشفعون بذلك، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يمتنعوا من الاغتسال إذا أريد منهم ذلك. وأدنى ما في ذلك دفع الوهم الحاصل من ذلك. وليس لأحد أن ينكر الخواص المودعة في أمثال ذلك، ويستدعها من قدرة الله وحكمته، لا سيما وقد شهد بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بها، وذلك مذكور في الحسان من هذا الباب في حديث أبي أمامة. ((حس)): روى أن عثمان رضي الله عنه رأي صبياً مليحاً فقال: دسموا نونته؛ كيلا تصيبه العين، ومعنى ((دسموا)) سودوا. و ((النونة)) النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير. وروى عن هشام بن عروة أنه كان إذا رأي من ماله شيئاً يعجبه، أو دخل حائطاً من حيطانه، قال: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ} إلى قوله: {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} الآية. ((مح)): قال المازوي: العين حق لظاهر الحديث وأنكره طوائف من المبتدعة، والدليل على فساد قولهم أن كل معنى لا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا فساد دليل، فإنه من مجوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده، ولا يجوز تكذيبه. وقد زعم الطبيعيون المثبتون للعين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية، تتصل بالعين فيهلك أو يفسد. قالوا: ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب، تتصل باللديغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا. قال المازري: هذا غير مسلم؛ لأنا بينا في الكتب الكلامية أن لا فاعل إلا الله تعالى، وبينا فساد القول بالطبائع. وأقرب الطرق ما قاله بعض من ينتحل الإسلام منهم: لا يبعد أن ينبعث من العائن جواهر لطيفة، غير مرئية من العين فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الله الهلاك عند شرب السموم عادة أجراها الله تعالى. والمازري أحد جماهير العلماء وشارح الترمذي، وقد أطنب في أبحاثه الإمام فخر الدين الرازي، في سورة يوسف عند قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ واحِدٍ} فلينظر هناك من أراد زيادة الإطلاع عليه. ((مح)): فيه إثبات القدر وأن الأشياء كلها بقدر الله، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدرة الله تعالى. أقول: المعنى: إن فرض شيء له قوة وتأثير عظيم يسبق القدر، لكان عيناً. والعين لا تسبق فكيف بغيرها؟.

الفصل الثاني 4532 - عن أسامة بن شريك قال: قالوا: يا رسول الله! أفنتداوى؟ قال: ((نعم، يا عباد الله! تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، الهرم)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4532] 4533 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكرهوا مرضاكم على الطعام؛ فإن الله يطعمهم ويسقيهم)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [4533] 4534 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4534] 4535 - وعن زيد بن أرقم، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري، والزيت. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أسامة: قوله: ((أفنتداوى؟)) الفاء عطف على مقدر يستدعيه الهمزة. يعني: أنعتبر الطب فنتداوى، أو نتوكل على الله تعالى ونترك التداوي؟. والجواب بقوله: ((يا عباد الله)) مشعر بأن التداوي لا يخرجهم عن التوكل, يعني داووا, ولا [تعتقدوا] الشفاء علي التداوي, بل كونوا عباد الله متوكلين علية. قوله: ((الهرم)) ((نه)): الهرم الكبر وقد هرم يهرم فهو هرم, جعل الهرم داء تشبيها به؛ لأن الموت [يعقبه] كالأدواء. الحديث الثاني عن عقبة: قوله: ((يطعمهم ويسقيهم)) ((قض)): أي يحفظ قواهم ويمدهم بما يفيد فائدة الطعام والشراب، في حفظ الروح وتقويم البدن. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)) وإن كان ما بين الإطعامين والطعامين بوناً بعيداً. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من الشوكة)) ((نه)): الشوكة حمرة تعلو الوجه والجسد، يقال منه: يشك الرجل وهو مشكوك، وكذلك إذا دخل في جسده شوكة. الحديث الرابع والخامس عن زيد: قوله: ((من ذات الجنب)) ((من)) الابتدائية متعلقة بقوله:

4536 - وعنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينعت الزيت والورس من ذات الجنب. رواه الترمذي. 4537 - وعن أسماء بنت عميس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها: ((بم تستمشين؟)) قالت: بالشبرم. قال: ((حار حار)). قالت: ثم استمشيت بالسنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أن شيئاً كان فيه الشفاء من الموت؛ لكان في السنا)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4537] 4538 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام)). رواه أبو داود. [4538] 4539 - وعن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. [4539] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((ينعت)) أي يصف ويمدح التداوي بالزيت والورس لأجل ذات الجنب. ((نه)): الورس نبت أصفر يصبغ به. وقال: وقد ورس المكان فهو وارس والقياس موروس. الحديث السادس عن أسماء: قوله: ((بم تستمشين)) ((نه)) أي تسهلين بطنك. ويجوز أن يراد به المشي الذي يعرض عند شرب الدواء. و ((الشبرم)) قيل: هو حب يشبه الحمص، يطبخ ويشرب ماؤه للتداوي. قوله: ((جار)) بالجيم اتباعاً بالحار، وكذلك ((يار)) بالياء تحتها نقطتان والراء مشددة، و ((حران يران)). وفي جامع الترمذي وسنن ابن ماجه وجامع الأصول وبعض نسخ المصابيح ((حار حار)). قوله: ((بالسنا)) ((نه)): السنا بالقصر نبات معروف من الأدوية، له خمل إذا يبس فإذا حركته الريح سمعت له زجل، والواحدة سناه. ((فا)) قال الراعي: [كأن دوى] الحلى تحت ثيابها دوى السنا لاقى الرياح الزعازعا وبعضهم يرويه بالمد. الحديث السابع عن أبي الدرداء: قوله: ((دواء)) مطلق له شيوع؛ فلذلك قال: ((ولا تداووا بحرام)) يعني: إن الله تعالى خلق لكل داء دواء، حراماً كان أو حلالا، فلا تداووا بالحرام.

4540 - وعن سلمى خادمة النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً في رأسه إلا قال: ((احتجم)) ولا وجعاً في رجليه إلا قال: ((اختضبهما)). رواه أبو داود. [4540] 4541 - وعنها، قالت: ما كان يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة ولا نكبة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء. رواه الترمذي. [4541] 4542 - وعن أبي كبشة الأنماري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتجم على هامته، وبين كتفيه، وهو يقول: ((من أهراق من هذه الدماء، فلا يضره أن لا يتداوى لشيء)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [4542] 4543 - وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على وركه من وثء كان به. رواه أبو داود. [4543] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن الدواء الخبيث)) ((حس)): اختلفوا في تأويله، فقيل: أراد به خبث النجاسة، بأن يكون فيه محرم من خمر أو لحم ما لا يؤكل لحمه من الحيوان. ولا يجوز التداوي به، إلا ما خصته السنة من أبوال الإبل. وقيل: أراد به الخبث من جهة المطعم والمذاق، ولا ينكر أن يكون كره ذلك؛ لما فيه من المشقة على الطبع. والغالب أن طعوم الأدوية كريهة، ولكن بعضها أيسر احتمالا وأقل كراهة. الحديث التاسع والعاشر عن سلمى: قوله: ((ما كان يكون برسول الله)) يحتمل أن يكون الثاني زائداً. وقرينته الحديث الأول ((ما كان أحد يشتكي))، وأن يكون غير زائد بالتأويل، أي ما كان قرحة تكون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((ولا نكبة)) ((نه)): وفي الحديث ((انه نكبت أصابعه)) أي نالتها الحجارة. الحديث الحادي عشر عن أبي كبشة: قوله: ((أن لا يتداوى بشيء لشيء)) كذا هو بزيادة ((لشيء)) في أبي داود وابن ماجه وجامع الأصول. الحديث الثاني عشر عن جابر: قوله: ((من وثء)) بهمز بلا ياء كذا هو في سنن أبي داود وجامع الأصول. ((تو)): الوثؤ وجع يصيب العضو من غير كسر وهو من باب الهمزة. ومن الرواة من يترك همزة ويتركه بالياء. وكذلك هو في المصابيح، والعامة تقول ذلك وليس بشيء.

4544 - وعن ابن مسعود، قال: حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به: أنه لم يمر على ملأ من الملائكة إلا أمروه: ((مر أمتك بالحجامة)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4544] 4545 - وعن عبد الرحمن بن عثمان: أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. رواه أبو داود. [4545] 4546 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل. رواه أبو داود. وزاد الترمذي، وابن ماجه: وكان يحتجم سبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. [4546] 4547 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب الحجامة لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. رواه في ((شرح الألسنة)). [4547] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن عبد الرحمن: قوله: ((عن ضفدع)) ((قض)): هو بكسر الدال على مثال الخنصر والعامة تفتحها. وعن الجوهري: قال الخليل: ليس في كلام العرب فعلل إلا أربعة حروف: درهم، وهجرع للطويل، وهيلع للأكول، وقلعم اسم رجل. ولعله نهى عن قتله؛ لأنه لم ير التداوي بها، إما لنجاستها وحرمتها إذ لم يجوز التداوي بالمحرمات أو لاستقذار الطبع وتنفره عنها، أو لأنه رأي فيها من المضرة أكثر مما رأي الطبيب فيها من المنفعة. أقول: فإن قلت: كيف يطابق النهي عن القتل جواباً عن السؤال بالتداوي؟. قلت: القتل مأمور به إما لكونه من الفواسق، وليس بها، أو لإباحة الأكل وليس بذلك؛ لنجاسته وتنفره عنه. وإذا لم يجز القتل لم يجز الانتفاع به. الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في الأخدعين)) ((نه)): هما عرقان في جانبي العنق. والكاهل بين الكتفين.

4548 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى عشرين؛ كان شفاء له من كل داء)). رواه أبو داود. [4548] 4549 - وعن كبشة بنت أبي بكرة: أن أباها كان ينهي أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يوم الثلاثاء يوم الدم، وفيه ساعة لا يرقأ)). رواه أبو داود. [4549] 4550 - وعن الزهري، مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السبت، فأصابه وضح؛ فلا يلومن إلا نفسه)). رواه أحمد، وأبو داود، وقال: وقد أسند ولا يصح. [4550] 4551 - وعنه، مرسلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتجم أو اطلى يوم السبت أو الأربعاء؛ فلا يلومن إلا نفسه في الوضح)). رواه في ((شرح السنة)). [4551] 4552 - وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، أن عبد الله رأي في عنقي خيطاً، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر إلى الثامن عشر عن كبشة: قوله: ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((نه)): وإنما يقال: ((زعم)) في حديث لا سند له ولا ثبت فيه. وإنما يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ، والزعم بالضم والفتح قريب من الظن. أقول: ولعله في الحديث محمول على الظن والاعتقاد، وعداه بـ ((عن)) لتضمين معنى الرواية. وذلك أن قولها: ((كان ينهى)) يوم أن الحديث موقوف عليه، فأتبعه بقولها ((ويزعم)) ليشعر بأنه مرفوع. ((ولا يرقأ)) أي لا يسكن، من رقأ الدم والدمع والعرق يرقأ بالفتح إذا سكن وانقطع؛ والاسم الرقوءة بالفتح. الحديث التاسع عشر عن الزهري: قوله: ((وضح)) أي برص، والوضح البياض من كل شيء.

فقال: ما هذا؟ فقلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسلو الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقي والتمائم والتولة شرك)) فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اذهب البأس، رب الناس! واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)). رواه أبو داود. [4552] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العشرون والحادي والعشرون عن زينب: قوله: ((أنتم آل عبد الله)) ((أنتم)) مبتدأ، خبره ((لأغنياء))، ((وآل عبد الله)) معترض نصب على الاختصاص. واللام في ((لأغنياء)) للتأكيد دخل على الخبر، كما في حديث آخر ((أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ)). وقال الزجاج: قال النحاة: أصل هذه اللام أن تقع في الابتداء، ووقوعها في الخبر جائز. ويجوز أن يقدر المبتدأ أي ((لأنتم أغنياء)) كما قدر الزجاج في قوله تعالى: {إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} أي هما ساحران. قوله: ((والتمائم)) هي جمع تميمة وهي التعويذة التي تعلق على الصبي. والتولة بكسر التاء وضمها نوع من السحر. قال الأصمعي: هي ما تحبب به المرأة إلى زوجها. ((قض)): وإنما أطلق الشرك عليهما؛ إما لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهوداً في الجاهلية، وكان مشتملا على ما يتضمن الشرك؛ أو لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها وهو يفضي إلى الشرك. أقول: ويحتمل أن يراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير، وكان ينافي التوكل والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون؛ ومن ثمة حسن منه قوله: ((أنتم آل عبد الله لأغنياء)) أي: أعني وأخص آل عبد الله من بين سائر الأنام. ومنها قولها: لم تقول هكذا، وتأمرني بالتوكل وعدم الاسترقاء؛ فإني وجدت في الاسترقاء فائدة. فأجاب بأنه ليس بفائدة. بل هو من فعل الشيطان وتسويله. ومن النصب على المدح والاختصاص قول الشاعر: إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه ولا هو بالأبناء [يشرينا]

4553 - وعن جابر، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال: ((هو من عمل الشيطان)). رواه أبو داود. [4553] 4554 - وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي)). رواه أبو داود. [4554] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أنا أذكر من لا يخفي شأنه بين الناس قاطبة لا يفعل كذا، فلو جعل بنو نهشل خبراً، لزم إما خمول المتكلم أو الجهل بارتفاع شأن القوم. قوله: ((تقذف)) ((تو)) هو على بناء المجهول أي ترمي بما يهيج الوجع. ويدل على هذا المعنى قولها: فإذا رقاها سكنت. ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل، أن ترمي بالرمض والماء من الوجع. ولا أحقق اللفظين من طريق الرواية، إلا أن الأول هو أكثر ظني. قوله: ((كان ينخسها)) أصل النخس الدفع والحركة. والبأس الشدة. ((وشفاء)) يجوز أن يكون مصدراً لقوله: ((اشف)) والجملتان معترضتان. وأن يكون مصدرا لفعل مضمر أي اشف شفاء، وهذا أنسب للنظم. ((وأنت الشافي)) جملة مستأنفة على سبيل الحصر لتعريف الخبر، والجملة الثانية مؤكدة للأولى، وهما ممهدتان للثالثة. وفيه رد لاعتقادها أن رقية اليهود شافية، وإرشاد إلى أن الشفاء الذي لا يغادر سقما هو شفاء الله تعالى، وأن شفاء اليهودي ليس فيه إلا تسكين ماء. الحديث الثاني والعشرون عن جابر: قوله: ((عن النشرة)) ((تو)): النشرة ضرب من الرقية والعلاج يعالج بها من كان يظن به مس الجن. وسميت نشرة؛ لأنهم كانوا يرون أنه ينشر بها الجن عن الممسوس ما خامره من الداء قال [جرير]: أدعوك دعوة ملهوف كأن به مسا من الجن أو ريحاً من النشر وفي الحديث: ((فلعل طبا أصابه)) يعني سحراً ثم نشره بـ {} أي رقاه، ونشره أيضاً إذا كتب له النشرة وهي كالتعويذ والرقية، فعلمنا بذلك أن النشرة التي قال فيها: ((إنها من عمل الشيطان)) إنما أراد به النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه. الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((ما أبالي ما أتيت)) ما الأولى نافية والثانية

4555 - وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من اكتوى أو استرقي، فقد برئ من التوكل)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [4555] ـــــــــــــــــــــــــــــ موصولة، والراجع محذوف، والموصول مع الصلة مفعول ((أبالي)) و ((إن شربت)) جزاؤه محذوف، يدل عليه ما تقدم. والمعنى إن صدر مني أحد الأشياء الثلاثة كنت ممن لا يبالي بما يفعل ولا ينزجر عما لا يجوز فعله شرعاً. ((شف)): الترياق ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين، وهو معرب ويقال بالدال أيضاً. وروى به في هذا الحديث. وكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي والخمر، وهي حرام نجسة. والترياق أنواع، فإذ لم يكن فيه شيء من ذلك فلا بأس به. وقيل: الحديث مطلق والأولى اجتنابه. ((تو)): المراد من التميمة ما كان من تمائم الجاهلية ورقاها؛ فإن القسم الذي يختص بأسماء الله تعالى وكلماته غير داخل في جملته، بل هو مستحب مرجو البركة عرف ذلك من أصل السنة. أقول: لعل القصد في إيراد الحديث اختصاصه صلى الله عليه وسلم ومن يتبعه من الخواص بالاجتناب عما يقدح في التوكل كما يشهد له حديث المغيرة؛ فإن قوله: ((وإن أنا شربت)) وإن كل بحسب النحو فاعل فعل مضمر، لكن في عرف أهل المعاني صورته صورة التقديم للفاعل على عامله المفيد للاختصاص. الشكاف في قوله تعالى {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}: تقديره لو تملكون، أضمر تملك إضمارا على شريطة التفسير، وهذا هو الوجه الذي يقتضه علم الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو ((إن أنتم تملكون)) فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ. وفائدة التنكير في (تميمة وترياق) الشيوع، والتعريف في الشعر حقيقته، وما هو قاصد في تقوله؛ ولذلك أتبعه بقوله: ((من قبل نفسي)) كقوله تعالى: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَا يَنْبَغِي لَهُ} مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا النبي لا كذب)) ونحوه؛ فإن ذلك ليس عن قصد منه ولا التفاوت منه إليه إن جاء موزوناً، بل كان كلاماً من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف. الحديث الرابع والعشرون عن المغيرة: قوله: ((من اكتوى)) ((نه)): قد جاء في أحاديث كثيرة

4556 - وعن عيسى بن حمزة، قال: دخلت على عبد الله بن عكيم وبه حمرة، فقلت: ألا تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق شيئاً وكل إليه)). رواه أبو داود. [4556] 4557 - وعن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا رقية إلا من عين أو حمة)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4557] 4558 - ورواه ابن ماجه، عن بريدة. [4558] 4559 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم)). رواه أبو داود. [4559] ـــــــــــــــــــــــــــــ النهي عن الكي. فقيل: إنما نهى عنه من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره، ويرون أنه يحسم الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل. فنهاهم إذا كان على هذا الوجه، وأباحه إذا جعل سبباً للشفاء لا علة له؛ فإن الله هو الذي يبرئه ويشفيه لا الكي والدواء. وهذا أمر يكثر فيه سلوك الناس، يقولون: لو شرب الدواء لم يمت، ولو أقام ببلده لم يقتل. وقيل: يحتمل أن يكون نهيه عن الكي إذا استعمل على سبيل الاحتراز من حدوث المرض وقبل: الحاجة إليه، وذلك مكروه، وإنما أبيح التداوي والعلاج عند الحاجة. ويجوز أن يكون النهي من قبيل التوكل كقوله: ((هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون على ربهم يتوكلون))، والتوكل درجة أخرى غير الجواز. الحديث الخامس والعشرون عن عيسى: قوله: ((من تعلق شيئاً)) ((مظ)): من تمسك بشيء من المداواة، واعتقد أن الشفاء منه لا من الله تعالى لم يشفه الله، بل وكل شفاءه إلى ذلك الشيء وحينئذ لا يحصل شفاؤه؛ لأن الأشياء لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله تعالى. أقول: ولعله إنما عاذ بالله من تعليق العوذة؛ لأنه كان من المتوكلين، وإن جاز لغيره. الحديث السادس والعشرون عن عمران بن حصين: قوله: ((لا رقية إلا من عين)) ((حس)): لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرهما، بل تجوز الرقية بذكر الله تعالى في جميع الأوجاع. ومعنى الحديث: لا رقية أولى وأنفع منهما كما تقول: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار. وقد مر القول في الحمة.

4560 - وعن أسماء بنت عميس، قالت: يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال: ((نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [4560] 4561 - وعن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال: ((ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟)). رواه أبو داود. [4561] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع والثامن والعشرون عن أسماء: قوله: ((فإنه لو كان شيء)) تعليل للجواب، ومعناه: نعم استرقي من العين؛ فإنها أولى وأحرى بأن تسترقي؛ لأنه لو كان شيء سابق القدر إلى آخره. الحديث التاسع والعشرون عن الشفاء: قوله: ((هذه رقية النملة)) هذه إشارة إلى حفصة. والنملة قروح ترقى وتبرأ بإذن الله تعالى. ((خط)): فيه دليل على أن تعلم النساء الكتابة غير مكروه. ((تو)): يرى أكثر الناس أن المراد من النملة ها هنا، هي التي يسميها المطببون الذباب. وقد خالفهم فيه المقلب بالذكي المغربي النحوي فقال: إن الذي ذهبوا إليه في معنى هذا القول شيء كانت نساء العرب تزعم أنه رقية النملة، وهو من الخرافات التي كان ينهى عنها. فكيف يأمر بتعليمها إياها؟. وإنما عنى برقية النملة قولا كن يسمينها رقية النملة، وهو قولهن: العروس تنتعل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفعل غير أنها لا تعصي الرجل. فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة، والتعريض بتأديبها حيث أشاعت السر الذي استودعه إياها، على ما شهد به التنزيل. وذلك قوله سبحانه: {وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} الآية. وعلى هذا المعنى نقله الحافظ أبو موسى عنه في كتابه. قال: فإن يكن الرجل متحققاً بهذا عارفاً به من طريق النقل، فالتأويل ما ذهب إليه. ((شف)): يمكن أنه صلى الله عليه وسلم أراد برقية النملة آخرها وهو قوله: ((غير أن لا تعصي الرجل)) إطلاقاً للكل وإرادة الجزء أي ألا تعلمين حفصة أن العروس لا تعصي الرجل، فإنها قد عصتني بإفشاء السر، ولو كانت تعلم رقية النملة لما عصتني.

4562 - وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: رأي عامر بين ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: والله ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة. قال: فلبط سهل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: يا رسول الله! هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه. فقال: ((هل تتهمون له أحداً)). فقالوا: نتهم عامر بن ربيعة. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً، فتغلظ عليه، وقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟ اغتسل له)). فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح من الناس ليس له بأس. رواه في ((شرح السنة))، ورواه مالك. وفي روايته قالت: ((إن العين حق. توضأ له)). [4562] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ويحتمل الحديث وجهين آخرين: أحدهما: التحضيض على تعليم الرقية وإنكار الكتابة، أي هلا علمتها ما ينفعها من الاجتناب عن عصيان الزوج، كما علمتها ما يضرها من الكتابة. وثانيهما: أن يتوجه الإنكار إلى الجملتين جميعاً. والمراد بالنملة المتعارف بينهم لأنها منافية لحال المتوكلين. الحديث الثلاثون عن أبي أمامة: قوله: ((ولا جلد مخبأة)) المخبأة الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد؛ لأن صيانتها أبلغ ممن قد تزوجت. وهو معطوف على مقدر هو مفعول ((رأيت))، أي ما رأيت جلداً غير مخبأة كجلد رأيت اليوم ولا جلد مخبأة. فعلى هذا ((كاليوم)) صفة، وإذا قدر المعطوف عليه هو مؤخرا كان حالا. ((حس)): قوله: ((فلبط سهل)) أي صرع وسقط إلى الأرض، يقال: لبط بالأرض فهو ملبوط به. قوله: ((ألا بركت)) هو للتحضيض، أي هلا دعوت له بالبركة. وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الأصل أن يقال: علام تقتل؟، كأنه ما التفت إليه وعم الخطاب أولا، ثم رجع إليه تأنيباً وتوبيخاً. قوله: ((فراح من الناس)) هو كناية عن سرعة برئه. ((حس)): اختلفوا في غسل داخلة الإزار، فذهب بعضهم إلى المذاكير، وبعضهم إلى الأفخاذ والورك. قال أبو عبيدة: إنما أراد داخلة إزاره طرف إزاره الذي يلي جسده مما يلي جانب الأيمن فهو الذي يغسل. قال: ولا أعلمه إلا جاء مفسراً في بعض الحديث هكذا. ((مح)): وصف وضوء العائن عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء، ولا يوضع القدح على الأرض

4563 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما. رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4563] 4564 - وعن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل رئي فيكم المغربون؟)) قلت: وما المغربون؟ قال: ((الذين يشترك فيهم الجن)). رواه أبو داود. [4564] 4565 - وذكر حديث ابن عباس: ((خير ما تداويتم)) في ((باب الترجل)). ـــــــــــــــــــــــــــــ فيأخذ غرفة فيتمضمض، ثم يمجها في القدح ثم يأخذ منه ما يغسل وجهه، ثم يأخذ بشماله ما يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى، ثم بشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن، ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى، ثم ركبته اليمنى، ثم اليسرى على الصفة المتقدمة. وكل ذلك في القدح، ثم داخلة إزاره. وإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه، وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه؛ إذ ليس في قوة العقل الإطلاع على أسرار جميع المعلومات والله أعلم. قال القاضي عياض: قال بعضهم: إنه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب عنه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيراً رزقه ما يكفيه، وكيف أذاه عن الناس، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل ومن ضرر المجذوم أيضاً. الحديث الحادي والثلاثون والثاني والثلاثون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فيكم)) أي في جنس الإنسان، فغلب الذكور على الإناث، والخطاب على الغيبة، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}. غلب العقلاء المخاطبين على الأنعام الغيب، والسؤال سؤال توقيف وتنبيه. ((وهل)) بمعنى ((قد)) في الاستفهام خاصة. والأصل ((أهل)) قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ} الكشاف: المعنى أقد أتى؟ على التقدير والتقريب جميعاً. و ((المغربون)) بتشديد الراء وكسرها المبعدون عن ذكر الله تعالى عند الوقاع، حتى شارك فيهم الشيطان. وقيل: سموا مغربين؛ لأنه دخل فيهم عرق غريب أو جاء من نسب بعيد. وقيل: أراد بمشاركة الجن فيهم، أمرهم إياهم بالزنا وتحسينه لهم، فجاء أولادهم من غير

الفصل الثالث 4566 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم)). [4566] 4567 - وعن علي، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يصلي، فوضع يده على الأرض، فلدغته عقرب، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعله فقتلها. فلما انصرف قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ رشدة. ومنه قوله تعالى: {وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ}. قيل: ويحتمل أن يراد به من كان له قرين من الجن يلقي إليه الأخبار وأصناف الكهانة. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المعدة حوض البدن)) الحديث أورده ابن الجوزي أيضاً في كتاب لقط النافع. شبه صلى الله عليه وسلم المعدة بالحوض، والبدن بالشجر، والعروق الواردة إليها بعروق الشجر الضاربة إلى الحوض، الجاذبة ماءه إلى الأغصان والأوراق، فمتى كان الماء صافياً ولم يكن ملحاً أجاجاً، كان سبباً لنضارة الأشجار وخصارتها، وإلا كان سبباً لذبولها وجفافها. فكذا حكم البدن مع المعدة، وذلك أن الله تعالى بلطيف حكمته وبديع فطرته جعل الحرارة الغريزية في بدن الإنسان مسلطة عليه، تحلل الرطوبات تسليط السراج على السليط. وخلق فيه أيضاً قوة جاذبة سارية في مجاري عروق واردة إلى الكبد، طالبة منه ما صفي منه من الأخلاط، التي حصلت فيه بسبب عروق واردة منه إلى المعدة، جاذبة منها ما انهضم فيها من المشروب والمطعوم؛ ليطبخ في الكبد مرة أخرى فيصير بدلا لما تحلل منه. هذا معنى الصدور بعد الورود؛ لأن العروق مجار لما يرد فيها ويصدر منها كعروق الشجر. فالأسلوب من باب سال الوادي، وجرى الميزاب. فإذا كان ما في المعدة غذاء صالحا، وانحدر من تلك العروق إلى الكبد، يحصل منه الغذاء المحمود للأعضاء خلفا لما تحلل منها وإذا كان فاسداً إما لكثرة أكل وشرب أو إدخال طعام أو غير ذلك، كان سبباً لتوليد الأخلاط الرديئة الموجبة للأمراض الرديئة، وذلك بتقدير العزيز العليم. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فوضع يده على الأرض)) هو جواب ((بينا)) وهذا يؤيد قول من قال: إن ((بينا)) و ((بينما)) ظرفان متضمنان لمعنى الشرط؛ فلذلك اقتضيا

((لعن الله العقرب، ما تدع مصلياً ولا غيره – أو نبياً وغيره)) – ثم دعا بملح وماء، فجعله في إناء، ثم جعل يصبه على أصبعه حيث لدغته ويمسحها ويعوذها بالمعوذتين. رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4567] 4568 - وعن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبه، فأخرجت من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تمسكه في جلجل من فضة فخضخضته له، فشرب منه، قال: فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمراء. رواه البخاري. 4569 - وعن أبي هريرة، أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة جدري الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكمأة من المن، وماؤها ـــــــــــــــــــــــــــــ جواباً. وقد سبق تمام تقريره في أول كتاب الإيمان. وقوله: ((ما تدع مصلياً)) إلى آخره، على لاستحقاقه اللعن. الحديث الثالث عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((المخضب)) هو بالكسر شبه المركن وهي إجانة يغسل فيها الثياب. والخضخضة تحريك الماء ونحوه. وقوله: ((فاطلعت)) عطف على مقدر يدل عليه قوله: ((وكان إذا أصاب الإنسان)) إلى آخره. واستعمال الفضة هنا كاكتساء الكعبة بالحرير تعظيما وتبجيلا. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الكمأة جدرى الأرض)) ((نه)): ((شبه الكمأة بالجدري الذي يظهر في جسد الصبي لظهورها من بطن الأرض، كما يظهر الجدري من باطن الجلد، وأراد به ذمها. وقوله: ((من المن)) أي: هي مما من الله تعالى به على عباده. وقيل شبهها بالمن، وهو العسل الحلو الذي ينزل من السماء صفواً بلا علاج، وكذلك الكمأة لا مؤونة فيها ببذر وسقي. أقول: كأنهم لما ذموها وجعلوها من الفضلات، التي تتضمن المضرة تدفعها الأرض إلى ظاهرها، كما تدفع الطبيعة الفضلات بالجدري، قابله صلى الله عليه وسلم بالمدح، أي ليست من الفضلات بل هي من فضل الله ومنه أنزله على عباده، أو ليست مما تضمن المضرة، بل هي ثناء للناس كالمن النازل، وماؤها شفاء العين. ((مح)): قيل: هو نفس الماء مجرداً. وقيل: مخلوطاً بدواء. وقيل: إن كان لتبريد ما في العين من حرارة، فماؤها مجرد الشفاء. وإن كان من غير ذلك فمركبا مع غيره. والصحيح بل

شفاء للعين. والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم)). قال أبو هريرة: فأخذت ثلاثة أكمؤ أو خمساً أو سبعاً فعصرتهن، وجعلت ماءهن في قارورة، وكحلت به جارية لي عمشاء، فبرأت. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. [4569] 4570 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء)). [4570] 4571 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن)). رواهما ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال: والصحيح أن الأخير موقوف على ابن مسعود. [4571] ـــــــــــــــــــــــــــــ الصواب أن [ماؤها] مجرداً شفاء للعين مطلقاً. أقول: والحديث أيضاً يصوبه؛ لقوله: ((وجعلت ماءهن في قارورة وكحلت به جارية)). قال الشيخ محيي الدين: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من ذهب بصره فكحل عينيه بماء الكمأة مجرداً فشفي وعاد إليه بصره. وهو الشيخ العدل الأمين الكمال الدمشقي صاحب رواية في الحديث. وكان استعماله لماء الكمأة اعتقاداً بالحديث وتبركاً به. انتهى كلامه. وأما قوله: ((والعجوة من الجنة)) فواقع على سبيل الاستطراد. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في كل شهر)) هو صفة غدوات، أي غدوات كائنة في كل شهر. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((العسل والقرآن)) تقسيم للجمع، فجعل جنس الشفاء نوعين حقيقيا وغير حقيقي، ثم قسمه، نحوه قولك: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين. قال الفرزدق: أبي أحد الغيثين، صعصعة الذي متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر فإنه نسى التشبيه وبني على أن أباه أحد الغيثين الذين إن أمسك أحدهما أمطر. ((غب)): شفاء البئر والنهر طرفه. والشفاء من المرض موافاة شفاء السلامة، وصار اسما للبئر، قال الله تعالى في صفة العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ}. وقال في صفة القرآن: {هُدًى وشِفَاءٌ} وقال: {وشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ}.

4572 - وعن أبي كبشة الأنماري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم على هامته من الشاة المسمومة. قال معمر: فاحتجمت أنا من غير سم كذلك في يافوخي، فذهب حسن الحفظ عني، حتى كنت ألقن فاتحة الكتاب في الصلاة. رواه رزين. 4573 - وعن نافع قال: قال ابن عمر: يا نافع! ينبع بي الدم، فأتني بحجام واجعله شاباً، ولا تجعله شيخاً ولا صبياً. قال: وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحجامة على الريق أمثل، وهي تزيد في العقل، وتزيد في الحفظ، وتزيد الحافظ حفظاً، فمن كان محتجماً فيوم الخميس على اسم الله تعالى، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد، فاحتجموا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء؛ فإنه اليوم الذي أصيب به أيوب في البلاء. وما يبدو جذام ولا برص إلا في يوم الأربعاء أو ليلة الأربعاء)) رواه ابن ماجه. [4573] 4574 - وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة)). رواه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وليس إسناده بذاك، هكذا في ((المنتقى)). [4574] 4575 - وروى رزين نحوه عن أبي هريرة. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع إلى الثامن عن نافع: قوله: ((ينبع بي الدم)) فيه تشبيه أي يغلي الدم في جسدي نبوع الماء من العين. و ((اجعله شابا)) أي اختره. و ((شابا)) حال، ويمكن أن يكون الضمير للمصدر كما في قوله: ((واجعله الوارث منا)). ويريد ((الحافظ حفظاً)) أي كمال الحفظ. قوله: ((ويوم الثلاثاء)) ظاهره يخالف قوله في حديث كبشة: ((إن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا ترقأ)). ولعله أراد يوما مخصوصاً وهو السابع عشر من الشهر، كما يأتي في الحديث الثاني. الحديث التاسع عن معقل: قوله: ((الحجامة يوم الثلاثاء)) هذا الحديث ملحق في أكثر نسخ المصابيح. وقوله: ((بذاك)) أي بذاك القوة.

(1) باب الفأل والطيرة

(1) باب الفأل والطيرة الفصل الأول 4576 - عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا طيرة، وخيرها الفأل)) قالوا: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم)) متفق عليه. 4577 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الفأل والطيرة ((نه)): الفأل مهموز فيما يسر ويسوء. والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء. وربما استعملت فيما يسر. والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطير طيرة وتخير خيرة، ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما. وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه. وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. انتهى كلامه. والفرق بين الفأل والطيرة يفهم مما روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة)). الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وخيرها الفأل)) الضمير المؤنث راجع إلى ((الطيرة))، وقد علم أن لا خير فيها، فهو كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًا} هذا مبني على زعمهم، أو هو من باب قولهم: الصيف أحر من الشتاء أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها. ومعنى الترخص في الفأل والمنع من الطيرة، وهو أن الشخص لو رأي شيئاً فظنه حسناً ويحرضه على طلب حاجته، فليفعل ذلك، وإن رأي ما يعده مشئوما ويمنعه من المضي إلى حاجته، فلا يجوز قبوله بل يمضي لسبيله. فإذا قبل وانتهى عن المضي في طلب حاجته فهو الطيرة؛ لأنها اختصت بأن تستعمل في الشؤم. قال الله تعالى: {إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي [تشاءمنا] بكم. قوال: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي سبب شؤمكم معكم. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا عدوى)) ((تو)): العدوى هنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره. يقال: أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علة به. وذلك على ما

ـــــــــــــــــــــــــــــ يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام والجرب والجدري والحصبة والبخر والرمد والأمراض الوبائية. وقد اختلف العلماء في التأويل، فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث، والقرائن [المسوقة] على العدوى، وهم الأكثرون. ومنهم من يرى أنه لم يرد إبطالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم كما تفر من الأسد)) وقال: ((لا يوردن ذو عاهة على مصح)). وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة؛ فإنهم كانوا يرون أن العلل المعدية مؤثرة لا محالة، فأعلمهم بقوله هذا أن ليس الأمر على ما تتوهمون، بل هو متعلق بالمشيئة إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن. ويشير إلى هذا المعنى قوله: ((فمن أعدى الأول؟)) أي: إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير، فمن أعدى الأول؟ , وبين بقوله: ((فر من المجذوم)) وبقوله: ((لا يوردن ذو عاهة على مصح)) أن مداناة ذلك من أسباب العلة، فليتقه اتقاءه من الجدار المائل والسفينة المعيوبة، وقد رد الفرقة الأولى على الثانية قد استدلالهم بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقا على مباشر أحد الأمرين، فتصيبه علة في نفسه أو عاهة في بدنه، فيعتقد أن العدوى حق. قال: وأرى القول الثاني أولى التأويلين؛ لما فيه [من] التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه ثم؛ لأن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية، ولم يرد الشرع بتعطيلها بل ورد بإثباته، والعبرة بها على وجه لا يناقض أصول التوحيد. ولا مناقضة في القول بها على الوجه الذي ذكرناه. وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها، فإنا قد وجدنا الشارع قد يجمع في النهي بين ما هو حرام، وبين ما هو مكروه، وبين ما ينهي عنه لمعنى، وبين ما ينهي عنه لمعان كثيرة. ويدل على صحة ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم المبايع: ((قد بايعناك فارجع)) في حديث الشريد بن سويد الثقفي، وهو مذكور بعد. وقوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة: ((كل ثقة بالله وتوكلا عليه)). ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه، يبين بالأول التوقي من أسباب التلف، وبالثاني التوكل على الله في متاركة الأسباب؛ ليثبت بالأول التعرض بالأسباب وهو سنة. وبالثاني ترك الأسباب وهو حاله. قوله: ((ولا طيرة)) مضى بحثه في ترجمة الباب. قوله: ((ولا هامة)) قال أبو داود في سننه: قال بقية: سألت محمد بن راشد عن قوله: ((لا هامة)) قال: كان أهل الجاهلية يقولون: ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج من قبره هامة. ((مح)): هي بتخفيف الميم على المشهور. وقيل: بتشديدها. وفيها تأويلان: أحدهما: أن العرب كانت تتشاءم بها، وهي من طير الليل. وقيل: هي البومة. قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم فيراها ناعية له نفسه أو بعض أهله، وهو تفسير مالك بن أنس. وثانيهما: كانت

4578 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا هامة ولا صفر)). فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال الإبل تكون في الرمل لكأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله: ((فمن أعدى الأول)) رواه البخاري. 4579 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعتقد أن عظام الميت وقيل: روحه، تنقلب هامة تطير، وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور. ويجوز أن يكون المراد النوعين معا فإنهما باطلان. قوله: ((ولا صفر)) قال أبو داود في سننه: قال بقية: سألت محمد بن راشد عنه فقال: كانوا يتشاءمون بدخول صفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صفر)). قال: وسمعت من يقول: هو وجع يأخذ في البطن، يزعمون أنه يعدي. قال أبو داود: قال مالك: كان أهل الجاهلية يحلون صفرا عاما ويحرمونه عاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا صفر)). ((مح)): قيل: كانت العرب تعتقد أن في البطن دابة تهيج عند الرجوع، وربما قتلت صاحبها، وكانت العرب تراها أعدى من الجرب. وهذا التفسير هو الصحيح، وبه قال مطرف وابن وهب وأبو عبيد وغيرهم. وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فتعين اعتماده. قال الراغب: سمعت العرب بالصفر الذي هو [الخلوصية] الجوف من حيث إنه يتألم به الجوف. وذلك أن العرق الممتد من الكبد إلى المعدة إذا لم يجد غذاء امتص آخر المعدة، فاعتقدت جهلة العرب أن ذلك حية في البطن تعض [الشراسيف]، حتى نفي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا صفر)). وأنشد للأعشى: لا يغمز الساق من [أبن] ولا تعب ولا يعض على شرسوفه الصفر ((فض)): ويحتمل أن يكون نفيا لما يتوهم أن شهر صفر تكثر فيه الدواهي والفتن. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: وقوله: ((في الرمل)) هو خبر كان و ((كأنها الظباء)) حال من الضمير المستتر في الخبر، وهو تتميم لمعنى النقاوة؛ وذلك لأنه إذا كان في الترب ربما يلصق به شيء منه وقوله: ((فمن أعدى الأول)) إنما أتى بـ ((من)) والظاهر أن يقال فما أعدى الأول ليجاب بقوله: الله تعالى. وذكر ((أعدى)) للمشاكلة والازدواج، كما في قوله: كما تدين تدان. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولا نوء)) ((نه)): الأنواء منازل القمر وكانت العرب تزعم أن عند كل نوء مطرا وينسبونه إليه، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. وإنما سمؤ نوء؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب فالطالع بالمشرق ينوء نوءا، أي ينهض ويطلع.

4580 - وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا عدوى ولا صفر ولا غول)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: أراد بالنوء الغروب وهو من الأضداد. قال أبو عبيد: لم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع. وإنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء؛ لأن العرب كانت تنسب المطر إليها. فأما من جعل المطر من فعل الله تعالى وأراد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي في وقت كذا وهو هذا النوء الفلاني، فإن ذلك جائز. أي إن الله تعالى قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات. الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((لا غلول)) ((نه)): الغول واحد الغيلان وهي جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تترأي للناس، فيتغول تغولا أي يتلون تلونا في صور شتى، ويغولهم أي يضلهم عن الطريق ويهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله. وقيل: قوله: ((لا غلول)) ليس نفيا لعين الغول ووجوده. وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصورة المختلفة واغتياله، فيكون المعنى بقوله: ((لا غول)) إنها لا تستطيع أن تضل أحدا. ويشهد له الحديث الآخر: ((لا غول ولكن السعالى)) والسعالى سحرة الجن، أي ولكن في الجنة سحرة لهم تلبيس وتخييل. ومنه الحديث: ((إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان))، أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى. وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها. ومنه حديث أبي أيوب: ((كان لي ثمرة في سهوة، وكانت الغيل تجيء فتأخذه)). ((تو)): قال الطحاوي: يحتمل أن الغول قد كان ثم دفعه الله تعالى عن عباده وعن بعضهم. هذا ليس ببعيد؛ لأنه يحتمل أنه من خصائص بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ونظيره منع الشياطين من استراق السمع بالشهاب الثاقب. أقول: إن (لا) التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات ونفت ذواتها، وهي غير منفية فتوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها التي هي مخالفة للشرع؛ فإن العدوى وصفر وهامة والنوء موجودة والمنفي هو ما زعمت الجاهلية إثباتها، فإن نفي الذات لإرادة نفي الصفات أبلغ، لأنه من باب الكناية. وقريب منه قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ}. فنهاهم عن الموت وهو ليس بمقدورهم، فالمنفي هو حالة إذا أدركهم الموت لم يجدهم عليها، وهي أن يكونوا على غير ملة الإسلام. فالوجه ما ذهب إليه صاحب النهاية من الوجه الثاني. واختاره الشيخ التوربشتى.

4581 - وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا قد بايعناك فارجع)) رواه مسلم. الفصل الثاني 4582 - عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير، وكان يحب الاسم الحسن رواه في ((شرح السنة)). [4582] 4583 - وعن قطن بن قبيصه، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العيافة والطرق والطيرة من الجبت)) رواه أبو داود. [4583] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عمرو: قوله: ((إنا قد بايعناك فارجع)) هذا إرشاد إلى رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يكن له درجة التوكل أن يراعي الأسباب، فإن لكل شيء من الموجودات خاصية وأثرا أودعها فيه الحكيم جل وعلا. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((كان يحب الاسم الحسن)) هو بيان تفاؤله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يتجاوز عن ذلك، يدل عليه حديث أنس وبريدة كما سيجيء. الحديث الثاني عن قطن: قوله: ((العيافة)) ((نه)): العيافة رجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادة العرب كثيرا، وهو كثير في أشعارهم. يقال: عاف يعيف عيفا إذا رجر وحدس وظن. وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها. قيل عنهم: إن قوما من الجن تذاكروا عيافتهم فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم. فاستردفه أحدهم، ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى. فقالوا: ما لك؟ فقال: كسرت جناحا، ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحا. وأنشد الشيخ التوبشتي: وقال صحابي: هدهد فوق بأنه هدى وبيان بالنجاح يلوح وقالوا: حمامات فحم [لقاؤها] وطلح [فثلت] والمطي طليح وقال آخر: يغني الطائان ببين سلمى على غصنين من غرب وبان وقال آخر: جرت سنحا، فقلت لها: أجيري نوى مشمولة، فمتى اللقاء؟

4584 - وعن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الطيرة شرك)) قاله ثلاثا، وما منا إلا؛ ولكن الله يذهبه بالتوكل. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: ((وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) هذا عندي قول ابن مسعود. [4584] ـــــــــــــــــــــــــــــ السانح مما كانوا يتيمنون به. أي قلت للنفس: أجيري أي خلفي حال نوى. والمشمولة المكروهة من الشمال، فإنهم يكرهونها لما فيها من البرد، وذهابها بالغيم الذي فيه الخصب [والحيا]. قوله: ((والطرق)) ((نه)): هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. وقيل: هو الخط في الرمل واقتصر في الفائق على الوجه الأول. وأنشد قول لبيد: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع ((فا)): الجبت هو السحر والكهانة. وقيل: هو كل ما عبد من دون الله. وقيل: هو الساحر. قوله: ((من الجبت)) معناه من عمل الجبت. وقالوا: ليست بعربية. وعن سعيد بن جبير: هي هبشيةز وقال قطرب: الجبت عند العرب الخسيس الذي لا خير عنده. انتهى كلامه. وعن بعضهم: ولا بد من إضمار في الأولين، مثل: إنه يماثل عبادة الجبت، أو من قبيلها، أو من أعمال الجبت، أي الساحر. أقول: ((من)) فيه إما ابتدائية أو تبعيضية، فعلى الأول المعنى: الطيرة ناشئة من الساحر. وعلى الثاني: الطيرة من جملة السحر والكهانة، أو من جملة عبادة غير الله، أي الشرك، يؤيده قوله في الحديث الآتي: ((الطيرة شرك)). ويجوز أن يكون على هذا أيضا ابتدائية، أي ناشئة من الشرك. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((الطيرة شرك)) ((قض)): إنما سماها شركا؛ لأنهم كانوا يرون ما يتشاءمون به سببا مؤثرا في حصول المكروه، وملاحظة الأسباب في الجملة شرك خفي، فكيف إذا انضم إليها جهالة وسوء اعتقاد؟. قوله: ((وما منا إلا)) ((تو)): أي: إلا من يتعرض له الوهم من قبل الطيرة، كره أن يتم كلامه لك؛ لما يتضمنه من الحالة المكروهة. وهذا نوع من أدب الكلام يكتفي دون المكروه منه بالإشارة، فلا يضرب لنفسه مثل السوء. قوله: ((يذهبه بالتوكل)) جاء بفتح الياء وضمها، وعلى الثاني اجتمع فيه حرفا التعدية للتأكيد. والمراد بالإذهاب ما يخطر في قلب المؤمن من لمة الملك المذهبية للمة الشيطان.

4585 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة، وقال: ((كل ثقة بالله، وتوكلا عليه)). رواه ابن ماجه. [4585] 4586 - وعن سعد بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا هامة ولا عدوى ولا طيرة. وإن تكن الطيرة في شيء ففي الدار والفرس والمرأة)) رواه أبو داود. [4586ٍ ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((ثقة بالله)) عن بعضهم: هو منصوب على الحال وصاحبها محذوف، أي كل معي واثقا بالله تعالى. انتهى كلامه. ويحتمل أن يكون هو من كلام الراوي حالا من فاعل ((قال))، وأن يكون مفعولا مطلقا، أي: كل، ثم استأنف بقوله: أثق ثقة بالله. الحديث الخامس عن سعد: قوله: ((ولا طيرة)) ((تو)): الأصل في الطيرة هو التشاؤم بالطير على ما ذكر. ثم إنهم اتسعوا فيها على أن وضعوها موضع الشؤم. قوله: ((وإن تكن الطيرة)) ((مح)): قال الخطابي وكثيرون: هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي: الطيرة منهي عنها إلا في هذه الأشياء. أقول: ويحتمل أن يكون معنى الاستثناء على حقيقته، وتكون هذه الأشياء خارجة عن حكم المستثنى منه، أي الشؤم ليس في شيء من الأشياء إلا في هذه الأشياء كما ورد في رواية لمسلم: ((إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار)). وفي رواية: ((الشؤم في الدار والمرأة والفرس)) وفي حديث أنس: ((ذروها ذميمة)) كما سيجيء. ويحتمل أن ينزل على باب قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان شيء سابق القدر سبقته العين)). وقد سبق تقريره، وعليه كلام. القاضي حيث قال: ووجه تعقيب قوله: ((ولا طيرة)) بهذه الشرطية يدل على أن الشؤم أيضا منفي عنها. والمعنى أن الشؤم لو كان له وجود في شيء، لكان في هذه الأشياء؛ فإنها أقبل الأشياء لها، لكن لا وجود له فيها فلا وجود له أصلا. انتهى كلامه. فعلى هذا الشؤم في الأحاديث المستشهد بها محمول على الكراهية التي سببها ما في الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع، كما قيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها ونحوهما، وشؤم الفرس أن لا يغرى عليه. وقيل: حرانها وغلاء ثمنها. فشؤمها عدم موافقتها له شرعا أو طبعا. ويؤيده ما ذكره في شرح السنة كأنه يقول: إن كان لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه، فليفارقها بأن ينتقل عن الدار ويطلق المرأة ويبيع الفرس، حتى يزول عنه ما يجده في نفسه من الكراهة كما قال صلى الله عليه وسلم في جواب من قال: يا رسول الله! إنا كنا في دار كثر فيها عددنا إلى آخره: ((ذروها ذميمة)).

4587 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد يا نجيح. رواه الترمذي. [4587] 4588 - وعن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، فإذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح به، ورئي بشر ذلك في وجهه. وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه. وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه اسمها فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهية ذلك في وجهه. رواه أبو داود. [4588] 4589 - وعن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله! إنا كنا في دار كثر فيها عددنا وأموالنا فتحولنا إلى دار قل فيها عددنا وأموالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذروها ذميمة)) رواه أبو داود. [4589] ـــــــــــــــــــــــــــــ فأمرهم بالتحول منها؛ لأنهم كانوا فيها على استثقال بظلها واستيحاش، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال عنها ليزول عنهم ما يجدون من الكراهة، لا أنها سبب في ذلك. الحديث السادس عن بريدة: قوله: ((سأل عن اسمه)) ((حس)): ينبغي للإنسان أن يختار لولده وخدمه الأسماء الحسنة؛ فإن الأسماء المكروهة قد توافق القدر. وروى عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: ما اسمك؟. قال: جمرة. قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحراقة. قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار. قال: بأيها؟ قال: بذات لظى. قال عمر: أدرك أهلك قد احترقوا، فكان كما قال عمر رضي الله عنه. أقول: ونظيره ما حكى أن [رشيدا] سأل رجلا: ما اسمك؟. فقال: سعيد أسعدك الله. قال: ابن من؟. قال: سالم، سلمك الله. قال: أبو من: قال: أبو عمرو عمرك الله. فقال: بارك الله فيك، وأكرمه. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ذروها ذميمة)) ((نه)): أي اتركوها مذمومة، فعليه بمعنى مفعولة. وإنما أمرهم بالتحول عنها إبطالا لما وقع في نفوسهم، من أن المكروه إنما أصابهم بسبب السكنى، فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك الوهم، وزال عنهم ما خامرهم من الشبهة، وهذا كلام الخطابي.

4590 - وعن يحيى بن عبد الله بن بحير، قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك يقول: قلت: يا رسول الله! عندنا أرض يقال لها: أبين، وهي أرض ريفنا وميرتنا، وإن وباءها شديد. فقال: ((دعها عنك فإن من القرف التلف)) رواه أبو داود. [4590] الفصل الثالث 4591 - عن عروة بن عامر، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأي أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن يحيى: قوله: ((أبين)) ((نه)): هو بوزن ((أحمر)) قرية إلى جانب البحر ناحية اليمن. وقيل: هو اسم مدينة عدن. و ((الريف)) الأرض ذات الزرع والخصب. ((الميرة)) الطعام المجلوب. وإنما هو من باب الطب؛ فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام. أقول: وسبب إيراد هذا الحديث في هذا الباب أنه زعم أن وباءها من شؤمها، فيجب التحول عنها كما مر في الحديث السابق ((فتحولنا إلى دار قل فيها عددنا)). فأجاب صلى الله عليه وسلم أنه ليس من الشؤم في شيء، فإذا فارقتها لكراهتك إياها. وإلى هذا المعنى أشار شرح السنة بقوله: وأمرهم بالانتقال ليزول عنهم ما يجدون من الكراهية، لا أنها سبب في ذلك. الفصل الثالث الحديث الأول عن عروة: قوله: ((أحسنها الفأل)) يجوز أن يحمل على معنى التفضيل فيه على زعم القوم والسائل، يعني أحسنها ما يشابه الفأل المندوب إليه. ومع ذلك لا يرد المسلم عن المضي في حاجته. وفي تخصيص المسلم بالذكر إشعار بالعلية، أي ليس من شأن المسلم الكامل في إسلامه الراسخ في إيمانه ذلك، بل يتوكل على الله تعالى ويمضي لسبيله قائلا: ((اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت)) إلى آخره. وما ألطف النسج على هذا المنوال؛ فإنه من باب إرخاء العنان في مخادعات الأقوال، يرخى عنان الكلام ويجريه على زعم الخصم واعتقاده، على وجه لا يشمئز عن التفكر فيه فيعثر عند

(2) باب الكهانة

بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) رواه أبو داود. [4591] (2) باب الكهانة الفصل الأول 4592 - عن معاوية بن الحكم، قال: قلت: يا رسول الله! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان. قال: ((فلا تأتوا الكهان)) قال: قلت: كنا نتطير. قال: ((ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم)) قال: قلت: ومن رجال يخطون. قال: ((كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك على ما ينصف من نفسه فيذعن للحق ويقبله. فقوله: ((أحسنها الفأل)) إطماع له في الاستماع والقبول. وقوله: ((لا يرد المسلم)) تعريض بأن الكافر بخلافه. وإيراد الدعاء في صورة الحصر تصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من يعتقدها سفيها مشركا. باب الكهانة الكهانة مصدر كهن، والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار. وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما. فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن، ورئيا يلقى إليه الأخبار. ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله. وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما. الفصل الأول الحديث الأول عن معاوية: قوله: ((أمورا)) منصوب على شريطة التفسير، وفائدته التفخيم؛ لأن البيان بعد الإبهام أوقع في النفس. وقوله: ((ذلك شيء يجده أحدكم)) نفي للتطير بالبرهان، وهو أبلغ [من أن لو] قال: لا تطيروا، كما قال: ((فلا تأتوا الكهان)) يعن لا تطير؛ فإن الطيرة لا وجود لها، بل هي شيء يوجد في النفوس البشرية، وما يعتري الإنسان من قبل الظنون من غير أن يكون له فيه ضرر. وقوله: ((فلا يصدنكم)) من باب ((لا أرينك ها هنا)) فإنه نفي ما يجد في النفس عن الصد. وفي الحقيقة المنهي هم المخاطبون عن التعرض له. وقوله: ((ومنا رجال يخطون)) قد غير النسق في التفصيل؛ ليدل به على امتياز أولئك الرجال الذين خطوا من الأمور العامة. ومنه قول الحماسي:

4593 - وعن عائشة، قالت: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنهم ليسوا بشيء)). قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون إحيانا بالشيء يكون حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن الرجال أسنة مذروبة ومزندون شهودهم كالغائب منهم ليوث ما ترام وبعضهم مما قمشت وضم حبل الحاطب قال المرزوقي: أخرج المزندين الداخلين في القسمة على أسلوب آخر ذما لهم، كأنه لم يقنعهم ذلك التشبيه وتلك القسمة فاستأنفها على وجه آخر، يعني بينهما تفاوت عظيم وتباين شديد. وما يتعلق ببقية ألفاظ الحديث مضى بحثه في مستهل باب ((ما لا يجوز من العمل في الصلاة))، فمن أشكل عليه فليطلب هناك. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((تلك الكلمة من الحق)) ((مح)): بالجيم والنون في جميع نسخ مسلم في بلادنا، أي الكلمة المسموعة من الجبن. وروى أيضا: ((من الحق)) بالحاء والقاف. و ((يخطفها)) أي يسرقها من الملائكة بسرعة. وقوله: ((فيقرها)) بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء. و ((قر الدجاجة)) بفتح القاف. والدجاجة بالدال. قال أهل اللغة والغريب: القر ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه. تقول: قررته فيه أقره قرا، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته. يقال: قرت تقر قرا وقريرا. فإد رددته قلت: قرقرت قرقرة. ويروى كقر الزجاجة بالزاي يدل عليه ثبوت رواية البخاري: ((فيقرها في أذنه كما يقر القارورة)). أقول: واختار الشيخ التوربشتي هذه الرواية، ورد الرواية الأولى وقال: ومن الناس من رواه ((قر الزجاجة)) بالزاي، وأراها أحوط الروايتين؛ لما في غير هذه الرواية ((قر القارورة)) يقال: قررت على رأسه دلوا من ماء أي صببت. وقر الحديث في أنه يقره كأنه صبه فيها. واستعمال قر الحديث في الأول شائع مستفيض في كلامهم، وأما استعماله على الوجه الذي فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور، لم نجد له شاهدا في كلامهم. وكل ذلك يدل عى أن الدجاجة بالدال تصحيف أو غلط من السامع. أقول: لا ارتياب أن ((قر الدجاجة)) مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة، يصح أن يشبه ترديد كلام الجني في أذن الكاهن ترديد الجاجة صوتها في أذن صواحبها، كما تشاهد الديكة إذا وجدت حبة أو شيئا فتقر وتسمع صواحبها فيجتمعن عليها. وباب التشبيه باب واسع لا يفتقر إلا إلى

4594 - وعنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة تنزل في العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)). رواه البخاري. 4595 - وعن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ العلاقة، على أن الاختطاف ها هنا مستعار للكلام من خطب الطير، قال تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فتكون الدجاجة أنسب من القارورة لحصول الترشيح في الاستعارة. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما ذكره ابن الصلاح في كتابه أن الأصل قر الدجاجة بالدال، فصحف إلى قر الزجاجة بالزاي. وقوله: ((فيخلطون)) أي الأولياء جمع بعد الإفراد نظرا إلى الجنس. الحديث الثالث عن عائشة: قوله: ((وهو السحاب)) يحتمل أن يكون من قول الراوي تفسير للعنان. فالسحاب مجاز من السماء كما أن السماء مجاز عن السحاب في قوله تعالى: {وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} في وجه. وأصل ذلك أن الملائكة تسمع في السماء ما قضى الله تعالى في كل يوم من الحوادث في الدنيا، فيحدث بعضهم بعضا فيسترقه الشياطين فيلقيه إلى الكهنة، يشهد له حديث أبي هريرة في أول الفصل الثالث، وما روى أبو داود عن ابن مسعود قال: ((إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. فيقولون: الحق الحق)). قوله: ((قضى في السماء)) يحتمل أن يكون حالا من ((الأمر)) أو صفة له على تأويل إرادة الجنس، كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني الحديث الرابع عن حفصة: قوله: ((من أتى عرافا)) ((مح)): العراف من جملة أنواع الكهان. قال الخطابي وغيره: العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما. وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه. ولا يحتاج معها إلى إعادة. ونظير هذا: الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب له فيها. كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات

4596 - وعن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم)) قالو: الله ورسوله أعلم. قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ إذا أتى بها على وجهها الكامل، تربت عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني. ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث؛ فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم على من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة، فوجب تأويله. الحديث الخامس عن زيد: قوله: ((على إثر سماء)) ((مح)): هو بكسر الهمزة وإسكان الثاء وفتحها جميعا لغتان مشهورتان، والسماء المطر. انتهى كلامه. وقوله: ((كانت من الليل)) صفة ((سماء)) وأنث الراجع اعتبارا للفظ. وفي ((أصبح)) ضمير الشأن. و ((من)) للتبعيض، وهو مبتدأ وما بعده خبر له, والجملة خبر ((كانت)) مبينة للضمير. ويحتمل أن يكون اسمه ((مؤمن بي)) مبتدأ، و ((من عبادي)) خبره و ((من)) فيه بيانية، وفيه قلب من حيث المعنى كقوله: ((عرضت الناقة على الحوض)). فإن قلت: ما معنى قوله: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر))؟. قلت: فيه تأنيب وتعيير لهم، أي كونهم من عبادي مناف لكفران النعمة واختلافهم في ذلك، كقوله تعالى: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}. الكشاف: قيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق المطر يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله؛ حيث تنسبونه إلى النجوم. وقوله: ((فأما من قال)) إلى آخره تفصيل للمجمل، وهو قوله: ((مؤمن بي وكافر)) ولا بد من تقدير فيه ليطابقه المفصل، فالتقدير: مؤمن بي وكافر بالكواكب، وكافر بي ومؤمن بالكواكب، فهو من باب الجمع مع التقسيم. ((مح)): اختلفوا في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين: أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان، وفيه وجهان: أحدهما: أنه من قال معتقدا بأن الكواكب فاعل مدبر منشئ للمطر كزعم أهل الجاهلية، فلا شك في كفره. وهو قول الشافعي والجماهير

4597 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث، فيقولون: يكوكب كذا وكذا)) رواه مسلم. الفصل الثاني 4598 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. [4598] ـــــــــــــــــــــــــــــ وثانيهما: أنه من قال معتقدا بأنه من الله تعالى وبفضله، وأن النوء علامة له ومظنة لنزول الغيث فهذا لا يكفر؛ لأنه بقوله هذا كأنه قال: مطرنا في وقت كذا. والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه؛ لأنها كلمة موهمة مترددة بين الكفر والإيمان، فيساء الظن بصاحبها؛ ولأنها شعار الجاهلية. والقول الثاني: كفران لنعمة الله لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخرى: ((أصبح من الناس شاكرا وكافرا)). وفي أخرى: ((ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين)). وأما معنى النوء فقد سبق في الباب السابق في الحديث الرابع من الفصل الأول. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بكوكب)) متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: ((ينزل الله الغيث)) أي ينزل الغيث بسبب كوكب شرطين وبطين مثلا؛ فإن كل منزل من منازل القمر مشتمل على كواكب شتى. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عباس: قوله: ((من اقتبس علما)) نكر ((علما)) للتقليل؛ ومن ثمة ضم الاقتباس؛ لأنه فيه معنى القلة. و ((من النجوم)) صفة ((علما)) وفيه مبالغة، وفاعل ((زاج)) الشعبة، ذكرها باعتبار السحر. ((وزاد ما زاد)) جملة مستأنفة على سبيل التقرير والتأكيد، أي يزيد السحر ما يزيد الاقتباس، فوضع الماضي موضع المضارع للتحقيق. ((حس)): المنهي من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في المستقبل من الزمان. مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح ومجيء المطر، ووقوع الثلج وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار ونحوها، ويزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب

4599 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأته حائضا، أو أتى امرأته في دبرها؛ فقد برئ مما أنزل على محمد)) رواه أحمد، وأبو داود. [4599] الفصل الثالث 4600 - عن أبي هريرة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ـــــــــــــــــــــــــــــ واجتماعها وافتراقها. وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره، كما قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نهى عنه؛ قال تعالى: {وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ}، وقال تعالى: {وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}. فأخبر الله تعالى أن النجوم طرق لمعرفة الأوقات والمسالك، ولولاها لم يهتد الناس إلى استقبال الكعبة. روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق ثم أمسكوا)). الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حائضا)) حال مستقلة، ولهذا جاز حذف التاء، ولو كانت صفة لكانت التاء لازمة. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خضعانا)) ((نه)): الخضعان مصدر خضع يخضع خضوعا وخضعانا، وهو الانقياد والطاعة كالغفران والكفران، ويروى بالكسر كالوجدان. ويجوز أن يكون جمع خاضع. أقول: قوله: ((خضعانا)) إذا كان جمعا كان حالا، وإذا كان مصدرا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع، أو مفعولا له؛ وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفا أرخى جناحيه مرتعدا. والضمير في ((كأنه)) راجع إلى قوله: ((لقوله)) و ((كأنه)) حال منه. ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الوحي النازل عليه ((أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو [أشده]

فإذا فرع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي ـــــــــــــــــــــــــــــ على فيفصم عني وقد وعيت ما قال)). والصفوان الحجر الأملس. وقوله: ((فإذا فزع عن قلوبهم)) أي كشف عنهم الفزع وأزيل، وزوال الفزع هنا بعد سماعهم القول، كالفصم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سماع الوحي. قوله: ((للذي قال)) أي قالوا الحق لأجل ما قاله الله تعالى، أي عبروا عن قول الله تعالى وما قضاه وقدره بلفظ ((الحق)). والمجيب الملائكة المقربون كجبريل وميكائيل وغيرهما على ما روينا عن ابن مسعود قال: ((إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحق الحق)) أخرجه أبو داود. وقوله: ((الحق)) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، تقديره: قال جبريل: قال الله تعالى: القول الحق. ويحتمل الرفع فالتقدير قال جبريل: قوله الحق. هكذا قدر صاحب الكشاف في سورة سبأ في قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ} بالرفع. والقول يجوز أن يراد به كلمة ((كن)) وأن يراد بالحق ما يقابل الباطل. فالمراد بـ ((كن)) مما هو من سببها من الحوادث اليومية، بأن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ}، ويشفي سقيما ويسقم سليما، ويبتلي معافي ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا. فسبحان الذي {إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. وإنما كانت الكلمة حقا لا باطلا، لقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي عبثا بل هو صواب وحكمة. ويجوز أن يراد به القول المسطور في اللوح المحفوظ. والحق بمعنى الثابت أي قضى وقدر وحكم في الكائنات ما كان مقدرا في الأزل ثابتا في اللوح المحفوظ. ويؤيد الأول تأنيث الكناية في قوله: ((فسمعها [مسترقو] السمع)) والتصريح في ((فيستمع الكلمة))، وإنما عدلوا عن صريح القولن وهو التفصيل والتصريح بالمقضي من الشؤون والأمور إلى هذا القول المجمل الموجز؛ لأن قصدهم في ذلك إزالة الفزع عن قلوبهم بالكلية، يعني لا تفزعوا وهينوا على قلوبكم؛ فإن هذا القول هو ما عهدتموه كل يوم من قضاء الشؤون لا ما تظنونه من قيام الساعة. قال الزجاج في تفسير الآية: إن جبريل لما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، ففزعت لذلك، فلما انكشف عنها الفزع، قالوا: ماذا قال ربكم؟.

الكبير. فسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا، بعضه فوق بعض)) ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه ((فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيا الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)). رواه البخاري. 4601 - وعن ابن عباس، قال: أخبرن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنهم بيناهم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم واستنار، فقال لهم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((مسترقو السمع)) مبتدأ و ((هكذا)) خبره وهو إشارة إلى ما صنعه بالأصابع من التحريف والتبديد، وركوب بعضها على بعض. وقوله: ((بعضه فوق بعض)) توضيح أو بدل، وفيه معنى التشبيه أي: مسترقو السمع بعضهم راكب بعض مردفين، ركوب أصابعي هذه بعضها فوق بعض. وإفراد الضمير في بعضه والمرجوع إليه جمع لإرادة المذكور. وأنشد ابن جنى: مثل الفراخ [نقفت] حواصله وقال: أي حواصل المذكور. ومنه قوله تعالى: {وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} الضمير في ((منه)) جار مجرى اسم الإشارة. كأنه قيل: عن شيء من ذلك. وقوله: ((ووصف سفيان بكفه)) أي بين كيفية ركوب بعضها فوق بعض بأصابعه، كقوله تعالى: {وتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ}. وقولك: ((وجهه يصف الجمال)). وقوله: ((فيسمع)) عطف على قوله: ((ومسترقو السمع)) وكلام الراوي معترض بينهما. والساحر المنجم كما جاء في الحديث: ((والمنجم ساحر))؛ لأن الساحر لا يخبر [عن] الغيب. والشهاب يحتمل أن يكون منصوبا ومرفوعا يعني: الجني يسترق السمع قبل أن يلقيه إلى وليه أدرك الشهاب أو أدركه الشهاب. وقوله: ((فيقال)) أي يقول من صدق الكاهن للذي لامه عليه أليس ...... إلى آخره. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((رمى بنجم)) هو جواب ((بينا)) ولم يؤت بـ ((إذا)) كما يستفصحه الأصمعي، وأنشد:

رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم؛ ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا، فيخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون)) رواه مسلم. 4602 - وعن قتادة، قال: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ ـــــــــــــــــــــــــــــ وبينا نحن نرقبه أتانا معلق وفضة وزناد راعى و ((هم جلوس)) مبتدأ وخبر لأن ((بينا)) و ((بينما)) يستدعيان بينهما جملة اسمية. و ((بينا)) مع الجواب خبر ((أن)). وقوله صلى الله عليه وسلم لهم: ((ما كنتم تقولون)) ليس للاستعلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بذلك؛ ولذلك قالوا: الله ورسوله أعلم، بل لأن يحسوا عما كانوا يعتقدونه في الجاهلية، فيزيل عنهم ويقلعه عن سنخه. قوله: ((ويرمون)) معطوف على ((يقذفون)) فعلى هذا رميهم بالشهاب بعد إلقائهم الكلمة إلى أوليائهم، وهو إحدى الحالتين اللتين ذكرتا في الحديث السابق. وهي قوله: ((وربما ألقاها قبل أن يدركه)). وقوله: ((يقرفون فيه)) عداه بـ ((في)) على تضمين معنى الكذب. قوله: ((هذه السماء الدنيا)) فإن قلت: ((الدنيا)) صفة ((للسماء)) و ((السماء)) صفة لاسم الإشارة، فكيف يصح وصف الوصف؟. قلت: إنما لا يصح حيث كانت الصفة مفهوما لا ذاتا، وأوصاف أسماء الإشارة ذوات فيصح وصفها. الحديث الثالث عن قتادة. قوله: ((وأضاع نصيبه)) أي حفظه وهو الاشتغال بما يعنيه وينفعه في الدنيا والآخرة. وقوله: ((ما لا علم له به)) ليس نفيا لما يتعاناه المنجم من الأحكام منه، وإثباتا لغيره بل نفيه بالكلية، ويؤيده ما يتبعه من قوله: ((وما عجز عن علمه الأنبياء)) إلى آخره.

وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا يعلم. رواه البخاري تعليقا – وفي رواية رزين: - ((تكلف ما لا يعنيه وما لا علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ واعلم أن الشيخ أبا القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري رحمه الله تعالى عقد بابا في كتابه المسمى بـ ((مفاتيح الحجج)) في إبطال مذهب المنجمين، وأطنب فيه وذكر أقوالهم وقال: وأقربها قول من قال: هذه الحوادث يحدثها الله تعالى ابتداء بقدرته واختياره، ولكن أجرى العادة بأنه إنما يخلقها عند كون هذه الكواكب في البروج المخصوصة، ويختلف باختلاف سيرها واتصالاتها ومطارح أشعتها على جهة العادة من الله تعالى، كما أجرى العادة بخلق الولد عقيب الوطء، وخلق الشبع عقيب الطعام. ثم قال: هذا في القدرة جائز لكن ليس عليه دليل ولا إلى القطع سبيل؛ لأن ما كان على جهة العادة يجب أن يكون الطريق فيه مستمرا، وأقل ما فيه أن يحصل التكرار، وعندهم لا يحصل وقت في العالم مكرر على وجه واحد؛ لأنه إذا كان في سنة الشمس مثلا في درجة من برج، فإذا عادت إليها في السنة الأخرى، فالكواكب لا يتفق كونها في بروجها، كما كانت في السنة الماضية، والأحكام تختلف بالقرائن والمقابلات، ونظر الكواكب بعضها إلى بعض، فلا يحصل شيء من ذلك مكررا. واتفقوا على أنه لا سبيل إلى الوقوف على الأحكام، ولا يجوز القطع على البت لتعذر الإحاطة بها على التفصيل. ومما يدل على أنه لا حجة في قولهم، أنهم اختلفوا فيما بينهم في حكم [الريح] فلأهل هنذ وسند طريق يخالف طريق أرباب [الريح] الممتحن. وفصل الشيخ في الاختلافات بينهم تفصيلا ثم قال: ومما يدل على فساد قولهم أن يقال أخبرونا عن مولودين ولدا في وقت واحد، أليس يجب تساويهما في كل وجه لا تميز بينهما في الصورة والقدر والمنظر، حتى لا يصيب أحدهما نكبة إلا أصاب الآخر، وحتى لا يفعل هذه شيئا إلا والآخر يفعل مثله، وليس في العالم اثنان هذا صفتهما. قالوا: من المحال أن يوجد مولودان في العالم في وقت واحد، ولا بد أن يتقدم أحدهما على الآخر فيقال: أمحال ذلك في العقل والتقدير أم في الوجود؟. فإن قالوا بالأول بان فساد قولهم: وإن قالوا بالثاني قيل: وما يؤمنكم منه. فإن قالوا: ليس أمر الكسوفين يصدق؟. قلنا: ليس أمر الكسوفين من الأحكام، وإنما هو من طريق الحساب وذلك غير منكر، ويجوز أن يكون أمر سر الكواكب على ما قالوه. وقد ورد في الشريعة في أمر الكسوفين بأنه آية من آيات الله.

4603 - وعن الربيع مثله، وزاد: والله ما جعل الله في نجم حياة أحد، ولا رزقه، ولا موته؛ وإنما يفترون على الله الكذب ويتعللون بالنجوم. 4604 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس بابا من علم النجوم لغير ما ذكر الله؛ فقد اقتبس شعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر)) رواه رزين. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قالوا: فما قولكم في المنجمين إنهم مخطئون في جميع ما يحكمون مكابرون للعقول؟ قلنا: إنا نقول: إنهم مخطئون في أصولهم عن شبه وقعت لهم، فلا يعرفون بطلان قولهم مكابرة للعقول ولا بالضرورة، بل جزموا على مقتضى قواعد بنوها على أصول فاسدة وقعت الشبهة لسلفهم في أصول قواعدهم، فربما يصيبون في تركيب الفروع على تلك الأصول، لمنزلتهم في الأحكام كمنزلة أصحاب الحدس والتخمين، وأصحاب الزوج والفرد، فربما يصيبون اتفاقا لا عن ضرورة وربما يخطئون. وكثيرا ما نجد من الفلاحين والملاحين يعتبرون نوع ما اعتادوا من توقع المطر وهبوب الرياح في أوقات راعوها بدلالات، ادعوا أنهم جربوها في السماء والهواء وغير ذلك، فيحصل بعض أحكامهم اتفاقا لا تحقيقا. وقلت: ومنه ما روى بان جنى في المحتسب أن ابنة مغفر بن حمار البارقي شامت برقا فقالت: يا أبت! جاءتك السماء فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها عين جمل طريف، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت مليا ثم جاءته، فقالت: يا أبت! قد جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها. فقال: ارعي غنيماتك، فرعت مليا ثم جاءته فقالت: يا أبت جاءتك السماء بشيء قال: كيف ترينها؟ قالت: سطحت وابيضت. فقال: أدخلي غنيماتك فجادت السماء بشيء شطأ له الزرع، والشطأ فراخ الزرع. وصنف ابن دريد كتابا في هذا المعنى، وفيه هذه القصة. وروايته: كان أعرابي ضرير تقوده ابنته، وهي ترعى غنيمات له، فرأت سحابا، فقالت: يا أبت إلى آخرها. وفيه قال: أخبرنا أبو حاتم عن عبيدة قلت لأعرابي: ما أسح الغيث؟. فقال: ما ألحقته الجنوب ومرته الصبا ونتجته الشمال، ثم قال: أهلك والليل ما ترى إلا أنه قد أخذه المطر.

كتاب الرؤيا

4605 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أمسك الله القطر عن عباده خمس سنين، ثم أرسله، لأصبحت طائفة من الناس كافرين، يقولون: سقينا بنوء المجدح)) رواه النسائي. [4605] كتاب الرؤيا الفصل الأول 4606 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات)) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن أبي سعيد: قوله: ((خمس سنين)) لعله صلى الله عليه وسلم لم يرد به التحديد بل طول الزمان وما يورث الإقناط من إنزال الغيث. والمجدح نجم من النجوم. قيل: هو الدبران: وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له ثلاث شعب، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر والله أعلم. كتاب الرؤيا الكشاف: الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فلا جرم فرق بينهما بحرف التأنيث، كما قيل: القربة والقربى، وجعل ألف التأنيث فيها مكان تاء التأنيث للفرق. وقال الواحدي: الرؤيا مصدر كالبشري والفتيا والشورى، إلا أنه لما صار اسما لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء. ((مح)): مقصورة ومهموزة ويجوز ترك همزها تخفيفا. قال المازري: مذهب أهل السنة أن حقيقة الرؤيا خلق الله تعالى في قلب النائم اعتقادات كخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وخلق هذه الاعتقادات في النائم علم على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال كالغيم علما على المطر. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الرؤيا الصالحة)) معنى الصالحة الحسنة. وتحتمل أن تجري على ظاهرها، وأن تجري على الصادقة، والمراد بها صحتها. وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشرات على الأول ظاهر؛ لأن البشارة كل خبر صدق يتغير به بشرة الوجه، واستعمالها في الخير أكثر. وعلى الثاني مؤول إما على التغليب أو يحمل على أصل اللغة.

4607 * وزاد مالك برواية عطاء بن يسار: ((يراها الرجل المسلم أو ترى له)). [4607] 4608 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)) متفق عليه. 4609 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الرؤيا الصالحة)) ((تو)): قيل: معناه أن الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة، والنبوة غير باقية وعلمها باق، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذهبت النبوة وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة)). ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((السمت الحسن التؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة)) أي من أخلاق أهل النبوة. وقيل: معناه أنها تجيء على موافقة النبوة؛ لا أنها جزء باق من النبوة. وقيل: إنما قصر الأجزاء على ستة وأربعين؛ لأن زمان الوحي كان ثلاثا وعشرين سنة، وكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، وذلك في ستة أشهر من سني الوحي، ونسبة ذلك إلى سائرها نسبة جزء إلى ستة وأربعين جزءا. قال: أما حصر سني الوحي في ثلاث وعشرين، فإنه مما ورد به الروايات المعتد بها مع اختلاف في ذلك. وأما كون زمان الرؤيا فيها ستة أشهر، فشيء قدره هذا القائل في نفسه، لم يساعده فيه النقل، وأرى الذاهبين إلى التأويلات التي ذكرناها قد هالهم القول بأن الرؤيا جزء من النبوة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ذهبت النبوة)) ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر هذا القول؛ فإن جزءا من النبوة لا يكون نبوة كما أن جزءا من الصلاة على الانفراد لا يكون صلاة. وكذلك عمل من أعمال الحج وشعبة من شعب الإيمان. وأما وجه تحديد الأجزاء بستة وأربعين: فأرى ذلك مما يجتنب القول فيه ويتلقى بالتسليم؛ فإن ذلك من علوم النبوة التي لا تقابل بالاستنباط ولا يتعرض له بالقياس، وذلك مثل ما قال في حديث عبد الله بن سرجس في السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد: ((أنها جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة)). وقلما يصيب مؤول في حصر هذه الأجزاء ولئن قيض له الإصابة في بعضها، لما يشهد له الأحاديث المستخرج منها لم يسلم له ذلك في البقية. انتهى كلامه. وقد وافقه الشيخ محيي الدين في شرح صحيح مسلم في قدحه في كون زمان الرؤيا فيها ستة أشهر، وقال: لم يثبت أن أصل رؤياه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة سنة أشهر. الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فقد رآني)) الشرط والجزاء

متحد فدل على التناهي في المبالغة، كما يقال: من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، أي، أدرك مرعا متناهيا في بابه، أي من رآني فقد رأي حقيقتي على كمالها، لا شبهة ولا ارتياب فيما رأي، ويدل عليه قوله: ((فقد رأي الحق)) والحق هنا مصدر مؤكد، أي من رآني فقد رآني رؤية الحق. وفي البخاري ومسلم والحميدي وجامع الأصول: ((فقد رأي الحق)) على أن الحق هو مفعول به. قوله: ((فإن الشيطان)) كالتتميم للمعنى والتعليل للحكم. ((مح)): اختلفوا فيه فقال ابن الباقلاني: معناه: رؤياه صحيحة ليست بأضغاث أحلام، ولا من تشبيهات الشيطان. قال: وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة، كمن يراه أبيض اللحية. وقد يراه شخصان في زمان واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، ويراه كل منهما في مكانه. حكاه المازري عنه ثم قال: وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره، والمراد أن من يراه فقد أدركه، وليس لمانع أن يمنعه؛ فإن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل. وأما قوله: ((فإنه قد يرى على خلاف صفته أو في مكانين معا)). فإنه تغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية، وصفاته متخيلة غير مرئية. فالإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها، وإنما يشترط كونه موجودا، ولو رآه بأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من صفاته المتخيلة لا المرئية. قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ((فقد رآني)) إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته، فإن رأي على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، وهو ضعيف بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها كما ذكره المازري انتهى كلام الشيخ محيي الدين. قال الشيخ أبو حامد الغزالي: ليس معناه أنه رأي جسمي وبدني بل رأي مثالا صار ذلك المثال إليه يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه ... ، بل البدل الجسماني في اليقظة أيضا ليس إلا آلة النفس، والآلة تارة تكون حقيقية وتارة خيالية. والنفس غير المثالات المتخيلة إذ لا يتخيل إلا ذو لون أو ذو قدر بعيد من المتخيل أو قريب. والحق أن ما يراه مثال حقيقة روحه المقدسة التي هي محل النبوة، فما رآه من الشكل ليس هو روح النبي صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق. ومعنى ((فقد رآني)): ما رآه صار واسطة بيني وبينه في تعريف الحق إياه. وكذلك ذات الله تعالى منزهة عن الشكل والصورة، لكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقي المعنوي الذي لا صورة فيه ولا لون، ويكون ذلك المثال صادقا وحقا وواسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام لا بمعنى: إني رأيت ذاته كما تقول. قال الشيخ أبو القاسم القشيري: من المعلوم أنه قد رآه صلوات الله عليه بعض الناس كأنه على صورة شيخ، ويراه بعضهم على صورة أمرد، وآخر كأنه مريض، وآخر كأنه ميت، وغير

4610 - وعن أبي قتادة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رآني فقد رأي الحق)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من الوجوه. ثم يكون معنى الخبر أن تلك الرؤيا جميعا تحتمل وجوها من التأويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان موصوفاً بتلك الصفات جميعاً، فكذلك لو رأي أحد في المنام ربه تعالى على وصف يتعالى عنه، وهو يعلم أنه سبحانه منزه عن ذلك، لا يعتقد في صفته تعالى ذلك، لا تضره تلك الرؤيا، بل يكون لها وجه من التأويل. قال الواسطى: من رأي ربه تعالى في المنام على صورة شيخ عاد تأويله إلى الرائي، وهو إشارة إلى وقاره وقدر محله في حكمه. وكذلك إذا رآه كأنه شخص ساكن يتولى أمره ويكفي شأنه. أقول: قول المازري وأبي حامد من باب واحد، ويمكن أن يرجح قول الباقلاني بأن يقال: إن أثبت الروايات هي ((فقد رأي الحق)) فلابد من تقدير ما يستقيم أن يقع الجزاء مسبباً من الشرط، ويترتب على المعلل العلة، فالمعنى من رآني في المنام بأي صفة كانت، فليستبشر وليعلم أنه قد رأي الرؤيا الحق التي هي من الله، وهي من المبشرات لا الباطل الذي هو [العلم] المنسوب إلى الباطل الذي هو الشطان؛ فإن الشيطان لم يتمثل بي، كيف لا تكون مبشرات؟ وهو البشير النذير، السراج المنير وهو الرحمة المهداة إلى كافة الخلق: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. وعلى هذا أيضاً الرواية الأخرى: ((لإقد رآني الحق)) أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا الرواية الأخرى: ((فقد رآني))؛ فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الكمال والغاية، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها، كقوله: ((من كانت هجرته إلى الله فهجرته إلى الله)) ولا كمال أكمل من الحق، كما لا نقص أنقص من الباطل، والباطل هو الكذب. ويؤيده حديث أبي هريرة: ((ريا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) وما كان من النبوة فإنه لا يكذب، فحينئذ لا يفتقر إلى تلك التكلفات والتمحلات، ولا يكشف الأستار عن مثل تلك الأسرار إلا من تدرب في علم المعاني، واعتلى شامخ البيان، وعرف كيف يؤلف الكلام ويصنف ويرتب النظام ويرصف. قوله: ((فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)) ((مح)): قال القاضي: قال بعضهم: خص الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته؛ لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما أجرى الله سبحانه وتعالى العادة للأنبياء بالمعجزة، فكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا التصوير، فحماها الله سبحان وتعالى من الشيطان ونزعه ووسوسته وإغوائه وكيده، كذا حمى رؤياهم عنه بالنوم.

4611 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)) متفق عليه. 4612 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤية الصالحة من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأي أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأي ما يكره فيتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره)) متفق علي. 4613 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأي أحدكم الرؤيا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((فسيراني في اليقظة)) ((مح)): فيه أقوال: أحدهما أن يراد به أهل عصره. ومعناه أن من رآه في النوم، ولم يكن هاجر، يوفقه الله للهجرة، ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عيانا. وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته. وثالثها: يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه، وحصول شفاعته ونحو ذلك. الحديث السادس عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((والحلم من الشيطان)) ((خط)): الحلم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن. وغلب الحلم على ما يراه من الشر والقبيح. ومنه قوله تعالى: {أضغاث أحلام} ويستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، وتضم لام الحلم وتسكن. ((مح)): الله سبحانه وتعالى هو الخالق للرؤيا والحلم، لكن جعل الرؤيا والاعتقادات التي هي أعلام على ما يسر بغير حضرة الشيطان محبوبة، وجعل ما هو علامة على ما يضر بحضرة الشيطان مكروهة، فنسبت إلى الشيطان مجازاُ لحضوره عندها لا على أن الشيطان يفعل ما يشاء. وقيل: إضافة الرؤيا المحبوبة إلى الله تعالى إضافة تشريف، وإضافة المكروهة إلى الشيطان، لأنه يرضاها ويسر بها. ومعنى ((لن تضره)) أنه تعالى جعل فعله من التعوذ والتفل وغيره سبباً لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسبباً لدفع البلاء. وقوله: ((ولا يحدث بها أحداُ)) يشبه أنه ربما فسرها تفسيراً مكروهاً على ظاهر صورتها وكان ذلك محتملا، فوقعت كذلك بتقدير الله تعالى، وسيجيء تمام البحث فيه في الحديث الأول من الفصل الثاني. الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عن يساره)) ((مح)): الأمر بالتفل والبصق

يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)) رواه مسلم. 4614 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان لم يكد يكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب)). قال محمد بن سيرين: وأنا أقول: الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأي شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم فليصل. قال: وكان يكره الغل في النوم، ويعجبهم القيد. ويقال: القيد ثبات في الدين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ طرد للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة وتحقير له واستقذار لفعله. وخص به اليسار لأنها محل الأقذار والمكروهات ونحوهما. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا اقترب الزمان)) ((فا)): فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أراد آخر الزمان واقتراب الساعة؛ لأن الشيء إذا قل وتقاصر تقاربت أطرافه، ومنه قيل للقصير: متقارب. ويقولون: تقاربت إبل فلان إذا قلت، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم: ((في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب)). وثانيها: أراد استواء الليل والنهار؛ لزعم العابرين أن أصدق الأزمان لوقوع العبارة وقت انفتاق الأنوار. ووقت إدراك الثمار، وحينئذ يستوى الليل والنهار. وثالثها: أنه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة)). قالوا: يريد به زمن خروج المهدي وبسطه العدل، وذلك زمان يستقصر لاستلذاذه، فيقارب أطرافه. انتهى كلامه. واختلف في خبر كاد المنفي، والأظهر أنه يكون أيضاً منفياً؛ لأن حرف النفي الداخل على كاد ينفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه، ويدل عليه قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها}. قوله: ((الرؤيا ثلاث)) كذا في البخاري وشرحه للخطابي. وفي رواية مسلم وجامع الأصول ونسخ المصابيح: ((ثلاثة)) بالتاء: ((حس)): فيه بيان أن ليس كل ما يراه المؤمن في منامه يكون

4615 - قال البخاري: رواه قتادة ويونس وهشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وقال يونس: لا أحسبه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القيد. وقال مسلم: لا أدرى هو في الحديث أم قاله ابن سيرين؟ وفي رواية نحوه، وأدرج في الحديث قوله: ((وأكره الغل ...)) إلى تمام الكلام. ـــــــــــــــــــــــــــــ صحيحاً ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله تعالى تأتيك به تلك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. وهي على أنواع: قد يكون ذلك من فعل الشيطان يلعب بالإنسان أو يريه ما يحزنه، وله مكائد يحزن بها بني آدم كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا}. ومن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل، فلا يكون لاه تأويل. وقد يكون ذلك من حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة، يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه. قوله: ((قال: وكان يكره الغل)) يحتمل أن يكون مقولا لراوي ابن سيرين، فيكون اسم ((كان)) ضمير ((ابن سيرين))، وأن يكون مقولا لابن سيرين فاسمه ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبي هريرة. فقول مسلم: ((لا أدرى هو في الحديث أو قال ابن سيرين))، معناه لا أدرى أن ((قال)) مقول لراوي ابن سيرين فيكون قولا لابن سيرين، أو يكون مقولا لابن سيرين فيكون من الحديث إما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي هريرة واختار يونس أن يكون مقولا لابن سيرين، واسم ((كان)) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: ((لا أحسبه)) أي قال يونس في شأن القيد: لا أحسبه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((وأنا أقول)) يشعر بالاختصاص ورفع التوهم، أن هذه الخلال الثلاث من متن الحديث الذي أدرج فيه هذه الخلال من غير فصل. قال في شرح السنة من رواية مسلم: ورواه قتادة أيضاً عن ابن سيرين، وأدرج الكل في الحديث، وقوله: ((ويعجبهم)) كذا في البخاري بضمير الجميع، وهو ضمير المعبرين، كذا قوله: ويقال: القيد الخ من أقوال المعبرين. ((مح)): قال العلماء: إنما أحب القيد؛ لأنه في الرجلين، وهو كف من المعاصي والشرور، وأنواع الباطل. وأبغض الغل؛ لأن موضعه العنق وهو صفة أهل النار؛ قال تعالى: {إذا الأغلال في أعناقهم}. وأما أهل التعبير فقالوا: إذا رأي القيد في الرجلين وهو في مسجد أو مشهد خير أو على حالة حسنة، فهو دليل لثباته في ذلك. ولو رآه مريض أو مسجون أو مسافر

4616 - وعن جابر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: رأيت في المنام كأن رأسي قطع. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس)) رواه مسلم. 4617 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأوتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة/ وأن ديننا قد طاب)) رواه مسلم. 4618 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، ذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة ـــــــــــــــــــــــــــــ أو مكروب كان دليلا على ثباته فيه. وإذا انضم معه الغل دل على زيادة ما هو فيه من المكروه. وأما إذا كانت اليدان مغلولتين في العنق فهو حسن، ودليل على فكهما من الشر، وقد يدل على البخل، وقد يدل على منع ما نواه من الأفعال. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كأن رأسي قطع)) ((مح)): يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أن منامه هذا من الأضغاث بوحي، أو بدلالة دلته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي من [تحزين] الشيطان. وأما المعبرون فإنهم يؤولون قطع الرأس بمفارقة ما هو فيه من النعم، أو مفارقة قومه وزوال سلطانه، وتغيير حاله في جميع أموره، إلا أن يكون عبداً، فيدل على عتقه، أو مريضاً فعلى شفائه، أو مديونا فعلى قضاء دينه. ومن لم يحج فعلى أنه يحج، أو مغموماً فعلى فرجه، أو خائفاً فعلى أمنه. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فيما يرى النائم)) أي في جمله ما يراه النائم الصالح الرؤيا. قوله: ((ابن طاب)) ((مح)): هو رجل من أهل المدينة. ((مظ)): تأويله هكذا قانون في قياس التعبير على ما يرى في المنام بالأسماء الحسنة، كما أخذ العاقبة من لفظ عقبة، والرفعة من الرفع، وطيب الدين من طاب. ((مح)): ((وأن ديننا قد طاب)) أي كمل واستقرت أحكامه وتمهدت قواعده. ((غب)): العقب والعقبي يختصان بالثواب نحو: {هو خير ثواباً وغير عقباً}. والعاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو: {والعاقبة للمتقين}. وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأي} الحديث الحادي عشر عن أبي موسى: قوله: ((فذهب وهلى)) ((نه)): وهل إلى الشيء- بالفتح – يهل- بالكسر- وهلا بالسكون إذا ذهب وهمه إليه. ((مح)): يثرب اسمها في الجاهلية

يثرب. ورأيت في رؤيأي هذه: أني هززت سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. ثم هزته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين)) متفق عليه. 4619 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: ((بينا أنا نائم بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبرا على، فأوحى إلى أن انفخهما، فنفختهما، فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة)) متفق عليه. وفي رواية: ((يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة، والعنسى صاحب صنعاء)) لم أجد هذه الرواية في ((الصحيحين))، وذكرها صاحب ((الجامع)) عن الترمذي. [4619] ـــــــــــــــــــــــــــــ فسماها الله المدينة ورسول الله طيبة وطابة. وقد جاء في الحديث النهي عن تسميتها بيثرب لكراهة لفظ التثريب. وسماها في هذا الحديث به؟. فقيل: يحتمل أن هذا قبل النهى. وقيل: إنه لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه. وقيل: خوطب به من يعرفها؛ ولهذا جمع بينه وبين اسمها الشرعي. وأما تفسيره صلى الله عليه وسلم السيف بما فسره؛ فلأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم، كما يصول بسيفه. وقد يفسر في غير هذا بالولد والعم والأخ أو الزوجة. وقد يدل على الولاة والوديعة، وعلى لسان الرجل وصحته. وقد يدل على سلطان جائر وكل ذلك بحسب القرائن. قوله: ((فإذا هو)) أصله: فإذا تأويله ما أصيب بعض المؤمنين. فحذف المضاف الذي هو التأويل، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير المجرور مرفوعاً. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بخزائن الأرض)) ((مح)): أي ملكها وفتح بلادها وأخذ خزائن أموالها، وقد وقع ذلك كله ولله الحمد، قوله: ((في كفي)) الظاهر على التثنية، يدل عليه الرواية الأخرى: ((في يداي))، قال الشيخ محيى الدين: ((يدي)) بتشديد الياء على التثنية. قوله ((أن أنفخهما)) يجوز أن تكون ((أن)) مفسرة؛ لأن ((أوحى)) متضمن معنى القول. وعليه كلام القاضي، وأن تكون ناصبة والجار محذوف. و ((انفخهما)) بالخاء المعجمة. كذا صححه الشيخ محيى الدين. ((تو)): نبه بالنفخ على استحقار شأن الكذابين، وعلى أنهما يمحقان بأدني ما يصيبهما من بأس الله، حتى يصيرا كالشيء الذي ينفخ فيه فيطير في الهواء. قال: ألم يجز التفرق آل كسرى ونفخوا في مدائنهم فطاروا أراد وأنفخوا فخفف.

4620 - وعن أم العلاء الأنصارية، قالت رأيت لعثمان بن مظعون في النوم عيناً تجرى، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ذلك عمله يجرى له)) رواه البخاري. 4621 - وعن سمرة بن جندب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى أقبل علينا بوجهه، فقال: ((من رأي منكم الليلة رؤيا)) قال: فإن رأي أحد قصها، فيقول ما شاء الله. فسألنا يوماً فقال: ((هل رأي منكم أحد رؤيا؟)) قلنا: لا. قال: ((لكني رأيت الليلة ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)): من رأي عليه سوارين من ذهب، أصابه ضيق في ذات يده، فإن كان من فضة فهو خير من الذهب. وليس يصلح للرجال في المنام من الحلي شيء، إلا القلادة والتاج والعقد والقرط والخاتم. أما النساء فالحلي كله زينه لهن. والدراهم في الجملة خير من الدنانير. ((قض)): وجه تأويل السوارين بالكذابين المذكورين- والعلم عند الله تعالى- أن السوار يشبه قيد اليد، والقيد فيها يمنعها من البطش، ويكفها عن الاعتمال والتصرف على ما ينبغي، فيشابه من يقوم بمعارضته ويأخذ بيده فيصده عن أمره. وصنعاء بلدة باليمن، صاحبها الأسود العنسى تنبأ بها في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقتله فيروز الديلمى في مرض وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغه الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فاز فيروز)). واليمامة بلاد العرب كان اسمها جوا، وكانت فيها امرأة يقال لها: اليمامة. وكانت مشهورة بأنها تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام بحيث ضرب بها المثل، فقيل: أبصر من اليمامة، فأضيف إليها. وقيل: جوا اليمامة، فلما كثرت تلك الإضافة تركت وسميت باسمها. وصاحبها مسيلمة، قتله الوحشي قاتل حمزة رضي الله عنه في خلافة الصديق رضي الله عنه. الحديث الثالث عشر عن أم العلاء: قوله: ((عمله يجرى له)) رأت هذه الرؤيا بعد وفاته؛ وذلك أنها روت أن المهاجرين قدموا المدينة، فنزل عثمان بن مظعون في سكنى لنا، فمرض وتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي أن قد أكرمك الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما يدريك بإكرامه؟ فإني والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم)). قالت: ((ثم رأيت لعثمان بعد في المنام عينا)) الحديث. وإنما كان الماء معبرا بالعمل وجريانه بجريانه؛ لأن العمل مسبب عن العلم. وإنما قلنا بعد الوفاة؛ لأن كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة الحديث. الحديث الرابع عشر عن سمرة: قوله: ((لكني رأيت)) فإن قلت: ما معنى الاستدراك؟ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى أحدهم رؤيا يقصها، فلما سألهم ولم يحصل منهم، قال: أنتم ما رأيتم ما يهمني لكني رأيته. قوله: ((كلوب)) هو بالتشديد حديدة معوجة الرأس، تتعلق بالشيء مع شدة فتجذب به. والشدق جانب الفم.

رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد، يدخله في شدقه، فيشقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا، حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة يشدخ بها رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما كان، فعاد إليه فضربه، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا، حتى أتينا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفه واسع، تتوقد تحته نار، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا منها، وإذا خمدت ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((بفهر)) ((نه)): الفهر حجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر مطلقاً. والشدخ كسر الشيء الأجوف، يقال: شدخت رأسه فانشدخ. والتدهده التدحرج، يقال: دهدهت الحجر ودهدهته أي دحرجه. و ((الربابة)) بالفتح السحابة التي ركب بعضها بعضا. قوله: ((تحته نار)) بالرفع، قال المالكي: روى بالنصب على التمييز، أسند ((يتوقد)) إلى ضمير عائد على الثقب كما يقال: مررت بامرأة تتضوع من أردانها طيباً؛ أي يتضوع طيبها من أردانها. قوله: ((فإذا ارتقت)) كذا في الحميدى وجامع الأصول. وفي بعض نسخ المصابيح ((اقتربت)) وفي بعضها ((أوقدت)) والأول هو الصحيح رواية ودراية. وقوله: ((ارتفعوا)) جواب ((إذا)) والضمير ((للناس)) بدلالة سياق الكلام. وفي الحميدي والجامع: ((كاد أن يخرجوا)) أي كاد خروجهم، والخبر محذوف أي يكاد خروجهم يتحقق. وفي نسخ المصابيح: ((يكادوا يخرجوا))، وحقه إثبات النون اللهم إلا أن يتمحل ويقدر ((أن يخرجوا)) تشبيهاً ((لكاد)) بـ ((عسى)) ثم حذف ((أن)) وترك على حاله. قوله: ((فجعل كلما جاء ليخرج)) قال المالكي: تضمن هذا الكلام وقوع خبر ((جعل)) جملة فعليه مصدرة بـ ((كلما)) وحقه أن يكون فعلا مضارعاً كغيرها من أفعال المقاربة. فما جاء هكذا فهو موافق للاستعمال المطرد، وما جاء بخلافه فهو منبه على أصل متروك؛ وذلك أن أفعال المقاربة مثل ((كاد)) في الدخول على مبتدأ وخبر، فالأصل أن يكون خبرها مثل خبر ((كان)) في وقوعه مفرداً أو جملة اسمية وفعلية وظرفاً. فترك الأصل والتزم كون الخبر فعلا مضارعاً، ثم نبه شذوذاً على الأصل المتروك بوقوعه مفرداً في ((عسيت صائماً وما كدت آيباً))، وبوقوعه جملة اسمية في قوله: وقد جعلت قلوص ابني سهيل من الأكوار مرتعها قريب

رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا، حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمي الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمي في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا، حتى انتهينا إلى روضة خضراء، فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة، بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني داراً وسط الشجرة، لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشبابا ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وبوقوعه جملة من فعل ماض مقدم عليه كلما في جعل كلما جاء ليخرج)). قوله: ((أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب)) قال المالكي: في هذا شاهد على أن الحكم قد يستحق بجزء العلة، وذلك أن المبتدأ لا يجوز دخول الفاء في خبرة إلا إذا كان شبيهاً ((بمن)) الشرطية في العموم لاستقبال ما يتم به المعنى، نحو: الذي يأتيني فمكرم، فلو كان المقصود (بالذي) معينا زالت مشابهته ((بمن))، وامتنع دخول الفاء على الخبر، كما يمتنع دخولها على أخبار المبتدآت المقصود بها التعيين، نحو: زيد مكرم فمكرم، لم يجز/ فكذا لا يجوز ((الذي يأتيني)) إذا قصدت به معيناً، لكن ((الذي يأتيني)) عند قصد التعيين شبيه في اللفظ بالذي يأتيني عند قصد العموم، فجاز دخول الفاء حملا للتشبيه على الشبيه. ونظيره قوله تعالى: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله}؛ فإن مدلول ((ما)) معين ومدلول ((أصابكم)) ماض إلا أنه روعى فيه التشبيه اللفظي، فشبه هذه الآية بقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فأجرى ما في مصاحبه الفاء مجرى [واحداً]. أقول: هذا كلام تين، لكن جواب الملكين تفصيل لتلك الرؤيا المتعددة المبهمة، فلابد من ذكر كلمة التفصيل كما في صحيح البخاري وكتاب الحميدي والمشكاة أو تقديرها، فالفاء جواب ((أما))، والفاء في قوله: ((فأولاد الناس)) جاز دخوله على الخبر؛ لأن الجملة معطوفة على مدخول ((أما)) في قوله: ((أما الرجل الذي رأيته))، وحذف الفاء في بعض المعطوفات نظراً إلى أن ((أما)) لما حذفت حذف مقتضاها، وكلاهما جائزان. وقوله: ((فنام عنه)) أي أعرض عنه. ((وعن)) ها هنا كما في قوله تعالى: {الذين هم عن

فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل منها. فيها شيوخ وشباب، فقلت لهما: إنكما قد طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت. قالا: نعم؛ أما الرجل الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلق الآفاق فيصنع به ما ترى إلى يوم القيامة. والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل بما فيه بالنهار، يفعل به ما رأيت إلى يوم القيامة. والذي رأيته في الثقب فهم الزناة. والذي رأيته في النهر آكل الربا. والشيخ الذي رأيته في أصل الشجرة إبراهيم. والصبيان حوله فأولاد الناس. والذي يوقد النار مالك خازن النار. والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين. وأما هذه الدار فدار الشهداء. وأنا جبريل وهذا ميكائيل، فارفع راسك فرفعت رأسي، فإذا فوقي مثل السحاب- وفي رواية-: مثل الربابة البيضاء. قالا: ذلك منزلك. قالت: دعاني أدخل منزلي. قالا: إنه بقى لك عمر لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك)). رواه البخاري وذكر حديث عبد الله بن عمر في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في ((باب حرم المدينة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ صلاتهم ساهون} أي ساهون سهو ترك لها وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين والفسقة. فمعنى ((نام عنه بالليل)) أنه لم يتلوه بالليل ولم يتفكر فيما يجب أن يأتي به ويذر، من الأوامر والنواهي مثل المنافقين والفسقة، فإذا كان حاله بالليل هذا فلا يقوم به فيعمل بالنهار بما فيه. ويؤيد هذا التأويل ما جاء في رواية أخرى للبخاري: أما الرجل الذي يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل الذي يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما من نام من غير أن يتجافي عنه لتقصير أو عجز فهو خارج من هذا الوعيد. ((مح)): فيه تنبيه على استحباب استقبال الإمام بعد سلامه على أصحابه، وعلى استحباب السؤال عن الرؤيا، وعلى مبادرة المعبر إلى تأويلها أول النهار، قبل أن يتشعب ذهنه بأشغاله في معاشه في الدنيا؛ ولأن عهد الرائي قريب ولم يطرأ عليه ما يشوشها؛ ولأنه قد يكون فيها ما يستحب تعجيله، كالحث على خير والحذير عن معصية. وفيه إباحة الكلام في العلم أو تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، وأن استدبار القبلة في جلوسه للعلم أو عيره جائز.

الفصل الثاني 4622 - عن أبي رزين العقيلي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وهي على رجل طائر مالم يحدث بها، فإذا حدث بها وقعت)). وأحسبه قال: ((لا تحدث إلا حبيبا أو لبيبا)). رواه الترمذي. وفي رواية أبي داود، قال: ((الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت)). وأحسبه قال: ((ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي)). [4622] 4623 - وعن عائشة رضي الله عنها، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة. فقالت له خديجة: إنه كان قد صدقك؛ ولكن مات قبل أن تظهر. فقال رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي رزين: قوله: ((على رجل طائر)) ((نه)): كل ذي حركة من كلمة أو جار [مجراها] فهو طائر مجازاً، أراد على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر. ومعناه: لا يستقر تأويلها حتى تعبر، يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر في أكثر أحواله فكيف ما يكون على رجله. أقول: التركيب من باب التشبيه التمثيلي، شبه الرؤيا بالطائر السريع طريانه، وقد علق على رجله شيء يسقط بأندى حركة، فينبغي أن يتوهم للمشبه حالات متعددة مناسبة لهذه الحالات. وهي أن الرؤيا مستقرة على ما يسوقه التقدير إليه من التعبير. فإذا كانت في حكم الواقع قبض وألهم من يتكلم بتأويلها على ما قدره فيقع سريعاً. وإن لم يكن في حكمه، لم يقدر لها من يعبرها. قوله: ((إلا على واد)) ((مح)): يشبه أن يراد به أنه إذا أخبر بها من لا يحبه، ربما حمله البغض والحسد على [تعبيرها] بمكروه، فيقع على تلك الصفة؛ فإن الرؤيا على رجل طائر. ومعناه أنها إذا كانت محتملة وجهين [فعبرت] بأحدهما، وقعت على وفق تلك الصفة. وقد يكون ظاهر الرؤيا مكروهاً [ويعبر] بمحبوب وعكسه، وهذا أمر معروف لأهله. قوله: ((أو ذي رأي)) قال الزجاج: معناه ذو العلم بعبارة الرؤيا، فإنه يخبرك بحقيقة [تفسيرها] أو بأقرب ما يعلم منه. ((تو)): فإن قيل: كيف له التخيير فيمن يعبر على ما ورد به الحديث: ((ولا يقصها إلى على واد أو ذي رأي))، والأقضية لا ترد بالتوقي عن الأسباب، ولا تختلف أحكامها باختلاف الدواعي؟ قلنا: هو مثل السعادة والشقاوة والسلامة والآفة المقضي بكل واحدة منها لصاحبها، ومع ذلك فقد أمر العبد بالتعرض للمحمود منها، والحذر عن المكروه منها. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولكن مات)) فإن قلت: ما معنى

صلى الله عليه وسلم: ((أريته في المنام وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك)). رواه أحمد، والترمذي. [4623] 4624 - وعن ابن خزيمة بن ثابت، عن عمه أبي خزيمة رضي الله عنهم، أنه رأي فيما يرى النائم، أنه سجد على جبهة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فاضطجع له وقال: ((صدق رؤياك)) فسجد على جبهته. رواه في ((شرح السنة)). [4624] وسنذكر حديث أبي بكرة: كأن ميزاناً نزل من السماء. في باب: ((مناقب أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما)). الفصل الثالث 4625 - عن سمرة بن جندب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول ـــــــــــــــــــــــــــــ الاستدراك؟ قلت: أدخلت خديجة كلامها بين سؤال السائل وجوابه صلى الله عليه وسلم؛ استشعاراً منها بأنه صلى الله عليه وسلم يجيب بما تكرهه، واستذكاراً لما عرف صلى الله عليه وسلم من حالة ورقة؛ لأن ورقة كان ابن عمها، يعني إن لم يدرك زمان دعوتك ليصدقك ويأتي بالأعمال على موجب شريعتك، لكن صدقك قبل مبعثك. الحديث الثالث عن ابن خزيمة: قوله: ((صدق رؤياك)) ((غب)): وقد يستعمل الصدق في كل ما يحقق ويحصل في الاعتقاد نحو صدق ظني. وفي أفعال الجوارح يقال: صدق في القتال، إذا أوفي حقه وفعل على ما يجب وكما يجب، وقوله تعالى: {لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق}، هذا صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق رؤيته. ((مظ)): هذا تصريح بأن من رأي رؤيا يستحب أن يعمل بها في اليقظة إن كانت تلك الرؤيا شيئاً فيه طاعة، مثل أن يرى أحد أن يصلي أو يصوم أو يتصدق بشيء من ماله أو يزور صالحاً وما أشبه ذلك. الفصل الثالث الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((مما يكثر)) خبر ((كان))، و ((ما)) موصولة، و ((يكثر)) صلة، والضمير الراجع إلى ((ما)) فاعل ((يقول))، و ((أن يقول)) فاعل ((يكثر)) و ((هل رأي أحد منكم)) هو المقول، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من زمرة الذين كثر منهم هذا القول، فوضح ((ما)) موضع ((من)) تعظيما وتفخيما لجانبه صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى: {والسماء وما بناها} و ((سبحان ما سخركن

لأصجابه: ((هل رأي أحد منكم من رؤيا)) فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما)). وذكر مثل الحديث المذكور في الفصل الأول بطوله، وفيه زيادة ليست في الحديث المذكور، وهي قوله: ((فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط. قلت لهما: ما هذا، ما ـــــــــــــــــــــــــــــ لنا))، وتحريره: كان [رسول الله] صلى الله عليه وسلم ممن يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مساهمة فيهم؛ لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن يتدرب فيه ويثق بإصابته، كقولك: كان زيد من العلماء، ونحوه قول صاحبي يوسف عليه السلام في السجن: {نبئنا بتأويله إنا نراك من الحسنين}، أي المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك لما [رأيا يقص] عليه بعض أهل السجن. هذا من حيث البيان. وأما من طريق النحو فيحتمل أن يكون قوله: ((هل رأي أحد منكم من رؤيا؟)) مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأويل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول مما يكثر أن يقوله، ولكن أين الثريا من الثرى؟ وقوله: ((وإني انطلقت)) معطوف على قوله: ((وإنما قالا لى)) أي حصل منهم القول ومني الانطلاق. وذكر صلى الله عليه وسلم ((إن)) المؤكدة أربع مرات؛ تحقيقاً لما رآه وتقريراً لقوله: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)). و ((معتمة)) أي طويلة النبات، يقال: أعتم النبت إذا طال، والنور- بفتح النون- الزهر. وقوله: ((طولا)) تمييز. قوله: ((وإذا حول الرجل)) أصل التركيب: وإذا حلو الرجل ولدان ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم؛ يشهد له قوله: ((لم أر روضة قط أعظم منها)) ولما كان التركيب متضمناً لمعنى النفي جاز زيادة ((من)) و ((قط)) التي تختص بالماضي المنفي، ونره حديث حارثة قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط)). وقد سبق بيانه في باب صلاة [السفر]. الكشاف: في قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليل} على قراءة الرفع، هذا من حيلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب عظيم من علم العربية، فلما كان معنى ((فشربوا منه)) في معنى ((فلم يطيعوه)) حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. وقال ابن جني في مثل هذا الكلام: وهذا من أشد مذاهب العربية. وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه ويصرفه بحسب ما يؤثره. قوله: ((ما هذا؟ ما هؤلاء؟)) هذا إشارة إلى الرجل الطويل ((وهؤلاء)) إلى الولدان ومن حق

هؤلاء؟)) قال: ((قالا لي: انطلق، فانطلقنا، فانتيهنا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها، ولا أحسن)). قال: ((قالا لي: ارق فيها)). قال: ((فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب، ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا فيها رجال، شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء)). قال: ((قالا لهم: اذهبوا، فقعوا في ذلك النهر)). قال: ((وإذا نهر معترض يجرى كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة)). وذكر في تفسير هذه الزيادة: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم. وأما الولدان الذين حوله فكل ـــــــــــــــــــــــــــــ الظاهر أن يقال: من هذا؟، فكأنه صلى الله عليه وسلم لما رأي حاله من الطول المفرط، كأنه خفي عليه أنه من أي جنس هو، أبشر أم ملك أم جنى أم غير ذلك؟ نظيره الحديث: ((زوجي أبو زرع، وما أبو زرع، أناس من حلى أذني، وملأ من شحم عضدي)) جعلته لانقطاع قرينه، وعدد نظيره كأنه شيء خفي عنها. وقوله: ((شطر)) مبتدأ ((وكأحسن)) خبره والكاف زائدة، والجملة صفة ((رجال)). يحتمل أن يكون بعضهم موصوفين بأن خلصتهم حسنة وبعضهم قبيحة. وأن يكون كل واحد منهم بعضه حسن وبعضه قبيح. والثاني هو المراد هاهنا بدليل قوله في التفصيل: ((فإنهم قوم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً)) أي خلط كل واحد عملاً صالحاً بسيء؛ وسيئاً بصالح. وقوله: ((فقعوا)) أمر من وقع يقع. قوله: ((كأن [ماءه] المحض)) أي اللبن الخالص. والمحض من كل شيء الخالص منه وهو اللبن الخالص، كأنه سمى بالصفة ثم استعمل في الصفاء. ويمكن أن يراد بالماء عفو الله تعالى عنهم أو التوبة منهم، كما ورد: ((اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)). وقوله: ((وأولاد المشركين)) أي أو منهم أولاد المشركين؟ يعنى أولاد المشركين الذين ماتوا على الفطرة داخلون في زمرة هؤلاء الولدان؟ فأجاب: وأولاد المشركين: وفيه أن حكم أولاد المشركين الذين غيرت فطرتهم بالتهود أو التمجس خلاف هذا. فالأحاديث الدالة على أن أولاد المشركين في النار، مؤول بمن غيرت فطرتهم جمعا بين الدليلين ورفعاً للتناقض. ((خط)): وقول القائل: يا رسول الله وأولاد المشركين. فإن ظاهر هذا الكلام أنه ألحقهم

مولود مات على الفطرة)). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح؛ فإنهم قوم قد خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم)) رواه البخاري. 4626 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أفرى الفري أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا)). رواه البخارى ـــــــــــــــــــــــــــــ بأولاد المسلمين في حكم الآخرة، وأن كان قد حكم لهم بحكم آبائهم في الدنيا؛ وذلك أنه سئل عن درارى المشركين فقال: ((هم من آبائهم)) وللناس في أطفال المشركين اختلاف، وعامة أهل السنة على أن حكمهم حكم آبائهم في الكفر. وقد ذهب طائفة منهم إلى أنهم في الآخرة من أهل الجنة. وقد روى غيه آثار عن نفر من الصحابة. واحتجوا لهذه المقالة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة))، وبقول الله عز وجل: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} وبقوله: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون}؛ لأن اسم الولدان مشتق من الولادة ولا ولادة في الجنة، وكانوا هم الذين نالتهم الولادة في الدنيا. وروى عن بعضهم أنهم كانوا سبيا وخدما للمسلمين في الدنيا، فهم خدم لهم في الجنة. أقول: أما الدليل الأول فلا يدل على مطلوبهم لما ذكرنا. والثاني معارض بقوله تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون}. والثالث أنه استعارة أي هم كالولدان في الدنيا بيانا لشأنهم ووصفهم. نحوه قوله تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} وقد استقصينا القول فيه في باب القدر، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو أعلم بالصواب. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((من أفر الفرى)) ((نه)): الفرى جمع فرية وهي الكذب،

4627 - وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أصدق الرؤيا بالأسحار)) رواه الترمذي، والدارمي. [4627] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأفرى أفعل منه للتفضيل، أي أكذب الكذبات أن يقول: رأيت في النوم كذا ولم يكن رأي شيئاً؛ لأنه كذب على الله، فإنه هو الذي يرسل تلك الرؤيا ليريه النائم. انتهى كلامه. والمراد بإرادة الرجل عينيه وصفهما بما ليس فيهما. ومنه قول من قال لعدوه وقد رآه بالثناء عليه: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك. ونسبة الكذبات إلى الكذب للمبالغة، نحو قولهم: ليل أليل، وجد جده. الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((بالأسحار)) أي ما رئى بالأسحار؛ وذلك لأن الغالب حينئذ أن تكون الخواطر مجتمعة والدواعي ساكنة؛ ولأن المعدة خالية فلا يتصاعد منه الأبخرة المشوشة؛ لأنها وقت نزول الملائكة للصلاة المشهودة.

كتاب الآداب

كتاب الآداب (1) باب السلام الفصل الأول 4628 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله آدم على صورته، طول ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر- وهم نفر من الملائكة جلوس- فاستمع ما يحبونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الآداب المغرب: الآداب: أدب النفس وقد أدب فهو أديب، وأدبه غيره فتأدب واستأدب. وتركيبه يدل على الجمع والدعاء. ومنه الأدب وهو أن يجتمع الناس إلى طعامك وتدعوهم. ومنه قيل للصنيع مأدبة كما قيل له مدعاة: ومنه الآدب، لأنه يأدب الناس إلى المحامد أي يدعوهم إليها. عن الزهيري وعن أبي زيد: الأدب اسم يقع على رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على صورته)) الهاء مرجعها إلى آدم عليه السلام))، والمعنى: أن ذرية آدم خلقوا أطواراً في مبدأ الخلق، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم صاروا صوراً أجنة إلى أن تتم مدة الحمل، فيولدون أطفالا وينشئون صغاراً إلى أن يكبروا، فيتم طول أجسادهن. يقول: إن آدم لم يكن خلقه على هذه الصفة، ولكنه أول ما تناولته الخلقة وجد خلقاً تاما طوله ستون ذراعاً. وقال الشيخ التوربشتي: هذا كلام صحيح في موضعه، فأما في تأويل هذا الحديث إنه غير سديد، لما في حديث آخر: ((خلق آدم على صورة الرحمن))، ولما في غير هذه الرواية: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يضرب وجه غلام، فقال: ((لا تضرب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته)). والمعنى الذي ذهب إليه هذا المؤول لا يلاءم هذا القول. وأهل الحق في تأويل ذلك على طبقتين: إحداهما: المتنزهون عن التأويل مع نفي التشبيه وعدم الركون إلى مسميات الجنس، وإحالة المعنى فيه إلى علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما، وهذا ((أسلم الطريقين. والطبقة الأخرى يرون الإضافة فيها إضافة تكريم وتشريف. وذلك أن الله تعالى خلق آدم أبا البشر على صورة لم يشاكلها شيء من الصور والجمال والكمال وكثرة ما احتوت عليه من الفوائد الجليلة، فاستحقت الصورة البشرية أن تكرم ولا تهان، اتباعا لسنة الله تعالى فيها وتكريماً لما كرمه. أقول: تأويل أبي سليمان للحديث في هذا المقام سديد يجب المصير إليه؛ لأن قوله: ((طوله))

السلام عليكم: فقالوا: السلام عليك ورحمة الله)) قال: ((فزادوه ورحمة الله)). قال: ((فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بيان لقوله: ((على صورته)) كأنه قيل: خلق آدم على ما عرف من صورته الحسنة وشكله وهيئته من الجمال والكمال وطول القامة، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. وإنما خص الطول منها؛ لأنه لم يكن متعارفاً بين الناس. وورد أيضاً في رواية أبي هريرة من الترمذي في الفصل الثالث: لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه إلى قوله: اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم. وتخصيص الحمد بالذكر إشارة إلى بيان قدرته الباهرة ونعمته المتظاهرة؛ لأن الحمد هو الثناء على الجميل من الفضل والإفضال؛ وذلك أن الله تعالى أبدعه إبداعاً جميلاً، وأنشأه خلقاً سويا صحيحاً فعطس، فإنه مشعر بصحة المزاج فوجب الحمد على ذلك. ولا ارتياب أن وقوفه على قدرة الله تعالى وإفضاله عليه لم يكن إلا بتوفيقه وتيسيره. وفي فاء التعقيب إشارة إلى هذا المعنى، ثم إنه تعالى لما وفقه لقيام الشر على نعمه السابقة، وأوقفه على قدرته الكاملة البالغة، علمه كيفية المعاشرة مع الخلق، حتى يفوز بحسن الخلق مع الخلق بعد تعظيم الحق. وأما تخصيص السلام بالذكر، فإنه فتح باب المودات، وتأليف قلوب الإخوان المؤدي إلى استكمال الإيمان كما ورد: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تجاوبوا- إلى قوله- أفشوا السلام)). قوله: ((فكل)) بالفاء في البخاري وجميع نسخ المصابيح، وهو مرتب على ما تقدم من قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) وذلك يؤيد ما ذكرنا في تأييد قول الخطابي من قولنا: خلق آدم على ما عرف من صورته الحسنة، وشكله وهيئته من الجمال والكمال وطول القامة ثم إن أولاده لم يزالوا ينقصون في الجمال والطول حتى الآن. فإذا دخلوا الجنة عادوا إلى ما كان عليه أبوهم من الحسن والجمال وطول القامة فالفاء [إذا] فصيحة. وقوله: ((ما يحيونك)) بالحاء المهملة والياء المثناة من تحت، والواو، صح في الأصول، وبالجيم والياء والباء مغير كما في بعض نسخ المصابيح.

4629 - وعن عبد الله بن عمرو: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) تعرف عليه. 4630 - وعن أبي هريرة، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد)) لم أجده ((في الصحيحين)) ولا في كتاب الحميدي، ولكن ذكره صاحب ((الجامع)) برواية النسائي. [4630] 4631 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((أي الإسلام خير)) السؤال وقع عما يتصل بحقوق الآدميين من الخصال دون غيرها، بدليل أنه صلى الله عليه ولسم أجاب عنها دون غيرها من الخصال. ((تو)): أي: أي خصال أهل الإسلام وآدابهم أفضل؟ ويدل عليه الجواب بالإطعام والسلام على من عرف أو لم يعرف. ولعل تخصيصهما لعلمه بأنهما يناسبان حال السائل، ولذلك أسندهما إليه فقال: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام)) أو علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسأل عما يعامل به المسلمين في إسلامة فأخبره بذلك، ثم رأي أن يجيب عن سؤاله بإضافة الفعل إليه؛ ليكون أدعى إلى العمل، والخبر قد يقع موقع الأمر. قوله: ((وتقرأ السلام)) ((نه)): يقال: أقرأ فلانا السلام وأقرأ عليه السلام؛ كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ويشمته)) ((نه)): التشميت بالسين والشين الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما يقال: شمت فلانا وشمت عليه تشميتا فهو مشمت. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله. وقيل: معناه أبعدك الله عن الشمتة وجنبك ما يشمت به عليك. انتهى كلامه. وقيل: ((وينصح له)) أي يريد خيره في حضوره وغيبته، فلا يتملق في حضوره ويغتاب في غيبته، فإن هذا صفة المنافقين، والنصح إرادة الخير. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا)) ((مح)): هكذا في جميع الأصول والروايات: ((ولا تؤمنوا)) بحذف النون إلى آخره.

3632 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير)). متفق عليه. 4632 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير)). رواه البخاري. 4634 - وعن أنس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان، فسلم عليهم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ولعل سقوط النون من المنفي نظراً إلى لفظ السابق ليعلق به أمر آخر. ونحن استقرأنا نسخ مسلم والحميدي وجامع الأصول وبعض نسخ الأصول، فوجدناها مثبتة بالنون على الظاهر. واعلم أنه تعالى جعل إفشاء السلام سبباً للمحبة، والمحبة سبباً لكمال الإيمان؛ لأن إفشاء السلام سبب للتحاب والتواد، وهو سبب الألفة والجمعية بين المسلمين المسبب لكمال الدين وإعلاء كلمة الإسلام. وفي التهاجر والتقاطع والشحناء التفرقة بين المسلمين، وهو سبب لانثلام الدين والوهن في الإسلام، وجعل كلمة الذين كفروا العليا؛ قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} الآية. الحديث الخامس والسادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يسلم الراكب)) إنما يستحب ابتداء السلام للراكب؛ لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف بين الملتقيين إذا التقيا أو من أحدهما في الغالب، أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن، أو لمعنى التعظيم؛ لأن السلام إنما يقصد به أحد الأمرين: إما اكتساب ود، أو استدفاع مكروه، قاله أقضى القضاة الماوردى. فالراكب يسلم على الماشي وهو على القاعد للإيذان بالسلامة وإزالة الخوف، [والكثير على القليل] للتواضع، والصغير على الكبير للتوقير والتعظيم. ((مح)): وهذا الأدب هو فيما إذا تلاقا اثنان في طريق، أما إذا ورد على قعود أو قاعد، فإن الوارد يبدأ بالسلام بكل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً أو قليلاً أو كثيراً، قال المتولي: إذا لقى رجل جماعة فأراد أن يخص طائفة منهم بالسلام كره؛ لأن القصد من السلام المؤانسة والألفة. وفي تخصيص البعض إيحاش الباقين، وربما صار سبباً للعداوة، وإذا مشى في السوق والشوارع المطروقة كثيراً فالسلام هنا إنما يكون لبعض الناس دون بعض؛ لأنه لو سلم على كل لتشاغل به عن كل [مهم] ويخرج به عن العرف. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فسلم عليهم)) ((مح)): فيه استحباب السلام على

4635 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)). رواه مسلم. 4636 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك. فقل: وعليك)). متفق عليه. 4637 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)). متفق عليه. 4638 - وعن عائشة، قالت: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة فقال: ((يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)): قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: ((قد قلت: وعليكم)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس كلهم حتى الصبيان المميزين، وبيان تواضعه وكمال شفقته على العالمين. ولو سلم على رجال وصبيان، ورد صبي منهم، الأصح أنه يسقط فرض الرد، كما تسقط صلاة الجنائز بصلاة الصبي. ولو سلم على جماعة ورد غيرهم، لم يسقط الرد منهم، فإن اقتصروا على رده أثموا. وأما المرأة مع الرجل: فإن كانت زوجته أو جاريته أو محرماً من محارمه فهي معه كالرجل، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها، لا يسلم الرجل عليها. ولو سلم لم يجز لها رد الجواب ولا تسلم عليه، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كره له. وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها، جاز أن تسلم على الرجل وعليه الرد. قاله أبو سعيد المتولي: قال: وإذا كان النساء جماعة فسلم عليهن الرجل، أو كان الرجال جمعاً، فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهن ولا عليها أو عليهم فتنة. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تبدءوا اليهود)) ((مح)): قال بعض أصحابنا: يكره ابتداؤهم بالسلام، ولا يحرم، وهذا ضعيف؛ لأن النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم. وحكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم للضرورة والحاجة. وهو قول علقمة والنخعى. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. وأما المبتدع، فالمختار أن لا يبدأ بالسلام إلا لعذر وخوف من مفسدة. ولو سلم على من لم يعرفه فبان ذمياً، استحب أن يسترد سلامه بأن يقول: استرجعت سلامي تحقيراً له. وقال أصحابنا: لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه، ولكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ونحوها. وإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج. الحديث التاسع إلى الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: ((قد قلت: وعليكم)) ((مح)):

وفي رواية: ((عليكم)) ولم يذكر الواو. متفق عيه. وفي رواية للبخاري. قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك. قال: ((وعيكم)) فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهلا يا عائشة! عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش)). قال: أولم ـــــــــــــــــــــــــــــ اتفقوا على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا. لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام، بل يقال: عليكم فقط أو وعليكم. وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم ((عليكم وعليكم)) بإثبات الواو وحذفها، وأكثر الروايات وعليكم بإثباتها. وعلى هذا ففي معناه وجهان: أحدهما أنه على ظاهره، فقالوا: عليكم الموت. فقال: وعليكم أيضاً، أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك، وتقديره: وعليكم ما تستحقونه من الذم. قال القاضي عياض: اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف الواو، لئلا تقتضي التشريك. وقال غيره بإثباتها كما هي في الروايات. وقال بعضهم: يقول: وعليكم السلام- بكسر السين- أي الحجارة، وهذا ضعيف. قال الخطابي: حذف الواو هو الصواب؛ لأنه صار كلامهم بعينة مردوداً عليهم خاصة. وإذا أصبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه. قال الشيخ محيى الدين: والصواب أن إثبات الواو وحذفها جائزان كما صرحت به الروايات، وإثباتها أجود ولا مفسدة فيه؛ لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم، فلا ضرر فيه. ((تو)): إثبات الواو في الرد عليكم إنما يحمل على معنى الدعاء لهم بالإسلام، إذا لم يعلم منه تعريض بالدعاء علينا. وأما إذا علم ذلك فالوجه فيه أن يكون التقدير: وأقول عليكم ما تستحقونه. وإنما اختار هذه الصيغة، ليكون أبعد عن الإيحاش وأقرب إلى الرفق؛ فإن رد التحية يكون إما بأحسن منها، أو يقولنا: وعليك السلام، والرد عليهم، بأحسن مما حيونا به لا يجوز لنا ولا رد بأقل من قولنا: وعليك. وأما الرد بغير الواو فظاهر، أي عليكم ما تستحقونه. ((قض)): إذا علم التعريض بالدعاء علينا، فالوجه أن يقدر: وأقول: عليكم ما تريدون بنا أو تستحقونه. ولا يكون ((وعليكم)) عطفا على ((عليكم)) في كلامهم، وإلا لتضمن ذلك تقرير دعائهم، ولذلك قال في الحديث الذي قبله: ((فقل: عليك)) بغير واو. وقد روى ذلك بالواو أيضاً: أقول: سواء عطف على ((عليكم)) أو على الجملة من حيث هي، لأن المعنى يدور مع إرادة المتكلم، فإذا أردت الاشتراك كان ذلك، وإن لم ترد حملت ذلك على معنى الحصول والوجود، كأنه قيل: حصل منهم ذاك ومنى هذا. قال ابن الحاجب: حروف العطف هي الحروف التي يشرك بها بين المتبوع والتابع في الإعراب، فإذا وقعت بعدها المفردات فلا إشكال، وإذا وقعت الجمل بعدها، فإن كانت من الجم التي هي صالحة لمعمول ما تقدم، كان

تسمع ما قالوا؟ قال: ((أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في)). وفي رواية لمسلم. قال: ((لا تكوني فاحشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش)). 4639 - وعن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فسلم عليهم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حكمها حكم المفرد في التشريك، كقولك: أصبح زيد قائما وعمرو قاعداً، وشبهه، وإن كانت الجملة معطوفة على غير ذلك كقولك: قام زيد وخرج عمرو. وبهذا تبين أن معنى الواو على ما ذكرناه من تقدير حصول الأمرين تم كلامه، هذا على تقدير أن تكون جملتين وعطفت إحداهما على الأخرى. وإذا عطفت على الخبر نظراً إلى عطف الجملة على الجملة لا على الاشتراك جاز أيضاً. قال ابن جني في قوله تعال: {والنجم والشجر يسجدان}، إن قوله: {والسماء رفعها} عطف على ((يسجدان)) وهو جملة من فعل وفاعل، نحو قولك: قام زيد وعمرواً ضربته. وقال ابن الحاجب في الأمالى في قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون}: الرفع فيه وجهان: أن يكون مشتركا بينه وبين ((تقاتلون)) في العطف، والآخر أن يكون جملة مستقلة معطوفة على الجملة التي قبلها باعتبار الجملة لا باعتبار الإفراد. وقال في الشرح: الرفع على الاشتراك أو على الابتداء بجملة معربة إعراب نفسها، غير مشترك بينها وبين ما قبلها في عامل واحد، إذ الجملة الاسمية لا تكون معطوفة على جملة فعلية باعتبار التشريك ولكن باعتبار الاستقلال. انتهى كلامه. والسام الموت وألفه منقلبه عن واو. ورواه قتادة مهموزاً وقال: معناه: تسأمون دينكم. يقال: سئمة، ورواه غيره: ((السام)) وهو الموت، فإن كان عربيا فهو من سام يسوم إذا مضى؛ لأن الموت مضى. و ((الفحِش)) هو ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وأراد به هنا التعدي في القول والجواب لا الفحش الذي هو من رديء الكلام. و ((المتفحش)) الذي يتكلف ذلك ويتعمده. الحديث الثاني عشر عن أسامة: قوله: ((فسلم عليهم)) ((مح)): لو مر على جماعة منهم مسلمون أو مسلم وكفار، فالسنة أن يسلم ويقصد المسلمين أو المسلم. ولو كتب كتابا إلى مشرك فالسنة أن يكتب كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: ((سلام على من اتبع الهدى)). وقوله: ((عبدة الأوثان)) بدل من ((المشركين))، وكذا قوله: ((واليهود))، وجعلهم مشركين إما لقولهم: عزيز ابن الله، وإما للتغليب أو للتقدير، كقولك: متقلداً سفا ورمحاً

4640 - وعن أبي سعيد الخدرى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس بالطرقات)). فقالوا: يا رسول الله! مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. قال: ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)). قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)). متفق عليه. 4641 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: ((وإرشاد السبيل)). رواه أبو داود عقيب حديث الخدرى هكذا. [4641] 4642 - وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: ((وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال)). رواه أبو داود عقيب حديث أبي هريرة هكذا، ولم أجدهما في ((الصحيحين)). [4642] الفصل الثاني 4643 - عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه. رواه الترمذي، والدارمى. [4643] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر إلى الخامس عشر عن أبي سغيد: قوله: ((مالنا من مجالسنا بد)) ((من مجالسنا)) متلق بقوله: ((بد)) أي مالنا فراق منها. قوله: ((وتغيثوا)) عطف على قوله: وإرشاد السبيل)) وحذف النون على تقدير ((أن)) كقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا)) الكشاف: {وحياُ ... أو يرسل} مصدران واقعان موقع الحال، لأن {أو يرسل} في معنى إرسالا. والفرق بين إرشاد السبيل وهداية الضال إن إرشاد السبيل وهداية الضال أن إرشاد السبيل أعم من هداية الضال. الفصل الثاني الحديث الأول عن علي رضي الله عنه: قوله: ((بالمعروف)) صفة بعد صفة لموصوف محذوف،

4644 - وعن عمران بن حصين، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه، ثم جلس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عشر)). ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه، فجلس، فقال: ((عشرون)) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه، فجلس، فقال: ((ثلاثون)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4644] ـــــــــــــــــــــــــــــ يعني للمسلم خصال على المسلم ست ملتبسة بالمعروف، وهو ما عرف في الشرع والعقل حسنه. الحديث الثاني والثالث عن عمران: قوله: ((عشر)) أي له عشر حسنات، أو كتب له عشر حسنات أو المكتوب له. ((مح)): اعلم أن أفضل السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحداً. ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويأتي بواو العطف في قوله: ((وعليكم السلام)). وأقل السلام أن يقول: السلام عليكم. وإن قال: السلام عليك أو سلام عليك حصل أيضاً. وأما الجواب فأقله: وعليك السلام أو وعليكم السلام، فإن حذف الواو أجزأه. واتفقوا على أنه لو قال في الجواب: عليكم لم يكن جواباً. فلو قال: وعليكم بالواو فهل يكون جواباً؟ فيه وجهان: " قال الإمام الحين الواحدي في تعريف السلام وتنكيره بالخيار. قال الشيخ محيى الدين: ولكن الألف واللام أولى. وإذا تلاقى رجلان وسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعة واحدة، أو أحدهما بعد الآخر، فقال القاضي حسين وصاحبه أبو سعيد المتولي: يصير كل واحد منهما مبتدئاً بالسلام، فيجب على كل واحد أن يرد على صاحبه. وقال الشاشي: فيه نظر، فإن هذا اللفظ يصلح للجواب، فإذا كان أحدهما بعد الآخر كان جواباً، وإن كان دفعة لم يكن جواباً، قال: وهو الصواب. وإذا قال المبتدئ: وعليكم السلام، قال المتولي: لا يكون ذلك سلاماً فلا يستحق جواباً. ولو قال بغير واو فقطع الإمام الواحدي بأنه سلام، يتحتم على المخاطب به الجواب. وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد، وهو الظاهر وقد جزم به إمام الحرمين: انتهى كلامه. فإن قلت: بين لي الفرق بين قولك: سلام عليكم والسلام عليكم. قلت: لا بد للمعرف باللام من معهود، إما خارجي أو ذهني، فإذا ذهب إلى الأول كان المراد السلام الذي سلمه آدم عليه السلام على الملائكة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((قال لآدم: اذهب فسلم على أولئك النفر فإنها تحيتك وتحية ذريتك)). وإلى الثاني كان المراد جنس السلام الذي يعرفه كل واحد من المسلمين أنه ماهو، فيكون تعريضاً بأن ضده لغيرهم من الكفار، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {والسلام على من اتبع

4645 - عن معاذ بن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وزاد، ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: ((أربعون)) وقال: ((هكذا تكون الفضائل)). رواه أبو داود. [4645] 4646 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بالله من بدأ بالسلام)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4646] 4647 - وعن جرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على نسوة فسلم عليهن. رواه أحمد. [4647] 4648 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يجزئ عن الجماعة إذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الهدى))، فظهر من هذا أيضاً الفرق بين توارد السلامين معاً، وبين ترتب أحدهما على الآخر، وذلك أنه إذا تواردا كان الإشارة منهما إلى أحد المعنيين المذكورين فلا يحصل الرد. وإذا تأخر كان المشار إليه ما يلفظ به المبتدئ، فيصبح الرد، مكانه قال: السلام الذي وجهته إلى فقد رددته عليك. والله أعلم. وذهب إلى مثل هذا الفرق في التنكير والتعريف الكشاف في سورة مريم. الحديث الرابع عن أبي أمامه: قوله: ((إن أولى الناس)) أي أقرب الناس من المتلاقين إلى رحمة الله من بدأ بالسلام. الكشاف في قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم} أي إن أخصهم به وأقربهم منه. ((حس)): عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: مما يصفي لك ود أخيك ثلاث: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه، وأن توسع له في المجلس. ((مح)): ابتداء السلام سنة مستحبة ليست بواجبة، وهي سنة على الكفاية، فإن كان المسلم جماعة كفي منهم تسليم واحد منهم، ولو سلموا كلهم كان أفضل. قال القاضي حسين: ليس لنا سنة على الكفاية إلا هذا. وقال الشيخ: تشميت العاطس أيضاً سنة على الكفاية، وكذا الأضحية سنة في حق كل واحد من أهل البيت، فإذا ضحى واحد منهم حصل الشعار والسنة لجميعهم. الحديث الخامس والسادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وهو شيخ أبي داود)) كلام

مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرفوعاً. ورواه أبو داود، وقال: رفعه الحسن بن علي، وهو شيخ أبي داود. [4648] 4649 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف)). رواه الترمذي، وقال: إسناده ضعيف. 4650 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة، أو جدار، أو حجر، ثم لقيه، فليسلم عليه)). رواه أبو داود. [4650] ـــــــــــــــــــــــــــــ المؤلف، أراد أن إسناد هذا الحديث قد روى موقوفاً، ورفعه الحسن بن على شيخ أبي داود: حدثنا أبو داود، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم، حدثنا سعيد بن خالد قال: حدثني عبد الله بن الفضل؛ حدثنا عبيد الله بن أبي رافع عن على بن أبي طالب ((قال أبو داود: رفعه الحسن بن علي شيخ أبي داود)) قال: يجزئ عن الجماعة إلخ الحديث ويوافقه ما في المصابيح عن علي رضي الله عنه رفعه. الحديث السابع عن عمرو: قوله: ((إسناده ضعيف)) فيه إيماء إلى أن الحكم قد يكون على خلافه وليس كذلك. ((مح)): روينا عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما، وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة؛ يدل على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث. وقال في روايته: ((فسلم علينا)). الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإن حالت بينهما شجرة)) حث على إفشاء السلام، وأن يكرر عند كل تغير حال، ولكل جاء وغاد. ((مح)): روينا في موطأ الإمام مالك: أن الطفيل أخبر أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق. قال: قلت له ذات يوم: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فقال: إنما نغدوا من أجل السلام ونسلم على من لقينا. ويستثنى من ذلك مقامات ومواضع منها: إذا كان مشتغلا بالبول والجماع ونحوهما فيكره أن

4651 - وعن قتادة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم بيتاً فسلموا على أهله، وإذا خرجتم فأودوا أهله بسلام)). رواه البيهقي في ((شهب الإيمان)) مرسلا. [4651] 4652 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم [يكون] بركة عليك وعلى أهل بيتك)). رواه الترمذي. [4652] 4653 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السلام قبل الكلام)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث منكر. [4653] ـــــــــــــــــــــــــــــ يسلم عليه. ومنهما: إذا كان نائماً أو ناعسا أو مصلياً، أو مؤذناً في حال أذانه أو كان في حمام ونحوه، أو كان آكلا واللقمة في فمه. فإن سلم عليه في هذه الأحوال لا يستحق جواباً. وأما إذا كان في حالة المبايعة من المعاملات فيسلم ويجب الجواب. وأما السلام في حال خطبة الجمعة فقال أصحابنا: يكره الابتداء به، لأنهم مأمورون بالإنصات، فإن خالف وسلم فهل يرد عليه؟ فيه خلاف: منهم من قال: لا يرد، ومنهم من قال: إن قلنا: إن الإنصات واجب لا يرد، وإن قلنا: سنة، رد عليه واحد من الحاضرين فحسب. وأما السلام على القارئ فقال الواحدي: الأولى ترك السلام عليه، وإن سلم عليه كفاء الرد بالإشارة. وإن رد باللفظ استأنف الاستعاذة. قال: والظاهر أنه يجب الرد باللفظ. الحديث التاسع عن قتادة: قوله: ((فأودعوا)) هو من الإيداع أي اجعلوا السلام وديعة عندهم كي ترجعوا إليهم وتستردوا وديعتكم، فإن الودائع تستعاد تفاؤلا للسلامة والمعاودة مرة بعد مرة أخرى. وأنشد: [فلا بد لي من جهلة في وصاله فمن لي بخل أودع الحلم عنده] اللطف فيه أنه لم يعزم على مفارقة الحكم؛ لأن الودائع تستعاد. الحديث العاشر والحادي عشر عن جابر: قوله: ((منكر)) ((تو)): لأن مداره على عنبسة بن عبد الرحمن وهو ضعيف جداً، ثم إنه يرويه عن محمد بن زاذان وهو منكر الحديث. وكذلك حديثه الآخر: ((إذا كتب أحدكم كتاباً فليتربه)) والمحنة فيه من قبل حمزة بن عمرو النصيبي، فإنه الراوي عن أبي الزبير عن جابر وكذلك الحديث الذي يتلوه: ((ضع القلم على أذنيك)) ومداره

4654 - وعن عمران بن حصين، قال: كنا في الجاهلية نقول: أنعم الله بك عيناً، وأنعم صباحاً. فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك. رواه أبو داود. [4654] 4655 - وعن غالب رحمه الله، قال: إنا لجلوس بباب الحسن البصري، إذ جاء رجل فقال: حدثني أبي، عن جدي، قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائته فأقرئه السلام. قال: فأتيته؛ فقلت: أبي يقرئك السلام. فقال: ((عليك وعلى أبيك السلام)). رواه أبو داود. [4655] ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضا على عنبسة بن عبد الرحمن، ومحمد بن زاذان، وقد وجدناه في كتاب المصابيح. وقد أخطأ فيه في قوله: ((على أذنيك)) وإنما هو على أذنك. الحديث الثاني عشر عن عمران: قوله: ((أنعم الله بك عيناً)) الجوهري: النعم بالضم خلاف البؤس، ونعم الشيء بالضم نعومة أي صار ناعما لينا ويقال: أنعم الله عليك من النعمة، وأنعم الله صباحك من النعومة. وأنعم الله بك عيناً أي أقر الله عينك بمن تحبه. وكذلك نعم الله بك عيناً. ((نه)) في حديث مطرف: ((لا تقل: نعم الله بك عينا؛ فإن الله لا ينعم بأحد عينا، ولكن قل: أنعم الله بك عينا)). قال الزمخشري: الذي منع منه مطرف صحيح فصيح في كلامهم. و ((عينا)) نصب على التمييز من الكاف، والباء للتعدية، والمعنى: نعمك الله عينا أي نعم عينك وأقرها. وقد يحذفون الجار ويوصلون الفعل فيقولون: نعمك الله عينا، وأما أنعم الله بك عينا، فالباء فيه للتعدية، لأن الهمزة كافية في التعدية يقال: نعم زيد عينا وأنعمه الله عينا. ويجوز أن يكون من ((أنعم)) إذا دخل في النعيم فيعدى بالباء. قال: ولعل مطرفاً خيل إليه أن انتصاب المميز في هذا الكلام عن الفاعل فاستعظمه، تعالى الله أن يوصف بالحواس علواً كبيرً كما يقولون: نعمت بهذا الأمر عينا والباء للتعدية فحسب أن الأمر في ((نعم الله بك عينا)) كذلك. أقول: يحتمل أن تكون الباء سببية و ((عينا)) مفعول ((أنعم)) والتنكير فيه للتفخيم أي أنعم الله بسببك عينا. وأي عين غير من يحبك، فيكون كناية عن خفض عيشة ورفاهية لا يحوم حولها خشونة. وقوله: ((وأنعم صباحاً)) معناه طاب عيشك في الصباح، وإنما خص الصباح به؛ لأن الغارات والمكاره تقع صباحاً.

4656 - وعن أبي العلاء بن الحضرمي، أن العلاء الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا كتب إليه، بدأ بنفسه. رواه أبو داود. 4657 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كتب أحدكم كتاباً فليتربه، فإنه أنجح للحاجة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث منكر. [4657] 4658 - وعن زيد بن ثابت، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه كاتب، فسمعته يقول: ((ضع القلم على أذنك؛ فإنه أذكر للمال)). رواه الترمذي، وقالك هذا حديث غريب، وفي إسناده ضعف. [4658] 4659 - وعنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم السريانية وفي رواية: إنه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن أبي العلاء: قوله: ((بدأ بنفسه)) ((مظ)): كان يكتب: هذا من العلاء الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا من لسانه: هذا من رسول الله إلى عظيم البحرين وغيره من الملوك. انتهى كلامه. والمقصود من إيراد هذا في باب السلام أنهذا كان مقدمة السلام، يدل عليه قوله في كتابه إلى هرقل: ((من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)). الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((فليتربه)) أي يسقطه على التراب حتى يصير أقرب إلى المقصد. قال أهل التحقيق: إنما أمره بالإسقاط على التراب اعتماداُ على الحق سبحانه في إيصاله إلى المقصد. وقيل: المراد به ذر التراب على المكتوب: ((مظ)): قيل: معناه فليخاطب الكاتب خطاباً على غاية التواضع، والمراد بالتتريب المبالغة في التواضع في الخطاب. الحديث السادس عشر عن زيد: قوله: ((ضع القلم على أذنك)) قيل: والسر في ذلك أن القلم أحد اللسانين المترجمين عما في القلب من الكلام وفنون العبارات، فتارة يترجم عنه اللسان اللحمي المعبر عنه بالقول، وتارة يعبر عنه بالقلم وهو المسمى بالكتابة. وكل واحد من اللسانين يسمع ما يريد من القول وفنون الكلام من القلب، ومحل الاستماع الأذن، فاللسان موضوع دائما على محل الاستماع ودرج القلب، فلم يزل يستمع منه الكلام، والقلم منفصل عنه خارج عن محل الاستماع، فيحتاج في الاستماع إلى القرب من محل الاستماع، والدنو إلى طريقه ليستمع من القلب ما يريده من العبارات وفنون الكلام ويكتب. الحديث السابع عشر عن زيد رضي الله عنه قوله: ((ماآمن يهود على كتاب)) استعمل

أمرني أن أتعلم كتاب يهود، وقال: ((إني ما آمن يهود على كتاب)) قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت. فكان إذا كتب إلى يهود كتبت، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم. رواه الترمذي. [4659] 4660 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم؛ فإن بدا له أن يجلس فيجلس، ثم إذا قام فليسلم؛ فليست الأولى بأحق منا لآخرة)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4660] 4661 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا خير في جلوس في الطرقات، إلا لمن. هدى السبيل، ورد التحية، وغض البصر، وأعان على الحمولة)). رواه في شرح السنة)). [4661] ـــــــــــــــــــــــــــــ بـ ((على)) فإن نفي الأمن عبارة عن الخوف كأنه قال: أخاف على كتابي، كما قالت إخوة يوسف: {مالك لا تأمنا على يوسف}. ((مظ)): أي أخاف إن أمرت يهوديا بأن يكتب مني كتابا إلى اليهود أن يزيد فيه أو ينقص. وأخاف إن جاء كتاب منا ليهود فيقرأه يهودي فيزيد وينقص فيه. وقوله: ((حتى تعلمت)) معناه مقدر أي ما مربى نصف شهر في التعليم، حتى كمل تعليمي. قيل: وفيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا للتوقي والحذر عن الوقوع في الشر. الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة: قوله: ((فليست الأولى بأحق)) قيل: كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور فكذلك الثانية إخبار عن سلامتهم من شره عند الغيبة، وليست السلامة عند الحضور أولى من السلامة عند الغيبة، بل الثانية أولى. ((مح)) ظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على الجماعة رد السلام على الذي سلم على الجماعة عند المفارقة. قال القاضي حسين وأبو سعيد المتولي: جرت عادة بعض الناس بالسلام عند المفارقة، وذلك دعاء يستحب جوابه ولا يجب، لأن التحية إنما تكون عند اللقاء لا عند الانصراف. وأنكره الشاشي وقال: إن السلام سنة عند الانصراف كما هو سنة عند اللقاء، فكما يجب الرد عند اللقاء كذلك عند الانصراف، وهذا هو الصحيح. الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأعان على الحمولة)) هي بالفتح ما يحمل الأثقال من الدواب وبالضم الأحمال أي يعين صاحبه على حمل الأثقال على الحمولة.

وذكر حديث أبي جري في ((باب فضل الصدقة)). الفصل الثالث 4662 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم! اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس، فقل: السلام عليكم فقال: السلام عليكم. قالوا: عليك السلام ورحمة الله. ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال له الله ويداه مقبوضتان: اختر أيتهما شئت. فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يدى ربي يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا آدم وذريته، فقال: أي ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((فقال: الحمد لله)) أي فأراد أن يقول: الحمد لله. فحمد الله بإذنه أي بتيسيره وتوفيقه. وقد سبق تأويله في الحديث الأول من هذا الباب وقوله: ((إلى ملأ منهم جلوس)) يحتمل أن يكون بدلا، فيكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لكلام الله تعالى، وهو إلى الحال أقرب منه إلى البدل يعني قال الله تعالى: ((أولئك)) مشيراً به إلى ملأ منهم، ثم رجع إلى ربه أي مكان كلمه ربه فيه. [قوله: ((وكلتا يدي ربي يمين)) كالتتميم صوناً لما يتوهم من إثبات الجارحة من الكلام السابق. وللشيخ أبي بكر بن محمد بن الحسن بن فورك كلام تين فيه قال: واليدان إن حملتا على معنى القدرة والملك صح. وإن حملتا على معنى النعمة والأثر الحسن صح، لأن ذلك مما حدث في ملكه بتقديره وعن ظهور نعمته على بعضهم، ثم قال: قد ذكر بعض مشايخنا! أن الله عز وجل هو الموصوف بيد الصفة لا بيد الجارحة، وإنما تكون يد الجارحة يميناً ويساراً؛ لأنهما يكونان لمتبعض ومتجزئ ذي أعضاء، ولما لم يكن ما وصف الرب به يد جارحة بين صلى الله عليه وسلم بما قال، أي ليست هي يد جارحة. وقيل: إن المراد أن الله عز وجل لما وصف باليدين، ويدا الجارحة تكون إحداهما يميناً والأخرى يساراً، واليسرى ناقصة في القوة والبطش، عرفنا صلى الله عليه وسلم كمال صفة الله عز وجل، وأنها لا نقص فيها، ويحتمل أن يكون معناه أن آدم عليه السلام لما قيل له: اختر أيتها شئت فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين. أراد به لسان الشكر والنعمة، لا لسان الحكم والاعتراف بالملك، فذكر الفضل والنعمة؛ لأن جميع ما يبديه -عز وجل- من مننه فضل وطول، من مبتدأ من منفوع ينفعه، ومن مدفوع عنه يحرسه، فقصد الشكر والتعظيم للمنة. قيل: أراد به وصف الله تعالى بغاية الجود والكرم والإحسان والتفضيل؛ وذلك أن العرب

رب! ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم- أو من أضوئهم- قال: يارب! من هذا؟ قال: هذا ابنك داود وقد ـــــــــــــــــــــــــــــ تقول لمن هو كذلك: كلتا يديه يمين، وإذا نقص حظ الرجل وبخس نصيبه، قيل: جعل سهمه في الشمال، وإذا لم يكن عنده اجتلاب منفعة ولا دفع مضرة قيل: ليس فلان باليمين ولا بالشمال. وقال أيضا في حديث آخر نحوه: ((إن ذلك كان من ملك أمره الله عز وجل بجمع أجزاء الطين من جملة الأرض، أمره بخلطها بيديه، فخرج كل طيب بيمينه، وكل خبيث بشماله)) فتكون اليمين والشمال للملك، فأضاف إلى الله تعالى من حيث كان عن أمره. وجعل كون بعضهم في يمين الملك علامة لأهل الخير منهم، وكون بعضهم في شماله علامة لأهل الشر منهم، ولذلك ينادون يوم القيامة بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال. أقول وبالله التوفيق: وتقريره على طريقة أصحاب البيان هو أن إطلاق اليد على القدرة تارة، وعلى النعمة أخرى من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن القدرة والنعمة صادرتان عنها وهي منشؤهما، وكذلك القدرة منشأ الفعل، والفعل إما خير أو شر أو إضلال أو هداية. ((واليدان)) في الحديث إذا حملتا على القدرة منشأ الفعل، والفعل إما خير أو شر أو إضلال أو هداية. ((واليدان)) في الحديث إذا حملتا على القدرة منشأ الفعل، والفعل إما خير أو شر أو إضلال أو هداية. فاليمين عبارة عن خلق الهدى والإيمان. وإليه الإشارة بقوله: ((فإذا فيهم رجل أضوؤهم)) على أفعل التفضي الذي يقتضي الشركة. والشمال على عكسها. ومعنى ((كلتا يديه يمين)):أن كلا من خلق الخير والشر والإيمان والكفر من الله تعالى عدل وحكمة، لأنه عزيز يتصرف في ملكه كيف يشاء: ولا مانع له فيه ولا منازع، حكيم يعلم بلطيف حكمته ما يخفي على الخلق. قال تعالى:} فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم {فمعنى اليمين كما في قول الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين أي بتدبيره الأحسن وتحريه الأصوب. وإذا حملتا على النعمة كان اليمين المبسوطة عبارة عن منح الألطاف وتيسير اليسرى على أهل السعادة من أصحاب اليمين والشمال المقبوضة على عكسها. ومعنى ((كلتا يديه يمين)) على ما سبق، قال تعالى:} الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم {.الفاصلتان في الآيتان أعني} العزيز الحكيم {و} بكل شيء عليم {ملوحتان إلى معنى ما في الحديث في قوله: ((كلتا يديه يمين)).و} الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {والله أعلم].

كتبت له عمرة أربعين سنة. قال: يارب زد في عمره. قال: ذلك الذي كتبت له. قال: أي رب! فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك. قال: ثم سكن الجنة ما شاء الله، ثم أهبط منها، وكان آدم يعد لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت، قد كتب لي ألف سنة. قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته)) قال: ((فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود)) رواه الترمذي. [4662] 4663 - وعن أسماء بنت زيد، قالت: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلم علينا. رواه أبو داود، وابن ماجه، والدرامي. [4663] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فإذا فيها آدم وذريته)) مقول النبي صلى الله عليه وسلم، يعني رأي آدم مثاله ومثل بنيه في عالم الغيب. قوله: ((ما هؤلاء)) ذكر ((ما)) أولا؛ لأنه ما عرف ما رآه ثم لما قيل له: وهم ذريتك فعرفهم، فقال: من هذا. وقوله: ((أو من أضوئهم)) هو من شك الراوي. فعلى هذا ((من أضوئهم)) صفة ((رجل)) و ((فيهم)) خبره، وعلى إسقاط ((من)) هو مستأنف، أي: هو أضوؤهم. وليس المعنى بقوله: ((أضوؤهم)) أن سائر الأنبياء دونه في الضوء والإشراق، بل لبيان فضله وجمعه بين النبوة والملك، وإفاضة نور العدل من الله تعالى عليه، وأنه خليفة الله في أرضه. قال الله تعالى:} إنا جعلناك خليفة الله في الأرض فاحكم بين الناس بالحق {،فأفعل هنا كما في قول الأنمرية: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها. على ما مر مرارا. وقوله: ((عمره أربعين سنة)) مفعول ((كتبت)) ومؤدي المكتوب؛ لأن المكتوب عمره أربعون سنة، ونصب ((أربعين)) على المصدر على تأويل كتبت له أن يعمر أربعين سنة. وقوله: ((ذلك الذي)) المبتدأ والخبر معرفتان فيفيد الحصر، أي لا مزيد على ذلك ولا نقصان عنه، وكان ذلك حين وهب ثم رجع. قوله: ((قال: أي رب فإني قد جعلت)) أي في موضعين ((بأي)) التي تستعمل للمنادى القريب حيث نظر إلى قربه من الحضرة الربوبية، ورأي الكلامين في خاصة نفسه، وفي موضعين بـ ((يا)) المستعملة للبعيد نظرا إلى غيره. وقوله: ((أنت ذاك)) نحو قولهم: ((كل رجل وضيعته)) أي أنت مع مطلوبك مقرونان، ويعد لنفسه ما قدر له ويراعي أوقات أجله سنة فسنة، فلما بلغ تسعمائة وأربعين أتاه ملك الموت. وقوله: ((نسي فنسيت ذريته)) يشير إلى قوله تعالى:} ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما {. الحديث الثاني عن أسماء: قوله: ((في نسوة)) غير متعلق بالفاعل، لئلا يلزم منه مرور رسول

4664 - وعن الطفيل بن أبي بن كعب: أنه كان يأتي ابن عمر فيغدو معه إلى السوق. قال: فإذا غدونا إلى السوق، ولم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا على صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا على أحد إلا وسلم عليه. قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوما، فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس الأسواق؟ فاجلس بنا ها هنا نتحدث: قال: فقال لي عبد الله بن عمر: يا أبا بطن! –قال: وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، نسلم على من لقيناه. رواه مالك، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4664] 4665 - وعن جابر، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لفلان في حائطي عذق، وإنه قد آذاني مكان عذقه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن بعني عذقك)) قال: لا. قال: ((فهب لي)).قال: لا. قال: ((فبعني بعذق في الجنة)).فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت ما هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام)) رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4665] ـــــــــــــــــــــــــــــ الله صلى الله عليه وسلم في زمرة النسوة عليهن، بل هو متعلق بالجار والمجرور وبيان له، وهو من باب قولك: في البيضة عشرون رطلا من حديد، وهي بنفسها هذا المقدار، لا أنها ظرف له يدل عليه ما سبق في شرح الحديث السابع من الفصل الثاني بروايتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما وعصبة من النسوة قعود إلى آخره. الحديث الثالث عن الطفيل: قوله: ((على سقاط)) هو متاع السقط وهو الرديء من المتاع. وقوله: ((بيعة)) يروى بفتح الباء وهي الصفقة، وبكسرها الحالة كالركبة والقعدة. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عذق)) ((نه)):العذق بالفتح النخلة وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ، ويجمع على عذاق: قوله: ((قد آذاني مكان عذقه)) أي آذاني عذقه. ونحوه قوله تعالى:} إن كان كبر عليكم مقامي {الكشاف: ((مقامي)) مكاني يعني نفسه كما تقول: فعلت كذا مكان فلان. ويمكن أن يكون الأذى من جهة المكان الذي غرس فيه

(2) باب الاستئذان

4666 - وعن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((البادئ بالسلام بريء من الكبر)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4666] (2) باب الاستئذان الفصل الأول 4667 - عن أبي سعيد الخدري، قال: أتانا أبو موسى، قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه، فسلمت ثلاثا، فلم يرد علي، فرجعت. فقال: ما منعك تأتينا؟ ـــــــــــــــــــــــــــــ العذق، أي مروره في حائطي بسبب مكان عذقه يؤذيني، وقوله: ((بعذق في الجنة)) مشعر بأن الرجل كان مسلما، وكان سوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه شفاعة منه، لا أمرا وإلا لوجب عليه قبوله والحكم بعصيانه، كما في حديث بريدة وقد تقدم. قوله: ((الذي هو أبخل)) التعريف فيه للجنس على نحو قوله تعالى:} الذين أنعمت عليهم {في وجه الكشاف: وإنما صح وقوع ((غير)) صفة للمعرفة، لأن ((الذين أنعمت عليهم)) لا توقيت فيه فهو كقوله: ((ولقد أمر على اللئيم يسبني)) فالمعنى ما رأيت للجنس الذي هو أبخل منك إلا من بخل بالسلام. وإنما سماه بخيلا؛ لأن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوهب من مثله كان واجبا عليه أن يبذل روحه بل الدنيا وما فيها على أن أذى أخيه المسلم من العظائم أيضا. وفيه حث على بذل السلام وإفشائه وأن الإمساك عنه من أخنى الأفعال الرديئة. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((البادئ بالسلام)) يراد من تلقى صاحبه وهما سيان في الوصف بأن لا يكون أحدهما راكبا والآخر ماشيا، أو ماشيا والآخر قاعدا إلى غير ذلك كما علم ذلك والله أعلم. باب الاستئذان الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فقلت إني أتيت)) الظاهر فتح ((أن))

فقلت: إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم ترد علي فرجعت، وقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له، فليرجع)).فقال عمر: أقم عليه البينة. قال أبو سعيد: فقمت معه، فذهبت إلى عمر، فشهدت. متفق عليه. 4668 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادى حتى أنهاك)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليكون مطابقا للسؤال؛ فإن السؤال عن المنع، فيجب أن يبين المانع، ويقال: المانع إتياني وتسليمي إلى آخره، والكسر يدل على المانع بالمفهوم. قوله: ((أقم عليهم البينة)) أي على الحديث الذي رويته. ((مح)):وقد تعلق بهذا من يقول: لا يحتج بخير الواحد وهو باطل؛ لأنهم أجمعوا على الاحتجاج بخبر الواحد ووجوب العمل به، ودلائلهم أكثر من أن تحصى. وأما قول عمر رضي الله عنه ((أقم عليه البينة)) فليس معناه أن خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ولكن خاف عمر رضي الله عنه مسارعة الناس إلى القول على النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يقل، كما يفعله المبتدعون والكذابون. وكذا من وقع له قضية وضع فيها حديثا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد سد الباب، لا شكا في رواية أبو موسى، لأنه أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. ومما يدل على أن عمر رضي الله عنه لم يرد خبر أبي موسى، لكونه خبر واحد، أنه طلب منه إخبار رجل آخر حتى يعمل بالحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد، وكذا ما زاد حتى يبلغ التواتر، لأن مالم يبلغ التواتر فهو خبر واحد. وأجمعوا على أن الاستئذان مشروع، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة. والسنة أن يجمع بين السلام والاستئذان، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام أم الاستئذان؟. والصحيح تقديم السلام فيقول: السلام عليكم أأدخل؟.وعن الماوردي: إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله، قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان. الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((سوادى)) ((نه)):السواد بالكسر السرار، يقال: ساودت الرجل مساودة أي ساررته، وقيل: هو من إدناء سوادك من سواده أي شخصك من شخصه. أقول: قوله: ((على)) متعلق بـ ((إذنك)) وهو مبتدأ، و ((أن ترفع)) مع المعطوف خبره، يعني إذنك الجمع بين رفع الحجاب وبين معرفتك إياي في الدار، ولو كنت مسارا لغيري، هذا شأنك مستمر في جميع الأحيان إلا أن أنهاك. وفيه دلالة على شرفه، وأنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة أهل الدار وصاحب السر. وليس فيه أن يدخل عليه في كل حال وأن يدخل على نسائه ومحارمه. ((مح)) فيه دليل على جواز الاعتماد على العلامة في الإذن في الدخول، فإذا جعل الأمير

4669 - وعن جابر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا. فقال: ((أنا! أنا!)) كأنها كرهها. متفق عليه. 4670 - وعن أبي هريرة، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد لبنا في قدح. فقال: ((أبا هر! الحق بأهل الصفة فادعهم إلي)) فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا. رواه البخاري. الفصل الثاني 4671 - عن كلدة بن حنبل: أن صفوان بن أمية بعث بلبن أو جداية وضغابيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارجع، فقل: السلام عليكم أأدخل)) رواه الترمذي، وأبو داود. [4671] ـــــــــــــــــــــــــــــ والقاضي أو غيرهما رفع الستر الذي على بابه علامة في الإذن في الدخول عليه للناس عامة، أو لطائفة خاصة أو لشخص أو جار أو علامة غير ذلك، جاز الاعتماد عليها والدخول بغير استئذان. الحديث الثالث عن جابر: قوله: ((فقال: أنا أنا)) إنكار عليه قولك: ((أنا)) مكروه غلا تعد، و ((أنا)) الثاني تأكيد للأول: ((مح)): وإنما كره؛ لأنه لم يحصل بقوله: ((أنا)) فائدة تزيل الإبهام، بل ينبغي أن يقول: فلان باسمه، فإن قال: أنا فلان فلا بأس كما قالت أم هانئ حين استأذنت، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من هذه؟)) قالت: أنا أم هانئ. ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف به إذا لم يكن منه بد، وإن كان صورة له فيها تبجيل وتعظيم بأن يكني نفسه أو يقول: أنا المفتي فلان، أو القاضي، أو الشيخ. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بأهل الصفة)) هم جماعة من الصعاليك المهاجرين والأنصار اجتمعوا في صفة، ذكرهم الشيخ أبو نعيم الأصفهاني في ((حلية الأولياء)) وفيه دلالة على من ادعى إلى وليمة أو طعام لا يكفيه الدعاء، بل لابد من الاستئذان، اللهم إلا أن يقرب زمان الإذن. الفصل الثاني الحديث الأول إلى آخره عن كلدة: قوله: ((أوجداية)) بفتح الجيم وكسرها ((نه)):هو من أولاء الظباء ما بلغ ستة أشهر أو سبعة، ذكرا كان أو أنثى، بمنزلة الجدي عن المعز. و ((ضغابيس)) هي

4672 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول، فإن ذلك له إذن)).رواه أبو داود. وفي رواية له، قال: ((رسول الرجل إلى الرجل إذنه)). [4672] 4673 - وعن عبد الله بن بسر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: ((السلام عليكم، السلام عليكم)) وذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور. رواه أبو داود. وذكر حديث أنس، قال عليه الصلاة والسلام: ((السلام عليكم ورحمة الله)) في ((باب الضيافة)). [4673] الفصل الثالث 4674 - عن عطاء أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ((نعم)) فقال الرجل: إني معاها في البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استأذن عليها)) فقال الرجل: إني خادمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟)) قال: لا. قال: ((فاستأذن عليها)).رواه مالك مرسلا. [4674] 4675 - وعن علي، رضي الله عنه، قال: كان لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل بالليل، ومدخل بالنهار، فكنت إذا دخلت بالليل تنحنح لي. رواه النسائي. [4675] صغار القثاء. واحدها ضغبوس. وقيل: هي نبت ينبت في أصول الثمام يشبه الهيلون يسلق بالخل والزيت ويؤكل. الفصل الثالث الحديث الأول إلى آخره عن علي رضي الله عنه: قوله: ((كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((لي)) خبر ((كان)) واسمه مدخل و ((من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) متعلق بالجار والمجرور: أي حصل لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول بالليل ودخول بالنهار، وعلامة الإذن بالليل تنحنحه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

(3) باب المصافحة والمعانقة

4676 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تأذنو لمن لم يبدأ بالسلام)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4676] (3) باب المصافحة والمعانقة الفصل الأول 4677 - عن قتادة، قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.قال: نعم. رواه البخاري. 4678 - وعن أبي هريرة، قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع ابن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)).متفق عليه. وسنذكر حديث أبي هريرة ((أثم لكع)) في ((باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين)) إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المصافحة والمعانقة المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. ((مح)):اعلم أن المصافحة سنة مستحبة عند كل لقاء، وما اعتاده الناس بعد صلاة الصبح والعصر، لا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سنة. وكونهم حافظين عليها في بعض الأحوال مفرطين فيها في كثير من الأحوال لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وهي من البدعة المباحة. وقد شرحنا أنواع البدع في أول كتاب الاعتصام مستوفي. وينبغي أن يحترز عن مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظر إليه حرام كما بسطنا القول فيه في كتاب النكاح. قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه مسه بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء ونحو ذلك. ولا يجوز مسها في شيء من ذلك. الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يرحم)) يجوز فيه الجزم والرفع على أن ((من)) موصولة أو شرطية. ولعل وضع الرحمة في الأولى للمشاكلة، فإن المعنى

وذكر حديث أم هانئ في ((باب الأمان)) الفصل الثاني 4679 - عن البراء بن عازب ((رضي الله عنهما))،قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا)).رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [4679] وفي رواية أبي داود، قال: ((إذا التقى المسلمان فتصافحا، وحمدا الله واستغفراه، غفر لهما)) [4679] 4680 - وعن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: ((لا)).قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: ((لا)).قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم)).رواه الترمذي. [4680] من لم يشفق على الأولاد لا يرحمه الله تعالى، وأتى بالعام لتدخل فيه الشفقة دخولا أوليا. ((مح)):تقبيل الرجل خد ولده الصغير واجب، وكذا غير خده من أطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة سنة، سواء كان الولد ذكرا أو أنثى. وكذلك قبلة ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال على هذا الوجه. وأما التقبيل بالشهوة فحرام بالاتفاق سواء في ذلك الولد أو غيره. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أينحني له)) ((مح)):حتى الظهر مكروه للحديث الصحيح في النهي عنه، ولا تعتبر كثرة من يفعله ممن ينسب إلى علم وصلاح. والمعانقة وتقبيل الوجه لغير القادم من سفر ونحوه مكروهان، صرح به البغوي وغيره للحديث الصحيح في النهي عنه كراهة تنزيه.

4681 - وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته، أو على يده، فيسأله: كيف هو؟ وتمام تحياتكم بينكم المصافحة)).رواه أحمد، والترمذي، وضعفه [4681] 4682 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))،قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله. رواه الترمذي. [4681] 4683 - وعن أيوب بن بشير، عن رجل عن عنزة، أنه قال: قلت لأبي ذر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا وصافحني، وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت، فأتيته وهو على سرير، فالتزمني، فكانت تلك أجود وأجود. رواه أبو داود. [4683] 4684 - وعن عكرمة عن أبي جهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جئته: ((مرحبا بالراكب المهاجر)) رواه الترمذي. 4685 - وعن أسيد بن حضير- رجل من الأنصار- قال: بينما هو يحدث القوم- وكان فيه مزاح- بينما يضحكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي أمامة: قوله: ((وتمام تحياتكم)) يعني لا مزيد على هذين فلو زدتم على هذا دخل في التكلف وهو بيان لقصد الأمور لا أنه نهى عن الزيادة أو النقصان. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما رأيته عريانا)) ((قض)):لعلها أرادت ما رأيته عريانا استقبل رجلا واعتنقه، فاختصرت الكلام لدلالة الحال. أقول: هذا هو الوجه؛ لما يشم من سياق كلامها رائحة الفرج والاستبشار بقدومه وتعجيله للقائه بحيث لم يتمكن من تمام التردى بالرداء حتى جره، وكثيرا ما يقع مثل هذا والله أعلم. الحديث الخامس عن أيوب: قوله: ((تلك)) إشارة إلى الالتزام على تأويل المعانقة وعبر عنها به؛ ليكون أقرب إلى الأدب. وأشار إليها بـ ((تلك)) والمشار إليه قريب بعدا لمرتبتها، وكرر أفعل ولم يذكر المتعلق ليعم، ويحتمل أن يكون التقدير: أجود من المصافحة. والواو في قوله: ((وأجود)) للتعاقب بمنزلة الفاء في قولهم: الأحسن فالأحسن والأفضل فالأفضل. الحديث السادس والسابع عن أسيد: قوله: ((رجل من الأنصار)) ((شف)):في لفظ هذا الحديث في المصابيح اضطراب، وجامع الأصول ينبئ عنه، وهو فيه هكذا: عن أسيد بن

قال: ((اصطبر)).قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه قال: إنما أردت هذا يا رسول الله، رواه أبو داود. [4685] 4686 - وعن الشعبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقي جعفر بن أبي طالب، فالتزمه وقبل ما بين عينيه. رواه أبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. وفي بعض نسخ ((المصابيح)):وفي ((شرح السنة)) عن البياضي متصلا [4686] ـــــــــــــــــــــــــــــ حضير قال: إن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدث القوم يضحكهم، إذ طعنه النبي صلى الله عليه وسلم بعود كان في يده قال: اصبرني يا رسول الله، قال: اصطبر إلى اخره. فليس المراد بقوله رجل من الأنصار هو أسيد بن حضير، فلا يجوز جره بل هو مرفوع على أنه مبتدأ ومخصصه قوله: ((من الأنصار)) وخبره قوله: ((قال)) مع فاعله المستكن فيه و ((بينما)) ظرف: ((قال)).والضمير في قوله: ((فيه)) ((للرجل))،و ((كان فيه مزاح)) جملة حالية ((يحدث)) وقعت بين قوله: ((يضحكهم)).وقوله: ((بينما)) مع ما بعده مقول لـ ((قال)) و ((بينما)) ظرف لقوله: ((طعنه)) أو لمحذوف دل عليه الفعل الظاهر، والتقدير: بينما يضحكهم فأضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم عطف على قوله ((يضحكهم)). أقول: الحديث على ما هو في المتن والمصابيح مثبت في سنن أبو داود وفي نسخة يعتمد عليها. فبقي أن يقال: إن الرجل الذي طعن النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته هل هو أسيد بن حضيره أو غيره؟،فعلى ما في جامع الأصول غيره، وعلى ما في شرح السنة أنه هو: ولفظه هكذا: ((عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير، ((بينما هو يحدث القوم ويضحكهم وكان فيه مزاح، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم)) الحديث. وكان أسيد بن حضير من نقباء الأنصار. وتنزيل الحديث على هذه الرواية أسهل وأبعد من التكلف من تلك الرواية، وما قيل: أن ((قال)) خبر و ((بينما)) ظرف له خارج عن السداد. فقوله: ((رجل)) بدل من ((أسيد)).وقال قول الراوي، أي قال الراوي- وهو عبد الرحمن- بينما أسيد يحدث ... إلى آخره. ولو كان القائل أسيد رضي الله عنه لقال: بينما أنا و ((بينما)) الثانية بدل منها، وقوله: ((فطعنه)) هو الجوب والعامل في ((بينما)). الجوهري: المزاح بالضم الاسم والمزاحة أيضا، وأما المزاح بالكسر فهو مصدر مازحه وهما يتمازحان. قوله: ((أصبرني)) ((نه)):أي أقدني من نفسك. قال: استقد. يقال: أصبر فلان

4687 - وعن جعفر بن أبي طالب في قصة رجوعه من أرض الحبشة، قال: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتنقني ثم قال: ((ما أدري: أنا بفتح خيبر أفرح، أم بقدوم جعفر؟)). ووافق ذلك فتح خيبر. رواه في ((شرح السنة)). [4687] 4688 - وعن زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة، فجعلنا: نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله. رواه أبو داود. [4688] 4689 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))،قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا. وفي رواية: حديثا وكلاما برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها، قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها. رواه أبوو داود. [4689] ـــــــــــــــــــــــــــــ من خصمه واصطبر أي اقتص منه، وأصبره الحاكم أي أقصه من خصمه ((فا)):وأصله الحبس حتى يقتل، وأصبره القاضي إصبارا أي أقصه، واصطبر أي اقتص انتهى كلامه. ((وليس على قميص)) حكاية الحال الماضية. ومن الظاهر أن يقال: ((ولم يكن على قميص)) وضمن معنى رفع الكشف، وعداه بـ ((عن)) أي كشف عما ستره قميصه برفعه عنه: وقوله: ((فاحتضنه)) أي اعتنقه وأخذه في حضنه وهو ما دون الإبط إلى الكشح. وفيه إشعار بإباحة المزاح إذا لم يكن فيه محذور شرعا وباستماعه أيضا، وبأن الانبساط مع الوضيع من شيم الشريف. الحديث الثامن والتاسع عن جعفر رضي الله عنه: قوله: ((أفرح، أم بقدوم جعفر؟)) هذا الأسلوب من باب الذهاب إلى التشابه من التشبيه مبالغة في إلحاق الناقص بالكامل. الحديث العاشر عن زارع: قوله: ((فنقبل)) ((مح)):إذا أرد تقبيل يد غيره إن كان ذلك لزهده وصلحه أو علمه وشرفه وصيانته ونحو ذلك من الأمور الدينية، لم يكره بل يستحب. وإن كان لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهية. وقال المتولي: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام. الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((سمتا)) ((تو)) السمت أخذ النهج ولزوم المحجة، وسمت فلان ويسمت. ثم قالوا: ما أحسن سمته أي طريقته التي ينتهجها في تحري

4690 - وعن البراء، قال: دخلت مع أبي بكر ((رضي الله عنهما))،أول ما قدم المدينة، فإذا عائشة ابنته مضطجعة، قد أصابها حمى، فأتاها أبو بكر، فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها. رواه أبو داود. [4690] 4691 - وعن عائشة ((رضي الله عنها)).أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي، فقبله، فقال: ((أما إنهم مبخلة مجبنة، وإنهم من ريحان الله)) رواه في ((شرح السنة)). [4691] الخير والتزي بزي الصالحين، والهدى السيرة السوية يقال: هدى هدي فلان إذا سار مسيره. قال الشاعر: ويخبرني عن غائب المرء هديه كفي الهدى عما غيب المرء مخبرا والدل حسن الشمائل، وأصله من دل المرأة وهو شكلها، وذلك يستحسن منها وقد دلت تدل ((تو)) كأنها أشارت بالسمت إلى ما يرى على الإنسان من الخشوع والتواضع لله، وبالهدى إلى ما يتحلى به من السكينة والوقار، وإلى ما يسلكه من المنهج المرضي وبالدل إلى دماثة الخلق وحسن الحديث. الحديث الثاني عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مبخلة)) ((نه)):المبخلة مفعلة من البخل ومظنة له، أي يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه فيبخلان بالمال بأجله. ((فا)):معناه أن الولد يوقع أباه في جبن خوفا من أن يقتل- أي في الحرب- فيضيع ولده بعده. وفي البخل إبقاءه على ماله له، والواو في ((وأنهم)) للحال، كأنه قال: مع أنهم من ريحان الله أي فيعلان من الروح؛ لأن انتعاشه بالرزق. ويجوز أن يراد بالريحان المشموم، لأن الشمامات تسمى ريحانا. ويقال: حباه بطاقة نرجس وبطاقة ريحان، فيكون المعنى: وإنهم مما أكرم الله به الأناسى وحباهم به؛ أو لأنهم يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين التي أنبتها الله تعالى. أقول: قوله: ((أما إنهم إلى آخره)) تذييل للكلام السابق، ولذلك جمع الضمير الراجع إلى الصبي ليعقب الحكم الخاص بالعام. ويؤكده فيدخل فيه دخلولا أوليا. وقوله: ((وإنهم لمن ريحان الله)) من باب الرجوع، ذمهم أولا ثم رجع منه إلى المدح.

الفصل الثالث 4692 - عن يعلى، قال: إن حسنا وحسينا رضي الله عنهما استبقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمهما إليه، وقال: ((إن الولد مبخلة مجبنة)).رواه أحمد. [4692] 4693 - وعن عطاء الخرساني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تصافحوا، يذهب الغل، وتهادوا، تحابوا وتذهب الشحناء)) رواه مالك مرسلا. [4693] 4694 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى أربعا قبل الهاجرة، فكأنما صلاهن ليلة القدر، والمسلمان إذا تصافحا لم يبق بينهما ذنب إلا سقط)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4694] الفصل الثالث الحديث الأول عن يعلى: قوله: ((مبخلة مجبنة)) هما هاهنا كنايتان عن المحبة على ما يقتضيه المقام فيكون مدحا، وإن كان في الحديث السابق كناية عن الذم. الحديث الثاني والثالث عن البراء: قوله: ((لم يبق بينهما ذنب)) أي غل وشحناء؛ يدل عليه الحديث السابق فوضع الذنب موضعهما؛ لأنه مسبب عنهما. والفرق بين الغل والشحناء أن الغل هو الحقد، والشحناء العداوة.

(4) باب القيام

(4) باب القيام الفصل الأول 4695 - عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وكان قريبا منه، فجاء على حمار، فلما دنا من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: ((قوموا إلى سيدكم)).متفق عليه. ومضى الحديث في بطوله في ((باب حكم الأسراء)). [4695] باب القيام الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((قوموا إلى سيدكم)) ((تو)):ليس هذا من القيام الذي يراد التعظيم على ما كان يتعاهده الأعاجم في شيء، فكيف يجوز أن يأمر بما صح أنه نهى عنه وعرف منه التنكير فيه إلى آخر العهد؟ وإنما كان سعد بن معاذ رضي الله عنه وجعا؛ لما رمى في أكحله، مخوفا عليه من الحركة حذرا من سيلان العرق بالدم، وقد أتى به يومئذ للحكم الذي سلمت بنو قريظة إليه عند النزول على حكمه، فأمرهم بالقيام إليه ليعينوه على النزول من الحمار ويرفقوا به، حتى لا يصيبه ألم، فلا يضطر إلى حركة ينفجر منه العرق، وكان معنى قوله: ((قوموا إليه)) أي إلى إعانته وإنزاله من المركب، ولو كان يريد به التوقير والتعظيم لقال: ((قوموا لسيدكم)). وما ذكر في قيام النبي صلى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند قدومه عليه، وما روى عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: ما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قام لي أو تحرك، فإن ذلك مما لا يصح الاحتجاج به لضعفه، والمشهور عن عدي: ((إلا وسع لي)) ولو ثبت، فالوجه فيه أن يحمل على الترخيص حيث يقتضيه الحال. وقد كان عكرمة من رؤساء قريش، وعدي كان سيد بني طيء. فرأي تأليفهما بذلك على الإسلام، أو عرف من جانبهما تطلعا عليه على حسب ما يقتضيه حب الرياسة والله أعلم. ((مح)):في الحديث إكرام أهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف بالقيام لهم إذا أقبلوا،

4696 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)) متفق عليه. 4697 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ هكذا احتج بالحديث جماهير العلماء. قال القاضي عياض: ليس هذا من القيام المنهي عنه، إنما ذاك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه. قال الشيخ محيي الدين: هذا القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاءت أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح، وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء، وأجبت فيه عما يوهم النهي عنه. واختلفوا في الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((قوموا إلى سيدكم)) هل هم الأنصار خاصة أم جميع من حضر من المهاجرين معهم؟ أقول: قوله: ليس هذا من القيام الذي يراد به التعظيم، مسلم، لكن لم قلت: إنه كان هذا القيام للتعظيم لا للإكرام؟ قال الشيخ أو حامد: القيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام. وقوله: ((قوموا)) لو كان يريد به التوقير والتعظيم لقال: قوموا لسيدكم، ضعيف؛ لأن ((إلى)) في هذا المقام أفخم من اللام، كأنه قال: قوموا واذهبوا إليه تلقيا وكرامة، يدل عليه ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلة؛ فإن قوله: ((إلى سيدكم)) علة للقيام له، وليس ذلك لكونه شريفا كريما على القدر، وإليه أشار الشيخ محيي الدين بقوله: أو شرف. الحديث الثاني عن ابن عمر: قوله: ((لا يقيم الرجل الرجل)) ((مح)):هذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح من المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها فهو أحق به. وليس لأحد أن ينازعه فيه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فهو أحق به)) ((مح)):قال أصحابنا: هذا حديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلا، ثم فارقه ليعود، بأن فارقه ليتوضأ أو يقضي شغلا يسيرا، لم يبطل اختصاصه به، بل إذا رجع فهو أحق به. وإن قعد فيه غيره فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه. وقال بعضهم: هذا مستحب ولا يجب، والصواب الأول. وإنما يكون أحق به في تلك الصورة وحدها.

الفصل الثاني 4698 - عن أنس ((بن مالك)) قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [4698] 4699 - وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي، وأبو داود. [4699] .. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كراهيته لذلك)) ولعل الكراهية للمحبة والاتحاد الموجب لرفع التكلفة والحشمة، يدل على قوله: ((لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛قال الشيخ أبو حامد: مهما تم الاتحاد خفت الحقوق فيما بينهم مثل القيام والاعتذار والثناء؛ فإنها وإن كانت من حقوق الصحبة لكن في ضمنها نوع من الأجنبية والتكلف. فإذا تم الاتحاد، انطوى بساط التكلف بالكلية، فلا يسلك به إلا مسلك نفسه؛ لأن هذه الآداب الظاهرة عنوان الآداب الباطنة وصفاء القلب، ومهما صفت القلوب استغنى عن تكلف إظهار ما فيها. فالحاصل أن القيام وتركه بحسب الأزمان والأحوال والأشخاص. الحديث الثاني عن معاوية: قوله: ((أن يتمثل)) ((فا)):المثول الانتصاب، ومنه: فلان متماثل ومتماسك بمعنى تماثل المريض. وقالوا: الماثل من الأضداد يكون المنتصب واللاطئ بالأرض. وقوله: ((فليتبوأ)) لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، كأنه قال: من سره ذلك وجب له أن ينزل منزلة من النار وحق له ذلك. أقول: ((قياما)) يجوز أن يكون مفعولا مطلقا لما في الانتصاب من معنى القيام، وأن يكون تمييزا لاشتراك المثول بين المعنيين. روى البيهقي في شعب الإيمان عن الخطابي في معنى الحديث: هو أن يأمرهم بذلك ويلزمه إياهم على مذهب الكبر والنخوة. قال: وفي حديث سعد دلالة على أن قيام المرء بين يدي الرئيس الفاضل، والوالي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه. قال البيهقي: هذا قيام يكون على وجه البر والإكرام، كما كان قيام الأنصار لسعد وقيام طلحة لكعب بن مالك. ولا ينبغي للذي قام له أن يريد ذلك من صاحبه حتى إن لم يفعل حنق عليه أو شكاه أو عاتبه.

4700 - وعن أبي أمامة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على عصا، فقمنا له فقال: ((لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضها بعض)).رواه أبو داود. [4700] 4701 - وعن سعيد بن أبي الحسن، قال: جاءنا أبو بكرة في شهادة فقام له رجل من مجلسه، فأبى أن يجلس فيه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسج الرجل يده بثوب من لم يكسه. رواه أبو داود. [4701] 4702 - وعن أبي الدرداء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس- جلسنا حوله- فقام، فأراد الرجوع، نزع نعله أو بعض ما يكون عليه، فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون. رواه أبو داود. [4702] 4703 - وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)) رواه الترمذي وأبو داود. [4703] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)):عن أبي مخلد أن معاوية رضي الله عنه خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهماجالسان، فقام ابن عامر وقعد ابن الزبير فقال معاوية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يتمثل له عباد الله قياما فليتبوأ مقعده من النار)). الحديث الثالث والرابع عن سعيد: قوله: ((في شهادة)) ((مظ)):أي في أداء شهادة كانت عنده. وقوله: ((عن ذا)) أي أن يقوم أحد ليجلس غيره في مجلسه. وقوله: ((أن يمسح)) معناه إذا كانت يدك ملطخة بطعام فلا تمسح يدك بثوب أجنبي، ولكن بإزار غلامك أو ابنك؛ أو غيرهما ممن ألبسته الثوب. أقول: لعل المراد بالثوب الإزار والمنديل ونحوهما، فلما أطلق عليه لفظ الثوب، عقبه بالكسوة مناسبة للمعنى، نهى أن يمسح يده بمنديل أجنبي، فيمسح بمنديل نفسه أو منديل وهبه من غلامه أو ابنه. الحديث الخامس إلى السابع عن أبي الدرداء: قوله: ((نزع نعله)) أي تركه هناك ولعله يمشي حافيا إلى حجرة عائشة رضي الله عنها. وقوله: ((فقام)) عطف على ((جلس)) و ((نزع)) جواب الشرط.

(5) باب الجلوس والنوم والمشي

4704 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجلس بين رجلين إلا بإذنهما)) رواه أبو داود. [4704] الفصل الثالث 4705 - وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجسد يحدثنا، فإذا قمنا قياما حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه. [4705] 4706 - وعن واثلة بن الخطاب، قال: دخل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قاعد، فتزحزح له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الرجل: يا رسول الله! إن في المكان سعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن للمسلم لحقا إذا رأه أخوه أن يتزحزح له)) رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)) [4706] (5) باب الجلوس والنوم والمشي الفصل الأول 4707 - عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا بيديه. رواه البخاري. 4708 - وعن عباد بن تميم، عن عمه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيا واضعا إحدى قدميه على الأخرى. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن واثلة: قوله: ((فتزحزح)) أي تنحى عن مكان هو فيه. وقوله: ((أن يتزحزح)) بيان ((لحقا)) أو بدل. وفيه استحباب إكرام الداخل وإجلاسه بصدر المجلس. والله أعلم. باب الجلوس والنوم والمشي الفصل الأول الحديث الأول إلى الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وهو مستلق)) ((مظ)):وجه الجمع

4809 وعن جابر، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره. رواه مسلم. 4710 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى)).رواه مسلم. 4711 - وعن أبي هريرة ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه، خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) متفق عليه. الفصل الثاني 4712 - عن جابر بن سمرة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على وسادة على يساره. رواه الترمذي. [4712] بين حديث عباد بن تميم وجابر، أن وضع إحدى الرجلين على الأخرى قد يكون على النوعين: أن تكون رجلاه ممدوتين إحداهما فوق الأخرى ولا بأس بهذا؛ فإنه لا ينكشف شيء من عورته بهذه الهيئة، وأن يكون ناصبا ركبة إحدى الرجلين ويضع الرجل الأخرى على الركبة المنصوبة. وعلى هذا، فإن أمن انكشاف العورة بأن يكون عليه سراويل أو يكون إزاره أو ذيله طويلين جاز وإلا فلا. ((مح)):يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأن النهي الذي نهيتكم عنه ليس على الإطلاق، بل المراد به الاجتناب عن كشف العورة، وفيه جواز الاستلقاء في المسجد. قال القاضي عياض: لعله صلى الله عليه وسلم فعله لضرورة من تعب أو طلب راحة، وإلا فقد علم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم في المجامع على خلاف ذلك. بل كان يجلس متربعا على الوقار والتواضع. الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يتجلجل)) ((نه)):أي يغوص في الأرض حتى يخسف به، والجلجلة حركة مع صوت. ((مح)):يحتمل أن هذا الرجل من هذه الأمة، وأنه إخبار عمن قبله كما مر في كتاب اللباس. الفصل الثاني الحديث الأول إلى الثالث عن قيلة: قوله: ((القرفصاء)) الجوهري: القرفصاء ضرب من القعود

4713 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في مجلس احتبى بيديه. [4713] 4714 - وعن قيلة بنت مخرمة، أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء. قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع أرعدت من الفرق. رواه أبو داود. [4714] 4715 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء. رواه أبو داود. [4715] ـــــــــــــــــــــــــــــ يمد ويقصر. فإذا قلت: قعد القرفصاء فكأنك قلت: قعودا مخصوصا، وهو أن يجلس على إليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبى بيديه يضعهما على ساقيه. وقيل: أن يجلس على ركبتيه متكئا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه. ((تو)): ((المتخشع)) يجوز أن يكون نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون مفعولا ثانيا ويكون التقدير: الرجل المتخشع. ((قض)):المتخشع صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يجعل ثاني مفعولي ((رأيت))؛لأنه ها هنا بمعنى أبصرت. أقول: سلك الشيخ التوربشتي مسلك التجريد، جرد من ذاته الزكية الرجل المتخشع وجعله شخصا آخر، وهو مبالغة لكمال التخشع فيه وإلقاء رداء الهيبة عليه؛ ومن ثم قالت: ((أرعدت من الفرق)).ونحوه قوله تعالى:} فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان {الكشاف: قرأ عبيد بن عمير ((وردة)) بالرفع بمعنى: فحصلت سماء وردة وهو من الكلام الذي يسمى التجريد كقوله: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم والتفعل هنا ليس للتكلف بل هو لزيادة المعنى، والمبالغة فيه كما في أسماء الله تعالى من نحو المتكبر. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((حسناء)) ((قض)):قيل: الصواب ((حسنا)) على

4716 - وعن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عرس بالليل اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه. رواه في ((شرح السنة)). [4716] 4717 - وعن بعض آل من أم سلمة، قال: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو مما يوضع في قبره، وكان المسجد عند رأسه. رواه أبو داود. [4717] 4718 - وعن أبي هريرة، قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مضطجعا على بطنه، فقال: ((إن هذه ضجعة لا يحبها الله)) رواه الترمذي. [4718] 4719 - وعن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري، عن أبيه- وكان من أصحاب ـــــــــــــــــــــــــــــ المصدر أي طلوعا حسنا. معناه أنه كان يجلس متربعا في مجلسه إلى أن ترتفع الشمس. وفي أكثر النسخ ((حسناء)) فعلى هذا يحتمل أن يكون صفة لمصدر محذوف، والمعنى ما سبق، أو حالا والمعنى: حتى تطلع الشمس نقيو بيضاء زائلة عنها الصفرة التي يتخيل فيها عند الطلوع بسبب ما يتعرض دونها على الأفق من الأبخرة والأدخنة. الحديث الخامس عن أبي قتادة: قوله: ((إذا عرس)) ((نه)):التعريس نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. يقال منه: عرس يعرس تعريسا ويقال فيه أعرس، والمعرس موضع التعريس. قوله: ((نصب ذراعيه)) هذا القيد مشعر بأن تعريسه بالليل لم يكن على هذه الهيئة. وقد روى صاحب النهاية أنه كان إذا عرس بليل توسد لبنة، وإذا عرس عند الصبح نصب ساعده نصبا ووضع رأسه على كفه. ولعل ذلك ((لئلا يتمكن من النوم)) فتفوته صلاة الفجر. الحديث السادس عن بعض آل أم سلمة: قوله: ((نحو)) خبر ((كان)) وقيل: ((مما)) بيان لمحذوف أي مثل شيء مما يوضع في قبره، وقد وضع في قبره قطيفة حمراء، أي كان فراشه للنوم نحوها. وقوله: ((كان المسجد عن رأسه)) أي كان صلى الله عليه وسلم إذا نام يكون رأسه إلى جانب المسجد. الحديث السابع عن يعيش: قوله: ((من السحر)) أي من داء السحر وهو الرئة. وقيل: ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن.

الصفة- قال: بينما أنا مضطجع من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله فقال: ((إن هذه ضجعة يبغضها الله)) فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود، وابن ماجه. [4719] 4720 - وعن علي بن شيبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب- وفي رواية: حجار- برئت منه الذمة)) رواه أبو داود. وفي ((معالم السنن)) للخطابي ((حجي)). [4720] 4721 - وعن جابر، قال: نهى رسول الله صلى اله عليه وسلم، أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه. رواه الترمذي. [4721] الحديث الثامن عن علي رضي الله عنه: قوله: ((حجاب)) ((نه)):حجاب هكذا رواه الخطابي في معالم السنن. وقال: إنه يروي بكسر الحاء وفتحها، ومعناه فيهما الستر. فمن قال بالكسر شبهه بالحجي العقل؛ لأن العقل يمنع الإنسان من الفساد ويحفظه من التعرض للهلاك، فشبه الستر الذي يكون على السطح المانع للإنسان من التردي والسقوط، بالعقل المانع له من أفعال السوء المؤدية إلى الردى. ومن رواه بالفتح فقد ذهب إلى الناحية والطرف، وأحجاء الشيء نواحيه واحدها حجي. وذكر في جامع الأصول: الذي قرأته في كتاب أبي داود ((وليس عليه حجاب)).وفي نسخة أخرى ((حجار)).أما الحجاب بالباء فهو الذي يحجب الإنسان عن الوقوع. وبالراء يجوز أن يكون جمع حجر وهو ما حجر به من حائط. وذلك أيضا ما يمنع النائم على السطح من السقوط ويعضد رواية الراء الحديث الذي يليه: ((ليس بمحجور عليه)). قوله: ((قد برئت منه الذمة)) ((قض)):معناه من نام على سطح لا سترة له فقد تصدى للهلاك وأزال العصمة عن نفسه، وصار كالمهدر الذي لا ذمة له، فلعله ينقلب في نومه فيسقط ويموت مهدرا. وأيضا فإن لكل من الناس عهدا من الله تعالى بالحفظ والكلاءة، فإذا القى بيده إلى التهلكة انقطع عهده. الحديث التاسع والعاشر عن حذيفة: قوله: ((ملعون على لسان محمد)) ((حس)):لعن من

4722 - وعن حذيفة، قال: ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة. رواه الترمذي، وأبو داود. [4722] 4723 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير المجالس أوسعها)) رواه أبو داود. [4723] 4724 - وعن جابر بن سمرة، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس، فقال: ((ما لي أراكم عزيم؟)) رواه أبو داود. [4724] 4725 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه الظل، فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل، فليقم)) رواه أبو داود. [4725] 4726 - وفي ((شرح السنة)) عنه قال: ((إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه فليقم؛ فإنه مجلس الشيطان)) هكذا رواه معمر موقوفا. ـــــــــــــــــــــــــــــ جلس وسط الحلقة وهذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس. والثاني: أن يقعد وسط الحلقة فيحول بين الوجوه ويحجب بعضهم عن بعض فيتضررون به. ((تو)):المراد منه والله أعلم الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة بين الناس، ومن يجري مجراه من المتأكلين بالسمعة والشعوذة. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عزين)) ((حس)):قال سفيان: يعني حلقا، قال: وروى يحي بن الأعمش فقال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال: ((ما لي أراكم عزين)) أي متفرقين مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد. وواحد العزين عزة كما يقال ((ثبة)) ثبوت وثبات، وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله: ((فقلص عنه)) قلص عنه الظل إذا ارتفع، وقلص الماء في البئر إذا ارتفع. قوله: ((موقوفا)) ((تو)):الأصل فيه الرفع وإن لم يرو مرفوعا؛ لأن الصحابي لا يقدم على التحدث بالأمور الغيبية إلا من قبل الرسول صلوات الله

4727 - وعن أبي أسيد الأنصاري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال للنساء: ((استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق)).فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار. رواه أبو داود. والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4727] 4728 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمشي- يعني الرجل- بين المرأتين. رواه أبو داود. [4728] 4729 - وعن جابر بن سمرة، قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي. رواه أبو داود. [4729] وذكر حديث عبد الله بن عمرو في ((باب القيام)). وسنذكر حديث علي وأبي هريرة في ((باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته)) إن شاء الله تعالى. الفصل الثالث 4730 - عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه، لا سيما وقد وردت به بعض الروايات من غير هذا الوجه عنه صلى الله عليه وسلم. والحق الأبلج فيه وفي أمثاله التسليم لنبي الله صلى الله عليه وسلم في مقاله؛ فإنه يعلم ما لا يعلم غيره ويرى ما لا يرى غيره. الحديث الرابع عشر إلى السادس عشر عن أبي أسيد: قوله: ((فاختلط)) مسبب عن محذوف هو القول، أي يقول: كيت وكيت، فاختلط الرجال مع النساء، فقال للنساء .... إلى آخره. فالفاء في ((فاختلط)) مسبب عن قوله: ((يقول)) وفي ((فقال)) عن ((اختلط)).وقوله: ((أن تحققن)) ((نه)):أي أن تركبن حقها وهو وسطها. يقال: سقط على حاق القفار وحقه. والحاقة الناحية، وعينها واو بدليل قولهم في تصغيرها حويقة. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عمرو: قوله: ((على ألية يدي)) الألية اللحمة التي في أصل

(6) باب العطس والتثاؤب

جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي. قال: ((أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟)) رواه أبو داود. [4730] 4731 - وعن أبي ذر، قال: مر بي الني صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع على بطني فركضني برجله وقال: ((يا جندب! إنما هي ضجعة أهل النار)) رواه ابن ماجه. [4731] (6) باب العطس والتثاؤب الفصل الأول 4732 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله. فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: ((فإن أحدكم إذا قال: ها؛ ضحك الشيطان منه)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الإبهام. والمراد بالمغضوب عليهم اليهود، وفي التخصيص بالذكر فائدتان: إحداهما: أن هذه القعدة مما يبغضه الله تعالى، وأن المسلم ممن أنعم الله عليه، فينبغي أن يجتنب التشبه بمن غضب الله عليه ولعنه. باب العطس والتثاؤب ((مح)):وقع في بعض النسخ تثاءب بالمد وفي أكثرها تثاوب بالواو. قال القاضي عياض: قال ثابت: لا يقال تثاءب بالمد مخففا بل تثأب بتشديد الهمزة. قال ابن دريد: أصله من تثأب الرجل بالتشديد فهو مثوب إذا استرخى وكسل. وقال الجوهري: يقال: تثاءبت بالمد مخففا على تفاعلت، ولا يقال: تثاوبت والاسم منه الثوباء ممدودة. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ويكره التثاؤب)) ((قض)):التثاؤب

4733 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمدلله، وليقل له أخوه- أو صاحبه-:يرحمك الله. فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم)) رواه البخاري. 4734 - وعن أنس، قال: عطس رجلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر. فقال الرجل: يا رسول الله! شمت هذا ولم تشمتني قال: ((إن هذا حمد الله، ولم تحمد الله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ بالهمزة التنفس الذي ينفتح منه الفم، وهو إنما ينشأ من الامتلاء وثقل النفس وكدورة الحواس ويورث الغفلة والكسل وسوء الفهم، ولذلك كرهه الله تعالى وأحبه الشيطان وضحك منه. والعطاس لما كان سببا لخفة الدماغ واستفراغ الفضلات عنه وصفاء الروح وتقوية الحواس كان أمره بالعكس. ((خط)):صار العطاس محمودا؛ لأنه يعين على الطاعات، والتثاؤب مذموما؛ لأنه يثنيه عن الخيرات فالمحبة والكراهة تنصرف إلى الأسباب الجالبة لهما. وإنما أضيف إلى الشيطان؛ لأنه هو الذي يريد للنفوس شهوتها، فإذا قيدها يعني إذا بالغ في التثاؤب ضحك الشيطان فرحا بذلك. وقيل: ما تثاءب نبي قط. قوله: ((سمعه)) ((حس)):فيه دليل على أنه ينبغي أن يرفع صوته بالتحميد حتى يسمع من عنده ويستحق التشميت. قوله: ((وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان)) هذا القيد يؤذن بأن العطاس من الله تعالى وهو نعمة سنية؛ لأنها المؤدية إلى الطاعات، فتستدعي الحمد عليها وعلى من سمع إرشاده إلى ما يزلفه إلى رحمة الله تعالى من الطاعات. وعليه أن يكافئه بالدعاء بالهداية وإصلاح شأنه وحاله بالتوفيق في أمور الدين والدنيا. ((مح)): اتفقوا على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقيب عطاسه: الحمدلله، فلو زاد ((رب العالمين)) لكان أحسن. ولو قال: الحمدلله على كل حال كان أفضل. ويستحب للسامع أن يقول له: يرحمك الله أو رحمك الله أو رحمكم الله أو يرحمكم الله. وللعاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم أو يغفر الله لنا ولكم. وقول السامع: يرحمك الله سنة على الكفاية، لو قاله بعض الحاضرين أجزأ عنهم، ولكن الأفضل أن يقول كل واحد منهم لظاهر قوله: ((كان حقا على كل مسلم سمعه)).هذا على مذهب الشافعي، ومذهب مالك في التشميت اختلاف في أنه واجب أو سنة. انتهى كلامه. فمن نظر إلى ظاهر قوله: ((حقا)) أوجبه. ومن جعله من جملة ما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست)) جعله سنة.

4735 - وعن أبي موسى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه)) رواه مسلم. 4736 - وعن سلمة بن الأكوع، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده، فقال له: ((يرحمك الله)) ثم عطس أخرى، فقال: ((الرجل مزكوم)) رواه مسلم وفي رواية للترمذي أنه قال له في الثالثة: ((إنه مزكوم)). 4737 - وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلى الرابع عن أبي موسى قوله: ((فشمتوه)) ((قض)):تشميت العاطس أن يقال له: يرحمك الله. وكان أصله إزالة الشماتة فاستعمل للدعاء بالخير لتضمنه ذلك. ((حس)):فيه بيان بأن العاطس إذا لم يحمد الله لا يستحق التشميت. قال المحكول: كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد، فقال: يرحمك الله إن كنت قد حمدت الله. فقال الشعبي: إذا سمعت الرجل يعطس من وراء جدار فحمد الله فشمته. وقيل: قال إبراهيم: إذا عطست فحمدت الله وليس عندك أحد فقل: يغفر الله لي ولكم؛ فإنه يشمتك من سمعك. الحديث الخامس والسادس عن سلمة: قوله: ((فقال)) الظاهر أن يقال: ((يقول له))؛لأنه حال النبي صلى الله عليه وسلم، الكشاف في قوله تعالى:} إننا سمعنا مناديا ينادي {.تقول: سمعت زيدا يتكلم فتوقع الفعل عليه، وتحذف المسموع وتجعله حالا له فأغناك عن ذكره. فإذا مقتضى الكلام أن يقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم فشمته فقال ..... فلا إشكال حينئذ. قوله: ((إنه مزكوم)) كذا في نسخ المصابيح، وفي جامع الأصول عن الترمذي: أنت مزكوم. ((مح)):يعني أنك لست ممن يشمت بعد هذا؛ لأن هذا الذي بك مرض. فإن قيل: فإذا كان مريضا فكان ينبغي أن يدعي له؛ لأنه أحق بالدعاء من غيره. فالجواب أن يستحب أن يدعي له لكن غير دعاء العاطس، بل دعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ونحو ذلك. ولا يكون من باب التشميت.

الفصل الثاني 4738 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو ثوبه، وغض بها صوته. رواه الترمذي، وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [4738] 4739 - وعن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمدلله على كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم)) رواه الترمذي، والدرامي. [4739] 4740 - وعن أبي موسى، قال: كان اليهود يتعاطسون عن النبي صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول لهم: ((يهديكم الله ويصلح بالكم)) رواه الترمذي، وأبو داود. [4740] 4741 - وعن هلال بن يساف، قال: كنا مع سالم بن عبيد، فعطس رجل من القوم، فقال: السلام عليكم. فقال له سالم: وعليك وعلى أمك. فكأن الرجل وجد في نفسه، فقال: أما إني لم أقل إلا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((غطى وجهه)) ((تو)):هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء وذلك؛ لأن العاطس لا يأمن عند العطاس ما يكرهه الراؤون من فضلات الدماغ. ((نه)):غض صوته أي خفضه ولم يرفعه بصيحة. الحديث الثاني والثالث عن أبي موسى: قوله: ((يرجون)) لعل هؤلاء هم الذين عرفوه حق معرفته، لكن منعهم عن الإسلام إما التقاليد وإما حب الرياسة، وعرفوا أن ذلك مذموم فتحروا أن يهديهم الله تعالى ويزيل عنهم ذلك ببركة دعائع صلوات الله عليه. الحديث الرابع إلى السادس عن هلال قوله: ((وجد في نفسه)) أي حزن. الجوهري: وجد

فقال: السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليك وعلى أمك، إذا عطس أحدكم فليقل: الحمدلله رب العالمين، وليقل له من يرد عليه: يرحمك الله وليقل يغفر الله لي ولكم)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4741] 4742 - وعن عبيد بن رفاعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((شمت العاطس ثلاثا فإن زاد فشمته، وإن شئت فلا)) رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 4743 - وعن أبي هريرة، قال: ((شمت أخاك ثلاثا، فإن زاد فهو زكام)) رواه أبو داود، وقال: لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [4743] الفصل الثالث 4744 - (13) عن نافع: أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر، فقال: الحمدلله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: وأنا أقول: الحمدلله والسلام على رسول الله، وليس هكذا. علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: الحمدلله على كل حال. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه في الغضب موجدة ووجدانا أيضا، ووجد في الحزن وجدانا بالفتح. وفي الحديث إذا حمل على الغضب قيل: وجد عليه في نفسه أي لم يظهر الغضب وكظم الغيظ. وإذا حمل على الحزن أي أوقع الحزن في نفسه. ((تو)):نبه بقوله: ((عليك وعلى أمك)) على بلاهته وبلاهة أمه وأنها كانت محمقة فصار مفتقرين إلى السلام، فيسلمان به من الآفات. ((مح)):إذا قال العاطس لفظا آخر غير الحمد لله لم يستحق التشميت. الفصل الثالث الحديث الأول عن نافع: قوله: ((إلى جنب ابن عمر)) أي منهيا جلوسه إلى جنبه. قوله: ((وأنا أقول)) معناه: أنا أقول كما تقول، والحال أنه ليس كذلك؛ لأن شأن العاطس أن يقول: ((الحمدلله)) كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) مستأنف دال على المقدر فهو من باب الرجوع إلى ما هو أحق وأحرى، على طريق إرخاء العنان والتساهل والاجتناب عن التفحش، خلافا لقول سالم: وعليك وعلى أمك، كما مر في الحديث السابق. فإن قلت:

(7) باب الضحك

(7) باب الضحك الفصل الأول 4745 - عن عائشة ((رضي الله عنها))،قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم. رواه البخاري .. 4746 - وعن جرير، قال: ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم. متفق عليه. 4747 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويبتسم صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: يتناشدون الشعر. ـــــــــــــــــــــــــــــ لم زجر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هلال إذا عطس الرجل وقال: السلام عليكم، وسمى أمه على سبيل الفظاظة وهو جدير بالرفق؟ قلت: لعله قد سمع منه مرارا التشميت وعدل منه إلى ذلك؛ فلهذا زجره وما كان من ابن عمر ابتداء تعليم وارشاد. باب الضحك الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها، قوله: ((مستجمعا)) المغرب: استجمع السيل، اجتمع من كل موضع. واستجمعت للمرء أموره، وأجمع له ما يحبه. وهو لازم، كما ترى. وقولهم: استجمع الفرس جريا، نصب على التمييز. وأما قول الفقهاء: مستجمعا شرائط الجمعة، فليس يثبت. انتهى كلامه. فعلى هذا ((ضاحكا)) نصب على التمييز، وإن كان مشتقا، كقولهم: لله دره فارسا، أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك، يعني ما رأيته يضحك تاما مقبلا بكليته على الضحك. و ((اللهوات)) جمع لهاة، وهي اللحمات في سقف أقصى الفم. الحديث الثاني والثالث عن جابر رضي الله عنه قوله: ((لا يقوم من مصلاه)) مح: فيه استحباب الذكر بعد الصبح، وملازمة مجلسها، ما لم يكن عذر. قال القاضي عياض: وكان السلف يواظبون على هذه السنة، ويقتصرون في ذلك على الذكر والدعاء حتى تطلع الشمس. وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية، وغيرها من الأمم، وجواز الضحك. والاقتصار على التبسم.

الفصل الثاني 4748 - عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي. [4748] الفصل الثالث 4749 - عن قتادة، قال: سئل ابن عمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل. وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا. رواه في ((شرح السنة)). [4749] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني والثالث الحديث الأول عن قتادة، قوله: ((نعم، والإيمان)) هو من باب الرجوع، والقول بالموجب، أي نعم كانوا يضحكون، لكن لا يتجاوزون إلى ما يميت قلوبهم، ويتزلزل به إيمانهم من كثرة الضحك، كما ورد: إن كثرة الضحك تميت القلب، نحو قوله تعالى:} ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين {كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. قوله: ((يشتدون)) أي يعدون، والشد العدو. و ((الغرض)) هنا الهدف، ومعناه: أنهم كانوا يعدون بين الغرضين، ويضحك بعضهم إلى بعض. وهذا التأويل موافق لما في النهاية، في حديث عقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت شيخ كبير. وضمن الضحك معنى السخرية، وعداه بإلى، كقوله تعالى:} وإذا خلوا إلى شياطينهم {. قوله: ((رهبانا)) ((نه)) الرهبان بضم الراء جمع راهب، كركبان وراكب. ((نه)):وقد يقع على الواحد، ويجمع على رهابين. والرهبان من ترك الدنيا، وزهد فيها، وتخلى عنها، وعزل عن أهلها، وتعمد مشاقها.

(8) باب الأسامي

(8) باب الأسامي الفصل الأول 4750 - عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم؛ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما دعوت هذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الأسامي الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن جابر: قوله: ((ولا تكتتنوا بكنيتي)) اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أنه لا يحل التكني بأبي القاسم أصلا، سواء كان اسمه محمد أو أحمد أو لم يكن له اسم لظاهر هذا الحديث. وذلك أنه لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى بأبا القاسم؛ لأنه يقسم بين الناس من قبل الله تعالى ما يوحى إليه ويتنزل عليه؛ وينزلهم منازلهم التي يستحقونها في الشرف والفضل وقسم الغنائم. ولم يكن أحد منهم يشاركه في هذا المعنى، منع أن يكنى به غيره بهذا المعنى، وهو مذهب الشافعي وأهل الظاهر. ((قض)):هذا إذا أريد به المعنى المذكور، أما لو كني به أحد للنسبة إلى ابن له اسمه قاسم، أو للعلمية المجردة جاز. ويدل عليه التعليل المذكور للنهي. وثانيها: أن هذا الحكم كان في بدء الأمر ثم نسخ، فيباح التكني اليوم بأبى القاسم لكل أحد، سواء فيه من اسمه محمد أو غيره، وعلته التباس خطابه بخطاب غيره. ودل عليه نهيه في حديث أنس عقيب ما سمع رجلا يقول: يا أبا القاسم؛ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما دعوت هذا ... وما روي في الفصل الثاني عن علي رضي الله عنه: ((أنه قال: يا رسول الله؛ إن ولد لي بعدك ولد أسميه محمدا وأكنيه بكنيتك، قال: ((نعم))،هذا مذهب مالك، وبه قال القاضي عياض، وبه قال جمهور السلف، وفقهاء الأمصار. وثالثهما: أنه ليس بمنسوخ، وإنما كان النهي للتنزيه والأدب لا للتحريم، وهو مذهب جرير. ورابعهما: أن النهي للجمع ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمى بواحد من الاسمين. ويدل عليه ما روى عن أبي هريرة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أحد بين اسمه وكنيته)) ونظيره قوله: ((لا تشرب اللبن وتأكل السمك)) أي حين شربه فيكون النهي عن الجمع بينهما وهو مذهب جماعة من السلف.

4751 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم)).متفق عليه. 4752 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، عبد الرحمن)) رواه مسلم. 4753 - وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسمين غلامك؛ يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقول: لا)) رواه مسلم. وفي رواية له، قال: ((لا تسم غلامك رباحا، ولا يسارا، ولا أفلح، ولا نافعا)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وخامسها: أنه نهى عن التكني بأبي القاسم مطلقا. وأراد المقيد وهو نهي عن التسمية بالقاسم. وقد غير مروان بن الحكم اسم ابنه حين بلغه هذا الحديث فسماه عبد الملك. وكان اسمه القاسم، وكذا عن بعض الأنصار. وسادسها: أن التسمية بمحمد ممنوعة مطلقا. وجاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ((تسمون أولادكم بمحمد ثم تلعنونهم)) وكتب عمر إلى الكوفة: لا تسموا أحدا باسم النبي صلى الله عليه وسلم وسببه أنه سمع رجلا يقول لمحمد بن يزيد بن الخطاب: فعل الله بك يا محمد؛ فدعاه عمر رضي الله عنه فقال: ((أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك؛ والله لا تدعى محمد ما بقيت. وسماه عبد الرحمن. وهذا أكثره من كلام الشيخ محيي الدين النواوي. وقال أيضا: أجمعوا على جواز التسمية الأنبياء إلا ما قدمناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكره مالك التسمي بأسماء الملائكة كجبريل. الحديث الثالث عن سمرة: قوله: ((لا تسمين)) ((مح)):قال أصحابنا: يكره التسمي بالأسماء المذكورة في الحديث وما في معناها، وهي كراهة تنزيه لا تحريم. والعلة فيها ما نبه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أثم هو؟)) فيقول: ((لا)) فكره لشناعة الجواب. ((حس)):معنى هذا أن الناس يقصدون بهذه الأسماء التفاؤل لحسن ألفاظها ومعانيها. وربما ينقلب عليهم ما قصدوه إلى الضد وسألوا، فقالوا: أثم يسارا أو نجيح؟ فقيل: ((لا)) فيتطيروا بنفيه، وأضمروا اليأس من اليسر وغيره، فنهاهم عن السبب الذي يجلب سوء الظن والإياس من الخير، قال حميد بن زنجويه: فإذا ابتلى رجل في نفسه أو أهله ببعض هذه الأسماء فليحوله إلى غيره، فإن لم يفعل وقيل: أثم أو بركة؟ فإن من الأدب أن يقال: كل ما هنا يسر وبركة والحمدلله، ويوشك أن يأتي الذي تريده. ولا يقال: ((ليس هنا)) ولا ((خرج)).والله أعلم.

4754 - وعن جابر، قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وبنحو ذلك. ثم سكت بعد عنها، ثم قبض ولم ينه عن ذلك، رواه مسلم. 4755 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك)) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم، قال: ((أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن جابر: قوله: ((أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي)) كأنه لما رأي أمارات وسمع ما يشعر بالنهي لم يقف على النهي صريحا قال ذلك، وقد نهاه صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق لسمرة وشهادة الإثبات أثبت. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أخنى الأسماء)) قال في أساس البلاغة: الخنى الفحش، وقد خنى عليه في كلامه أفحش عليه. ومن المجاز أخنى عليهم الدهر، بلغ منهم بشدائده وأهلكهم، وأصابهم خنى الدهر. قال لبيد: فإن هجدنا فقد طال السرى وقدرنا أن خنى الدهر غفل أقول: لابد في الحديث من الحمل على المجاز؛ لأن التقييد بيوم القيامة مع أن حكمه في الدنيا كذلك؛ للإشعار بترتب ما هو مسبب عنه من إنزال الهوان وحلول العذاب. والرواية الأخرى لمسلم: أخنع اسم عند الله)). قال الشيخ محيي الدين: سأل أحمد بن حنبل أبا عمرو عن ((أخنع)) فقال: أوضع، المعنى: أشد ذلا وصغارا يوم القيامة. وقال أبو عبيد: معنى أخنع: أي أقتل. والخنع القتل الشديد. انتهى كلامه. وقوله: ((رجل يسمى)) خبر ((أخنى)) ولابد من التأويل ليطابق الخبر المبتدأ وهو على وجهين: أحدهما: أن يقدر مضاف في الخبر أي: اسم رجل. وثانيهما: أن يراد بالاسم المسمى مجازا، أي أخنى الرجال رجل، كقوله تعالى:} سبح اسم ربك الأعلى {.وفيه من المبالغة أنه إذا قدس اسمه عما لا يليق بذاته فكأن ذاته بالتقديس أولى. وهذا إذا كان الاسم محكوما عليه بالهوان والصغار، فكيف بالمسمى، وإذا كان حكم المسمى ذلك فكيف بالمسمى، هذا إذا رضي المسمى بذلك الاسم واستمر عليه ولم يبدله. وهذا التأويل أبلغ من الأول وأولى؛ لأنه موافق لرواية مسلم: ((أغيظ رجل)).

قوله: ((أغيظ الرجل)) ((قض)):أي أكثر من يغضب عليه غضبا، اسم تفضيل بني للمفعول كـ ((ألوم)) أضافه إلى المفرد على إرادة الجنس والاستغراق فيه. أقول: و ((علي)) ليست بصلة لـ ((أغيظ)) كما يقال: اغتاظ على صاحبه ويغيظ عليه وهو مغيظ محنق؛ لأن المعنى يأباه كما لا يخفي. ولكن بيان، كأنه لما قيل: أغيظ رجل، قيل: على من؟ قيل: على الله تعالى، كقوله تعالى:} هيت لك {.فإن ((لك)) بيان لاسم الصوت. ((نه)):هذا مجاز الكلام المعدول عن ظاهره، فإن الغيظ صفة تعتري المخلوق، عند احتداده يتحرك لها. والله تعالى يتعالى عن ذلك وإنما هو كناية عن عقوبته للمسمى بهذا الاسم، أي أنه أشد أصحاب هذه الأسماء عقوبة عند الله تعالى. أقول: إن الغيظ والغضب من الأعراض النفسانية لها بدايات وغايات. فإذا وصف الله تعالى بها، يتعين حملها على الغايات من الانتقام بإنزال الهوان وحلول العقاب، لا على بداياتها من التغيير النفساني، فعلى هذا في ((على)) معنى الوجوب أي واجب على الله تعالى على سبيل الوعيد أن يغيظ عليه وينكل به ويعذبه أشد العذاب. قوله: ((ملك الأملاك)) ((مح)):زاد ابن أبي شيبة في روايته ((لا مالك إلا الله تعالى)) قال سفيان: مثل شاهنشاه. قال القاضي عياض: وقع في رواية ((شاه شاه)).قال: وزعم بعضهم أن الأصوب شاه شاهان. قال القاضي: فلا ينكر مجيء ما جاءت به الرواية؛ لأن كلام العجم مبني على التقديم والتأخير في المضاف والمضاف إليه انتهى كلامه. فيتغير الاعتبار بكون المعنى شاهان شاه. ثم قال القاضي عياض: ومنه قولهم: شاه ملك وشاهان الملوك وكذا ما يقولون: قاضي القضاة. أي يتسمى باسم الله عزوجل كقوله: ((الرحمن الجبار العزيز)). ((حس)):والذي قاله سفيان أشبه وكل له وجه. أقول: تأويل الوجه الثاني هو أن يقال: معنى قوله: ((يسمى ملك الأملاك)) أي يسمى باسم من له الوصف وهو الله تعالى ونظيره قوله تعالى:} ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {.إلى آخر الآيات الثلاثة. وليس هذا من مقول الكفار وجوابهم، بل جوابهم: ((الله)) فحسب، يعني أنك إذا سألت الكفار: من خلق السموات والأرض؟ ينسبون الخلق إلى من هذه صفاته وهو الله تعالى. ولو شئت قلت: هذه الوجه أبلغ؛ لأنه من باب الكناية؛ فإنهم يكنون بأخص الأوصاف

4756 - وعن زينب بنت أبي سلمة، قال: سميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، سموها زينب)) رواه مسلم. 4757 - وعن ابن عباس، قال: كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة. رواه مسلم. 4758 - وعن ابن عمر، أن بنتا لعمر يقال لها: عاصية، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الرجل عن ذاته والمسمى به، وتنزيله على ما نحن بصدده أن يقال: إن هذا الوصف بلغ في الشهرة وعدم الإلباس بحيث ساوى الموصوف. فإذا أطلق لم يتبادر إلى الذهن غيره ولو احتمل الغير لبطلت المساواة. وأيضا إذا لم يجز أن يسمى مدلول ملك الأملاك كالرحمن والجبار، فلأن لا يجوز بالدال أولى. وقوله: ((لا ملك)) اسئناف لبيان تعليل تحريم التسمية، فنفي جنس الملاك بالكلية لأن المالك الحقيقي ليس إلا هو، ومالكية الغير عارية له مستردة إلى مالك الملوك، فمن تسمى بهذا الاسم، نازع الله في رداء كبريائه، واستنكف أن يكون عبدا لله فيكون له الخزي والنكال والإلقاء في النار. وتحريره أن صفة المالكية مختصة بالله تعالى لا تتجاوز إلى غيره، والمملوكية صفة العبد لا يتجاوز عنها إلى غيرها. ولذلك كان أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله وعبد الرحمن ونحوهما؛ لأن من تسمى بها يكون على بصيرة؛ لأنه عرف قدره ولم يتعد طوره؛ وذلك أنه ليس بين الله وبين العبد نسبة إلا العبودية. وما تحقق أحد هذه النسبة حق تحقيقه إلا سيد المرسلين صلوات الله عليه؛ فلذلك وصفه الله تعالى في مقام القرب وبساط الأنس بقوله:} سبحان الذي أسرى بعبده ليلا {.ورفع روح الله عيسى عليه السلام عن نفسه التهمة بالربوبية بقوله:} إني عبد الله {ونهى أن يقول أحد لمملوكه: عبدي؛ لأن العبودية غاية التذلل لا يستحقها إلا من له غاية العزة والكبرياء،} وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم {} والله يقول الحق وهو يهدي السبيل {. الحديث السادس والسابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فحول)) ((مح)):بين رسول الله صلىى الله عليه وسلم في الحديثين نوعين من العلة وهما التزكية وخوف التطير. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يقال لها عاصية)) ((تو)):إنما كان ذلك منه في الجاهلية فإنهم كانوا يسمون بالعاصي والعاصية ذهابا إلى معنى الإباء عن قبول النقائص والرضى بالضيم، فلما جاء الله بالإسلام كره ذلك لهم.

4759 - عن سهل بن سعد، قال: أتى بالمنذر بن أبى أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد، فوضعه على فخذه فقال: ((ما اسمه؟)) قال: فلان. قال: ((لا، لكن اسمه المنذر)) متفق عليه. 4760 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، ولا يقل العبد: ربي؛ ولكن ليقل: سيدي)) وفي رواية: ((ليقل: سيدي ومولاي)) وفي رواية: ((لا يقل العبد لسيده: مولاي؛ فإن مولاكم الله)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((جميلة)) كان من الظاهر أن تسمى بما يقابل اسمها، والمقابل برة وهو أيضا غير جائز للعلتين السابقتين؛ ولذلك عدل إلى ((جميلة)) وهي مقابلة لها من حيث المعنى؛ لأن الجميل لا يصدر منه إلا الجميل والبر. ((مح)):فيه استحباب تغيير الاسم القبيح كما يستحب تغيير الأسماء المكروهة إلى حسنة. الحديث التاسع عن سهل: قوله: ((ولكن اسمه المنذر)) أي لا أرضى له بما سميتموه، ولكن أرضى له أن يكون اسمه المنذر. ولعله صلى الله عليه وسلم تفاءل به ولمح إلى معنى التفقه في الدين في قوله تعالى:} فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم {. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يقولن أحدكم عبدي)) ((حس)): قيل: إنما منع أن يقول: ربي؛ لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد فكره المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك. والعبد الحر فيه بمنزلة واحدة، ولم يمنع العبد أن يقول: سيدي ومولاي؛ لأن مرجع السياد إلى معنى الرئاسة له وحسن التدبير لأمره؛ ولذلك سمي الزوج سيدا، وقيل في كراهة هذه الأسماء: هو أن يقول ذلك عن طريق التطاول على الرقيق والتحقير لشأنه. وإلا فقد جاء به القرآن قال تعالى:} والصالحين من عبادكم وإمائكم {.وقال:} عبدا مملوكا لا يقدر على شيء {.وقال:} اذكرني عند ربك {وقال أيضا:} سيدها لدى الباب {.ومعنى هذا راجع إلى البراءة من الكبر والتزام الذل والخضوع، ولم يحسن لأحد أن يقول: فلان عبدي، بل يقول: فتاي، وإن كان قد ملك فتاه ابتلاء وامتحانا من الله تعالى لخلقه، كما قال تعالى:} وجعلنا بعضكم لبعض فتنة {.وعلى هذا امتحان الله تعالى أنبياءه وأولياءه، ((ابتلى)) يوسف بالرق.

4761 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تقولوا: الكرم؛ فإن الكرم قلب المؤمن)) رواه مسلم. 4762 - وفي رواية له عن وائل بن حجر، قال: ((لا تقولوا: الكرم؛ ولكن قولوا: العنب والحبلة)). 4763 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)):قالوا إنما كره للملوك أن يقال لهم: ربي؛ لأن فيه إبهام المشاركة لله تعالى. وأما حديث: ((حتى يلقاها ربها في الضالة، وحديث ((رب الصريمة)) وما في معناهما، فإنما استعمل؛ لأنها غير مكلفة فهي كالدار والمال. ولا كراهة أن يقول: رب المال والدار. وأما قول يوسف عليه السلام:} اذكرني عند ربك {و} إنه ربي أحسن مثواي {ففيه جوابان: أحدهما: أنه خاطبه بما يعرفه وجاز ذلك للضرورة. وثانيهما: أن هذا منسوخ من شرعنا. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تقولوا: الكرم)) ((مح)) قال أهل اللغة: يقال رجل كرم وامراة كرم ورجلان كرم ورجال كرم ونسوةكرم، كله بفتح الراء وإسكانها بمعنى كريم، وصف بالمصدر كعدل وضيف. قوله: ((الحبلة)) ((نه)):هي بفتح الحاء والباء وربما سكنت وهو في الأصل والقصيب من شجر الأعناب. أراد أن يقرر ويشدد ما في قوله تعالى:} إن أكرمكم عند الله أتقاكم {.بطريقة أنيقة ومسلك لطيف، فبصر أن هذا النوع من غير الأناسي المسمى بالاسم المشتق من الكرم. أنتم أحقاء بألا تؤهلوه بهذه التسمية ولا تسموها له غيرة للمسلم التقي ورفعة لمنزلته أن يشارك فينا سماه الله تعالى. وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كرما، ولكن الغرض بيان أن المستحق للاسم المشتق من الكرم المسلم، ونظيره في الأسلوب قول الله عزوجل:} صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة {. أقول: وتلخيص المعنى تخطئة رأي من سمى العنب بالكرم؛ نظرا إلى أنه تتخذ منه الخمر، وشربها يولد الكرم، وتسفيههم فيها؛ لأنها أم الخبائث والرجس الذي هو من عمل الشيطان؛ وتصويب رأي من رأي استحقاق هذا بقلب المؤمن الطاهر عن أوضار الرجس والآثام، وأنه معدن مكارم الأخلاق ومنبعها ومركز التقوى، فهو أولى وأحرى أن يسمى كرما قال تعالى:} فإنها من تقوى القلوب {.وقال:} إن أكرمكم عند الله أتقاكم {،كأنه صلى الله عليه وسلم نبه

4764 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر)) رواه مسلم. 4765 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي/ ولكن ليقل: لقست نفسي)) متفق عليه. وذكر حديث أبي هريرة: ((يؤذيني ابن آدم)) في ((باب الإيمان)) ـــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين على التحلي بالتقوى والتزيي به، وأنه رأس مكارم الأخلاق لا ما ذهب إليه أهل الجاهلية، وهو من باب المشاكلة، كقوله تعالى:} صبغة الله {فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية، يقولون: هو تطهير لهم، فقيل للمسلمين: قولوا:} آمنا بالله {إلى قوله:} صبغة الله {أي قولوا: صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم يصبغ صبغتكم التي هي النجاسة لا الطهر. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يا خيبة الدهر)) ((الخيبة)) الحرمان والخسران، وقد خاب يخيب ويخوب، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل. وما يتعلق بالحديثين مضى بحثه مستوفي في كتاب الإيمان. الحديث الرابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لقست)) ((نه)):أي غثت واللقس الغثيان، وإنما كره ((خبثت)) هربا من لفظ الخبث والخبيث، واللقس أيضا السيء الخلق، وقيل: الشحيح، ولقست نفسه إلى الشيء إذا حرصت عليه ونازعته عليه. ((مح)):إنما كره لفظ الخبث لشناعته، وعلمهم الأدب في الألفاظ واستعمال أحسنها وهجران قبيحها، فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وسلم في الذي ينام عن الصلاة ((فأصبح خبيث النفس كسلان)) والجواب أنه صلى الله عليه وسلم مخبر هناك عن صفة غيره، وعن شخص مبهم مذموم الحال. ((تو)):وكم مثل ذلك في السنن، نهى عن لعن المسلم أشد النهي، ثم قال: ((لعن الله من تولى غير مواليه))،وقال ((لعن الله من سرق منار الأرض))،وأمثال ذلك مما كان القصد فيه الوعيد والزجر لا اللعن لمسلم بعينه. أقول: ويمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم نهى الشخص أن ينسب إلى نفسه الخبث، فإنه مذموم لا يحتمل غير الذم، والمراد النهي عن التعرض لما يوصف به من صفة المنافقين من الكسل والرياء، قال تعالى:} وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس {.نعم؛ إذا صدر منهم نحو غثيان كنوم أو سهو أو نحو ذلك، يخبرون عن أنفسهم بأني لقست، فيتدارك ما فات منهم.

الفصل الثاني 4766 - عن شريح بن هانئ، عن أبيه، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنون بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم)) قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كل فريق بحكمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا، فما لك من ولد؟)) قال: لي شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: ((فمن أكبرهم)) قال: قلت: شريح. قال: ((فأنت أبو شريح)).راوه أبو داود، والنسائي. [4766] 4767 - وعن مسروق، قال: لقيت عمر، فقال: من أنت؟ قلت: مسروق بن الأجدع. قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأجدع الشيطان)).رواه أبو داود، وابن ماجه. [4767] الفصل الثاني الحديث الأول عن شريح: قوله: ((إن الله هو الحكم)) عرف الخبر وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر، وأن هذا الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره، أي منه الحكم وإليه ينتهي الحكم. ((حس)):الحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق لغير الله تعالى، ومن أسمائه ((الحكم)).انتهى كلامه. ولما لم يطابق جواب أبي شريح هذا المعنى، قال صلى الله عليه وسلم على ألطف وجه وأرشقه ردا عليه ذلك: ((ما أحسن هذا)) لكن أين ذلك من هذا فاعدل عنه إلى ما هو يليق بحالك من التكني بالأبناء. وهو من باب الرجوع والتنبيه إلى ما هو أولى به وأليق بحاله. والكنى على أنواع يطلق تارة على قصد التعظيم والتوصيف، كأبي المعالي، وأبي الفضائل وأبي الحكم، وللنسبة إلى الأولاد كأبي سلمة وأبي شريح وإلى ما لا يلابسه كأبي هريرة؛ فإنه رئي ومعه هرة فكني بذلك، وللعلمية الصرفة كأبي عمرو وأبي بكر. ((حس)):فيه أن الأولى أن يكنى الرجل بأكبر بنيه فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته، وكذلك المرأة بأكبر بنيها، فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها. الحديث الثاني عن مسروق: قوله: ((الأجدع الشيطان)) وهو استعارة من مقطوع الأطراف لمقطوع الحجة.

4768 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم)) رواه أحمد وأبو داود. [4768] 4769 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته، ويسمى محمدا أبا القاسم. رواه الترمذي. [4769] 4770 - وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سميتم باسمي، فلا تكتنوا بكنيتي)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي رواية أبي داود، قال: ((من تسمى باسمي، فلا يكتن بكنيتي؛ ومن تكنى بكنيتي، فلا يستم باسمي)). [4770] 4771 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))،أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني ولدت غلاما فسميته محمدا، وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، قال: ((ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟)) رواه أبو داود. وقال محيي السنة: غريب. [4771] الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يسمى محمد أبا القاسم))، ((محمد)) مرفوععلى أنه مقعول أقيم مقام الفاعل. كذا في جامع الترمذي وشرح السنة وأكثر نسخ المصابيح. المعنى يسمى المسمى بمحمد أبا القاسم. وفي جامع الأصول وبعض نسخ المصابيح ((محمدا)) منصوب فالفعل يكون على بناء الفاعل. الحديث الخامس والسادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما الذي حرم كنيتي)) فيه تصريح على أن النهي عن الجمع ليس للتحريم بل للتنزيه كما سبق.

4772 - وعن محمد بن الحنفية، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أرأين إن ولد لي بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: ((نعم)).رواه أبو داود. [4772] 4773 - وعن أنس، قال: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقلة كنت أجتنيها)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي ((المصابيح)):صححه. 4774 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))،قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح. رواه الترمذي. [4774] 4775 - وعن بشير بن ميمون، عن عمه أسامة بن أخدري، أن رجلا يقال له. أصرم كان في النفر الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اسمك؟)) قال: أصرم قال: ((بل أنت زرعة)).رواه أبو داود. [4775] 4776 - وقال: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص، وعزيز، وعتلة، وشيطان، والحكم، وغراب، وحباب، وشهاب، وقال: تركت أسانيدها للاختصار. [4776] الحديث السابع والثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ببقلة)) ((مظ)) يعني كنت أقلع بقلة اسمها حمزة- بالحاء والزاي- فكناني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حمزة. الحديث التاسع والعاشر عن بشير: قوله: ((أصرم)) الأصرم مأخوذ من الصرم وهو القطع فهو غير مستحسن. والزرعة مأخوذة من الزرع وهو مستحسن. الحديث الحادي عشر عن أبي داود: قوله: ((اسم العاص)) ((فا)):كره العاصي؛ لأن شعار المؤمن الطاعة. و ((العزيز))؛لأن العبد موصوف بالذل والخضوع، والعزة لله تعالى. و ((عتلة))؛ لأن معناها الغلظة والشدة من ((عتلته)) إذا جذبته جذبا عنيفا، والمؤمن موصوف بلين الجانب وخفض الجناح، و ((الحكم))؛لأنه الحاكم ولا حاكم إلا الله. و ((شهابا))؛لأن الشعلة والنار عقاب الكفار؛ ولأنه يرجم به الشيطان. و ((غرابا))؛لأن معناه البعيد؛ ولأنه من أخبث الطير لوقوعه على الجيف وبحثه عن النجاسة.

4777 - وعن أبي مسعود الأنصاري، قال لأبي عبد الله، أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ((زعموا؟)) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس مطية الرجل)).رواه أبو داود وقال: إن أبا عبد الله، حذيفة. [4777] 4778 - وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) رواه أحمد وأبو داود. [4778] ((حس)):وشيطانا))؛ لأن اشتقاقه من الشطن وهو البعد عن الخير، وهو اسم المارد الخبيث من اوالجن. و ((حبابا))؛ لأنه نوع من الحيات، وروى أن الحباب اسم الشيطان. قوله: ((وقال: تركت أسانيدها)) عطف على قوله: ((قال وغير)) وهو قول راوي أبي داود يقول: روى أبو داود أحاديث متعددة بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم غير أسامي رجال، ثم عطف أبو داود قوله: وغير .... إلخ من حيث المعنى على المذكور. ثم قال: ما ذكرته من التغيير ورد في أحاديث متفرقة مسندة، وإني تركت أسانيدها اختصارا، كذا في شرح السنة وفي سنن أبي داود: قال أبو داود سليمان الأشعث: وغير النبي صلى الله عليه وسلم .... وفي المصابيح: وروي أنه صلى الله عليه وسلم غير اسم العاص .... ولعله سهوا من الناسخ. الحديث الثاني عشر عن أبي مسعود: قوله: ((زعموا)) أي في شأن ((زعموا)) أو أمره، أي هل كان يرضى به قولا أو لم يرض، ولابد من هذا التأويل؛ ليدخل في باب تغيير الألفاظ الشنيعة، ولما لم يرض به صلى الله عليه وسلم قال: ((بئس مطية الرجل)) يعني ينبغي أن لا يكثر الرجل في كلامه: زعم فلان وفلان كيت وكيت. وينسب الكذب إلى أخيه المسلم، اللهم إذا تحقق وتيقن كذبه، وأراد أن يحترز الناس عنه كما ورد في كلامه تعالى:} زعم الذين كفروا {،} بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا {،} أين شركائي الذين زعمتم {. ((نه)):معناه أن الرجل إذا أراد شيئا من المسير إلى بلد والظعن في حاجه، ركب مطية وسار حتى يقضي إربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا، بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة. وإنما يقال: ((زعموا)) في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما كان هذا سبيله. والزعم- بالضم- والفتح قريب من الظن. الحديث الثالث عشر عن حذيفة: قوله: ((وشاء فلان))، ((حس)):لما كان الواو حرف

4779 - وفي رواية منقطعا قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد وقولوا: ما شاء الله وحده)).رواه في ((شرح السنة)). [4779] 4780 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيد فقد أسخطتكم ربكم)).رواه أبو داود. [4780] الفصل الثالث 4781 - عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب الجمع والتشريك، منع من عطف إحدى الشيئين على الأخرى. ((نه)):وأمر بتقديم مشيئة الله وتأخير مشيئة من سواه بحرف ((ثم)) الذي هو للتراخي. أقول: ((ثم)) ههنا يحتمل التراخي في الزمان وفي الرتبة: فإن مشيئة الله تعالى أزلية ومشيئته حادثة تابعة لمشيئة الله تعالى:} وما تشاءون إلا أن يشاء الله {.وما شاء الله كان، ومشيئة العبد لم يقع أكثرها، فأين إحداهما من الأخرى؟ فإن قلت: كيف رخص أن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان، ولم يرخص في اسمه صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((قولوا ما شاء الله وحده))؟. قلت: فيه وجهان: أحدهما: دفعا لمظنة التهمة في قولهم: ((ما شاء الله وشاء محمد)) تعظيما له ورياء لمنزلته. وثانيهما: أنه رأس الموحدين ومشيئته مغمورة في مشيئة الله تعالى ومضمحلة فيها. الحديث الرابع عشر عن حذيفة: قوله: ((إن يك سيدا)) أي إن يك سيدا لكم، فيجيب عليكم طاعته، فإذا أطعتموه فقد أسخطتم ربكم؛ أو لا تقولوا للمنافق سيدا، فإنكم إن قلتم ذلك فقد أسختطم ربكم؛ فوضع الكون موضع القول تحقيقا له. وفيه أن قول الناس لغير الله ((مولانا)) كالحكماء والأطباء داخل في هذا النهي والوعيد بل هو أشد لورود قوله تعالى ((مولانا)) في التنزيل دون السيد. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الحميد: قوله: ((بل أنت سهل)) أي هذا الاسم غير مناسب لك؛ لأنك حليم لين الجانب ينبغي أن تسمى سهلا.

(9) باب البيان والشعر

فحدثني أن جده حزنا قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما اسمك؟)) قال: اسمي حزن قال: ((بل أنت سهل)) قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي. قال ابن المسيب: قما زال فينا الحزونة بعد. رواه البخاري. 4782 - وعن أبي وهب الجشمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة)).رواه أبو داود. [4782] (9) باب البيان والشعر الفصل الأول 4783 - عن ابن عمر، قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي وهب قوله: ((وأصدقها حارث)) ((حس)):إنما صار الحارث وهمام من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الاسم معناه؛ لأن الحارث الكاسب؛ قال: حرث الرجل إذا كسب، قال الله تعالى:} من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه {.وهمام من هممت بالشيء إذا أردته. وما من أحد إلا هو في كسب أو يهم بشيء؛ وإنما صار ((حرب)) و ((مرة)) من المرارة والبشاعة. أقول: أمرا أولا بالتسمي بأسماء الأنبياء، فرأي فيه نوع تزكية للنفس وتنويها بشأنها، فنزل إلى قوله: ((أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن)) لأن فيه خضوع واستكانة على ما سبق. ثم نظر إلى أن العبد قد يقصر في العبودية، ولم يتمكن من أدائها فلا يصدق عليه هذا الاسم فنزل إلى قوله: ((حارث وهمام)) والله أعلم. باب البيان والشعر ((نه)) البيان إظهار المعنى المقصود بأبلغ لفظ وهو من الفهم وذكاء القلب، وأصله الكشف والظهور. ((غب)):الشعر معروف وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر. قيل: وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفي من الكلام، والشاعر للمختص بصناعته.

لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((رجلان من المشرق)) قال الميداني: هما الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم. وكذا من الشيخ التوربشتي. قوله: ((إن من البيان لسحر))، ((من)) للتبعيض والكلام فيه تشبيه، وحقه أن يقال: إن بعض البيان كالسحر، فقلب، وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا. ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم. ((حس)):اختلفوا في تأويله، فمنهم من حمله على الذم، وذلك أنه ذم التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه ليروق للسامعين قوله ويستميل به قلوبهم. وأصل السحر في كلامهم الصرف، وسمي السحر سحرا؛ لأنه مصروف عن جهته فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول قوله، وإن كان غير حق. أو المراد من صرف الكلام فضله، وما يتكلف الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة قد يدخله الرياء ويخالطه الكذب. وأيضا فإنه قد يحيل الشيء عن ظاهره ببيانه ويزيله عن موضعه بلسانه إرادة التلبيس عليهم، فيصير بمنزلة السحر الذي هو تخيل لما لا حقيقة فيه له. وقيل: أراد به أن من البيان ما يكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره. وقيل: معناه الرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بحجته من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب الحق. وشاهده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له ((على نحو ما أسمع منه)) منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه)).الحديث. وذهب آخرون إلى أن المراد منه مدح البيان، والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ؛ لأن أحد القرينين وهو قوله: ((إن من الشعر حكمة)) على طريق المدح. فكذلك القرين الآخر. وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا طلب إليه حاجه كان يتعذر عليه إسعافه بها، فاستمال قلبه بالكلام، فأنجزها له ثم قال: هذا هو السحر الحلال. أقول: يمكن أن يجاب عن التمسك بقوله، لأن أحد القرينين وهو قوله: ((إن من الشعر حكمة)) بأن يقال: إنه رد لمن زعم أن الشعر كله مذموم قبيح، يشهد بذلك التوكيد بـ ((إن واللام))؛ولذلك صان الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله. والنثر كله حسن محمود. فقيل له: إن بعض البيان كالسحر في الباطل، وبعض الشعر كالحكمة في أنه حق؛ يدل عليه قوله: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. والحق أن الكلام ذو وجهين يختلف بحسب

4784 - وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر حكمة)).رواه البخاري. 4785 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المغزى والمقاصد؛ لأن مورد المثل على ما رواه الشيخ التوربشتي. وكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم عند قدوم وفد بني تميم، وكان فيهم الزبرقان وعمرو؛ ففخر الزبرقان؛ فقال: يا رسول الله! أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم بذلك فقال عمرو: ((إنه لشديد المعارضة، مانع لجانبه، مطاع في ((إذنه)))).فقال الزبرقان: والله يا رسول الله؛ لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، قال عمرو: أنا أحسدك فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، ضيق العطن، أحمق الولد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله؛ لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت: قلت أقبح ما وجدت ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا)) قال الميداني: يضرب هذا المثل في استحسان المنطق وإيراد الحجة البالغة. الحديث الثاني عن أبي: قوله: ((إن من الشعر حكمة)) ((حس)):معناه: أن من الشعر كلاما نافعا يمنع عن الجهل والسفه، وأصل الحكمة المنع، وبها سميت لجام الحكمة؛ لأنه بها تمنع الدابة، وأراد به ما نظمه الشعراء من المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس قال الشافعي: والشعر كلام فحسنه ((لحسن)) الكلام. وفضله على الكلام أنه سائر، فإذا كان الشاعر لا يعرف بشتم المسلمين وأذاهم، ولا يمدح فيكثر الكذب المحض، ولا يشيب بامرأة بعينها يشهرها بما يشينها فجائز الشهادة، وإن كان على خلاف ذلك لم يجز. الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((المتنطعون)) ((تو)) أرد بهم المتعمقين الغالين في خوضهم فيما لا يعنيهم من الكلام، والأصل في المتنطع الذي يتكلم بأقصى حلقه مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى فيه آثار، كالتحرير يخفف ويثقل. وإنما ردد القول ثلاثا تهويلا وتنبيها على ما فيه من الغائلة، وتحريضا على التيقظ والتبصر دونه، وكم تحت هذه الكلمة من مصيبة تعود على أهل اللسان، والمتكلفين في القول الذي يرمون بسبك الكلام سبى قلوب الرجال، ونسأل الله العافية. أقول: لعل المذموم من هذا ما يكون القصد فيه مقصورا على مراعاة اللفظ، ويجيء المعنى

4786 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)).متفق عليه. 4787 - وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء)) قلت: نعم. قال: ((هيه)) فأنشدته بيتا. فقال: ((هيه)) ثم أنشدته بيتا فقال: ((هيه)) حتى أنشدته مائة بيت. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ تابعا للفظ، وأما إذا كان بالعكس، وكلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مصبوب في هذا القالب، فيرفع الكلام إلى الدرجة القصوى؛ قال تعالى:} وجئتك من سبأ بنبأ يقين {. الكشاف: هذا من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا، أو يصبغه عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان ((بنبأ)) ((بخبر)) لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح؛ لما في ((النبأ)) الزيادة التي يطابقها وصف الحال. وقال أبو الحسن الهروي صاحب دلائل النبوة: اعلم أن التلاؤم يكون بتلاؤم الحروف وتلاؤم الحركات والسكنات وبتلاؤم المعنى، فإذا اجتمعت هذه الوجوه، خرج الكلام في غاية العذوبة، وفي حصول بعضها دون بعض انحطاط درجة العذوبة عن الغاية، وسائر أقسام الفصاحة مع عدم التلاؤم يعد تكلفا، وكلما ظهرت الصنعة أكثر كان الكلام أقرب إلى التعسف، وإذا حصل التلاؤم عظم معه يسر الصنعة وشرف تأليف الكلام ووضعه. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كلمة)) ((مح)):هي قطعة من الكلام، والمراد بـ ((الباطل)) الفاني المضمحل، وفي الحديث منقبة للبيد وهو صحابي، انتهى كلامه. وإنما كان أصدق؛ لأنه موافق لأصدق الكلام، وهو قوله تعالى:} كل من عليها فان {. الحديث الخامس عن عمرو: قوله ((هيه)) ((نه)) هو بمعنى إيه، فأبدل من الهمزة هاء، وإيه اسم سمى به الفعل والفاعل ومعناه الأمر، تقول للرجل: ((إيه)) بغير تنوين إذا استزدته من الحديث المعهود بينكما، فإن نونته استزدته من حديث ما غير معهود؛ لأن التنوين للتنكير. ((تو)):قال ابن السكيت: فإن وصلت نونت، قلت: إيه حديثا. وقول ذي الرمة:

4788 - وعن جندب، أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في بعض المشاهد وقد دميت أصبعه قال: هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفقنا فقلنا إيه من أم سالم وما بال تكليم الديار البلاقع فلم ينون وقد وصل؛ لأنه نوى الوقف وقد ترك الضرورة. ((قض)):أمية بن أبي الصلت ثقفي من شعراء الجاهلية أدرك مبادئ الإسلام، وبلغه خبر المبعث لكنه لم يوفق للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. وكان رجلا مترهبا غواصا في المعاني معتنيا بالحقائق متضمنا لها في أشعاره ولذلك استنشد شعره. الحديث السادس عن جندب: قوله: ((هل أنت إلا إصبع دميت)) هو بفتح الدال، قال في أساس البلاغة: ودميت يده وأدميتها ودميتها، ((قض)):اعترض عليه وعلى أمثاله: لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أنشأ الشعر، وقد نفي الحق سبحانه عنه أن يكون شاعرا في مواضع كثيرة من كتابه العزيز. وأجيب عنه بوجوه: الأول: أن المروي عنه من باب الرجز وهو ليس بشعر. والثاني: أن قوله تعالى:} وما علمناه الشعر {. ((وما أنت بشاعر)) ونظائرهما، مسوقة لتكذيب الكفار فيما بهتوه. ولا يقال لمن تفوه ببيت واحد على ندور إنه شاعر. والثالث: أنه لم يقصد بذلك الشعر ولا عمد إلى مراعاة الوزن، لكنه اتفق أن جرى ذلك لسانه موزونا، وأمثال ذلك كثير في القرآن وفي منثورات الفصحاء. لكن لما لم يكن للقائل بها قصد إلى وزن ولا التفات إليه، لم يعد شعرا، ولا القائل بها شاعرا. أقول: ((دميت)) صفة ((أصبع)) والمستثنى منه أعم عام الصفة، أي ما أنت بإصبع موصوفة بشيء من الأشياء إلا بأن دميت، كأنها لما توجعت وتحرجت، خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة مسليا لها، أي تثبتي على نفسك؛ فإنك ما ابتليت بشيء من الهلاك والقطع، سوى أنك دميت، ولم يكن ذلك هدرا بل كان في سبيل الله ورضاه، وكان ذلك في غزوة أحد. ((مح)) قال القاضي عياض: وقد غفل بعض الناس وقال: ((أنا النبي لا كذب)) بفتح

4789 - وعن البراء، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: ((أهج المشركين، فإن جبريل معك)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: ((أجب عني، اللهم أيده بروح القدس)).متفق عليه. 4790 - وعن عائشة ((رضي الله عنها)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهجوا قريشا؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبل)) رواه مسلم. 4791 - وعنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: ((إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)).وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هجاهم حسان فشفي واشتفي)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الباء و ((أنا ابن عبد المطلب)) بالخفض. وكذا قوله: ((دميت)) من غير مد؛ حرصا منه على أنه يغير الرواية فيستغني عن الاعتذار. وإنما الرواية بإسكان الباء والمد. الحديث السابع إلى التاسع عن عائشة رضي الله عنها: قوله ((من رشق النبل)) ((مح)):الرشق بفتح الراء الرمي بالسهم، وبالكسر النبل التي ترمي دفعة واحدة. وفيه جواز هجو الكفار وأذاهم ما لم يكن لهم أمان؛ لأن الله تعالى قد أمر بالجهاد فيهم والإغلاظ عليهم؛ لأن في الإغلاظ بيانا لنقصهم والانتصار منهم لهجائهم المسلمين. ولا يجوز ابتداء؛ لقوله تعالى:} ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم {. قوله: ((إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت)) وذلك لأن أخذه في الهجو والطعن في المشركين وأنسابهم مظنة الفحش من الكلام وبذاءة اللسان، ويؤدي ذلك إلى أن يتكلم بما يكون عليه لا له، فيحتاج إلى التأييد من الله تعالى بأن يقدسه من ذلك بروح القدس وهو جبريل. ((تو)):المعنى أن شعرك هذا الذي تنافح به عن الله وعن رسوله يلهمك الملك سبيله، بخلاف ما يتقوله الشعراء، إذا اتبعوا الهوى وهاموا في كل واد؛ فإن مادة قولهم من إلقاء الشيطان لهم. ((نه)):قوله: ((نافحت)) أي دافعت، والمنافحة المدافعة والمضاربة، ونفحت الرجل بالسيف تناولته به. ويريد بمنافحته هجاء المشركين ومحاربتهم ومجازاتهم على أشعارهم. قوله: ((فشفي واشتفي)) ((تو)):يحتمل أنه أراد بالكلمتين التأكيد، أي شفي من الغيظ بما أمكنه، ويحتمل أنه أراد شفي غيره واشتفي نفسه.

4792 - وعن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لقينا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا يرفع بها صوته: ((أبينا أبينا)) متفق عليه. 4793 - وعن أنس، قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن البراء: قوله: ((لولا الله)) أي لولا هداية الله ما اهتدينا؛ لقوله تعالى:} وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {وقوله: ((فأنزلن سكينة علينا)) مثل قوله تعالى:} فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين {،وقوله: ((وثبت الأقدام)) من قوله:} وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين {.وقوله: ((إن الأولى)) إشارة إلى أهل مكة والأحزاب الذين تحزبوا معهم يومئذ. والمراد بالفتنة القتل والنهب والرد إلى الكفر. قال تعالى:} إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون {و ((أبينا)) أي امتنعنا عن القبول. ((نه)):الإباء أشد الامتناع، انتهى كلامه. والضمير في ((بها)) راجع إلى الأبيات، و ((أبينا أبينا)) حال أي خصوصا أبينا أبينا. ويحتمل أن يكون مفعولا مطلقا، وتجوز أن يكون الضمير في ((بها)) مبهما مفسرا بقوله: ((أبينا أبينا)) كقوله تعالى:} كبرت كلمة تخرج من أفواهم {.

4794 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه: ((لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا)).متفق عليه. الفصل الثاني 4795 - عن كعب بن مالك، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قد أنزل في ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا عيش إلا عيش الآخرة)) يعني أنهم إذا وفوا بما عاهدوا الله ورسوله، جازاهم مجازاة ليس بعدها جزاء، ولا يكون ذلك إلا في الآخرة فاغفر لهم الآن؛ ليكون ذلك سببا للمطلوب. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة: قوله: ((يريه)) ((فا)):ورى الداء جوفه أفسده، وقيل لداء الجوف وري؛ لأنه داء داخل متوار. ومنه قيل للشمس وار كأن عليها ما تواريه من شعاعه. ((نه)):هو من الورى الداء يقال: ورى يوري فهو موري إذا أصاب جوفه الداء. قال الجوهري: الورى مثل الرمي داء بداخل الجوف، يقال: رجل موري غير مهموز. وقال الفراء: هو الورى بفتح الراء، وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر وبالفتح الاسم. وقال الجوهري: وري بالفتح جوفه يريه وريا أكله. وقال قوم: معناه حتى يصيب رئته، وأنكر غيرهم؛ لأن الرئة مهموزة، وإذا بنيت منه فعلا، قلت: وراه يراه فهو مرئي. وقال الأزهري: إن الرئة أصلها من وري وهي محذوفة. منه تقول: وريت الرجل فهو موري إذا أصبت رئته، والمشهور في الرئة الهمزة. ((مح)) قالوا: المراد منه أن يكون الشعر غالبا عليه مستوليا بحيث يشغله عن القرآن أو غيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى: وهو مذموم من أي شعر كان، وإلا فلا يضره حفظ اليسير من الشعر؛ لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا، وسمى الرجل على أن الذم مخصوص بمعين، وفي رواية أخرى لمسلم كما سيجيء في الفصل الثالث. الفصل الثاني الحديث الأول عن كعب: قوله: ((ما أنزل)) كأنه لما سمع قوله تعالى:} والشعراء يتبعهم الغاوون {أنكر على نفسه الشعر، وأنه من جملة الغاوين، فقال ما قال، فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه ليس

الشعر ما أنزل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل)) رواه في شرح السنة. [4795] وفي ((الاستيعاب)) لابن عبد البر، أنه قال: يا رسول الله! ماذا ترى في الشعر: فقال: ((إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه)). 4796 - وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)).رواه الترمذي. [4796] ـــــــــــــــــــــــــــــ كذلك على الإطلاق؛ فإن ذلك من شأن الهائمين أودية الضلال. وأما المؤمن فهو خارج من ذلك الحكم؛ وأما المؤمن فهو خارج من ذلك الحكم؛ لأنه إحدى عدتيه في ذب الكفار من اللسان والسنان، بل هو أعدى وأنكى، كما قال صلى الله عليه وسلم: فإنه أشد عليهم من رشق النبل. وإليه ينظر قول الشاعر: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان وقال ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن سيرين: قال: كان شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، وكان كعب يخوفهم الحرب. قال ابن سيرين: بلغنا أن دوسا إنما أسلمت فرقا من قول كعب بن مالك. واللام في قوله: ((لكأنما)) زائدة لتأكيد الفسم، والتقدير: والذي نفسي بيده إن ما ترمونهم به كنضح النبل؛ لأن أصل ((كأن زيدا الأسد)) فقدم حرف التشبيه اهتماما به، يدل عليه ما في المفصل من قوله: والفصل بينه وبين الأصل، إنك هاهنا بان كلامك على التشبيه من أول الأمر، وثم بعده مضى صدره على الإثبات. ((قض)):الضمير في ((به)) للشعر، ونضح النبل رميه مستعار من ((نضح الماء))،والمعنى: أن هجائم أثر فيهم تأثير النبل، وقام مقام الرمي في النكاية بهم. الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: ((الحياء والعي شعبتان من الإيمان)) ((قض)):لما كان الإيمان باعثا على الحياء، والتحفظ في الكلام، والاحتياط فيه، عد من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق. وعلى هذا يكون المراد بالعي ما يكون بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال،

4797 - وعن أبي ثعلبة الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني، مساويكم أخلاقا، الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4797] ـــــــــــــــــــــــــــــ لا لخلل في اللسان. والبيان ما يكون سببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان، والتحرز عن الزور والبهتان. والبذاء: فحش الكلام. أقول: ويمكن أن يقال: إنه إنما قوبل العي في الكلام مطلقا بالبيان الذي هو التعمق في النطق والتفاصح، وإظهار التقدم فيه على الناس مبالغة لذم البيان، وأن هذه النقيصة ليست بمضرة للإيمان مضرة ذلك البيان. الحديث الثالث عن أبي ثعلبة: قوله: ((إن أحبكم إلي)) ((قض)):أفعل التفضيل إذا أضيف على معنى أن المراد به زائد على المضاف إليهم في الخصلة التي هو وهم متشاركون فيها، جاز فيه الإفراد والتذكير في الحالات كلها؛ وتطبيقها لما هو وصف له لفظا ومعنى، وقد جمع الوجهان في الحديث، فأفرد ((أحب وأبغض)) وجمع ((أحاسن وأساوي)) في رواية من روى ((أساويكم)) بدل مساويكم، وهو جمع مسوأ كمحاسن جمع محسن، هو إما مصدر ميمي نعت به ثم جمع، أو اسم مكان بمعنى الأمر الذي فيه السوء، فأطلق على المنعوت به مجازا. و ((أخلاق)) نصب على التمييز. قال الدار حديثي: وأراد بـ ((أبغضكم)) بغيضكم وبـ ((أحبكم)) التفضيل. ولا يكون المخاطبون بأجمعم مشتركين في البغض والمحبة، وقال الحاجبي: تقديره: بأحب المحبوبين منكم وأبغض المبغضين منكم. ويجوز إطلاق العام وإرادة الخاص للقرينة. أقول إذا جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين، فكما لا يجوز ((أبغضكم)) لا يجوز ((بغيضكم)) لاشتراكهم في المحبة. والقول ما ذهب إليه ابن الحاجب؛ لأن الخطاب عام يدخل في البر والفاجر والموافق والمنافق، فإذا أريد به المنافق الحقيقي فالكلام ظاهر، وإذا أريد به غير الحقيقي كما سبق في باب علامات النفاق، فمستقيم أيضا يدل عليه الثرثارون المتشدقون المتفيهقون. وهذا القول أولى والمقام له أدعى للحديث السابق. وقوله: ((الثرثارون)) إما بدل من ((مساويكم أخلاقا))،فيلزم أن تكون هذه الأوصاف أسوأ الأخلاق؛ لأن المبدل كالتمهيد والتوطئة. وإما رفع على الذم على أنه خبر مبتدأ محذوف، فيكون أبلغ وأشنع.

4798 - وروى الترمذي نحوه عن جابر، وفي روايته قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)). [4798] 4799 - وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتهم)).رواه أحمد. [4799] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)):الثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفا وخروجا عن الحق. والثرثرة كثرة الكلام وترديده. المتشدقون هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل: المراد بالمتشدق المستهزئ بالناس يلوي شدقه لهم وعليهم. والمتفيهقون هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواهم، مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع، يقال: فهقت الإناء يفهق فهقا، وبئر مفهاق كثيرة الماء. وقيل: هذا من النكير والرعونة. وزاد في الفائق والنهاية على هذا: الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون. قالا: وهذا مثل وحقيقته من التوطئة وهي التمهيد والتذليل، وفراش وطئ، أي لا يؤذي جنب النائم. والأكناف الجوانب، أراد الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحب ولا يتأذى. ((مح)):كره التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون، وزخارف القول، فكل ذلك من التكلف المذموم، وكذلك التحري في دقائق الإعراب، ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته إياهم لفظا يفهمونه فهما جليا. ولا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ، إذا لم يكن فيها إفراط أو إغراب؛ لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله تعالى، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر، هكذا ذكره في الأذكار. الحديث الرابع عن سعد: قوله: ((كما تأكل البقرة بألسنتها)) ((تو)):ضرب للمعنى مثلا يشاهده الراءون من حال البقر؛ ليكون أثبت في الضمائر؛ وذلك أن سائر الدواب تأخذ من نبات الأرض بأسنانها، والبقر بلسانها، فضرب بها المثل لمعنيين: أحدهما: أنهم لا يهتدون من المأكل إلا ذلك سبيلا، كما أن البقرة لا تتمكن من الاحتشاش إلا بلسانها. والآخر: أنهم في مغزاهم ذلك كالبقرة التي لا تستطيع أن تميز في رعيها بين الرطب والشوكة، وبين الحلو والمر، بل تلف الكل بلسانها لفا، فكذلك هؤلاء الذين يتخذون ألسنتهم ذريعة إلى مأكلهم لا يميزون بين الحق والباطل، ولا بين الحلال والحرام، سماعون للكذب أكالون للسحت.

4800 - وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما يتخلل الباقرة بلسانها)) رواه الترمذي، وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [4800] 4801 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4801] 4802 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم صرف الكلام ليسبى به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا)).رواه أبو داود. [4802] 4803 - وعن عمرو بن العاص، أنه قال يوما وقام رجل فأكثر القول. فقال عمرو: لو قصد في قوله لكان خيرا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد رأيت- أو أمرت- أن أتجوز في القول، فإن الجواز هو خير)).رواه أبو داود. [4803] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((يتخلل بلسانه)) ((نه)):هو الذي يتشدق في الكلام ويقحم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلاء بلسانها لفا. ((قض)):شبه إدارة لسانه حوله الأسنان والفم حال التكلم تفاصحا، بما تفعل البقرة بلسانها. والباقرة جمع البقرة واستعماله بالتاء قليل. الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صرف الكلام)) مضى بيانه في أول الباب. قوله: ((صرفا ولا عدلا)) ((نه)):الصرف التوبة أو النافلة، والعدل الفدية أو الفريضة. الحديث الثامن عن عمرو: قوله: ((قال عمرو)) كذا في سنن أبي داود، وفي بعض نسخ

4804 - عن صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا)).رواه أبو داود. [4804] ـــــــــــــــــــــــــــــ المصابيح، وهو تكرار لطول الكلام؛ لأن قوله ((لو قصد)) هو المقول لقوله: ((قال يوما)) وقوله: ((قام الرجل)) حال، فلما وقع بينهما، طال الكلام فأعاد ((قال عمرو)) ونظيره قول الحماسي: وإن امرأ دامت مواثيق عهده على مثل هذا إنه لكريم قوله: ((لكريم)) خبر ((إن)) الأول، وأعاد ((إنه)) لطول الكلام. قوله: ((لو قصد)) ((تو)):أي لو أخذ في كلامه الطريق المستقيم والقصد ما بين الإفراط والتفريط. ومعنى قوله: ((أن أتجوز)) أي أسرع فيه وأخفف المؤنة عن السامع، من قولهم: تجوز في صلاته أي خفف. الحديث التاسع عن صخر: قوله: ((وإن من العلم جهلا)) ((نه)):قيل هو أن يتعلم من العلوم ما لا يحتاج إليه كالنجوم، وعلم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه في دينه من القرآن والسنة، فالاشتغال به يمنعه عن التعلم لما هو محتاج إليه، فيكون جهلا له. قال الأزهري: وقيل هو أن لا يعمل بعلمه فيكون ترك العمل بالعلم جهلا، ومصداقه قوله تعالى:} مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا {. قوله: ((وإن من القول عيالا)) ((نه)):هو عرضك حديثك وكلامكم على من لا يريده، وليس من شأنه، يقال علت الضالة أعيل عيلا إذا لم تدر أي جهة تبغيها، كأنه لم يهتد لمن يطلب كلامه فيعرضه على من لا يريده. أقول: يحتمل أن يراد بالعيال الثقل؛ قال الراغب: العيال جمع عيل، لما فيه من الثقل، وعاله تحمل ثقل مؤنته ومنه العول وهو ما يثقل من المصيبة. انتهى كلامه. فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعبر به عن الوبال، كما جاء: أن البلاء موكل المنطق. وثانيهما: أراد به الملال، فالسمع أحد الرجلين: إما عالم ولا يريد سماع كلامك فيمل، أو جاهل فلا يفهم ما تقول فيسأم.

الفصل الثالث 4805 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما، يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ينافح. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) رواه البخاري. 4806 - وعن أنس، قال: كان للنبي حاد يقال له: أنجشة، وكان حسن الصوت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير)).قال قتادة: يعني ضعفة النساء. متفق عليه. 4807 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح)).رواه الدارقطني. [4807] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي لأجله وجهته. و ((عن)) فيه كما في قوله: ((ينهون عن أكل وشرب))،وليس ((عن)) فيه كما في قوله: ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يدافع عنه، قال في أساس البلاغة: يقال: تفاخرت أنا وصاحبي إلى فلان فأفخرني غلبني. انتهى كلامه. ويحتمل أن يكون مجازا، أي يذب عن مفاخره وطعنهم فيها. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حاد)) قال في أساس البلاغة: حدا الإبل حدوا وهو حادي الإبل وهم حداتها، وحدا بها حداء إذا غنى لها. قوله: ((بالقوارير)) ((نه)): أراد به النساء، شبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر. وكان أنجشة يحدو وينشد العريض والرجز، فلم يأمن أن يصيبهن، أو يقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك. وفي المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل: أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء، أسرعت في المشي واشتدت، فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة. وواحدة القوارير قارورة سميت بها؛ لاستقرار الشراب فيها. أقول: القوارير استعارة لأن المشبه به غير مذكور والقرينة حالية لا مقالية، والكسر ترشيح لها، ولما كانت الاستعارة مسبوقة بالتشبيه قال: شبههن .... إلخ.

4808 - وروى الشافعي، عن عروة، مرسلا. [4808] 4809 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذا عرض شاعر ينشد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا)).رواه مسلم. 4810 - وعن جابر، قال: قال رسول الله: ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4810] 4811 - وعن نافع، ((رحمه الله))،قال: كنت مع ابن عمر في طريق، فسمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه وناء عن الطريق إلى الجانب الآخر، ثم قال لي بعد أن بعد: يا نافع! هل تسمع شيئا؟ قلت: لا، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع صوت يراع، فصنع مثل ما صنعت. قال نافع: فكنت إذ ذاك صغيرا. رواه أحمد، وأبو داود. [4811] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي سعيد: قوله: ((بالعرج)) ((مح)):هو بفتح العين المهملة وإسكان الراء، وبالجيم، قرية جامعة من عمل الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة. قوله: ((خذوا الشيطان)) أي امنعوه عن إنشاده. ولعله صلى الله عليه وسلم لما رآه ينشد الشعر معرضا غير ملتفت إليهم ومبال بهم مستهزأ بإنشاده الشعر، عرف أن الغالب عليه هو قرض الشعر وأنه مسلوب الحياء، ومعزول عن الأدب؛ ولذلك أطلق عليه اسم الشيطان. وأتبعه بقوله: ((لأن يمتلئ جوف رجل قيحا)) وقد سبق بيانه. الحديث الخامس عن جابر: قوله: ((الغناء ينبت النفاق)) يعني الغناء سبب النفاق ومؤد إليه، وأصله وشعبته، كما قال: ((البذاء والبيان شعبتان من النفاق)) وهذا تشبيه تمثيلي؛ لأنه منتزع من عدة أمور متوهمة. ((حس)):قيل: الغناء رقية الزنا. قال الشافعي: ولو كان يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا، فهذا سفيه ترد شهادته، وإن كان يقل لا ترد. الحديث السادس عن نافع: قوله: ((وكنت إذ ذاك صغيرا)) جواب سؤال مقدر يعني ليس لقائل أن يقول: سماع اليراع مباح، والمنع ليس للتحريم بل للتنزيه؛ لأنه لو كان حراما لمنع

(10) باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

(10) باب حفظ اللسان والغيبة والشتم الفصل الأول 4812 - عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضمن لي ما بين لحيه وما بين رجليه، أضمن له الجنة)).رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أيضا نافعا عن الاستماع. والجواب أن نافعا لم يبلغ مبلغ التكليف. وإليه الإشارة بقوله: ((وكنت إذ ذاك صغيرا)) ولو لم يذهب إلى هذه الفائدة، لكان وصفه لنفسه بالصغر ضحكة للساخرين، كما في قولك: ((الميت اليهودي لا يبصر)). وذكر هذا الحديث بعد السابق مشعر بأن استماع الغناء والمزمار واليراع من باب واحد. ((مح في الروضة)):غناء الإنسان قد يقع بمجرد صوته وقد يقع بآلة، فالأول مكروه وسماعه مكروه وليسا محرمين. وإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة. والثاني: أن يغني بعض آلات الغناء مما هو شعار شاربي الخمر، وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار، فيحرم استعماله واستماعه. وفي ((اليراع)) وجهان: صحح البغوي التحريم، والغزالي الجواز وهو أقرب، وليس المراد من اليراع كل قضيب، بل المزمار العراقي. وما يضرب به من الأوتار حرام بلا خلاف. قال الشيخ محيي الدين النووي: الأصح أو الصحيح تحريم اليراع وهو هذه المزمارة، التي يقال لها الشبابة. وقد صنف الإمام أبو القاسم الدولقي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس، وأطنب في دلائل تحريمه. ((حس)):اتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف، وكان الذي سمع ابن عمر صفارة الرعاة. وقد جاء مذكورا في الحديث، وإلا لم يقتصر فيه على سد المسامع دون المبالغة في الردع والزجر. وقد رخص بعضهم في صفارة الراعي الرعاة، والله أعلم. باب حفظ اللسان والغيبة والشتم الفصل الأول الحديث الأول عن سهل: قوله: ((من يضمن لي)) عن بعضهم معناه: من يضمن لي لسانه أي شر لسانه وبوادره، وحفظه عن التكلم بما لا يعنيه ويضره، مما يوجب الكفر والفسوق، وفرجه بأن يصونه من الحرام، أضمن له دخول الجنة. و ((لحييه)) –بفتح اللام- تثنية لحى، وهما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان علوا وسفلا. أقول: أصل الكلام من يحفظ ما بين لحييه من اللسان مما لا يعنيه من الكلام والطعام

4813 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا، يهوى بها في جهنم)).رواه البخاري وفي رواية لهما: ((يهوي بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب)). 4814 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ يدخل الجنة. فأراد أن يؤكد الوعد تأكيدا بليغا فأبرزه في صورة التمثيل؛ ليشعر بأنه واجب الأداء، فشبه صورة حفظ المؤمن نفسه مما وجب عليه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهيه، وشبه ما يترتب عليه من الفوز بالجنة، وأنه واجب على الله بحسب الوعد أداؤه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الواسطة والشفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حق واجب الأداء على آخر، فيقوم به ضامن يتكفل له بأداء حقه. وأدخل المشبه في صورة المشبه به وجعله فردا من أفراده، ثم ترك المشبه به وحعل القرينة الدالة على ما يستعمل فيه من الضمان نحو قولك للمفتي الذي يتردد في فتواه: أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى. ونحوه في التمثيل قوله تعالى} إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة {. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من رضوان الله)) ((من)) فيه بيانية حال من الكلمة، وكذا قوله ((لا يلقي لها بالا)).وقوله: ((يرفع الله بها درجات)) جملة مستأنفة بيان للموجب، كأن قائلا يقول: ماذا يستحق بعد؟ قيل له يرفع الله بها درجات. ((نه)): ((لا يلقي لها بالا)) أي لا يستمع إليه ولا يحعل قلبه نحوه. قوله: ((أبعد)) الظاهر أنه صفة مصدر محذوف أي هويا بليغا بعيد المبدأ والمنتهى. الحديث الثالث عن عبد الله: قوله: ((سباب المسلم)) ((نه)):السب والشتم يقال: سبه يسبه سبا سبابا. قيل: هذا محمول على من سب أو قاتل مسلما من غير تأويل. وقيل: إنما قال ذلك على جهة التغليظ إلا أن يخرجه إلى الفسق والكفر. ((حس)):إذا استباح دمه من غير تأويل، ولم ير الإسلام عاصما له فهو ردة كفر. أقول: معنى الحديث راجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)).وقد تقرر أن المسلم هنا الكامل في الإيمان المؤدي لحقوقه بحسب استطاعته. فالنسبة إلى الكفر في هذا الحديث إشارة إلى نقصان إيمانه تغليظا.

4815 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أيما رجل قال لأخيه كافر، فقد باء بها أحدهما)).متفق عليه. 4816 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) رواه البخاري. 4817 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك، إلا حار عليه)).متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((حس)):وفيه دليل على المرجئة الذين لا يرون الطاعة من الإيمان، ويقولون: إن الإيمان لا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: ((قتاله كفر)) إلى أن ترك القتال من الإيمان، وأن فعله ينقص الإيمان. الحديث الرابع عن ابن عمر: قوله: ((فقد باء بها)) ((نه)):أي الترمها ورجع بها. أقول: لابد من الرجوع والعود من الشيء، فإذا قال القائل لصاحبه: يا كافر! فإن صدق رجع إليه كلمة الكفر الصادر من مقتضاها، وإن كذب واعتقد بطلان الإسلام، رجعت هذه الكلمة الصادرة إلى القائل. ((مح)):هذا الحديث مما عده ((بعض)) العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد؛ وذلك أن مذهب أهل الحق أن لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا. وقول لأخيه: ((كافر)) من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. وإذا تقرر ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه أحدها: أنه محمول على المستحل لذلك، فعلى هذا معنى ((باء بها)):أي بكلمة الكفر أي رجع عليه الكفر. وثانيها: معناه: رجعت عليه نقيصة لأخيه ومعصية تكفيره. وثالثهما: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين. وهذا ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون: أن الخوارج كسائر أهل البدع لا يكفر. ورابعها: أن ذلك يؤول به إلى الكفر. وخامسها: معناه فقد رجع إليه تكفيره. وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لكونه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام. انتهى كلامه. وفي أكثر الوجوه أحدهما محمول على القائل. الحديث الخامس والسادس عن أبي ذر: قوله: ((إلا حار عليه)) ((نه)):في باب الحاء المهملة مع الراء حار عليه أي رجع عليه ما نسب إليه، انتهى كلامه. والمستثنى منه محذوف هو جواب الشرط، أي من دعا رجلا بالكفر باطلا، فلا يلحقه من قوله ذلك شيء إلا الرجوع عليه.

4818 - وعن أنس، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم)) رواه مسلم. 4819 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا)).رواه مسلم. 4820 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) رواه مسلم. 4821 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم)) رواه مسلم, ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز أن تكون ((من)) الاستفهامية. وفيه معنى الإنكار أي ما يفعل أحد هذه الفعلة في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما قالا)) يجوز أن تكون ((ما)) شرطية. وقوله: ((فعلى البادئ)) جزاؤه، أو موصولة و ((فعلى البادئ)) خبره، والجملة سببية. ومعناه: إثم ما قالاه على البادئ إذ لم يعتد المظلوم، فإذا تعدى فيكون عليهما، نعم إلا إذا تجاوز غاية الحد، فيكون إثم القولين عليه. ((حس)):من أربى الربا من سب سبتين بسبة. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا ينبغي لصديق)) حكم مرتب على الوصف المناسب، وذلك أن هذه الصفة تالية صفة النبوة؛ قال الله تعالى:} فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين {والأنبياء إنما بعثوا رحمة للخلق مقربين البعيد والطريد إلى الله تعالى ورحمته، واللاعن طارد لهم وطالب لبعدهم منها، فاللعنة منافية لحاله. الحديث التاسع عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((لا يكونون شهداء)) يعني في قوله تعالى:} وكذلك جعلناكم أمة وسطى لتكونوا شهداء على الناس {والمراد بالوسط العدل، واللعنة سالبة للعدالة. ((ولا شفعاء)) أي لا تكون لهم مرتبة الشفاعة؛ لأنهم باللعنة أسقطوا مرتبتهم تلك من الأنبياء. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فهو أهلكهم)) ((نه)):يروى بفتح الكاف وضمها. فمن فتحها كان فعلا ماضيا، ومعناه أن الغالين الذين يؤيسون الناس من رحمة

4822 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)) متفق عليه. 4823 - وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: ((لا يدخل الجنة قتات)).متفق عليه. وفي رواية مسلم: ((نمام)). 4824 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الله يقولون: هلك الناس، أستوجبوا النار بسوء أعمالهم. فإذا قال الرجل ذلك فهو الذي أوجبه لهم، لا الله تعالى، أو هو الذي لما قال لهم ذلك وآيسهم، حملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصي، فهو الذي أوقعهم في الهلاك. وأما الضم فمعناه أنه إذا قال لهم ذلك، فهو أهلكهم أي أكثرهم هلاكا. وهو الرجل يولع بعيب الناس ويذهب بنفسه عجبا. ويرى لهم عليه فضلا. وزاد في شرح السنة: روي معنى هذا عن مالك قال: فإذا قال ذلك عجبا بنفسه وتصاغرا للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه، وإذا قال ذلك تحزنا لما يرى في الناس من أمر دينهم فلا أرى به بأسا. الحديث الثاني عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((قتات)) ((نه)):هو النمام، قت الحديث إذا زوه وهيأه وسواه. وقيل: النمام هو الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليه، والقتات هو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم. قال الشيخ أبو حامد: قيل: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق، وهي أثافي الذل. فينبغي أن يبغض النمام ولا يوثق به وبصداقته. حكي أن حكيما زاره رجل وأخبره عن غيره بخبر، فقال: أبطلت زيارتي، ثم أتيتني بثلاث جنايات: بغضت إلى أخي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة. الحديث الثالث عشر عن عبد الله: قوله: ((صديقا)) هو من أبنية المبالغة، ونظيره: الضحيك، والمراد فرط صدقه وكثرة صدوره منه حتى يصدق قوله بالعمل. وإليه الإشارة بقوله تعالى:

4825 - وعن أم كلثوم ((رضي الله عنها))،قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا)) متفق عليه. 4826 - وعن المقداد بن الأسود ((رضي الله عنه))،قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوهم التراب)).رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ } والذي جاء بالصدق وصدق به {.والتنكير في ((صديقا)) للتعظيم والتفخيم، أي ببلغ في الصدق إلى غايته ونهاينه، حتى يدخل به إلى زمرة الصديقين ويكتب عند الله منهم. ((مح)):ومعنى ((يكتب)) هنا يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتب اسمه بخط المصنفين في تصانيفهم به أو في الملأ الأعلى، ويلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم حتى يوضع له القبول، أو البغضاء بقدر الله سبحانه وتعالى. الحديث الرابع عشر عن أم كلثوم: قوله: ((ليس الكذاب)) الكذاب اللام فيه إشارة إلى الكذاب المعهود الذي مر في الحديث السابق ونحوه، يعني الكذاب المذموم عند الله تعالى الممقوت عند المسلمين ليس من يصلح الذات البين، فإنه محمود عند الله تعالى وعندهم. فعلى هذا يجب أن يكون ((الكذاب)) مرفوعا على أنه اسم ((ليس)). وقوله: ((الذي يصلح)) خبره خلافا لمن زعم أن ((الكذاب)) خبر ((ليس)) و ((الذي)) اسمه. قوله: ((وينمي خيرا)) ((نه)): يقال نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة. قلت: نميمته بالتشديد، هكذا قال أبو عبيدة وابن قتيبة وغيرهما من العلماء. وقال الحربي: نمى مشددة، وأكثر المحدثين يقولونها مخففة، وهذا لا يجوز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن. ومن خفف لزمه أن يقول ((خير)) بالرفع. وهذا ليس بشيء، فإنه ينتصب بـ ((نمى)) كما انتصب بـ ((قال)).وكلاهما على زعمه لازمان. وإنما ((نمى)) متعد يقال: نميت الحديث أي رفعته وأبلغته. الحديث الخامس عشر عن المقداد رضي الله عنه: قوله: ((المداحين)) ((خط)):المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود، يكون به ترغيبا له في أمثاله؛ وتحريضا للناس على الاقتداء في أشباهه فليس بمداح. ((حس)):قد استعمل المقداد الحديث على ظاهره في تناول عين التراب وحثه في وجه المادح. وقد يتناول على أن يكون معناه الخيبة والحرمان، أي من تعرض لكم بالثناء والمدح

4827 - وعن أبي بكرة، قال: أثنى رجل على رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ويلك قطعت عنق أخيك)) ثلاثا ((من كان منكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكى على الله أحدا)).متفق عليه. 4828 - وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)).قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان لقولهم: ما في يده غير التراب، كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا)) وفي الجملة المدح والثناء على الرجل مكروه؛ لأنه قلما يسلم المادح عن كذب يقوله في مدحه، وقلما يسلم الممدوح من عجب يدخله. ((قض)):وقيل: معناه أعطوهم عطاء قليلا، فشبهه لقلته بالتراب، وإعطائه بالحثى على سبيل الترشيح وللمبالغة في تقليل العطاء والاستهانة بهم. الحديث السادس عشر عن أبي بكرة: قوله: ((قطعت عنق)) ((مح)):هذه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكن هذا الهلاك في الدين، وقد يكون من جهة الدنيا. ((شف)) ((الله حسيبه)) يعني محاسبه على عمله الذي يحيط بحقيقة حاله ويعلم سره، وهي جملة اعتراضية. وقوله: ((وإن كان يرى أنه كذلك)) يتعلق بقوله: ((أحسب فلانا)).قوله: ((ولا يزكي على الله أحدا)) منع له عن الجزم وهو عطف على قوله: ((فليقل)) أي من كان منكم مادحا فليقل: أحسب فلانا كذا إن كان يرى أنه كذلك ولا يجزم بالمدح، ولا يزكي على الله أحدا بالجزم بمدحه. أقول: أحسب أن قوله: ((والله حسيبه)) من تتمة القول، وقوله: ((إن كان يرى)) الجملة الشرطية وقعت حالا من فاعل ((فليقل)) و ((على)) في ((على الله)) فيه معنى الوجوب والقطع. المعنى: فليقل: أحسب أن فلانا كيت وكيت والله يعلم سره فيما فعل، وهو يجازيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ولا يقل: أتيقن أنه محسن، والله شاهد عليه على الجزم والقطع، وأن الله تعالى يجب عليه أن يفعل به كذا وكذا. ويقابله قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فليقل: اللهم اغفر لي ما شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة)). ((ولا يزكي)) جاء بإثبات الياء إخبار في معنى النهي، أي لا تكن منكم التزكية على الله.

أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) ررواه مسلم. وفي رواية: ((إذا قلت لأخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته)). 4829 - وعن عائشة ((رضي الله عنها))،أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: ((ائذنوا له، فبئس أخو العشيرة)) فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه .. فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله! قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((متى عاهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)).وفي رواية: ((اتقاء فحشه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ((مح)):اعلم أن الغيبة من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا بين الناس، حتى لا يسلم منها إلا القليل من الناس. وذكرك فيه بما يكرهه عام، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو غلامه، أو خادمه، أو ثوبه، أو مشيه، وحركته، وبشاشته، وعبوسته، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابتك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك ونحو ذلك. وضابطه أن كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة بأن تمشي متعارجا أو مطأطئا، أو غير ذلك من الهيئات مريدا حكاية هيئة من تنتقصه بذلك. الحديث الثامن عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فبئس أخو العشيرة)) كقولك: ((يا أخا العرب)) لرجل منهم ((مح)):العشيرة القبيلة أي بئس هذا الرجل من هذه العشيرة، واسم هذا الرجل عيينة بن حصين. ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله؛ ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف بحاله. وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة؛ لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام. وفيه مدارة من يتقي فحشه وجواز غيبة الفاسق. ((حس)):فيه دليل على أن ذكر الفاسق بما فيه، ليعرف أمره فيتقي، لا يكون من الغيبة. ولعل الرجل كان مجاهرا بسوء أفعاله، ولا غيبة لمجاهر. قوله: ((إن شر الناس)) استئناف كالتعليل لقوله: ((متى عاهدتني فحاشا)) وهو إنكار على

4830 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافي إلا المجاهرون، وإن من المجانة أن يعمل الرجل عملا بالليل ثم يصبح قد ستره الله. فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)) متفق عليه. وذكر أبي هريرة: ((من كان يؤمن بالله)) في ((باب الضيافة)) الفصل الثاني 4831 - عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الكذب ـــــــــــــــــــــــــــــ عائشة رضي الله عنها قولها: إنك خالفت بين الغيبة والحضور، فلم لم تذمه في الحضور كما ذممته في الغيبة؟،فقال: متى عاهدتني فحاشا. وإنما تركته اتقاء شره)). الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((معافي)) ((مح)): ((معافاة)) بالهاء في آخره، هكذا هو معظم النسخ والأصول المعتمدة، انتهى كلامه. وفي نسخ المصابيح ((معافي)) بلا هاء، وعلى هذا ينبغي أن يكتب ألفه بالياء فيكون مطابقا للفظه؛ كما ورد: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)). قوله: ((إلا المجاهرون)) كتب مرفوعا في نسخ المصابيح، وحقه النصب على الاستثناء. ((شف)):هو مستثنى من قوله: ((معافي)) وهو في معنى النفي، أي كل أمتى لا ذنب عليهم إلا المجاهرون. وأورد الحافظ أبو موسى في مجموعة المغيث: ((إلا المجاهرون)) بالنصب على الأصل، وهكذا أورده في النهاية. أقول: والأظهر أن يقال: كل أمتي يتركون الغيبة إلا المجاهرون، كما ورد: ((من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)).والعفو بمنع الترك. وفيه معنى الترك. وفيه معنى النفي، نحوه قوله تعالى:} ويأبى الله إلا أن يتمم نوره {،والمجاهرون هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها، وكشفوا ما ستر الله عليهم فيتحدثون به، يقال: جهر وجاهر وأجهر. ((مح)):ومن الذين يجوز بهم الغيبة المجاهر بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز لغيره. قوله: ((وإن من المجانة)) الجوهري: المجون والمجانة أن لا يبالي الإنسان بما صنع، يقال مجن بالفتح يمجن بالضم مجونا ومجانة فهو ماجن.

وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسط الجنة، ومن حسن خلقه بنى له في أعلاها)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. وكذا في ((شرح السنة)).وفي ((المصابيح)) قال: غريب. [4831] 4832 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما أكثر ما يدخل ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في ربض الجنة)) ((نه)):وهو بفتح الباء ما حولها خارجا عنها؛ تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع. قوله: ((من ترك الكذب)) قيل: أي من ترك الكذب في قوله طوعا وإرادة واتباع للصدق، ورأي أن الصدق أحق أن يتبع، والكذب باطل لا يجوز اتباعه. والتفوه به كالتأكيد والمبالغة في وجوب ترك الكذب، وهو جملة اعتراضية وقعت بين الجزاء والشرط كالبيان، أي الكذب باطل في الواقع لا يكون حقا. والباطل اسم جامع لما لا يحل. فقيل: معناه من ترك الكذب- والحال أنه باطل- لا يكون له ولا لغيره مصلحة فيه، كما ذكر في مرخصات الكذب من الحرب، وإصلاح ذات البين، والمعاريض، وغيرها فتكون جملة حالية. قوله: ((ومن ترك المراء)) أي الجدال والمماراة والمجادلة. وقوله: ((وهو محق)) أي في ذلك الجدال فتركه كسرا لنفسه كيلا يرتفع على خصمه، وأن لا يظهر فضله عليه، فتواضع في ذلك مع كونه محقا فيه، بنى لهبيت في وسط الجنة. أقول: لا شك أن قوله: ((وهو محق)) حال من فاعل ((ترك)) وقع تتميما للمعنى ومبالغة. وقوله: ((من ترك الكذب وهو باطل)) قرينة له فينبغي مراعاة هذه الدقيقة. فالمعنى: من ترك الكذب، والحال أنه عالم ببطلانه في أمور الدين، لكن سنح له فيه منفعة دنيوية، فيتركها كسرا لهواه وإيثارا لرضى الله على رضاه، بنى له بيت في ربض الجنة. ولما كانت مكارم الأخلاق متضمنة لترك رذائلها وللإتيان بمحاسنها، عقبهما بقوله: ((ومن حسن خلقه)) تحلية بعد التحلية. قال الشيخ أبو حامد: المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما لفظا أو معنى أو في قصد التكلم، وترك المراء بترك الإنكار والإعراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تقوى القلوب)) إشارة إلى حسن المعاملة

الناس الجنة؟ تقوى الله، وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ الأجوفان: الفم والفرج)).رواه الترمذي وابن ماجه. [4832] 4833 - وعن بلال بن الحارث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه)) رواه في ((شرح السنة)).وروى مالك، والترمذي، وابن ماجه ونحوه. [4833] 4834 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ مع الخالق، بأن يأتي جميع ما أمر به وينتهي عما نهى عنه. وحسن الخلق إشارة إلى حسن المعاملة مع الخلق. وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة ونقيضهما لدخول النار، فأوقع الفم والفرج مقابلا لهما. أما الفم فمشتمل على اللسان، وحفظه ملاك أمر الدين كله، وأكل الحلال رأس التقوى كله. وأما الفرج فصونه من أعظم مراتب الدين، قال تعالى:} والذين هم لفروجهم حافظون {؛ لأن هذه الشهوة أغلب الشهوات على الإنسان، وأعصاها عند الهيجان على العقل، ومن ترك الزنا خوفا من الله تعالى، مع القدرة، وارتفاع الموانع، وتيسير الأسباب- لاسيما عند صدق الشهوة- وصل إلى درجة الصديقين، قال تعالى:} وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى {.وقصة الرشيد في تعليق طلاق زبيدة مشهورة. ومعنى الأكثرية في القرينتين أن أكثر أسباب السعادة الأبدية الجمع بين هاتين الخلتين، وأن أكثر أسباب الشقاوة الجمع بين هاتين الخلتين. الحديث الثالث عن بلال رضي الله عنه: قوله: ((يكتب الله بها رضوانه)) فإن قلت: ما معنى قوله: ((يكتب الله له بها رضواته))،وما فائدة التوقيت إلى يوم يلقاه؟ قلت: معنى ((كتب رضوانه)):توفيقه لما يرضى الله تعالى من الطاعات والمسارعات إلى الخيرات، فيعيش في الدنيا حميدا، وفي البرزخ يصان من عذاب القبر، ويفسح له قبره ويقال له: ((نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه)) ويحشر يوم القيامة سعيدا، ويظله الله

((ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له)).رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والدرامي. [4834] 4835 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك به الناس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل على لسانه أشد مما يزل عن قدمه)).رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4835] 4836 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صمت نجا)).رواه أحمد، والترمذي، والدرامي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4836] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى في ظله، قم يلقي بعد ذلك من الكرامة والنعيم المقيم في الجنة، ثم يفوز بلقاء الله ما دون ذلك دونه. وفي عكسه قوله: ((يكتب الله بها عليه سخطه)) ونظيره قوله تعالى لإبليس:} إن عليك لعنتي إلى يوم الدين {. الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة: قوله: ((إلا ليضحك بها)) استثناء، من أعم عام الغرض، أي يكون غرضه منحصرا فيه ولا يتجاوز عنه. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم، يمزح ولا يقول إلا حقا، ولا يؤذي قلبا ولا يفرط فيه. فإن كنت أيها السامع تقتصر عليه أحيانا وعلى الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان من المزاح حرفة، يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل رسول الله صلى اله عليه وسلم، وهو كمن يدور مع الزنوج أبدا لينظر رقصهم، ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة رضي الله عنها في النظر إليهم وهم يلعبون. انتهى كلامه. وقوله: ((إنه ليزل عن لسانه)) تمثيل بعد تمثيل، مثل أولا مضرته منها في جاهه وسقوطه من منزلته عند الله تعالى، بمن سقط من أعلى مكان إلى أدناه، قم مثل ثانيا مضرته بها في نفسه، وما يلحقه من المشقة والتعب بمن يتردد في وحل عظيم فيدحض قدماه في تلك المزالق فلا يتخلص منها. الحديث السادس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((من صمت نجا)):الصمت

4837 - وعن عقبة بن عامر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما النجاة، فقال: ((أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) رواه أحمد، والترمذي. [4837] ـــــــــــــــــــــــــــــ أبلغ من السكوت؛ لأنه قد يستعمل فيما لا قوة له للنطق وفيما له قوة النطق؛ ولهذا قيل لما لا نطق له ((الصامت والمصمت)) والسكوت يقال لما له نطق فيترك استعماله. قال الشيخ أبو حامد: ((اعلم أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم من فصل الخطاب وجوامع الكلم وجواهر الحكم. ولا يعرف أحد ما تحت كلماته من بحار المعاني، إلا خواص العلماء؛ وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من الخطأ، والكذب، والنميمة، والغيبة، والرياء، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، وغير ذلك. ومع ذلك النفس مائلة إليها؛ لأنها سباقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان. فالخائض فيها قلما يقدر على أن يزم اللسان، فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة، مع ما فيه من جمع الهم، ودوام الوقار، والفراغة للفكر، والعبادة، والذكر، والسلامة من تبعا القول في الدنيا، ومن حسابه في الآخرة. وقد قال تعالى:} ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد {. ويدلك على لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول والاشتغال به تضييع للزمان، وهو عين الخسران ظاهرا، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وفيه خطر؛ إذ قد يمتزج به ما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفي مدركه فيكون به الإنسان مخاطرا. الحديث السابع عن عقبة: قوله: ((أملك عليك لسانك)) ((نه)):أي لا تجره إلا بما يكون لك لا عليك، وعن بعضهم: أي اجعل لسانك مملوكا لك فيما عليك وباله وتبعته، وأمسكه عما يضرك، وأطلقه عما ينفعك، انتهى كلامه. وهذا الجواب من باب الأسلوب الحكيم، سأل عن حقيقة النجاة، فأجاب عن سببه؛ لأنه أهم بحاله وأولى، وكان من الظاهر أن يقول: حفظ اللسان، فأخرجه على سبيل الأمر الذي يقتضي الوجوب مزيدا للتقرير والاهتمام. وقوله: ((وليسعك بيتك)) الأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطب،

4838 - وعن أبي سعيد، رفعه، قال: ((إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنا نحن بك، فإن استقمت اسقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) رواه الترمذي. [4838] 4839 - وعن علي بن الحسين ((رضي الله عنهما)) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).روام مالك، وأحمد. [4839] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي تعرض لما هو سبب اللزوم البيت من الاشتغال بالله والمؤانسة بطاعته والخلوة عن الأغيار. وضمن ((بكى)) معنى الندامة، وعداه بـ ((علي)) أي اندم على خطيئتك باكيا. الحديث الثامن عن أبي سعيد: قوله: ((تكفر)) ((نه)):أي تذل وتخضع، والتكفير هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه، قال عمرو بن كلثوم. نكفر باليدين إذا التقينا ونلقى من مخافتنا عصاكا انتهى كلامه. وقوله: ((فإنا نحن بك)) أي نحن نستقيم ونعوج بك يدل على التفصيل. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد لمضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).قلت: اللسان ترجمان القلب وخليفته في ظاهر البدن، فإذا أسند إليه الأمر يكون على سبيل المجاز في الحكم كما في قولك: شفي الطبيب المريض. قال الميداني في قوله: ((المرأ بأصغريه)) يعني بهما القلب واللسان أي تقوم معانيه بيهما ويكمل بهما. وأنشد الزهير: وكأين ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصانه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم الحديث التاسع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ما لا يعنيه)) ((نه)):أي لا يهمه ويقال: عنيت بحاجته أعني بها، وأنا بها معنى، وعنيت به فأنا عان، والأول أكثر أي اهتممت بها واشتغلت، وعن بعضهم ((من)) في قوله: ((من حسن إسلام المرء)) تبعيضية، ويجوز أن تكون بيانية. أقول: على أن تكون تبعيضية إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) بعد ذكر الإيمان والإسلام، وأنت تعلم أن التحلية مسبوقة بالتخلية،

4840 - ورواه ابن ماجه، عن أبي هريرةز [4840] 4841 - والترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عنهما. [4841] 4842 - وعن أنس، قال: توفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه)).رواه الترمذي. [4842] ـــــــــــــــــــــــــــــ فالترك بعض من الإحسان، فيكون إشارة إلى الانسلاخ عما يشغله عن الله تعالى. فإذا أخذ السالك في السلوك تجرد بحسب أحواله ومقاماته شيئا فشيئا، مما لا يعنيه إلى أن يتجرد عن جميع أوصافه ويتوجه بذاته إلى الله تعالى, وإليه يلمح قوله تعالى:} بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن {وقول إبراهيم عليه السلام: ((أسلمت لرب العالمين)) إذ قال له ربه أسلم. ((مح)):هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. قال أبو داود: وهي أربعة: الأول: حديث نعمان بن بشير: ((الحلال بين والحرام بين)).والثاني ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).والثالث: ((لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) والرابع: ((إنما الأعمال بالنيات)).وقيل بدل الثالث: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)).وأنشد الإمام الشافعي رضي الله عنه في معناه: عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية قال الشيخ أبو حامد: وحد ما لا يعنيك في الكلام أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال ولا مال؛ فإنك به مضيع زمانك ومحاسب على عمل لسانك، إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنك لو صرفت زمان الكلام في الفكر والذكر، ربما ينفتح لك من نفحات رحمة الله تعالى ما يعظم جدواه. ولو سبحت الله تعالى بنى لك بها قصرا في الجنة. ومن قدر على أن يأخذ كنزا من الكنوز فأخذ بدله مدرة لا ينتفع بها، كان خاسرا خسرانا مبينا. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أولا تدري)) الواو فيه عطف على محذوف،

4843 - وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: ((هذا)).رواه الترمذي، وصححه. [4843] 4844 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به)) رواه الترمذي. [4844] 4845 - وعن سفيان بن أسيد الحضرمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب)).رواه أبو داود. [4845] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي تكلم بهذا ولا تدري! فلعله قال في الإحياء: معناه: أنه إنما يهنأ بالجنة من لا يحاسب، ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه. فإن كان كلاما مباحا، فربما لا تتهيأ له الجنة مع المناقشة في الحساب، فإنه نوع من العذاب. وقوله: ((يبخل بما لا ينقصه)) يعم جميع ما ينقص بالبذل والإبتاء من المال والمسائل العلمية. الحديث الحادي عشر عن سفيان: قوله: ((ما أخوف)) هو نحو أشهر وألوم وأشغل، بني للمفعول. و ((ما)) في ((ما تخاف)) يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، أو تكون مصدرية على طريقة: جد جده وجن جنونه، وخشيت خشيته. وإنما أسند صلى الله عليه وسلم شدة خوفه على أمته في سائر الأخبار إلى اللسان؛ لأنه أعظم الأعضاء عملا؛ إذ ما من طاعة ولا معصيى إلا وله فيها مجال. فالإيمان والكفر يتبين بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والطغيان، فمن أطلق عذبة اللسان وأصله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم إلا حصاد ألسنتهم، ولا ينجي من شره إلا أن يقيد بلجام الشرع. وعلم ما يحمد إطلاق اللسان فيه أو يذم، غامض عزيز، والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، كذا قاله في الإحياء. الحديث الثاني عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تباعد عنه الملك)) وإذا كان الملك يتأذى ويتباعد من نتن نحو البصل والثوم، فلأن يتأذى ويتباعد من الكذب أولى. الحديث الثالث عشر عن سفيان: قوله: ((أن تحدث أخاك)) هو فاعل ((كبرت)) وأنت الفعل باعتبار المعنى؛ لأنه نفس الخيانة. وفيه معنى التعجب كما في قوله تعالى:} كبر مقتا عند

4846 - وعن عمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان ذا وجهين في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار)).رواه الدرامي. [4846] 4847 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)).وفي أخرى له: ((ولا الفاحش البذيء)).وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [4847] 4848 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكون المؤمن لعانا)).وفي رواية: ((لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا)).رواه الترمذي. [4848] 4849 - وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضب الله، ولا بجهنم)).وفي رواية ((ولا بالنار)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4849] الله {الكشاف: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه، قصد في كبر التعجب من غير لفظه، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، انتهى كلامه. والمعنى: خيانة عظيمة منك إذا حدثت أخاك المسلم بحديث كذب، وهو يعتمد عليك، ويثق بقولك، وظن بك أنك مسلم لا تكذب، فيصدقك، والحال أنك كاذب. الحديث الرابع عشر إلى السابع عشر عن سمرة: قوله: ((لا تلاعنوا)) أي لا تدعو الناس بما يبعدهم من الله تعالى ومن رحمته، إما صريحا كما تقولون: لعنة الله عليه. أو كناية كما تقولون: عليه غضب الله، أو أدخله الله النار. فقوله: ((لا تلاعنوا)) من باب عموم المجاز؛ لأنه في بعض أفراده حقيقة وفي بعضه مجاز. وهذا مختص بمعين؛ لأنه يجوز اللعن بالوصف الأعم

4850 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها)) رواه أبو داود. [4850] 4851 - وعن ابن عباس، أن رجلا نازعته الريح رداءه فلعنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4851] 4852 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر)).رواه أبو داود. [4852] 4853 - وعن عائشة، قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا- تعني قصيرة- فقال ((لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته)).رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [4853] ـــــــــــــــــــــــــــــ كقوله: لعنة الله على الكافرين، أو بالأخص كقوله: لعنة الله على اليهود، أو على كافر معين مات على الكفر، كفرعون وأبي جهل. الحديث الثامن عشر إلى العشرين عن ابن مسعود: قوله: ((شيئا)) عام في الأفعال والأقوال مما يكرهه ويورث الغش في صدره- صلى الله عليه وسلم- من أحد أصحابه؛ لقوله: ((أن أخرج إليكم سليم الصدر)). الحديث الحادي والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لو مزج بها البحر)) ((تو)):قد حرفت ألفاظ هذا الحديث في المصابيح، والصواب ((لو مزجت بالبحر لمزجته)).أقول: قد ورد هذا الحديث كما في المصابيح والمتن في نسخة مصححة من سنن أبي دواد. ولعل التخطئة

4854 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه)) رواه الترمذي. [4854] 4855 - وعن خالد بن معدان عن معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله)) –يعني من ذنب قد تاب عنه- رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل، لأن خالدا لم يدرك معاذ بن جبل. [4855] 4856 - وعن واثلة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [4856] ـــــــــــــــــــــــــــــ لأجل الدراية لا الرواية؛ إذ لا يقال: مزج بها البحر، بل مزجت بالبحر. ويمكن أن يقال: إن المزج والخلط يستدعيان الامتزاج والاختلاط، وكل من الممتزجين يمتزج بالآخر؛ قال الله تعالى:} فاختلط به نبات الأرض {،الكشاف: وكان حق اللفظ: فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته: أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه على أن هذا التركيب أبلغ؛ لأنه حينئذ من باب ((عرضت الناقة على الحوض)). ((قض)):المزج الخلط والتغيير بضم غيره إليه والمعنى أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر، لغيرته من حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال نزر خلطت بها؟ الحديث الثاني والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((في شيء)) فيه مبالغة، أي لو قدر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لزانه أو شانه، فكيف الإنسان؟ الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن واثلة: قوله: ((لا تظهر الشماتة)) الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك. يقال: شمت به فهو شامت وأشمت الله به العدو. وقوله: ((فيرحمه الله)) أي يرحمه رغما لأنفك ويبتليك؛ حيث زكيت نفسك ورفعت منزلتك عليه، نحوه قوله صلى الله عليه وسلم في قول من قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك أبدا: ((فقال الله تعالى للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي)) الحديث. وقوله: ((فيرحمه الله)) نصب جوابا للنهي. وقوله: ((ويبتليك)) عطف عليه.

4857 - وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أني حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا)) رواه الترمذي وصححه. [4857] 4858 - وعن جندب، قال: جاء أعرابي، فأناخ راحلته، ثم علقها، ثم دخل المسجد فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟)) قالوا: بلى. رواه أبو داود. [4858] وذكر حديث أبي هريرة: ((كفي بالمرء كذبا)) في ((باب الاعتصام)) في الفصل الأول. الفصل الثالث 4859 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مدح الفاسق غضب الرب تعالى، واهتز له العرش)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4859] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((حكيت أحدا)) ((نه)):أي فعلت مثل فعله. يقال حكاه وحاكاه، وأكثر ما يستعمل في القبيح المحاكاة. ((مح)):ومن الغيبة المحرمة المحاكاة. بأن يمشي متعارجا أو مطأطئا رأسه، أو غير ذلك من الهيئات كما مر. قوله: ((وأن لي كذا وكذا)) جملة حالية واردة على التتميم والمبالغة، أي ما أحب أن أحاكي أحدا ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا. الحديث السادس والعشرون عن جندب رضي الله عنه: قوله: ((أتقولون)) أي تظنون؟ ((نه)):في الحديث: ((فقال البر تقولون بهن)) أي تظنون وترون أنهن أردن البر؟ انتهى كلامه. يعني أيدور هذا التردد في ظنكم؟ ولا يقول ما قال إلا جاهل بالله وبسعة رحمته حيث يحجر الواسع والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((اهتز له العرش)) اهتزاز العرش عبارة عن وقوع أمر عظيم وداهية دهياء؛ لأن فيه رضى بما فيه سخط الله وغضبه، بل يقرب أن يكون كفرا؛ لأنه يكاد أن يفضي إلى استحلال ما حرمه الله تعالى، وهذا هو الداء العضال لأكثر

4860 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) رواه أحمد. [4860] 4861 - والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن سعد بن أبي وقاص. [4861] ـــــــــــــــــــــــــــــ العلماء والشعراء، والقراء والمرائين في زماننا هذا. وإذا كان هذا حكم من مدح الفاسق، فكيف بمن مدح الظالم وركن إليه ركونا؟ وقد قال تعالى:} ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار {الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهتمهم، والرضى بأعمالهم، ووالتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. ولما خالط الزهري السلاطين، كتب إليه أخ له في الدين: ((عافانا الله وإياكم أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال تعالى:} لتبيننه للناس ولا تكتمونه {. واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك لمن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، واتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك. فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم:} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشبهات فسوف يلقون غيا {،فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك، فقد دخله سقم، وهيئ زادك، فقد حضر السفر البعيد، وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. الحديث الثاني عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((يطبع عليها)) ((نه)):أي يخلق عليها.

4862 - وعن صفوان بن سليم، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: ((نعم)) فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: ((نعم)).فقيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: ((لا)).رواه مالك والبيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [4862] 4863 - وعن ابن مسعود، قال: ((إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون؛ فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث)) رواه مسلم. 4864 - وعن عمران بن حطان، قال: أتيت أبا ذر فوجدته في المسجد محتبيا بكساء أسود وحده. فقلت: يا أبا ذر! ما هذه الوحدة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر)). [4864] ـــــــــــــــــــــــــــــ والطباع ما ركب في الإنسان من جميع الأخلاق التي لا يكاد يزاولها من الخير والشر، انتهى كلامه. وإنما كانت الخيانة والكذب منافيين لحاله؛ فإن الإيمان إفعال من الأمن وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة؛ ولأنه حامل أمانة الله تعالى، فينبغي أن يكون أمينا لا خائنا. ((غب)):أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر. ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان نحو} وتخونوا أماناتكم {. الحديث الثالث والرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الشيطان ليتمثل)) فيه تنبيه على التحري فيما يسمع من الكلام وأن يتعرف من القائل؟ أهو صادق يجوز النقل عنه، أو كاذب يجب الاجتناب عن نقل كلامه؟ على ما ورد: ((كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)).

4865 - وعن عمران بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مقام الرجل بالصمت أفضل من عبادة ستين سنة)) [4865] 4866 - وعن أبي ذر، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! أوصني قال: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه أزين لأمرك كله)) قلت: زدني. قال: ((عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض)).قلت: زدني. قال: ((عليك بطول الصمت، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك)).قلت: زدني. قال: ((إياك وكثرة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عمران: قوله: ((مقام الرجل)) أي منزلته عند الله تعالى؛ لأن في العبادة آفات يسلم عنها بالصمت كما ورد: ((من صمت نجا)). الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((فذكر الحديث بطوله)) أي ذكر راوي أبي ذر الحديث بطوله. ولعله أراد مثل ما روى عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى أبا ذر فقال: يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين، هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: عليك بحسن الخلق وطول الصمت، والذي نفس محمد بيده ما عمل الخلائق بمثلهما. وقال: الخصلة الواحدة الصالحة تكون في الرجل فيصلح الله له بها عمله كله. وطهور الرجل وصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة. قوله: ((فإنه أزين)) نسب الزينة إلى التقوى كما نسب الله تعالى اللباس إليه في قوله:} ولباس التقوى ذلك خير {بعد قوله:} خذوا زينتكم عند كل مسجد {كما أن السماء مزينة بزينة الكواكب، كذلك قلوب العارفين مزينا بالمعارف والتقوى، قال تعالى:} فإنها من تقوى القلوب {.والضمير في ((إنه ذكر)) وفي ((فإنه يميت)) واقع موقع اسم اشارة، أي كثرة الضحك تورث قساوة القلب. وهي مفضية إلى الغفلة، وليس موت القلب إلا الغفلة. والمراد بنور الوجه بهاؤه في قوله تعالى:} سيماهم في وجوهم من أثر السجود {. وقوله: ((قل الحق وإن كان مرا)) شبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيمن يأباهما بالصبر؛ فإنه مر المذاق ولكن عاقبته محمودة. ثم زاد في التأكيد بتوصية قوله: ((لا تخف في

الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه)) قلت: زدني. قال: ((قل الحق ولو كان مرا)) قلت زدني. قال: ((لا تخف في الله لومة لائم)).قلت زدني. قال: ((ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك)). [4866] 4867 - وعن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان؟)) قال: قلت: بلى. قال: ((طول الصمت، وحسن الخلق، والذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)). [4867] 4868 - وعن عائشة، قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه فقال: ((لعانين وصديقين؟ كلا ورب الكعبة)) فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أعود. روى البيهقي الأحاديث الخمسة في ((شعب الإيمان)). [4868] 4869 - وعن أسلم، قال: إن عمر دخل يوما على أبي بكر الصديق ((رضي الله ـــــــــــــــــــــــــــــ الله لومة لائم)) أي كن صلبا في دينك إذا شرعت في إنكار منكر أو أمر بمعروف، امض فيه كالمسامير المحماة، لا يرعك قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم يشق عليه جدك. وقوله: ((ليحجزك)) أي ليمنعك عيب نفسك عن عيوب الناس. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بمثلهما)) الباء في ((بمثلهما)) يحتمل أن تكون زائدة، أي ما عمل الخلائق عملين مثلهما. وأن يكون ((عمل)) بمعنى أتى، أي أتى بمثلهما. وقوله: ((أخف على الظهر)) تشبيه المعقول في تأتيه بالسهولة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان)). الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لعانين وصديقين)) أي هل رأيت صديقا يكون لعانا؟ كلا والله لا تتراءى ناراهما، فالواو للجمع أي لا يجتمعان أبدا، وفي الكلام معنى التعجب. الحديث التاسع عن أسلم: قوله: ((يجبذ)) ((نه)):الجبذ لغة في الجذب. وقيل هو مقلوب منه.

عنهم)) وهو يجبذ لسانه. فقال عمر: مه. غفر الله لك فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد. رواه مالك. 4870 - وعن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)). [4870] 4871 - 4872 - وعن عبد الرحمن بن غنم، وأسماء بنت زيد ((رضي الله عنهم))،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله. وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، والمفرقون بين الأحبة، الباغون البراء العنت)). رواهما أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4871]، [4872] 4873 - وعن ابن عباس، أن رجلين صليا صلاة الظهر أو العصر، وكانا صائمين، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: ((أعيدا وضوء كما وصلاتكما، وامضيا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر والحادي عشر عن عبد الرحمن: قوله: ((إذا رؤوا ذكر الله)) يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم في الاختصاص بالله بحيث إذا رؤوا خطر ببال من رآهم مولاهم؛ لما فيهم من سيماء العبادة. وثانيهما: أن من رآهم يذكر الله تعالى، كما روى ابن الأثير في النهاية عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: ((النظر إلى وجه على عبادة)) قيل: معناه أن عليا رضي الله عنه كان إذا برز قال الناس: لا إله إلا الله ما أشرف هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أكرم هذا الفتى، لا إله إلا الله ما أشجع هذا الفتى. فكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد. و ((العنت)) المشقة، والفساد، والهلاك، والإثم، والغلط، والخطأ، والزنا، كل ذلك قد جاء وأطلق العنت عليه، والحديث يحتمل كلها. والبراء جمع بريء. وهو، والعنت منصوبان مفعولان للباغين يقال: بغيت فلانا خيرا وبغيتك الشيء طلبته لك، وبغيت الشيء طلبته. الحديث الثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((امضيا)) أي لا تقاطعا ولا تفطرا

في صومكما، واقضياه يوما آخر)).قالا: لم يا رسول الله؟ قال: ((اغتبتم فلانا)). [4873] 4874 - 4875 - وعن أبي سعيد، وجابر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الغيبة أشد من الزنا)) قالوا: يا رسول الله! وكيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: ((إن الرجل ليزني فيتوب، فيتوب الله عليه)) –وفي رواية: ((فيتوب فيغفر الله له، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه)). [4874]، [4875] 4876 - وفي رواية أنس ((رضي الله عنه))،قال: ((صاحب الزنا يتوب، وصاحب الغيبة ليس له توبة)).روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [4876] 4877 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول: اللهم اغفر لنا وله)).رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)) وقال: في هذا الإسناد ضعف. [4877] ـــــــــــــــــــــــــــــ من ((مضى في أمره)) إذا نفذ فيه ولم يتوقف، وهذا في الصوم ظاهر لقوله تعالى:} أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا {وأما في الصلاة فإنه أكل لحم أخيه وشرب دمه فحمل النجاسة، هذا وارد على سبيل التشديد والتغليظ، والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((كيف الغيبة أشد من الزنا؟)) ((الغيبة أشد من الزنا)) مبتدأ على سبيل حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ((كيف)) خبره، أي كيف قولك هذا؟ الحديث الرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن من كفارة الغيبة أن تستغفر)) ((مح)):رأيت في فتاوى الطحاوي: أنه يكفي الندم والاستغفار في الغيبة، وإن بلغته فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه. فإن تعذر لموته أو لغيبته البعيدة، استغفر الله تعالى. ولا اعتبار بتحليل الورثة.

(11) باب الوعد

(11) باب الوعد الفصل الأول 4878 - عن جابر، قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا، وهكذا، وهكذا. فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فحثا لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة. وقال: خذ مثليها. متفق عليه. الفصل الثاني 4879 - عن أبي جحيفة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصا، فذهبنا نقبضها، فأتانا موته. فلم ـــــــــــــــــــــــــــــ وإذا اغتاب أحد فهل يكفي أن يقول: قد اغتبتك فاجعلني في حل، أم لابد أن يبين ما اغتابه فيه، فيه وجهان لأصحاب الشافعي رضي الله عنه: أحدهما: يشترط، فإن أبرأه من غير بيانه، لم يصح كما لو أبرأه عن مال مجهول. وثانيهما: لا يشترط؛ لأن هذا مما يتسامح فيه بخلاف المال. والأول أظهر؛ لأن الإنسان قد يسمح بعفو عن الغيبة دون الغيبة. قال الشيخ أبو حامد: سبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه، ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له، فتقابل بها سيئة الغيبة في القيامة. باب الوعد الوعد يستعمل في الخير، والشر، يقال: وعدته خيرا ووعدته شرا. فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير الوعد والعدة، وفي الشر: وقد أوعده يوعده. الفصل الأول الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين)) ((شف)):فيه استحباب قضاء دين الميت وإنجاز وعده لمن تخلف بعده، وأنه يستوي فيه الوارث والأجنبي. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي جحيفة: قوله: ((أمر لنا)) كذا في جامع الأصول، وساق إلى آخره ثم

يعطونا شيئا. فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليجئ فقمت إليه فأخبرته، فأمر لنا بها. رواه الترمذي. [4879] 4880 - وعن عبد الله بن أبي الحسماء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، فذكرت بعد ثلاث، فإذا هو في مكانه، فقال: ((لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك)) رواه أبو داود. [4880] 4881 - وعن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له، فلم يف ولم يجئ للميعاد، فلا إثم عليه)).رواه أبو داود، والترمذي. [4881] 4882 - وعن عبد الله بن عامر، قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أردت أن تعطيه؟)) ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: اتفق البخاري ومسلم والترمذي على الفصل الأول. واتفق البخاري والترمذي على الفصل الثاني وانفرد الترمذي بذكر أبي بكر وإعطائه إياهم، وفي سائر المصابيح ((أمر له)) والأول أنسب لاتفاق الضمائر التالية. الحديث الثاني عن عبدالله قوله: ((بايعت)) أي بعت منه بمعنى شريت منه فهو من البيع لا من المبايعة. وقوله: ((لقد شققت علي)) أي حملت المشقة على وأوصلتها إلي، وكان انتظاره صلى الله عليه وسلم لوعده لا لقبض بقية الثمن. واعلم أن الوعد مأمور الوفاء به في جميع الأديان، حافظ عليه الرسل المتقدمون؛ قال الله تعالى:} وإبراهيم الذي وفي {،ومدح ابنه اسماعيل بقوله:} إنه كان صادق الوعد {يقال: إنه وعد إنسانا في موضع فلم يرجع إليه، فأقام حتى حال عليه الحول. الحديث الثالث عن زيد: قوله: ((ومن نيته أن يفي له)) ((شف)):هذا الدليل على أن النية الصالحة يثاب الرجل عليها وإن لم يقترن معها المنوى وتخلف عنها. الحديث الرابع إلى آخر الباب عن عبدالله: قوله: ((أعطيك)) بالجزم في بعض نسخ

(12) باب المزاح

قالت: أردت أن أعطيه تمرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)).رواه أبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4882] الفصل الثالث 4883 - عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من وعد رجلا فلم يأت أحدهما إلى وقت الصلاة، وذهب الذي جاء ليصلي، فلا إثم عليه)).رواه رزين. [4883] (12) باب المزاح الفصل الأول 4884 - عن أنس، قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)) كان له نغير يلعب به فمات. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المصابيح جوابا للأمر وفي بعضه بإثبات الياء. وهو الرواية في سنن أبي داود وشعب الإيمان على أنه استئناف، كقوله تعالى:} فهب لي من لدنك وليا {بالرفع. وكذلك في السنن والشعب بعد قوله: ((أعطيك)) فقال لها: ((ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا)).وليس هذا في المصابيح فكأنه سقط من النساخ. باب المزاح المزاح الدعابة. وقد مزح يمزح والاسم المزاح- بالضم- والمزاحة أيضا، وأما المزاح- بالكسر- فهو مصدر مازح. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن كان)) أي إنه كان ((فإن)) هي المخففة من المثقلة. و ((حتى)) غاية قوله: ((يخالطنا)) وضمير الجمع لأنس وأهل بيته، أي انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي وحتى المداعبة معه، وحتى السؤال عن فعل النغير. وعن مسلم: ((أنه صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم، فإنه قد يدخل عليها)) وأم

الفصل الثاني 4885 - عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله! إنك: تداعبنا. قال: إني لا أقول إلا حقا)) رواه الترمذي. [4885] ـــــــــــــــــــــــــــــ سليم أم أنس بن مالك. الجوهري: النغير هو تصغير نغر وهو طائر كالعصفور. والنغرة كالحمرة واحدها. ((غب)):الفعل: التأثير من جهة مؤثرة، والعمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد. وهو أخص من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد، وقد ينسب إلى الجمادات. انتهى كلامه. فالمعنى ما حاله وشأنه؟ ((حس)):فيه فوائد: منها: أن صيد المدينة مباح بخلاف صيد مكة. وأنه لا بأس بأن يعطي الصبي الطير ليلعب به من غير أن يعذبه. وإباحة تصغير الأسماء. وإباحة الدعابة ما لم تكن إثما، وجواز تكني الصبي، ولا يدخل ذلك في باب الكذب. وقد نقل عن الشيخ نجم الدين الكبير غير ذلك من الفوائد، وهو: أن يجوز للرجل أن يدخل في بيت فيه امرأة أجنبية، إذا أمن على نفسه من الفتنة، وأن يجوز للرجل أن يسأل عما هو عالم به تعجبا منه. وفيه كمال خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رعاية الضعفاء من مكارم الأخلاق، وأنه يستحب استمالة قلوب الصغار وإدخال السرور إلى قلوبهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تداعبنا)) الدعابة المزاح. وتصدير الجملة بـ ((إن المؤكدة)) يدل على إنكار أمر سابق، كأنهم قالوا: لا ينبغي لمثلك في صدر الرسالة ومكانتك من الله تعالى المداعبة، فأجابهم بالقول الموجب، أي نعم أداعب ولكني لا أقول إلا قولا حقا. لله در مزاح هو حق وصدق فكيف بجده؟. ((مح)):المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين. ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار. فأما من سلم من هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على الندرة لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهو سنة مستحبة. فاعلم هذا؛ فإنه مما يعظم الاحتياج إليه.

4886 - وعن أنس، أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إني حاملك على ولد ناقة؟)) فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبل إلا النوق؟)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4886] 4887 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا ذا الأذنين!)). رواه أبو داود، والترمذي. [4887] 4888 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لامرأة عجوز: ((إنه لا تدخل الجنة عجوز)) فقالت: وما لهن؟ وكانت تقرأ القرآن فقال لها: ((أما تقرئين القرآن؟} إنا أنشأنانهن إنشاء فجعلناهن أبكار {)) رواه رزين. وفي ((شرح السنة)) بلفظ ((المصابيح)). 4889 - وعنه، أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم من البادية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه)) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميما. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره. فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((استحمل)) أي سأله الحملان، والمراد به أن يعطيه حمولة يركبها. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يا ذا الأذنين)) ((نه)):معناه: الحض والتنبيه على حسن الاستماع والوعي لما يلقى إليه لا المزاح؛ لأن السمع بحاسة الأذن. ومن خلق الله تعالى له أذنين، فأغفل ولم يحسن الوعي لم يعذر. وقيل: إن هذا القول من جملة مداعباته صلى الله عليه وسلم ولطيف أخلاقه. الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فيجهزه)) أي يعد ما يحتاج إليه في البادية من أمتعة البلدان. وقوله: ((إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه)) معناه: إنا نستفيد منه ما

عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يشتري العبد؟)) فقال: يا رسول الله! إذا والله تجدني كاسدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لكن عند الله لست بكاسد)).رواه في ((شرح السنة)). [4889] 4890 - وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم، فسلمت، فرد علي وقال: ((ادخل)) فقلت: أكلي يا رسول الله. قال: ((كلك)) فدخل. قال عثمان بن أبي العاتكة: إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة. رواه أبو داود. [4890] 4891 - وعن النعمان بن بشير، قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات، ونحن نعد له ما يحتاج إليه من البلد ((وكان دميما)) أي قبيح الوجه كريه المنظر. وقوله: ((فاحتضنه)) أي أخذه في حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح. ((فجعل لا يألوا)) أي طفق لا يقصر في لزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم تبركا. وقوله: ((إذا)) جواب وجزاء أي إن بعتني إذا تجدني كاسدا، أي من المتاع الكاسد لما فيه من الدمامة. الحديث السادس عن عوف: قوله: ((كلك)) يجوز فيه الرفع والنصب، فالتقدير: أيدخل كلي؟ فقال: كلك. أي يدخل كلك أو أأدخل كلي؟ فقال: أدخل كلك. قوله: ((أدخل كلي)) الظاهر أنه مضموم الهمزة على أنه من باب الإفعال. ولو ذهب إلى الفتح، فوجهه أن يحمل ((كلي)) على أنه تأكيد، وهو بعيد. الحديث السابع عن نعمان: قوله: ((لا أراك ترفعين)) أي لا تتعرضي لما يؤدي إلى رفع صوتك، فالنهي وارد على المتكلم. والألف في ((لا أراك)) للإشباع. ويجوز أن يحمل على النفي الواقع موقع النهي، أي لا ينبغي لك أن أراك على هذه الحالة. قوله: ((أنقذتك من الرجل)) الظاهر أن يقال: من أبيك، فعدل إلى الرجل أي من الرجل الكامل في الرجولية حين غضب لله تعالى ولرسوله. وقولها: ((فمكث أبو بكر)) بدل ((أبي)) لما

حين خرج أبو بكر: ((كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟)). قالت: فمكث أبو بكر أياما، ثم استأذن فوجدهما اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد فعلنا، قد فعلنا)).رواه أبو داود. [4891] 4892 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه)).رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4892] ((وهذا الباب خال عن الفصل الثالث)) ـــــــــــــــــــــــــــــ حدث في سجيتها من غضبه عليها، فجعلته كأنه أجنبي؛ إذ في الأبوة استعطاف. وقوله: ((قال: فمكث)) هذا يدل على أن النعمان سمع هذا الحديث من عائشة رضي الله عنها. الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فتخلفه)) إن روى منصوبا كان جوابا للنهي على تقدير ((أن)) فيكون مسببا عما قبله. فعلى هذا التنكير في ((موعدا)) لنوع من الموعد، وهو ما لا يرضاه الله تعالى بأن يعزم عليه قطعا ولا يستثنى. فيجعل الله تعالى ذلك سببا للإخلاف. أو هو ينوي في الوعد الخلف كالمنافق؛ فإن آية المنافق الخلف في الوعد كما ورد: ((إذا وعد أخلف)).ويحتمل أن يكون المنهي مطلق الوعد؛ لأنه كثيرا ما يفضي إلى الخلف. ولو روي مرفوعا كان المنهي الوعد المستعقب للإخلاف، أي لا تعده موعدا فأنت تخلفه، على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية. وعلى هذا يتفرع عليه مسائل. ((مح)):أجمعوا على من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه، فينبغي أن يفي بوعده. وهل ذلك واجب أم مستحب، فيه خلاف: ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى أنه مستحب. فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة شديدة ولا يأثم. وذهب جماعة إلى أنه واجب، منهم عمر بن عبد العزيز. وبعضهم إلى التفضيل. ويؤيد الوجه الأول ما أورده في الإحياء حيث قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعدا قال: ((عسى)). وكان ابن مسعود لا يعد وعدا إلا يقول: إن شاء الله عزوجل وهو الأولى. ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد، فلا بد من الوفاء إلا أن يعتذر. فإن كان عند الوعد عازما على أن لا يفي به فهذا هو النفاق. والله أعلم.

(13) باب المفاخرة

(13) باب المفاخرة الفصل الأول 4893 - عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: ((أكرمهم عند الله أتقاهم)).قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: ((فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)).قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟)) قالوا: نعم. قال ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب المفاخرة والمعصية ((نه)) العصبي هو الذي يغضب لعصبيته ويحامي عنهم. والعصبة الأقارب من جهة الأب؛ لأنه يعصبونه ويعتصب بهم، أي يحيطون به ويشتد بهم. ومنه: ((ليس منا من دعى إلى عصبية أو قاتل عصبية)). الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أي الناس أكرم؟))، يحتمل أن يراد به أكرم عند الله تعالى مطلقا من غير نظر إلى النسب، ولو كان عبدا حبشيا، وأن يراد الحسب مع النسب، وأن يراد به الحسب فحسب، وكان سؤالهم عن هذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فعن معادن العرب)) أي عن أصولهم التي ينسبون إليها، وكان جوابهم نعم، فسلك صلى الله عليه وسلم الأسلوب الحكيم علي ألطف وجه حيث جمع بين الحسب والنسب. وقال: ((إذا فقهوا)).قوله: ((قالوا: ليس عن هذا نسألك)) تقديره: ليس سؤالنا عن هذا على منوال قوله: فقالوا: ما تشاء؟ فقلت: الهوى. ((حس)):يريد أن من كانت له مأثرة وشرف إذا أسلم وفقه فقد حاز إلى ذلك ما استفاده بحق الدين. ومن لم يسلم فقد هدم شرفه وضيع نسبه .. ((مح)):قالوا: لما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ أجاب بأكملهم وأعمهم. وقال: أتقاهم لله)):؛ لأن أصل الكرم كثرة الخير، ومن كان متقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا، وصاحب الدرجات العلى في الأخرى. ولما قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: يوسف الذي جمع خيرات الدنيا والآخرة وشرفها؛ حيث جمع مكارم الأخلاق مع شرف النبوة والنسب، وضم مع ذلك شرف علم الرؤيا والرئاسة وتمكنه فيها، وسياسة الرعية بالسيرة الحميدة والصورة الجميلة.

4894 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)).رواه البخاري. 4895 - وعن البراء بن عازب، قال: في يوم حنين كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته يعني بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشيه المشركون، نزل فجعل يقول: ((أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب)) قال: فما رئى من الناس يومئذ أشد منه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والحديث الثالث عن البراء بن عازب رضي الله عنه: قوله: ((أنا النبي لا كذب))، ((تو)):ليس لأحد أي يحمل هذا على المفاخرة. والشيخ لم يصب في إيراد هذا الحديث في هذا الباب، ولا شك أنه اتبع بعض أصحاب الحديث في مصنفاتهم، ولم يصب أولئك أيضا. وقد نفي نبي الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرا بل شكرا لأنعمه. فقال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) الحديث. وذم العصبية في غير موضع. فأنى لأحد أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين؟ وكيف يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتخر بمشرك؟ وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم. وإنما وجه ذلك أن نقول: تكلم بذلك على سبيل التعريف؛ فإن الله تعالى قد أرى قوما قبل ميلاده ما قد كان علما على نبوته ودليلا على ظهور أمره. وأظهر علم ذلك على الكهنة حتى شهد به غير واحد منهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم بذلك، وعرفهم أن ابن عبد المطلب الذي روى فيه ما روى وذكر فيه ما ذكر. أقول: والجواب ما ذكره في شرح السنة من قوله: الافتخار والاعتزاز المنهي عنه ما كان في غير جهاد الكفار. وقد رخص صلى الله عليه وسلم الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها. روى: أن عليا رضي الله عنه بارز مرحبا يوم خيبر فقال: ((أنا الذي سمتني أمي حيدرة)).انتهى كلامه. كأنه صلى الله عليه وسلم يرى الكفار شدة جأشه وشجاعته مع كونه مؤيدا من عند الله تعالى حين فلت شوكة المسلمين. وهي السكينة التي أنزل الله تعالى عليه يوم حنين وعلى المسلمين. وتلخيص الجواب أن المفاخرة نوعان: مذمومة ومحمودة، فالمذموم منها ما كان عليه الجاهلية من الفخر بالآباء والأنساب للسمعة والرياء. والمحمود منها ما ضم مع النسب الحسب في الدين، لا رياء بل إظهارا لأنعمه تعالى عليه. فقوله: ((لا فخر)) احتراز عن المذموم منها، وكفي به شاهدا قوله في الحديث السابق قال: ((فخياركم في الجاهليو خياركم في الإسلام إذا فقهوا)).وقوله حين جاءه عباس، فكأنه سمع شيئا فقام على المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله. قال: أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في

4896 - وعن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا خير البرية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ذاك إبراهيم)) رواه مسلم. 4897 - وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ خيرهم فرقة، ثم جعل فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجهلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا. فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. قال في الإحياء: كان افتخاره صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وبقربه من الله لا بكونه مقدما على ولد آدم، كما أن المقبول عند الملك قبولا عظيما إنما يفتخر بقبوله إياه. وبه يفرح لا بتقدمه على بعض رعاياه. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يا خير البرية!)) ((نه)):يقال: برأه الله يبرأه برءا أي خلقه. ويجمع على البرايا والبريات من البرى وهو التراب إذا لم يهمز. ومن ذهب إلا أن أصله الهمزة أخذه من برأ الله الخلق يبرأهم أي خلقهم، ثم ترك فيها الهمز تخفيفا، ولم تستعمل مهموزة. ((مح)):فيه وجوه: أحدها: أنه قال تواضعا واحترام لإبراهيم صلوات الله عليه لخلته وأبوته، وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل. كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)).وثانيهما: أنه قال هذا قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم: فإن الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء. فأخبر بفضيلة إبراهيم عليه السلام إلى أن علم فضل نفسه فأخبر به. وثالثها: أن المراد منه أنه فضل برية عصره، فأطلق العبارة الموهمة للعموم؛ لأنه أبلغ في التواضع. وفيه جواز التفاضل بين الأنبياء عليهم السلام. الحديث الخامس عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((لا تطروني)) ((نه)):الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. ((حس)):وذلك أن النصارى أفرطوا في مدح عيسى عليه السلام وإطرائه بالباطل وجعلوه ولدا لله تعالى، فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطروه بالباطل. أقول: وفي العدول عن عيسى والمسيح إلى ابن مريم تبعيد له عن الإلهية، يعني بالغوا في المدح والإطراء والكذب بأن جعلوا من حصل من جنس النساء الطوامث إلها وابن إله قال تعالى:} يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه {.

4898 - وعن عياض بن حمار المجاشي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)).رواه مسلم. الفصل الثاني 4899 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هو فحم من جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي ـــــــــــــــــــــــــــــ ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارى، وغلت اليهود في حط المسيح عن منزلته حيث جعلته مولودا لغير رشده، عرض لهم بقوله: ((إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)) وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها، قيل لهم: ((وكلمة ألقها إلى مريم)) أي مخلوق بكلمة ((كن)) وأوصلها إلى مريم وحصلها فيها. ثم أرشدهم صلوات الله عليه إلى أن غاية مدحه لا يتجاوز عن كونه عبدالله ورسوله تواضعا وهضما لنفسه، وفيه مبالغة في المدح مع تحري الصدق بخلاف الإطراء؛ فإنه مبالغة فيه مع توخي الكذب. وإنما كان مبالغة في المدح؛ لما شرف في مقام القرب ومجذع الوصل بقوله:} سبحان الذي أسرى بعبده ليلا {. الحديث السادس عن عياض: قوله: ((أن تواضعوا)) أمر من التواضع تفاعل من الضعة، وهي الذل والهوان والدناءة، وقد وضع ضعة فهو وضيع. والفخر إدعاء العظم والكبر والشرف، والبغي الظلم. أقول: ((حتى)) فيه بمعنى ((كي)) أي أن الفخر والبغي نتيجتا الكبر؛ لأن المتكبر هو الذي يرفع نفسه فوق منزلته فلا ينقاد لأحد. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إنما هو فحم)) حصر أباءهم على كونهم فحما من جهنم لا يتعدى ذلك إلى فضيلة يفتخر بها. قوله: ((أو ليكونن)) ((قض)): ((أو)) ههنا للتخيير والتسوية. والمعنى أن الأمرين سواء في أن يكون حال آبائهم الذين يفتخرون بهم، وأنت مخير في توصيفهم بأيهما شئت. أقول: الظاهرأنه عطف على قوله: ((لينتهين)) والضمير فيه ضمير القوم لا الآباء؛ لأن اللام في المعطوف والمعطوف عليه لام الابتداء على نحو قوله تعالى:} لنخرجنك يا شعيب والذين

يدهده الخراء بأنفه. إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب)).رواه الترمذي، وأبو داود. [4899] ـــــــــــــــــــــــــــــ آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا {،كأنه صلى الله عليه وسلم حلف على أن أحد الأمرين كائن لا محالة. فإن قلت: هب أنه صلى الله عليه وسلم عرف أنه تعالى يعذبهم بسبب المفاخرة بآبائهم فأقسم عليهم، فبم عرف انتهاءهم عنها قلت: لما نظمها بأوفي الحكم الذي هو الحلف، آل كلامه إلى قولك: ((ليكونن أحد الأمرين)) يعني إن كان الانتهاء لم تكن مذلة، وإن لم تكن كانت. كذا حقق صاحب الكشاف في النمل: قيل: أحد الأمرين لابد منه، إما الانتهاء عما هو فيه، أو إنزال الصغار والهوان من الله تعالى عليهم. و ((الجعل)) حيوان معروف كالخنفساء والدهدهة والدحرجة يقال: دهدهت الحجر ودهيته. قوله: ((عيبة الجاهلية)) ((تو)):أي نخوتها يقال: رجل فيه عيبة بضم العين وكسرها: أي كبر وتجبر. والمحفوظ عن أهل الحديث بتشديد الباء. وذكر أبو عبيد الهروي: هو من العبء بمعنى الحمل الثقيل. ثم قال: وقال الأزهري: بل مأخوذ من العبء وهو الضوء والنور والضياء. يقال: هذا عبأ الشمس، وأصله عبوء الشمس، وعلى هذا فالتشديد فيه كما في الذرية من الذرء بالهمز. والجوهري أدخله في باب المضاعف. قوله: ((إنما هو مؤمن تقي)) في هذا الضمير وجوه: أحدها: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، فقوله: ((الناس كلهم بنو آدم)) مقدم ملحوظه؛ لأنه مجمل وذاك تفصيله على نحو قوله: الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء ووحد الضمير نظرا إلى الجنس ملحوظه على تأويل الإنسان. وثانيها: أنه ضمير مبهم يفسره الخبر. كذا قرر صاحب الكشاف في قوله تعالى:} وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا {.وقولهم: هي العرب تقول: ما شاءت. وثالثها: أن يكون بمعنى اسم الإشارة، ملحوظة إلى المذكور السابق منطوقا ومفهوما.

4900 - وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير، قال: ((قال أبي:)) انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا. فقال: ((السيد الله)) فقلنا وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: ((قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجيرنكم الشيطان)).رواه أحمد وأبو داود. [4900] ـــــــــــــــــــــــــــــ وبيانه أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أقوام)) من باب سوق المعلوم مساق غيره. وهم قوم مخصوصون نكرهم وجعلهم غائبين، قم التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ((قد أذهب عنكم)) وهذا يشعر بغضب شديد وسخط متتابع، كأن أناسا من المسلمين تفاخروا بأسلافهم الذين ماتوا على الكفر كالعباس بن مرداس وأضرابه، حتى قال قائلهم: فما كان محصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع فوبخهم وزجرهم وسفه رأيهم. المعنى لينته من شرفه الله وخلع عليه حلل الإسلام. ورفعه من حضيض الكفر إلى يفاع الإيمان عن هذه الشنعاء وإلا فيحطه من تلك المنزلة، ويرده إلى أسفل سافلين الكفر والذل، فإن تشبيهم بأخس الحيوانات في أخس أحواله يدل عليه. فالمعنى ما ذلك العزيز الكريم عند الله إلا رجل تقي، وما ذلك الدنيء عنده إلا فاجر شقي. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك العنف إلى اللطف ومن التوبيخ إلى إسماع الحق قائلا: ((الناس كلهم بنو آدم)) كقوله تعالى:} يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى {إلى قوله:} إن أكرمكم عند الله أتقاكم {وفي ذكر التراب إشارة إلى نقصانهم وأنهم فيه سواء طف الصاع بالصاع. الحديث الثاني عن مطرف: قوله: ((قولوا قولكم)) ((مظ)):يعني قولوا هذا القول أو أقل منه، ولا تبالغوا في مدحي بحيث تمدحونني بشيء يليق بالخالق ولا يليق بالمخلوق. ((خط)):أراد النبي صلى الله عليه وسلم قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادهوني نبيا وروسولا كما سماني الله في كتابه، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم؛ لأني لست كأحد منهم إذا كانوا يسودونكم في أسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالرسالة والنبوة فسموني رسولا ونبيا. ((تو)):سلك القوم في الخطاب معه مسلكهم مع رؤساء القبائل؛ فإنهم يخاطبونهم بنحو هذا الخطاب فكره ذلك؛ لأنه كان من حقه أن يخاطبوه بالنبي والرسول؛ فإنها المنزلة التي لا منزلة

4901 - وعن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحسب المال، والكرم التقوى).رواه الترمذي، وابن ماجه. [4901] ـــــــــــــــــــــــــــــ وراءها لأحد البشر. وحول الأمر فيه إلى الحقيقة فقال: السيد هو الله أي الذي يملك نواصي الخلق ويتولى أمرهم ويسوسهم. أقول: على هذا نزل صلوات الله عليه قولهم منزلة الإبهام والتورية، وهو لفظ له معنيان: قريب وبعيد، وأراد القوم المعنى القريب وهو المتعارف بينهم، فلما كره صلوات الله عليه ذلك، حمله على المعنى البعيد زجرا وتوبيخا لهم. كما إذا قيل لرجل فاضل متبحر من زمرة العلماء: ملك الصدور، فهو دون منزلته؛ لأنه يستعمل في العظماء فيكرهه ويحول الأمر فيه إلى الحقيقة قائلا: ملك الصدور هو الله تعالى. وقوله: ((وأفضلنا)) عطف على قوله: ((سيدنا)) كأنهم قالوا: أنت سيدنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا. فكره صلى الله عليه وسلم الكل وخص الرد بالسيد، فأدخل الراوي كلامه بين المعطوف والمعطوف عليه. والذي يدل على كراهة الكل قوله: ((قولوا قولكم)) أي بقول أهل ملتكم وما هو من شعار المسلمين، وذلك قولهم رسول الله ونبي الله. ويحتمل أن يراد بالقول القول الذي جئتم له وقصدتموه، أي دعوا هذا المدح وأتوا بمقصودكم وحاجتكم، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لجويريات يضربن بالدف، ويندبن من قتل آبائهن يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد: دعى هذه وقولي ما كنت تقولين. وقوله: ((فضلا)) تمييز والمراد به المزايا من الكرم والعلم والنبوة وغير ذلك. و ((بالأفضل)) مطلق الزيادة بحسب أهل اللغة. و ((الطول)) الفضل. قوله: ((لا يستجيرنكم الشيطان)) أي: يغلبنكم فيتخذكم جريا أي رسولا ووكيلا. وذلك أنهم كانوا مدحوه، فكره لهم المبالغة في المدح فنهاهم عنه يريد: تكلموا بما يحضركم من القول، ولا تتكلفواه كأنكم وكلاء الشيطان ورسله، تنطقون عن لسانه. الحديث الثالث عن الحسن: قوله: ((الحسب)) ما يعد من مآثره ومآثر آبائه. والكرم الجمع بين أنواع الخير والشرف والفضائل. وهذا بحسب اللغة، فردهما صلى الله عليه وسلم إلى ما هو المتعارف بين الناس وعند الله تعالى، أي ليس ذو الحسب عند الناس الفقير إذ لا يوقر ولا يحتفل به، بل الحسب عندهم من رزق الثروة ووقر في العيون. ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنه: من حسب الرجل نقاء ثوبيه، أي أنه يوقر لذلك من حيث أنه دليل الثروة وذو الفضل والشرف عند الناس. ولا يعد كريما عند الله تعالى، وإنما

4902 - وعن أبي بن كعب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)). رواه في ((شرح السنة)). [4902] 4903 - وعن عبد الرحمن بن أبي عقبة، عن أبي عقبة، وكان مولى من أهل فارس، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي! فالتفت إلى فقال: ((هلا قلت:" خذها مني وأنا الغلام الأنصاري؟)). رواه أبو داود. [4903] ـــــــــــــــــــــــــــــ الكريم عنده من ارتدى برداء التقوى؛ قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وأنشد: كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم الحديث الرابع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قوله: ((فأعضوه بهن أبيه)) ((نه)): الهن بالتخفيف والتشديد كناية عن الفرج. ((تو)): يقال: عزوته إلى أبيه وعزيته أيضاً لغة إذا نسبته إليه فاعتزى وتعزى. قال أصحاب الغريب: انتسب وانتمى إليها في قوله: بآل فلان فأعضوه. قال أبو عبيد الهروي أي قولوا له: أعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن تأديباً له وتنكيلا. ومعناه: والله أعلم أن من انتسب وانتمى إلى الجاهلية بإحياء سنة أهلها وإتباع سبيلهم في لاشتم واللعن والتعبير ومواجهتكم بالفحشاء والمنكر، فاذكروا له ما تعرفون من مثالب أبيه ومساويه. وما كان يعتريه من لؤم ورذالة صريحاً لا كناية كي يرتدع به عن التعرض لأعراض الناس، هذا هو توجيه الحديث. والله أعلم. الحديث الخامس عن عبد الرحمن: قوله: ((هلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري)) ((شف)): أي إذا افتخرت بشرف النسبة، فانتسب إلى الذين هاجرت إليهم ونصروني وهم الأنصار. أقول: من عادة المحاربين عند إظهار الشجاعة إذا أصابوا في ضربتهم أو طعنتهم، يقولون: هذه الكلمة على سبيل التهكم، نحو قوله: ((تحية بينهم ضرب وجيع))

4904 - وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردى، فهو ينزع بذنبه)). رواه أبو داود. ب4904] 4905 - وعن وائلة بن الأسقع، قال: قلت: يا رسول الله! ما العصبية؟ قال: ((أن تعين قومك على الظلم)). رواه أبو داود. [4905] 4906 - وعن سراقة بن مالك بن جعشم، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم)). رواه أبو داود. [4906] 1907 - وعن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل عصبية، وليس منا من مات على عصبية)). رواه أبو داود. [4907] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي خذ مني هذه العطية. فقوله: ((أنا الغلام الفارسي)) تنبيه على أن الضارب شديد الساعد متمكن من الضربة. وقوله صلى الله عليه وسلم له ذلك القول إرشاداً له إلى أبلغ من ذلك، أي قل: أنا من أنصار دين الله تعالى وإن الله هو الذي يؤيدني بنصره. الحديث السادس عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ((ردي)) ((تو)): ردي في البئر وتردي إذا سقط فيها. والمعنى أن من أراد أن يرفع نفسه بنصرة قومه على الباطل، فهو كالبعير الذي سقط في بئر، فماذا يجدي عنه أن ينزع بذنبه؟ فإنه وإن اجتهد كل الجهد، لم يتهيأ له أن يخلصه من تلك المهلكة بنزعه إياه بالذنب. الحديث السابع إلى التاسع عن جبير: قوله: ((من دعا إلى عصبية)) أي يدعو الناس بأن يجتمعوا على عصبية. وفي الحديث: ((ما بال دعوة الجاهلية)): ((ما بال دعوى الجاهلية؟)) هو قولهم: يا آل فلان! كانوا يدعون بعضهم بعضا عند الأمر الحادث. الحديث العاشر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((يعمى ويصم)) معناه أنك لترى القبيح منه حسناً، وتسمع منه الخنا قولا جميلا، قال الشاعر:

4908 - وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حبك الشيء يعمى ويصم)). روا أبو داود. [4908] الفصل الثالث 4909 - عن عبادة بن كثير الشامي من أهل فلسطين، عن امرأة منهم يقال لها فسيلة، أنها قالت: سمعت أبي يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم)). رواه أحمد، وابن ماجه. [4909] 4910 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم طف الصاع بالصاع لم تملؤه، ليس لأحد على أحد ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا وقال الشيخ الأستاذ أبو علي: حبك الشيء يعمي عن الغير غيرة وعن المحبوب حبه ومورد الحديث في محل الذم. وذكر العصبية تستدعي أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم قال فيمن يتعصب لغيره ويحاميه بالباطل، وحبه إياه يعميه عن أن يبصر الحق في قضية ويصمه عن أن يسمع الحق فيتبعه، وإلا فالحديث ذو وجهين. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن عقبة: قوله: ((طف الصاع بالصاع)) ((نه)): أي قريب بعضكم من بعض. يقال: هذا طف المكيال وطفافه أي ما قرب من ملئه. والمعنى أن كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام. وشبههم في نقصانهم بالمكيال الذي يبلغ أن يملأ بالمكيال، ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب ولكن بالتقوى، انتهى كلامه. قوله: ((طف الصاع)) يجوز بالنصب على أنه حال مؤكدة نحو زيد أبوك عطوفاً؛ فإن ذكر بني آدم يدل على النقصان لكونهم من التراب. وبالرفع على أنه بدل أو خبر بعد خبر. والباء في

(14) باب البر والصلة

فضل إلا بدين وتقوى، كفي بالرجل أن يكون بذيئاً فاحشاً بخيلاً)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4910] (14) باب البر والصلة الفصل الأول 4911 - عن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! من أحق بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)). وفي رواية، قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((بالصاع)) للحال أي: طف الصاع مقابلا بمثله من النقصان. والمراد التسوية بينهم في النقصان. وقوله: ((بالرجل)) فاعل ((كفي)) والتمييز محذوف أي نقصا. وقوله: ((أن يكون بذيئاً)) بيان للميز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كفي بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)). والله أعلم بالصواب. باب البر والصلة ((نه)): البر بالكسر الإحسان، وهو في حق الأبوين والأقربين ضد العقوق، وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقوقهم. يقال: بر يبر فهو بار، وجمعه بررة، وجمع البر أبرار. وصلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم، وقطع الرحم ضد ذلك، يقال: وصل رحمه يصلها وصلا وصلة. والهاء فيها عوض عن الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صحابتي)) الجوهري: صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة بالفتح. ((مح)): هو بفتح الصاد هنا بمعنى الصحابة. وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب ثم الأقرب فالأقرب. قالوا: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها. وقوله: ((أمك)) الخ جاء مرفوعاً في رواية وفي أخرى منصوباً. أما الرفع فظاهر، وأما النصب على أن معناه: من أبره، يدل على رواية بهز بن حكيم: ((من أبر)).

4911 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهم، ثم لم يدخل الجنة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عند الكبر)) بالإضافة وأحدهما أو كلاهما مرفوعان. هكذا هو في جميع روايات مسلم. وفي كتاب الحميدي، وجامع الأصول، وفي بعض نسخ المصابيح. وقد غيروا في بعضها إلى قوله: ((عنده)) بالهاء. وكليهما بالنصب، نعم هو في الترمذي كذا عن أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة. قال الشيخ محيي الدين: معناه أن يبرهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة والنفقة وغير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن فاته قصر في ذلك فاته دخول الجنة. ((مظ)): ((عند الكبر)) ظرف في موضع الحال. والظرف إذا كان في موضع الحال يرفع ما بعده. وكلاهما مرفوع بالظرف وكلاهما معطوف على أحدهما فـ ((أحدهما)) مرفوع بالظرف، و ((كلاهما)) معطوف على ((أحدهما)). ((شف)): يجوز أن يكون ((أحدهما)) خبراً لمبتدأ محذوف، أي مدركه أحدهما أو كلاهما؛ فإن من أدرك شيئاً فقد أدركه ذلك الشيء. وهذه الجملة بيان لقوله: ((من أدرك والديه)). أقول: ((ثم)) في قوله ((ثم لم يدخل الجنة)) استبعاد، يعني ذلك وخاب وخسر من أدرك تلك الفرصة التي هي موجبة للفلاح والفوز بالجنة ثم لم ينتهزها. وانتهازها هو ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} إلى قوله: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}؛ فإنه دل على الاجتناب عن جميع الأقوال المحرمة، والإتيان بجميع كرائم الأقوال والأفعال، من التواضع والخدمة والإنفاق عليهما، ثم الدعاء لهما في العاقبة. فإن قلت: بين لي الفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم عليه السلام: ((عند الكبر)) وقوله تعالى: ((عندك الكبر))؟ قلت: معنى ((عندك)) أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا عليك، ولا كافل لهما غيرك فهما عندك وفي بيتك وكتفك. ومعنى ((عندك الكبر)) في حال حضوره ومكان حصوله، أي تدركهما والحال أنهما عاجزان، والضعف ممكن فيهما وكأنهما لحم على وضم، فتزاول إنقاذهما من

4913 - وعن أسماء بنت أبي بكر [رضي الله عنه]، قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش، فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها. قال: ((نعم صليها)). متفق عليه. 4914 - وعن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تلك الورطة بالإحسان قولا، وخفض الجناح بالذل فعلا، وطلب الرحمة من الله تعالى فإنه يدل على الاعتراف بالعجز والقصور في أداء حقهما، والإحالة على الله تعالى ورحمته؛ لأنه هو الكافي والحسيب. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كما ربياني صغيرا} كما يقال: أدركته وهو في ورطة الهلاك فأنقذته منها. الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((راغبة)). ((تو)): قد روي بالباء وكذلك هو في المصابيح، وهو الصواب ((راغمة)) بالميم بدل الباء. ((مح)): في شرح هذا الحديث: ((قدمت علي أمي وهي راغبة أو راهبة)). وفي الرواية الأخرى: ((راغبة)) بلا شك وهي مشركة. قال القاضي عياض: الصحيح ((راغبة)) بلا شك. وفي رواية أبي داود: ((راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة)) قيل: معناه راغبة عن الإسلام أو كارهة له. وقيل: طامعة فيما أعطتها حريصة عليه. ومعنى ((راغمة)) بالميم كارهة للإسلام ساخطة له. وفيه جواز صلة القريب المشرك. أقول: تحريره أن قوله: ((راغبة)) إذا أطلقت من غير تقييد يقدر راغبة عن الإسلام لا غير، وإذا قرنت بقوله: ((وهي مشركة أو في عهد قريش)) يقدر راغبة في صلتي ليطابق ما رواه أبو داود: ((وهي راغمة)). الحديث الرابع عن عمرو بن العاص: قوله: ((إنما وليي الله وصالح المؤمنين)) ((تو)): المعنى: أني لا أوالي أحداً بالقرابة، وإنما أحب الله سبحانه لما يحق له على العباد، وأحب صالحي المؤمنين لوجه الله سبحانه، وأوالي من أوالي بالإيمان والصلاح، وأراعي لذوي الرحمن حقهم بصلة الرحم. وقوله: ((أبلها ببلالها)) أي أنديها بما يجب أن يندى. ومنه قوله: ((بلوا أرحامكم)) أي صلوها وندوها. والعرب تقول للقطيعة: اليبس، قال الشاعر: فلا تيبسوا بيني وبينكم الثرى فإن الذي بيني وبينكم ثرى شبه قطيعة الرحم بالحرارة تطفأ بالماء ويندى بالصلة ((قض)): ويقال للوصل: بلل يقتضى الالتصاق والاتصال، والهجر يبس يفضي إلى التفتت والانفصال.

4915 - وعن المغيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله: ((أبلها ببلاها)). فيه مبالغة كقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها}. أي زلزالها الذي يستوجبه في مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده. فالمعنى أبلها بما عرف واشتهر عند الله وعند الناس ما هو، فلا أترك من ذلك شيئاً. شبه الرحم بأرض إذا بلت بالماء حق بلالها، أثمرت ويرى في ثمرتها أثر النضارة. وإذا تركت يبست وأجدبت، فلم تثمر إلا العداوة والقطيعة. هذا هو الوجه. والبيت ينظر إلى هذا المعنى. وعلى ذلك قول أهل اللغة: سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد لا لبن لها. ولا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالمطر والناقة لا تستحق باللبن. الحديث الخامس عن المغيرة: قوله: ((عقوق الأمهات)) ((نه)): يقال: عق والده يعقه عقوقا فهو عاق إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وأصله العق وهو الشق والقطع. ((خط)) لم يخص الأمهات بالعقوق، فإن عقوق الآباء محرم أيضاً، ولكن نبه بأحدهما على الآخر؛ فإن بر الأم مقدم على بر الأب؛ لأن لعقوق الأمهات مزية في القبح. وحق الأب مقدم في الطاعة وحسن المتابعة لرأيه والنفوذ لأمره وقبول الأدب منه. قوله: ((ووأد البنات)) أي دفنهن أحياء. قيل: قدم عقوق الأمهات، لأنهن الأصول وعقبه بوأد البنات: لأنهن الفروع. وكان ذلك تنبيهاً على أن أكبر الكبائر هو قطع النسل الذي هو موجب لخراب العالم. قوله: ((ومنع وهات)) ((نه)): أي حرم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه وطلب ما ليس لكم أخذه انتهى كلامه. وقيل: نهى عن منع الواجب من ماله وأقوله وأفعاله وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها، ونهى عن استدعاء ما لا يجب عليكم من الحقوق. وتكليفه إياهم بالقيام بما لا يجب عليهم، وكان ينصف ولا ينتصف، فهذا من أسمج الخلال. قوله: ((قيل وقال)) ((فا)): نهى عن فضول ما يتحدث به المجالسون من قولهم: قيل كذا وقال كذا، بناؤهما على كونهما فعلين محكمين متضمنين للضمير، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خاليين من الضمير. ومنه قوله: ((إنما الدنيا قال وقيل)) وإدخال التعريف عليهما كذلك في قولهم: ما يعرف القال والقيل. ((نه)): وهذا النهي إنما يصح في قول لا يصح ولا يعلم حقيقته. فأما من حكى: ما يصح ويعرف حقيقته، وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه

4916 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)). قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه؛ ويسب أمه، فيسب أمه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ للنهي عن ولا ذم، وقال أبو عبيد: فيه تجوز عربية، وذلك أنه جعل القال مصدراً كأنه قال: نهى عن قيل وقال يقال: قلت قولا وقالا وقيلا. وهذا التأويل على أنهما اسمان. وقيل: أراد النهي عن كثرة الكلام مبتدئاً ومجيبا. وقيل: هذا الكلام يتضمن لعمومه حرمة النميمة والغيبة؛ فإن تبليغ الكلام من أقبح الخصال، والإصغاء إليها أقبح وأفحش. قوله: ((كثرة السؤال)) فيه وجوه: أحدها: ((فا)) السؤال عن أمور الناس وكثرة البحث عنها، وثانيها مسألة الناس أموالهم. ((تو)): ولا أدري حمله على هذا؛ فإن ذلك مكروه وإن لم يبلغ حد الكثرة. وثالثها: كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار المراء. ورابعها: كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}. قوله: ((وإضاعة المال)) ((فال)): هو إنفاقه في غير طاعة الله تعالى والسرف انتهى كلامه. قيل: والتقسيم الحاصر فيه الحاوي لجميع الأقسام أن تقول: إن الذي يصرف إليه المال، إما أن يكون واجباً كالنفقة والزكاة ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إن كان مندوباً إليه، وإما أن يكون حراماً أو مكروهاً، وهذا قليلة وكثرة إضاعة وسرف. وإما أن يكون مباحاً ولا إشكال إلا في هذا القسم؛ إذ كثر من الأمور يعده بعض الناس من المباحات، وعند التحقيق ليس كذلك كتشييد الأبنية وتزيينها، والإسراف في النفقة، والتوسع في لبس الثياب الناعمة، والأطعمة الشهية اللذيذة، وأنت تعلم أن الفسق وغلظة الطبع يتولد من لبس الرقاق وأكل الرقاق. ويدخل فيه تمويه الأواني والسقوف بالذهب والفضة، وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق والدواب، حتى تضيع فتهلك. وقسمة ما لا ينتفع الشريك به كاللؤلؤة والسيف يكسران. وكذا احتمال الغبن الفاحش في البياعات، وإيتاء المال صاحبه، وهو سفيه حقيق بالحجر. وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق الذي هو منبع جميع الأخلاق الحميد والخلال الحميدة. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((من الكبائر)) قيل: ((وإنما يصير ذلك من الكبائر، إذا كان الشتم مما يوجب حدا كما إذا شتمه بالزنا والكفر، وقال له: أبوك زان أو كافر أو نحوهما. فقال في جوابه: بل أبوك كافر أو زان. أما إذا شتمه بما دون ذلك بأن قال له: أبوك أحمق أو جاهل أو نحوهما فلا يكون من الكبائر.

4917 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)). رواه مسلم. 4918 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ويمكن أن يقال: إنه من الكبائر مطلقاً؛ لأن سبب السبب سب، فكأنه واجه أباه بأن قال له: أنت أحمق أو جاهل. ولا شك أن هذا من الكبائر. وقد قال تعالى: {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما}، ونحوه قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}. ((مح)): وفيه قطع تحريم الوسائل والذرائع، فيؤخذ منه النهي عن بيع العصير لمن يتخذ الخمر والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك. الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((بعد أن يولي)). ((تو)): هذه الكلمة مما يتخبط الناس فيها، والذي أعرفه هو أن الفعل مسند إلى ((أبيه))، أي بعد أن يغيب أبوه أو يموت من ولى يولى، يؤيده حديث أبي أسيد الساعدي، وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما، انتهى كلامه. وهكذا صحح في مشاق جامع الأصول ومشارق الأنوار ((أن يولى)) بضم الياء وفتح الواو وكسر اللام المشددة. والمعنى أن من جملة المبرات الفضلى مبرة الرجل مع أحباء أبيه؛ فإن مودة الآباء قرابة الأبناء أي إذا غاب الأب أو مات يحفظ أهل وده ويحسن إليهم؛ فإنه من تمام الإحسان إلى الأب. وإنما كان أبر لأنه إذا حف غيبته فهو بحفظ حضوره أولى وأحرى. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وينسأ له)). ((مح)): النسأ التأخير يقال: نسأت الشيء نسأ وأنسأته إذا أخرته والنساء الاسم. ويكون في العمر والدين. و ((الأثر)) الأجل وسمي به؛ لأنه يتبع العمر. قال زهير: يسعى الفتى لأمور ليس يدركها والنفس واحدة والهم منتشر المرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر وأصله من ((أثر مشيه في الأرض))؛ فإن من مات لا يبقى له أثر، فلا يرى لأقدامه في الأرض أثر. ((مح)): في تأخير الأجل سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص. ((فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)).

4919 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله الخلق، فلما ـــــــــــــــــــــــــــــ وأجاب العلماء بوجوه: أحدهما: أن هذه الزيادة بالبركة في العمر بسبب التوفيق في الطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. وثانيها: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح المحفوظ أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون. وقد علم الله سبحانه وتعالى بما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى: {ويمحو الله ما يشاء ويثبت}. فبالنسبة إلى ما في علم الله تعالى وما سبق به قدره لا زيادة، بل هي مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين يتصور الزيادة، وهو مراد الحديث. وثالثها: أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده، فكأنه لم يمت، وهو ضعيف. أقول: كأن هذا الوجه أظهر؛ فإن أثر الشيء هو حصول ما يدل على وجوده، فمعنى ((يؤخر في أثره)) أي يؤخر ذكره الجميل بعد موته، أو يجري له ثواب عمله الصالح بعد موته. قال الله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} وعليه كلام صاحب الفائق حيث قال: ويجوز أن يكون المعنى، أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً، فلا يضمحل سريعاً كما يضمحل أثر قاطع الرحم. ولم أنشد أبو تمام أبا دلف ما رثى به محمد بن حميد: توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل مع السقر الأبيات المذكورة في التبيان. بكى وقال: وددت أنها في. فقال أبو تمام: ((بل يطيل الله عمر الأمير)). فقال: لم يمت من قيل فيه هذا، وعليه قول الخليل عليه السلام: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فلما فرغ)). تو)) ((تو)): أي قضاه الله وأتمه، أو نحو ذلك مما يشهد بأنه مجاز القول؛ فإنه سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن، أو يطلق عليه الفراغ الذي هو ضد الشغل. ويقال: مه فلان أي: ما تقول، على الزجر والاستفهام. وههنا إن كان على الزجر فبين، وإن كان على الاستفهام فالمراد منه الأمر بإظهار الحاجة دون الاستعلام؛ فإن الله تعالى يعلم السر وأخفي. وقيل: هو في الحقيقة ضرب مثلا واستعارة؛ إذا الرحم معنى، وهو اتصال القرب بين أهل النسب.

فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوى الرحمن فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يارب! قال: فذاك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): لما كان من عادة المستجير أن يأخذ بذيل المستجار به أو بطرف إزاره، وربما يأخذ بحقو إزاره- وهو مشده- تفظيعاً للأمر ومبالغة وتوكيداً في الاستجارة. وكأنه يشير به إلى أن المطلوب أن يحرسه ويذب عنه ما يؤذيه. كما يحرص ما تحت إزاره ويذب عنه، وأنه لاصق به لا ينفك عنه، فاستعير ذلك للرحم، واستعاذتها بالله من القطيعة. وإليه أشار بقوله: ((هذا مقام العائذ بك))، وهي أيضاً مجاز إدناء للمعنى المعقول، إلى المثال المحسوس المعتاد بينهم؛ ليكون أقرب إلى فهمهم وأمكن في نفوسهم. ((مح)): الرحم التي توصل وتقطع إنما هي معنى من المعاني، والمعاني لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فيكون المراد تعظيم شأنها وفضيلة واصلها وعظم إثم قاطعها. أقول: القول الأول مبني على الاستعارة التمثيلية التي الوجه فهيا منتزع من أمور متوهمة للمشبه المعقول، فما كانت ثابتة للمشبه به المحسوس؛ وذلك أن شبهت حال الرحم وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة. والذب عنها من القطيعة بحال مستجير يأخذ بذيل المستجار به وحقو إزاره. ثم أدخل صورة حال المشبه في جنس المشبه به، واستعمل في حال المشبه ما كان مستعملا في حال المشبه به في الألفاظ بدلالة قرائن الأحوال. ويجوز أن تكون مكنية، بأن يشبه الرحم بإنسان مستجير بمن يحميه ويجيره ويذب عنه ما يؤذيه، ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم المشبه به من القيام؛ لتكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم رشحت الاستعارة بأخذ الحقو والقول. وقوله: ((بحقوى الرحمن)): استعارة أخرى مثلها. والقول الثاني على الكناية الإيمائية. وهي أخذ الزبدة والخلاصة من مجموع الكلام من غير نظر إلى مفردات التركيب حقيقتها ومجازها. الكشاف)) في قوله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. ثم قال: ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات من كلام الله في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء! فإن أكثره وأغلبه تخيلات قد زلت فيها الأقدام قديماً وحديثاً. والله أعلم بالصواب.

4920 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرحم شجنة من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعها معصية كبيرة. وللصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بكلام ولو بالسلام. ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب ومنها مستحب. ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً. ولو قصر عما يقدر عليه- وينبغي له- لا يسمى واصلاً. وقوله: ((فذلك)) مبتدأ خبره محذوف، أي فلك ذاك. قوله: ((فقال: مه؟)). قال المالكي: أصله ((ما)) الاستفهامية حذفت ألفها، ووقف عليه بهاء السكت. والشائع أن لا يفعل ذلك بها إلا وهي مجرورة. ومن استعمالها هكذا غير مجرورة قول الحجاج لليلى الأخيلية: ثم مه: قالت: ثم لم يلبث أن مات، وقول أبى ذؤيب: مه: فقيل له: هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى الكسائي: أن بعض كنانة يقولون: معندك ومصنعت؟ فيحذفون الألف دون جر، ولا يصلون الميم بهاء السكت لعدم الوقف. وفي الاقتصار على الميم- في: ((معندك ومصنعت)) - دليل على أن الهاء في قول أبي ذؤيب والحجاج هاء سكت، لا بدل من الألف كما زعم الزمخشري؛ لأنها عوملت معاملة المتصلة بالمجرورة من السقوط وصلا والثبوت وقفا. ولو كانت بدلا من الألف، لجاز أن يقال في الوصل: مه عندك، ومه صنعت؟. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شجنة من الرحمن)) ((تو)): الشجنة بالكسر عروق الشجر المشتبكة. وكذلك الشجنة بالفتح، والشجنة بالسكون واحد شجون الأودية وهي طرفها. ويقال: الحديث ذو شجون، أي يدخل بعضه في بعض. والمراد من الرحمن أي من هذا الاسم يدلك عليه حديثه الآخر. قال الله تعالى: ((أن الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي)) المعنى: الرحم أثر من آثار رحمته مشتبكة بها، فالقاطع منها قاطع من رحمة الله. الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((معلقة بالعرش)) في الأحاديث الثلاثة بيان مراتب الرحم بعضها من بعض، كبيان مراتب اللياذ. فالأولى لمن هو أخص الأرحام بوساطة الولادة؛ لأن الأخذ بحقوى الرحمن أبلغ في القرب، والثانية دونها؛ لأن الاشتقاق اللفظي مستدع للتناسب بين معنييها، فالقريب دون الأول كالأخوة والأعمام ونحوهما وفرعيهما. والثالثة دونهما؛ لأن التعلق بالعرش دون التعلق بالرحمن وبحقويه. فالقريب منهم أولو الأرحام. ((مح)): للصلة درجات بعضها أرفع من بعض. واختلفوا في حد الرحم التي يجب صلتها،

4921 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)). متفق عليه. 4922 - وعن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قاطع)). متفق عليه. 4923 - وعن ابن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)). رواه البخاري. 4924 - وعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: ((لئن ـــــــــــــــــــــــــــــ فقيل: في كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى، حرمت مناكحتهما. فعلى هذا لا يخل أولاد الأعمام وأولاد الأخوال. واحتج هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح ونحوه، وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال. وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي المحرم وغيره، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم أدناك ثم أدناك)). الحديث الثاني عشر عن جبير: قوله: ((لا يدخل الجنة))، ((مح)): قد سبق نظائره، حمل تارة على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها، وأخرى لا يدخلا مع السابقين. الحديث الثالث عشر عن ابن عمرو: قوله: ((ليس الواصل بالمكافئ)) التعريف في ((الواصل)) للجنس، أي ليس حقيقة الواصل ومن يعتد وصله من يكافئ صاحبه بمثل فعله. ونظيره: قولك: هو ليس بالرجل بل الرجل من يصدر منه المكارم والفضائل. والرواية ((لكن)) بالتشديد وإن جاز التخفيف. الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قرابة)) أي ذوي قرابة، والضمير في ((أصلهم)) إلى المقدر. قوله: ((فكأنما تسفهم)) ((نه)): هو من قولهم: سففت الدواء بالكسر أسفه وأسففته غيري، وهو السفوف بالفتح. والمل والملة الرماد الذي يحمي ليدفن فيه الخبز لينضج. أراد إنما تجعل الملة لهم سفوفاص يسفونه، يعني إذا لم يشكروا، فإن عطاءك إياهم حرام عليهم ونار في بطونهم. ((تو)): أي إحسانك إليهم إذا كانوا يقابلونه بالإساءة يعود وبالا عليهم، حتى كأنك في إحسانك إليهم مع إساءتهم إياك أطعمتهم النار.

كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)). رواه مسلم. الفصل الثاني 4925 - عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). رواه ابن ماجه. [4925] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله: ((فكأنما)) كذا في المصابيح ومسلم وكتاب الحميدي وجامع الأصول بالفاء والظاهر اللام؛ لأن اللام في قوله: ((لئن كنت)) موطئة للقسم، وهذه جوابه سد مسد جواب الشرط، اللهم إلا أن يعكس ويجعل جزاء الشرط سادا مسد جواب القسم. وقد ورد في شرح السنة: ((لكأنما)). وقوله: ((يجهلون)) متعلقة بمحذوف أي على، يعني يغضبون ولعله صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك؛ لما عرف أن قومه يبغون عليه، فغضب له عليهم وقال ذلك، ومنه قول الحماسي: وإن الذي يبني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رشداً الفصل الثاني الحديث الأول عن ثوبان: قوله: ((لا يرد القدر)) ((حس)): ذكر أبو حاتم السجستاني في معنى الحديث: أن دوام المرء على الدعاء يطيب له ورود القضاء. فكأنما رده، والبر يطيب عيشه، فكأنما يزيد في عمره. والذنب يكدر عليه صفاء رزقه إذا فكر في عاقبة أمره، فكأنما حرمه. ((تو)): ويحتمل أن يكون المراد من القدر الأمر الذي كان يقدر لولا دعاؤه، ومن العمر العمر الذي كان يقصر لولا بره فيكون الدعاء والبر سببين من أسباب ذلك. وهما مقدران أيضاً، كما أن الأعمال حسنها وسيئها سببان من أسباب السعادة والشقاوة، ولا شك أنهما مقدران أيضاً.

4926 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر)). وكان أبر الناس بأمه رواه في ((شرح السنة))، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وفي رواية: قال: ((نمت فرأيتني في الجنة)) بدل: ((دخلت الجنة)). [4926] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مظ)): قوله: ((ليحرم الرزق بالذنب)) يؤول على تأويلين: أحدهما: أن يراد بالرزق الثواب في الآخرة. وثانيهما: أن يراد به الرزق الدنيوي من المال والصحة والعافية، وعلى هذا إشكال، فإنا نرى الكفار والفساق أكثر مالا وصحة من الصلحاء. والجواب أن الحديث مخصوص بمسلم يريد الله تعالى أن يرفع درجته في الآخرة يعذبه بسبب ذنبه، فيصفيه من الذنوب في الدنيا. أقول: ويدل على الاختصاص تقييد هذه القرينة بالرجل دون القرينتين السابقتين، فالتعريف فيه: إما للجنس، فيكون المعنى: الرجل الكامل الحازم هو الذي يتفكر في عاقبة أمره، فإذا أذنب تكدر عليه صفاء رزقه، كما قال السجستاني، أو للعد فيراد منه بعض الجنس من المسلمين على ما عليه كلام المظهر. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كذلك البر)) المشار إليه ما سبق والمخاطبون الصحابة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم رأي هذه الرؤيا، وقصة على أصحابه، فلما بلغ إلى قوله: ((حارثة بن النعمان)) نبههم على سبب نيل تلك الدرجة، فقال: كذلكم البر، أي مثل تلك الدرجة تنال بسبب البر. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: موقعها التذييل كقوله تعالى: {وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون}. وفيه من المبالغة أنه جعل جزاء البر برا، وعرف الخبر بلام الجنس تنبيهاً على أن هذه الدرجة القصيا لا تنال إلا ببسر الوالدين، وذلك أنه ورد في الحديث: ((أنه يقال لصاحب لقرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) وفي معنى التكرار أيضاً استيعاب وتقرير وتوكيد. فإن قلت: فما موقع ((وكان أبر الناس))؟ قلت: قوله: ((وكان أبر الناس)) الواو فيه إن كان

4927 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: ((رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)). رواه الترمذي. [4927] 4928 - وعن أبي الدرداء، أن رجلا أتاه، فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فحافظ على الباب أو ضيع)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [4928] 4929 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! من أبر قال: ((أمك)) قلت ثم من؟ قال: ((أمك)). قلت: ثم من؟ قال: ((أمك)). قلت: ثم من؟ قال ((أباك، ثم الأقرب فالأقرب)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4929] 4930 - وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)). رواه أبو داود. [4930] 4931 - وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع الرحم)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4931] ـــــــــــــــــــــــــــــ للعطف، فيكون من جملة مقول الملائكة. وإن كان لحال فذو الحال الضمير المستتر في ((قال)) المقدر، أي قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((ذلكم)) والحال أن حارثة كان أبر الناس بأمه. وإنما قلنا: إنه في رؤيا رآها، لما جاء في رواية أخرى عن الزهري: قال: ((نمت فرأيتني في الجنة)). والله أعلم. الحديث الثالث والرابع عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((أوسط أبواب الجنة)) ((قض)): أي خير الأبواب وأعلاها. والمعنى: أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوصل به إلى الوصول إليها، مطاوعة الوالد ومراعاة جانبه.

4932 - وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أحرى أن يعجب الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4932] 4933 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر)). رواه النسائي، والدارمي. [4933] 4934 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4934] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلى السابع عن عبد الله قول: ((على قوم فيهم قاطع الرحم)) ((تو)) يحتمل أنه أراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه. ويحتمل أنه أراد بالرحمة المطر أي يحبس عنهم المطر بشؤم القاطع. الحديث الثامن عن أبي بكرة: قوله: ((أن يعجل الله)) صلة أخرى وعلى تقدير الباء و ((من)) في قوله: ((من البغي)) تفصيلية. الحديث التاسع عن عبد الله: ((منان)) قبل: هو من المنة أي يمن على الناس بما يعطيهم، وذلك مذموم؛ قال الله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}. أو من المن بمعنى القطع، أي قاطع الرحم؛ قال الله تعالى: {وإن لك لأجراً غير ممنون} ومنه المنية. وأراد ((بالعاق)) العاصي للوالدين. ((تو)): محمل هذا أنه لا يدخل مع الفائزين، أو لا يدخل حتى يعاقب بما اجترحه من الإثم بكل واحد من الأعمال الثلاثة. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((محبة)) مفعلة من الحب كالمظنة من الظن. قوله: ((مثراة)) ((نه)): هي مفعلة من الثرى وهو الكثرة. و ((المنسأة)) المفعلة من النسأ التأخير. ((قض)): ((منسأة في الأثر)) أي تأخير في الأجل. وقيل: دوام واستمرار في النسل، والمعنى أن يمن الصلة يفضي إلى ذلك.

4935 - وعن ابن عمر، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟)) قال: لا. قال: ((وهل لك من خالة؟)) قال: نعم: قال: ((فبرها)). رواه الترمذي. [4935] 4936 - وعن أبي أسيد الساعدي، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنقاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)). رواه أبو داود. وابن ماجه. [4936] 4937 - وعن أبي الطفيل، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط لها رداءه، فجلست عليه. فقلت: من هي؟ فقالوا: هي أمه التي أرضعته. رواه أبو داود. [4937] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ذنباً عظيماً)) ((مظ)): يجوز أنه أراد عظيماً عندي؛ لأن عصيان الله تعالى عظيم، وإن كان الذنب صغيراً. ويجوز أن يكون ذنبه كان عظيما من الكبائر، وأن هذا النوع من البر يكون مكفراً له، وكان مخصوصاً بذلك الرجل، علمه النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي. الحديث الثاني عشر عن أبي أسيد: قوله: ((التي لا توصل إلا بهما)) ليس بصفة للمضاف إليه بل للمضاف، أي الصلة الموصوفة بأنها خالصة لحقهما ورضاهما لا لأمر آخر، ونحوه. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: وهو هذا أن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله، ولا يريدوا بطاعتهم غيره. وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدم لطلب منزلة عندهما إلا من حيث أن رضي الله في رضى الوالدين. ولا يجوز أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين؛ فإن ذلك معصية في الحال، وسيكشف الله رياءه، ويسقط منزلته من قبلهما أيضاً. الحديث الثالث عشر عن أبي الطفيل: قوله: ((فبسط لها رداءه)) قيل: فيه إشارة إلى وجوب رعاية الحقوق القديمة، ولزوم إكرام من له صحبة قديمة وحقوق سابقة.

الفصل الثالث 4938 - عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدين أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأي بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحالب، فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل بي دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرج الله لهم حتى يرون السماء. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((صالحة)) صفة أخرى لـ ((أعمالا)) أي خالصة لوجهه لا رياء ولا سمعة فيها؛ يدل عليه قوله: ((ابتغاء وجهك)) فيما بعد. وضمن ((أرعى)) معنى الإنفاق، وعداه بـ ((على)) أي أنفق عليهم راعياً الغنيمات. وكذا ضمن ((رحت)) معنى رددت أي إذا رددت الماشية من المرعى إلى موضع مبيتها. قوله: ((فحلبت)) عطف على ((رحت)) و ((بدأت)) جواب ((إذا))، و ((أسقيهما)) إما حال أو استئناف بيان للعلة. قوله: ((وإنه قد ناء بي الشجر)). ((مح)): وفي نسخ مسلم: ((نأي)) بجعل الهمزة قبل الألف، وبه قرأ أكثر القراء السبعة، وهما لغتان. ((نه)): أي بعد بي المرعى في الشجر. قوله: ((والحلاب)) بكسر الحاء، هو الإناء الذي يحلب فيه. وقيل: قد يراد بالحلاب هنا اللبن المحلوب. و ((يتضاغون)) أي يضجون ويصيحون من الجوع، والضمير في ((دأبهم)) للوالدين والصبية. و ((الفرجة)) بضم الفاء وفتحها. و ((يرون)) بإثبات النون في بعض نسخ شرح السنة، فيكون حكاية الحال الماضية، كقولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه، وفي بعضها بإسقاطه. قوله: ((إنه كانت لي)) ذكر ضمير الشأن والمذكور في التفسير مؤنث، وهذا يدل على جواز ذلك.

قال الثاني: اللهم إنه كانت لي بنت عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى أتيتها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كأشد)) يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف. و ((ما)) مصدرية، أي أحبها حباً مثل أشد حب الرجال النساء، أو حالا أي أحبها مشابها حبي أشد حب الرجل النساء. ونظيره قوله تعالى: {يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية}، فإن قوله تعالى: {أو أشد خشية} حال على تقدير مشبهين أو أشد خشية من أهل خشية الله. ويجوز أن يكون صفة المصدر نحو خشية الله على أن يكون الخشية خاشية. وما نحن فيه لم يحتج إلى هذا التأويل؛ لأنه مضاف كما قدرنا. وفي الآية: ((خشية)) منصوبة على التمييز. ولو قدر الإضافة بأن يقال: أشد خشية بالجر كان سواء بسواء حذو القذة بالقذة. قوله: ((فطلبت إليها نفسها)) ((نه)): يقال: طلب إلي فأطلبته أي أسعفته بما طلب. والطلبة الحاجة والإطلاب إنجازها. انتهى كلامه. ويجوز أن يضمن فيه معنى الإرسال، أي أرسلت إليها طالباً نفسها. والخاتم كناية عن البكارة. والفاء في ((فإن كنت)) عطف على مقدر، أي اللهم فعلت فإن كنت تعلم .... إلخ. ويجوز أن يكون ((اللهم)) مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه لتأكيد الابتهال والتضرع إلى الله تعالى، فلا يقدر معطوف عليه وهو الوجه، يدل عليه القرينة السابقة واللاحقة. وإنما كرر ((اللهم)) في هذه القرينة دون أختيهما؛ لأن هذا المقام أصعب المقامات وأشقها؛ فأنه ردع لهوى النفس خوفاً من الله تعالى ومقامه. قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}. قال الشيخ أبو حامد: شهوة الفرج أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل. فمن ترك الزنا خوفاً من الله تعالى مع القدرة، وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب لاسيما عند صدق الشهوة، نال درجة الصديقين. و ((الفرق)) بفتح الراء مكيال يسع ستة عشر رطلاً. وهي اثنا عشر مداً، وثلاثة آصع عند أهل الحجاز. قوله: ((ذلك البقر)) ((ذلك)) إشارة إلى البقر باعتبار السواد المرئي. كما يقال: هند ذلك الإنسان أو الشخص فعل كذا. قال الذبياني: تبيت نعمي على الهجران عاتبة سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري وأنث الضمير الراجع إلى البقر باعتبار جمعية الجنس. ((مح)): استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي الاستسقاء

فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها. قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها. اللهم فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي. فعرضت عليه حقه، فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي. فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها فقال: اتق الله ولا تهزأ بي. فقتل: إني لا أهزأ بك فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج ما بقى ففرج الله عنهم)). متفق عليه. 4939 - وعن معاوية بن جاهمة، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك. فقال: ((هل لك من أم؟)) قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ وغيره. ويتوسل بصالح عمله إلى الله تعالى، فإن هؤلاء فعلوه واستجيب لهم. وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم. وفيه فضل بر الوالدين وإيثارهما على من سواهما من الأهل والوالد. وفيه فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات، لاسيما بعد القدرة عليها. وفيه جواز الإجازة وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة. وفيه إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل الحق. وتمسك بالحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ممن يجوز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذنه، إذا أجازه المالك بعد ذلك. وأجاب أصحابنا بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا، وفي كونه شرعاً لنا خلاف. فإن قلنا: إنا متعبدون به، فهو محمول على أنه استأجره في الذمة، ولم يسلم إليه بل عرضه عليه، فلم يقبضه، فلم يتعين ولم يصر ملكه. فالمستأجر قد تصرف في ملك نفسه، ثم تبرع بما اجتمع منه من البقر والغنم وغيرهما. الحديث الثاني عن معاوية: قوله: ((عند رجلها)) كناية عن غاية الخضوع ونهاية التذلل، كما في قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. ولعله صلى الله عليه وسلم عرف من حاله وحال أمه حيث ألزمه خدمتها ولزومها أن ذلك أولى به.

نعم. قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)). رواه أحمد، والنسائي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4939] 4940 - وعن ابن عمر، قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها. فقال لي: طلقها، فأبيت. فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلقها)). رواه الترمذي، وأبو داود. [4940] 4941 - وعن أبي أمامة، أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال: ((هما جنتك ونارك)). رواه ابن ماجه. [4941] 4942 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله باراً)). [4942] 4943 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن كان واحداً فواحداً، ومن أمسى عاصياً في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، إن كان واحداً فواحداً)) قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: ((وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه)). [4943] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة: قوله: ((هما جنتك)) الجواب من الأسلوب الحكيم، أي حقهما البر والإحسان، وترك العقوق، الموجبان لدخول الجنة وعداً، وترك الإحسان والعقوق الموجبان لدخول النار وعيداً، فأوجز كما ترى. وقوله: ((جنتك ونارك)) على الخطاب العام؛ لأن سؤاله عام فيدخل فيه السائل دخولاً أولياً. الحديث الخامس والسادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((مطيعاً لله في والديه)). فيه: أن طاعة الوالدين لم تكن طاعة مستقلة، بل هي طاعة الله التي بلغت توصيتها من الله تعالى فحسب طاعتهما كطاعته. وكذلك العصيان والأذى. وهو من باب قوله تعالى: {إن

4944 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من ولد بار ينظر إلى والديه نظرة رحمة إلا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة)). قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال: ((نعم، الله أكبر وأطيب)). [4944] 4945 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات)). 4846 - وعن سعيد بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق كبير الإخوة على صغيرهم حق الوالد على ولده)). رواه البيهقي الأحاديث الخمسة في ((شعب الإيمان)). [4946] ـــــــــــــــــــــــــــــ الذين يؤذون الله ورسوله}. و ((من الجنة)) يجوز أن يكون صفة أخرى لقوله: ((بابان))، وأن يكون حالا من الضمير في ((متفوحان)). وقوله: ((فواحداً)) أي فكان الباب المفتوح واحداً. ((وإن ظلماه)) يراد بالظلم ما يتعلق بالأمور الدنيوية لا الأخروية. الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الله أكبر)) رد لاستبعاد من أن يعطي الرجل بسبب النظرة حجة، وإن نظر مائة مرة. يعني: الله أكبر مما في اعتقادك من أنه لا يكتب له تلك الأعداد الكثيرة، ولا يثاب عليه ما هو أطيب. الحديث الثامن عن أبي بكرة: قوله: ((منها)) ((من)) تبعيضية منصوب المحل مفعول ((يغفر)) مجازاً، و ((ما شاء)) بدل منه. ويجوز أن يتعلق بـ ((يغفر)) وتكون ابتدائية. ومعنى الشمول في الكل للاستغراق. يعني: كل فرد من أفراد الذنوب مغفور إذا تعلقت مشيئة الله تعالى به إلا عقوق الوالدين. وهذا وارد على سبيل التغليظ والتشديد. ومفعول ((يعجل)) محذوف، أي ((العقوبة))، يدل عليه سياق الكلام. باب الشفقة والرحمة على الخلق الشفقة اسم من الإشفاق. وكذلك الشفق وهو الخوف. قال:

(15) باب الشفقة والرحمة على الخلق

(15) باب الشفقة والرحمة على الخلق الفصل الأول 4947 - عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)). متفق عليه. 4948 - وعن عائشة، قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم والشفقة عناية مختلطة بخوف؛ لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه. الفصل الأول الحديث الأول عن جرير: قوله: ((لا يرحم الله من لا يرحم)) الرحمة الثانية محمولة على الحقيقة، [والأولى على المجاز؛ لأن الرحمة من الخلق التعطف والرقة، وهو لا يجوز على الله تعالى ومن الله تعالى الرضى عمن رحمه] لأن من رق له القلب فقد رضي عنه، أو الإنعام وإرادة الخير؛ لأن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم، أصابهم بمعروفه وإنعامه. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أو أملك)) الهمزة الاستفهامية إنكارية. ((شف)): يروى ((أن)) بفتح الهمزة فهي مصدرية، ويقدر مضاف، أي لا أملك لك دفع نزع الله من قلبك الرحمة. ويرى بكسر الهمزة شرطاً، وجزاءه محذوف من جنس ما قبله. أي إن نزع الله من قلبك الرحمة لا أملك لك دفعه ومنعه. أقول: والفاء في قوله: ((فما نقلبهم)) استبعادية، أي تفعلون ذلك وهو مستبعد عندنا. ونحو الفاء في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} فإن موقعه موقع ((ثم)) في مثل هذه الآية، أي أن الإعراض في مثل آيات الله العظمى في وضوحها وإرشادها بعد التذكير بها، مستبعد في العقول. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من ابتلى من هذه البنات بشيء)) ((تو)):

4949 - وعنها، قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فقال: ((من ابتلى من هذه البناء بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)). متفق عليه. 4950 - وعن أنس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا)) وضم أصابعه. رواه مسلم. 4951 - وعن أبي هريرة، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالساعي في سبيل الله))، وأحسبه قال: ((كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه الرواية هي الصواب. والرواية التي اختارها صاحب المصابيح يتخبط الناس فيها لمكان قوله: ((شيئاً)) وروى ((يلي)) بالياء من الولاية وليس بشيء. والصواب فيه: ((من بلى من هذه البنات بشيء)). أقول: الرواية في البخاري والحميدي والبيهقي وشرح السنة: ((من ابتلى من هذه البنات بشيء)). ولم نقف على ما في المصابيح، وهو ((من بلى من هذه البنات شيئا)) في الأصول. وهذه إشارة إلى جنسهن. ((مح)): إنما سماهن ابتلاء؛ لأن الناس يكرهونهن في العادة. قال الله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من عال)). ((نه)): يقال: عال الرجل عياله يعولهم: إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما. وقوله: ((أنا وهو هكذا)) جملة حالية بغير واو، أي جاء مصاحباً لي. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على الأرملة)) ((مح)): المراد بالساعي الكاسب لهما العامل لمئونتهما. والأرملة: من لا زوج لها، سواء تزوجت قبل ذلك أم لا. وقيل: هي التي فارقها زوجها. قال ابن قتيبة: سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال، وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج. يقال: أرمل الرجل إذا فنى زاده. انتهى كلامه. وإنما كان معنى ((الساعي على الأرملة)) ما قاله: لأنه صلى الله عليه وسلم عداه بـ ((على)) مضمنا فيه معنى

4952 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم له، ولغيره، في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. رواه البخاري. 4953 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). متفق عليه. 4954 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى عينه كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)). رواه مسلم. 4955 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) ثم شبك بين أصابعه. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنفاق. ((شف)): الألف واللام في ((كالقائم)) و ((كالصائم)) غير معرفين؛ ولذلك وصف كل واحد بجملة فعلية بعده كقوله الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني قوله: ((كالقائم لا يفتر وكالصائم لا تفطر)) هما عبارتان عن الصوم بالنهار والقيام بالليل. كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. يريدون الديمومة. الحديث السادس عن سهل: قوله: ((وكافل اليتيم)) ((نه)) وهو القائم بأمر اليتيم المربي له. وهو من الكفيل الضمين. والضمير في قوله: ((ولغيره)) راجع إلى ((الكافل)). أي أن اليتيم سواء كان الكافل من ذوي رحمه وأنسابه، أو كان أجنبياً لغيره يكفل به. أقول: قوله: ((في الجنة)) خبر ((أنا)) و ((هكذا)) نصب على المصدر من متعلق الخبر، وأشار بالسبابة والوسطى، أي أشار بهما إلى ما في ضميره صلى الله عليه وسلم من معنى الانضمام وهو بيان ((هكذا)). الحديث السابع عن النعمان: قوله: ((تداعى له سائر الجسد)) ((نه)): كأنه بعضه دعا بعضاً ومنه قولهم: تداعت الحيطان، أي تساقطت أو كادت. ووجه التشبيه فيه هو التوافق في المشقة والراحة والنفع والضرر. الحديث الثامن والتاسع عن أبي موسى: قوله: ((المؤمن للمؤمن)) التعريف فيه للجنس والمراد بعض المؤمن للبعض. وقوله: ((يشد بعضه بعضاً)) بيان لوجه التشبيه. وقوله: ((ثم شبك بين أصابعه)) كالبنيان للوجه أي شدا مثل هذا الشد. ((مح)): فيه تعظيم

4956 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: ((اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)). متفق عليه. 4957 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). فقال رجل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: ((تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه)). متفق عليه. 4958 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن ـــــــــــــــــــــــــــــ حقوق المسلمين بعضهم لبعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه. وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام. الحديث العاشر عن أبي موسى: قوله: ((اشفعوا فلتؤجروا ((مظ)): يعني إذا عرض صاحب حاجة علي اشفعوا له إلى: فإنكم إذا شفعتم له إلي، حصل لكم بتلك الشفاعة أجر، سواء قبلت شفاعتكم أو لم تقبل. وقوله: ((يقضي الله على لسان رسوله)) أي يجري على لساني ما شاء الله، إن قضيت حاجة من شفاعتكم له، فهو بتقدير الله. وإن لم أقض فهو أيضاً بتقدير الله. أقول: قوله: ((على لسان رسوله)) من باب التجريد؛ إذا الظاهر أن يقال: ((على لساني)). كأنه قال: اشفعوا إلى، ولا تقولوا: ما ندري أيقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟؛ لأن الله تعالى هو القاضي، فإن قضى لي أن أقبل أقبل، وإلا فلا. وهو من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) والفاء في ((فلتؤجروا)) واللام مقحمة بل كلاهما مؤكدان؛ لأنه لو قيل: ((تؤجروا)) جواباً للأمر لصح. ((مح)): أجمعوا على تحريم الشفاعة في الحدود بعد بلوغها إلى الإمام. وأما قبله فقد أجاز الشفاعة فيها أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس. وأما المعاصي التي لا حد فيها، والواجب التعزيز، فيجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا. ثم الشفاعة فيها مستحبة، إذا لم يكن المشفوع فيه مؤذياً وشريراً. الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فذلك نصرك إياه)) إشارة إلى المنع. أي منعك أخاك عن الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه، وعلى نفسه التي تأمره بالسوء. الحديث الثاني عشر عن ابن عمر: قوله: ((ولا يسلمه)) ((نه)): يقال: أسلم فلان فلانا إذا

مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)). متفق عليه. 4959 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخوة المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا)). ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه. وهو عام في كل من أسلمته إلى كل شيء لكن دخله التخصص، وغلب عليه الإلقاء في الهلكة. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يظلمه)) استئناف إما بيان للموجب وإما لوجه التشبيه. والخذلان ترك الإعانة والنصرة. قوله: ((ولا يحقره)) ((مظ)): لا يجوز تحقير المتقي من الشرك والمعاصي. والتقوى محله القلب، وما كان محله القلب يكون مخفياً عن أعين الإنس. وإذا كان مخفياً فلا يجوز لأحد أن يحكم بعدم تقوى مسلم حتى يحقره. ويحتمل أن يكون معناه محل التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى فلا يحقر مسلماً؛ لأن المتقي لا يحقر المسلم. أقول: والقول الثاني أوجه والنظم له أدعى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما شبه المسلم بالأخ لينبه على المساواة، وأن لا يرى أحد نفسه على أحد من المسلمين فضلاً ومزية، ويحب له ما يحب لنفسه. وتحقيره إياه مما ينافي هذه الحالة وينشأ منه قطع وصلة الأخوة التي أمر الله تعالى بها أن توصل. ومراعاة هذه الشريطة أمر صعب؛ لأنه ينبغي أن يسوي بين السلطان وأدنى العوام، وبين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف والكبير والصغير. ولا يتمكن من هذه الخصلة إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، وأخلصه من الكبر والغش والحقد، ونحوها: إخلاص الذهب الإبريز من خبثه ونقاه منها، فيؤثر لذلك أمر الله تعالى على متابعة الهوى؛ ولذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا)) فإن كلا منهما متضمن للنهي عن الاحتقار. وأنت عرفت أن موقع الاعتراض بين الكلام موقع التأكيد والتقرير. وقوله: ((كل المسلم على المسلم ...)) إلخ. هو الغرض الأصلي والمقصود الأولى، والسابق كالتمهيد والمقدمة له. فجعل مال المسلم وعرضه جزاء منه تلويحاً إلى معنى ما روي: ((حرمة مال المسلم كحرمة دمه)) والمال يبذل للعرض. قال:

4960 - وعن عياض بن حمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة، الضعيف الذي لا زبر له: الذين هم ـــــــــــــــــــــــــــــ أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال ولما أن التقوى: تشد من عقد هذه الأخوة وتستوثق من عراها. قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله} يعني أنكم إن اتقيتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، ولأن مستقر التقوى ومكانه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد. قال الله تعالى: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى}. ولذلك كرر صلوات الله عليه هذه الكلمة، وأشار بيده إلى صدره ثلاثا. وإنما عدل الراوي من الماضي إلى المضارع استحضارا لتلك الحالة في مشاهدة السامع واهتماماً بشأنها. ونحوه قوله تعالى: {والهل الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} ومن ثمة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى صدره. ولم يقل: التقوى في القلب. وهذا الحديث من الجوامع وفصل الخطاب الذي خص به هذا النبي المكرم صلوات الله وسلامه عليه. قوله: ((بحسب امرئ)) مبتدأ والباء فيه زائدة. وقوله: ((أن يحقر أخاه)) خبره، أي حسبه وكافيه من خلال الشرور ورذائل الأخلاق تحقير أخيه المسلم. والله أعلم. الحديث الرابع عشر عن عياض: قوله: ((ذو سلطان)) أي سلطان لأنه ذو قهر وغلبة من السلاطة، وهي التمكن من القهر. قال الله تعالى: {ولو شاء الله لسلطهم} ومنه سمي السلطان. وقيل: ذو حجة لأنه تقام الحجج به. و ((المقسط)) العادل. يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل. وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار. وكأن الهمزة فيه للسلب، كأن يقال: شكاه إليه فأشكاه. و ((الموفق)) هو الذي يهيئ له أسباب الخير وفتح له أبواب البر. وقوله: ((رقيق القلب)) مفسر لقوله: ((رحيم)) أي يرق قلبه ويترحم لكل من بينه وبينه لحمة القرابة أو صلة الإسلام. و ((العفيف)) المتعفف المتجنب عن المحارم والمتحاشي عن السؤال، المتوكل على الله تعالى في أمره وأمر عياله. وإذا استقرأت أحوال العباد على اختلافها، فلعلك لم تجد أحداً يستأهل أن يدخل الجنة ويحق له أن يكون من أهلها، إلا وهو مندرج تحت هذه الأقسام غير خارج عنها. قوله: ((لا زبر له)) ((حس)): أي لا عقل له. وفي الغريبين: يقال: ما له زبر أي عقل. ((تو)):

فيكم تبع لا يبغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفي له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك))، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير الفحاش)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى لا يستقيم عليه؛ لأن من لا عقل له لا تكليف عليه. فكيف يحكم بأنه من أهل النار؟ وأرى الوجه فيه أن يفسر بالتماسك؛ فإن أهل اللغة يقولون: لا زبر له أي لا تماسك له، وهو في الأصل مصدر. والمعنى: لا تماسك له عند مجيء الشهوات. فلا يرتدع عن فاحشة ولا يتورع عن حرام. أقول: لعله ذهب إلى أن قوله: ((الذين هم فيكم تبع)) قسم آخر من الأقسام الخمسة؛ ولذلك فسره بقوله: ((يعني به الخدام الذين يكتنفون بالشبهات والمحرمات)) وعليه كلام القاضي؛ حيث قال: والذين هم فيكم تبع يريد به الخدام الذين لا مطمح لهم، ولا مطمع إلا ما يملأون به بطونهم من أي وجه كان، ولا تتخطى هممهم إلى ما وراء ذلك من أمر ديني أو دنيوي. أقول: والظاهر أن الضعيف وصف باعتبار لفظه تارة بالمفرد وباعتبار الجنس أخرى بالجمع، أو الموصل الثاني بيان أو بدل مما قبله لعدم العاطف، كما في الأصول المشهورة. وعليه كلام الأشراف حيث قال: ((الذي)) في قوله: ((الذي لا زبر له)) بمعنى ((الذين)) للجمع. قال الشاعر: إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد وهو الذي جوز جعل قوله: ((الذين هم فيكم تبع)) بدلا من قوله: ((الذي لا زبر له)) انتهى كلامه. وعلى هذا لا يتوجه الإشكال الذي أورده الشيخ التوربشتي، ويتعين تقسيم الأقسام الخمسة: أحدها: الضعيف، وثانيها: الخائن، وثالثها: رجل، ورابعها: البخيل مثلا، وخامسها: الشنظير. قوله: ((تبع)) في بعض نسخ المصابيح مرفوعاً كما في صحيح مسلم على أنه فاعل الظرف، أو مبتدأ خبره الظرف، والجملة خبرهم. وفي بعضها منصوب كما في الحميدي وجامع الأصول، وهو حال عن الضمير المستتر في الخبر. ((مح)): ((لا يتبعون)) بالعين المهملة يخفف ويشدد من الإتباع. وفي بعض النسخ ((لا يبغون)) بالغين المعجمة: لا يطلبون. قوله: ((لا يخفي له طمع)) ((قض)): أي لا يخفي عليه شيء مما يمكن أن يطمع فيه، وإن دق، بحيث لا يكاد يدرك إلا وهو يسعى في التفحص عنه والتطلع عليه حتى يجده فيخونه. وهذا هو الإغراق في الوصف بالخيانة. ويحتمل أن يكون ((خفي)) من الأضداد. والمعنى لا يظهر له شيء يطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئاً يسيراً. والطمع مصدر بمعنى المفعول.

4961 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). متفق عليه. 4962 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يخادعك عن أهلك)) ((عن)) هنا كما في قوله الشاعر: يمدح جوادا ويصف أضيافه ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. وقوله تعالى {فأزلهما الشيطان عنها} الكشاف: أي حملهما الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة فالمعنى: يخادعك بسبب أهلك ومالك، أي طمع في مالك وأهلك، فيظهر عندك الأمانة والعفة ويخون فيهما. قوله: ((البخل أو الكذب)) ((تو)) أي البخيل والكذاب أقام المصدر مقام اسم الفاعل، انتهى كلامه. ولعل الراوي نسي ألفاظا ذكرها صلى الله عليه وسلم في شأن البخيل أو الكذاب فعبر بهذه الصيغة، وإلا كان يقول: والبخيل أو الكذاب. ((مح)): في أكثر النسخ: ((أو الكذاب)) بـ ((أو))، وفي بعضها بالواو. والأول هو المشهور في نسخ بلادنا. قال القاضي عياض: روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو، إلا ابن أبي جعفر عن الطبري فبـ ((أو)). وقال بعض الشيوخ: لعل الصواب، وبه تكون المذكورات خمسة. أقول: فعلى هذا قوله: ((الشنظير)) مرفوع، فيكون عطفاً على ((رجل)) كما سبق. وعلى تأويل الواو ينبغي أن يكون منصوباً من تتمة الكذب أو البخل، أي البخيل السيئ الخلق. يقال: رجل شنظير وشنظيرة. و ((الفحاش)) نعت لـ ((الشنظير)). وليس بمعنى له، أي يكون مع سوء خلقه فحاشا. الحديث الخامس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤمن عبد)) ((مح)): قالوا: لا يؤمن الإيمان التام. وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة. والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والمباحات؛ يدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث ((حتى يحب لأخيه من الخير))؛ إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه. والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها. وذلك سهل على القلب السليم. وإنما يعسر على القلب الدغل. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بوائقه)) ((نه)): أي غوائله وشروره، واحدتها بائقة.

يؤمن، والله لا يؤمن)). قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) متفق عليه. 4963 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)). رواه مسلم. 4964 - وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)). متفق عليه. 4965 - وعن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن يحزنه)). متفق عليه. 4966 - عن تميم الداري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) ثلاثاً. قلنا: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر إلى التاسع عشر عن عبد الله: قوله: ((من أجل أن يحزنه)) يجوز أن يكون علة للنهي، أي لا تتناجوا لئلا يحزن صاحبك، وأن يكون علة للفعل المنهي، أي لا ينبغي أن يصدر منكم تناج هو سبب للحزن. فعلم أن هناك تناجياً غير منهي. ((خط)): إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين: أحدهما: أنه ربما يتوهم أن نجواهما [التبييت] رأي فيه، أو دسيس غائلة له. والآخر: أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو يحزن صاحبه. وقال أبو عبيد: هذا في السفر، وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة، فلا بأس به. ((حس)): وقد صح عن عائشة رضي الله عنها: ((إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده يوما، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها فلما رآها رحب ثم سارها)). ففيه دليل على أن المساواة في الجمع حيث لا ريبة جائزة. ((مح)): هذا النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث وكذا بإذنه. وهذا مذهب ابن عمر ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء. وهو عام في كل الأزمان حضراً وسفراً. الحديث العشرون عن تميم: قوله: ((الدين النصيحة)) ((خط)): ((النصيحة)) كلمة جامعة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير. وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة وجيزة تحصرها وتجمع معناها غيرها، كما قالوا في ((الفلاح)): ليس في كلامهم كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) يريد عماد أمر الدين إنما هو النصيحة. وبها ثباته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) أي صحتها وثباتها بالنية. فمعنى نصيحة الله الإيمان به صحة الاعتقاد في وحدانية، وترك الإلحاد في صفاته

لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وإخلاص النية في عبادته، وبذلك الطاعة فيما أمر به ونهي عنه، والاعتراف بنعمه والشكر له عليها وموالاة من أطاعة، ومعاداة من عصاه. وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله، والله غني عن نصح كل ناصح. ومعنى نصيحة الكتاب: الإيمان به وبأنه كلام الله ووحبه وتنزيله، لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكير في عجائبه، والعلم بمحكمه والتسليم بمشابهه. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التصديق بنبوته، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وبذل الطاعة فيما أمر ونهى، والانقياد له وإيثاره بالمحبة فوق نفسه ووالده وولده والناس أجمعين. ونصيحة الأئمة أن يطيعهم في الحق، ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا، وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم لما غفلوا عنه أو لم يبلغهم من حقوق المسلمين، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم. ومن النصيحة لهم: الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وأن لا يغرهم بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعو لهم بالصلاح، هذا كله على أن المراد بالأئمة الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات. وقد [يتأول] ذلك بالأئمة الذين هم علماء الدين، وإن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام والإحسان الظن بهم. ونصيحة عامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، وكف الأذى عنهم، وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويعينهم عليه قولا أو فعلا وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق، كبيرهم ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غيبتهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم. أقول: وجماع القول فيه أن النصيحة هي خلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعي حقه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتي بها على طريقتها متداركة للفرطات ماحية للسيئات. ويجعل قلبه محلا للنظر والفكر، وروحه مستقراً للمحبة وسره منصة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العين، بأن يحملها على النظر إلى الآيات الناصة من الآفاقية والأنفسية، والإذن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النطق بالحق وتحري الصدق والمواظبة على ذكر الله وثنائه. قال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان مسئولاً}.

4967 - وعن جرير بن عبد الله، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. متفق عليه. الفصل الثاني 4968 - عن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقى)). رواه أحمد، والترمذي. [4968] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لله ولكتابه)) جواب لمن سأل على سبيل التغليب أو الاستعارة المكنية، حيث أسند النطق إليه في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق}: وقوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم} إذ كان ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. ((مح)): هذا حديث عظيم الشأن، عليه مدار الإسلام والإيمان. وأما ما قيل: إنه أحد أرباع الإسلام، أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام، فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده. قال بعضهم فيه: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، وقالوا: النصيحة فرض كفاية إذا قام به واحد يسقط عن الباقين. والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا قام به واحد يسقط عن الباقين. والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه [تقبل] نصيحته، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. فإن خشي أذى فهو في سعة. والله أعلم. الحديث الحادي والعشرون عن جرير: قوله: ((على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة)). ((مح)): إنما اقتصر على الصلاة والزكاة؛ لكونهما أم العبادات المالية والبدنية، وهما أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأظهرهما. قوله: ((والنصح لكل مسلم)). ((مح)): روي أن جريراً رضي الله عنه اشترى له فرس بثلثمائة درهم، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال: فرسك خير من ذلك، أتبيعه بخمسمائة؟ ثم لم يزل يزيده مائة فمائة حتى بلغ ثمانمائة، فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الصادق المصدوق)). ((مظ)): الصادق من صدق في قوله وتحراه بفعله. والمصدوق من صدقه غيره. وقوله: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقى))؛ لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقى، فمن لا يرزق الرقة شقى.

4969 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). رواه أبو داود. والترمذي. [4969] 4970 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4970] 4971 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكرم شاب شيخا من أجل سنة إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه)). رواه الترمذي. [4971] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((ارحموا من في الأرض)) أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير. ((مظ)): اختلف في المراد من قوله ((من في السماء)) فقيل: هو الله سبحانه وتعالى، أي ارحموا من في الأرض شفقة يرحمكم الله تعالى فضلا. وتقدير الكلام: يرحمكم من في السماء ملكه وقدرته، وإنما نسب إلى السماء لأنها أوسع وأعظم من الأرض، أو لعلوها وارتفاعها، أو لأنها قبلة الدعاء ومكان الأرواح القدسية الطاهرة. وقيل: المراد منه الملائكة، أي تحفظكم الملائكة من الأعداء والمؤذيات بأمر الله تعالى ويستغفروا لكم ويطلبوا لكم الرحمة من الله الكريم. أقول: ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: يرحمكم الله بأمره للملائكة أن تحفظكم. قال الله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله} أي جماعات من الله من الملائكة تتعقب في حفظه وكلائته، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله، أو يحفظونه من أجل أمر الله. أو من أجل أن الله أمرهم بحفظه، أو يحفظونه من بأس الله ونقمته، إذا [أذنب] بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب. الحديث الثالث والرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا قيض الله)). ((نه)): أي سبب الله له وقدر له. قوله:: ((من أجل سنه)) أي لا لأجل أمر آخر: فإن الشيخوخة في نفسها

4972 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط)). رواه أبو داواد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4972] 4973 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)). رواه ابن ماجه. 4974 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مسح رأس يتيم لم ـــــــــــــــــــــــــــــ مكروهة، وما يكرمها من يكرمها إلا لأمر آخر، وهو كونها وقاراً من الله، كما ورد: كان إبراهيم أول الناس رأي الشيب، فقال: يا رب! ما هذا؟ قال الرب: وقار، قال: رب زدني وقارا! فإذا لا يكون إكرامها إلا الله تعالى، فمن أكرم لله تعالى وقاره لابد أن يجازيه بمثله بأن يقدر له عمرا يبلغ به إلى الشيخوخة، ويقدر له من يكرمه، يدل على هذا الحصر في الحديث. والله أعلم. الحديث الخامس عن أبي موسى: قوله: ((إن من إجلال الله)) أي من جملة تعظيم الله تعالى وتوقيره أن يكرم موضع وقاره وهو شيبة المسلم؛ ولهذا السر قال الخليل: زدني وقارا! قال تعالى: {وتعزروه وتوقروه}. ((حس)): قال طاوس: من السنة أن توقر أربعة: العالم وذا الشيبة والسلطان والوالد. قوله: ((غير الغالي فيه)). ((نه)): إنما قال: ((غير الغالي فيه والجافي عنه))؛ لأن من أخلاقه صلوات الله عليه وآدابه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوساطها. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ومنه الحديث: ((اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه)) أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته. يريد لا تغلوا في القرآن بأن تبذلوا جهدكم في قرائته وتجويده من غير تفكر وتدبر، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: ((لم يفقه من القرآن في أقل من ثلاثة)) أو ((لا تجفوا عنه)) بأن تتركوا قراءته وتشتغلوا بتأويله وتفسيره. الحديث السادس والسابع عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((من مسح رأس يتيم)) هو

يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) وقرن بين أصبعيه. رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [4974] 4975 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آوى يتيماً إلى طعامه وشرابه أوجب الله له الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر. ومن عال ثلاث بنات أو مثلهن من الأخوات فأدبهن ورحمهن حتى يغنيهن الله أوجب الله له الجنة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ كناية عن الشفقة والتلطف إليه. ولما لم تكن الكناية منافية لإرادة الحقيقة لإمكان الجمع بينهما، كما تقول: فلان طويل النجاد، وتريد طول قامته مع طول علاقة سيفه، رتب عليه قوله: ((بكل شعرة تمر عليها يده)) وهذا عام في كل يتيم، سواء كان عنده أو لم يكن. وأما إذا كان عنده وهو كافله فيجب عليه أن يربيه تربية أولاده، ولا يقصر في الشفقة عليه والتلطف به، ويؤدبه أحسن تأديب ويعلمه أحسن تعليم. ويراعي غبطته في ماله وتزويجه وتزوجه. وهو المراد من قوله: ((ومن أحسن إلى يتيمة)) وقدم اليتيمة؛ لأنها أحوج. وقوله: ((لم يمسحه)) حال من فاعل ((مسح)) أي يمسحه والحال أنه لا يمسحه إلا الله تعالى. وقوله: ((في الجنة)) خبر ((كان)) فيجب أن يقدر متعلقة خاصاً يوافق قوله: ((كهاتين)) أي مقارنين في الجنة اقتراناً مثل هاتين الإصبعين. ويجوز أن يكون ((كهاتين)) حالا من الضمير المستقر في الخبر. وأن يكون هو الخبر وفي الجنة ظرفاً لـ ((كنت)). الحديث الثامن عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((من آوى يتيماً إلى طعامه)) أي يضمه إليه ويطعمه. ((نه)): في حديث البيعة: أنه قال للأنصار: ((أبايعكم على أن تأووني وتنصروني)) أي تضموني إليكم وتحفظوني بينكم، يقال: آوى وأوى بمعنى واحد. والمقصور منهما لازم ومتعد. قوله: ((ذنبا لا يغفر)). المراد منه الشرك؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. ((ومن عال)) أي تعهد وكفي مئونة ثلاث بنات. قال في أساس البلاغة: يقال: هذا يتيم عائل ليس له عائل أي فقير ليس له من يمونه. ((مح)): قوله: ((أو اثنتين)) عطف على قوله: ((ثلاث بنات)) عطف تلقين، أي: قل: أو اثنتين؛ ولذلك وافقه صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أو اثنتين))، كما عطف إبراهيم عليه السلام قوله: {ومن ذرتي} على الكاف في قوله تعالى: {إني جاعلك} وفي قولك لصحابك: وزيدا، إذا

فقال رجل: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: ((أو اثنتين)). حتى لو قالوا: أو واحدة؟ لقال: واحدة ((ومن أذهب الله بكريمتيه وجبت له الجنة)). قيل: يا رسول الله! وما كريمتاه؟ قال: ((عيناه)). رواه في ((شرح السنة)). [4975] 4976 - وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وناصح الراوي ليس عند أصحاب الحديث بالقوى. [4976] 4977 - وعن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقال الترمذي: هذا عندي حديث مرسل. [4977] ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: سأكرمك، وحتى غاية الموافقة، أي لم يزل يوافقه في التنزل حتى لو قال: أو واحدة لوافقه. قوله: ((بكريمتيه))، ((نه)): يريد عينيه أي جارحتيه الكريمتين عليه. وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك. الحديث التاسع والعاشر عن أيوب رضي الله عنه: قوله: ((من نحل أفضل)) ((نه)): النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. يقال: نحله ينحله نحلا بالضم والنحلة بالكسر العطية. انتهى كلامه. جعل الأدب الحسن من جنس المال والعطيات مبالغة، كما جعل الله تعالى القلب السليم من جنس المال والبنين في قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}. قوله: ((هذا عندي حديث مرسل)) يدل على اختلاف فيه. وذلك أن قوله: ((عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده)) موهم بالاتصال والإرسال؛ فإن قوله: ((جده))، يحتمل أن يكون جد أيوب- وهو عمرو- فيكون مرسلا، وأن يكون جد أبيه موسى وهو سعيد صحابي فيكون متصلا. قال البيهقي: روى البخاري الحديث في تاريخه، وقال: إنه لم يصح سماع جد أيوب، فوافق الترمذي البخاري، وقال: هذا عندي حديث مرسل. وفي جامع الأصول إشعار بأنه متصل حيث روى عن سعيد بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

4978 - وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)). وأوما يزيد بن ذريع إلى الوسطى والسبابة ((امرأة آمت من زوجها، ذات منصب وجمال، حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)). رواه أبو داود. [4978] 4979 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها- يعني الذكور- أدخله الله الجنة)) رواه أبو داود [4979] 4980 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من اغتيب عنده أخوه المسلم وهو يقدر على نصره فنصره؛ نصره لله في الدنيا والآخرة. فإن لم ينصره وهو يقدر على نصره؛ أدركه الله به في الدنيا والآخرة)). رواه في ((شرح السنة)). [4980] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن عوف رضي الله عنه: قوله: ((سعفاء الخدين)). ((قض)): أي متغيرة لون الخدين؛ لما يكابدها من المشقة والضنك. وسفعة الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة. وهي في الأصل سواد مشرب حمرة. وقوله: ((امرأة آمت)) .. إلخ بدل يجري مجرى البيان والتفسير، وآمت المرأة أيمة وأيوما: إذا صارت بلا زوج، وقوله: ((حتى بانوا)) أي استقلوا بأمرهم وانفصلوا عنها. انتهى كلامه. والتنكير في ((امرأة)) للتعظيم. وقوله: ((سفعاء الخدين)) نصب أو رفع على المدح. وهو معترض بين المبتدأ والخبر. كقوله: ((إن بني نهشل لا ندعى لأب))، ومن ثم حسن إبدال ((امرأة آمت)) من قوله: ((امرأة سفعاء الخدين)). الحديث الثاني عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((له أنثى)) في وضع ((الأنثى)) موضع ((النبت)) تحقيراً لشأنها، كما في وضع الولد مكان الابن تعظيماً له إيذان بمخالفة عظيمة لهوى النفس وإيثار رضي الله تعالى على رضاه، ولذلك رتب عليه دخول الجنة. وهو من باب الإدماج، كقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} حيث وضع موضع ((الوالد)) ((المولود له))؛ ليشعر بأن الولد للوالد وإليه نسب. والأم كالوعاء له. وقوله: ((فلم يئدها)) هو من الوأد وهو دفن البنات حيا. الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أدركه الله)) أي خذله لمقابلته النص،

4981 - وعن أسماء بنت زيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذب عن لحم أخيه بالمغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4981] 4982 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة)). ثم تلا هذه الآية: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}. رواه في ((شرح السنة)). 4983 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من امرئ مسلم يخذل أمراً مسلماً في موضع ينتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في موطن ـــــــــــــــــــــــــــــ وخذلانه أن يدركه بسخطه. والضمير في ((به)) راجع إلى عدم النصر عند القدرة. والباء للسببية. الحديث الرابع عشر عن أسماء: قوله: ((عن لحم أخيه)) هو كناية عن الغيبة لاستعمال التنزيل فيها، كأنه قيل: من ذب عن غيبة أخيه في غيبته، وعلى هذا ((بالمغيبة)) ظرف، ويجوز أن يكون حالا. وفي هذه الكناية من المبالغة أنه جعل كأكل لحم الإنسان ولم يقتصر، بل جعلها كأكل لحم أخيه؛ لأنه أشد نفاراً من لحم الأجانب. وزاد في المبالغة حيث جعل الأخ ميتا. الحديث الخامس عشر عن أبي الدرداء: قوله: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} استشهاد لقوله: ((إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه)) والضمير في ((عنه)) راجع إلى المسلم الذاب عن عرض أخيه. أتى بالعام فيدخل فيه من سيق له الكلام دخولاً أولياً، كما في قوله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنه الله على الكافرين} وهو أبلغ من لو قيل عليهم لموقف الكناية، وفيه أن مفهوم المسلم والمؤمن واحد، كما في قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}. الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ينتهك)) الجوهري: انتهك عرضه أي بالغ في شتمه. ويقال أيضاً: نهكته الحمى إذا جهدته ونقصت لحمه.

يحب فيه نصرته وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)). رواه أبو داود. [4983] 4984 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأي عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)). رواه أحمد، والترمذي وصححه. [4984] 4985 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم مرآة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر عن عقبة: قوله: ((عورة)) أي خللا من هتك ستر أو وقع في عرض ونحوهما؛ لأن الناس يختل حالهم عندها، ومنها أعور الفارس وأعور المكان ((مظ)): يعني من رأي شيئاً قبيحا أو عيبا في مسلم فستره عليه، كان ثوابه كثواب من أحيا موءودة، أي من رأي حيا مدفوناً في قبره، فأخرج ذلك المدفون من القبر كيلا يموت ووجه تشبيه الستر على عيوب الناس بإحياء الموءودة، أن من انتهك ستره يكون من الخجالة كميت، ويحب الموت منها. فإذا ستر أحد على غيبه، فقد دفع عنه الجحالة التي هي عنده بمنزلة الموت. أقول: يمكن أن يقال: إن وجه التشبيه الأمر العظيم، يعني من ستر على مسلم فقد ارتكب أمراً عظيماً كمن أحيا موءودة؛ فإنه أمر عظيم فيدل على فخامة تلك الشنعاء، نحو قوله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} الكشاف: فيه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأن المعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل جميع الناس عظم ذلك عليه فثبطه. وكذلك الذي أراد إحياءها، انتهى كلامه. فكذلك من أراد أن يستر عيب مؤمن وعرضه، إذا تصور أنه أحيا الموءودة عظم عنده ستر عورة المؤمن، فيتحرى فيه ويبذل جهده. الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن أحدكم مرآة أخيه)). قيل: أي المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه، كالمرآة المجلوة التي تحكي كل ما ارتسم فيها من الصور

إخيه، فإن رأي به أذى فليمط عنه)). رواه الترمذي وضعفه. وفي رواية له ولأي داود: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)). [4985] 4986 - وعن معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حمى مؤمنا من منافق بعث اله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. من رمى مسلماً بشيء يريد به شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)). رواه أبو داود. [4986] 4987 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) .. رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. [4987] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولو كان أدنى شيء، فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه، يستشف من وراء أقواله وأفعاله وأحواله تعريفات وتلويحات من الله الكريم، فأي وقت ظهر من أحد المؤمنين المجتمعين في عقد الأخوة عيب قادح في أخوته نافروه؛ لأن ذلك يظهر بظهور النفس، وظهور النفس من تضييع حق الوقت، فعلموا منه خروجه بذلك من دائرة الجمعية وعقد الأخوة فنافروه ليعود إلى دائرة الجمعية. قال رويم: لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإذا اصطلحوا هلكوا. وهذه إشارة منه إلى حسن تفقد بعضهم أحوال البعض إشفاقاً من ظهور النفس. يقول: إذا اصطلحوا ورفعوا النافر بينهم، يخاف أن يخامر البواطن المساهلة والمراءاة ومسامحة البعض في إهمال دقيق آدابهم، وبذلك تظهر النفوس وتستولي وتصدأ مرآة القلب فلا يرى فيها من الخلل والعيب. قال عمر رضي الله عنه في مجلس فيه المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين، مرتين أو ثلاثاً؟ فلم يجيبوا. قال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح. قال عمرو رضي الله عنه: أنتم إذاً أنتم. هكذا في كتاب العوارف. قوله: ((ضيعته))، ((نه)): في الحديث: ((إن أخاف على [الأعناب] الضيعة)) أي إنها تضيع

4988 - وعن ابن مسعود، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو إذا أسأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت؛ فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت؛ فقد أسأت. رواه ابن ماجه. [4988] 4989 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلوا الناس منازلهم)). رواه أبو بكر داود. [4989] الفصل الثالث 4990 - عن عبد الرحمن بن أبي قراد، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملكم على هذا؟)) قالوا: حب الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ـــــــــــــــــــــــــــــ وتتلف. والضيعة في الأصل المرة من الضياع. ((مظ)): يعني ليدفع عنه ما فيه ضرر عليه. ((ويحوطه))، أي يحفظه في غيبته ويدفع عنه من يغتابه ويلحقه ضررا. الحديث التاسع عشر إلى الحادي والعشرين عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((كيف لي؟)) أي كيف يحصل لي العلم بإحساني إذا صدر مني؟. الحديث الثاني والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أنزلوا الناس منازلهم)) قيل: أي مقاماتهم المعينة المعلومة لهم. قال الله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} فلكل أحد مرتبة ومنزلة لا يتخطاها إلى غيرها. فالوضيع لا يكون في منزل الشرف، فاحفظوا على كل أحد مزلته، ولا تسووا بين الخادم والمخدوم والسائد والمسود، وأكرموا كلا على حسب فضله وشرفه. وقد قال الله تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} والله الموفق للصواب. الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الرحمن: قوله: ((من سره أن يحب الله)) يريد أن ادعاءكم محبة الله ومحبة رسوله لا يتم ولا يستتب بمسح الوضوء فقط، بل بالصدق في المقال وبأداء الأمانة والإحسان إلى الجار.

ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا ائتمن، وليحسن جوار من جاوره. [4990] 4991 - وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [4991] 4992 - وعن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: ((هي في النار)). قال يا رسول الله! فإن فلانة تذكر قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإن تصدق بالأثوار من الإقط، ولا تؤذي بلسانها جيرانها. قال: ((هي في الجنة)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). 4993 - وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على ناس جلوس فقال: ((ألا أخبركم بخيركم من شركم؟)) قال: فسكتوا فقال ذلك ثلاث مرات فقال رجل: بلى يا رسول الله! أخبرنا بخيرنا من شرنا فقال: ((خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ليس المؤمن)) التعريف فيه للجنس، أي ليس المؤمن الذي عرفته أنه مؤمن كامل بالذي يشبع. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تذكر)) على بناء المفعول مسند إلى ضمير ((فلانة)). و ((من)) في ((من كثرة صلاتها)) لابتداء الغاية، أي تذكر من أجل هذه. والقرينة الثانية ليس فيها ((من)) فالفعل مسند إلى ضمير ((فلانة)) و ((قلة)) نصب على نزع الخافض. و ((غير أنها)) منصوب على أنه استثناء منقطع بمعنى لكن، و ((الأثوار)) جمع ثور. الجوهري: الثور القطعة من الأقط. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من شركم)) حال أي أخبركم بخيركم مميزاً من شركم. ولما توهموا من معنى التميز، فتخوفوا من الفضيحة سكتوا، حتى كرر ثلاثاً،

وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان))، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. [4993] 4994 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)). [4994] 4995 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله، قال: ((المؤمن مألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) رواهما أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [4995] ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم أبرز البيان في معرض العموم لئلا يفتضحوا. قوله: ((خيركم من يرجى ..)) الخ. التقسيم العقلي يقتضي أربعة أقسام. ذكر منها قسمين ترغيباً وترهيباً، وترك القسمين الباقيين؛ إذ لا ترغيب فيهما ولا ترهيب. الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الله يعطي الدنيا)) كالنشر لمالف قبله. وأشار بـ ((الدنيا)) إلى الأرزاق وبـ ((الدين)) إلى الأخلاق؛ ليشعر بأن الرزق الذي يقابل الخلق هو الدنيا، وليس من الدين في شيء. وأن الأخلاق الحميدة ليست غير الدين؛ قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ثم أتى بما يفضل الدين من الأعمال الخارجة والداخلة من الانقياد والتصديق. كما في حديث جبريل عليه السلام: ((أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) بعد ذكر الإسلام والإيمان. وفسرهما بما ينبئ عن الأخلاق. وخص القلب واللسان بالذكر؛ لأن مدار الإنسان عليهما، كما ورد في المثل: المرء بأصغريه. فإسلام اللسان كفه عما فيه آفاته، وهي لا تكاد تنحصر. وإسلام القلب تطهيره عن العقائد الباطلة والآراء الزائغة والأخلاق الذميمة، ثم تحليتها بما يخالفها. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مألف)) يحتمل أن يكون مصدراً على سبيل المبالغة كرجل عدل، يعني إذا لم يألف صاحبه، ألف معه. وإذا ائتلف ائتلف، أو اسم سبيل المبالغة كرجل عدل، يعني إذا لم يألف صاحبه، ألف معه، وإذا ائتلف ائتلف، أو اسم

4996 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قضى لأحد من أمتي حاجة يريد أن يسره بها فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله، ومن سر الله أدخله الله الجنة)). [4996] 4997 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة، واحدة فيها صلاح أمره كله، وثنتان وسبعون له درجات يوم القيامة)). [4997] 4998 - 4999 - * وعنه، وعن عبد الله، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله)). روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [4998]، [4999] ـــــــــــــــــــــــــــــ مكان أي يكون مكان الألفة ومنشأها. ومنه إنشاؤها وإليه مرجعها. والتألف سبب الاعتصام بالله وبحبله. وبه يحصل الاجتماع بين المسلمين وبضده تحصل الفرقة بينهم. وهو بتوفيق الله وتأليفه. وإليه أشار تعالى بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} إلى قوله: {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ومن سر الله)) مسرة الله تعالى مجاز عن رضاه وإيصال الخير إلى المرضى عنه. أو تمثيل شبه معامله الله تعالى معه بمعاملة من يسره بوصول ما يحبه إليه. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ملهوفاً))، ((نه)) هو المكروب، يقال: لهف لهفا فهو لهفان ولهف فهو ملهوف. قوله: ((واحدة فيها)) فيه أن غفران الذنوب مقدمة فتح باب رحمة الله تعالى في الدنيا والعقبى؛ ومن ثمة قدمها في قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} على قوله {ويتم نعمته عليك ويهديك}؛ لأن التحلية بعد التخلية.

(16) باب الحب في الله ومن الله

5000 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)). رواه أحمد. 5001 - وعن أبي هريرة، أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: ((امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين)) رواه أحمد. 5002 - وعن سراقة بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على أفضل الصدقة؟ ابنتك مردودة إليك ليس لها كاسب غيرك)). رواه ابن ماجه. [5002] (16) باب الحب في الله ومن الله الفصل الأول 5003 - عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع إلى الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((امسح رأس اليتيم)) خص اليتيم والمسكين بالذكر؛ تلميحاً لقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسبغة، يتيماً ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة} ومراعاتهما من اقتحام العقبة الشاقة؛ لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. فمن اقتحم تلك العقبة رق قلبه وسمح نفسه في تعاطي كل خير، وفيه أن من ابتلى بداء من الأخلاق الذميمة، يكون تداركه بما يضاده من الدواء. فالمتكبر يداوى بالتواضع، والبخيل بالسماحة، وقاسي القلب بالتعطف والرقة ... والله أعلم. الحديث الثاني عشر عن سراقة: قوله: ((مردودة)) ((نه)) هي التي تطلق وترد إلى بيت أبيها، وأراد ألا أدلك على أفضل أهل الصدقة؟ فحذف المضاف، ومنه حديث الزبير في وصيته بدار وقفها، ((وللمردودة من بناته)) أي تسكنها، لأن المطلقة لا مسكن لها على زوجها. أقول: ويمكن أن يقدر: صدقة تستحقها ابنتك في حال ردها إليك، وليس لها كاسب غيرك. وهما حالان إما مترادفتان أو متداخلتان. باب الحب في الله ومن الله أي في ذات الله وجهته لا يشوبه الرياء والهوى ((ومن الله))، أي من جهة الله أي إذا أحب

5004 - ورواه مسلم عن أبي هريرة ـــــــــــــــــــــــــــــ عبداً أحبه لأجل الله وبسببه. و ((من)) ها هنا كما في قوله تعالى: {ترى أعينهم تفيض من الدمع} و ((في) كما في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا} وهذا أبلغ حيث جعل المحبة مظروفاً. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((جنود مجندة)): أي مجموعة كما يقال: ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة. ومعناه الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد، أي أنها خلقت أول خلقها على قسمين: من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت. ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليها من السعادة والشقاوة والأخلاق في مبدأ الخلق. يقول: إن الأجساد التي فيها الأرواح، تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه، ولهذا ترى الخير يحب الأخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل إليهم. ((حس)): فيه دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وعلى أنها كانت موجودة قبل الأجساد في الخلقة. أقول: الفاء في قوله: ((فما تعارف)) للتعقيب أتبعت المجمل بالتفصيل، فدل قوله: ((ما تعارف)) على تقدم اشتباك واختلاط في الأزل، ثم تفرق بعد ذلك في ما لا يزال أزمنة متطاولة، ثم ائتلاف بعد التعارف، كمن فقد أنيسه وأليفه ثم اتصل به، فلزمه وأنس به. ودل قوله: ((وما تناكر)) على أن ذلك الفقيد لحق لمن لم يكن له سبق اختلاط معه، فاشمأز منه وفارقه، إلى من كان معه في السابق. ودل تشبيه الأرواح بالجنود المجندة على أن ذلك الاجتماع في الأزل كان لأمر عظيم وخطب جسيم من فتح بلاد وقهر أعداء. ودل ذلك على أن أحد الحزبين حزب الله والآخر حزب الشيطان. فمن تألف في الأزل بحزب الله فاز وأفلح. {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}، ومن تألف بحزب الشيطان خاب وخسر. {أولئك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون} ومن عادة الأجناد المتحزبة أن يسوم كل واحد من أحد الحزبين بعلامة ترفع التناكر من البين، فمتى شاهدوها ائتلفوا.

5005 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم يوضع له البغضاء في الأرض)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى هذا بنى قوله: ((فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) فهي تفريع على التشبيه بمنزلة ترشيح الاستعارة. وهذا التعارف إلهامات يقذفها الله في قلوب العباد من غير إشعار منهم بالسابقة. ولا يمنع من هذا التعارف فصله بالأباعد والأجانب، ولا تضمه شجنة الأرحام والأواصر؛ قال الشاعر: كانت مودة سلمان له نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم ولم يحظ آل قصي به وحظيت به أم معبد، قال: فيا لقصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجاري وسؤود ليهن بني كعب مقام فتاتها ومقعدها للمؤمنين بمرصد ولا يدفعه بعد الدار ولا يجمعه قربها مناسبة الأرواح بيني وبينها وإلا فأين الترك من ساكني نجد قال الحكيم: أقرب القرب مودة القلوب وإن تباعدت الأجسام. وأبعد البعد تنافر التداني، والله أعلم بالصواب. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا أحب عبداً)). ((مح)): محبة الله سبحانه وتعالى العبد هي إرادة الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته. وبغضه إرادة عقابه وشقاوته ونحو ذلك. وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين: أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم. وثانيهما: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين. وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه. وسبب حبهم إياه كونه مطيعاً لله محبوباً له. ومعنى ((يوضع له القبول في الأرض)) الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه. فتميل إليه القلوب وترضى عنه. وقد جاء في رواية ((فتوضع له المحبة)) انتهى كلامه. والكلام في المحبة وبيان اشتقاقها مضى مستوفي في باب أسماء الله الحسنى.

5006 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) رواه مسلم. 5007 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكا قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بجلالي)) الباء فيه بمعنى ((في)) لقوله بعد: ((المتحابون في جلالي لهم)) خص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة أي المنزهون عن شائبة الهوى والنفس والشيطان في المحبة، فلا يتحابون إلا لأجلي ولوجهي. ((مح)): قال القاضي: الظاهر أنه في ظل الله من الحر ووهج الموقف. وقال عيسى بن دينار: هو كناية عن كونه في كنفه وستره. ومنه قولهم: السلطان ظل الله في الأرض. ويحتمل أن يكون عبارة عن الراحة والتنعيم. يقال: هو في عيش ظليل أي طيب. وقوله: ((يوم لا ظل إلا ظلي)) بدل من ((اليوم)) المتقدم. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأرصد الله له على مدرجته)). ((نه)) أي وكله بحفظ المدرجة. يقال: رصدته إذا قعدت له على طريقه تترقبه. والمدرجة بفتح الميم والراء هي الطريق السمي بذلك؛ لأن الناس يدرجون عليها أي يمضون ويمشون. قوله: أريد أخا لي)) فإن قلت: كيف طابق هذا سؤاله بقوله: ((أين تريد؟)) قلت: من حيث أن السؤال متضمن لقوله: أين تتوجه ومن تقصد؟ ولما كان قصده الأولى الزيارة ذكره وترك ما لا يهم. ونظيره: قوله تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى} لما كان الغرض من السؤال في استعجاله إنكار تركه القوم وراءه وتقدمه عليهم، قدمه في الجواب وأخر ما وقع السؤال عنه. وقوله: ((هل لك عليه من نعمة؟)) أي هل أوجبت عليه حقاً من النعم الدنيوية تذهب إليه لتربها، أي تملكها منه وتستوفيها. ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، أي يملكني. تقول: ربه يربه فهو رب هذا إذا حمل الرب على المالكية، وإذا حمل على التربية والإصلاح فمعنى ((تربها)) تقوم بها وتسعى في

5008 - وعن ابن مسعود، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال: ((المرء مع من أحب)) متفق عليه. 5009 - وعن أنس، أن رجلاً قال: يا رسول الله! متى الساعة، قال: ((ويلك وما أعددت لها؟)). قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: ((أنت مع من أحببت)). قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها. متفق عليه. 5010 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع ـــــــــــــــــــــــــــــ تنميتها وإصلاحها. ((مح)): وفيه فضل المحبة في الله، وأنها سبب لحب الله، وفضيلة زيارة الصالحين. وأن الإنسان قد يرى الملائكة. الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما أعددت لها)) سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن وقت الساعة وإبان إرسائها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها؟ وإنما يهمك أن تهتم بأهبتها، وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. فأجاب بقوله ((ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله)). وقوله: ((أنت مع من أحببت)) أي ملحق بهم وداخل في زمرتهم. قال الله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. ((خط)): ألحقه صلى الله عليه وسلم بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة. الحديث السابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((إما أن يحذيك)). ((نه)): أي أن يعطيك. يقال: أحذيته أحذيه إحذاء وهي الحذياء والحذية، انتهى كلامه. قيل: فيه إرشاد إلى الرغبة في صحبة الصلحاء والعلماء ومجالستهم؛ فإنها تنفع في الدنيا والآخرة، وإلى الاجتناب عن صحبة الأشرار والفساق؛ فإنه تضر دينا ودنيا. قيل: مصاحبة الأخيار تورث الخير، ومصاحبة الأسرار تورث الشر، كالريح إن هبت على الطيب عقبت طيبا، وإن مرت على النتن

منه، وإما إن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)) متفق عليه. الفصل الثاني 5011 - عن معاذ بن جبل، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في)). رواه مالك. وفي رواية الترمذي، قال: ((يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)). [5011] 5012 - وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله)). ـــــــــــــــــــــــــــــ حملت نتنا. وقيل: إذا جالست الحمقى علق بك من حماقتهم ما لا يعلق بك من العقل إذا جلست العقلاء؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس وأسد اقتحاماً في الطبائع. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((يغبطهم))، ((قض)): كل ما يتحلى به الإنسان ويتعاطاه من علم عمل؛ فإن له عند الله تعالى منزلة لا يشارك فيها صاحبه من لم يتصف بذلك، وإن كان له من نوع آخر ما هو أقدر وأعز ذخراً، فيغبطه بأن يتمنى ويحب أن يكون له مثل ذلك مضموما إلى ماله من المراتب الرفيعة والمنازل الشريفة. وذلك معنى قوله: ويغبطهم النبيون والشهداء؛ فإن الأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من ذلك من دعوة الخلق وإظهار الحق، وإعلاء الدين وإرشاد العامة، وتكميل الخاصة، إلى غير ذلك من كليات، أشغلتهم عن العكوف على مثل هذه الجزئيات والقيام بحقوقها. والشهداء وإن نالوا رتبة الشهادة وفازوا بالفوز الأكبر، فلعلهم لم يعاملوا مع الله معاملة هؤلاء، فإذا رأوهم يوم القيامة في منازلهم وشاهدوا قربهم وكرامتهم عند الله تعالى، ودوا لو كانوا ضامين خصالهم إلى خصالهم، فيكونوا جامعين بين الحسنيين فائزين بالمرتبتين. هذا، والظاهر أنه لم يقصد في ذلك إثبات الغبطة لهم على حال هؤلاء، بل بيان فضلهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانتهم وتقريرها على أكمل وجه وأبلغه، والمعنى أن حالهم عند الله

قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) وقرأ هذه الآية {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. رواه أبو داود. [5012] ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى يوم القيامة بمثابة، لو غبط النبيون والشهداء يومئذ، مع جلالة قدرهم ونباهة أمرهم حال غيرهم، لغبطوهم. أقول: يمكن أن تحمل الغبطة هنا على استحسان الأمر المرضي المحمود فعله؛ لأنه لا يغبط إلا في الأمر المحمود المرضي؛ فإن الأنبياء والشهداء صلوات الله عليهم يحمدون إليهم فعلهم، ويرضون عليهم فيما تحروا من المحبة في الله. ويعضده ما روينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة: أنه غزا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك. قال: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر للوضوء، وحملت معه إداوة، ثم أقبلنا حتى نجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم، ثم قال ((أحسنتم)) أو تفسيراً وبياناً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أحسنتم)) أو قال: ((قد أصبتم)). وأيضاً لا يبعد أن هذه الحالة في المحشر قبل دخول الناس الجنة أو النار لقوله: ((لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) والعريف للاستغراق، فيحصل لهؤلاء الأمن والفراغ في بعض الأوقات ما لا يحصل لغيرهم لاشتغالهم بحال أنفسهم أو حال أمتهم، فيغبطونهم لذلك. ((قض)): ((الروح))، بضم الراء، قيل: أراد به هنا القرآن لقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} سمي بذلك؛ لأنه يحيي به القلب كما يحيى بالروح البدن. والمعنى أنهم كانوا يتحابون بداعية الإسلام، ومتابعة القرآن فيما حثهم عليه موالاة المسلمين ومصادقتهم. أقول: ويمكن أن يراد بالروح المحبة وما يتعاطون به من التواد والتحاب، أي تحابوا بما أوقع الله في قلوبهم من المحبة الخالصة لله تعالى. ومنه قوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} قيل: سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي.

5013 - ورواه في ((شرح السنة)) عن أبي مالك بلفظ ((المصابيح)) مع زوائد وكذا في ((شعب الإيمان)). [5013] 5014 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ((يا أبا ذر! أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((الموالاة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5014] 5015 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5015] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن وجوههم لنور)) أي منورة أو ذوات نور أو هي نفس النور فهم على نور. وقوله: ((وإنهم لعلى نور)) أي على منابر من نور يشهد له الحديث السابق: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)). ((قض)): هو تمثيل لمنزلتهم ومحلهم، مثلها بما هو أعلى ما يجلس عليه في المجالس والمحافل على أعز الأوضاع وأشرفها، من جنس ما هو أبهى وأحسن ما يشاهد؛ ليدل على أن رتبتهم في الغاية القصوى من العلاء والشرف والبهاء. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أي عرى الإيمان أوثق؟)) هي جمع ((عروة)) وهي ما يجعل في الأحمال والرواحل، ويجعل بين كل من العروتين شظاظ فيحمل على البعير. وهو يجوز أن يكون استعارة مصرحة بحقيقة شبه الموالاة والمحبة في الله والبغض في الله بعروة الراحلة في استيثاقها وإحكامها. فحذف المشبه به وأتى بالمشبه مضافاً إلى الإيمان؛ ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وأن تكون مكنية بأن يكون المشبه الإيمان والمشبه به الأعمال، ويتوهم للإيمان على سبيل التخييلية من لوازم المشبه به. وقرينتا الإضافة إليه. ويجوز أن تكون تمثيلية مثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع، كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وطاب ممشاك)) القرائن الثلاث يجوز أن تحمل على الدعاء وعلى الإخبار، وقوله: ((طبت)) دعاء لنفسه. و ((طاب ممشاك)) دعاء له.

5016 - وعن المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)). رواه أبو داود، والترمذي. [5016] 5017 - وعن أنس، قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده ناس. فقال رجل ممن عنده: إني لأحب هذا لله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعلمته؟)). قال لا. قال ((قم إليه فأعلمه؟. فقام إليه فأعلمه فقال: أحبك الذي أحببتني له. قال: ثم رجع. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت، ولك ما احتسبت)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). وفي رواية الترمذي: ((المرء مع من أحب وله ما اكتسب)). [5017] 5018 - وعن أبي سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)). رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [5018] ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن كل خطوة خطاها يحط بها سيئة، ويكتب له بها حسنة، هذا في الدنيا، وفي الآخرة تبوأت من الجنة منزلا. والتنكير في ((منزلا)) للتفخيم أي منزلا أي منزل. الحديث الخامس عن المقدام رضي الله عنه: قوله: ((فليخبره أنه يحبه))، ((خط)) معناه: الحث على التودد والتألف. وذلك أنه إذا أخبر أنه يحبه استمال قلبه بذلك واجتلب به وده وفيه أنه إذا علم أنه محب له واد، قبل نصحه، ولم يرد عليه قوله في عيب إن أخبره به. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أحبك الذي أحببتني له)) دعاء له أخرجه مخرج الماضي تحقيقاً له وحرصاً على وقوعه قوله: ((ولك ما احتسبت)) وفي رواية: ((وله ما اكتسب))، ((تو))، كلا اللفظين قريب من الآخر في المعنى المراد منه. أقول: وذلك لأن معنى ((اكتسب)): كسب كسبا يعتد به، ولا يرد عليه بسبب الرياء والسمعة. وهذا هو معنى الاحتساب؛ لأن الافتعال للاعتمال. ((نه)): الاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد. وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احستبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به. و ((الحسبة)) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا يأكل طعامك إلا تقي))

5019 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال النووي: إسناده صحيح. 5020 - وعن يزيد بن نعامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه، وممن هو؟ فإنه أوصل للمودة)). رواه الترمذي. [5020] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((خط)): هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاجة. وذلك أن الله تعالى قال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا} ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين، وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، انتهى كلامه. فإن قلت: ما معنى القرينتين؟ قلت: المؤمن، يجوز أن يراد به العام، وأن يراد به الخاص الذي يقابله الفاسق، كقوله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً} فيكون المعنى: لا تصاحب إلا صالحاً. وقوله: ((ولا يأكل)) نهي لغير التقي أن يأكل طعامه، فالمراد نهيه عن أن يتعرض لما لا يأكل التقي طعامه من كسب الحرام، وتعاطي ما ينفر عنه التقي. والمعنى لا تصاحب إلا مطيعاً ولا تخالل إلا تقياً. الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خليله))، ((نه)): الخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل. وقد يكون بمعنى مفعول، والخلة- بالضم- الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله، أي في باطنه. قال الشيخ أبو حامد؛ مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخالطته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل والطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري. قوله: ((إسناده صحيح)) ذكره في كتاب رياض الصالحين، وغرض المؤلف من إيراده والإطناب فيه دفع الطعن في هذا الحديث، ودفع توهم من توهم أنه موضع.

الفصل الثالث 5021 - عن أبي ذر، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟)) قال قائل؛ الصلاة والزكاة. وقال قائل؛ الجهاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الحب في الله والبغض في الله)). رواه أحمد، وروى أبو داود الفصل الأخير. [5021] 5022 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب عبد عبداً لله إلا أكرم ربه عز وجل)). [5022] 5023 - وعن أسماء بنت يزيد، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أنبئكم بخياركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله)). رواه ابن ماجه. [5023] 5024 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن عبدين تحابا في الله عز وجل، واحد في المشرق وآخر في المغرب؛ لجمع الله بينهما يوم القيامة. يقول: هذا الذي كنت تحبه في)). [5024] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى)) فإن قلت: كيف يكون الحب في الله أحب إلى الله تعالى من الصلاة والزكاة والجهاد؟ قلت: من أحب في الله يحب أنبياءه وأولياءه، ومن شرط محبته إياهم: أن يقفوا أثرهم ويطيع أمرهم. قال الشاعر: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في المقياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

(17) باب ما ينهى عنه

5025 - وعن أبي رزين، أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على ملاك هذا الأمر الذي تصيب به خير الدنيا والآخرة؟ عليك بمجالس أهل الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك ما استطعت بذكر الله، وأحب في الله وأبغض في الله، يا أبا رزين! هل شعرت أن الرجل إذا خرج من بيته زائراً أخاه، شيعه سبعون ألف ملك، كلهم يصلون عليه ويقولون: ربنا إنه وصل فيك فصله؟ فإن استطعت أن تعمل جسدك في ذلك فافعل)). [5025] 5026 - وعن أبي هريرة، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة لعمداً من ياقوت عليها غرف من زبرجد، لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري)). فقالوا: يا رسول الله! من يسكنها؟ قال: ((المتحابون في الله، والمتجالسون في الله، والمتلاقون في الله)) روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [5026] (17) باب ما ينهى عنه من التهاجر والتقاطع وإتباع العورات الفصل الأول 5027 - عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل للرجل ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك من أبغض في الله أبغض أعداءه وبذلك جهده في المجاهدة معهم بالسنان واللسان. والفصل الأخير هو قوله: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى ...)) الحديث. الحديث الثاني إلى الحديث الخامس عن أبي رزين: قوله: ((هذا الأمر)) المشار إليه ما في الذهن وهو مبهم، فبينه ووصفه بقوله: ((الذي تصيب به خير الدنيا وخير الآخرة)). والملاك ما يتقوم به الشيء. وقوله: ((أن تعمل جسدك)) عبارة عن بذلك الجهد واستفراغ الطاقة فيه. الحديث السادس ظاهر.

أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) متفق عليه. 5028 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)). وفي رواية: ((ولا تنافسوا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ما ينهى عنه من التهاجر والتقاطع وإتباع العورات الفصل الأول الحديث الأول عن أبي أيوب رضي الله عنه: قوله: ((أخاه)) تخصيصه بالذكر إشعار بالعلية. والمراد به أخوة الإسلام، ويفهم منه أنه إن خالف هذه الشريطة وقطع هذه الرابطة جاز هجرانه فوق ثلاثة. ((نه)): يريد به أن الهجر ضد الوصل. يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين؛ فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما خاف على كعب بن مالك وأصحاب النفاق، حين تخلفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوماً. وقد هجر نساءه شهراً وهجرت عائشة ابن الزبير مدة. وهجر جماعة من الصحابة جماعة منهم. وماتوا متهاجرين. ولعل أحد الأمرين منسوخ بالآخر. انتهى كلامه. فإن قلت: ما موقع قوله: ((يلتقيان)) وموقع قوله: ((خيرهما))؟ قلت: الأولى بيانية استئنافية، بيان لكيفية الهجران، والثانية عطف على الأولى من حيث المعنى لما يفهم منها أن ذلك الفعل ليس بخير ويجوز أن يكون الأول حالا من فاعل ((يهجر)) ومفعوله معاً، نحو قول الشاعر: متى ما نلتقي فردين ترجف ورانف أليتيك وتستطارا وعلى هذا الثانية معطوفة على قوله: ((لا يحل)). الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إياكم والظن))، ((قض)): التحذير عن الظن فيما يجب فيه القطع أو التحدث به مع الاستغناء عنه أو عما يظن كذبه. والتجسس بالجيم تعرف الخبر بتلطف، ومنه الجاسوس، وبالحاء تطلب الشيء بحاسة كاستراق السمع وإبصار الشيء خفية. وقيل: الأول التفحص عن عورات الناس وبواطن أمورهم بنفسه أو بغيره. والثاني أن يتولى ذلك بنفسه. وقيل: الأول مخصوص بالشر والثاني يعم الخير والشر. والتناجش أن يزيد هذا على ذاك وذلك على هذا في البيع، والنجش دفع الثمن، وقيل: المراد في الحديث: النهي عن إغراء بعضهم بعضا على الشر والخصومة. والتدابر والتقاطع،

5029 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، يغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)) رواه مسلم. 5030 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعرض أعمال الناس في كل جمعة ـــــــــــــــــــــــــــــ مأخوذ من الدبر؛ فإن كل واحد من المتقاطعين يولي دبره صاحبه. والتحاسد والتنافس واحد في المعنى وإن اختلفا في الأصل. أقول: قوله: ((إخواناً)) يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون بدلا، أو هو الخبر. وقوله: ((عباد الله)) منصوب على الاختصاص بالنداء، وهذا الوجه أوقع، يعني أنكم مستوون في كونكم عباد الله تعالى، وملكتم ملة واحدة، فالتحاسد والتباغض والتقاطع منافية لحالكم. فالواجب عليكم أن تكونوا إخواناً متواصلين متآلفين، كقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ونظيره قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، وتقطعوا أمرهم بينهم}. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يشرك بالله)) صفة ((عبد)) وقوله: محمول على المعنى أي لا يبقى ذنب أحد إلا ذنب رجل. ونحوه قول الفرزدق: ـــــــــــــــــــــــــــــ لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقوله تعالى: {فشربوا منه إلا قيلا منهم} أي فلم يطيعوه إلا قليل. ((مح)): قال القاضي عياض: معنى فتح باب من أبواب الجنة كثرة الصفح والغفران ورفع المنازل وإعطاء الثواب الجزيل. ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن فتح أبوابها علامة لذلك. و ((الشحناء)) العداوة كأنه يشحن قلبه بغضا له، أي يملأ. وقوله: ((أنظروا هذين)) بقطع الهمزة أي أخروها وأمهلوهما، انتهى كلامه. وأتى باسم الإشارة بدل الضمير لمزيد التعيين والتمييز. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في كل جمعة مرتين)). ((قض)): أراد بالجمعة الأسبوع، عبر عن الشيء بآخره وما يتم به ويوجد عنده. والمعروض

مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا)). رواه مسلم. 5031 - وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً)). متفق عليه. وزاد مسلم قالت: ولم أسمعه- تعني النبي صلى الله عليه وسلم- يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. 5032 - وذكر حديث جابر: ((إن الشيطان قد أيس)) في ((باب الوسوسة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه هو الله تعالى أو ملك وكله الله تعالى على جمع صحف الأعمال وضبطها. قوله: ((إلا عبداً))، ((تو)): وجدناه في كتاب المصابيح ((إلا عبداً)) بالرفع. وهو في كتاب مسلم بالنسب وهو الأوجه؛ فإنه استثناء من كلام موجب، وبه وردت الرواية الصحيحة. الحديث الخامس عن أم كلثوم رضي الله عنها: قوله: ((كذب)) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مقول للقول. و ((مما يقول)) بيان لقوله: ((في شيء)) أي في شيء من أقوال الناس هو كذب. وإن روى منصوباً كان مفعولاً مطلقاً، أي يقول قولا كاذباً. وإن روي مجررواً كان صفة أخرى لشيء. والرواية في جامع الأصول وفي أكثر نسخ المصابيح هي الأولى. قوله: ((وينمي خيراً))، ((قض)): أي يبلغ خير ما سمعه ويدع شره. يقال: نميت الحديث مخففاً في الإصلاح، ونميته مثقلاً في الإفساد. وكان الأول من النماء لأنه رفع لما يبلغه، والثاني من النميمة، وإنما نفي عن المصلح كونه كذابا باعتبار قصده دون قوله؛ ولذلك نفي النعت دون الفعل. ((خط)): هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق طلباً للسلامة ودفعاً للضرر. وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يؤمل فيه من الصلاح. فالكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن ينمي من أحدهما إلى صاحبه خيراً ويبلغه جميلاً وإن لم يكن سمعه منه، يريد بذلك الإصلاح. والكذب في الحرب أن يظهر من نفسه قوة، ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الحرب خدعة)) وأما كذب الرجل على زوجته هو أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها ويستصلح به خلقها. قال سفيان بن عيينة: لو أن رجلا اعتذر إلى رجل يحرف الكلام ويحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذباً. وقوله: ((حديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)) في معنى حديث أحد الزوجين الآخر؛ ليستقيم مع قوله: ((إلا في ثلاث)).

الفصل الثاني 5033 - عن أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس)) رواه أحمد، والترمذي. [5033] 5034 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة؛ فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرات كل ذلك لا يرد عليه فقد باء بإثمه)) رواه أبو داود. [5034] 5035 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)) رواه أحمد، وأبو داود. [5035] 5036 - وعن أبي خراش السلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من هجر ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((سلم عليه)) حال من فاعل ((لقيه)) أو بدل منه. ويؤيد الأول قوله في حديث أبي خراش: ((فليلقه فليسلم عليه)). وقوله: ((كل ذلك))، الجملة وقعت صفة لقوله: ((ثلاث مرات)) وقوله: ((فقد باء بإثمه)) جواب ((إذا)) أي إذا سلم عليه ثلاث مرات غير مردود فيها جوابه، فقد باء أي رجع بإثمه، والضمير في ((بإثمه)) يحتمل أن يكون للبائي. فيكون المعنى أن المسلم خرج من الهجرة ونقي من الوزر، بقي الإثم على الذي لم يرد السلام. ويحتمل أن يكون لـ ((المسلم)). والمعنى أنه ضم إثم هجران المسلم إلى إثم هجرانه وباء بهما؛ لأن الهاجر يعد منه وبسببه. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فمات دخل النار)) ((تو)): أي استوجب دخول النار. والواقع في الإثم كالواقع في العقوبة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. الحديث الرابع عن أبي خراش: قوله: ((كسفك دمه)) ((مظ)): أي مهاجرة الأخ المسلم سنة

أخاه سنة فهو كسفك دمه)) رواه أبو داود. [5036] 5037 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة)) رواه أبو داود. [5037] 5038 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أل أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؟)). قال: قلنا: بلى قال: ((إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث صحيح. [5038] ـــــــــــــــــــــــــــــ توجب العقوبة كما أن سفك دمه يوجبها. فهي شبيهة بالسفك من حيث حصول العقوبة بسببها لا أنها مثله في العقوبة؛ لأن القتل عقوبة عظيمة لا يكون بعد الشرك أعظم منه. فشبه الهجران به تأكيداً في المنع وفي المشابهة يكفي المساواة في بعض الصفات. أقول: التشبيه إنما يصار إليه للمبالغة، كما يقال: زيد كالأسد؛ إلحاقاً له بالأسد في الجرأة؛ وأنه نظيره فيها ولم يقصد به أنه دونه، كذلك ههنا؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث)) دل على أن التهاجر فوق الثلاث حرام، وراكبه راكب الإثم، فإذا امتد إلى مدة يهجر فيها الغائب والمسافر عن أهله غالبا، بلغ التهاجر والتقاطع إلى الغاية، فيبلغ إثمه أيضاً إلى الغاية، وهذا معنى تخصيص ذكر السنة. والله أعلم. الحديث الخامس والسادس عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((من درجة الصيام)) ((شف): المراد بهذه المذكورات النوافل منها دون الفرائض. قوله: ((ذات البين)) أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله تعالى: {بذات الصدور} وهي مضمراتها، لما كانت الأحوال ملابسة للبين، قيل لها ذات البين كقولهم: اسقني ذا إناءك، يريدون ما في الإناء من الشراب. كذا في الكشاف في قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}. قوله: ((هي الحالقة)) ((نه)): هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق أو تهلك وتستأصل الدين

5039 - وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)) رواه أحمد، والترمذي. [5039] 5040 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) رواه أبو داود. [5040] ـــــــــــــــــــــــــــــ كما يستأصل الموسى الشعر. وقيل: هي قطيعة الرحم والتظالم. أقول: فيه حث وترغيب على إصلاح ذات البين واجتناب عن الفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفريق بين المسلمين. وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة عند الله سبحانه وتعالى فوق ما ينالها الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه. فعلى هذا ينبغي أن تحمل الصلاة والصيام على الإطلاق والحالقة على ما يحتاج أمر الدين. الحديث السابع عن الزبير رضي الله عنه: قوله: ((دب إليكم)) ((نه)): نقل الداء من الأجسام إلى المعاني، ومن أمر الدنيا إلى أمر الآخرة. أقول: وكذا الدب يستعمل في الأجسام، فاستعير للسراية على سبيل التبعية، وكذا قوله: ((الحالقة)) فإنها تستعمل في حلق الشعر، فاستعمل فيما يستأصل الدين. وهي ليست باستعارة لذاكر المشبه والمشبه به، أي البغضاء تذهب بالدين كالموسي يذهب بالشعر. وضمير المؤنث راجع إلى ((البغضاء)) كما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} وقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة}؛ لأن البغضاء أكثر تأثيراً في ثلمة الدين، وإن كانت نتيجة الحسد. وقوله: ((لا أقول: تحلق الشعر)) تأكيد لإرادة غير المتعارف من قوله: ((الحالقة)) كما سبق أنها محمولة على ضمير ((البغضاء)) نحو قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يأكل الحسنات)). ((قض)): تمسك به من يرى إحباط الطاعات بالمعاصي كالمعتزلة، وأجيب عنه: بأن المعنى أن الحسد يذهب حسناته ويتلفها عليه، بأن يحمله على أن يفعل بالمحسود، من إتلاف مال وهتك عرض، وقصد

5041 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة)) رواه الترمذي. [5041] 5042 - وعن أبي صرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ضار ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) رواه ابن ماجه، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5042] ـــــــــــــــــــــــــــــ نفس ما يقتضي صرف تلك الحسنات بأسرها في عوضه، كما روي في صحاج باب الظلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وقيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار)) لإحباط الطاعات بالمعاصي، وإلا لم يكن يبقى لهذا الآتي المتعاطي لتلك الكبائر حسنة يقضي بها حق خصمه، انتهى كلامه. وهذا أحد الوجهين مما ذكره الشيخ التوربشتي. والوجه الآخر أن يقال: إن التضعيف في الحسنات يوجد على حسب استعداد العبد وصلاحه في دينه. فمهما. كان مرتكباً للخطايا نقص من ثوابه عمله فيما يتعلق بالتضعيف ما يوازي انحطاطه في المرتبة بما اجترحه من الخطايا، من مثل أن يقدر أن ذا رهق وعمل حسنة، فأثيبت عليها عشرا، ولو لم يكن رهقة لأثيب أضعاف ذلك، فهذا الذي نقص من التضعيف بسبب ما ارتكبه من الذنب، هو المراد من الإحباط. أقول: ويمكن أن يقال: إن الأكل هنا استعارة لعدم القبول، وأن تلك الحسنات الصادرة عنه مردودة عليه. وليست بثابتة في ديوان أعماله الصالحة حتى تحبط، كمن صلى في دار مغصوبة. وبهذا يحسن وجه التشبيه بالنار؛ فإن النار عند اشتعالها والتهابها لا تترك من الوقود شيئاً إلا أفنته. فشبهت الأعمال الصادرة عنه عند ارتكابه الحسد بالحطب الجزل، الذي يشتغل فيه النار في الإفناء والإعدام، مبالغة وزجرا للحاسد، فالأكل في النار أيضا استعارة أو مشاكلة لوقوعه في صحبة قوله: ((يأكل الحسنات)) ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ونظائره كثيرة، فإذا لم يثبت في ديوانه، كيف يحبط. ((ذات البين)) أحوال بينكم وهي مضمراتها. الحديث التاسع والعاشر عن أبي صرمة: قوله: ((من ضار)) في جامع الأصول: المضارة، المضرة والمشاقة، والنزاع، فمن أضر بغيره تعديا أو شاقه ظلما بغير حق، فإن الله يجازيه على فعله

5043 - وعن أبي الصديق [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معلون من ضار مؤمناً أو مكر به)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5043] 5044 - وعن ابن عمر، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع قال: ((يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) رواه الترمذي. [5044] ـــــــــــــــــــــــــــــ بمثله. وفي النهاية: قوله: ((ومن شاق)) يجوز أن يكون من ((الشق)) بالكسر، وهي المشقة. يقال: هم بشق من العيش، إذا كانوا في جهد، وأصله من الشق نصف الشيء، كأنه قد ذهب نصف أنفسهم، ومن الشق- بالفتح- الفصل الشيء. أقول: فإذن معنى المشاقة بين المتنازعين أن أحدهما أخذ بشق والآخر بشق آخر، قال الله تعالى: {ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}. ويجوز أن يحمل على المشقة أيضاً، بأن كلف صاحبه فوق طاقته؛ فيقع في التعب والمشقة. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((من أسلم بلسانه)) هو من قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} وقوله: ((ولم يفض الإيمان إلى قلبه)) من قوله تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. وقوله: ((لا تؤذوا المسلمين)) صريح في أن الإسلام عبارة عن مجموع التصديق والأعمال الصالحة، كأنه قيل: يا من أفرد الإسلام ولم يضم إليه التصديق! لا تؤذ من جمع بينهما. والمعنى لا تؤذوهم فيما ظهر من المسلمين مما ترونه عيبا عليهم بالقول والفعل، فلا تغتابوهم ولا تشتموهم ولا تضربوهم، ولا تعيروهم على ما تابوا عنه وندموا عليه. ((ولا تتبعوا عوراتهم)) فيما يظن أي لا تجسسوا ما ستروا عنكم من الأفعال والأقوال وما ستر الله عليهم. والمراد بقوله: ((يتبع الله عورته)) كشف ستره، ذكره على سبيل المشاكلة.

5045 - وعن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير الحق)) رواه أبو داود، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5045] ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ أبو حامد: التجسس والتتبع ثمرة سوء الظن بالمسلم، والقلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق، فهو يؤدي إلى هتك الستر. وحد الاستتار أن يغلق باب داره ويستتر بحيطانه. فلا يجوز استراق السمع على داره؛ ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والسكارى بالكلمات المألوفة بينهم. وكذلك إذا ستروا أواني الخمر وظروفها وآلات الملاهي في الكم وتحت الذيل، فإذا رأي ذلك لم يجز أن يكشف عنه. وكذلك لا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه في داره. وأنشد في معناه: لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداُ منهم بما فيكا وفي قوله: ((ولم يفض الإيمان إلى قلبه)) إشارة إلى أنه ما لم يصل الإيمان إلى القلب لم يحصل له المعرفة بالله ولم يؤد حقوقه، فإذاً علاج جميع أمراض القلب المعرفة بالله تعالى؛ ليؤدي إلى أداء حقوق الله تعالى وحقوق المسلمين، فلا يؤذي ولا يضر ولا يعير ولا يجسس أحوالهم. انتهى كلامه. فإن قلت: ما النكتة في ذكر ((أخيه)) في قوله: ((عورة أخيه المسلم))؟ فإن الكلام مع المنافقين، وهم ليسوا بإخوة المسلمين. قلت: ومن تتبع ... إلى أخره، كالتتميم للكلام السابق والمبالغة فيه، كأنه قيل: ومن يتبع من المسلمين عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ولو في جوف رحله. فكيف بالمنافق؟! الحديث الثالث عشر عن سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من أربى الربا)) هو من باب قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} أدخل العرض في جنس المال على سبيل المبالغة، وجعل الربا نوعين: متعارفين: وهو ما يؤخذ من الزيادة على ماله من المديون. وغير متعارف: هو استطالة الرجل باللسان في عرض صاحبه، ثم فضل أحد النوعين على الآخر. ولما بين العرض والمال من المناسبة قال الحماسي: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال

5046 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما عرج بي ربي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)). رواه أبو داود. [5046] 5047 - وعن المستورد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسا ثوبا برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): الاستطالة في عرض المسلم، أن يتناول منه أكثر مما يستحقه على ما قيل له، أو أكثر مما رخص له فيه؛ ولذلك مثله بالربا، وعده من عداده، ثم فضله على سائر أفراده؛ لأنه أكثر مضرة وأشد فساداً؛ فإن العرض شرعا وعقلا أعز على النفس من المال وأعظم منه خطراً؛ ولذلك أوجب الشارع بالمجاهرة بهتك الأعراض ما لم يوجب بنهب الأموال. ((تو)): في قوله: ((بغير حق)) تنبيه على أن العرض ربما يجوز استباحته في بعض الأحوال. وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عرضه)) فيجوز لصاحب الحق أن يقول فيه: إنه ظالم ومتعد ونحو ذلك، ومثله الكلام في جرح الشاهد على الخائن ونحو ذلك. الحديث الرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يخمشون)) أي يخدشون، ولما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات، جعلهما جزاء من يغتاب ويفري من أغراض المسلمين؛ إشعاراً بأنهما ليسا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حالة وأشوه صورة. الحديث الخامس عشر عن المستورد: قوله: ((برجل مسلم أكلة)) ((نه)): معناه: الرجل يكون صديقاً لرجل ثم يذهب إلى عدوه، فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه عليه بجائزة، فلا يبارك الله له فيها! والأكلة- بالضم- اللقمة، و- بالفتح- المرة. انتهى كلامه. وعلى هذا الباء في ((برجل)) للسببيه. والجائزة عامة في المطعوم والملبوس كما عليه أكثر كلام الشارحين. قوله: ((ومن قام برجل)) ((تو)): أي قام بنسبة إلى ذلك، ويشهره به فيما بين الناس، فضحه الله وشهره بذلك على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وعذبه عذاب المرائين. ((مظ)): الباء في ((برجل)) يحتمل أن تكون للتعدية وللسببية، فإن كانت للتعدية يكون معناه: من أقام رجلا مقام سمعة ورياء، يعني من أظهر رجلا بالصلاح والتقوى ليعتقد الناس فيه اعتقادا حسناً، ويعزونه ويخدمونه ويجعله حبالا ومصيدة كما ترى في زماننا؛ لينال بسببه المال

جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء؛ فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة)) رواه أبو داود. [5047] 5048 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسن الظن من حسن العبادة)) رواه أحمد، وأبو داود. [5048] 5049 - وعن عائشة، قالت: اعتل بعير لصفية وعند زينب فضل ظهر، فقال ـــــــــــــــــــــــــــــ والجاه، فإن الله تعالى يقوم له مقام سمعة ورياء، بأن يأمر ملائكته أن يفعلوا معه مثل فعله ويظهروا أنه كذاب. وإن كانت للسببية فمعناه: أن من قام وأظهر من نفسه الصلاح والتقوى لأجل أن يعتقد فيه رجل عظيم القدر كثير المال؛ ليحصل له مال وجاه، كما يقول الناس في العرف: هذا زاهد الأمير. أقول: وأولى الوجوه الثاني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وصف الرجل بالإسلام في القرينتين السابقتين. وأطلقه في هذه القرينة ذما له. ومعنى الكناية عن التهديد في قوله: ((فإن الله يقوم له)) كما في قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} الكشاف: ((سنفرغ)) مستعار من قول الرجل لمن يهدده: سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، حتى لا يكون لي شغل سواه. والمراد: التوقر على الكناية فيه والانتقام منه. ((شف)): معنى السببية لا يستقيم في قوله: ((ومن كسا ثوبا برجل مسلم)) فالباء فيه صلة، ولعله أراد أن ((كسا)) يتعدى إلى مفعولين وليس هنا إلا مفعول واحد، فيجب أن يكون ((برجل)) ثاني مفعوليه، وفيه نظر: لما يؤدي إلى فساد المعنى على ما لا يخفي، فالواجب أن يقدر: من كسا نفسه ثوبا بسبب رجل. الحديث السادس عشر والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حسن الظن))، ((مظ)): يعني اعتقاد الخير والصلاح في حق المسلمين عبادة. انتهى كلامه. فعلى هذا ((من)) للتعبض، أي من جملة عبادة الله تعالى والإخلاص فيها حسن المعاشرة مع عباده. ويجوز أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: ((أعطيها بعيراً)). فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟! فغضب رسول الهل صلى الله عليه وسلم، فهجرها ذا الجحة والمحرم وبعض صفر. رواه أبو داود. [5049] وذكر حديث معاذ بن أنس: ((من حمى مؤمناً)) في ((باب الشفقة والرحمة)). الفصل الثالث 5050 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأي عيسى بن مريم رجلاً يسرق، فقال له عيسى: سرقت؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت نفسي)) رواه مسلم. 5051 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر)) [5051] 5052 - وعن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اعتذر إلى أخيه فلم يعذره، ـــــــــــــــــــــــــــــ تكون للابتداء، أي حسن الظن بعباد الله تعالى ناشئ عن حسن عبادة الله تعالى. وينصره قوله: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) الحديث. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((آمنت بالله)) أي صدقتك في حلفك بقولك: ((والذي لا إله إلا الله)) وببرائتك، ورجعت عما ظننت بك وكذبت نفسي؛ قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم}. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أن يكون كفراً)) أي الفقر يحمل الإنسان على ركوب كل ركوب كل صعب وذلول، فيما لا ينبغي طالبا إزالته عنه بالقتل والنهب والسرقة وغير ذلك. وربما يؤديه إلى الاعتراض على الله تعالى والتصرف في ملكه، كما فعل ابن الراوندي في قوله: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

(18) باب الحذر والتأني في الأمور

أو لم يقبل عذره؛ كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس)) رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان))، وقال: المكاس: العشار. [2502] (18) باب الحذر والتأني في الأمور الفصل الأول 5053 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا قوله: ((وكاد الحسد أن يغلب القدر)) سبق معناه. باب الحذر والتأني في الأمور الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يلدغ المؤمن)) هذا يروى على وجهين: أحدهما: على الخبر. وهو أن المؤمن الممدوح هو المتيقظ الحازم الذي لا يؤتي من ناحية الغفلة، فيخدع مرة بعد مرة أخرى ولا يفطن هو به. وقد قيل: إنه الخداع في أمره الآخرة دون أمر الدنيا. وثانيها: على النهي أي لا يخدعن المؤمن، ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه، وهذا يصلح أن يكون في أمر الدنيا والأخرة. ((تو)): وأرى أن الحديث لم يبلغ الخطابي على ما كان عليه، وهو مشهور عند أهل السير. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بعض أهل مكة، وهو أبو عزة الشاعر الجمحي، وشرط عليه أن لا يجلب عليه، فلما بلغ مأمنه عاد إلى ما كان عليه، فأسر تارة أخرى فأمر بضرب عنقه، وكلمه بعض الناس في المن عليه فقال: ((لا يدع المؤمن ...)) الحديث. أقول: وروى الشيخ محيي الدين عن القاضي عياض هذه القصة. وقال: سبب هذا الحديث معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا عزة الشاعر يوم بدر، فمن عليه وعاهده أن لا يحرض عليه ولا يهجوه، فأطقه فلحق بقومه ثم رجع إلى التحريض والهجاء، ثم أسر يوم أحد فسأله المن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن ... .)) الحديث. وهذا السبب يضعف الوجه الثاني. أقول: إذا ذهب إلى النهي خيل أنه صلوات الله عليه لما رأي من نفسه الزكية الميل إلى

5054 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحلم والعفو عنه، جرد منها مؤمنا كاملاً حازماً ذا شهامة، ونهاه عن ذلك تأنيباً، يعني ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله ويذب عن دين الله أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى، فانته عن حديث الحلم، وأمضى لسانك في الانتقام منه والانتصار من عدو الله؛ فإن مقام التجربة والغضب لله يأبى الحلم والعفو. وإلى هذا المقام ينظر قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحليم ذو عثرة، والحكيم ذو تجربة)) وأنشد النابغة في هذا المعنى: ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في أمر إذا لم يكن له حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا ومن أوصافه صلوات الله عليه وما روت أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق: ((ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)) فظهر من هذا أن الحلم مطلقا غير محمود كما أن الجود كذلك. قال أبو الطيب: فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى وفهم منه أن هناك مقاماً، التحلم والتساهل فيه محمود بل مندوب إليه. وذلك مع المؤمنين من استعمال العفو والحلم وخفض الجناح؛ قال الله تعالى: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} فيجتمع لهم لين الجانب مع الأولياء والغلظة مع الأعداء، قال الله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}. قال: حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب وإذا ذهب إلى مجرد الإخبار لم يكن هذا التأنيب والتعيير، فلم يفهم منه أن التحلم والتساهل في بعض المواضع مندوب إليه، وأن الانتقام والانتصار من أعداء الدين مأمور به، فظهر من هذا أن القول بالنهي أولى والمقام له أدعى وسلوك ما ذهب إليه الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله أوضح، وأهدى وأحق أن يتبع وأحرى. والله أعلم. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((والأناة)) الجوهري: أنى يأني في الأمر أي ترفق، والاسم الأناة مثل قناة، ورجل آن، على فاعل أي كثير الأناة والحلم. ((حس)): روى المنذر الأشج: قال: يا رسول الله! أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: ((بل الله جبلك عليهما)) قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله ورسوله.

الفصل الثاني 5055 - عن سهل بن سعد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس الراوي من قبل حفظه. [5055] 5056 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [5056] 5057 - وعن أنس، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. فقال: ((خذ الأمر بالتدبير، فإن رأيت في عاقبته خيراً فأمضه، وإن خفت غياً فأمسك)) رواه في ((شرح السنة)). [5057] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي سعيد: قوله: ((لا حليم إلا ذو عثرة)) ((نه)): أي لا يحصل له الحلم ويوصف به حتى يركب الأمور وينحرف عليها ويعثر فيها، فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ فيجتنبها. ويدل عليه قوله: ((ولا حكيم إلا ذو تجربة)). ((مظ)): أي لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ، فحينئذ يخجل فيجب لذلك أن يستر من رآه على عيبه فيعفو عنه، فإذا أحب ذلك علم أن العفو عن الناس والستر على عيوبهم محبوب للناس ومرضي لله تعالى. وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضرها والمصالح والمفاسد، فإذا علم مصالح الأمور ومفاسدها لا يفعل ما يفعل إلا عن الحكمة. أقول: ويمكن أن تخصيص الحكيم بذي تجربة يدل على خلافه في الحليم؛ فإن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي فيها له الحلم، بخلاف الحكيم المجرب على ما مر بيانه في أول الفصل الأول. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وإن خفت غيا)) الخوف هنا بمعنى الظن كما في قوله تعالى: {إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله} ويجوز أن يكون بمعنى العلم

5058 - وعن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال الأعمش: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) رواه أبو داود. [5058] 5059 - وعن عبد الله بن سرجس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزءاً من النبوة)) رواه الترمذي. [5059] 5060 - وعن ابن عباس، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءاً من النبوة)) رواه أبو داود. [5060] ـــــــــــــــــــــــــــــ واليقين؛ لأن من خاف شيئاً احترز عنه وتحرى حقيقته. وهذا أنسب بالقمام؛ لأنه وقع في مقابلة ((رأيت)) وهو بمعنى العلم وهما نتيجتا التفكير والتدبر. وفي معناه أنشد أبو الطيب: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني الحديث الرابع عن مصعب رضي الله عنه: قوله: ((التؤدة))، ((قض)): التؤدة التأني والسكون فعلة من الوئيد وهو المشي بثقل. والمعنى أن التأني في كل شيء مستحسن إلا في أمر الآخرة. انتهى كلامه. وذلك أن الأمور الدنيوية لا يعلم عواقبها في ابتداءها، وأنها محمودة العواقب حتى يتعجل فيها، أو مذمومة فيتأخر عنها، بخلاف الأمور الأخروية لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} و {سارعوا إلى مغفرة من ربكم}. قال الشيخ أبو حامد في قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ينبغي للمؤمن أنه إذا تحركت داعية البذل أن لا يتوقف، لأن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه. كان أبو الحسن الفرشخي في الخلاء، فدعا تلميذاً له فقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلا صبرت حتى تخرج؛ قال: خطر لي بذله ولم آمن على نفسي أن تتغير. الحديث الخامس والسادس عن عبد الله: قوله: ((والسمت الصالح)) ((فا)): السمت أخذ المنهج ولزوم الحجة ((تو)): الاقتصاد على ضربين: أحدهما: ما كان متوسطاً بين محمود ومذموم كالمتوسط بين الجور والعدل والبخل والجود، وهذا الضرب أريد بقوله سبحانه: {ومنهم مقتصد}. والثاني محمود على الإطلاق، وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط

5061 - وعن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت؛ فهي أمانة)) رواه الترمذي، وأبو داود. [5061] 5062 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي الهيثم بن التيهان: ((هل لك خادم؟)) فقال: لا. قال: ((فإذا أتانا سبي فأتنا)) فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اختر منهما)). فقال: يا نبي الله! اختر لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ كالجود، فإنه بين الإسراف والبخل، والشجاعة فإنها بين التهور والجبن. وهذا الذي في الحديث، هو الاقتصاد المحمود على الإطلاق. قوله: ((من أربع وعشرين جزءا)) ((قض)): كان الصواب أن يقول: ((أربعة)) على التذكير فلعله أنث على تأويل الخصلة أو القطعة؛ أو لإجراء الجزء مجرى الكل في التذكير والتأنيث. ((خط)): الهدى والسمت حالة الرجل ومذهبه. والاقتصاد: سلوك القصد في الأمور والدخول فهيا برفق؛ وعلى سبيل تمكن الدوام عليها. يريد أن هذه الخصال من شمائل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم. وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها. وليس معناه أن النبوة تتجزئ، ولا أن من جمع هذه الخصال كان نبياً؛ فإن النبوة غير مكتسبة، وإنما هي كرامة يخص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ويحتمل أن يكون معناه أن هذه الخلال جز من خمس وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوة، ودعا إليها الأنبياء. وقيل: معناه أن من جمع هذه الخصال لقيه الناس بالتوقير والتعظيم، وألبسه الله لباس التقوى الذي ألبسه أنبياءه عليهم السلام، فكأنها جزء من النبوة. ((تو)): والطريق إلى معرفة حقيقة ذلك العدد ووجهه بالاختصاص من قبل الرأي والاستنباط مسدود؛ فإنه من علوم النبوة، وقد سبق القول في هذا المعنى في كتاب الرؤيا. الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ثم التفت)) ((مظ)): يعني إذا حدث أحد عندك حديثاً ثم غاب صار حديثه أمانة عندك ولا يجوز إضاعتها. أقول: الظاهر أن ((التفت)) هنا عبارة عن التفات خاطره إلى ما تكلم فالتفت يميناً وشمالاً احتياطاً. ((فثم)) هنا للتراخي في الرتبة يدل على هذا ترتب الفاء وأن الثاني مسبب عن الأول. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المستشار مؤتمن)) معناه أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته قوله: ((واستوص به))

((إن المستشار مؤتمن. خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً)) رواه الترمذي. [5062] 5063 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)) رواه أبو داود [5063] وذكر حديث أبي سعيد: ((إن أعظم الأمانة)) في ((باب المباشرة)) في ((الفصل الأول)). [5063] الفصل الثالث 5064 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله العقل قال له: قم، فقام، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: اقعد، فقعد، ـــــــــــــــــــــــــــــ أي اقبل وصيتي في حقه وأحسن ملكيته بالمعروف، وفي حديث الظهار: ((استوصى ابن عمك خيراً)) أي اقبلي وصيتي فيه، وانتصاب ((خيراً)) على المصدرية أي استيصاء خير. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إلا ثلاثة مجالس)) ((مظ)): كما إذا سمع من قال في مجلس: أريد قتل فلان أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان فإنه لا يجوز ستر ذلك حتى يكونوا على حذر منه. قوله: ((في الفصل الأول)) تنبيه على أن هذا الحديث جاء مكرراً في المصابيح، وعلى أن إيراده في الصحاح أولى منه في الحسان. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: قال له: ((قم)) ... . إلخ كناية عن أن العقل هو محل التكليف، وإليه تنتهي الأوامر والنواهي، وبه يتم غرض خلق المكلفين من العبادة التي ما خلقت السموات والأرض إلا لأجلها؛ ولذلك قال: ((ما خلقت خلقا هو خير منك ...)) الخ. قال بعض العارفين: العقل خواض تيار الجود في لجج بحار الوجود لأجل جواهر السجود. ووجه ذكر هذا الحديث في باب الحذر والتأني في الأمور لأنهما من نتائج العقل؛ ولأجل ذلك سمي العقل عقلا.

ثم قال: ما خلقت خلقا هو خير منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف، وبك أعاتب، وبك الثواب، وعليك العقاب)) وقد تكلم فيه بعض العلماء. [5064] 5065 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكون من أهل الصلاة والصوم والزكاة والحج والعمرة)) حتى ذكر سهام الخير كلها: ((وما يجزي يوم القيامة إلا بقدر عقله)). [5065] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((غب)): أصل العقل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال، وعقل الدواء البطن، عقل المرأة شعرها، ومنه قيل للحصن معقل، والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم. ويقال للعمل الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة: عقل؛ ولهذا قيل: العقل عقلان مطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع كما لا ينفع الشمس وضوء العين ممنوع. وإلى الأول أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل)). وإلى الثاني أشار بقوله: ((ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى)) وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون}. قوله: ((وقد تكلم فيه العلماء)) قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: الحديث الذي ذكروه كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني وابن الجوزي وغيرهم. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلا بقدر عقله)) إشارة إلى أن العقل المسموع لا ينفع كل النفع إلا بالعقل المطبوع؛ لأنه هو المميز الذي يضع كل شيء في موضعه، وبه تتفاوت صلاة عن صلاة وصدقة عن صدقة وصوم عن صوم؛ لأنه ربما يركع ركعة في مقام تفضل ألف ركعة في غيره، وكذلك الصدقة وغير ذلك من أعمال البر، وربما يعمل ويظن به خيرا، فيرجع وبالاً عليه.

5066 - وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر؛ لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)). [5066] 5067 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم)) روى البيهقي الأحاديث الأربعة في ((شعب الإيمان)). [5067] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((لا عقل كالتدبير)) أراد بالتدبير العقل المطبوع. كما سبق أن العقل المسموع لا يعتد به ولا يحتسب لصاحبه إلا بالعقل المطبوع. قوله: ((ولا ورع)) ((نه)): الورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منه، يقال: ورع الرجل يرع- بالكسر فيهما- ورعا ورعة فهو ورع، وتورع من كذا. ثم استعير للكف عن المباح والحلال. فإن قلت: فعلى هذا: الورع هو الكف، فكيف قيل: ((ولا ورع كالكف))؟. قلت: الكف إذا أطلق، فهم منه الكف عن الأذى أو كف اللسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كف عليك هذا)) وأخذ بلسانه كأنه قيل: ولا ورع كالصمت أو كالكف عن أذى المسلمين. ((ولا حسب كحسن الخلق)). أي لا مكارم مكتسبة كحسن الخلق مع الخلق، فالأول عام والثاني خاص. الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((نصف المعيشة)) وذلك أن كلا طرفي التبذير والتقتير ينغص كل العيش والتوسط فيه هو العيش، والعيش نوعان: عيش الدنيا، وعيش الآخرة، كما أن العقل صنفان: مطبوع ومسموع، والمسموع نوعان: معاملة مع الله ومعاملة مع الخلق. وقوله: ((وحسن السؤال نصف العلم)) فإن السائل الفطن يسأل عما يهمه وما هو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسئول ومسئول. فإذا ظهر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله: ((لا أدري نصفا العلم)). والله أعلم.

(19) باب الرفق والحياء وحسن الخلق

(19) باب الرفق والحياء وحسن الخلق الفصل الأول 5068 - عن عائشة [رضي الله عنها] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)). رواه مسلم. وفي رواية له: قال لعائشة: ((عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)). ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الرفق والحياء وحسن الخلق الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن الله رفيق)) ((قض)): الرفق ضد العنف وهو اللطف وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها. ومعنى ((إن الله تعالى رفيق)) أنه لطيف بعباده يردي بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، والظاهر أنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى اسما؛ لأنه لم يتواتر ولم يستعمل هاهنا أيضاً على قصد الاسمية. وإنما أخبر به عنه تمهيداً للحكم الذي بعده، وكأنه قال: إن الله يرفق بعباده في أمورهم فيعطيهم بالرفق ما لا يعطيهم على ما سواه. وإنما ذكر قوله: ((وما لا يعطي على ما سواه)) بعد قوله: ((ما لا يعطي على العنف)) ليدل على أن الرفق أنجح الأسباب كلها وأنفعها بأسرها، انتهى كلامه وفي معناه قول الشاعر: يا طالب الرزق الهني بقوة هيهات أنت بباطل مشغوف أكل العقاب بقوة جيف الفلا ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف المعنى: لا ينبغي للمرء أن يحرص في رزقه، بل يكله إلى الله تعالى الذي تولى القسمة في خلقه؛ فالنسر يأكل الجيفة بعنفه، والنحل يرعى الشهد برفقه. ((تو)): فإن قيل: فما معنى قوله: ((أنت الرفيق والله الطبيب))؟ قلت: الطبيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يرد بهذا القول نفي هذا الاسم عمن يتعاطى ذلك، وإنما حول المعنى من الطبيعة إلى الشريعة، وبين لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله، والمنان به على عباده، وهذا كقوله: ((فإن الله هو الدهر)) وليس الطبيب بموجود في أسماء الله سبحانه ولا رفيق فلا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب! ولا يا رفيق!. ((مح)): قال المازري: لا يوصف الله سبحانه إلا بما سمى نفسه أو سماه به رسوله

5069 - وعن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) رواه مسلم. 5070 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) متفق عليه. 5071 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)). وفي رواية: ((الحياء خير كله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة عليه. وأما ما لم يرد إذن في إطلاقه ولا ورد منع فيه، ففيه خلاف: منه من قال يبقى على ما كان قبل ورود الشرع فلا يوصف به ولا يمنع منه، ومنهم من منعه. وبين الأصوليين خلاف في تسمية الله تعالى بما يثبت بخبر الآحاد، فقال بعضهم: يجوز؛ لأن خبر الواحد عنه يقتضي العمل به. وبعضهم لا يجوز ذلك؛ لأنه من باب العلميات، فلا يثبت بالأقيسة، وإن كانت يعمل بها في المسائل الفقهية العملية. قال الشيخ محيي الدين: والصحيح جواز تسمية الله تعالى رفيقاً وغيره مما يثبت بخبر الواحد. وفيه فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف، وأن الرفق سبب كل خير. أقول: قوله: ((يكون)) يحتمل أن تكون تامة، و ((في شيء)) متعلق به، وأن تكون ناقصة، و ((في شيء)) خبره، والاستثناء مفرغ من أعم عام وصف الشيء أي لا يكون الرفق مستقر في شيء يتصف بوصف من الأوصاف إلا بصفة الزينة. والشيء عام في الأعراض والذوات. الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعظ أخاه)) أي ينذره. ((غب)): الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. انتهى كلامه. والوعظ هاهنا بمعنى العتاب؛ لما جاء في شرح السنة: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنه ليستحيي، يعني كأنه يقول: قد أضربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه! فإن الحياء من الإيمان)). ((مح)): يعظه في الحياء، أي ينهاه عنه ويقبح له فعله ويزجره عن كثرته فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أي دعه على فعل الحياء وكف عن نهيه. ووقع لفظة ((دعه)) في البخاري، ولم تقع في مسلم. الحديث الرابع عن عمران: قوله: ((لا يأتي إلا بخير)) أي لا يعتري الإنسان إلا بخير. والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم. ((مح)) قد يشكل على بعض

5072 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس في هذا الحديث من حيث أن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق من يجله ويعظمه، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة. والجواب ما أجاب به جماعة من العلماء، منهم شيخ أبو عمرو بن الصلاح: أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز، وجوزوا تسميته حياء بحسب اللغة، وإنما حقيقة الحياء عن اصطلاح أهل الشرع: خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. يدل عليه ما روى الإمام أبو القاسم القشيري عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رحمهما الله تعالى قال: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. قال القاضي عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان؛ لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، وهذا هو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان)). أقول: ويمكن أن يحمل التعريف فيه على العهد، ويكون إشارة إلى ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى البطن وما حوى)) الحديث. الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن مما أدرك الناس)) ((من)) في ((مما)) ابتدائية، وهو خبر ((إن)) واسمه قوله: ((إذا لم تستحي)) على تأويل أن هذا القول حاصل مما أدرك الناس، والراجع إلى ((ما)) محذوف، و ((الناس)) فاعل ((أدرك)) وعليه كلام الشيخ التوربشتي، حيث قال المعنى أن مما بقى بين الناس فأدركوه من كلام الأنبياء. ويجوز أن يكون فاعل ((أدرك)) ضميراً راجعاً إلى ((ما)) و ((الناس)) مفعوله، وعليه كلام القاضي: أي مما بلغ الناس من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع عن اقتراف القبائح، والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل. وقوله: ((إذا لم تستحي)) الجملة الشرطية اسم ((إن)) على الحكاية. قوله: ((من كلام النبوة الأولى)) ((خط)): معناه: اتفاق كلام الأنبياء عليهم السلام على استحسان الحياء، فما من نبي إلا وقد ندب إليه وبعث عليه، ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، ولم يبدل منها؛ وذلك أنه أمر قد علم صوابه، وبان فضله، واتفقت العقول على حسنه. وما كان هذا صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل، وقيد النبوة بـ ((الأولى)) للإرشاد إلى اتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام على استحسانه من أولهم إلى آخرهم. قوله: ((فاصنع ما شئت)) ((حس)): فيه أقاويل: أحدها: أن معناه الخبر، وإن كان لفظه

5073 - وعن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم. فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ لفظ الأمر، كأنه يقوله: إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت مما تدعوك إليه نفسك من القبيح، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد. وثانيها: أن معناه الوعيد، كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} أي اصنع ما شئت فإن الله مجازيك، وإليه ذهب أبو العباس. وثالثها: معناه: أن تنظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ذلك مما لا يستحيي منه فافعله، وإن كان مما تستحيي منه فلا تفعله. وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي. وروى هذا الحديث جرير عن منصور بإسناده، ثم قال جرير: معناه: أن يريد الرجل أن يفعل الخير فيدعه حياء من الناس، كأنه يخاف مذهب الرياء يقول: فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت. قال أبو عبيد: هو شبيه بالحديث الآخر: ((إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائى: فزدها طولا)). أقول: قدر مر في الحديث السابق عن الشيخ محيي الدين النواوي: أن قانون الشرع في معنى الحياء يحتاج إلى اكتساب ونية، فينبغي أن يحمل الحديث على هذا المعنى. فالقانون فيه أنك إذا أردت أمراً أو اكتسبت فعلاً، وأنت بين الإقدام والإحجام فيه، فانظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ذلك مما لا يستحيي فيه من الله تعالى ولا من رسله وأنبيائه قديماً وحديثاً فافعله، ولا تبال من الخلق، وإن استحيت من الخلق. وإن كان مما يستحيي فيه من الله تعالى ومنهم فدعه، وإن لم يستحيي من الخلق فيه؛ ومن ثم صرح صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)) فدخل الحديث إذاً في جملة جوامع الكلم التي استأثر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم. الحديث السادس إلى الثامن عن النواس: قوله: ((البر حسن الخلق)). قيل: فسر البر في الحديث بمعان شتى: ففسره في موضع بما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، وفسره في موضع بالإيمان، وفي موضع بما يقربك إلى أن تعالى، وهنا بحسن الخلق وفسر حسن الخلق باحتمال الأذى وقلة الغضب وبسط الوجه وطيب الكلام، وكلها متقاربة في المعنى. ((تو)): حاك أثر من الحيك وهو أخذ القول في القلب، يقال: ما تحيك فيه الملامة إذا لم تؤثر فيه، تريد أن الإثم ما كان في القلب منه شيء فلا ينشرح له الصدر، والأقرب أن ذلك أمر يتهيأ لمن شرح الله صدره للإسلام دون عموم المكلفين، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: ((وإن أفتاك المفتون)).

5074 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً)) رواه البخاري. 5075 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) متفق عليه. الفصل الثاني 5076 - عن عائشة، [رضي الله عنها] قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أعطى حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة)) رواه في ((شرح السنة)) [5076] 5077 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة. والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) رواه أحمد، والترمذي. [5077] ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: مراعاة المطابقة تقتضي أن يفسر حسن الخلق بما يقابل ما حاك في الصدر، وهو قوله: ((ما اطمأنت إليه النفس والقلب)) كما في حديث وابصة، فوضع موضعه حسن الخلق ليؤذن أن حسن لخلق هو ما اطمأنت إليه النفوس الشريفة الطاهرة من أوضار الذنوب ومساوئ الأخلاق المتحلية بمكارم الأخلاق، من الصدق في المقال واللطف في الأحوال والأفعال، وحسن معاملته مع الرحمن، ومعاشرته مع الإخوان وصلة الرحم والسخاء والشجاعة. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((والإيمان في الجنة)) جعل أهل الإيمان عين الإيمان دلالة على أنهم تمحضوا منه وتمكنوا من بعض شعبه الذي هو أعلى فرع منه، كما جعل الإيمان مقرا ومبوأ لأهله في قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} لتمكنهم من الإيمان واستقامتهم عليه.

5078 - وعن أبي رجل من مزينة، قال: قالوا: يا رسول الله! ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: ((الخلق الحسن)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5078] 5079 - وفي ((شرح السنة)) عن أسامة بن شريك [5089] 5080 - وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري)) قال: والجواظ: الغليظ الفظ رواه أبو داود في ((سننه)). والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وصاحب ((جامع الأصول)) فيه عن حارثة وكذا في ((شرح السنة)) عنه، ولفظه: قال: ((لا يدخل الجنة الجواظ والجعظري)) يقال: الجعظري: الفظ الغليظ. [5080] وفي نسخ ((المصابيح)) عن عكرمة بن وهب ولفظه قال: الجواظ: الذي جمع ومنع. والجعظري: الغليظ الفظ. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث إلى الخامس عن حارثة رضي الله عنه: قوله: ((الجواظ الغليظ اللفظ)) كذا في سنن أبي داود والبيهقي. وفي ((نه)) و ((تو)) و ((قض)): الجواظ المختال من جاظ جوظا إذا اختال. وقيل: الجموع الممنوع من جاظ إذا جمع ومنع. وقيل: هو السمين. وقيل: الصياح المهذار. والجعظري: الفظ الغليظ. وقيل القصير المنتفخ بما ليس عنده. وقيل: العظيم الجسيم الأكول، والمانع لمن شأنه هذا أن يدخل الجنة حيثما يدخلها الآخرون عجبهم وسوء خلقهم وشرههم على الطعام، وإفراطهم في الكلام. قوله: ((وفي نسخ المصابيح عن عكرمة بن وهب ولفظه: ((قال: والجواظ: الذي جمع ومنع)) أشار المؤلف بهذا أن راوي الحديث في الأصول المذكورة هو حارثة بن وهب، وهو صحابي، وفي نسخ المصابيح عن عكرمة بن وهب. وقد قال الشيخ التوربشتي: لم يذكره أحد في الصحابة، فالحديث مرسل حينئذ، وكذا قوله: ((الذي جمع ومنع)) ليس في الأصول، وقد أثبت في حواشي المصابيح فألحق بالمتن. وكذا قوله: ((الغليظ الفظ)) في المصابيح تفسير للجعفري، وفي الأصول تفسير للجواظ. وحارثة بن وهب الخزاعي أخو عبد الله بن عمرو بن الخطاب لأمه، وعداده في الكوفيين، روى عنه هذا الحديث معبد بن خالد الجهني.

5081 - وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروى أبو داود الفصل الأول. [5081] 5082 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار)) رواه أبو داود. [5082] 5083 - وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أحمد، والترمذي والدارمي. [5083] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((البذيء)) في الغريبين: رجل بذيء أي فاحش سيء الخلق وقد بذأ يبذأ بذاءة. انتهى كلامه. أوقع قوله: ((وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) مقابلا لقوله: ((إن أثقل شيء يوضع في الميزان)) دلالة على أن أخف ما يوضع في الميزان هو سوء الخلق، وأن حسن الخلق أحب الأشياء عند الله تعالى، والخلق السيئ أبغضها، وأن الفحش والبذاءة أسوأ شيء في مساوئ الأخلاق. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بحسن خلقه)) قال الحسن: حسن الخلق بسط الوجه، وبذلك الندى وكف الأذى. وقال الواسطي: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال أيضاً: هو إرضاء الخلق في السراء والضراء. وقال سهل: أدنى حسن الخلق، الاحتمال وترك المكافأة، والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه. الحديث الثامن عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) قيل: يعلم منه أن العبد لا يستغني في حال من الأحوال عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثار تلك السيئات. فسماع الملاهي يكفر بسماع القرآن وبمجالس الذكر، وشرب الخمر يكفر بالتصدق بكل شراب حلال. وعلى هذا قفس؛ لأن المرض يعالج بضده والمتضادات هي المتناسبات! فلذلك ينبغي أن يمحو كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها، فالبياض يزال

5084 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار وبمن تحرم النار عليه! على كل هين لين قريب سهل)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. [5084] 5085 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [5085] ـــــــــــــــــــــــــــــ بالسواد لا بغيره، وحب الدنيا أثر السرور بها في القلب، فلا جرم كفارته كل أذى يصيب المسلم من الهم والغم. الحديث التاسع عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((على كل هين لين)) هذا جواب عن السؤالين، والجواب الظاهر عنهما: كل هين لين، ثم في الدرجة الثانية أن يقال عن الأول: يحرم على النار كل هين لين، وعلى الثاني: تحرم النار على كل هين لين. فأتى بجواب موجز يدل عليهما بالتفصيل، ولو أتى به كما يقتضيه الظاهر وهو قوله: ((كل هين لين)) لم يدل على التفصيل. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((غر)) ((نه)): أي ليس بذي مكر فهو ينخذع لانقياده ولينه وهو ضد الخب. يقال: فتى غر وفتاة وقد غررت تغر غرارة، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه. وليس ذلك منه جهلا ولكنه كرم وحسن خلق. انتهى كلامه. قال الفرزدق: واستمطروا من قريش كل منخدع إن الكريم إذا خادعته انخدعا وقيل: هم الذين لم يجربوا الأمور فهم قليلوا الشر منقادون! فإن من آثر الخمول وإصلاح نفسه والتزود لمعاده ونبذ أمور الدنيا، فليس غراً فيما قصده ولا مذموماً بنوع من الذم، والأول هو الوجه لما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)) لأن المؤمن قد ينخدع تارة في مقام اللين والعطف مع الأحباب وقد لا ينخدع مع الأغيار. وروى: أن ابن عمر رضي الله عنهما كلما صلى عبد له أعتقه. فقيل له فقال: من خادعنا بالله ننخدع. ولفظ الحديث أيضا يساعده: لأنه صلى الله عليه وسلم لما وصفه بالغرر أي الوصف غير كامل، فكمله بقوله: ((كريم))! لئلا يتوهم فيه ذلك نقصا، و ((الخب)) - بالفتح- الخداع، وهو الجريز الذي يسعى بين الناس بالفساد. يقال: رجل خب وامرأته خبة، وقد تكسر خاؤه. وأما المصدر فبالكسر لا غير.

5086 - وعن مكحول، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ)). رواه الترمذي مرسلاً [5086] 5087 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5087] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن مكحول رضي الله عنه: قوله: ((هينون لينون)). ((نه)): هما تخفيف الهين واللين. قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بـ ((الهين واللين)) مخففين وتذم بهما مثقلين. وهين فيعل من الهون، وهو السكينة والوقار والسهولة، فعينة واو، وشيء هين أي سهل. وقوله: ((كالجمل الآنف)) أي المأنوف، وهو الذي عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذي به. وقيل: الآنف الذلول، يقال: أنف البعير يأنف أنفا فهو آنف إذا اشتكى أنفه من الخشاش. والخشاش بالكسر خشب يدخل في أنف البعير. وكان الأصل أن يقال: مأنوف! لأنه مفعول به، كما يقال: مصدور ومبطون للذي يشتكي صدره وبطنه، وإنما جاء هذا شاذاً ويروي: ((كالجمل الآنف)) بالمد وهو بمعناه. ((فا)): والمحذوفة من يائي ((هين ولين)) الأولى، وقيل: الثانية. والكاف مرفوعة المحل على أنها خبر ثالث، والمعنى أن كل واحد منهم كالجمل الآنف ويجوز أن ينتصب محلها على أنها صفة لمصدر محذوف، تقديره: لينون لينا مثل لين الجمل الآنف. ((حس)): معنى الحديث أن المؤمن شديد الانقياد للشارع في أوامره ونواهيه. وفي قوله: ((وإن أنيخ على صخرة استناخ)) إيذان بكثرة تحمل المشاق؛ لأن الإناخة على الصخرة شاقة. أقول: أشار إلى أنه من باب التتميم كقول امرئ القيس: حملت ردينيا كأن سنانه سنا لهب لم يتصل بدخان فإن النار الشاعلة إذا لم يتصل بها دخان، كانت أشد تقوياً، ولعمري هذا غاية في التواضع وخفض الجناح المعنى بقوله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} والذلة في قوله: {أذلة على المؤمنين} الحديث الثاني عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أفضل من الذي لا يخالطهم))

5088 - وعن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كظم غيظاً ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: اختلفوا في المخالطة والعزلة وتفضيل إحداهما على الأخرى: فقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والأحوال: للتألف والتحبب إلى المؤمنين، والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى. روى عن علي رضي الله عنه قال: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم} وهذا الحديث أدل شيء على استحباب المخالطة. وما أكثر العباد والزهاد إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة: قال عمر رضي الله عنه: خذوا بحظكم من العزلة. وقال فضيل: كفي بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظا، اتخذ الله صاحبا ودع الناس جانبا. وأوصى داود الطائي أبا الربيع فقال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد. وقال وهب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت، والعاشرة في عزلة الناس. ودخل على حاتم الأصم بعض الأمراء فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم! قال: ما هي؟ قال: أن لا تراني وقال ابن عباس: أفضل المجالس مجلس في قعر بيتك لا ترى ولا ترى، وأنشد شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: إن مدحت الخمول نبهت أقواما نياما يضايقوني إليه هو قد دلني على لذة العيش فما لي أدل غيري عليه وقال أيضاً: خمولك يرفع عنك الأذى فكن قانعا أبدا بالخمول فكم من علي في ذري شاهق من الغر يرحم عند النزول وقال أيضا: من أخمل النفس أحياها وأنعشها ولم يتب قط من أمر على خطر إن الرياح إذا هاجت عواصفها فليس يرمي سوى العالي من الشجر وقيل: آداب العزلة أربعة: أن ينوي بها كف شره أولا، ثم السلامة من الشر ثانيا، ثم الخلاص من الإخلال بالحقوق ثالثا، ثم التجرد بكنه الهمة للعبادة رابعاً. الحديث الثالث عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((كظم)) ((نه)): كظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه. انتهى كلامه. وإنما حمد الكظم لأنه قهر للنفس الأمارة بالسوء!

وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء)). رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5088] 5089 - وفي رواية لأبي داود، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه، قال: ((ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)). [5089] وذكر حديث سويد: ((من ترك لبس ثوب جمال)) في ((كتاب اللباس)). الفصل الثالث 5090 - عن زيد بن طلحه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء)). رواه مالك مرسلاً. [5090] 5091 - و 5092 - * ورواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) عن أنس، وابن عباس. [5091]، [5092] 5093 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)). [5093] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولذلك مدحهم الله تعالى بقوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} ومن نهى النفس عن هواه فإن الجنة مثواه، والحور العين جزاءه، والمعني بقوله: ((على رءوس الخلائق)) أنه يشتهر بين الناس ويباهي به، ويقال في حقه: هذا الذي صدرت منه هذه الخصلة العظيمة. الفصل الثالث الحديث الأول عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل دين خلقاً))، ((نه)): الخلق: الدين والطبع والسجية. انتهى كلامه. والمعنى أن الغالب على أهل كل دين سجية سوى الحياء، والغالب على أهل ديننا الحياء! لأنه متمم لمكارم الأخلاق، وإنما بعث صلى الله عليه وسلم لإتمامها. وقال يوماً لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء)) الحديث. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قرناء)) فيه دليل لمن يقول: إن أقل

5094 - وفي رواية ابن عباس: ((فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5094] 5095 - وعن معاذ، قال: كان آخر ما وصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: ((يا معاذ! أحسن خلقك للناس)). رواه مالك. [5095] 5096 - وعن مالك، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) رواه في ((الموطأ)). [5096] 5097 - ورواه أحمد عن أبي هريرة [5097] ـــــــــــــــــــــــــــــ الجمع اثنان. وفيه رائحة من التجريد! حيث جرد من الإيمان شعبة منه، وجعلها قرينا له على سبيل الاستعارة، كأنهما رضيعا لبان ثدي أم تقاسما أن لا يتفرقا. الحديث الثالث عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((في الغرز)) ((نه)): الغرز: ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب. وقيل: هو الكور مطلقاً مثل الركاب للسرج، انتهى كلامه. قوله: ((أن قال)) خبر ((كان)) و ((حين وضعت)) ظرف. قاله حين بعثه إلى اليمن للقضاء وصاه ليجامل الناس بحسن الخلق. الحديث الرابع عن مالك: قوله: ((بلغه)) هذا يحتمل أن يكون متصلا، وراوي مالك لم يذكر الاتصال وأن يكون مرسلا، وإن لم يذكر مالك التابعي ولا الصحابي. وقيل: إنه منقطع. وقوله: ((لأتمم حسن الأخلاق)) يحتمل أن يراد به أنه كملها بعد النقصان، وأنه جمعها بعد التفرقة، وعليه قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه}. قال الإمام فخر الدين: الآية دالة على فضله صلوات الله عليه على سائر الأنبياء! لأنه تعالى أمره بالاقتداء بهم، ولابد من امتثاله لذلك الأمر، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وأخلاقهم المتفرقة، وإلى المعنى الأول أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ترك منه موضع لبنة)) إلى قوله: ((فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، حتم بين البنيان)).

5098 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة قال: ((الحمد لله الذي حسن خلقي وخلقي، وزان مني ما شان من غيري)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) مرسلا. [5098] 5099 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم حسنت خلقي فأحسن خلقي)). رواه أحمد. [5099] 5100 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخياركم؟)) قالوا: بلى قال: ((خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أخلاقاً)) رواه أحمد. [5100] 5101 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)). رواه أبو داود، والدارمي. [5101] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن جعفر رضي الله عنه: قوله: ((وزان مني ما شان من غيري)) فيه معنى قوله: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) فجعل النقصان شيئاً! كما قال أبو الطيب: ولم أر من عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام وعلى نحو هذا الحمد حمد داود وسليمان عليهما السلام في قوله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} وفيه استحباب النظر في المرآة، والحمد على حسن الخلقة والخلق؛ لأنهما نعمتان موهوبتان من الله تعالى، يجب الشكر عليهما. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فأحسن خلقي)) يحتمل أن يراد به طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه بإكمال دينه. قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وفيه إشارة إلى قول عائشة رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) وأن يكون قد طلب المزيد والثبات على ما كان. الحديث السابع إلى العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أطولكم أعماراً)) إشارة

(20) باب الغضب والكبر

5102 - وعنه، أن رجلا شتم أبا بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم. وقام، فلحقه أبو بكر، وقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت. قال: ((كان معك ملك يرد عليه، فلما رددت عليه وقع الشيطان)). ثم قال: ((يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاد الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة)). رواه أحمد. [5102] 5103 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يريد الله بأهل بيت رفقاً إلا نفعهم، ولا يحرمهم إياه إلا ضرهم)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5103] (20) باب الغضب والكبر الفصل الأول 5104 - عن أبي هريرة، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: ((لا تغضب فرد ذلك مراراً قال: ((لا تغضب)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ما قال صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله: أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))، فقوله: ((وأحسنكم أخلاقا)) كقوله: ((وحسن عمله)) في إرادة الجمع بين طول العمر وحسن الخلق والله أعلم. باب الغضب والكبر ((غب)): الكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجاب نفسه بأن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظمه الامتناع عن قبول الحق عن الله تعالى والإذعان له بالعبادة. والاستكبار على وجهين: أحدهما: أن يتحرى الإنسان أن يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يحب فهو المحمود. والثاني: أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له فهو المذموم: لقوله تعالى: {أبى واستكبر}. والمتكبر أيضاً على وجهين: إما محمود وهو أن تكون أفعاله الحسنة كثيرة زائدة في الحقيقة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر في قوله: {العزيز الجبار

5105 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ المتكبر}، ومذموم: وذلك إذا كان متكلفاً متشبعاً لذلك، وهذا وصف عامة الناس نحو قوله تعالى: {فبئس مثوى المتكبرين}. قال الشيخ أبو حامد: الكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن، فإذا ظهر على الجوارح يقال: تكبر، وإذا لم يظهر، يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه! فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه، ليرى نفسه فوقه في صفات المال ومتكبراً به. وبه ينفصل الكبر على العجب! فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تغضب)) ((تو)): قد كان صلى الله عليه وسلم مكاشفا بأوضاع الخلق عارفا بأدواتهم يضع الهناء موضع النقب، يأمرهم بما هو أولى بهم. فلما استوصاه الرجل، وقد رآه مملوء بالقوة الغضبية لم ير له خيرا من أن يتجنب عن دواعي الغضب، ويزحزح نفسه عنه. ((قض)): لعله صلى الله عليه وسلم لما رأي أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان وتعتريه إنما تعرض له من فرط شهوته واستيلاء غضبه، والشهوة مكثروة بالنسبة إلى ما يقتضيه الغضب غير ملتفت إليها. فلما سأله الرجل أن يشير إليه بما يتوصل به إلى التجنب عن القبائح والتحرز عن مظانها، نهاه عن الغضب الداعي إلى ما هو أعظم ضرر وأكثر وزرا! فإن ارتفاع السبب يوجب ارتفاع مسبباته لا محالة. أقول: ويؤيد ما ذهب إليه القاضي الحديث الآتي. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالصرعة)) ((نه)): الصرعة: بضم الصاد وفتح الراء المبالغ في الصرع الذي لا يغلب، فنقله إلى الذي يملك نفسه عند الغضب! فإنه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه! ولذلك قال: ((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)) وهذا من الألفاظ التي نقلها عن وضعها اللغوي بضرب من التوسع والمجاز، وهو من فصيح الكلام؛ لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شهوة الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته، كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه.

5106 - وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) متفق عليه. وفيه رواية لمسلم: ((كل جواظ زنيم متكبر)). 5107 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله: ((لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن حارثة: قوله: ((متضعف)) ((مح)): ضبطوه بفتح العين وكسرها، و ((المشهور الفتح، ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجرءون عليه لضعف حاله في الدنيا، يقال: تضعفه واستضعفه. وأما على الكسر فمعناه متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر. و ((العتل)): بضم العين والتاء الجافي الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: ((الجافي)) الفظ الغليظ و ((الجواظ)): الجموع المنوع. وقيل: كثير اللحم المختال في مشيه. وقيل القصير البطين. وقيل: ((الفاخر)) بالخاء. و ((الزنيم)): الدعي في النسب الملصق بالقوم، وليس منهم تشبيهاً له بالزنمة وهي شيء يقطع من أذن الشاة ويترك معلقا بها. وقوله: ((لو أقسم على الله)) معناه: لو حلق يمينا طمعا في كرم الله تعالى بإبراره لأبره. الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((مثقال)) هو مأخوذ من الثقل. والمراد وزن حبة، وهذا تمثيل للقلة. وفيه إشعار بأن الإيمان قابل للزيادة والنقصان، وله شعب كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)). قوله: ((ولا يدخل الجنة)) ((خط)): للحديث تأويلان: أحدهما: أن يراد بالكبر الكفر والشرك. ألا ترى أنه قد قابله في نقيضه بالإيمان؟ وثانيهما: أن الله تعالى إذا أراد أن يدخله الجنة، نزع ما كان في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر ولا غل في قلبه. وقوله: لا يدخل النار)) يعني به دخول تأبيد وتخليد. أقول: الوجه الأول من باب المقابلة المعنوية وهو من أنفسها وأغربها؛ فإنه بالإيمان أشار إلى أن الكبر من صفات الكافرين المتمردين، فيجب أن يجتنب عنه، وبالكبر لمح إلى أن التواضع من سمات المؤمنين المحسنين، فينبغي أن يرغب فيه وهو الوجه؛ لأن القصد الأولى في سياق الكلام وإيراده إلى معنى الوصفين في الترغيب في أحدهما والتنفير عن الآخر لا إلى حكم الموصوفين، وإن لزمه تبعا، ومن الأسلوب قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله}.

5108 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال: ((إن الله تعالى جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم. 5109 - وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم)). وفي رواية: ((ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف: فإن قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا راد لما يريده منهما ولا مزيل لما يصيبه منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الأخير: ليدل بذلك على ما ترك. وهو فن عجيب وأسلوب غريب. الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن الرجل يجب)) لما رأي الرجل العادة في المتكبرين لبس الثياب الفاخرة وجر الإزار، وغير ذلك مما يتعاطونه، سأل ما سأل. ((نه)): ((بطر الحق)) هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيد وعبادته باطلا. وقيل: هو أن يتحير عند الحق فلا يراه حقا من توحيده وعبادته باطلا. وقيل: هو أن يتحير عند الحق فلا يراه حقا. وقيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله. ((تو)): وتفسيره على الباطل أشبه؛ لما ورد في غير هذه الرواية: ((إنما ذلك من سفه الحق وغمط الناس، أي رأي الحق سفها)). أقول: والمقام أيضاً يقتضيه؛ لأن تحرير الجواب إن كان أخذ الرجل الزينة لأجل أن يرى الله تعالى نعمته عليه، وأن يعظم شعائره؛ لقوله تعالى: {أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشا} أي زينة، وقوله: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} فهو جمال والله جميل يحب أن يرى أثر نعمه على عبده. وإن كان للبطر والأشر المؤدي إلى تسفيه الحق والصد عن سبيل الله وإلى تحقير الناس، فهو اختيال وافتخار، والله لا يحب كل مختال فخور. ولمثل هذا البطر نهى الله تعالى المؤمنين في قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله}. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يكلمهم الله)) سبق بيان هذه الألفاظ في باب المساهلة في المعاملة. قوله: ((شيخ زان)) يعني الزنا قبيح ومن الشيخ أقبح، والكذب سمج ومن الملك أسمج، والتكبر مذموم ومن الفقير أذم.

5110 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)). وفي رواية ((قذفته في النار)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الكبرياء ردائي)). ((نه)): الكبرياء العظمة والملك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى وهو من الكبر- بالكسر- وهو العظمة. ويقال: كبر- بالضم- يكبر أي عظم فهو كبير، انتهى كلامه. قيل: إن الكبرياء والكبر والعظمة ألفاظ مترادفة متحدة المعنى، ولم يتعرض معظمهم للفرق، ولابد من الفرق؛ إذ الأصل عدم الترادف. قال الإمام فخر الدين الرازي: جعل الله الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الأزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع وسواء عرف هذه الصفة أحد أم لا. وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره. وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية إضافية، والذاتي أعلى من الإضافي. أقول: الأصل في الكبرياء والعظمة ما قاله أئمة اللغة، ثم استعمل في الحديث على حسب أهل العرف والعادة؛ يقال: فلان متكبر إذا أنزل نفسه فوق منزلتها فلا ينقاد لأحد، وفلان له عظمة إذا كثر ما يتعلق به من الخدم والحشم. ويقال: ركب الأمير في عظمته، أي في كثير من حواشيه وأجناده، فإذا التكبر صفة ذاتية والعظمة إضافية. فالله تعالى إذا وصف بالتكبر يكون معناه الترفع عن أن ينقاد لأحد لا المعنى الأول؛ لأنه تعالى إذا وصف بصفة وتكون تلك الصفة مختصة بالأجسام، تكون محمولة على نهايات أغراضها لا على بداياتها. وإذا وصف بالعظمة يكون ذا ملك عظيم، كما قال تعالى: {رب العرش العظيم}. ثم إنه سبحانه وتعالى شبه صفة الكبرياء بالرداء، والرداء ما يلبس الرجل رأسه وكتفيه، وهذه الأعضاء مختصة بالترفع والتكبر والظهور، فناسب الرداء. وشبه صفة العظمة بالإزار، والإزار ما يلبس الرجل من وسطه إلى قدميه. وهذه الأعضاء مختصة بالنزول والانحطاط والخفاء، فناسب الإزار. ومعنى الاختصاص في قوله: ((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)) من وجهين: أحدهما: أنه من التشبيه كما أن رداء الرجل وإزاره مختصان به لا يشاركه فيهما غيره، كذلك الكبرياء والعظمة مختصان بالله تعالى لا يوصف بهما غيره. وثانيهما: تعريف المسند إليه باللام والمسند بالإضافة يدل على القصر، كما إذا قلت: المنطلق زيد أو زيد المنطلق، يدل على انحصار الانطلاق في زيد.

الفصل الثاني 5111 - عن سلمة بن الأكوع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم)) رواه الترمذي. [5111] 5112 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)). رواه الترمذي [5112] ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن ثمة فرع على التشبيه قوله: ((نازعني)) دلالة على أن ذلك ليس من حقه، ثم عقبه بالوعيد وحقر شأنه بلفظ القذف أي يقذف به قذف الحجارة والمدر في النار والسقر. وقد عرفت مما قيل أن الكبر هو الإعراض عن الحق وتحقير الناس. فالتواضع هو الإذعان للحق وتوقير الناس، وهو المعنى بقوله: ((التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله)) فالمعنى: من تكبر على الله وعلى الخلق ابتلاه الله تعالى في الدنيا بالذل والهوان، وفي الآخرة بقذفه في أقصى دركات النيران. ومن تواضع لله مع الخلق رفعه الله درجته في الدنيا والآخرة، فالحديث إذن من جوامع الكلم وكنوز الحكم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم على قائله. الفصل الثاني الحديث الأول عن سلمة رضي الله عنه: قوله: ((يذهب بنفسه)) ((مظ)): الباء يحتمل أن تكون للتعدية، أي يرفع نفسه ويبعدها عن الناس في المرتبة، ويعتقدها عظيمة القدر. وللمصاحبة أي يرافق نفسه ويعززها ويكرمها كما يكرم الخليل الخليل حتى تصير متكبرة. وفي أساس البلاغة: يقال: ذهب به: مربه مع نفسه، ومن المجاز ذهبت به الخيلاء. الحديث الثاني عن عمرو: قوله: ((أمثال الذر)). ((نه)): الذر النمل الأحمر الصغير واحتها ذرة. وقيل: الذرة يراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة. ((تو)): يحمل ذلك على المجاز دون الحقيقة أي أذلاء مهانين يطأهم الناس بأرجلهم. وإنما منعنا عن القول بظاهره ما أخبرنا به الصادق المصدقون صلى الله عليه وسلم: ((إن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء، حتى أنهم يحشرون غرلا، يعاد منهم ما انفصل عنهم من القلفة))، وإلى هذا المعنى أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((يغشاهم الذل من كل مكان)).

5113 - وعن عطية بن عروة السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)). رواه أبو داود. [5113] 5114 - وعن أبي ذر [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا غضب ـــــــــــــــــــــــــــــ ((شف)): إنما قال: ((في صور الرجال)) بعد قوله: ((أمثال الذر)) قطعا منه حمل قوله: ((أمثال الذر)) على الحقيقة؛ والتعيينات لجريه على المجاز؛ ودفعا لوهم من يتوهم أن المتكبر لا يحشر في صورة الإنسان؛ وتحقيقاً لإعادة الأجساد المعدومة على ما كانت عليه من الأجزاء. ((مظ)): يعني صورهم صور الإنسان وجثتهم كجثة الذر في الصغر. أقول: لفظ الحديث يساعد هذا؛ لأن قوله: ((أمثال الذر)) تشبيه لهم بالذر ولابد من بيان وجه التشبيه؛ لأنه يحتمل أن يكون وجه التشبيه الصغر في الجثة، وأن يكون الحقارة والصغار. فقوله: ((في صور الرجال)) بيان لوجه ودفع وهم من يتوهم خلافه. وأما قوله: ((إن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء)) فليس فيه أنه لا تعاد تلك الأجزاء الأصلية في مثل الذر؛ لأن الله تعالى قادر عليه. وفيه الخلاف المشهور بين الأصوليين. وعلى هذا الحقارة ملزوم هذا التركيب، فلا ينافي إرادة الجثة مع الحقارة. قوله: ((بولس)). ((نه)): هكذا جاء في الحديث مسمى. قوله: ((نار الأنيار)). ((قض)): لم أجده مشروحاً ولكن هكذا يروى، فإن صحت الرواية فيحتمل أن يكون معناه نار النيران، فجمع ((نار)) على ((أنيار))، وأصلها أنوار؛ لأنها من الواو، كما جاء في ريح وعيد: أرياح وأعياد، وهما من الواو. والله أعلم. ((قض)): وإضافة النار إليها للمبالغة، كأن هذه النار لإفراط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران ما تفعل النار بغيرها. و ((طينة الخبال)) سبق شرحها في باب حد الخمر. الحديث الثالث عن عطية: قوله: ((فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) أراد أن يقول: إذا غضب أحدكم فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن الغضب من الشيطان، فصور حالة الغضب ومنشأه ثم الإرشاد إلى تسكينه، فأخرج الكلام هذا المخرج ليكون أجمع وأنفع وللموانع أزجر وأردع. وهذا التصوير لا يمنع من أجرائه على الحقيقة؛ لأنه من باب الكناية. الحديث الرابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وإلا فليضطجع)). ((حس)): إنما أمره

أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) رواه أحمد، والترمذي. [5114] 5115 - وعن أسماء بنت عميس، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس العبد عبد تخيل واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى، ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سهى ولهى، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتى وطغى، ونسى المبتدأ والمتنهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين. بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالقعود والاضطجاع لئلا يحصل منه في حال غضبه ما يندم عليه؛ فإن المضطجع أبعد من الحركة والبطش من القاعدة، والقاعدة من القائم. أقول: لعله أراد به التواضع والخفض؛ لأن الغضب منشأه التكبر والترفع. الحديث الخامس عن أسماء رضي الله عنها: قوله: ((تخيل واختال)) ((تو)): أي تخيل له أنه خير من غيره. ((واختال)) أي تكبر. ((نه)): الكبير: العظيم ذو الكبرياء. وقيل: المتعالي عن صفات الخلق. وقيل: المتكبر على عتاة خلقه و ((المتعالي)) الذي جل عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل: جل عن كل وصف وثناء وهو متفاعل من العلو، وقد يكون بمعنى العالي. ((مظ)): ((سهى)) أي في أمور الدين و ((لهى)) أي اشتغل بغيرها مما لا يعنيه. ((نه)): ((العتو)): التجبر والتكبر. و ((طغى)): جاوز القدر في الشر, قوله: ((ونسى المبتدأ والمنتهى:. ((شف)): أي نسى ابتداء خلقه، وهو كونه نطفة، وانتهاء حاله الذي يؤول إليه، وهو صيرورته تراباً، أي من كان ذلك ابتداؤه ويكون انتهاؤه هذا، جدير بأن يطيع الله تعالى في وسط الحالين وهو صار عليه في الأحوال الثلاث التي هي المبتدأ والمنتهى والوسط، ولا يعتو ولا يطغى عليه. قوله: ((يختل الدنيا)) ((نه)): أي يطلب الدنيا بعمل الآخرة. يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه، وختل الذئب الصيد إذا تخفي له. ((مح)): ختل الصائد إذا مشى للصيد قليلاً قليلا لئلا يحس به. شبه فعل من يرى ورعا وديناً ليتوسل به إلى المطالب الدنيوية بختل الذئب للصائد. قوله: ((عبد طمع يقوده)) ((شف)): كأنه من كثرة الطمع والهوى اللازمين للعبد وشدة اتصالهما به أطلق نفس الطمع والهوى عليه وإن كانا قائمين به. وتقديره: ذو طمع يقوده، وذو هوى يضله، ويمكن أن يجعل قوله: ((طمع)) فاعل ((يقوده)) و ((هوى)) فاعل ((يضله)) مقدمين على فعلهما على مذهب الكوفيين. قال الشاعر:

بئس العبد عبد رغب يذله)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). وقالا: ليس إسناده بالقوي، وقال الترمذي أيضاً: هذا حديث غريب. [5115] الفصل الثالث 5116 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: ((ما تجرع عبد أفضل عند الله عز وجل من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى)). رواه أحمد. [5116] ـــــــــــــــــــــــــــــ صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم ي قلما يدوم وصال على طول الصدود. أقول الوجه الثاني أقرب من الأول لما يلزم منه وصف الوصف؛ لأن قوله: ((يقوده)) على هذا صفة ((طمع)) وهو صفة ((عبد)). والأشبه أن يكون ((طمع)) مبتدأ و ((يقوده)) خبره، أي طمع عظيم يقوده نحو: شر أهر ذا ناب، والجملة صفة ((عبد)). قوله: ((رغب يذله)) ((نه)): أي الشره والحرص على الدنيا. وقيل: سعة الأمل وطلب الكثير. ((قض)): وإضافة ((العبد)) إليه للإهانة، كقولهم: عبد البطن؛ ولأن مجامع همته واجتهاده مقصور عليه وعائد إليه. أقول: والظاهر أنه مرفوع مبتدأ وما بعده خبره، والجملة صفة ((عبد)) كما في القرينتين الأولتين؛ وليوافق قوله: ((يختل الدنيا بالدين)) وقوله: ((يختل الدين بالشبهات)) إذ هو متعين للوصفية لا غير. قوله: ((ليس إسناده بالقوي)). ((تو)): روى الترمذي بإسناد له عن هاشم بن سعيد الكوفي، وقد ذكره ابن أبي عدي في كتابه. وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يكظمها))، في أساس البلاغة: كظم القرابة ملأها وشد رأسها. وكظم الباب شده، ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ. انتهى كلامه. يريد أنه استعارة من ((كظم القربة)). وقوله: ((من جرعة غيظ)) استعارة أخرى كالترشيح.

5117 - وعن ابن عباس في قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} قال: الصبر عند الغضب، والعفو عن الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم قريب. رواه البخاري تعليقاً. 5118 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الغضب ليفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل)). [5118] 5119 - وعن عمر، قال وهو على المنبر: يأيها الناس! تواضعوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير، وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير)). [5119] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((العفو عند الإساءة)) هذا التفسير على أن يكون ((لا)) في قوله: {ولا السيئة} مزيدة، المعنى لا تستوي الحسنة والسيئة. فعلى هذا يراد ((بالتي هي أحسن)) بالتي هي أحسن، فوضع ((الأحسن)) موضع ((الحسنة)) ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة. وإذا لم يجعل ((لا)) مزيدة يكون المعنى: أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها. إذا اعترضتك حسنات فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثاله: رجال أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك. مثل أن يذمك فتمدحه؛ فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك. الحديث الثالث والربع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فهو في نفسه صغير)) الفاء فيه جزاء شرط محذوف، يعني من تواضع لله هضم حقه من نفسه فجعل نفسه دون منزلته. وهو المراد من قوله: ((فهو في نفسه صغير)) ثم إن الله تعالى يرفعه من تلك المنزلة التي هي حقه إلى ما هي أرفع منها ويعظمه عند الناس بعكسه في القرينة الأخرى. ((حس)): قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل إذا تواضع. رفع الله حكمته. وقال: انتعش نعشك الله، فهو في

5120 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال موسى بن عمران عليه السلام: يا رب! من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر)). [5120] 5121 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من خزن لسانه ستر الله عورته، ومن كف غضبه كف الله عنه عذابه يوم القيامة، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)). [5121] 5122 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات؛ فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضى والسخط، والقصد في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن)). روى البيهقي الأحاديث الخمسة في ((شعب الإيمان)). [5122] ـــــــــــــــــــــــــــــ نفسه صغير، وفي أعين الناس كبير. وإذا بطر وعدا طوره وهضه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ أخسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس صغير، حتى يكون أهون على الله من الخنزير. الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من خزن لسانه)) أي من ستر عيوب الناس وكتمها ستر الله عورته، قال في أساس البلاغة: خزن المال في الخزانة أحرزه، ومن المجاز: اخزن لسانك وسرك؛ قال امرؤ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه فليس على شيء سواه بخازن الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وهي أشدهن)) لأن المعجب بنفسه متبع هواه، ومن هوى النفس: الشح المطاع. قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه} حيث أضاف الشح إلى النفس.

(21) باب الظلم

(21) باب الظلم الفصل الأول 5123 - عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) متفق عليه. 5124 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} الآية متفق عليه. 5125 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الظلم ((غب)): الظلم عند أهل اللغة: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. والظلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((الظلم ظلمات)). ((مح)): قال القاضي عياض: هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه، لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنوره هو مسبب عن إيمانه في الدنيا؛ قال تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد، وبه فسروا قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} أي شدائدها، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات. أقول: قوله: ((على ظاهره)) يوهم أن قوله: ((ظلمات)) هنا ليس مجازاً بل حقيقة لكنه مجاز؛ لأنه حمل المسبب على المسبب، فالمراد ظلمات حقيقية مسببة عن الظلم. والفرق بين الشدائد والأنكال: أن الشدائد كائنة في العرصات قبل دخول النار والأنكال بعد الدخول. الحديث الثاني عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((ليملي))، ((نه)): أي يمهل ويطول عمره و ((لم يفلته))، أي لم ينفلت منه. ويجوز أن يكون بمعنى: ((لم يفلته منه أحد أي لم يخلصه. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لما مر بالحجر)) ((تو)) الحجر منازل

الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم)) ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي. متفق عليه. 5126 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)). رواه البخاري. 5127 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما الملفس؟)). قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ ثمود وذلك في مسيره إلى تبوك، خشى على أصحابه أن يجتازوا على تلك الديار ساهين غير متعظين بما أصاب أهل تلك الديار، وقد أمرهم الله بالانتباه والاعتبار في مثل تلك المواطن. ((قض)): ولذلك استثنى عن النهي. و ((أن يصيبكم)) نصب على المفعول لأجله أي مخافة أن يصيبكم، انتهى كلامه. والمعنى لا تدخلوا مساكنهم في حال من الأحوال إلا في حال كونكم باكين. ((خط)): معناه أن الداخل في دار قوم أهلكوا بخسف أو عذاب إذا لم يكن باكيا، إما شفقة عليهم وإما خوف من حلول مثلها به، كان قاسي القلب قليل الخشوع، فلا يأمن إذا كان هكذا أن يصيبه ما أصابهم. ((تو)): ((قنع رأسه)). يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أخذ قناعاً على رأسه شبه الطيلسان، وهو الأظهر. والآخر أن يكون مبالغة من الإقناع أي أطرف فلم يلتفت يميناً ولا شمالاً لئلا يقع بصره عليها. وقد حلت بأهلها المثلات وهم فيها، فصارت معلمة بمقت الله وغضبه. وفي الحديث: أنه نهاهم أن يشربوا ماءها وكانوا قد خمروا به عجينهم، فأمرهم أن يعلفوها دوابهم. ولم يرخص لهم في الأكل منها. ((حس)): فيه دليل على أن منازل هؤلاء لا تتخذ مسكناً ووطناً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن دخولها إلا مع البكاء؛ فالمتوطن يكون دهره باكيا. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مظلمة)) المغرب: المظلمة الظلم واسم للمأخوذ. يقال: عند فلان مظلمتي وظلامتي، أي حقي الذي اخذ مني ظلما. انتهى كلامه. والمراد من ((اليوم)) أيام الدنيا لمقابلته بقوله: ((قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) وهو معبر عن يوم القيامة. ((نه)): يقال: تحللته واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل من قبلك. أقول: قوله: ((إن كان)) استئناف كأنه لما قيل: فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون لا يكون دينار ولا درهم ويؤخذ منه بدل مظلمته، توجه لسائل أن يسأل فما يؤخذ منه بدل مظلمته؟ قيل ((إن كان ....)) الخ. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أتدرون ما المفلس؟)) كذا في صحيح

القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا. وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) رواه مسلم. 5128 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)). رواه مسلم. وذكر حديث جابر: ((اتقوا الظلم)). في ((باب الإنفاق)). ـــــــــــــــــــــــــــــ مسلم وجامع الترمذي وكتاب الحميدي وجامع الأصول وشرح السنة، فعلى هذا السؤال عن وصف المفلس لا عن حقيقته؛ ومن ثم أجاب صلى الله عليه وسلم بوصفه بقوله: ((شتم وأكل وقذف)). وفي مشارق الأنوار وبعض نسخ المصابيح: ((من المفلس؟)) وهذا سؤال إرشاد لا استعلام؛ ولذلك قال: ((إن المفلس كذا وكذا ....)). ((مح)): يعني حقيقة المفلس هذا الذي ذكرت، وأما من ليس له مال، ومن قل ماله، فالناس يسمونه مفلساً، وليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما انقطع بيسار يحصل له بعد ذلك من حياته، بخلاف ذلك المفلس فإنه يهلك الهلاك التام. قال المازري: زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وهو باطل وجهالة بينة؛ لأنه إنما عوقب بفعله ووزره، فتوجهت عليه حقوق لغرماته فدفعت إليهم من حسناته، فلما فرغت حسناته أخذت من سيئات خصومه فوضعت عليه. فحقيقة العقوبة مسببة عن ظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لتؤذن الحقوق)) ((تو)): هو على بناء المجهول، و ((الحقوق)) مرفوع، هذه هي الرواية المعتد بها. ويزعم بعضهم ضم الدال ونصب ((الحقوق)). والفعل مسند إلى الجماعة الذين خوطبوا به، والصحيح ما قدمناه. أقول: إن كان الرد لأجل الرواية فلا مقال، وإن كان بحسب الدراية، فإن باب التغليب واسع فيكون قد غلب العقلاء على غيرهم. وجعل ((حتى)) غاية بحسب التغليب، كما في قوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذروكم فيه} فالضمير في ((يذروكم)) راجع إلى الأناسي والأنعام، على تغليب المخاطبين العقلاء على الغيب والأنعام.

الفصل الثاني 5129 - عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسناً، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)). رواه الترمذي. [5129] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): ((الجلحاء)) - بالمد- هي الجماء التي لا قرن لها، والقرناء ضده. وهذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الأدميين والأطفال والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة، ولعى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة. قال الله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهرة شرع ولا عقل وجب حمله على ظاهره. قالوا: وليس من شرط الحشر والإعادة من القيامة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص في القرناء والجلحاء فليس هو من قصاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة. الفصل الثاني الحديث الأول عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((لا تكونوا إمعة)). ((نه)): هو بكسر الهمزة وتشديد الميم، والهاء للمبالغة، وهمزته أصلية، ولا يستعمل ذلك في النساء، فلا يقال: امرأة إمعة. ((فا)): هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، ووزنه فعلة كـ ((ديمة))، ولا يجوز الحكم عليه بزيادة الهمزة؛ لأنه ليست في الصفات إليه، ووزنه فعلة كـ ((ديمة))، ولا يجوز الحكم عليه بزيادة الهمزة؛ لأنه ليست في الصفات ((أفعلة))، وهي في الأسماء أيضاً قليلة. ومعناه المقلد الذي يجعل دينه تابعاً لدين غيره بلا رؤية وتحصيل برهان. انتهى كلامه. قوله: ((تقولون: إن أحسن الناس ....)) الخ بيان وتفسير لـ ((إمعة)) على نحو قول الشاعر: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأي وقد سمعا لأن معنى قوله: ((إن أحسن الناس)) ((وإن ظلموا)) إنا نقلد الناس في إحسانهم وظلمهم ونقتفي أثرهم. قوله: ((ولكن وطنوا أنفسكم)). قال في أساس البلاغة: أوطن الأرض ووطنها واستوطنها. ومن المجاز: وطنت نفسي على كذا فتوطنت قال الشاعر: ولا خير في من لا يوطن نفسه على نائبات الدهر حين تنوب

5130 - وعن معاوية، أنه كتب إلى عائشة [رضي الله عنها] أن اكتبي إلى كتاباً توصيني فيه ولا تكثري. فكتبت: سلام عليك؛ أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضي الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضي الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) والسلام عليك. رواه الترمذي. [5130] الفصل الثالث 5131 - عن ابن مسعود، قال لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيماهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذاك، إنما هو الشكر، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم})). وفي رواية: ((ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى الحديث: أوجبوا على أنفسكم الإحسان بأن تجعلوها وطناً للإحسان. فعلى هذا ((أن تحسنوا)) متعلق بقوله: ((وطنوا)) وجواب الشرط محذوف، يدل عليه ((أن تحسنوا)) والتقدير" وطنوا أنفسكم على الإحسان، إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا؛ لأن عدم الظلم إحسان. الحديث الثاني عن معاوية رضي الله عنه: قوله: ((وكله الله)) ((مظ)): يعني إذا عرض له أمر في فعله رضي الله عنه وغضب الناس أو عكسه. فإن فعل الأول رضي الله عنه ودفع عنه شر الناس، وإن فعل الثاني وكله إلى الناس، يعني سلط الله الناس عليه حتى يؤذوه ويظلموا عليه ولم يدفع عنه شرهم. ((نه)): يقال: وكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أينا لم يظلم نفسه؟)) فهموا من معنى اللبس أن المراد من الظلم المعصية؛ لأن لفظ اللبس يأبى أن يراد به الشرك، فالمعنى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، كذا في الكشاف. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذاك)) معناه: ليس كما تعتقدون أن اللبس يقتضي الخلط، ولا يتصور خلط الشرك بالإيمان، بل هو واقع كمن يؤمن بالله ويشرك في عبادته غيره. وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.

5132 - وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، عبد أذهب آخرته بدنيا غيره)) رواه ابن ماجه. [5132] 5133 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله: الإشراك بالله. يقول الله عز وجل {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، وديوان لا يتركه الله: ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به: ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله: إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه)). [5133] 5134 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياك ودعوة المظلوم، فإنما يسأل الله تعالى حقه، وإن الله لا يمنع ذا حق حقه)). [5134] 5135 - وعن أوس بن شرحبيل، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام)). [5135] ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الحسن: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان به. وقيل: النفاق لبس الإيمان الظاهر بالكفر الباطن. وفي الآية دلائل شاهدة على أن المراد بالظلم فيها الشرك. ومن أراد زيادة اطلاع عليه فلينظر في فتوح الغيب)). الحديث الثاني والثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الدواوين ثلاثة)) يراد به ها هنا صحائف الأعمال. المغرب: الديوان: الجريدة من دون الكتب إذا جمعها؛ لأنها قطع من القراطيس مجموعة. قوله: ((لا يعبأ الله)). ((غب)): يقال: ما عبأت به، أي لم أبال به، وأصله م العبء أي الثقل كأنه قال: ما أرى له وزناً وقدراً. وقال الله تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} انتهى كلامه. وإنما قال في القرينة الأولى: ((لا يغفر)) ليدل على أن الشرك لا يغفر أصلا. وفي الثانية:

(22) باب الأمر بالمعروف

5136 - وعن أبي هريرة، أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: بلى والله، حتى الحبارى لتموت في وكرها هزلا لظلم الظالم. روى البيهقي الأحاديث الأربعة في ((شعب الإيمان)). [5136] (22) باب الأمر بالمعروف الفصل الأول 5137 - عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((لا يترك)) ليؤذن بأن حق الغير لا يهمل قطعا، إما بأن يقتص من خصمه أو يرضيه الله تعالى. وفي الثالثة ((لا يعبأ)): ليشعر بأن حق الله تعالى على المساهلة فيترك حقه كرما ولطفا. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى الحبارى)) ((نه)): يعني أن الله تعالى يحبس عن الحبارى القطر بشؤم ذنوب الظالم. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها أبعد الطير نجعة، فربما تذبح بالبصرة ويوجد في حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام. ووكر الطائر عشه، والجمع وكور وأوكار. قوله: ((بلى والله)) إيجاب لما نفي قبله وها هنا وقعت جوابا للمثبت. فالوجه أن يقال: إن مفهوم قوله: ((لا يضر إلا نفسه)) لا يضر غيره. فقال: بلى يضر غيره حتى يضر الحبارى. والله أعلم بالصواب. باب الأمر بالمعروف المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس. وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات. وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرنه. والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس. والمنكر ضد ذلك جميعه. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فليغيره بيده)). ((مح)): هو أمر إيجاب، وقد تطابق على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يخالف في ذلك إلا بعض الروافض، ولا يعتد بخلافهم، قال إمام الحرمين أبو المعالي: لا يكترث بخلافهم، ووجوبه بالشرع لا بالعقل، خلافا للمعتزلة. فمن وجب عليه وفعله ولم يمتثل المخاطب، فلا عتب بعد ذلك عليه؛ لكونه أدى ما عليه، وما عليه أن يقبل منه وهو فرض كفاية، ومن تمكن منه وتركه بلا عذر أثم. وقد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو. وكمن يرى زوجته أو ولد أو غلامه على منكر، قالوا: ولا يسقط عن المكلف لظنه أنه لا يفيد بل يجب عليه فعله؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وما على الرسول إلا البلاغ المبين. ولا يشترك في الآمر والناهي أن يكون كامل لحال ممتثلا ما يأمر به، ومجتنباً ما ينهى عنه، بل يجب عليه مطلقاً؛ لأن الواجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ قالوا: ولا يختص ذلك بأصحاب الولايات بل هو ثابت على آحاد المسلمين؛ فإن السلف الصالح كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع توقير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل به. ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة أو المحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوهما، فكل المسلمين عالم بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال، وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء. ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب. وينبغي للآمر والناهي أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. وأما قوله: ((فبقلبه)) فمعناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير، بل هي كراهة له؛ إذ ليس في وسعه التغيير إلا في هذا القدر. ومعنى ((أضعف الإيمان)): أقله ثمرة. قال القاضي عياض: هذا الحديث أصل في مراتب التغيير، فحق المغير أن يتغير بكل وجه أمكنه قولا كان أو فعلا، فيكسر آلات الملاهي ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر غيره به ويرفق في التغيير. اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم في الدين، به قوام الأمر وملاكه، وإذا [سد]، عم العقاب الصالح والظالم؛ قال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.

5138 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: مالك؟ قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)). رواه البخاري. 5139 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن النعمان رضي الله عنه: قوله: ((مثل المدهن)). ((حس)): المداهنة الإدهان المقارنة في الكلام والتليين؛ قال الله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} والاستهام الاقتراع وفيه إثبات القرعة في سكنى السفينة ونحوها من المنازل التي يسكنها أبناء السبيل إذا جاءوا معا، فإن سبق أحد فهو أحق به. قوله: ((فإن أخذوا على يديه)) ((نه)): يقال: أخذت على يد فلان إذا منعته عما يريد أن يفعله كأنك أمسكت يده. ويقال: نجا من الأمر إذا خلص وأنجاه غيره، والتنجية التخليص، قال تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين}. ((شف)): شبه النبي صلى الله عليه وسلم المداهن في حدود الله بالذي في أعلى السفينة، وشبه الواقع في تلك الحدود بالذي في أسفلها، وشبه انهماكه في تلك الحدود، وعدم تركه إياها بنقره أسفل السفينة، وعبر عن نهي الناهي الواقع في تلك الحدود بالأخذ على يديه، وبمنعه إياه عن النقر، وعبر عن فائدة ذلك المنع بنجاة الناهي والمنهي، وعبر عن عدم نهي النهاة بالترك، وعبر عن الذنب الخاص للمداهنين الذين ما نهوا الواقع في حدود الله بإهلاكهم إياه وأنفسهم. وكأن السفينة عبارة عن الإسلام المحيط بالفريقين. وإنما جمع فرقة النهاة إرشاداً إلى أن المسلمين لابد وأن يتعاونوا على أمثال هذا النهي فهو كالجمع. قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة ...} وأفرد الواقع في حدود الله تعالى لأدائه إلى ضد الكمال. الحديث الثالث عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((فتندلق)) ((تو)): أي تخرج خروجاً سريعاً، والاندلاق التقدم، يقال: اندلق السيف: إذا خرج من غمده من غير سل. و ((الأقتاب)) الأمعاء

فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)). متفق عليه. الفصل الثاني 5140 - عن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه ولا يستجاب لكم)). رواه الترمذي. [5140] ـــــــــــــــــــــــــــــ واحدها ((قتب)) بالكسر. وقال أبو عبيدة: ((القتب)) ما يحوي البطن وهي الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب. قوله: ((فيطحن فيها) هو على بناء الفاعل والضمير لـ ((الرجل))، وفي ((فيها)) لـ ((الأمعاء)) وفي بعض نسخ المصابيح هو على بناء المفعول. وهو خطأ: لما ورد في رواية أخرى: ((فيدور كما يدور الحمار برحاه)). ((مظ)): أي يدور في أقتابه يعني يدور حول أقتابه ويضربها برجله. أقول: قوله: ((كطحن الحمار)) من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمفعول محذوف. والباء للاستعانة. والتقدير كطحن الحمار الدقيق باستعانة الرحى، فالمشبه مركب من أمور متعددة، فيجب أن يتوهم للمشبه به تلك الأمور؛ فإن التشبيه التمثيلي يستدعي ذلك، فالمشبه في الدنيا، الرجل يدور حول رحى الأمر بالمعروف، ويتعب فيه ويكد كالحمار، وماله نصيب مما يحصل منه إلا الكد والتعب كالحمار، نحو قوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} وكذا في الآخرة يدور حول أقتابه التي شبهت بكلامه الذي خرج منه. فيدوسها برحى رجله، ويطحنها كطحن الحمار الدقيق جزاء بما كانوا يعملون. الفصل الثاني الحديث الأول عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((لتأمرون بالمعروف)) أي: والله إن أحد الأمرين كائن، إما ليكن منكم الأمر بالمعروف ونهيكم عن المنكر، أو إنزال عذاب عظيم من عند الله، ثم بعد ذلك لم يكن منكم الدعاء ومن الله الإجابة.

5141 - وعن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض من شهدها فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)). رواه أبو داود. [5141] 5142 - وعن أبي بكر الصديق [رضي الله عنه]، قال: يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه)). رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. وفي رواية أبي داود: ((إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وفي أخرى [له]: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله)). [5142] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن العرس قوله: ((من شهدها)) جواب الشرط والفاء محذوفة، كما في قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}. الحديث الثالث عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((فإني سمعت)) الفاء فيه فصيحة تدل على محذوف، كأنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتجرون على عمومها وتمتنعون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس كذلك؛ ((فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ....)) الخ. وإنما قلت: ليس كذلك؛ لأن الآية نزلت في أقوام أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فأبوا القبول كل الإباء، فذهبت أنفس المؤمنين حسرة عليهم. فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها، والمشي بها في طرق الهدى، لا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. ويشهد لذلك ما قبل هذه الآية: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول}. هذا تخصيص بحسب الأشخاص وأما بحسب الأزمان فيدل عليه الحديث الآتي لأبي ثعلبة؛ فإن العام قد يخص مرة أخرى. ((مح)): وأما قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا} الآية، فليست مخالفة لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فإذا كان كذلك مما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا فعله- ولم يمتثل المخاطب- فلا عتب بعد ذلك عليه؛ لكونه أدى ما عليه.

5143 - وعن جرير بن عبد الله، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عله ولا يغيرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا)). رواه أبو داود، وابن ماجه. [5143] 5144 - وعن أبي ثعلبة في قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}. فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعاً، ودينا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لابد لك منه؛ فعليك نفسك، ودع ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: وهذا الوجه أعم من الأول؛ لأن الأول كان له صورة مخصوصة فتعدى الحكم منه إلى ما يشابهه من الصور فعم. قوله: ((هم أكثر ممن يعمله)) يزاد بعده قوله: ((ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) وهو صفة ((قوم)) و ((إلا يوشك)) خبر ((ما)). الحديث الرابع عن جرير: قوله: ((إلا أصابهم الله منه)) الضمير فيه يجوز أن يعود إلى ((الرجل)) وإلى ((عدم التغيير)) وتكون ((من)) ابتدائية، أي بسبب شؤمه، وأن يعود إلى الله تعالى، أي عذاباً من عنده، وهذا أبلغ كقوله تعالى: {إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} وهذا الحديث مخالف للحديث الذي في المصابيح بحسب اللفظ. وكان موضعه الفصل الثالث، إلا أنه ذكره هنا؛ تنبيهاً على أن المؤلف ما وجد في الأصول كما في المصابيح. الحديث الخامس عن أبي ثعلبة رضي الله عنه: قوله: ((في قوله تعالى)) يقول الراوي: سأل أبو ثعلبة في شأن قوله تعالى: {عليكم أنفسكم} ((فقال ...)) الخ. وقوله: ((بل ائتمروا)) إضراب عن مقدر، أي: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: أما نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناء على ظاهر الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تتركوا ((بل ائتمروا بالمعروف)). قوله: ((ودنيا مؤثرة)) ((مظ)): مفعول من الإيثار وهو الاختيار، يعني يختار الناس الدنيا على الآخرة ويحرصون على جمع المال. وإعجاب كل ذي رأي، أي يجد كل أحد فعل نفسه حسنا إن كان قبيحا، ولا يرجع العلماء فيما فعل، بل يكون مفتي نفسه. قوله: ((ورأيت أمراً لابد لك منه)) يحتمل أن يكون بالباء الموحدة بمعنى لا فراق لك منه، المعنى رأيت أمرا يميل إليه هواك ونفسك من الصفات الذميمة، فإن أقمت بين الناس لا محالة

أمر العوام، فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله)). قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5144] 5145 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بعد العصر، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا ذكره، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناطر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) وذكر: ((إن لكل غادر لواءً يوم القيامة بقدر غدرته في الدنيا، ولا غدر أكبر من غدر أمير العامة، يغرز لواؤه عند استه)). قال: ((لا يمنعن أحداً منكم هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) وفي رواية: ((إن رأي منكراً أن يغيره)) فبكرى أبو سعيد وقال: قد رأيناه فمنعتنا هيبة الناس أن نتكلم فيه. ثم قال: ((ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى، فمنهم من يولد مؤمناً، ويحيى ـــــــــــــــــــــــــــــ أن تقع فيها، فعليك نفسك واعتزل عن الناس حذرا من الوقوع. وأن يكون بالياء المثناة، كما في بعض نسخ المصابيح. فالمعنى رأيت أمرا لا طاقة لك من دفعه. فعليك نفسك. ومنه حديث يأجوج: ((قد أخرجت عباداً لي ولا يدان لأحد بقتالهم)) أي لا قدرة ولا طاقة. قوله: ((ودع أمر العوام)) أي اشتغل بأمر خاصتك ودع أمر من سواك. وقوله: ((فإن وراءكم أيام الصبر)) أي أياما يحمد فيها الصبر ويفضل. ومعنى قوله: ((فمن صبر فيهن)) أي مشقة الصابر على القبائح والمحارم في تلك الأيام والصبر عليها، مثل مشقة الصابر على قبض الجمر. قوله: ((أجر خمسين منهم؟)). فيه تأويلان: أحدهما: أن يكون أجر كل واحد منهم على تقدير أنه غير مبتلي ولم يضاعف أجره. وثانيهما: أن يراد أجر خمسين منهم أجمعين لم يبتلوا ببلائه. الحديث السادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فلم يدع شيئاً)) أي ما يتعلق بأمور الدين أي مما لابد منه قوله: ((خضرة)) ((فا)): أي خضراء ناعمة، يقال: أخضر وخضر، كقولهم: أعور وعور. أقول: قوله: ((حلوة خضرة)) كناية عن كونها غرارة يفتتن الناس بلونها وطعمها وليس تحتها طائل. ((تو)): أراد بـ ((أمير العامة)) المتغلب الذي يستولي على أمور المسلمين وبلادهم، بتأمر

مؤمناً، ويموت مؤمناً؛ ومنهم من يولد كافراً، ويحيي كافراً، ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمنا، ويحيي مؤمناً، ويموت كافراً؛ ومنهم من يولد كافراً، ويحيى كافراً، ويموت مؤمناً)) قال وذكر الغضب ((فمنهم من يكون سريع الغضب، سريع الفيء، فإحداهما بالأخرى؛ ومنهم من يكون بطيء الغضب، بطيء الفي، فإحداهما بالأخرى، وخياركم من يكون بطيء الغضب سريع الفيء، وشراركم من يكون سريع الغضب بطيء الفيء)). قال: ((اتقوا الغضب؛ فإنه جمرة على قلب ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه! وحمرة عينيه! فمن أحسن بشيء من ذلك فليضطجع وليتبد بالأرض)) قال: وذكر الدين فقال: ((منكم من يكون حسن القضاء، وإذا كان له أفحش في الطلب، فإحداهما بالأخرى؛ ومنهم من يكون سيء القضاء، وإن كان له أجمل في الطلب، فإحداهما بالأخرى. وخياركم من إذا كان عليه الدين أحسن القضاء, وإن كان له أجمل في الطلب؛ وشراركم من إذا كان عليه الدين أساء القضاء، وإن كان له أفحش في الطلب)). حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان فقال: ((أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه)). رواه الترمذي. [5145] ـــــــــــــــــــــــــــــ العامة ومعاضدتهم إياه من غير مؤامرة من الخاصة وأهل العقد من أولى العلم، ومن ينضم إليهم من ذوي السابقة ووجوه الناس. وقوله: ((يعزز لواؤه عند استه)) من شأن الأمراء أن يكون لواؤهم خلفهم ليعرفوا به، ويوم القيامة يكون لكل من دعا إلى حق أو باطل لواء يعرف به. وذكر ((عند استه)) استهانة وتنبيها على أنه يلصق به ويدني منه دنواً لا يكون معه اشتباه. قوله: ((أن يقول بحق)) أي يتكلم به أو يأمر به. قال في النهاية: تجعل العرب القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام، فتقول: قال بيده أي أخذ، وقال برجله أي مشى. قوله: ((وليتلبد بالأرض)) أي ليلتزق بها حتى يسكن غضبه. وقوله: ((حتى إذا كانت الشمس)) غاية قوله: ((قام فينا خطيباً)) أي قام فلم يدع شيئاً إلا ذكره حتى إذا كانت الشمس ... الخ. وقوله: ((إذا)) هي للمستقبل و ((كانت)) ماض، وفائدة استحضار الحال الماضية في مشاهدة السامع، كقوله تعالى: {قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض}. الكشاف: هو على حكاية الماضية لقوله: ((حسين يضربون في الأرض)) وقوله: ((فيا مضى منها)) أي في جملة ما مضى منها، يعني نسبة ما بقى من أيام الدنيا إلى جملة ما مضى، كنسبة ما بقى من يومكم هذا

5146 - وعن أبي البختري، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)). رواه أبو داود. [5146] 5147 - وعن عدي بن عدي الكندي، قال: حدثنا مولى لنا أنه سمع جدي [رضي الله عنه] يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروا؛ فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة)). رواه في ((شرح السنة)) [5147] 5148 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى ما مضى منه. وقوله: ((إلا كما بقى)) مستثنى من فعال ((لم يبق))، أي لم يبق شيء من الدنيا إلا مثل ما بقى. الحديث السابع عن أبي البختري رضي الله عنه: قوله: ((حتى يعذروا)). ((قض)): قيل إنه من ((أعذر فلان)) إذا كثر ذنبه فكأنه سلب عذره بكثرة اقتراف الذنوب، أو من ((أعذر غيره)) إذا جعله معذوراً. فكأنهم أعذروا من يعاقبهم بكثرة ذنوبهم، أو من ((أعذر)) أي: صار ذا عذر. والمعنى حتى يذنبوا فيعذرون أنفسهم بتأويلات زائغة وأعذار فاسدة من قبل أنفسهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أقول: والوجه الثالث أنسب بباب المر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأن الناهي ينكر عليه ذنبه وهو يتبرأ من الذنب ويعذر لنفسه ولإقدامه عليه. الحديث الثامن عن عدي رضي الله عنه: قوله: ((العامة بعمل الخاصة)) أراد بـ ((العامة)) أكثر القوم وبـ ((الخاصة)) أقلهم، نحوه قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وقوله: ((فلا ينكروا)) عطف على قوله: ((يروا المنكر)). الحديث التاسع عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((فضرب الله قلوب بعضهم)) أي خلط. ((غب)): ضرب اللبن بعضه ببعض أي خلط. قوله: ((حتى تأطروهم)) ((فا)): الأطر العطف، ومنه إطار المنخل؛ قال طرفة: وأطر قسى تحت صلب مؤيد و ((حتى)) متعلقة بـ ((لا)) كأن قائلا قال له عند ذكر مظالم بني إسرائيل: هل تعذر في تخلية

وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، فلعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)). قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: ((لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطراً)). رواه الترمذي، وأبو داود وفي روايته قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليبلغنكم كما لعنهم)). 5148] 5149 - وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلة أسرى بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)). رواه في ((شرح السنة))، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) وفي روايته قال: ((خطباء من أمتك الذين يقولون مالا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون)). [5149] 5150 - وعن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزلت المائدة من ـــــــــــــــــــــــــــــ الظالمين وشأنهم؟ فقال: لا حتى تأطروهم وتأخذوا على أيديهم، أي لا تعذرون حتى تجبروا الظالم على الإذعان للحق وإعطاء النصفة للمظلوم، واليمين معترضة بين ((لا)) و ((حتى)) وليست إلا هذه بتلك التي يجيء بها المقسم تأكيداً لقسمه. قوله: ((لتقصرونه)) ((نه)): القصر: الحبس، يقال: قصرت نفسي على الشيء إذا حبستها عليه وألزمتها. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه قوله: ((الذين يقولون)) بدل من قوله: ((خطباء)) ويجوز أن يكون صفة له؛ لأنه لا توقيت فيه على عكس قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ويجوز أن يكون منصوباً على الذم، وهو الأوجه يتفطن لذلك من رزق الذهن السليم والطبع المستقيم. الحديث الحادي عشر عن عمار رضي الله عنه: قوله: ((المائدة من السماء)). ((غب)): المائدة الطبق الذي عليه الطعام، ويقال لكل واحد منها مائدة. انتهى كلامه. وقوله: ((خبزاً ولحماً))

السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير)). رواه الترمذي. [5150] الفصل الثالث 5151 - عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه تصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله، فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبقت له السوابق؛ ورجل عرف دين الله، فصدق به، ورجل عرف دين الله فسكت عليه، فإن رأي من يعمل الخير أحبه عليه، وإن رأي من يعمل بباطل أبغضه عليه، فذلك ينجو على إبطانه كله)). ـــــــــــــــــــــــــــــ تمييز نحو قوله: [راقود خلا]. وقوله: ((قردة وخنازير)) حالان مقدرتان. كقوله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتا} الفصل الثالث الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((لا ينجو منه)) الضمير يجوز أن يعود إلى ((السلطان)) أو يحمل على أنه واقع موقع اسم الإشارة، ويعود إلى (شدائد)) باعتبار المذكور، أو المنكر وهو الشدائد. وقوله: ((لا ينجو)) على الأول استئناف، وعلى الثاني صفة قوله: ((شدائد)). ((السوابق)) جمع سابقة وهي الخصلة المفضلة إما السعادة وإما البشرى بالثواب من عند الله، وإما التوفيق للطاعة كقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى}. وقوله: ((عرف دين الله فجاهد عليه ...)) إلى آخر الحديث هو من باب التقسيم الحاصر؛ لأن الناهي عن المنكر إما سابق وإما مقتصد أو دونهما. فالفاءات في قوله: ((فجاهد، فصدق، فسكت)) مسببات عن العرفان، فمعنى الأول: من عرف دين الله حق معرفته وتصلب في دينه فبذل جهده في المجاهدة بلسانه ويده وقلبه. ومعنى الثالث: من عرف دين الله أدنى معرفة سكت، فلم يجهد فيه إلا على قدر إيمانه. وذلك بالكراهة بالقلب. وهو المراد من قوله في الحديث الآخر: ((وذلك أضعف الإيمان)) فيبقى قوله: ((فصدق به)) في درجة المقتصد فينبغي أن يفسر بما هو دون الأولى وفوق الثالثة، وهو أن يجاهد بلسانه وقلبه. والتصديق يستعمل حقيقة في اللسان مجازا في العمل، فتصديقه هنا معبر عن دفع المنكر بلسانه وقلبه. وقوله: ((على إبطانه كله)) أي إبطان محبة الخير في قلبه. وإبطان بغض الباطل في قلبه.

5152 - وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها قال: يا رب! إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين)). قال: ((فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط)). [5152] 5153 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يسأل العبد يوم القيامة، فيقول: ما لك إذا رأيت المنكر فلم تنكره؟)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيلقى حجته، فيقول: يا رب! خفت الناس ورجوتك)) روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [5153] 5154 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده إن المعروف والمنكر خليقتان، تنصبان للناس يوم القيامة، فأما المعروف فيبشر أصحابه ويوعدهم الخير، وأما المنكر فيقول: إليكم إليكم؛ وما يستطيعون له إلا لزوما)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((اقلب)) أمر و ((أن)) مفسرة لما في ((أوحى)) من معنى القول. قوله: ((لم يتمعر)) ((نه)) أي لم يتغير، وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون، من قولهم: مكان أمعر وهو الجدب الذي لا خصب فيه. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فيلقى حجته)). ((نه)): أي يتعلم ويتواصى بها ويتنبه عليها، كقوله تعالى: {وما يلقاها إلا الصابرون}. قوله: ((خفت الناس)). قال البيهقي: يحتمل أن يكون هذا فيمن يخاف سطوتهم وهو لا يستطيع دفعها عن نفسه. الحديث الرابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((خليقتان)) أي مخلوقتان. قوله: ((وما يستطيعون له)) يعني يبعدهم المنكر عن نفسه وهم لا يقدرون أن يفارقون والله أعلم بالصواب.

كتاب الرقاق

كتاب الرقاق الفصل الأول 5155 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب الرقاق ((غب)): الرقة كالدقة لكن الدقة تقال اعتبارا لمراعاة جوانبه، والرقة اعتبارا بعمقه، يقال فلان رقيق القلب وقاسي القلب. ((مظ)): الرقاق جمع رقيق، وهو الذي فيه رقه. سميت هذه الأحاديث رقاقاً؛ لأن في كل حديث من الوعظ والتنبيه ما يجعل القلب رقيقاً، ويحدث في القلب رقة. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((نعمتان)). ((غب)): النعمة الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة. قال الإمام فخر الدين الرازي: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. ((غب)): الغبن أن تبخص صاحبك في معاملة بينك وبينه من الإخفاء. فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان، وإن كان في رأي يقال: غبن. الجوهري: الغبن بالتسكين في البيع والتحريك في الرأي. يقال: غبنته في الربيع بالفتح أي خدعته، وقد غبن فهو مغبون، وغبن رأيه بالكسر إذا نقضته، فهو غبين الرأي أي ضعيف الرأي. أقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثلا للمكلف بالتاجر الذي له رأس مال، وهو يبيع ويشتري ويطلب من تجارته سلامة رأس المال والربح، فالواجب عليه أن يتحرى فيها من يعامله، ويكون صدوقاً غير مخادع لئلا يغبنه في معاملته. فنعمتا الفراغ والصحة رأس مال المكلف، فينبغي له أن يعامل الله تعالى بالإيمان بالله ورسوله، والمجاهدة مع النفس وأعداء الدين؛ لئلا يغبن ويربح في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} ويجتنب معاملة الشيطان لشلا يغبن فيضيع رأس ماله مع الربح.

5156 - وعن المستورد بن شداد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع؟)). رواه مسلم. 5157 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت. قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء. قال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)). رواه مسلم. 5158 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} والشكر كما علمت في إزاء النعمة. وشكر العباد لله تعالى عبارة عن آداب الجوارح في طاعته وتحرى مراضيه بقلبه. والنداء على التحميد بلسانه وبناء المبالغة في الشكور ينبئ عن هذه الأقسام. والله أعلم. الحديث الثاني عن المستورد رضي الله عنه: قوله: ((ما الدنيا في الآخرة)) أي مثل الدنيا في جنب الآخرة. قوله (فلينظر بم يرجع)) وضع موضع قوله: فلا يرجع بشيء، كأنه صلى الله عليه وسلم يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع ثم يأمره بالتأمل والتفكر هل يرجع بشيء أم لا؟ هذا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فأين المناسبة بين المتناهي وغير المتناهي؟ الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الأسك)) الأسك الصغير الأذن، ويقال للذي لا أذن له. قوله: ((أيكم يحب؟)) في هذا الاستفهام إرشاد منه صلى الله عليه وسلم وتنبيه، ينبههم صلى الله عليه وسلم على إلقاء السمع للخطاب الخطير، وشهود القلب لما يعني به من الخطب الجليل؛ وهو هوان الدنيا ليوطن ذلك في قلوبهم مزيد توطين، ويقرره تقريراً بعد تقرير وهو على منوال قوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدنيا سجن المؤمن)). ((فا)): أراد أن الدنيا للمؤمن كالسجن في جنب ما أعد له من المثوبة، وللكافر كالجنة في جنب ما أعدله من العقوبة. وقيل: إن المؤمن غرب نفسه عن الملاذ وأخذها بالشدائد، فكأنه في السجن، والكافر [روحها] في الشهوات فهي له كالجنة، انتهى كلامه. ولما مات داود الطائي، سمع هاتفا يهتف: أطلق داود من السجن.

5159 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها الله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها)). رواه مسلم. 5160 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)). متفق عليه. إلا أن عند مسلم: ((حفت)). بدل: ((حجبت)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي: إن السجن والخروج منه يتعاقبان على قب العبد المؤمن على توالي الساعات ومرور الأوقات؛ لأن النفس كلما ظهرت بصفاتها أظلم الوقت على القلب حتى ضاق وانكمد، وهل السجن إلا تضييق وحجر من الخروج والولوج. فكلما هم القلب بالتبرز عن مشائم الأهواء الدنيوية والتخلص عن قيود الشهوات العاجلة؛ تسببا إلى الآجلة، وتنزها في قضاء الملكوت ومشاهدة للجمالة الأزلي، حجزه الشيطان المردود عن هذا الباب المطرود بالاحتجاب، فتدلى بحبل النفس الأمارة إليه فكدر صفو العيش عليه، وحال بينه وبين محبوب طبعه. وهذا من أعظم السجون وأضيقها؛ فإن من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه؛ ولهذا المعنى أخبر الله تعالى عن جماعة من الصحابة، حيث تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، فقال تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بم رحبت} الآية. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يظلم مؤمنا حسنة)) ((حس)): لا يظلم ولا ينقص، وهو متعدي إلى مفعولين: أحدهما ((مؤمنا)) والآخر ((حسنة)). ومعناه: أن المؤمن إذا اكتسب حسنة، يكافئه الله تعالى بأن يوسع عله رزقه ويرغد عيشه في الدنيا، وبأن يجزى ويثيب في الآخرة. والكافر إذا اكتسب حسنة في الدنيا، بأن يفك أسير أو ينقذ غريقا، يكافئه الله تعالى في الدنيا ولا يجزيه في الآخرة. أقول: الباء في قوله: ((يعطي بها)) إن حملت على السببية فتحتاج إلى مقدر، أي يعطى بسببها حسنة، وإن حملت على البدل فلا. وأما الباء في ((يجزى بها)) فهي للسببية. واعلم أن ((أما)) التفصيلية تقتضي التعدد لفظاً أو تقديراً. وقرينتها هاهنا الكلام السابق، والقرينتان واردتان على التقابل، فيقدر في كل من القرينتين ما يقابل الأخرى، ذكر في القرينة الثانية أن الكافر إذا صدرت منه حسنة يستوفي أجرها بكمالها في الدنيا، حتى لا يكون له نصيب في الآخرة قط. والمؤمن بخلافه إنما يجزى الجزاء الأوفي في الآخرة؛ ولذلك قيل:

5161 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، أن أعطي رضى، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن ـــــــــــــــــــــــــــــ ((يجزى بها في الآخرة)) مصرحا، وما يناله في الدنيا من رغد العيش المشار إليه بقوله تعالى: {فلنحينه حياة طيبة} فهو فضل وحسان من الله تعالى؛ ولذلك قيل: ((يعطى بها)) ولم يقل: ((يجزى بها)). وتحرير المعنى أن الله تعالى لا يظلم أحدا عمل حسنة، فأما المؤمن فيجزيه في الآخرة الجزاء الأوفي، ويفضل عليه في الدنيا. وأما الكافر فيجزيه في الدنيا الجزاء الأوفي وماله في الآخرة من نصيب. وإليه ينظر قوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب}. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حجبت النار)) ((مح)): معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار إلا بارتكاب الشهوات؛ ولذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات. وأم المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك. وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والغيبة ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذا. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تعس)) ((نه)) تعس يتعس إذا عثر وانكب بوجهه، وقد تفتح العين وهو دعاء عليه بالهلاك ((وانتكس)) أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة، لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر. وإذا شيك أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش. و ((الخميصة)) ثوب خز أو ثوب صوف معلم. وقيل: لا يسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديماً، وجمعها الخمائص، انتهى كلامه. قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا خلاص له عن أسره. ولم يقل: مالك الدينار أو جامع الدينار؛ لأن المذموم من الدنيا الزيادة على قدر الحاجة لا قدر الحاجة. وقوله: ((إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط)) يؤذن بشدة حرصه في جمع الدنيا، وطمعه فيما في أيدي الناس. وفي قوله: ((تعس وانتكس)) صيغة الترديد مع الترقي. أعاد ((تعس)) الذي هو الانكباب على الوجه، ليضم معه الانتكاس الذي هو الانقلاب على الرأس؛ ليترقى في الدعاء عليه من الأهون إلى الأغلط. ثم ترقى منه إلى قوله: ((وإذا شيك فلا انتقش)) على معنى

كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)). رواه البخاري. 5162 - وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفت عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)). فقال رجل: يا رسول الله! ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه إذا وقع في البلاء فلا يترحم عليه، فإن من وقع في البلاء إذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ويتسلى بض التسلي، وهؤلاء بخلافه بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء وشماتتهم. وإنما خص انتقاش الشوك بالذكر؛ لأن الانتقاش أسهل ما يتصور من المعاونة لمن أصابه مكروه، فإذا نفي ذلك الأهون. فيكون ما فوق ذلك منفياً بالطريق الأولى. وقوله: ((أشعث)) و ((مغبرة)) حالان من الضمير في ((آخذ)) لاعتماده على الموصوف، ويجوز أن يكون حالين من ((العبد)) لأنه موصوف. قوله: ((إن كان في الحراسة)) ((تو)): أراد بالحراسة حراسة من العدو أن يهجم عليهم. وذلك يكون في مقدمة الجيش. و ((الساقة)) مؤخرة الجيش. والمعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكبر آفة، الأول عند دخولهم دار الحرب والآخر عند خروجهم منها. قيل: قوله: ((إن استأذن لم يؤذن له)) إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأنهابها بحيث يعني بكليته في نفسه لا يبتغي مالا ولا جاها عن الناس، بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته وعند الله يكون شفيعا مشفعا. أقول: قد تقرر في علم المعاني: أن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على فخامة الجزاء وكماله، والشريطتان مؤكدتان للمعنى السابق؛ فإن قوله: ((آخذ بعنان فرسه)) يدل على اهتمامه بشأن ما هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وليس له هم سواه لا الدرهم والدينار بله نفسه، فتراه أشعث رأسه مغبرة قدماه. فإذا كان في الحراسة يبذل جهده فيها لا يفتر عنها بالنوم والغفلة ونحوهما؛ لأنه ترك نصيبه من الراحة والدعة. وإن كان في ساقة الجيش لا يخاف الانقطاع ولا يهتم إلى السبق، بل يلازم ما هو لأجله. فعلى هذا هذه القرينة إلى آخرها جاءت مقابلة للقرينة الأولى، فدلت الأولى على اهتمام صاحبها بعيش العاجلة، والثانية على اهتمام صاحبها بعيش الآجلة؛ ولذلك صح في الحديث السابق في كتاب الجهاد: ((من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على (متنه))) الحديث. الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من زهرة الدنيا))، ((فا)): أي حسنها وبهجتها وكثرة خيرها و ((الرحضاء)) هي عرق الحمى، كأنها ترحض الجسد أي تغسله. ((نه)): الحبط بالتحريك الهلاك، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا،

أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت، حتى ظننا أنه ينزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء وقال: ((أين السائل؟)). وكأنه حمده فقال: ((إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر أكلت حتى امتدت خاصرتاها، استقبلت ـــــــــــــــــــــــــــــ فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت. وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية. و ((يلم)) أي تقرب وتدنو من الهلاك. و ((الخضر)) بكسر الضاد نوع من القبول، ليس من أحرارها وجيدها، وإنما يرعاها المواشي إذا لم تجد سواها، فلا تكثر من أكلها ولا تستمرئ بها. و ((الثلط)) الرجيع الرقيق. وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة. ((قض)): و ((آكلة)) نصب على أنه مفعول ((يقتل)) والاستثناء مفرغ، والأصل أن مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكل الخضر على هذا الوجه. وإنما صح الاستثناء المفرغ من المثبت لقصد التعميم فيه، ونظيره قرأت إلا يوم كذا. أقول: وعليه ظاهر كلام المظهر، والأظهر أن الاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت وهو غير جائز عند صاحب الكشاف إلا بالتأويل؛ ولأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع لدلالة ((من)) التبعيضية عليه، والتقسيم في قوله: ((إلا آكلة الخضر)) لأن الخضر غير ما يقتل حبطاً، يشهد له ما في شرح السنة. قال الأزهري: فيه مثلان: ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، وضرب الآخر للمقتصد في أخذها والانتفاع بها، وأما قوله: ((إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا)) فهو مثل للمفرط الذي يأخذها بغير حق. وذلك أن الربيع مما ينبت أحرار الشعب فتستكثر منه الماشية حتى تنتفخ بطونها، لما قد جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه، يهلك في الآخرة بدخول النار. وأما مثل المقتصد فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا آكلة الخضر)) وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول التي ينبتها الربيع فتستكثر منها الماشية، ولكنها من كلأ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول شيئاً فشيئاً من غير استكثار. فضرب مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها. ((شف)): في قوله: ((حتى امتدت خاصرتها، استقبلت عين شمس)) أن المقتصد المحمود العاقبة، وإن جاوز حد الاقتصاد في بعض الأحيان، وقرب من السرف المذموم لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان. وهو المعني بقوله: ((أكلت حتى امتدت خاصرتاها)) لكنه يرجع عن قريب عن ذلك الحد المذموم، ولا يثبت عليه بل يلتجئ إلى الدلائل النيرة والبراهين الواضحة الدافعة للحرص المهلك القامعة له، وهو المدلول عليه بقوله: ((استقبلت عين شمس وثلطت

عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وبالت)) فحذف ما حذف في المرة الثانية لدلالة ما قبلها عليه. وفيه إرشاد إلى أن المحمود العاقبة وإن تكرر منه الخروج عن حد الاقتصاد والقرب من حد الإسراف مرة بعد أولى وثانية بعد أخرى لغلبة الشهوة عليه وقوتها فيه، لكنه يمكن أن يبعد بمشيئة الله تعالى عن الحد المذموم الذي هو الإسراف، ويقرب من الاقتصاد الذي هو الحد المحمود. أقول: فعلى هذا الاستثناء متصل، لكن يجب التأويل في المستثنى، المعنى أن من جملة ما ينبت الربيع شيئاً يقتل آكله إلا الخضر منه، إذا اقتصد فيه آكله ودفع ما يؤديه إلى الهلاك. قوله: ((إن هذا المال خضرة حلوة))، ((تو)): كذلك ترويه من كتاب البخاري على التأنيث، وقد روى أيضاً ((خضر حلو)) والوجه فيه أن يقال: إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به، أي إن هذا المال شيء كالخضرة. وقيل: معناه كالبقلة الخضرة، أو يكون على معنى فائدة المال، أي إن الحياة به أو العيشة خضرة. أقول: ويمكن أن يعبر عن لمال بالدنيا، لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا. لقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} فيوافق حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم)) على ما مر في الباب السابق. ثم الحديث يستدعي فضل تقرير وتحرير، فالاستفهام في قولهم ((أو يأتي الخير بالشر)) استرشاد منهم؛ ومن ثم حمد صلى الله عليه وسلم السائل. والباء في ((بالشر)) صلة ((يأتي)) يعني هل يستجلب الخير الشر؟. وجوابه صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي الخير بالشر)) معناه: لا يأتي الخير بالشرـ لكن قد يكون سبباً له ومؤدياً إليه؛ فإن الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ فهي كلها خير في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل الآكل، فمن آكل مستلذ مفرط منهمك فيها. بحيث تنتفخ فيه أضلاعه وتمتلئ خاصرتاه ولا تقلع عنه فيهلكه سريعا. ومن آكل كذا فيشرفه إلى الهلاك، ومن آكل مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه، لكنه يتوخى إزالة ذلك ويتحيل في دفع مضرتها حتى ينهضم ما أكل، ومن آكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسد جوعته، ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه. الأول مثل الكافر؛ ومن ثمة أكد القتل بالحبط أي يقتل قتلا حبطا، والكافر هو الذي يحبط

5163 - وعن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أعماله. والثاني مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي. والثالث مثال المقتصد. والرابع مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، كما قال: ((من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا)) وهذا الوجه يفهم من الحديث وإن لم يصرح به، وفي كلام الشيخ محيي الدين إشعار بهذا التقسيم. قوله: ((فمن أخذه بحقه)) أي باحتياجه وحله ووضعه في حقه بأن أخرج منه حقه الواجب فيه شرعا كالزكاة، فنعم المعين هو لصاحبه، يبلغ به الخير وينجو به من الشر. قال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم يافع، فإن أصابها المغرم الذي يعرف وجه الاحتراز عن شرها وطريق استخراج ترياقها النافع، كانت نعمة. وإن أصابها السوادي الغبي فهي عليه بلاء مهلك، انتهى كلامه. وقوله: ((كالذي يأكل ولا يشبع)) ذكر في مقابلة قوله: ((فنعم المعونة)) ومعناه: أن أخذ المال بغير حقه بأن جمعه من الحرام ومن غير احتياج إليه، ولم يخرج منه حقه الواجب فيه، فيكون ذلك وبالا عليه لا معونة له، فيصير كالداء العضال الذي يهلك صاحبه وهو الحرص الباعث على من به جوع كالكلب، فإن مصيره إلى الهلاك. وقوله: ((ويكون شهيداً عليه)) أي حجة عليه يوم القيامة يشهد على حرصه وإسرافه، وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى ولم يؤد حقوقه. الحديث التاسع عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((ولكن أخشى عليكم)). فإن قلت: ما الفائدة في تقديم المفعول في القرينة الأولى دون الثانية؟ قلت: فائدته الاهتمام بشأن الفقر؛ لأن الأب المشفق إذا احتضر إنما يكون اهتمامه بشأن الولد ضياعه، وإعدامه المال، كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: حالي معكم خلاف حال الولد؛ فإني لا أخشى الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن خوفي من الغنى الذي هو مطلوب الوالد للولد. ثم التعريف في الفقر إما أن يكون للعهد، فهو الفقر الذي كانت الصحابة عليه من الإعدام والقلة، والبسط هو ما يبسط الله تعالى عليهم من فتح البلاد. وإما للجنس وهو الفقر الذي يعرفه كل أحد ما هو، والبسط الذي يعرفه كل أحد، ونظيره ما فسر به قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا}.

5164 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)). وفي رواية: ((كفافاً)). متفق عليه. 5165 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): التنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه. ونافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه، ونفس بالضم نفاسه أي صار مرغوباً فيه، ونفست به الكسر أي بخلت به. انتهى كلامه. وحذف إحدى التائين من قوله: ((فتنافسوها)) تخفيفاً والضمير في ((تنافسوها)) منصوب بنزع الخافض، وأصله تنافسوا فيها، ومعناه: ترغبون فيها فتشتغلون بجمعها أو تحرصون على إمساكها فتطغون فيها فتهلكون؛ قال الله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} ويحتمل أن يكون هلاكهم من أجل أن المال مرغوب فيه فيطمع الناس فيه، ويتوقعون منه فمنعه منهم، فتقع العداوة بينهم ويفضي ذلك إلى المقاتلة. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كفافاً))، ((نه)): الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه. أقول: هذه الرواية مفسرة للرواية الأولى؛ لأن القوت ما يسد به الرمق. قيل: سمي قوتا لحصول القوة منه، سلك صلى الله عليه وسلم طريق الاقتصاد المحمود، فإن كثرة المال تلهي وقلته تنسي، فما قل منه وكفي خير مما كثر وألهى. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إرشاد لأمته كل الإرشاد إلى أن الزيادة على الكفاف، لا ينبغي أن يتعب الرجل في طلبه؛ لأنه لا خير فيه. وحكم الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمنهم من يعتاد قلة الأكل، حتى إنه يأكل في كل أسبوع مرة، فكفافه وقوته تلك المرة في كل أسبوع. ومنهم من يعتاد الأكل في كل يوم مرة أو مرتين فكفافة ذلك أيضاً؛ لأنه إن ترك أضره ذلك ولم يقو على الطاعة. ومنهم من يكون كثير العيال فكفافه ما يسد رمق عياله. ومنهم من يقل عياله فلا يحتاج إلى طلب الزيادة وكثرة الاشتغال. فإذن قدر الكفاف غير مقدار ومقداره غير معين، إلا أن المحمود ما به القوة على الطاعة والاشتغال به على قدر الحاجة. الحديث الحادي عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((قنعه الله)) قيل: أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزيادة لمعرفته، بأن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له.

5166 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول العبد: مالي مالي. وإن ما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)). رواه مسلم. 5167 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتبع الميت ثلاثة: فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: الفلاح هو الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما. والمراد بالرزق الحلال منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح. وذكر أمرين وقيد الثاني بـ ((قنع)) ي رزق كفافا وقنعه الله بالكفاف فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول: ليشتمل جميع ما هو الإسلام متناول له، كما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أسلم قال أسلمت لرب العالمين}. ((غب)): والإسلام في الشرع على ضربين: أحدهما: دون الإيمان وهو الاعتراف باللسان، وبه يحقن الدم حصل معه الاعتقاد أو يحصل. والثاني: فوق الإيمان وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل، واستسلام لله تعالى في جميع ما قضى وقدر كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} انتهى كلامه. والحديث كما ترى جامع للحسنيين حاو لنعمة الدارين، فحقيق بأنه قال: إنه من الجوامع. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وإن ما له من ماله)) ما)) الأولى موصولة و ((له)) صلته و ((من ماله)) متعلق بالصلة، و ((ثلاث)) خبر، وإنما أنثه على تأويل المنافع. و ((اقتنى)) أي أعطى الله تعالى وتصدق به فيكون ذخيرة له ليوم القيامة؛ قال تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}. الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يتبعه أهله وماله)) ((مظ)): أراد بعض ماله وهو مماليكه. أقول: متابعة الأهل على الحقيقة. وأما متابعة المال والعمل فعلى الاتساع؛ فإن المال حينئذ له نوع تعلق بالميت، من التجهيز والتكفين ومؤنة الغسل والحمل والدفن، فإذا دفن انقطاع تعلقه بالكلية.

5168 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)) قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: ((فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)). رواه البخاري. 5169 - وعن مطرف، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهكم التكاثر} قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي)). قال: ((وهل لك يا ابن آدم! إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)). رواه مسلم. 5170 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)). متفق عليه. الفصل الثاني 5171 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ عني هؤلاء ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عشر عن مطرف رضي الله عنه: قوله: ((فأمضيت)) قيل: فأمضيته من الإفناء والإبلاء، وبقيته لنفسك تجده يوم القيامة، قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجرا}. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن كثرة العرض)) ((نه)): العرض- بالتحريك- متاع الدنيا وحطامها. انتهى كلامه. و ((عن)) هذه مثلها في قوله تعالى: ((فأزلهما الشيطان عنها)) الكشاف: أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، وتحقيقه، فأصدر الشيطان زلتهما عنه. ((شف)): المراد بغنى النفس القناعة، ويمكن أن يراد به ما يسد الحاجة؛ قال الشاعر: غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا أقول: ويمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وأنشد أبو الطيب في معناه: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر يعني ينبغي أن ينفق ساعاته وأوقاته في الغنى الحقيق، وهو طلب الكمالات ليزيد غنى بعد غنى، لا في المال لأنه فقر بعد فقر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أو يعلم)) ((أو)) بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: {عذراً أو نذرا}.

الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟)) قلت: أنا يا رسول الله! فأخذ بيدي فعد خمساً، فقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5171] 5172 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك)) رواه أحمد، وابن ماجه. [5172] 5173 - وعن جابر، قال: ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد، وذكر آخر برعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تعدل بالرعة)) يعني الورع. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ((وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا)) من قوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن جاره بوائقه)) وقوله: ((أحب الناس)) من قوله: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تفرغ لعبادتي)) أي تفرغ من مهامك لعبادتي حتى أقضي مهامك، ومن كان الله تعالى قاضياً لمهامه يستغنى به عن خلقه؛ لأنه الغني على الإطلاق، وهو المعنى بقوله: ((أملأ صدرك غنى، وإن لم تتفرغ، واشتغلت بغيري لم أسد فقرك؛ لأن الخلق فقراء على الإطلاق، فيزيد فقرك على فقرك وهو المراد بقوله: ((ملأت يدك شغلاً)) فاليد عبارة عن سائر جوارحه؛ لأن معظم الكسب إنما يتأتى من اليد. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا تعدل)). ((مظ)): ((لا تعدل)) يجوز أن يكون نهي المخاطب المذكر مجزوم اللام، يعني لا تقابل شيئاً بالرعة، وهي- بكسر الراء وتخفيف العين- ((الورع)) التقى؛ فإن الورع أفضل من كل خصلة. ويجوز أن يكون خبراً منفياً بضم التاء وفتح الدال، أي لا تقابل خصلة بالورع فإنها أفضل الخصال. ((غب)): الورع في عرف الشرع عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا، وذلك ثلاثة أضرب: واجب: وهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة. وندب: وهو الوقوف على

5174 - وعن عمرو بن ميمون الأودي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمساً: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) رواه الترمذي مرسلا. [5174] 5175 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينتظر أحدكم إلا غني مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)) رواه الترمذي، والنسائي. [5175] ـــــــــــــــــــــــــــــ الشبهات، وذلك للأوساط. وفضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين. انتهى كلامه. وقد ألحق في بعض نسخ المصابيح بعد قوله: ((لا تعدل بالرعة)) قوله: ((شيئاً)) وليس في جامع الترمذي وأكثر نسخ المصابيح عنه أثر. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما ينتظر أحدكم)) استبطاء لمن تفرغ لأمر وهو لا يغتنم الفرصة فيه. قيل: معنى الحديث: الرجل في الدنيا ينتظر إحدى الحالات لمذكورة فالسعيد من انتهز الفرصة واغتنم المكنة واستغل بأداء مفترضه ومسنونه قبل حلول مرضه. ((نه)): الفند في الأصل الكذب، وأفند: تكلم بالفند. ((فا)): قالوا للشيخ إذا هرم: قد أفند؛ لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة. فشبه بالكاذب في تحريفه. والهرم المفند من أخوات قولهم: نهاره صائم، جعل الفند للهرم وهو للهرم. ويقال أيضاً: أفنده الهرم وأفنده الشيخ. وفي كتاب العين: شيخ مفند يعني منسوب إلى الفند. ولا يقال: امرأة مفندة؛ لأنها لا تكون في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها. ((تو)): ((مفند)) الرواية فيه بالتخفيف، ومن شدده فليس بمصيب. أقول: إن كان بطريق الرواية فلا نزاع، وإن كان بطريق الدراية ففيه نزاع؛ إذ لا يبعد حمله على الإسناد المجازي، كأن الهرم يحمل من رأي صاحبه وأن ينسبه إلى الفند، نحو قولهم: ناقة ضبوث. قال في أساس البلاغة: ضبث الشيء وضبث عليه إذا قبض عليه وحبسه، ومن المجاز ناقة ضبوث، شك في سمنها فضبثت. وإنما جعلت ضابثة لما بها من الداعي إلى الضبث ومنه قول الشاعر: إذا ردعا في القدر من يستعيرها

5176 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم)). [5176] رواه الترمذي، وابن ماجه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): ((المجهز)) هو السريع يقال: أجهز على الجريح يجهز إذا أسرع قتله. ((قض)): الموت المجهز المسرع يريد به الفجاءة ونحوها مما لم يكن بسبب مرض أو كبر سن، كقتل وغرق وهدم. ((والساعة أدهى)) أي أشد الدواهي وأفظعها من قولهم: دهته الداهية وهو الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه، وأمر من جميع ما يكابده الإنسان في الدنيا من الشدائد لمن غفل عن أمرها، ولم يعد ها قبل حلولها. قوله: ((فالدجال)) الفاء تفسيريه؛ لأنه فسر ما أبهم فيما سبق. والواو في ((والساعة)) نائبة مناب الفاء لملابسة العطف. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وما والاه)) ((مظ)): أي يحبه الله في الدنيا. والموالاة المحبة بين اثنين. وقد تكون من واحد وهو المراد هاهنا، يعني ملعون ما في الدنيا إلا ذكر الله وما أحبه الله مما يجري في الدنيا، وما سواه ملعون. ((شف)): هو من الموالاة وهي المتابعة. ويجوز أن يراد بما يوالي ذكر الله تعالى، طاعته وإتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن ذكر الله يقتضي ذلك. وقوله: ((وعالم أو متعلم)) في أكثر النسخ مرفوع واللهجة العربية تقتضي أن يكون عطفاً على ((ذكر الله)) فإنه منصوب مستثنى من الموجب. أقول: هو في جامع الترمذي هكذا: ((وما والاه وعالم أو متعلم)) بالرفع. وكذا في جامع الأصول إلا أن بدل ((أو)) فيه ((الواو)). وفي سنن ابن ماجه: ((أو عالما أو متعلما)) بالنصب مع ((أو)) مكررا. والنصب في القرائن الثلاث هو الظاهر، والرفع فيها على التأويل. كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد مما فيها إلا ذكر الله تعالى وعالم أو متعلم. ونظيره قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم} الكشاف: ضمن ((حافظون)) معنى النفي كما ضمن في فعلت، يعني ما طلبت منك إلا فعلت. قال في مختصر الإحياء: الدنيا أدنى المنزلتين؛ ولذلك سميت دنيا، وهي معبرة إلى الآخرة. والمهد هو الميل الأول واللحد هو الميل الثاني، وبينهما مسافة هي القنطرة. وهي عبارة عن أعيان موجودة، للإنسان فيها حظ، وله في إصلاحها شغل. ويعني بـ ((الأعيان)) الأرض وما عليها من النبات والحيوان والمعادن. ويعني بالحظ حبها فيندرج فيه جميع المهلكات الباطنة كالرياء والحقد وغيرهما، ونعني بقولنا: له في إصلاحها شغل، أنه يصلحها

5177 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5177] 5178 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5178] ـــــــــــــــــــــــــــــ لحظ له أو لغيره دنيوي أو أخروي، فتندرج فيه الحرف والصناعات. وإذا عرفت حقيقة الدنيا فدنياك ومالك، فيه لذة في العاجل. وهي مذمومة فليست وسائل العبادات من الدنيا كأكل الخبز مثلا للتقوى عليها. وإليها الإشارة بكون الدنيا مزرعة الآخرة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ما كان لله منها)). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن وجزء للمنافق وجزء للكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكفار يتمتع. أقول: كان من حق الظاهر أن يكتفي بقوله: ((وما والاه)) لاحتوائه على جميع الخيرات والفاضلات ومستحسنات الشرع [ثم بينه] في المرتبة الثانية بقوله: ((والعلم)) تخصيصاً بعد التعميم دلالة على فضله، فعدل إلى قوله: ((وعالم أو متعلم)) تفخيماً لشأنهما صريحاً، بخلاف ذلك التركيب؛ فإن دلالته عليه بالالتزام، وليؤذن أن جميع الناس سوى العالم والمتعلم همج، ولينبه على أن المعنى بالعالم والمتعلم العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل فيخرج منه الجهلاء والعالم الذي لا يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين. وفي الحديث أن ذكر الله تعالى رأس كل عبادة ورأس كل سعادة، بل هو كالحياة للأبدان والروح للإنسان. وهل للإنسان عن الحياة غنى؟ وهل له عن الروح معدل؟ وإن شئت قلت: به بقاء الدنيا وقيام السموات والأرض؛ روينا عن مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله)) فالحديث إذن من كنوز الحكم وجوامع الكلم التي خص بها هذا النبي المكرم صلوات الله على قائلها، لأنه دل بالمنطوق على جميع الخصال الحميدة وبالمفهوم على جميع رذائلها. الحديث السادس عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((جناح بعوضة)) مثل للقلة والحقارة، أي لو كان لها أدنى قدر ما متع الكافر منها أدنى تمتع. الحديث السابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لا تتخذوا الضيعة))، ((نه)): ((الضيعة))

5179 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5179] 5180 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن عبد الدينار، ولعن عبد الدرهم)) رواه الترمذي. [5180] 5181 - وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان ـــــــــــــــــــــــــــــ في الأصل المرة من الضياع. وضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك. انتهى كلامه. والمعنى لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فتتلوها به عن ذكر الله، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة}. الحديث الثامن عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((أضر بآخرته)) الباء فيه للتعدية، وكذا في القرينة الأخرى، أي هما ككفتي ميزان، فإذا رجحت إحدى الكفتين خفت الأخرى وبالعكس؛ وذلك أن محبة الدنيا سبب لاشتغاله بها والانهماك فيها، وذلك سبب الاشتغال عن الآخرة فيخلو عن الذكر والفكر والطاعة، فيفوت الفوز بدرجاتها وثوابها وهو عين المضرة سوى ما يقاسيه من الخوف والحزن والغم والهم والتعب، في دفع الفساد وتجشم المصاعب في حفظ الأموال وكسبها. الحديث التاسع والعاشر عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((ما ذئبان جائعان)) ((ما)) بمعنى ليس، و ((ذئبان)) اسمها ((وجائعان)) صفة له، و ((أرسلا في غنم)) الجملة في محل الرفع على أنها صفة بعد صفة، وقوله: ((بأفسد)) خبر لـ ((ما)) والباء زائدة، وهو أفعل التفصيل أي بأشد إفساد، والضمير في ((لها)) لـ ((الغنم))، واعتبر فيه الجنسية؛ فلهذا أنث، وقوله: ((من حرص المرء)) هو المفضل عليه لاسم التفضيل، وقوله: ((على المال)) يتعلق بـ ((الحرص))، و ((الشرف)) عطف على ((المال)) والمراد به الجاه. وقوله: ((لدينه)) اللام فيه بيان كما في قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} كأنه قيل: يرضعن لمن؟ قيل: لمن أراد أن يتم الرضاعة. وكذلك هنا، كأنه قيل: بأفسد لأي شيء؟ قيل: لدينه. ومعناه: ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفساداً لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه؛ فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين

أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) رواه الترمذي، والدارمي. [5181] ـــــــــــــــــــــــــــــ 5182 - وعن خباب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنفق مؤمن من نفقة إلا أجر فيها، إلا نفقته في هذا التراب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5182] 5183 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5183] ـــــــــــــــــــــــــــــ الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها. وفي ((أرسلا)) تتميم في غاية من الدقة واللطف، فإن الإرسال مسبوق بالمنع والممنوع أشد حرصاً مما لم يمنع، ونظيره في المعنى قول الشاعر: كأني وضوء الصبح يستعجل الدجى تطير غراباً ذا قوادم حول راعى معنى الاستعجال في قوله: ((تطير غرابا)) لأن الطائر إذا أزعج كان أسرع منه في الطيران، إذا كان عن اختيار منه. وأما المال فإفساده فيه: أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوات ويجر إلى التنعيم في الشبهات مع أنها ملهية عن ذكر الله تعالى، وهذه لا ينفك عنها أحد. وأما الجاه: فكفي به إفساداً؛ أن المال يبذل للجاه ولا يبذل الجاه للمال، وهو الشرك الخفي فيخوض في المراءاة والمداهنة والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة فهو أفسد وأفسد. الحديث الحادي عشر عن خباب رضي الله عنه: قوله: ((إلا نفقته في هذا التراب)) نفقته منصوبة على الاستثناء من الكلام الموجب إذ المستثنى منه مستثنى من كلام منفي، فيكون موجباً، وهذا للتحقير. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فلا خير فيه)) حال مؤكدة من الجملة.

5184 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً ونحن معه، فرأي قبة مشرفة، فقال: ((ما هذه؟)) قال أصحابه: هذه لفلا، رجل من الأنصال، فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها، فسلم عليه الناس، فأعرض عنه، صنع ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض، فشكا ذلك إلى أصحابه وقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خرج فرأي قبتك فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلم يرها، قال: ((ما فعلت القبة؟)) قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك، فأخبرناه، فهدمها. فقال: ((أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا مالا)) يعني مالا بد منه. رواه أبو داود. [5184] 5185 - وعن أبي هاشم بن عتبة. قال: عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما هذه؟))، أي ما هذه العمارة المنكرة ومن بانيها؟ ولذلك أجابوا بقولهم: هذه لفلان. وقوله: ((فأعرض عنه)) يجوز أن يكون جواباً لـ ((ما)) مع الفاء، وهو قليل. ويجوز أن يقدر جواب لـ ((ما)) أي كرهه فأعرض عنه. وقوله: ((حتى عرف الرجل الغضب فيه)) أي عرف أن الغضب كان لأجله. قوله: ((وحملها في نفسه)) أي أضمر تلك الفعلة في نفسه غضباً عليه؛ قال في أساس البلاغة: حملت الحقد عليه إذا أضمرته. قال الشاعر: ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وقلت له كلمة فاحتمل منها، أي استقر وغضب. قوله: ((إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي أرى منه ما لم أعهده منه من الغضب والكراهية؛ قال في أساس البلاغة: يقال خرج متنكراً وتنكر لي فلان: لقيني لقاء بشعا. قيل: معنى الحديث أن كل بناء بناه صاحبه فهو وبال، أي عذاب في الآخرة، والوبال في الأصل الثقل والمكروه، أراد ما بناه للتفاخر والتنعم فوق الحاجة، لا أبنية الخير من المساجد والمدارس والرباطات؛ فإنها من الآخرة وكذا ما لابد منه، للرجل من القوت والملبس والمسكن. الحديث الرابع عشر عن أبي هاشم: قوله: ((عهد إلي) أي أوصاني. وقوله: ((قال إنما يكفيك)) بدل منه، بدل الفعل من الفعل كما في قوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلا وناراً تأججا

يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وفي بعض نسخ ((المصابيح)) عن أبي هاشم بن عتبد، بالدال بدل التاء، وهو تصحيف. [5185] 5186 - وعن عثمان بن عفان [رضي الله عنه]. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري به عورته، وجلف الخبز والماء)) رواه الترمذي [5186] 5187 - وعن سهل بن سعد، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) رواه الترمذي، وابن ماجه. [5187] ـــــــــــــــــــــــــــــ أبدل ((تلمم بنا)) من قوله: ((تأتنا)) الحديث الخامس عشر عن عثمان رضي الله عنه: قوله: ((في سوى هذه الخصال)) ((سوى)) موصوفة محذوف أي شيء سوى هذه. ((قض)): أراد بـ ((الحق)) ما يستحقه الإنسان لافتقاره إليه وتوقفه تعيشه عليه، وما هو المقصود الحقيقي من المال. وقيل: أراد به ما لم يكن له تبعة حساب، إذا كان مكتسبا من وجه حلال. والمراد بالخصال هنا ما يحصل للرجل ويسعى في تحصيله من الأموال، شبهه بما يخاطر عليه في السبق والرمي ونحوهما. أقول: بيان وجه التشبيه أن الخطر في الأصل الرهن، ولا يخاطر إلا في شيء له قدر، ومنه الحديث: ((إلا رجل يخاطر بنفسه وماله)) أي يلقيهما في الهلكة بالجهاد، ومن شرع في سعي الدنيا والاستمتاع بها وبمستلذاتها ومباحاتها أوقع نفسه ودينه في خطر عظيم، فيجب عليه أن يحترز منها كل الاحتراز إلا ما لابد له منه، وهي هذه الخصال الثلاث. ((نه)) ((الجلف)): الخبز وحده لا أدم معه، وقيل: هو الخبز الغليظ اليابس. قال: ويروى بفتح اللام جمع جلفة وهي الكسرة من الخبز. وفي الغريبين عن ابن الأعرابي: الجلف الظرف مثل الخرج والجوالق. ((قض)): ذكر الظرف وأراد به المظروف، أي كسرة خبز وشربة ماء. الحديث السادس عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((ازهد في الدنيا)). قيل: الزهد عبارة

5188 - وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسول الله! لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5188] 5189 - وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أغبط أوليائي عني لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان ـــــــــــــــــــــــــــــ عن عزوف النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة، ولا يتصور الزهد ممن ليس له مال ولا جاه، وقيل لابن المبارك: يا زاهد! قال: الزاهد عمر بن عبد العزيز إذا جاءته الدنيا راغمة فتركها، أما أنا ففي ماذا زهدت. وفي قوله: ((ازهد في الدنيا يحبك الله)) دليل على أن الزهد أعلى المقامات وأفضلها؛ لأنه جعله سبباً لمحبة الله تعالى، وأن محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى. الحديث السابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ونعمل)) متعلقة محذوف فيقدر من جنس الكلام السابق، وهو وجوه التنعم والتلذذ بالأغراض الدنيوية أعم من أن يكون بساطا؛ ومن ثم طابقه قوله: ((مالي وللدنيا؟)) وقوله: ((وما أنا والدنيا)) أي ليس حالي مع الدنيا إلا كحال راكب مستظل، وهو من التشبيه التمثيلي، ووجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث؛ ومن ثم خص الراكب. واللام في ((للدنيا)) مقحمة للتأكيد، إن كان الواو بمعنى ((مع)). وإن كان للعطف فتقديره: مالي والدنيا وما للدنيا معي؟ الحديث الثامن عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((أوليائي)) أفعل هنا بني للمفعول، أي أحق أحبائي وأنصاري بأن يغبط به ويتمنى مثل حاله مؤمن بهذه الصفة. واللام في ((لمؤمن)) داخل في خبر المبتدأ، قال الزجاج في قوله تعالى: {إن هذان لساحران}: اسم ((إن)) ضمير الشأن، والخبر جملة اسمية اقترن بخبرها لام الابتداء. نحو قول الشاعر: أم الحليس لعجوز شهربه وقد سبق بحثه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((أنتم آل عبد الله لأغنياء)) في باب

غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك)) ثم نقد بيده فقال: ((عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5189] ـــــــــــــــــــــــــــــ الطب والرقي. ومن أراد الكلام المشبع فليطلب في شرح الكشاف في قوله: {إن هذان لساحران}. قوله: ((خفيف الحاذ)) أي قليل المال. ((نه)) الحاذ والحال واحد من حاذ يحوذ، وأصل الحاذ: طريقة المتن، وهو ما يقع عليه اللبد من ظهر الفرس، أي خفيف الظهر من العيال. قوله: ((ذو حظ من الصلاة)) أي ذو راحة من مناجاة الله تعالى فيها واستغراقه في المشاهدة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لبلال: ((أرحنا بها يا بلال!)) أي أذن بالصلاة نسترح بأدائها من شغل القلب بها. وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له؛ فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، وكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: ((وقرة عيني في الصلاة)) وما أقرب الراحة من قرة العين. وقوله: ((أحسن عبادة ربه)) تعميم بعد التخصيص، والمراد به إجادة العبادة على سبيل الإخلاص، فعلى هذا قوله: ((وأطاعه في السر)) عطف تفسيري على ((أحسن)). و ((كان غامضا)) أي مغمورا غير مشهور. وقوله: ((لا يشار إليه بالأصابع)) بيان وتقرير لمعنى الغموض. وقوله: ((على ذلك)) أي على المذكور دلالة على أن ملاك الكل الصبر، وبه يتقوى على الطاعات، نحو قوله تعالى: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا}. قوله: ((ثم نقد)) ((نه)): هو من نقدت الشيء بإصبعي أنقده واحداً واحدا نقد الدراهم، ونقد الطائر الحب ينقده، إذا كان يلقطه واحدا واحدا، وهو مثل النقر ويروى بالراء. ((تو)): أريد به هنا ضرب الأنملة على الأنملة، أو ضربها على الأرض كالمتقلل للشيء، أي لم يلبث إلا قليلا حتى قبضه الله تعالى يقلل مدة عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه. وقيل: الضرب على هذه الهيئة فعل المتعجب من الشيء، أو من رأي ما يعجبه حسنه، وربما يفعل ذلك من يظهر قلة المبالاة بشيء أو يفعل طرباً وفرحاً بالشيء. أقول: ويمكن أن يقال: إنه كالقرع بالعصا والتنبيه على أن ما يرد بعده مما يهتم بشأنه، ويجب تلقيه بالقبول، ومن ثمة عقبه بقوله: ((فقال))؛ قال ثعلب: حروف التهجي في الفواتح بمنزلة ألا، كمن أراد الإخبار بمهم، حرك الحاضر بيده أو صاح به صرخة ليقبل بكله إليه.

5190 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا، يا رب! ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)). رواه أحمد، والترمذي. [5190] 5191 - وعن عبيد الله بن محصن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافي في جسده. عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5191] 5192 - وعن مقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: قوله: ((وعجلت منيته)) يعني يسلم روحه بالتعجيل لقلة تعلقه بالدنيا، وغلبة شوقه إلى الآخرة. ((شف)): ويمكن أنه أراد أنه قليل مؤون الممات، كما كان قليل مؤون الحياة. الحديث التاسع عشر عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((بطحاء مكة)) تنازع فيه ((عرض)) و ((ليجعل)) أي عرض على بطحاء مكة ليجعلها لي ذهبا. قوله: ((فإذا جعت)) إلخ جمع في القرينتين بين الصبر والشكر وهما صفتا المؤمن الكامل؛ قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}. الكشاف: صبار على بلائه شكور لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص فجعلهما كناية عنه. الحديث العشرون عن عبيد الله: قوله: ((في سربه)). ((نه)): هو بالكسر أي في نفسه، وفلان واسع السرب أي رخى البال، ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال: خل سربه أي طريقه. ((تو)): ((أبي بعضهم إلا السرب)) - بفتح السين والراء- أي في بيته. ولم يذكر فيه رواية ولو سلم له قوله- أن يطلق السرب على كل بيت- كان قوله هذا حرياً بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. والحيازة: الضم والجمع. الحديث الحادي والعشرون عن المقدام: قوله: ((فثلث)) أي ثلث منه للطعام، واللام مقدرة بقرينة قوله: ((ثلث لنفسه)) أي الحق الواجب أن لا يجاوز ما يقام به صلبه؛ ليتقوى به على طاعة الله تعالى، فإن أراد البتة التجاوز، فلا يتعدى عن القسم المذكور. جعل البطن أولا وعاء

فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5192] ـــــــــــــــــــــــــــــ كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهينا لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرا منها. قال الشيخ أبو حامد: في الجوع عشر فوائد: الأولى: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة؛ فإن الشبع يورث البلادة ويعمى القلب، ويكثر البخار في الدماغ كشبه السكر، حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسببه عن الجريان. وثانيتها: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر. وثالثتها: الانكسار والذل وزوال البطر والأشر والفرح الذي هو مبدأ الطغيان، ولا تنكسر النفس بشيء ولا تذل كما تذل بالجوع، فعنده تستكين لربها وتقف على عجزها. ورابعتها: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه وأهل البلاء؛ فإن الشبعان ينسى الجائعين والجوع. وخامستها: وهي من كبار الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، وتقليلها يضعف كل شهوة وقوة، والسعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه. وسادستها: دفع النوم ودوام السهر؛ فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوات التهجد، وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره تنقيص من العمر. وسابعتها: تيسير المواظبة على العبادة؛ فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام أو طبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال ثم يكثر تردده إلى بيت الماء. ولو صرف هذه الأوقات في الذكر والمناجاة وسائر العبادات، لكثر ربحه. قال السرى: رأيت مع علي الجرجاني سويقا يستف منه، فقلت: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. وثامنتها: من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض؛ فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق، ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب، ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤون، وفي الجوع ما يدفع عنه كل ذلك.

5193 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يتجشأ، فقال: ((أقصر من جشائك، فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أطولهم شبعاً في الدنيا)) رواه في ((شرح السنة)) وروى الترمذي نحوه. [5193] 5194 - وعن كعب بن عياض، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي. [5194] 5195 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج، فيوقف بين يدي الله، فيقول له أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك، فما صنعت؟ فيقول: يا رب! جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان، فارجعني آتك به كله. ـــــــــــــــــــــــــــــ وتاسعتها: خفة المؤونة؛ فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير. وعاشرتها: أن يتمكن من الإيثر والتصدق بما فضل من الأطعمة على المساكين، فيكون في يوم القيامة في ظل صدقته، فما يأكله فخزانتها الكنيف، وما يتصدق به فخزانتها فضل الله تعالى. الحديث الثاني والعشرون عن ابن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((رجلا يتجشأ))، ((تو)): الرجل هو وهب أو جحيفة السوائي، روى عنه: أنه قال: أكلت ثريدة بر بلحم، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأ .. وذكر الحديث. الاسم من التجشؤ الجشاءة على مثال الهمزة. قال الأصمعي: الجشاء على فعال كأنه من باب العطاس والدوار. وقوله: ((أقصر عنا)) بقطع الألف، أي اكفف عنا. والنهي عن الجشأ هو النهي عن الشبع؛ فإنه هو السبب الجالب له. الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كأنه بذج)) ((نه)): هو ولد الضأن، وجمعه بذجان. ((فا)): هي كلمة فارسية تكلمت بها العرب وهي أضعف ما يكون من الحملان. ((حس)): شبه ابن آدم بالبذج لصغاره وصغره أي يكون حقيراً ذليلا. ((نه)): ((خولتك)) أي ملكتك. ((قض)): ((رب! جمعته وثمرته)) أي أنميته وكثرته؛ يقال: ثمر الله ماله إذا كثره. قوله: ((فإذا عبد)) الفاء فيه فصيحة تدل على مقدر، و ((إذا)) للمفاجأة، و ((عبد)) خبر مبتدأ محذوف، أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فظهر مما حكيت عن هذا الرجل أنه كان كعبد أعطاه سيده رأس مال ليتجر به ويربح، فلم يمتثل أمر سيده فأتلف رأس ماله بأن وضعه في غير موضعه، واتجر فيما لم يؤمر بالتجارة فيه، فإذا هو عبد خائب خاسر؛ قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت

فيقول له: أرني ما قدمت. فيقول: رب! جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان، فارجعني آتك به كله. فإذا عبد لم يقدم خيراً فيمضي به إلى النار)). رواه الترمذي وضعفه. [5195] 5196 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح جسمك؟ ونروك من الماء البارد؟)). رواه الترمذي. [5196] 5197 - وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تزول قدماً ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا علم فيما علم؟)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5197] ـــــــــــــــــــــــــــــ تجارتهم وما كانوا مهتدين} فما أحسن موقع العبد، وذكره في هذا المقام. قال الشيخ أبو حامد: اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر يسمى نعمة، ولكن النعمة الحقيقية هي السعادة الأخروية، وتسمية ما عداها سعادة، غلط أو مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا يعبر عنها إلى الآخرة نعمة؛ فإن ذلك غلط محض. وكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بواسطة واحدة أو بوسائط فإن تسميته نعمة صحيح وصدق؛ لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية. الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قوله: ((ما يسأل)) ((ما)) فيه مصدرية و ((أن يقال)) خبر ((إن)) أي أول سؤال العبد هو أن يقال له ... الخ. قوله: ((ألم نصح)) كذا في المصابيح شرح السنة. وقد غيروا في بعض نسخ المصابيح نظرا إلى أنه غير صحيح؛ لأنه لازم، وقد جاء في أساس البلاغة: أصحة الله وصححه وأصح الله بدنك وصحح جسمك. الحديث السادس والعشرون عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((عن خمس)) إنما أنثه بتأويل الخصال. والمراد بالخصال هاهنا ما يحصل للرجل كما سبق في الحديث الخامس عشر

الفصل الثالث 5198 - عن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((إنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى)). رواه أحمد. [5198] 5199 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصره عيب الدنيا وداءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5199] 5200 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أخلص الله قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليماً، ولسانه صادقاً، ونفسه مطمئنة، وخليفته مستقيمة، ـــــــــــــــــــــــــــــ من هذا الفصل. قوله: ((وعن شبابه فيما أبلاه)) فإن قلت: هذا داخل في الخصلة الأولى فما وجهه؟ قلت: المراد سؤاله عن قوته وزمانه الذي يتمكن منه على أقوى العبادة. وإنما غير السؤال في الخصلة الخامسة حيث لم يقل: عن علمه ماذا عمل به؛ لأنها أهم شيء وأولاه. وفيه إيذان بأن العلم مقدمة العمل وهو لا يعتد به لولا العمل. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((من أحمر)) المراد به العجم وبالأسود العرب، والضمير في ((أن تفضله)) عائد إلى كل واحد منهما أو إليهما معا على تأويل الإنسان، والاستثناء مفرغ. والتقدير لست بأفضل منهما بشيء من الأشياء إلا بالتقوى. وقوله: ((أن تفضله)) تكرير تأكيد: قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وبصره عيب الدنيا)) من البصيرة وهو إشارة إلى الدرجة الثانية يعني لما زهد في الدنيا، لما حصل له من علم اليقين بعيوب الدنيا أورثه الله تعالى به بصيرة حتى حصل له به حق اليقين. الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((سليما)) أي عن الحسد والبغض والحقد وسائر الأخلاق الذميمة، قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}. والخليقة الطبيعة. قال في أساس البلاغة: له خلق حسن وخليقة وهي ما خلق عليه من طبيعته، يعني: جبله الله تعالى في أصل خلقته مستقيمة غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط.

وجعل أذنه مستمعة، وعينه ناظرة، فأما الأذن فقمع، وأما العين فمقرة لما يوعى القلب، وقد أفلح من جعل قلبه واعياً)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5200] 5201 - وعن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي البعد من الدنيا، على معاصيه، ما يحب؛ فإنما هو استدراج)). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}. رواه أحمد. [5201] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فقمع)) هو الإناء الذي يترك في رءوس الظروف؛ لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان. شبه أسماع الذين يستمعون القول ويعونه بقلوبهم بالأقماع. وقوله: ((فمقرة)) وراد على سبيل الاستعارة؛ لأنها تثبت في القلب وتقر فيه ما أدركته بحاستها، فكأن القلب لها وعاء وهي تقر فيه ما رأته. قال في أساس البلاغة: ومن المجاز قر الكلام في أذنه إذا وضع فاه على أذنه فأسمعه وهو من قر الماء في الإناء إذا صبه فيه. و ((القلب)) يحتمل النصب أي يقر في القلب ما يجعل القلب وعاء له. والرفع على أنه فاعل يوعى أي لما يوعيه القلب أي يحفظه. وإنما خص السمع والبصر؛ لأن الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، إما سمعية فالأذن هي التي تجعل القلب وعاء لها، أو نظرية فالعين هي التي تقرها في القلب وتجعله وعاء لها، ومن ثمة جعل قوله: ((وقد أفلح من جعل قلبه واعياً)) كالفذلكة للقرينتين. الحديث الرابع عن عقبة رضي الله عنه: قوله: ((استدراج)) هو الأخذ في الشيء والذهاب فيه درجة فدرجة كالمراقي والمنازل في ارتقائه ونزوله، ومعنى استدراج الله: استدراجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به. وذلك أن تواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغي، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية، فيستدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن تواتر النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد. وقوله: {فإذا هم مبلسون} واجمون متحسرون آيسون.

5202 - وعن أبي أمامة، أن رجلا من أهل الصفة توفي وترك ديناراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كية)) قال: ثم توفي آخر فترك دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيتان)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5202] 5203 - وعن معاوية: أنه دخل على خاله أبي هاشم بن عتبة يعوده فبكى أبو هاشم، فقال ما يبكيك يا خال؟ أوجع يشئزك أم حرص على الدنيا؟ قال: كلا؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً لم آخذ به. قال: وما ذلك؟ قال سمعته يقول: ((إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله)). وإني أراني قد جمعت. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [5203] 5204 - وعن أم الدرداء، قالت: قلت: لأبي الدرداء: مالك لا تطلب كما يطب فلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون)). فأحب أن أتخفف لتلك العقبة. [5204] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((من أهل الصفة)). ((نه)): أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه وكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. انتهى كلامه. وفي وصف الرجل بهذا النعت إشعار بأن الحكم الذي يليه معلل به، يعني انتماؤه إلى الفقراء الذين زهدوا في الدنيا مع وجود الدينار أو الدينارين دعوى كاذبة يستحق به العقاب. وإلا فقد كان كثير من الصحابة، كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد رضي الله عنهم، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد من أعرض عن الفتنة؛ لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ولكل شيء له حد. الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: قوله: ((يشئزك)) ((نه)): أي يقلقك يقال: شئز فهو مشئوز وأشأزه غيره، وأصله الشأز وهو الموضع الغليظ الكثير الحجارة: قوله: ((قد جمعت)) حذفت متعلقة ليدل على الكثرة من أنواع المال. الحديث السابع عن أم الدرداء رضي الله عنها: قوله: قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم))

5205 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه؟)). قالوا: لا، يا رسول الله! قال: ((كذلك صاحب الدنيا لا يسلم من الذنوب)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5202] 5206 - وعن جبير بن نفير [رضي الله عنه] مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أوحى إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين})). رواه في ((شرح السنة)) وأبو نعيم في ((الحلية)) عن أبي مسلم. [5206] ـــــــــــــــــــــــــــــ يحتمل أن تكون ((إني)) مفتوحة الهمزة على حذف اللام الجارة أي لا أطلب لأني سمعت وأن تكون مكسورتها استئنافاً: قوله: ((عقبة كؤودا)) أي شاقة والمراد بها الموت والقبر والحشر وأهوالها وشدائدها، شبهها بصعود العقبة، ومكابدة ما يلحق الرجل من قطعها. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إلا ابتلت قدماه)) استثناء من أعم عام الأحوال، تقديره: هل يمشي في حال من الأحوال إلا في حال ابتلال قدميه، وحاصل معناه: هل يتحقق المشي على الماء مع عدم الابتلال؟؛ ولذا صح الجواب بـ ((لا)). قوله: ((لا يسلم من الذنوب)) فيه تخويف شديد للمتقين، وحث على التزهد في الدنيا وإيثار الآخرة على الأولى. وكفي بها تبعة أن يدخل الفقراء في الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، عافانا الله تعالى منها بفضله وكرمه. الحديث التاسع عن جبير رضي الله عنه: قوله: ((ولكن أوحي إلي)) يعين أمرني ربي أن أستغرق أوقاتي في المواظبة على التسبيح والتحميد وكثرة السجود والعبادة لربي حتى يأتي أمر الله وألقى الله تعالى، فكيف أتلهى بالتجارة والبيع والشراء وأمور الدنيا وأنى يتراءى ناراهما. ومعنى قوله: ((وأكون من التاجرين)) أي من المتوغلين في صنعة التجارة ومن له مساهمة فيها، وكذا قوله: {من الساجدين} أي أكون من المتوغلين في إقامة الصلاة وكثرة السجود ومن له القدح المعلى فيها، وفيه رائحة معنى قوله: ((لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)) وفي إباحاً سعي ما، كما ينبئ عنه الحديث التالي.

5207 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب حلالا استعفافا عن المسألة، وسعيا على أهله، وتعطفا على جاره؛ لقي الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر. ومن طلب الدنيا حلالا، مكاثرا، مفاخرا مرائيا؛ لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وأبو نعيم في ((الحلية)). [5207] 5208 - وعن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الخير خزائن، لتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير، مغلاقا للشر؛ وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر، مغلاقا للخير)). رواه ابن ماجه. [5208] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ووجهه مثل القمر)) وفي الحديث معنى قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وهما عبارتان عن رضا الله تعالى وسخطه، قوله: ((ووجهه مثل القمر)) مبالغة في حصول الرضى بدلالة قوله في مقابلته: ((وهو عليه غضبان)). الحديث الحادي عشر عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((إن هذا الخير)) ((غب)): الخير ما يرغب فيه الكل كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع، والشر ضده. والخير والشر قد يقيدان وهو أن يكون خيرا لواحد وشرا لآخر، كالمال الذي يكون ربما كان خيرا لزيد وشرا لعمر؛ ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع: {إن ترك خيرا} وقال في موضع آخر: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} وقوله: ((إن ترك خيرا)) أي مالا. وقال بعض العلماء: لا يقال للمال: خير حتى يكون كثيرا. أقول: المعنى الذي يحتوي على خيرية المال وعلى كونه شرا هو المشبه بالخزائن، فمن توسل بفتح ذلك المعنى، وأخرج المال منها أنفقه في سبيل الله ولا ينفقه في سبيل الله الشيطان، فهو مفتاح الخير مغلاق الشر، ومن توسل بإغلاق ذلك الباب بإنفاقه في سبيل الله وفتحه في سبيل الشيطان، فهوه مغلاق الخير مفتاح الشر. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة)) إلى قوله: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} إشارة إلى هذا المعنى.

5209 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم يبارك للعبد في ماله جعله في الماء والطين)). [5209] 5210 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الحرام في البنيان؛ فإنه أساس الخراب)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5210] 5211 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5211] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((اتقوا الحرام)) لا بد من تقدير مضاف، أي احترزوا إنفاق مال الحرام في البنيان؛ فإنه أساس لخراب الدين، أو يكون المعنى: اتقوا ارتكاب الحرام في البنيان؛ فإنه أساس الخراب، فلو لم يبن لم يخرب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لدوا للموت وابنوا للخراب)) وفي مثلها قي قولهم: في البيضة عشرون رطلا حديدا والبيضة نفسها هذا المقدار. والوجه الأول دل عى أنه قد يجوز البناء من الحلال بخلاف الثاني، وهذا أنسب بالباب. الحديث الرابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((دار من لا دار له)) لما كان القصد الأول من الدار الإقامة مع عيش هنئ ولذ صفي، ودار خاوية عنها لا يستحق لذلك أن تسمى دارا.، فمن داره الدنيا فلا دار له، {وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. والمقصود من المال الإنفاق في المبرات والصرف في وجوه الخيرات، فمن أتلفه في الشهوات واستيفاء اللذات فحقيق بأن يقال: لا مال له، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور؛ ولذلك قدم الظرف على عامله في قوله: ((ولها يجمع)) دلالة على أن الجمع للدار الآخرة للتزود وهو المحمود؛ قال الله تعالى: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ويحتمل أن تكون ((لها)) مفعولا به لـ ((يجمع)) كقولك لزيد: ضربت؛ فإن المفعول بغير واسطة إذا قدم على الفعل جاز اقتران اللام به لضعف العمل إذ ذاك. ((غب)): كل اسم نوع فإنه يستعمل على وجهين: أحدهما: دلالة على المسمى وفصلا بينه

5212 - وعن حذيفة [رضي الله عنه]، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: ((الخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، وحب الدنيا رأس كل حطيئة)). قال: وسمعته يقول: ((أخروا النساء حيث أخرهن الله)). رواه رزين. [5212] 5213 - وروى البيهقي منه في ((شعب الإيمان)) عن الحسن، مرسلا: ((حب الدنيا رأس كل خطيئة)). [5213] 5214 - وعن جابر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أتخوف على أمتي الهوى وطول الأمل؛ فأما الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة، ولكل واحدة منهما بنون، فإن استطعتم أن لا تكونوا من بني الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار العمل ولا حساب، وأنتم غدا في دار الآخرة ولا عمل)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5214] ـــــــــــــــــــــــــــــ وبين غيره. والثاني لوجود المعنى المختص به وذلك هو الذي يمدح به، وكل شيء لم يوجد كاملا لما خلق له م يستحق اسمه مطلقا، بل قد ينفي عنه كقولهم: فلان ليس بإنسان أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق لأجله. الحديث الخامس عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((جماع الإثم)) أي مجمعه ومظنته. و ((حبائل الشيطان)) أي مصائده، واحدها حبالة بكسر الحاء وهي ما يصاد بها من أي شيء كان. دعى رجل إلى قتل النفس فأبى، ثم إلى الزنا فأبر وإلى شرب الخمر فأتي، فلما شرب الخمر قتل وزنى. وقيل: ما أيس الشيطان من بني آدم إلا أتى من قبل النساء وحب الدنيا ملاكهما وملاك كل خطيئة. والكلمات الثلاث كلها من الجوامع؛ لأن كل واحدة منها على الانفراد أصل في المأثم والمغرم. وقوله: ((حيث أخرهن الله)) للتعليل أي أخرهن الله تعالى في الذكر وفي الحكم وفي المرتبة. فلا تقدموهن ذكرا وحكما ومرتبة. الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وهذه الدنيا)) أشار بـ ((هذه)) إلى

5215 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل. رواه البخاري في ترجمة باب. 5216 - وعن عمرو [رضي الله عنه] أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال في خطبته: ((ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، ويقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)) رواه الشافعي. ـــــــــــــــــــــــــــــ تحقير شأن الدنيا ووشك زوالها. وفي قوله: ((وهذه الآخرة)) إشارة إلى تعظيم أمر الآخرة وقرب نزولها. قوله: ((فإن استطعتم)) يعني بينت لكم حال الدنيا من غرورها وفنائها وحال الآخرة من نعيمها وبقائها، وجعلت زمام الاختيار في أيديكم فاختاروا أيا ما شئتم. وكان من حق الظاهر أن يقال: فإنكم اليوم في دار الدنيا ولا حساب، فوضع دار العمل موضعها ليؤذي بأن الدنيا ما خلقت إلا للعمل والتزود منها للدار الآخرة، ولم يعكس ليشعر بأن الدار هي الدار الآخرة. وهذا الحديث رواه جابر مرفوعا، وفي رواية البخاري عن علي رضي الله عنه كما سيأتي موقوف. وهذا الحديث أيضا يدل على أن حديث علي رضي الله عنه أيضا مرفوع. الحديث السابع عشر، والثامن عشر عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((عرض)) ((غب)): العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلمون قولهم: العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والطعم. وقيل: ((الدنيا عرض حاضر)) تنبيها على أن لا ثبات لها. قوله: ((ألا وإن الآخرة)) حرف التنبيه هنا مقحم، وما بعده معطوف على قوله: ((إن الدنيا)) قوبلت القرينة السابقة بقوله: ((ألا وإن الآخرة)) إلى قوله: ((ملك قادر)). والأجل الوقت المضروب الموعود وصفه بالصدق دلالة على تحققه وثباته وبقائه، ثم أتبعه بقوله: ((يقضي فيها ملك قادر)) يميز بين البر والفاجر فيثيب البر ويعاقب الفاجر، وإليه أشار في الحديث الآتي بقوله: ((يحق فيها الحق ويبطل الباطل)). ((غب)): يستعمل التصديق في كل ما فيه تحقيق؛ يقال: صدقني فعله وكتابه. وفي المثل: ((صدقني سن بكره)) وصدق في القتال إذا وفي حقه، وفعل على ما يجب وكما يجب. قوله:

5217 - وعن شداد [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا أيها الناس! إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق، ويبطل الباطل، كونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها)). 5218 - وعن أبي الدرداء [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما طلعت الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعان الخلائق غير الثقلين: يأيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفي خير مما كثر وألهى)) رواهما أبو نعيم في ((الحلية)). [5218] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((بحذافيره)) أي بأسره، ((نه)): الحذافير الجوانب، وقيل: الأعالي واحدها حذفور. وقوله: ((إنكم معروضون على أعمالكم)) أي الأعمال معروضة عليكم من باب القلب كقولهم: عرضت الناقة على الحوض. الحديث التاسع عشر عن شداد رضي الله عنه: قوله: ((وعد صادق)) هو من الإسناد المجازي وصف الوعد بما هو من سببه أي الله صادق في وعده، ثم المراد بالوعد الموعود هو الأجل المسمى. قوله: ((يحق فيها الحق ويبطل الباطل))، بيان لقوله: ((يحكم فيها ملك عادل قادر)) فإن تحقيق الحق وإبطال الباطل يقتضيان العدل والقدرة. الحديث العشرون عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((إلا وبجنبتيها)) استثناء مفرغ، والواو للحال والمستثنى منه أعم عام الأحوال. وقوله: ((ملكان)) يجوز أن يكون فاعل الجار والمجرور على رأي، أو هو مبتدأ والجار والمجرور خبره. والإسماع يجوز أن يكون على الحقيقة، وأن يكون على التشبيه العقلي مجازا فمعنى يسمعان الخلائق غير الثقلين)) إنها يقصدان بالإسماع الثقلين فيسمعان غيرهما، ثم خص من الثقلين الإنسان بقوله: ((يأيها الناس)) تنبها على تماديهم في الغفلة وانهماكهم في الحرص وجمع حطام الدنيا، حتى ألهاهم ذلك عن الإقبال إلى الله تعالى وعبادته. وقيل لهم: إلى كم هذه الغفلة والإعراض عن ذكر الله؟ هلموا إلى طاعة ربكم، ما قل من الدنيا ويكفيكم ولا يلهيكم خير مما كثر وألهى، سمع هذا النداء من ألقى السمع وهو شهيد، أولئك الذين أشار الله بذكرهم ورفع من منزلتهم في قوله تعالى: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. ولعل السر في عدم إسماع الثقلين: لئلا يرتفع التكليف. نحوه قوله صلى الله عليه وسلم: (0لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب

5219 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] يبلغ [به]، قال: ((إذا مات الميت قالت الملائكة: ما قدم؟ وقال بنو آدم: ما خلف؟)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5219] 5220 - وعن مالك [رضي الله عنه]: أن لقمان قال لابنه: ((يا بني! إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة، سراعا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج منها)). رواه رزين. 5221 - وعن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو النقي، التقي، لا إثم عليه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5221] ـــــــــــــــــــــــــــــ القبر)). ومعنى إسماع غير المكلفين كونها مسبحة لله تعالى منقادة لما يراد منها، {وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مات الميت)) من باب المجاز باعتبار ما يؤول؛ فإن الميت لا يموت بل الحي هو الذي يموت. الكشاف: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أراد أحدكم الحج فليعجل؛ فإنه يمرض المرض وتضل الضالة، فسمى المشارف للمرض والضلال مريضا وضالة، وعلى هذا سمي المشارف للموت ميتا، وفائدته: اهتمام شأن الملائكة بالأعمال، أي ما قدم من عمل حتى يثاب به أو يعاقب عليه واهتمام الوارث بما ترك ليرثوه. الحديث الثاني والعشرون عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((قد تطاول عليهم)) أي طال عليهم مدة ما وعدوا به. وقوله: ((منذ كنت)) أي منذ ولدت ووجدت. الحديث الثالث والعشرون عن عبد الله: قوله: ((هو النقي التقي)) الجواب ينظر إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} من قولهم: امتحن الذهب وفتنه إذا أذابه فخلص إبريزه ونقاه من خبثه، وعن عمر رضي الله عنه: أذب الشهوات عنها.

5222 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك [من] الدنيا: حفظ إمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)). رواه أحمد، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5222] 5223 - وعن مالك [رضي الله عنه] قال بلغني أنه قيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ يعني الفضل قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. رواه في ((الموطأ)). [5223] 5224 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجيء الأعمال، فتجيء الصلاة فققول: يا رب! أنا الصلاة فيقول: إنك على خير. فتجيء ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والعشرون عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((ما فاتك الدنيا))، ((ما)) يحتمل أن تكون مصدرية والوقت مقدر أي لا بأس عليك وقت فوت الدنيا إن حصلت لك هذه الخلال، وأن تكون نافية أي لا بأس عليك لأنه لم تفتك الدنيا إن حصلت لك هذه الخلال. والعفة في طعمة يراد بها أن يجتنب الحرام ولا يزيد على الكفاية ولا يكثر الأكل. وأطلق الأمانة ليشبع في جنسها، فيراعي أمانة الله تعالى من التكاليف وأمانة الخلق في الحفظ والأداء. الحديث الخامس والعشرون عن مالك رضي الله عنه: قوله: ((ما بلغ بك ما نرى)) أي: أي شيء بلغك إلى هذه المرتبة التي نراها فيك. الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تجيء الأعمال)) أي تجيء الأعمال لتحتج لصاحبها وتشفع فيه، فقول الصلاة: أنا الصلاة، أي أن لي مرتبة الشفاعة لأني عماد الدين. وقوله تعالى: ((إنك على خير)) رد لها على ألطف وجه، أي أنت باقية مستقرة على خير كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} ولكن لست بمستقلة فيها ولا كافية في الاحتجاج، وعلى هذا سائر الأعمال بخلاف الإسلام فإنه جامع للخصال كلها؛ ولذلك قال الله تعالى في حقه: ((بك آخذ وبك أعطى)) وفيه نكتة شريفة؛ لأن كل واحدة من الأعمال ذكرت نفسها بالتعظيم ورآها مستحقة بأن تمنح مطلوبها بخلاف الإسلام؛ فإنه عظم الله سبحانه وتعالى أولا ليتذرع به إلى قبول الشفاعة هضما لنفسه؛ فلذلك قبلت له الشفاعة.

الصدقة، فتقول: يا رب! أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير. ثم يجيء الصيام، فيقول: يا رب! أنا الصيام فيقول: إنك على خير. ثم تجيء الأعمال على ذلك. يقول الله تعالى: إنك على خير. ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب! أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ، وبك أعطي. قال الله تعالى في كتابه: {ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}. [5224] 5225 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! حوليه؛ فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا)). [5225] 5226 - وعن أبي أيوب الأنصاري [رضي الله عنه] قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز. فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعذر منه غدا، وأجمع الإياس مما في أيدي الناس)). [5226] ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((أنا الصلاة)) وقوله: ((أنا الإسلام؟)) قلت: لا شك أن فائدة الخبر هنا غير مرادة لعلمه تعالى بها بل المراد أمر آخر، فقول الصلاة: ((أنا الصلاة)) على تعريف الخبر في هذا المقام. معنان: أنا المعروف المشهور بالانقياد والخضوع لبارئه والاستشهاد بالآية لمجرد مدح الإسلام لا للاستدلال. الحديث السابع والعشرون والثامن والعشرون عن أبي أيوب رضي الله عنه: قوله: ((صلاة مودع)) أي إذا شرعت في الصلاة فأقبل إلى الله تعالى بشراشرك وودع غيرك لمناجاة ربك. وقوله: ((بكلام تعذر منه غدا)) كناية عن حفظ اللسان، وأن لا يتكلم بما يحتاج أن يعتذر له. ((وأجمع الإياس)) أي أجمع رأيك على اليأس من الناس وصمم عليه، وهو من قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} {ثُمَّ كِيدُونِ} والظاهر أن الإياس وقع موقع اليأس سهوا من

5227 - وعن معاذ بن جبل [رضي الله عنه] قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؛ خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: ((يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري)) فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة. فقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) روى الأحاديث الأربعة أحمد. [5227] 5228 - وعن ابن مسعود [رضي الله عنه] قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن النور إذا دخل الصدر انفسح)). فقيل: يا رسول الله! هل لتلك من علم يعرف به؟ قال: ((نعم، التجافي من دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)). [5228] ـــــــــــــــــــــــــــــ الكاتب؛ لأن الإياس مصدر آسه إذا أعطاه، وليس مصدر أيس مقلوب يئس؛ لأن مصدر المقلوب يوافق الفعل الأصلي لا المقلوب. ويمكن أن يقال: إنه من أيس نفسه مما في أيدي الناس إياسا، فخففت الهمزة. الحديث التاسع والعشرون عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((ولعلك أن تمر)) استعمال ((لعل)) على الحقيقة لكونه صلى الله عليه وسلم راغبا في لقاء الله تعالى، وأدخل ((أن)) في الخبر تشبيها للعل بـ ((عسى)) تلويحا إلى قوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا} والواو في ((وقبري)) بمعنى ((مع)). قوله: ((جشعا)) ((نه)): الجشع الجزع لفراق الإلف. قوله: ((ثم التفت)) لعل الالتفات كان تسليا لمعاذ بعد ما نعى نفسه إليه يعني إذا رجعت إلى المدينة بعدي فاقتد بأولي الناس بي وهم المتقون، وكنى به عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ونحوه حديث جبير بن مطعم: ((أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته في شيء فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت ولم أجدك، وكأنها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر، وفيه دليل على أنه رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده وقائم مقامه. الحديث الثلاثون والحادي والثلاثون عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ((يشرح صدره

(1) باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي صلى الله عليه وسلم

5229 - 5230 - * وعن أبي هريرة وأبي خلاد [رضي الله عنهما]: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم العبد يعطؤ زهدا في الدنيا، وقلة منطق؛ فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5229]، [5230] (1) باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي صلى الله عليه وسلم الفصل الأول 5231 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ للإسلام)) أي يلطف به بقذف النور فيه حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه. قوله: ((من دار الغرور)) الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين، وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغبر وتضر وتمر، والله أعلم بالصواب. باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي صلى الله عليه وسلم الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أشعث)) ((قض)): الأشعث: هو المغبر الرأس المتفرق الشعور. وأصل التركيب هو التفرق والانتشار. والصواب مدفوع بالدال أي يدفع عند الدخول على الأعيان والحضور في المحافل فلا يترك أن يلج الباب فضلا أن يحضر معهم. ويجلس فيما بينهم. و ((لو أقسم على الله لأبره)) أي لو سأل الله شيئا وأقسم عليه أن يفعله لفعله، ولم يخيب دعوته فشبه إجابة المنشد المقسم على غيره بوفاء الحالف على يمينه وبره فيها. وقيل: معناه لو حلف أن الله يفعله أو لا يفعله صدقه في يمينه وأبره فيها بأن يأتي بما يوفقها. انتهى كلامه. ويشهد لهذا الوجه حديث أنس بن النضر رضي الله عنه: ((لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله)) الحديث. ومما يؤيد الأول لفظ ((على الله)) لأنه أراد به المسمى، ولو أريد به اللفظ لقيل: بالله. وأما معنى الإبرار فعلى ما ذهب إليه القاضي من باب الاستعارة والتمثيل، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة المعنوية. الكشاف: شهد رجل عند شريح، فقال: إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل: إنها لم تجعد

5232 - وعن مصعب بن سعد، قال: رأي سعد أن له فضلا على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!)). رواه البخاري. 5233 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها من النساء)) متفق عليه. 5234 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء. واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ عني. والذي سوغ تجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة، ولولا ذكر سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. الحديث الثاني عن مصعب: قوله: ((أن له فضلا)) أي شجاعة وكرما وسخاوة، فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن تلك الشجاعة ببركة ضعفاء المسلمين، وتلك السخاوة أيضا ببركتهم، وأبرزه في صورة الاستفهام؛ ليدل على مزيد التقرير والتوبيخ. الحديث الثالث عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((وأصحاب الجد))، أصحاب الجد هم الأغنياء والجد – بالفتح – الغنى. قوله: ((غير أن أصحاب النار)) ((غير)) بمعنى لكن، والمغايرة بحسب التفريق؛ فإن القسم الأول بعضهم محبوس وبعضهم غير محبوس، والثاني غير محبوس، يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو كما سيجيء. قيل: إن الأغنياء وأرباب الأموال والمناصب محبوسون، حبسوا في العرصات للحساب والجزاء والمكافأة، وقوله: ((غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)) المراد منهم الكفار، أي يساق الكفار إلى النار ويوقف المؤمنون في العرصات للحساب، والفقراء هم السابقون إلى الجنة لفقرهم. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((اطلعت في الجنة)) ضمن ((اطلعت)) معنى ((تأملت)) و ((رأيت)) بمعنى ((علمت))؛ ولذا عداه إلى مفعولين، ولو كان الإطلاع بمعناه الحقيقي لكفاه مفعول واحد.

5235 - وعن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا)) رواه مسلم. 5236 - وعن سهل بن سعد، قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح. وإن شفع أن لا يشفع. وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)). متفق عليه. 5237 - وعن عائشة، قالت ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. 5238 - وعن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. رواه البخاري. 5239 - وعن أنس، أنه مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ((ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((خريفا)) ((نه)): الخريف الزمان المعروف بين الصيف والشتاء، ويريد به أربعين سنة؛ لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة. الحديث السادس عن سهل بن سعد رضي الله عنه: قوله: ((ملء الأرض)) وقع مفضلا عليه باعتباره مميزه وهو قوله: ((مثل هذا))؛ لأن البيان والمبين شيء واحد. الحديث السابع إلى التاسع عن انس رضي الله عنه: قوله: ((وإهالة سنخة)) ((نه)): قيل: هي ما أذيبت من الألية والشحم. وقيل: الدسم الجامد. والسنخة المتغيرة الريح. انتهى كلامه. وضمير المفعول في ((سمعته)) عائد إلى ((أنس)) والفاعل لراوي أنس.

5240 - وعن عمر، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم، حشوها ليف. قلت: يا رسول الله: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله فقال: ((أوفي هذا أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)). وفي رواية: ((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة!)) متفق عليه. 5241 - وعن أبي هريرة، قال لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعيين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته)). رواه البخاري. 5242 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((على رمال حصير)) ((نه)): الرمال ما رمل أي نسج. يقال: رمل الحصير وأرمله فهو مرمول ومرمل، ورملته شدد للتكثير. قال الزمخشري: ونظيره الخطام والزكام لما خطم وزكم. وقال غيره: الرمال جمع رمل بمعنى مرمول كخلق الله بمعنى مخلوقه. والمراد أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ((فليوسع)) الظاهر نصبه؛ ليكون جوابا للأمر، أي ادع الله فيوسع، واللام للتأكيد والرواية بالجزم على أنه أمر للغائب، كأنه التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعء لأمته بالتوسع، وطلب من الله الإجابة، وكان من حق الظاهر أن يقال: ادع الله ليوسع عليك، فعدل إلى الدعاء للأمة؛ إجلالا لمحله صلى الله عليه وسلم وإبعادا لمنزلة من رسخ للنبوة أن يطلب من الله تعالى هذا الدنيء الخسيس لنفسه، ومع ذلك أنكر عليه هذا الإنكار البليغ. وقوله: ((أو في هذا؟)) مدخول الهمزة محذوف أي أتطلب هذا وفي هذا أنت؟ وكيف يليق بمثلك أن يطلب من الله التوسعة في الدنيا. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رداء)) ((نه)): هو الثوب أو البرد الذي يضعه الإنسان على عاتقه وبين كتفيه فوق ثيابه. انتهى كلامه. أي لم يكن له ثوب يتردى به بل كان له إما إزار فحسب أو كساء فحسب. وتأنيث الضمير في ((منها)) باعتبار الجمعية في الأكسية والإزار وتعدد المكتسين والإفراد في ((بيده)) باعتبار الرجل المذكور. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الخلق)) أي الخليقة والصورة

قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)). الفصل الثاني 5243 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم)) رواه الترمذي. [5243] ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فهو)) أي النظر إلى أسفل في المال والخلق لا إلى من هو فوق حقيق بعدم الازدراء. و ((أن لا تزدروا)) متعلق بـ (أجدر)) على حذف الجار. ((نه)): والازدراء الاحتقار والانتقاص والعيب، وهو افتعال من زريت عليه زراية إذا عبته. وأزريت به إزراء إذا قصرت به وتهاونت. وأصل ازدريت ازتريت وهو افتعل منه، فقلبت التاء دالا لأجل الزاي. ((مح)): هذا حديث جامع لأنواع الخير؛ لأن الإنسان إذا رأي من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياء؛ ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس. فأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى، وشكرها وتواضع وفعل بها الخير. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نصف يوم)) صفة فارقة لأن خمسمائة عام يحتمل أن يراد به ما هو متعارف بين الناس، وأن يراد به ما هو عند الله تعالى لقوله تعالى: {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. وأن يكون عطف بيان أو بدلا منه. ((شف)): فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث والحديث السابق من قوله: ((بأربعين خريفا))؟ قلت: يمكن أن يكون المراد من ((الأغنياء)) في الحديث الأول؛ أغنياء المهاجرين، أي يسبق فقراء المهاجرين إلى الجنة بأربعين خريفا. ومن ((الأغنياء)) في الحديث الثاني: الأغنياء الذين ليسوا من المهاجرين. فلا تناقض بين الحديثين. وقال في جامع الأصول: وجه الجمع بينهما: أن الأربعين أراد بها تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص. وأراد بـ ((خمسائة)) تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب. وكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد. وهذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة. ولا تظنن أن هذا التقرير وأمثاله

5244 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)). فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: ((إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة! لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة! أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة)) رواه الترمذي والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5244] 5245 - وروى ابن ماجه عن أبي سعيد إلى قوله في ((زمرة المساكين)). [5245] 5246 - وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون – أو تنصرون – بضعفائكم)). رواه أبو داود. [5246] 5247 - وعن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين. رواه في ((شرح السنة)). [5247] ـــــــــــــــــــــــــــــ يجري على لسان النبي صلى الله عليه وسلم جزافا ولا بالاتفاق، بل لسر أدركه، ونسبه أحاط بها علمه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أحيني مسكينا)) قيل: هو من الممسكنة وهي الذلة والافتقار، فأراد صلى الله عليه وسلم بذلك إظهار تواضعه وافتقاره إلى ربه إرشادا لأمته إلى استشعار التواضع والاحتراز عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربهم من الله تعالى. الحديث الثالث عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((ابغوني في ضعفائكم)). ((نه)): هو بهمزة القطع والوصل، يقال: بغى يبغي بغاء بالضم إذا طلب وهذا نهى عن مخالطة الأغنياء وتعليم منه. الحديث الرابع عن أمية رضي الله عنه: قوله: ((يستفتح)) ((نه)): أي يستنصر بهم؛ ومنه قوله تعالى: {إن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفَتْحُ} أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. ((فا)):

5248 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تغبطن فاجرا بنعمة، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته، إن له عند الله قاتلا لا يموت)). يعني النار. رواه في ((شرح السنة)). [5248] 5249 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سجن المؤمن وسنته، وإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة)) رواه في ((شرح السنة)). [5249] ـــــــــــــــــــــــــــــ الصعلوك هو الذي لا مال له ولا اعتمال، وقد صعلكته إذا ذهبت بماله، ومنه تصعلكت إلابل إذا ذهبت أوبارها. الحديث الخامس عن أي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يعني النار)) تفسير عبد الله بن أبي مريم راوي أبي هريرة، كذا في ((شرح السنة)) وسماها قاتلا على الاستعارة التبعية. شبه عذابها بقتل القاتل، ثم سرى من المصدر إلى اسم الفاعل، نحو قول الشاعر: قتل البخل وأحيي السماحة وقوله: ((لا يموت)) عبارة عن: لا تخمد، فيكون ترشيحا للاستعارة. الحديث السادس عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: في ((سنته)): ((السنة)): القحط وهي من الأسماء الغالبة قال الإمام الحافظ أبو القاسم الوراق: إن قيل: كيف يكون معنى الحديث وقد نرى مؤمنا في عيش رغد وكافرا في ضنك وقصر يد؟ قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن الدنيا كالجنة للكافر في جنب ما أوعد الله له من العقوبة في الآخرة ونعيمها. فالكافر يحب المقام فيها ويكره مفارقتها، والمؤمن يتشوق الخروج منها ويطلب الخلاص من آفاتها كالمسجون الذي يريد أن يخلى سبيله. والثاني أن يكون هذا صفة المؤمن المستكمل الإيمان الذي قد عزب نفسه عن ملاذ الدنيا وشهواتها، فصارت عليه بمنزلة السجن في الضيق والشدة، وأما الكافر فقد أهمل نفسه وأمرحها في طلب اللذات وتناول الشهوات، فصارت الدنيا كالجنة له في السعة والنعمة. الحديث السابع عن قتادة رضي الله عنه: قوله: ((حماه الدنيا)): أي منعه منها ووقاه من أن

5250 - وعن قتادة بن النعمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء)) رواه أحمد، والترمذي. [5250] 5251 - وعن محمود بن لبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب)) رواه أحمد. [5251] 5252 - وعن عبد الله بن مغفل، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أحبك. قال: ((انظر ما تقول)). فقال: والله إني لأحبك، ثلاث مرات. قال: ((إن كنت صادقا فأعد للفقر تجحافا، للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. [5252] ـــــــــــــــــــــــــــــ يتلوث بزهرتها؛ كيلا يمرض قلبه بداء محبة الدنيا وممارستها، كما يحني أحدكم سقيمه المستسقى الماء كيلا يزيد مرض جسده بشربه. الحديث الثامن عن محمود رضي الله عنه: قوله: ((من الفتنة)) ((غب)): الفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، انتهى كلامه. وقد تكون الفتنة في الدين مثل الارتداد والمعاصي وإكراه الغير على المعاصي، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون)). الحديث التاسع عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((تجحافا)) المغرب: هو شيء يلبس على الخيل عند الحرب كأنه درع، تفعال من جف لما فيه من الصلابة واليبوسة. أقول: انظر ما تقول، أي رمت أمرا عظيما وخطبا خطيرا ففكر فيه: فإنك توقع نفسك في خطر وأي خطر تشهد فيها غرضا لسهام البلايا والمصائب، فهذا تمهيد لقوله: ((فأعد للفقر تجحافا)) فاستعير للصبر وتحمل المشاق التجفاف على الاستعارة التخييلية. وشبه الفقر بالقرن الذي له سهام وأسنة، وأخرجه مخرج الاستعارة المكنية والقرنية الاستعارة التخييلية يريد رشقه بالبلايا وطعنه بالمصائب فيستعد له من الصبر والقناعة والرضا تجحافا، ثم ترقى منه إلى الاستعارة بالسيل دلالة على أن تلك البلايا والمصائب لاحقة به

5253 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أخفت لي الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم، ومالي ولبلال طعام يأكه ذو كبد، إلا شيء يواريه إبط بلال)) رواه الترمذي قال: ومعنى هذا الحديث: حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربا من مكة ومعه بلال، إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمل تحت إبطه. [5253] 5254 - وعن أبي طلحة، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 5255 - وعن أبي هريرة، أنه أصابهم جوع فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة تمرة. رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ بسرعة، كالسيل إلى منتهاه، فلا خاص له ولا مناص، هذا على مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: ((المرأ مع من أحب))، وقوله في جواب من سأل: أي الناس أشد بلاء؟: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) وهو سيد الأنبياء فيكون بلاؤه أشد من بلائهم. وفيه أن الفقر أشد البلايا. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لقد أخفت)) ((مظ)): وهو ماض مجهول من أخاف بمعنى خوق، يعني كنت وحيدا في ابتداء إظهاري الدين فخوفني في ذلك، وآذاني الكفار في الله أي في دين الله انتهى كلامه. وقوله: ((وما يخاف أحد)) حال أي خوفت في دين الله وحدي. وقوله: ((من بين ليلة ويوم)) تأكيد للشمول، أي ثلاثون يوما وليلة متواترات لا ينقص منها شيء من الزمان. و ((ذو كبد)) أي حيوان، أي ما معنا طعام، سواء كان ما يأكل الدواب أو الإنسان. الحديث الحادي عشر عن أبي طلحة رضي الله عنه: قوله: ((عن حجر حجر)) ((عن)) الأولى متعلقة بـ ((رفعنا)) على تضمين الكشف. والثانية صفة مصدر محذوف أي كشفنا عن بطوننا كشفا صادرا عن حجر حجر، ويجوز أن يحمل التنكير في ((حجر)) على النوع أي حجر مشدود على بطوننا، فيكون بدلا، وعادة من اشتد جوعه، وخمص بطنه أن يشتد على بطنه حجرا ليتقوم به صلبه. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن عمرو: قوله: ((فأسف على ما فاته منه)) أي حزن على

5256 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به؛ ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله الله عليه، كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه؛ لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا)) رواه الترمذي. [5256] وذكر حديث أبي سعيد: ((أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين)) في باب بعد فضائل القرآن. الفصل الثالث 5257 - عن أي عبد الرحمن الحبلي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو، وسأله رجل قال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؛ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما. قال: فأنت من الملوك. قال عبد الرحمن: وجاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو وأنا عنده فقالوا: يا أبا محمد؛ إنا والله ما نقدر على شيء. لا نفقة ولا دابة ولا متاع. فقال لهم: ما شئتم إن شئتم رجعتم إلينا، فأعطيناكم ما يسر الله لكم، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان، وإن شئتم صبرتم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا)). قالوا: فإنا نصبر لا نسأل شيئا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فواته وتحسر، ولا يجوز أن يحمل على الغضب؛ لأنه لا يجوز أن يقال: غضب على ما فات بل على من فوت عليه. وقوله: ((فاقتدى به)) عبارة عن الصبر على مشاق العبادات، كما أن حمد الله تعالى أمارة للشكر ودلالة على الجميل. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي عبد الرحمن الحبلى: هو بالحاء المهملة والباء الموحدة من تحت وضمهما، قوله: ((سمعت عبد الله بن عمرو)) لا بد من محذوف، أي سمعته يقول قولا يفسره ما بعده. و ((جاء ثلاثة نفر)) حال، عطف على قوله: ((سأل رجل)) وقوله: ((إن شئتم رجعتم إلينا)) أي إن شئتم أن نعطيكم شيئا رجعتم إلينا بعد هذا؛ فإن هذه الساعة ما حضرنا شيء.

5258 - وعن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما]، قال: بينما أنا قاعد في المسجد وحلقة من فقراء المهاجرين قعود إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد إليهم، فقمت إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليبشر فقراء المهاجرين بما يسر وجوههم، فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما)) قال: فلقد رأيت ألوانهم أسفرت. قال عبد الله بن عمرو: حتى تمنيت أن أكون معهم أو منهم. رواه الدارمي. [5258] 5259 - وعن أبي ذر [رضي الله عنه]، قال: أمرني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول بالحق، وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش. رواه أحمد. [5259] 5260 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدنيا ثلاثة: الطعام والنساء، والطيب، فأصاب اثنين، ولم يصب واحدا، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام. رواه أحمد. [5260] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((فلقد رأيت)) اللام جواب للقسم أي فو الله لقد رأيت. و ((أسفرت)) هو من الإسفار إشراق اللون: قال تعالى: {وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ}، {والصُّبْحِ إذَا أَسْفَرَ}، و ((حتى)) متعلقة به أي أشرقت إشراقا تاما كاملا حتى تمنيت. الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وإن أدبرت)) أي قطعت على ما ورد: ((صل من قطعك)) أسند الإدبار إلى ((الرحم)) مجازا لأنه صاحبها. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولم يصب الطعام)) أي لم يكثر من إصابته إكثارهما. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قرة عيني في الصلاة)) جملة اسمية عطفت على جملة فعلية؛ لدلالة الثبات والدوام في الثاني، والتجدد في الأول. وجيء بالمفعول مجهولا؛

5261 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)). رواه أحمد، والنسائي. وزاد ابن الجوزي بعد قوله: ((حبب إلي)) ((من الدنيا)) [5261] 5262 - وعن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن، قال: ((إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين)) رواه أحمد [5262] 5263 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل)) [5263] 5264 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاع أو احتاج، فكتمه الناس، كان حقا على الله عز وجل أن يرزقه رزق سنة من حلال)) رواهما البيهقي في (0شعب الإيمان)) [5264] 5265 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال)) رواه ابن ماجه. 5266 - وعن زيد بن أسلم، قال: استسقى يوما عمر، فجيء بماء قد شيب ـــــــــــــــــــــــــــــ دلالة على أن ذلك لم يكن من جبلته وطبعه؛ وأنه مجبور على الحب رحمة للعباد وترأفا بهم. وكأنهما كالقيدين ولاولاهما لم يحط عنه بطائل؛ بخلاف الصلاة فإنها محبوبة لذاتها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا بها يا بلال)) أي أشغلنا عما سواها بها., فإنه تعب وكدح، وإنما الاسترواح في الصلاة فأرحنا بندائك بها. الحديث السادس إلى آخر الفصل عن زيد بن أسلم: قوله: ((لكني أسمع الله)) مستدرك عن مقدر يعني أنه لطيب أشتهيه لكني أعرض عنه لأني سمعت الله عز وجل نعى ... وقوله: ((حسناتنا)) أي ثواب حسناتنا التي نعملها نستوفيها في الدنيا قبل الآخرة، قال الله تعالى: {مَن

(2) باب الأمل والحرص

بعسل، فقال: إنه لطيب؛ لكني أسمع الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا} فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه. رواه رزين. 5267 - وعن ابن عمر، قال: ما شبعنا من تمر حتى فتحنا خيبر. رواه البخاري. (2) باب الأمل والحرص الفصل الأول 5268 - عن عبد الله، قال: خط النبي خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهسه هذا، وإن أخطأه هذا نهسه هذا)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا}. باب الأمل والحرص الجوهري: الأمل الرجاء، يقال: أمل خيره يأمله أملا، وكلك التأميل. ((غب)): الحرص فرط الشره والإرادة؛ قال تعالى: {إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} أي إن تفرط إرادتك في هدايتهم. الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله: قوله: ((خطا مربعا)) صورة الخط هذه: والمراد بالخط الرسم والشكل وقوله: ((أخطأه هذا)) أي إن جاوزه هذا أصابه هذا. فوضع موضع الإصابة، النهس وهو لدغ ذوات السم مبالغة في الإضرار. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فبينما هو كذلك)) أي هو طالب لأمله البعيد فتدركه الآفات التي هي أقرب أليه فتؤديه إلى الأجل المحيد به، هذا التأويل محمول على

5269 - وعن أنس، قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا فقال: ((هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب)) رواه البخاري. 5270 - وعنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان: الحرص على المال، والحرص على العمر)) متفق عليه. 5271 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يزال قلب الكبير شابا في اثنين: في حب الدنيا وطول الأمل)) متفق عليه. 5272 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة)) رواه البخاري. 5273 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ معنى الحديث السابق ويجوز أن يحمل على حديث أبي سعيد في الفصل الثاني: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه ...)) الحديث. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ويشب)) ((مح)): هو استعارة، ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال يحتكم احتكاما مثل احتكام قوة الشباب في شبابه. أقول: يجوز أن يكون من باب المشاكلة والمطابقة لقوله: ((يهرم)). الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أعذر الله)) ((تو)): المعنى أنه أفضى بعذره إليه فلم يبق له عذر، يقال: أعذر الرجل إلى فلان أن بلغ به أقصى العذر. ومنه قولهم: أعذر من أنذر أي اتى بالعذر وأظهره. وهذا مجاز من القول فإن العذر لا يتوجه على الله تعالى، وإنما يتوجه له على العبيد وحقيقة المعنى فيه أن الله لم يترك له سببا في الاعتذار يتمسك به. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ولا يملأ جوف ابن آدم)) ((مح)): معناه أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت؛ ويمتلئ جوفه من تراب قبره. وهذا الحديث خرج على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا، ويؤيده قوله: ((ويتوب الله على من تاب)) وهو متعلق بما قبله، ومعناه أن الله تعالى يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات. أقول: ويمكن أن يقال: معناه أن بني آدم مجبولون على حب المال، والسعي في طلبه،

5274 - وعن ابن عمر، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأن لا يشبع منه إلا من عصمه الله تعالى، ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه، وقليل ما هم، فرضع ((ويتوب الله على من تاب)) موضعه؛ إشعارا بأن هذه الجبلة المركوزة فيه مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة، ولكن بتوفيق الله وتسديده، ونحوه قوله تعالى: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} أضاف الشح إلى النفس؛ دلالة على أنها غريزة فيها، وبين إزالتها بقوله: ((يوق)) ورتب عليه قوله: ((فأولئك هم المفلحون)). وهنا نكتة دقيقة: فإن في ذكر بني آدم تلويحا إلى أنه مخلوق من التراب، ومن طبيعته القبض واليبس فيمكن إزالته بأن يمطر الله سبحانه وتعالى عليه السحائب من غمائم توفيقه. فيثمر حينئذ الخلال الزكية والخصال المرضية: {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا} فمن لم يتداركه التوفيق وتركه حرصه، لم يزدد إلا حرصا وتهالكا على جمع المال. وموقع قوله: ((ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) موقع التذييل والتقرير للكلام السابق؛ ولذلك أعاد ذكر ابن آدم ونيط به حكم أشمل وأعم، كأنه قيل: ولا يسبع من خلق من التراب إلا بالتراب. وموقع ((ويتوب الله على من تاب)) موقع الرجوع، يعني أن ذلك لعسير صعب، ولكن يسير على من يسره الله تعالى، فحقيق أن لا يكون هذا من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر. روينا عن الترمذي عن أبي كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقرأ فيها (إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ومن يعمل فيه خيرا فلن يكفره). وقرأ عليه: ((لو أن لابن آدم واديا من مال لابتغى إليه ثانيا. ولو أن له ثانيا لابتغى إليه ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)). الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أو عابر سبيل)) ((تو)) فيه للتنويع وفي الحديث معنى الترقي، وقد مضى تحقيقه في باب تمني الموت.

الفصل الثاني 5275 - عن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما]، قال: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وأمي نطين شيئا، فقال: ((ما هذا يا عبد الله؟)) قلت: شيء يصلحه. قال: ((الأمر أسرع من ذلك)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 5273 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهرق الماء فيتيمم بالتراب، فأقول: يا رسول الله؛ إن الماء منك قريل، يقول: ((ما يدريني لعلي لا أبلغه)) رواه في ((شرح السنة))، وابن الجوزي في كتاب ((الوفاء)). [5276] 5277 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا ابن آدم وهذا أجله)) ووضع يده عند قفاه، ثم بسط، فقال: ((وثم أمله)) رواه الترمذي. [5277] 5278 - وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودا بين يديه، وآخر ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عند عبد الله: قوله: ((الأمر أسرع من ذلك)) أي كوننا في الدنيا كعابر سبيل أو راكب مستظل تحت شجرة أسرع مما أنت فيه من اشتغالك بالبناء. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يهريق الماء)): ((شف)): يعني يستعمل الماء قبل الوقت فإذا لم يبق في الوقت تيمم. وقيل: يهريق الماء أي يبول. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ووضع يده)) الواو فيه للحال، وفي قوله: ((وهذا أجله)) للجمع مطلقا فالمشار إليه مركب. فوضع اليد على قفاه معناه: أن هذا الإنسان الذي يتبعه أجله هو المشار إليه. وبسط اليد عبارة عن مدها إلى قدام. الحديث الرابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((دون الأمل)) حال من الضمير المنصوب، أي لحقه وهو متجاوز عما قصده من الأمل. قال أمية: يا نفس ما لك دون الله من واق أي إذا تجاوزت وقاية الله، ولم تبالها لم يقك غيره.

إلى جنبه، وآخر أبعد [منه]. فقال: ((أتدرون ما هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هذا الإنسان وهذا الأجل)) أراه قال: ((وهذا الأمل، فيتعاطى الأمل فلحقه الأجل دون الأمل)) رواه في ((شرح السنة)). [5278] 5279 - وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5279] 5280 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)) رواه الترمذي، وابن ماجة. [5280] وذكر حديث عبد الله بن الشخير [رضي الله عنه] في ((باب عيادة المريض)). الفصل الثالث 5281 – عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه. قوله: ((عمر أمتي من ستين)) قيل: معناه آخر عمر أمتي ابتداؤه إذا بلغ ستين سنة وانتهاؤه سبعون سنة، وقل من يجوز سبعين. هذا محمول على الغالب بدليل شهادة الحال، فإن منهم من لم يبلغ ستين، ومنهم من يجوز سبعين. الفصل الثالث: الحديث الأول عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((اليقين)) معناه: التيقن أن الله هو الرزاق المتكفل للأرزاق: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} * فمن تيقن هذا، زهد في الدنيا فلم يأمل ولم يبخل؛ لأن البخيل إنما يمسك المال لطول الأمل وعدم التيقن.

صلاح هذه الأمة اليقين والزهد، وأول فسادها البخل والأمل)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5281] 5282 - وعن سفيان الثوري، قال: ليس الزهد في الدنيا بلبس الغليظ والخشن، وأكل الجشب، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل. رواه في ((شرح السنة)). [5282] 5283 - وعن زيد بن الحسين، قال: سمعت مالكا وسئل أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: طيب الكسب وقصر الأمل. رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5283] ـــــــــــــــــــــــــــــ روى عن الأصمعي قال: تلوت على أعرابي: {وَالذَّارِيَاتِ} فلما بلغت قوله تعالى: {وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما، وولى، فلقيته في الطواف قد نحل جسمه واصفر لونه فسلم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ} فصاح، وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، فلم يصدقوه حتى ألجأ إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. الحديث الثاني عن سفيان قوله: و ((أكل الجشب)) بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة هو الغليظ الخشن من الطعام وقيل: غير المأدوم وكل شيء يبشع الطعم جشب، والبشع الخشن الكريه الطعم. الحديث الثالث عن زيد: قوله: ((طيب الكسب)) فإن قلت: أي مدخل لطيب الكسب في الزهد؟ قلت: هذا رد لمن زعم أن الزهد في مجرد ترك الدنيا، ولبس الخشن، وأكل الجشب، أي ليس حقيقة الزهد ما زعمته، بل حقيقته أن تأكل الحلال، وتلبس الحلال، وتقنع بالكفاف، وتقصر الأمل، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديل أوثق بما في يدي الله تعالى)).

(3) باب استحباب المال والعمر للطاعة

(3) باب استحباب المال والعمر للطاعة الفصل الأول 5284 - عن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم. وذكر حديث ابن عمر: ((لا حسد إلا في اثنين)) في ((باب فضائل القرآن)). الفصل الثاني 5285 - عن أبي بكرة، أن رجلا قال: يا رسول الله؛ أي الناس خير؛ قال: ((من طال عمره، وحسن عمله)). قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه أحمد، والترمذي، والدارمي [5285] ـــــــــــــــــــــــــــــ باب استحباب المال والعمر للطاعة الفصل الأول الحديث الأول عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((التقى)) قيل: هو الذي يتقي المحارم والشبهات ويتوزع عن المشتهيات. قوله: ((الغنى)) ((مح)): المراد بالغنى، غنى النفس، هذا هو الغني المحبوب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الغنى غنى النفس)) وأشار القاضي إلى أن المراد به غنى المال، و ((الخفي)) بالخاء المعجمة معناه: الخامل المنقطع للعبادة، والاشتغال بأمور نفسه، وروى بالمهملة ومعناه: الواصل للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء والصحيح الأول. أقول: إن الصفات الثلاث الجارية على العبد واردة على التفضيل والتمييز فالتقى مخرج للعاصي، والغني للفقير، والخفي على الروايتين لما يضادهما. فإذا قلنا: إن المراد بـ ((الغنى)) عنى القلب اشتمل على الفقير الصابر والغني الشاكر فعم. وكان أولى، وعلى هذا ((الخفي)) بالخاء المعجمة أنسب؛ لأن الغنى حينئذ تكميل للتقى، والخفي تتميم للغنى، لأن غنى القلب مستغن بالله عن الخلق، ويؤثر العزلة استئناسا بالله تعالى، وفي بعض نسخ المصابيح ألحق بعد قوله: ((التقى)) ((النقي)) بالنون. ولم يوجد في صحيح مسلم وشرحه ولا في الحميدي وجامع الأصول. ((مح)) وفيه حجة لمن يقول: الاعتزال أفضل من الاختلاط. ومن قال: بتفضيل الاختلاط تأويل هذا بالاعتزال في وقت الفتنة.

5286 - وعن عبيد بن خالد، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما، ثم مات الآخر بعه بجمعة أو نحوها، فصلوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما قلتم؟)) قالوا: دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأين صلاته بعد صلاته، وعمله بعد عمله؟)) أو قال: ((صيامه بعد صيامه؛ لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)) رواه أبو داود، والنسائي. [5286] 5287 - وعن أبي كبسة الأنماري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، فأما الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي بكرة: قوله: ((من طال عمره وحسن عمله)) قد سبق أن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر، فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه، وكلما كان رأس المال كثيرا كان الربح أكثر، فمن مضى لطيبه فاز وأفلح، ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسرانا مبينا. الحديث الثاني عن عبيد: قوله: ((فأين صلاته بعد صلاته؟)) فإن قلت: كيف تفضل هذه الزيادة في العمل بلا شهادة على عمله معها؟ قلت: قد عرف صلى الله عليه وسلم أن عمل هذا بلا شهادة ساوى عمله مع شهادته بسبب مزيد إخلاصه وخشوعه، ثم زاد عليه بما عمل بعده، وكم من شهيد لا يدرك شأو الصديق رضي الله عنه في العمل. الحديث الثالث عن أبي كبشة: قوله: ((فأما الذي أقسم عليهن)) أفرده وذكره باعتبار كون المذكورات موعودا، وجمع الراجع إلى الموصول باعتبار الخصال المذكورات، وبه فسر قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} في وجه أي الجمع أو الفوج وفي المصابيح: ((أما اللاتي أقسم عليهن)) هو الظاهر. ليس المراد تحقيق الحلف بل تأكيد ثبوتها، فإن المدعى ربما يثبت دعواه تارة بذكر القسم، وأخرى بلفظ ((أقسم)). قوله: ((ما نقص مال عبد من صدقة)) قيل: يحتمل تأويلين: أحدهما: ما نقص بركة ماله بسبب الصدقة. والثاني: ما نقص ثوابه بل يضاعف يوم القيامة إلى سبعمائة ضعف. أقول: هذا

باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر وأما الذي أحدثكم فاحفظوه)) فقال: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل رحمه، ويعمل لله فيه بحقه، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يتخبط في ماله بغير علم؛ لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعمل فيه بحق، فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته ووزرهما سواء)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث صحيح. [5287] 5288 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا استعمله)). فقيل: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ فقال: ((يوفقه لعمل صالح قبل الموت)) رواه الترمذي. [5288] 5289 - وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكيس من دان ـــــــــــــــــــــــــــــ يوهم أنه علق الاستثناء في قوله: ((إلا زاده الله عزا)) بالخصلة الثانية، وجعل الأولى جملة مستقلة، وقد تقرر في الأصول أن الاستثناء إذا ورد عقيب جمل يمكن حمله عليها، وجب الحل على كل واحدة منها على الأصح، وهنا لم يوجد مانع فلا يبعد الحمل عليها. وليوافق الخصال الثلاث في التعليق بالاستثناء. قوله: ((فهونيته)) مبتدأ وخبر، أي فهو سيء النية. يدل عليه وقوعه في مقابلة قوله: ((فهو صادق النية)) في القرينة الأولى. وقوله: ((يقول: لو أن لي مالا ...)) إلخ تفسير لقوله: ((صادق النية)). وقوله: ((فهو يقول: لو أن لي مالا ...)) إلخ مقابل له. وقوله: ((فأجرهما سواء)) وقوله: ((ووزرهما سواء)) متقابلان. الحديث الرابع والخامس عن شداد: قوله: ((من دان نفسه)) ((نه)): أي اذلها واستعبدها. وقيل: حاسبها. انتهى كلامه. والعاجر الذي غلبت عليه نفسه وعمل بما أمرته به نفسه، فصار

نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله)) رواه الترمذي، وابن ماجة. [5289] الفصل الثالث 5290 - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنا في مجلس، فطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء. فقلنا: يا رسول الله! نراك طيب النفس. قال: ((أجل)). قال: ثم خاض القوم في ذكر الغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم)) رواه أحمد. [5290] 5291 - وعن سفيان الثوري، قال: كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن. وقال: لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك. وقال: من كان في ـــــــــــــــــــــــــــــ عاجزا لنفسه فأتبع نفسه وأعطاها ما اشتهته. وقوبل الكيس بالعاجز، والمقابل الحقيقي للكيس السفيه الرأي، والعاجز القدر ليؤذن بأن الكيس هو القادر. والعاجز هو السفيه. ((وتمنى على الله)) أي يذنب ويتمنى الجنة من غير توبة واستغفار. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن سفيان: قوله: ((لتمندل)) قال في أساس البلاغة: ندل المال وغيره نقله بسرعة، ومنه المنديل، وتندلت بالمنديل تمسحت به كنى به عن الابتذال. ((مح)): قيل: هو مأخوذ من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، ويقال: تندلت بالمنديل. قال الجوهري: ويقال: أيضا: تمندلت به. وقيل لبعضهم: إن المال يدنيك من الدنيا فقال. لئن أدناني من الدنيا لقد صانني عنها. وقيل: لأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وقوله: ((لا يحتمل السرف)) يحتمل معنيين: أحدهما: أن الحلال لا يكون كثيرا فلا يحتمل الإسراف. وثانيهما: أن الحلال لا ينبغي أن يسرف فيه ثم يحتاج إلى الغير. قوله: ((كان أول

يده من هذه شيء فليصلحه، فإنه زمان إن احتاج كان أول من يبذل دينه. وقال: الحلال لا يحتم السرف. رواه في ((شرح السنة)). [5291] 5292 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يننادي مناد يوم القيامة: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ})). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5292] 5293 - وعن عبد الله بن شداد، قال: إن نفرا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يكفينيهم؟)) قال طلحة: أنا. فكانوا عنده، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا، فخرج فيه أحدهم، فاستشهد، ثم بعث بعثا فخرج فيه الآخر، فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه؛ قال: قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة في الجنة، ورأيت الميت على فراشه أمامهم والذي استشهد آخرا يليه، وأولهم يليه، ـــــــــــــــــــــــــــــ من يبذل دينه)) أي كان ذلك الشخص أول شخص يبذل دينه فيما يحتاج إليه. وهو حمل ((من)) على ((ما)) كما نقل المالكي عن قطرب كان أبين. ويعضده ما في رواية الكشاف: ((كان أول ما يأكل دينه)) ((ما)) موصوفة و ((أول)) اسم ((كان)) و ((دينه)) خبره. الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ما يتذكر فيه من تذكر)) ((ما)) فيه موصوفة أي ما عمرناكم عمرا يتعظ فيه العاقل الذي من شأنه أن يتعظ فيه. الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((من يكفينيهم؟)) ((هم)) ثاني مفعولي ((يكفي)) على تقدير مضاف أي من يكفيني مؤنتهم، قال في الأساس: كفاه مؤنته كفاية. قوله: ((أمامهم)) الظاهر أن يقال: أمامهما إلا أن يقال: إنه المقدم من بينهم. ونحوه قول الشاعر: تلقى السرى من الرجال بنفسه واين السرى إذا سرا أسراهما أي أسرى من بينهما، أو يذهب إلى أن أقل الجمع اثنان.

(4) باب التوكل والصبر

فدخلني من ذلك، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ((وما أنكرت من ذلك؟! ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام، لتسبيحه وتكبيره وتهليله)) [5293] 5294 - وعن محمد بن أبي عميرة – وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: إن عبدا لو خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرما في طاعة الله لحقره في ذلك اليوم، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب. رواهما أحمد. [5294] (4) باب التوكل والصبر الفصل الأول 5295 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن محمد: قوله: ((لحقره)) أي يعده قليلا نذرا لما يرى من ثواب العمل فيه. باب التوكل والصبر ((نه)): يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل هو القيم الكفيل بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يشتغل بأمر الموكول إليه. ((غب)): الصبر الإمساك في ضيق، يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه. فالصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف موقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير ويضاده الجزع، وإن كان في الحرب يسمى شجاعة ويضاده الجبن، وإن أن في نائية مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر. وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا وضده الإفشاء. الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا يسترقون ولا يتطيرون)) من الثنائي

سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)). متفق عليه. 5296 - وعنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((عرضت على الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن يكون أمتي. فقيل: هذا موسى في قومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق. فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء ـــــــــــــــــــــــــــــ التي يراد بها الاستيعاب، كقولهم: لا ينفع زيد ولا عمرو على معنى: لا ينفع إنسان ما. ((نه)): هذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم. وأما العوام فرخص لهم في التداوي والمعالجات. ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله تعالى بالدعاء، كان من جملة الخواص والأولياء، ومن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء، ألا ترى! أن الصديق رضي الله عنه لما تصدق بجميع ماله، لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم علما منه بيقينه وصبره. ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب، وقال: لا أملك غيره، فضربه بحيث لو أصابه عقره، وقال فيه ما قال. ((مح)) قال المازرى: احتج بعضهم به على أن التداوي مكروه، ومعظم العلماء على خلاف ذلك، واحتجوا بالأحاديث الواردة في منافع الأدوية، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى، وبأخبار عائشة رضي الله عنها عن كثرة تداويه بما علم من الاستشفاء برقاه. فإذا ثبت هذا حمل على ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها، ولا يفوضون الأمر إلى الله تعالى. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يمر النبي)) التعريف فيه للجنس، وهو ما يعرفه كل أحد أنه ما هو، فهو بمنزلة النكرات. قوله: ومع هؤلاء سبعون ألفا قدامهم)) حال أي مقدمين عليهم. ((مح)): يحتمل هذا أن يكون معناه سبعون ألفا من أمتك غير هؤلاء وليسوا مع هؤلاء. وأن يكون معناه في جملتهم سبعون ألفا. ويؤيد هذا رواية البخاري: ((هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا)). قوله: ((سبقك بها)) أي بتلك الدعوة. ((مح)): قال القاضي عياض: قيل: إن الرجل الثاني لم يكن ممن يستحق تلك المنزلة، ولا كان بصفة أهلها بخلاف عكاشة، وقيل: بل كان منافقا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام محتمل، ولم ير صلى الله عليه وسلم التصريح له بأنك لست منهم: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن العشرة.

سبعون ألفا قدامهم يدخلون الجنة بغير حساب، هو الذي لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) فقال عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((اللهم اجعله منهم)). ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((سبقك بها عكاشة)). متفق عليه. 5297 - وعن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) رواه مسلم. 5298 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: قد يكون سبق عكاشة بوحي ولم يحصل ذلك للآخر، قال الشيخ: وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه قال في كتابه في الأسماء المبهمة: أنه يقال: إن هذا الرجل هو سعد بن عبادة، فإن صح هذا بطل قول من زعم أنا منافق، والأظهر المختار هو القول الأخير. الحديث الثالث عن صهيب رضي الله عنه: قوله: ((إلا للمؤمن)) مظهر وقع موقع المضمر ليشعر بالعلية. قوله: ((إن أصابته سراء)) وأنشد في معناه: إذا كان شكر نعمة الله نعمة على له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر إذا مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبه الأجر الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المؤمن القوي)) قيل: أراد بـ ((المؤمن القوي)) الذي قوي في إيمانه، وصلب في إيقانه، بحيث لا يرى الأسبابن ووثق بمسبب الأسباب. والمؤمن الضغيف بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان. أقول: ويمكن أن يذهب إلى اللف والنشر، فيكون قوله: ((احرص إلى ما ينفعك)) ولا تترك الجهد بيانا للقوى، وقوله: ((ولا تعجز)) بيانا للضغيف. ((مح)): والقوة هنا يراد بها عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على الغزو والجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على

واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) رواه مسلم. الفصل الثاني 5299 - عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم ـــــــــــــــــــــــــــــ الأذى في كل ذلك. وقوله: ((وفي كل خير)) معناه: في كل من القوى والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. قوله: ((فإن لو تفتح)) ((قض)): أي لو كان الأمر لي وكنت مستبدا بالفعل والترك كان كذا وكذا، وفيه تأسف على الفائت ومنازعة للقدر وإيهام بأن ما يفعله باستبداده ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن لو تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى؛ ولذلك استكرهه وجعله مما يفتح عمل الشيطان. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث فسخ الحج إلى العمرة: ((ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت)) ليس من هذا القبيل، وإنما هو كلام قصد به تطييب قلوبهم وتحريضهم على التحلل بأعمال العمرة. ((مح)) قال القاضي عياض: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه: ((لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا)) فهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مستقبل. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه)) وشبه ذلك لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع، وعما هو في قدرته، وأما معنى قوله: ((فإن لو تفتح عمل الشيطان)) أنه يلقى في القلب معارضة القدر، ويوسوس به الشيطان. قال الشيخ: وقد جاء استعمال ((لو)) في الماضي كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى)). فالظاهر أن النهي إنما ورد فيما لا فائدة فيه، فيكون نهى تنزيه لا تحريم. وأما من قاله: متأسفا على ما فات من طاعة الله تعالى أو هو معتذر من ذلك فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر استعمال ((لو)) الموجودة في الأحاديث. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((حق توكله)) بأن يعلم يقينا بأن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر، وغير ذلك مما يطلق عليه اسم الموجود – من الله تعالى، ثم يسعى في الطلب على الوجه الجميل، يشهد لذلك تشبيهه بالطير؛ فإنها تغدو خماصا، ثم تسرح في طلب القوت فتروح بطانا.

تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)). رواه الترمذي، وابن ماجة. [5299] 5300 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس! ليس منكم شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين – وفي رواية: وإن روح القدس – نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته)). رواه في ((شرح السنة)) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) إلا أنه لم يذكر: ((وإن روح القدس)). [5300] ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ أبو حامد: قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض، كالخرقة الملقاة أو كلحم على وضم، وهذا ظن الجهال؛ فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟ بل نكشف عن الحق فيه، فنقول: إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه أي بعمله إلى مقاصده. ((مح)): قال الإمام أبو القاسم القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب، وإنما الحركة بالظاهر. فلا ينافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق للعبد أن الثقة من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر فبتيسيره. ((حس)): الخماص جمع الخميص للبطن. وهو الضامر والمخمصة الجوع؛ لأن البطن يضمر به. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إن روح القدس)) أي الروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق، فهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص، ففي الصفة القدس منسوب إليها، وفي الإضافة بالعكس نحو مال زيد. ((نه)) نفث في روعي أي أوحي إلي وألقى من النفث بالفم وهو شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل؛ لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق. والروع الجلد والنفس.

5301 - وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديل أوثق بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وعمرو بن واقد الراوي منكر الحديث. [5301] 5302 - وعن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ((يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: فأجملوا في الطلب)) أي اكتسبوا المال بوجه جميل، وهو أن لا تطلبه إلا بالوجه الشرعي، والاستبطاء بمعنى الإبطاء، والسين فيه للمبالغة كما استعف بمعنى عف، في قوله تعالى: {ومَن كَانَ غَنِيًا فَلْيَسْتَعْفِفْ} وفيه أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد، لكن العبد إذا سعى وطلب على وجه مشروع وصف بأنه حلال، وإذا طلب بوجه غير مشروع فهو حرام. فقوله: ((ما عند الله)) إشارة إلى أن الرزق كله من عند الله الحلال والحرام. وقوله: ((أن تطلبوه بمعاصي الله)) إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بمعصية الله ذم وسمي حراما. وقوله: ((إلا بطاعته)) إشارة إلى أن ما عند الله إذا طلب بطاعته مدح وسمي حلالا. وفي هذا دليل بين لأهل السنة على أن الحلال والحرام يسمى رزقا، وكله من عند الله خلافا للمعتزلة. الحديث الثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((أوثق)) أي أوثق منك. قوله: ((لو أنها أبقيت لك)) حال من فاعل ((أرغب)). وجواب ((لو)) محذوف و ((إذا)) ظرف، والمعنى أن تكون في حصول المصيبة وقت إصابتها أرغب من نفسك في المصيبة حال كونك غير مصاب بها؛ لأنك تثاب بوصولها إليك، ويفوتك الثواب إذا لم تصل إليك. فوضع ((أبقيت)) موضع ((لم يصب)) يريد أن المؤمن إذا أذنب ذنبا، وجوزي في الدنيا بمصيبة وصبر عليها، يثاب في الآخرة. وإن لم يجاز عليها بالمصيبة في الدنيا أبقيت له ويجازى في الآخرة، قال تعالى: {ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فاختصر الكلام. وفيه حث على التسلي وتنبيه على أن العاقل لا يرغب في إبقاء المصيبة وتأخيرها إلى الآخرة والآخرة خير وأبقى. الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((احفظ الله)) أي راع حق الله تعالى وتحر رضاه. و ((تجاهك)) أي مقابلك وحذاءك. والتاء بدل من الواو كما في تقاة وتخمة، أي

استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)). رواه أحمد، والترمذي. [5302] 5303 - وعن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ احفظ حق الله حتى يحفظك الله من مكاره الدنيا والآخرة. وزاد بعد قوله: ((تجاهك)) في رواية رزين: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) وفي آخره: ((فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين)). والحديث بطوله قد جاء مثله أو نحوه في مسند أحمد بن حنبل. ((نه)): معنى ((تعرف إلى الله)) اجعله يعرفك بطاعته، والعمل فيما أولاك من نعمته: فإنه يجازيك عند الشدة والحاجة إليه في الدنيا والآخرة. أقول: أراد بقوله: ((لن يغلب عسر يسرين)) أن التعريف في ((العسر)) الثاني في قوله تعالى للعهد، والتنكير في ((يسرا)) للنوع، فيكون العسر واحدا واليسر اثنين فالعسر ما كانوا عليه من متاعب الدنيا ومشاقها، واليسر في الدنيا الفتح والنصرة على الأعداء .. وفي العقبى الفوز بالحسنى. الحديث الخامس عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((رضاه بما قضى الله له)) أي الرضا بقضاء الله وهو ترك السخط علامة سعادته. وإنما جعله علامة سعادة العبد لأمرين: أحدهما: ليتفرغ للعبادة؛ لأنه إذا لم يرض بالقضاء، يكون أبدا مهموما مشغول القلب بحدوث الحوادث، ويقول: لم كان كذا ولم لا يكون كذا؟ والثاني: لئلا يتعرض لغضب الله تعالى بسخطه. وسخط العبد أن يذكر غير ما قضى الله له، وقال: إنه أصلح وأولى فيما لا يستيقن فساده وصلاحه. فإن قلت: ما موقع قوله: ((ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله)) بين المتقابلين؟ قلت: موقعه بين القرينتين لدفع توهم من يترك الاستخارة، ويفوض أمره بالكلية فقدم اهتماما.

الفصل الثالث 5304 - عن جابر، أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: ((إن هذا اخترط على سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا. قال: ما يمنعك مني؟ فقلت: الله، ثلاثا))، ولم يعاقبه، وجلس. متفق عليه. 5305 - وفي رواية أبي بكر الاسماعيلي في ((صحيحه)) فقال: من يمنعك مني؟ قال: ((الله) فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فقال: ((من يمنعك مني؟)) فقال: كن خير آخذ. فقال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. هكذا في ((كتاب الحميدي)) و ((الرياض)). 5306 - وعن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأعلم آية لو أخذ الناس ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((القائلة))، الجوهري: القائلة الظهيرة. وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا وهي النوم في الظهيرة. و ((العضاة)) الشجر الذي له شوك. و ((السمرة)) – بفتح السين وضم الميم – الشجرة من الطلح، وهي العظام من شجر العضاة. و ((اخترط السيف)) أي: سله، وهو في يده صلتا أي مسلولا، وهو بفتح الصاد وضمها. قوله: ((من يمنعك مني؟)) أي يحميك مني؛ قال في أساس البلاغة ومن المجاز: فلان يمنع الجار أي يحميه من أن يضام. وقوله: ((خير آخذ)) أي آخذ بالجنايات والمعاقب بها، يريد العفو. الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إني لأعلم آية)) يريد الآية بتمامها. قوله: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} إلى قوله: {ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} إشارة إلى أنه تعالى يكفيه جميع ما

بها لكفتهم: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} رواه أحمد، وابن ماجه، والدارمي. [5306] 5307 - وعن ابن مسعود، قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أنا الرزاق ذو القوة المتين). رواه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. 5308 - وعن أنس، قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لعلك ترزق به)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح غريب. [5308] ـــــــــــــــــــــــــــــ يخشى ويكره من أمور الدنيا والآخرة. وقوله: ((ومن يتوكل ..)) الخ. إشارة إلى أنه تعالى يكفيه جميع ما يطلبه ويبتغيه من أمور الدنيا والآخرة. و ((بالغ أمره)) أي نافذ أمره، وفيه بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوفيقه، لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل وأنشد: إذا المرء أمسى حليف التقى فلم يخش من طارق حله ألم تسمع الله سبحانه ومن يتق الله يجعل له الحديث الثالث عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((أقرأني)) أي حملني على أن أقرأ. وقوله: ((إني أنا الرزاق)) قراءة شاذة منسوبة إلى رسول الله، والمشهور: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} و ((المتين)) الشديد القوة. والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. قوله: {ذُو القُوَّةِ} خبر بعد خبر، وفيه من المبالغات: تصدير الجملة ((بإن))، وتوسط ضمير الفصل المفيد للاختصاص، وتعريف الخبر بلام الجنس ثم إردافه بقوله: ((ذو القوة)) وتتميمه بالمتانة، فوجب أن لا يتوكل إلا عليه ولا تفوض الأمور إلا إليه. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((النبي صلى الله عليه وسلم)) هو منصور على انتزاع الخافض، قال في أساس البلاغة: شكوت إليه فلانا فأشكاني منه، أي أخذ لي منه ما أرضاني. ومعنى ((لعل)) في قوله: لعلك يجوز أن يرجع إلى ((رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فيفيد القطع والتوبيخ، كما

5309 - وعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قلب ابن آدم بكل واد شعبة، فمن أتبع قلبه الشعب كلها لم يبال الله بأي واد أهلكه، ومن توكل على الله كفاه الشعب)). رواه ابن ماجه. [5309] 5310 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال ربكم عز وجل: لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، واطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد)). رواه أحمد. [5310] 5311 - وعنه، قال: دخل رجل على أهله، فلما رأي ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى، فوضعتها، وإلى التنور، فسجرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت. قالت: وذهبت إلى التنور، فوجدته ممتلئا. قال: فرجع الزوج، قال: أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته: نعم، من ربنا، وقام إلى الرحى، فذكر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أما إنه لو لم يرفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة)). رواه أحمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ورد: ((هل ترزقون إلا بضعفائكم))، وأن يرجع إلى المخاطب ليبعثه على التفكر والتأمل فينصف من نفسه. الحديث الخامس عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((شعبة)) ((نه)): الشعبة الطائفة من كل شيء والقطعة منه، انتهى كلامه، ولا بد فيه من تقدير أي في كل واد له شعبة. وقوله: ((كفاه الشعب)) أي كفاه الله تعالى مؤون حاجاته المتشعبة المختلفة. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ولم أسمعهم صوت الرعد)) من باب التتميم؛ فإن السحاب مع وجود الرعد فيه شائبة الخوف من البرق، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا} فنفاه ليكون رحمة محضة. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللهم ارزقنا)) دعت أن يصيب زوجها بما يطحنه ويعجنه ويخبزه فهيأت الأسباب لذلك ((وقام إلى الرحى)) أي قام الزوج إلى الرحى فرفعها، يدل عليه ما بعده، فعلى هذا ((قام)) معطوف على محذوف.

5312 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)). رواه أبو نعيم في ((الحلية)). [5312] 5313 - وعن ابن مسعود، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((نبيا)) منصوب على شريطة التفسير بقرينة قوله: ((ضربه)) وهو حكاية لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يقدر مضاف، أي يحكي حال نبي من الأنبياء، وهو معنى ما تلفظ به، وحينئذ ((ضربه)) يجوز أن يكون صفة للنبي، وأن يكون استئنافا، كأن سائلا سأل ما حكاه، فقيل: ((ضربه)).

(5) باب الرياء والسمعة

(5) باب الرياء والسمعة الفصل الأول 3514 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم. 3515 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)). وفي رواية: ((فأنا بريء، هو للذي عمله)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الرياء والسمعة المغرب: يقال: فعل ذلك سمعة، أي: ليريه الناس من غير أن يكون قصد به التحقيق. وسمع بكذا: شهره تسميعا. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا ينظر إلى صوركم)) ((نه)): معنى النظر ها هنا الاختيار والرحمة والعطف؛ لأن النظر في الشاهد دليل المحبة، وترك النظر دليل البغض والكراهة. وميل الناس إلى الصور المعجبة، والأموال الفائقة، والله يتقدس عن شبه المخلوقين، فجعل نظره إلى ما هو السر واللب وهو القلب والعمل، والنظر يقع على الأجسام والمعاني، فما كان بالأبصار فهو للأجسام، وما كان بالبصائر كان للمعاني. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا أغنى الشركاء)) اسم التفضيل ها هنا لمجرد الزيادة، والإضافة فيه للبيان أو على زعم القوم. والضمير المنصوب في ((تركته)) يجوز أن يرجع إلى ((العمل)). والمراد من ((الشرك)) الشريك. ((مح)): معناه: أنا أغنى عن المشاركة [وغيرها] فمن عمل شيئا لي ولغيري، لم أقبله بل أتركه مع ذلك الغير، ويدل عليه الحديث الول من الفصل الثاني. ويجوز أن يرجع إلى العامل، والمراد بالشرك الشركة. وقوله: ((هو)) يعود إلى ((العمل)) على الوجه الأول وإلى ((العامل)) على الوجه الثاني، أي العامل ما عمل به من الشرك، يعني يختص به ولا يتجاوز عنه، وكذا الضمير في ((منه)). قال الشيخ أبو حامد: درجات الرياء أربعة أقسام: الأولى: وهي أغلظها، أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي. بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس. فهذا حرد قصده إلى الرياء، فهو الممقوت عند الله تعالى.

5316 - وعن جندب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به)). متفق عليه. 5317 - وعن أبي ذر، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل من الخير ويحمده الناس عليه. وفي رواية: يحبه الناس عليه. قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والثانية: أن يكون له قصد الثواب أيضا. ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة، لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن الثواب، لكان قصد الرياء يحمله على العمل، فقصد الثواب فيه لا ينفي عنه المقت. والثالثة: أن يكون قصد الرياء والثواب متساويين، بحيث لو كان واحدا خاليا عن الآخر، لم يبعثه على العمل. فلما اجتمعا انبعثت الرغبة. وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم رأسا برأس. والرابعة: أن يكون إطلاع الناس مرجحا مقويا لنشاطه، ولو لم يكن لا يترك العبادة، ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم، فالذي نظنه - والعلم عند الله تعالى - أنه [لا يحبط] أصل الثواب، ولكنه بنقص منه، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب. [وأما] قوله: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) فهو [محمول] على ما إذا تساوى القصدان، أو كان قصد الرياء أرجح. الحديث الثالث عن جندب رضي الله عنه: قوله: ((من سمع)) ((مح)): أي من أظهر عمله للناس رياء، سمع الله به، أي فضحه يوم القيامة. ومعنى ((من يرائي)) من اظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم، وليس هو كذلك، ((يرائي الله به)) أي أظهر سريرته على رءوس الخلائق. وقيل: معناه: من سمع بعيوب الناس وأذاعها، أظهر الله عيوبه وقيل أسمعه المكروه. وقيل: أراه الله ثواب ذلك من غير أن يعطيه إياه؛ ليكون حسرة عليه. وقيل: معناه: من أراد أن يعلمه الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك حظه منه. قال الشيخ أبو حامد: الرياء مشتق من الرؤية والسمعة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإراءتهم الخصال المحمودة. فحد الرياء هو إراءة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد والمرائى له هو الناس، والمراءى به هو الخصال الحمديه، والرياء هو قصد إظهار ذلك. الحديث الرابع عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((أرأيت الرجل)) ((مظ)): أي أخبرنا بحال

الفصل الثاني 5318 - عن أبي سعد بن أبي فضالة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)). رواه أحمد [5318] 5319 - وعن عبد الله بن عمرو، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سمع الناس بعمله سمع الله به أسامع خلقه وحقره وصغره)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [5319] ـــــــــــــــــــــــــــــ من يعمل عملا صالحا لله تعالى لا للناس ويمدحونه، هل يبطل ثوابه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) يعنى هو في عمله ذلك ليس مرائيا، فيعطيه الله تعالى به ثوابين: في الدنيا وهو حمد الناس له، وفي الآخرة ما أعد الله له. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعد رضي الله عنه: بسكون العين، وكذا في مسند أحمد وفي الاستيعاب وجامع الأصول وفي نسخ المصابيح: أبو سعيد بياء بعد العين. قوله: ((ليوم لا ريب فيه)) اللام متعلق بـ ((جمع)) معناه: جمع الله الخلق ليوم لا بد من حصوله، ولا يشك في وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت، وقوله: ((يوم القيامة)) توطئة له. ويجوز أن يكون ظرفا لـ ((جمع)) كما جاء في الاستيعاب: ((إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه)) الحديث. فعلى هذا قوله: ((ليوم لا ريب فيه)) مظهر وقع موقع المضمر، أي جمع الله الخلق يوم القيامة ليجزيهم فيه. الحديث الثاني عن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((سمع الله به)) ((حس)): يقال: سمعت بالرجل تسميعا إذا شهرته. وقوله: ((أسامع خلقه)) هي جمع أسمع يقال: سمع وأسمع، وأسامع جمع الجمع، يريد أن الله تعالى [سمع أسامع] خلقه به يوم القيامة، ويحتمل أن يكون أراد به أن الله تعالى يظهر للناس سريرته، ويملأ أسماعهم بما ينطوي عليه من خبث السرائر. جزاء لفعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من تتبع عورات المسلمين يتبع الله به عورته حتى يفضحه)). ويروى: ((سامع خلقه)) مرفوعا، فيكون السامع من نعت الله تعالى، يريد سمع الله

5320 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه. وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له)) رواه الترمذي، ورواه أحمد. [5320] 5321 - والدارمي عن أبان، عن زيد بن ثابت. [5321] 5322 - وعن أبي هريرة، قال قلت: يا رسول الله! بينا أنا في بيتي في مصلاي. إذ دخل علي رجل، فأعجبني الحال التي رأنى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحمك الله يا أبا هريرة! لك أجران: أجر السر وأجر العلانية)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5322] ـــــــــــــــــــــــــــــ الذي هو سامع خلقه يعني يفضحه الله. ((فا)): في هذه الرواية ولو روى بالنصب، لكان المعنى: سمع الله به من كان له سمع من خلقه. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((شمله)) أي أموره المتفرقة، يقال: جمع الله شمله، أي ما تشتت من أمره، وفرق الله شمله، أي ما اجتمع من أمره فهو من الأضداد. والحديث من باب التقابل والمطابقة، فقوله: ((جعل الله غناه في قلبه)) مقابل لقوله: ((جعل الله الفقر بين عينيه)) وقوله: ((جمع له شمله)) لقوله: ((شتت عليه أمره)). وقوله: ((وأتته الدنيا وهي راغمة)) لقوله: ((ولا يأتيه منها إلا ما كتب له)) فيكون معنى الأول: وأتته ما كتب له من الدنيا وهي راغمة. ومعنى الثاني: وأتته ما كتب له من الدنيا وهو راغم. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بينا أنا في بيتي في مصلاي إذ دخل)) الحديث. إخبار فيه معنى الاستخبار، يعني هل يحكم على هذا أنه رياء أم لا؟، ولذلك طابقه قوله صلى الله عليه وسلم: ((رحمك الله يا أبا هريرة!)). أي أعجبني ما كنت عليه من الخشوع في صلاتي ليقتدي الرائي بي. ((حس)): قيل: معناه فأعجبه رجاء أن يعمل من رآه بمثل عمله، فيكون له مثل أجره. هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)). الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يختلون)) ((نه)): أي يطلبون الدنيا

5323 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله: ((أبي يغترون أم علي يتجرؤون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران)) رواه الترمذي. [5323] 5324 - وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تبارك وتعالى، قال: لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم أمر من الصبر، فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران، فبي يغترون أم علي يجترؤون؟)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5324] 5325 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شيء شرة، ـــــــــــــــــــــــــــــ بعمل الآخرة؛ يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه. قوله: ((يلبسون للناس جلود الضأن)) كناية عن إظهار التمسكن والتلين مع الناس، وما أحسن التطابق بين القولين. أعني هذا وقوله: ((وقلوبهم قلوب الذئاب))، و ((أم)) في قوله: ((أم علي يجترؤون)) منقطعة، أنكر أولا اغترارهم بالله و [بإهماله] إياهم حتى اغتروا، ثم أضرب عن ذلك، وأنكر عليهم ما هو أطم منه، وهو اجتراؤهم على الله. ((شف)): ((من)) في ((منهم)) يجوز أن تكون للتبيين بمعنى الذين، والإشارة إلى الرجال. وتقديره: على أولئك الذي يختلون الدنيا بالدين، وأن يجعل متعلقا بالفتنة، أي لأبعثن على هؤلاء الذي يطلبون الدنيا بالدين فتنة ناشئة منهم. انتهى كلامه، ويراد بـ ((الحليم)) العالم الحازم، وفيه تتميم للمعنى، أي إذا كان حال العالم الحازم كذا فكيف بغيره؟. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((لأتيحنهم)) ((نه)): يقال: أتاح الله لفلان كذا أي قدره له وأنزله به والإتاحة التقدير وأتاح له الشيء. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شرة)) ((قض)): الشرة بالتشديد الحرص على الشيء والنشاط فيه، وصاحبها فاعل فعل دال عليه ما بعده ونظيره قوله تعالى: {وإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} والمعنى أن من اقتصد في الأمور وسلك الطريق

ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه)) رواه الترمذي. [5325] 5326 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5326] ـــــــــــــــــــــــــــــ المستقيم واجتنب جانبي إفراط الشرة وتفريط الفترة فارجوه، ولا تلتفتوا إلى شهرته فيما بين الناس واعتقادهم فيه. [أقول]: قد ذهب إلى أن الشرطية الثانية من تتمة الأولى، فلعل الظاهر أن يكون مثلها في الاستقلال فيكون تفصيلا لذلك المجمل؛ فإن قوله: ((إن لكل شيء شرة)) إلخ معناه: إن لكل شيء من الأعمال الظاهرة والأخلاق الباطنة طرفين: إفراطا وتفريطا، فالمحمود القصد بينهما، فإن رأيت أحدا يسلك سبيل القصد، فارجوه أن يكون من الفائزين ولا تقطعوا له؛ فإن الله هو الذي يتولى السرائر. وإن رأيته يسلك سبيل الإفراط والغلو حتى يشار إليه بالأصابع فلا تفشو القول فيه بأنه من الخائنين؛ فإن الله هو الذي يطلع على الضمائر. ويؤيد هذا التأويل الحديث الذي يليه والاستثناء فيه، وترك ما للقسم الثالث، ولم يذكره لظهوره. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من الشر أن يشار إليه)) أي حب الرئاسة والجاه في قلوب الناس، وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة؛ فإنهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات، وحملوها بالقهر على أصناف العبادات، عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى الظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصا من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده، فأحب مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات وألذ الشهوات، وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعبادته. وإنما حياته هذه [الشهوة] الخفية التي تعمى عن دركها إلا العقول النافذة، قد أثبت اسمه عن الله تعالى من المنافقين، وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين. وهذه مكيدة للنفس لا يسلم عنها إلا الصديقون؛ ولذلك قيل: آخر

الفصل الثالث 5327 - عن أبي تميمة، قال: شهدت صفوان وأصحابه وجندب يوصيهم، فقالوا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سمع سمع الله به يوم القيامة، ومن شاق شق الله عليه يوم القيامة)) قولوا: أوصنا. فقال: إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم اهراقه فليفعل. رواه البخاري. 5328 - وعن عمر بن الخطاب، أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني ـــــــــــــــــــــــــــــ ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة، وهو أعظم شبكة للشياطين، فإذا المحمود المخمول، إلا من شهره الله لنشر دينه من غير تكلف منه، كالأنبياء والخلفاء الراشدين، والعلماء المحققين والسلف الصالحين. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي تميمة: قوله: ((من شاق) أطلق ليشمل المشقة على نفسه وعلى الغير بأن يكلف نفسه أو غيره بما هو فوق طاقته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)) ((نه)): أي لولا أن أثقل عليهم، من المشقة وهي الشدة. قوله: ((إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه)) كناية عن مسه النار، وإنما يفتقر إلى هذا التأويل؛ ليطابق قوله: ((فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا)) أي حلالا، ونظيره قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وعقب بقوله: {وسَيَصْلَوْنَ} قوله: {إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [دلالة على أن أول ما يمس النار هو البطن]. وقوله: ((ملء كف من دم)) إنما قلله تسفيها لرأي من يرتكب هذا المحظور تهجينا لفعله؛ فإنه يفوت على نفسه الجنة التي عرضها السماوات والأرض بهذا الحقير. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((لله وليا)) لا يجوز أن يكون نتعلقا بـ ((عادى)) فهو إما متعلق بقوله: ((وليا)) أو صفة له، قدم فصار حالا منه. وقوله: ((إن الله يحب الأبرار)). استئناف مبين لحقيقة الولي، وذكر لهم أحوالا ثلاثة: إذا كانوا سفرا لم يتفقدوا، وإذا

شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن يسير الرياء شرك، ومن عادى لله وليا فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يتفقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يقربوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة)). رواه ابن ماجه، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5328] 5329 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا صلى في العلانية فأحسن، وصلى في السر فأحسن؛ قال الله تعالى: هذا عبدي حقا)). رواه ابن ماجه. [5329] 5330 - وعن معاذ بن جبل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون في آخر الزمان أقوام، إخوان العلانية، أعداء السريرة)). فقيل: يا رسول الله! وكيف يكون ذلك؟ قال: ((ذلك برغبة بعضهم إلى بعض، ورهبة بعضهم من بعض)). [5330] 5331 - وعن شداد بن أوس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)). رواهما أحمد. [5331] ـــــــــــــــــــــــــــــ كانوا حاضرين لم يدعوا إلى مأدبة، وإن حضروها لم يقربوا، وتركوا في [صف] النعال. وهذا تفصيل ما ورد: ((رب أشعث أغبر لا يؤبه له)). وقوله: ((يخرجون من كل غبراء مظلمة)) كناية عن حقارة مساكنهم وأنها مظلمة مغبرة لفقدان أداة ما يتنور به ويتنظف به. وطابق في القرينتين بين النور والظلمة كما طابق المعري في قوله: مراستها أمست لنور مراسيا فلما تظلم الأبيات إلا من الظلم الحديث الثالث والرابع عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((أعداء السريرة)) و ((في)) مقدرة فيها وفي قرينتها. الجوهري: السر ما يكتم والسريرة مثله. الحديث الخامس والسادس عن شداد رضي الله عنه قوله: ((شهوة من شهواته)) كالأكل

5332 - وعنه، أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكرته، فأبكاني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية)) قال: قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: ((نعم؛ أما إنهم لا يعبدون شمسا، ولا قمرا، ولا حجرا، ولا وثنا، ولكن يراؤون بأعمالهم. والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما، فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5332] 5333 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟)) فقلنا: بلى يا رسول الله! قال: ((الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيد صلاته لما يرى من نظر رجل)). رواه ابن ماجه. [5333] 5334 - وعن محمود بن لبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)). قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: ((الرياء)). رواه أحمد. وزاد البيهقي في ((شعب الإيمان)): ((يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء وخيرا؟)). [5334] ـــــــــــــــــــــــــــــ والجماع وغيرهما، يعني إذا كان الرجل في طاعة من [طاعات] الله تعالى، فتعرض له شهوة من شهوات نفسه، رجح جانب النفس على جانب الله تعالى فيتبع هوى نفسه، فيؤديه ذلك إلى الهلاك والردى، {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى}. سمي خفيا لخفاء هلاكه أو مشاكله لقوله: ((الشرك))؛ لأن المراد منه الشرك الخفي بدلالة ما ذكر في الحديث الآتي. الحديث الآتي. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((ألا أخبركم)) ((ألا)) ليست للتنبيه، بل هي لا النافية، دخلت عليها همزة الاستفهام.

(6) باب البكاء والخوف

5335 - وعن أبي سعيد الخدري: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن رجلا عمل عملا في صخرة لا باب لها ولا كوة، خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان)). [5335] 5336 - وعن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له سريرة صالحة أو سيئة؛ أظهر الله منها رداء يعرف به)). [5336] 5337 - وعن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنما أخاف على هذه الأمة كل منافق يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور)). رواه البيهقي الأحاديث الثلاثة في ((شعب الإيمان)). [5337] 5338 - وعن المهاجر بن حبيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: إني لست كل كلام الحكيم أتقبل، ولكني أتقبل همه وهواه، فإن كان همه وهواه في طاعتي جعلت صمته حمدا لي ووقارا وإن لم يتكلم)). رواه الدارمي. [5338] (6) باب البكاء والخوف الفصل الأول 5339 - عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن إلى الثاني عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((كل منافق)) يجوز أن يكون منصوبا، أي أخاف على هذه الأمة شر كل منافق، ويجوز أن يكون مجرورا بدلا من قوله: ((هذه الأمة)) أي أخاف عليهم من النفاق. باب البكاء والخوص الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لو تعلمون ما أعلم)) أي عقاب الله للعصاة وشدة المناقشة يوم الحساب للعتاة، وكشف السرائر وخبث النيات.

5340 - وعن أم العلاء الأنصارية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا أدري، والله لا أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي ولا بكم)). رواه البخاري. 5341 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بين إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا، ورأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ أبو حامد: هذا الحديث من الأسرار التي أودعها قلب الأمين الصادق محمد صلى الله عليه وسلم، [ولا يجوز] إفشاء السر؛ فإن صدور الأحرار قبور الأسرار بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكوا ولا يضحكوا؛ فإن البكاء ثمرة شجرة حياة القلب الحي بذكر الله واستشعار عظمته وهيبته وجلاله، والضحك نتيجة القلب الغافل عن ذلك. فبالحقيقة حث الخلق على طلب القلب الحي والتعوذ من القلب الغافل. انتهى كلامه. وقوله: ((لبكيتم)) جواب القسم الساد مسد جواب ((لو)). الحديث الثاني عن أم العلاء: قوله: ((لا أدري، وأنا رسول الله)) فيه وجوه: أحدها: أن هذا القول منه حين قالت امرأة لعثمان بن مظعون – لما توفي -: هنيئا لك الجنة؛ زجرا لها على سوء الأدب بالحكم على الغيب، ونظيره قوله لعائشة رضي الله عنها حين سمعها تقول: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة: أو غير ذلك يا عائشة!. وثانيها: أن يكون هذا منسوخا بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} كما ذكره ابن عباس في قوله تعالى: {ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ}. وثالثها: أن يكون نفيا للدراية المفصلة دون المجملة. ورابعها: أن يكون مخصوصا بالأمور الدنيوية من غير النظر إلى سبب ورود الحديث. ((تو)): لا يجوز حمل هذا الحديث وما ورد في معناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مترددا في عاقبة أمره، غير متيقن بماله عند الله من الحسنى؛ لما ورد عنه من الأحاديث الصحاح التي ينقطع العذر دونها بخلاف ذلك، وأنى يحمل على ذلك؟ وهو المخبر عن الله تعالى أنه يبلغه المقام المحمود، وأنه أكرم الخلائق على الله تعالى، وأنه أول شافع وأول مشفع. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه قوله: ((من خشاش الأرض)) ((نه)): أي هوامها

5342 - وعن زينب بنت جحش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فرعا يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعيه: الإبهام والتي تليها. قالت زينب: فقلت: يا رسول الله! أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). متفق عليه. 5343 - وعن أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع ـــــــــــــــــــــــــــــ وحشراتها. قوله: ((عمرو بن عامر)) ((تو)): هو أول من سن عبادة الأصنام بمكة، وحمل أهلها بالتقرب إليها بتسييب السوائب، وهو أن يترك الدابة فتسيب حيث شاءت فلا ترد عن حوض ولا علف، ولا يتعرض لها بركوب ولا حمل، وكانوا يسيبون العبيد أيضا بأن يعتقوهم، ولا يكون للمعتق ولاء، ولا على المعتق حجر في ماله، فيضعه حيث شاء. [ويقال له: إنه سائبة]. والقصب – بالضم – المعي، ولعله كوشف من سائر ما كان يعاقب به في النار. ((يجر قصبه في النار)) لأنه استخرج من باطنه بدعة جر بها: [الجريرة] إلى قومه. والله أعلم. الحديث الرابع عن زينب رضي الله عنها: قوله: ((من ردم يأجوج)) ((نه)): يقال ردمت الثلمة ردما إذا شددتها والاسم والمصدر فيه سواء. وأراد بالخبث الفسق والفجور. ((حس)): هو مصدر خبث يخبث خبثا. الحديث الخامس عن أبي عامر رضي الله عنه: قوله: ((من أمتي)) كذا هو في نسخ البخاري، وقد وقع في المصابيح ((في أمتي)) و ((المعازف)): الملاهي. والعازف: اللاعب بها. و ((العلم))، الجبل. والسارح والسارحة والسرح سواء: الماشية، وسرح المال إذا أطلقه يرعى، وسرح بنفسه والمال سارح. قوله: ((يستحلون الحر)) ((تو)): الحر بتخفيف الراء الفرج. وقد صحف هذا اللفظ في كتاب المصابيح، وكذلك صحفه بعض الرواة من أصحاب الحديث فحسبوه الخز بالخاء والزاي المنقوطتين، والخز لم يحرم حتى يستحل، ولقد وجدت من الناس من اغتر بخط من كان يعرف بعلم الحديث وحفظه، وقد كان قيده بالخاء والزاؤ المنقوطتين حتى يثبت له أنه صحف، أو اتبع رواية بعض من لم يعلم. وقال في قوله: ((يروح عليهم بسارحة)) سقط منه فاعل ((يروح)) فالتبس المعنى على من لم يعلم به، وإنما الصواب: يروح عليهم رجل بسارحة لهم، كذلك رواه مسلم في كتابه. وإنما السهو من المؤلف؛ لأنا وجدنا النسخ سائرها على ذلك. وقال أيضا في قوله: ((ويضع العلم)) سقط عنه كلمة وهي ((عليهم)).

إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). رواه البخاري. وفي بعض نسخ ((المصابيح)): ((الحر)) بالحاء والراء المهملتين، وهو تصحيف، وإنما هو بالخاء والزاي المعجمتين، نص عليه الحميدي وابن الأثير في ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: أما قوله: أولا قد صحف .. إلخ. فجوابه ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في هذا الحديث بعد ما روى: ((يستحلون الخز)) بالخاء والزاي المعجمتين. قال: والذي ذكره أبو إسحاق الحربي في باب الحاء والراء ليس من هذا في شيء، إنما هو حديث آخر عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول دينك نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة وخيرة، ثم ملك عض يستحل فيه المر والحرير))، يريد استحلال الحرام من الفروج. وهذا لا يتفق مع الذي أخرجه البخاري. وكذلك أخرجه أبو داود في السنن في كتاب اللباس في باب الخز ولباسه، وإنما ذكرنا ذلك لأن من الناس من يتوهم في ذلك شيئا فبيناه. وحديث أبي ثعلبة ليس من شرط الصحيح، تم كلامه. وقريب منه ما ذكره صاحب النهاية في باب الحاء والراء المهملتين. وأما قوله ثانيا: والخز لم يحرم حتى يستح ... فجوابه ما ذكره ابن الأثير في النهاية في حديث علي: ((أنه نهى عن ركوب الخز والجلوس عليه)): الخز المعروف أولا أي في الزمان الأول ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون، فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين. وإن أريد بالخز النوع الآخر، وهو المعروف الآن فهو حرام؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم، وعليه يحمل الحديث الآخر يعني هذا الحديث: ((يستحلون الخز والحرير)). تم كلامه. فإن قيل: كيف يعطف الحرير على الخز والأول مكروه والثاني حرام على المعنى الأول، وعلى الثاني يلزم عطف الشيء على نفسه أو كيف يحرم وإنه لم يكن مصطلحا حينئذ؟ والجواب عن الأول أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى التغليب إرادة التغليظ. والجواب عن الثاني أنه عطف بيان كقول الحماسي: الكاعب الحسناء ترفـ ـل في الدمقس وفي الحرير فإن الدمقس هو الحرير وإنه إخبار عن الغيب وكان معجزة. وأما قوله ثالثا: سقط منه فاعل ((يروح)) فالتبس المعنى، فجوابه أنه ما التبس منه بل رواه البخاري كما في المصابيح، ولكن الحميدي والخطابي وصاحب جامع الأصول ذكروا ((تروح عليهم سارحة)) بالتاء المقيدة بالنقطتين، ويرفع ((سارحة)) على الفاعلية فوجب أن يقال: إن الباء زائدة في الفاعل لتتفق الروايتان ويستقيم المعنى، ويستدل بهذه الرواية على أن الباء تزاد في الفاعل كما استدل بقول امرئ القيس:

هذا الحديث. وفي كتاب ((الحميدي)) عن البخاري، وكذا في ((شرحه)) للخطابي: ((تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم لحاجة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن نملك بيقرا وأما نسبته إلى ((مسلم)) وأنه رواه في كتابه كذا فهو سهو منه؛ لأني ما وجدت الحديث في كتاب مسلم. فكيف؟ وقد أورده الحميدي في أفراد البخاري فحسب، وصاحب جامع الأصول رواه عن البخاري وأبي داود. وأما قوله رابعا، وقد سقط منه كلمة ((عليهم)) فإني ما وجدت في الأصول هذه الكلمة ثابتة فإن قلت: كيف يكون نزول بعضهم إلى جنب علم، ورواح سارحتهم عليهم، ودفعهم [ذا] الحاجة بالمطل والتسويف، سببا لهذا العذاب الأليم والنكال الهائل؟. قلت: إنهم لما بالغوا في الشح والمنع بولغ في العذاب، وبيان ذلك أن في إيثار ذكر العلم على الجبل إيذانا بأن المكان مخصب ممرع ومقصد لذوي الحاجات، فيلزم منه أن يكونوا ذوي ثروة وموئلا للملهوفين. فكما دل خصوصية المكان على ذلك المعنى دل خصوصية الزمان في قوله: ((بروح عليهم سارحتهم)) وتعديته بـ ((على)) المنبهة بالاستعلاء على أن ثروتهم حينئذ أوفر وأظهر، وأن احتياج الواردين أشد؛ لأنهم أحوج [ما يكون] حينئذ. وفي قولهم: ((ارجع إلينا غدا)) إدماج لمعنى الكذب، وخلف الموعد واستهزاء بالمطالب. فإذن يستأهلون أن يعذبوا بكل نكال، وإنما قلنا: إن العلم يدل على الشهرة والمقصد قول الخنساء في مدح أخيها: كأنه علم في رأسه نار نبهت به على أن أخاها مشهور معروف في ملجأ الملهوفين، ومأمن للمضطرين؛ فإن رواح السارحة دل على وفور الثروة وظهورها كقوله تعالى: {ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ}. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملاء البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر [وملجائه]. ((خط)): فيه بيان أن المسخ قد يكون في هذه الأمة، وكذلك الخسف كما كانا في سائر الأمم، خلاف قول من زعم أن ذلك لا يكون، إنما مسخها بقلوبها.

5344 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)). متفق عليه. 5345 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)). رواه مسلم. الفصل الثاني 5346 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)). رواه الترمذي. [5346] 5347 - وعن أبي ذب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((من كان فيهم)) ((مظ)): يعني إذا أذنب بعض القوم نزل العذاب بجميع من كان في القوم، سواء فيه المذنب وغيره يشؤمه، ولكنهم مجزيون يوم القيامة على حسب أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثل النار)) ((مظ)): يعني النار شديدة والخائفون منها [نائمة غافلة]، وليس هذا طريق الهارب، بل طريقة أن يهرب من المعاصي إلى الطاعات. أقول: ((مثل)) ها هنا كما في قول [العبقري]: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب جوابا على قوله: لأحملنك على الأدهم، أي مثل الجنة [الصافية] في نعيمها الصافية عن الكدورات وخلودها المنزه عن الفناء والزوال، وفيه معنى التعجب، أي ما أعجب حال هذه الجنة الموصوفة بهذه الصفات، وحال طالبها الغافل عنها، هذا إذا لم يكن ((رأيت)) من أفعال القلوب، وأما إذا كان منها فقوله ((نام هاربها)) يكون مفعولا ثانيا له. الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((أطت السماء)) ((نه)): الأطيط صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتها وحنينها، أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثمة أطيط وإنما هو طلام تقريب أريد به تقرير

أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)). قال أبو ذر: يا ليتني كنت شجرة تعضد. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5347] 5348 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) رواه الترمذي. [5348] ـــــــــــــــــــــــــــــ عظمة الله تعالى. و ((الصعدات)) الطرق وهي جمع صعد، وصعد جمع صعيد. وقيل: هي جمع صعدة كظلمة، وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه انتهى كلامه. قوله: ((أربع)) بغير هاء في جامع الترمذي وابن ماجه، ومع الهاء في شرح السنة وبعض نسخ المصابيح. والإصبع تذكر وتؤنث. وقوله: ((موضع أربعة أصابع)) فاعل للظرف المعتمد على حرف النفي، والمذكور بعد ((إلا)) حال منه، أي وفيه ملك. ((تو)) المعنى لخرجتم من منازلكم إلى الجبنانة متضرعين إلى الله تعالى، ومن حال المحزون أن يضيق به المنزل، فيطلب الفضاء الخالي لبث الشكوى، وقوله: قال أبو ذر: ليتني كنت شجرة تعضد، أي تقطع، هو من قول أبي ذر، ليس في كتاب أحد ممن نقل هو عن كتابه ((قال أبو ذر)) بل أدرج في الحديث. ومنهم من قال: قيل: هو من قول أبي ذب، وقد علموا أنه بكلام أبي ذب أشبه. والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله من أن يتمنى عليه حالا هي أوضع مما هو فيه ثم إنها مما لا تكون. أقول: في جامع الترمذي وجامع الأصول هكذا ((تجأرون إلى الله، لوددت أني شجرة تعضد)) وفي رواية: إن أبا ذر قال: لوددت أني شجرة تعضد. ويروى عن أبي ذي موقوفا وفي سنن ابن ماجه كما في المتن ونسخ المصابيح: قال أبو ذر: يا ليتني ... !)) إلخ وللبحث فيه مجال. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من خاف أدلج)) قيل: من خاف من هجوم العدو عليه وقت السحر، يسير في الليل ويبلغ المأمن. هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه؛ فإن تيقظ في سيره وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه ثم أرشد إلى أن سلوك طريق

5349 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله جل ذكره: أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((كتاب البعث والنشور)). [5349] 5350 - وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا، يا بنت الصديق! ولكنه الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5350] ـــــــــــــــــــــــــــــ الآخرة صعب وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي، فقال: ((ألا إن سلعة الله غالية)) أي رفيعة القدر وسلعة الله الجنة العالية الباقية، ثمنها الأعمال الخالصة الباقية التي أشار إليها بقوله سبحانه: {والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وخَيْرٌ أَمَلاً}. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((من ذكرني يوما)) أراد الذكر بالإخلاص وهو توحيد الله تعالى عن إخلاص القلب وصدق النية، وإلا فجميع الكفار يذكرونه باللسان دون القلب يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة)) والمراد بالخوف كف الجوارح عن المعاصي وتقييدها بالطاعات، وإلا فهو حديث نفس وحركة خاطر، لا يستحق أن يسمى خوفا، وذلك عند مشاهدة سبب هائل، فإذا عاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب إلى الغفلة. قال الفضيل: إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فاسكت؛ فإنك إذا قلت: ((لا)) كفرت، وإذا قلت: ((نعم)) كذبت، أشار به إلى الخوف الذي هو كف الجوارح عن المعاصي. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يؤتون ما آتوا)) هكذا هو في نسخ المصابيح وهو القراءة المشهورة، ومعناه يعطون ما أعطوا. وسؤال عائشة رضي الله عنها: ((أهم الذين يشربون الخمر ... ؟ إلخ. لا يطابقها، وقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتون ما أتوا)) بغير مد أي يفعلون ما فعلوا، وسؤالها مطابق لهذه القراءة، وهكذا هو في تفسير الزجاج والكشاف. الحديث السادس عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قوله: ((يا أيها الناس!)) أراد به النائمين

5351 - وعن أبي كعب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: ((يا أيها الناس! اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)). رواه الترمذي. [5351] 5352 - وعن أبي سعيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة فرأي الناس كأنهم يكتشرون قال: ((أما: إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى [الموت]، فأكثروا ذكر هاذم اللذات، الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، وإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك)). قال: ((فيتسع له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحبا ولا أهلا، ـــــــــــــــــــــــــــــ من أصحابه الغافلين عن ذكر الله ينبههم عن النوم ليشتغلوا بذكر الله تعالى والتهجد. وأراد بـ ((الراجفة)) النفخة الأولى التي يموت منها جيمع الخلق، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا [تمخض]. وأراد بالرادفة النفخة الثانية ردفت النفخة الأولى. أنذرهم صلى الله عليه وسلم باقتراب الساعة؛ لئلا يغفلوا عن استعدادها. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((يكتشرون)) ((تو)): أي يضحكون والمشهور في اللغة الكشر يقال: كشر الرجل إذا افتر فكشف عن اسنانه، وكشر البعير عن نابه أي كشف عنها. قوله: ((الموت)) بيان لقوله: ((هاذم اللذات)) للتصريح بقوله فيما بعده ((هاذم اللذات، الموت)). وقوله: ((عما أرى)) عما أراكم فيه من الاكتشار والضحك. وقوله: ((إلا تكلم)) أي بلسان الحال كما تقول: الحال ناطقة بكذا. وقوله: ((أما إن كنت)) إن مخففة من الثقيلة، واللام فارقة، وفي ((إذا)) معنى التعليل. و ((وليتك)) من التولية مجهولا، و ((وليتك)) من الولاية معلوما. قوله: ((العبد الفاجر أو الكافر)) ((أو)) لشك الراوي. والمعنى بـ ((الفاجر)) الكافر لوقوعه في مقابلة قوله: ((العبد المؤمن)) ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا}. قوله: ((من حفر النار)) كذا في جامع الترمذي وجامع الأصول وأكثر نسخ المصابيح، وفي

أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك)) قال: ((فيلتئم عليه حتى يختلف أضلاعه)). قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه، فأدخل بعضها في جوف بعض. قال: ((ويقيض له سبعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا، فينهسنه ويخدشنه حتى يفضى به إلى الحساب)). قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار)). رواه الترمذي. [5352] 5353 - وعن أبي جحيفة، قال: قالوا: يا رسول الله! قد شبت. قال: ((شيبتني سورة هود وأخواتها)). رواه الترمذي. [5353] 5354 - وعن ابن عباس، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! قد شبت. قال: ((شيبتني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عم يتساءلون) و (إذا الشمس كورت))). رواه الترمذي. [5354] وذكر حديث أبي هريرة: ((لا يلج النار)) في ((كتاب الجهاد)). ـــــــــــــــــــــــــــــ بعضها ((النيران)) بالجمع. الحديث الثامن والتاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((شيبتني هود)) ((تو)): يريد أن اهتمامي بها فيها من أهوال يوم القيامة، والمثلات النوازل بالأمم الماضية أخذ مني ما أخذه حتى شبت قبل أوان المشيب خوفا على أمتي. ((حس)): عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت له: روي عنك انك قلت: ((شيبتني سورة هود)) فقال: نعم! قلت: وبأية آية؟ قال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، قال الإمام فخر الدين: وذلك لأن الاستقامة على الطريق المستقيم من غير ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط، في الاعتقادات، والأعمال الظاهرة والباطنة عسير جدا، وقد سبق تحقيقه في أول الكتاب.

الفصل الثالث 5355 - عن أنس، قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. يعني المهلكات. رواه البخاري. 5356 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا)). رواه ابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5356] 5357 - وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: قلت: لا. قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى! هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا؟ وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا، رأسا برأس؟ فقال أبوك لأبي: لا والله، قد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا وصمنا وعملنا خيرا كثيرا، وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك. قال أبي: ولكني أنا، والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافا رأسا برأس. فقلت: إن أباك والله كان حيرا من أبي. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((هي أدق في أعينكم)) عبارة عن تدقيق النظر في العمل وإمعانه فيه، أي تعملون أعمالا وتحسبون أنكم تحسنون صنعا، وليس كذلك في الحقيقة. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من الله طالبا)) هو من باب التجريد، كقول القائل: وفي الرحمن للضعفاء كاف الحديث الثالث عن أبي بردة رضي الله عنه: قوله: ((برد لنا)) يقال: برد لنا هذا الأمر إذا ثبت ودام. ((نه)): في الحديث: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) أي لا تعب فيه ولا مشقة وكل محبوب عندهم بارد وقيل: معناه الغنيمة الثابتة المستقرة من قولهم: برد على فلان حق أي

5358 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية. وكلمة العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفوا عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطفي ذكرا، ونظري عبرة، وآمر بالفرف)) وقيل: ((بالمعروف)). رواه رزين. 5359 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كان مثل رأس الذباب من خشية الله، ثم يصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار)). رواه ابن ماجه. [5359] ـــــــــــــــــــــــــــــ مثبت. انتهى كلامه. وهو خبر قوله: ((أن إسلامنا)) والجملة فاعل ((هل يسرك)) وقوله ((كفافا)) نصب على الحال من الضمير المجرور، أي نجونا منه في حالة كونه لا يفضل علينا شيء منه، أو من الفاعل أي مكفوفا عنا شره. وقوله: ((لوددت)) خبر ((لكني)) مع اللام، وهو ضعيف. ويجوز أن يكون ((لوددت)) جواب القسم والقسمية خبر ((لكني)) على التأويل. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أمرني ربي بتسع)) ذكر تسعا وأتى بعشر فالوجه أن يحمل العاشر وهو الأمر بالمعروف على أنه نجمل عقب التفصيل؛ لأن المعروف هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، كأنه قيل: أمرني ربي بأن أتصف بهذه الصفات وآمر غيري بالإتصاف بها. فالواوات كلها عطفت المفرد على المفرد. وفي قوله: ((وآمر بالعرف)) عطف المجموع من حيث المعنى على المجموع بحسب اللفظ ونحوه في التفرقة بين الواوين قوله تعالى: {ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ (19) ولا الظُّلُمَاتُ ولا النُّورُ (20) ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ}. الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((حر وجهه)) ما أقبل عليك وبدا لك منه، وحر كل أرض ودار، وسطها وأطيبها.

(7) باب تغير الناس

(7) باب تغير الناس الفصل الأول 5360 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)). متفق عليه. 5361 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)). قيل: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب تغير الناس الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كالإبل المائة)) اللام فيها للجنس ((تو)): الرواية فيه على النعت ((كإبل مائة)) بغير ألف ولام فيهما، والمعنى أنك لا تكاد تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب، فإنما [يصلح] للركوب ما كان وطيا سهل القياد، وكذلك لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة ويعاون صاحبه ويلين له جانبه. أقول: على القول الأول تجد فيها ((راحلة)) صفة لـ ((الإبل)) والتشبيه مركب تمثيلي، والوجه منتزع من عدة أمور متوهمة. وعلى الثاني هو الوجه للتشبيه وبيان لما شبه الناس بالإبل والتشبيه مفرد. ((مظ)): معناه أن الناس في أحكام الدين سواء لا فضل فيها لشريف على مشروف. ولا لرفيع منهم على وضيع، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة. الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله ((سنن من قبلكم)) السنن جمع سنة وهي الطريقة حسنة كانت أو سيئة. والمراد بها ها هنا طريقة أهل الأهواء والبدع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من [تغيير] دينهم وتحريف كتابهم كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. وقوله: ((شبرا بشبر)) حال مثل ((يدا بيد)). قوله: ((اليهود والنصارى)) [أي: أتعني من نتبعهم] اليهود والنصارى؟ فأجاب: ((فمن؟)) أي إن لم أردهم فمن سواهم؟.

5362 - وعن مرداس الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يذهب الصالحون، الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة)). رواه البخاري. الفصل الثاني 5363 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مشت أمتي المطيطياء وخدمتهم أبناء الملوك أبناء فارس والروم، سلط الله شرارها على خيارها)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5363] 5364 - وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لاتقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم)). رواه الترمذي. [5364] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن مرداس: قوله: ((الأول فالأول)) الفاء للتعقيب، ولا بد من تقدير، أي الأول منهم فالأول من الباقين منهم، هكذا حتى ينتهي إلى الحفالة، مثله الأفضل فالأفضل. و ((الأول)) بدل من ((الصالحون)). قوله: ((حفالة)) ((قض)): الحفالة رذالة الشيء وكذا ((الحثالة))، والفاء والثاء يتعاقبان كثيرا. ((لا يباليهم الله)) أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا وأصل باله بالية مثل عافاه الله عافية فحذفوا الياء منها تخفيفا كما حذفوا [من ((لم أبل)) يقال ما باليته وما باليت به أي لم أكترث به انتهى كلامه، والتنكير في حفالة تنكير للتحقير]. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((المطيطياء)) ((فا)): هي ممدودة ومقصورة بمعنى التمطي، وهو التبختر ومد اليدين، وأصل [التمطي] تمطط تفعل من المط، وهو المد، وهي من المصغرات التي لم يستعمل بها مكبر، نحو كعيب وكميت وكالمريطاء وهي ما بين الصدر إلى العانة. ((قض)): وقياس [بمكبرها] ممدودة مطياء بوزن طرمساء، ومقصورة مطيا بوزن هرندي على أن أصلها مططا على فعلا، فأبدلت الطاء الثالثة ياء. وهذا الحديث من دلائل نبوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن الغيب، ووافق الواقع خبره؛ فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم وأخذوا أموالهم وتجملاتهم وسبوا أولادهم فاستخدموهم، سلط الله قتلة عثمان رضي الله عنه عليه حتى قتلوه، ثم سلط بني أمية على بني هاشم ففعلوا ما فعلوا. الحديث الثاني عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((وتجتلدوا)) أي تتضاربوا. ((نه)): في

5365 - وعنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)). رواه الترمذي، والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5365] 5366 - وعن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثني من سمع علي بن أبي طالب، قال: إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد، فاطلع علينا مصعب بن عمير، ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: ((كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في حلة ووضعت بين يديه صحفة. ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟)) فقالوا: يا رسول الله! نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة، ونكفي المؤنة. قال: ((لا))، أنتم اليوم خير منكم يومئذ)). رواه الترمذي. [5366] 5367 – وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان، الصابر ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث: ((فنظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمي الوطيس)) أي إلى موضع الجلاد وهو الضرب بالسيف في القتال، يقال: جلدته بالسيف والسوط ونحوه إذا ضربته به. الحديث الثالث عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((لكع بن لكع)) ((تو)): اللكع العبد، وقد يكنى به عن الحمق، ويوصف به اللئيم، ويقولون للعبد: لكع؛ لما فيه من الذلة، وللجحش لكع، لما فيه من الخفة، وللصبي ما فيه من الضعف، ويقال أيضا للذليل الذي تكون نفسه نفس العبيد، وأريد به ها هنا الذي لا يعرف له أصل ولا يحمد له خلق. أقول: وهو غير منصرف للعدل والصفة. ((فا)): هو معدول عن اللكع يقال: لكع لكعا فهو اللكع. وأصله أن يكون في النداء لفسق وعذر [وهو اللئيم]. الحديث الرابع عن محمد بن كعب: قوله: ((مصعب بن عمير)) هو من أغنياء قريش. هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وترك النعمة بمكة، وهو من كبار الصحابة من أصحاب الصفة الساكنين في مسجد قباء. وقوله ((لا، أنتم اليوم خير)) أي ليس الأمر كما تظنون بل أنتم اليوم خير؛ لأن الفقير الذي له كفاف خير من الغني؛ لأن الغني يشتغل بدنياه، ولم يكن له فراغ للعبادة من كثرة اشتغاله بتحصيل المال. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كالقابض على الجمر)) خبر ((الصابر))،

فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب إسنادا. [5367] 5368 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم؛ فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم؛ فبطن الأرض خير لكم من ظهرها)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5368]. 5369 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)). فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)). قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5369] ـــــــــــــــــــــــــــــ والجملة صفة لـ ((زمان)) والراجع محذوف أي الصابر فيه، أي كما لا يقدر القابض على الجمر أن لا يصبر لاحتراق يده، كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي، وانتشار الفتن وضعف الإيمان. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((وأموركم شورى)) هو مصدر بمعنى التشاور، أي ذو شورى، معناه يشاور بعضهم بعضا فيما عن لهم من الرأي، لا يستبد أحد منهم في رأيه؛ فإن المشاورة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستبداد من شيمة الشيطان. الحديث السابع عن ثوبان رضي الله عنه: قوله: ((أن تداعى عليكم)). ((تو)): يريد أن فرق الكفر وأمم الضلالة يوشط أن تتداعى عليكم بعضطم بعضا، ليقاتلوكم ويكسروا شروكتكم ويغلبوا على ما ملكتموه من الديار والأموال، كما أن الفئة الأكلة تتداعى بعضهم بعضا إلى قصعتهم التي يتناولونها من غير ما بأس ولا مانع، فيأكلونها عفوا صفوا. فيستفرغوا ما في صحفتكم من غير ما تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم.

الفصل الثالث 5370 - عن ابن عباس، قال: ((ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغيرحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو)). رواه مالك. [5370] ـــــــــــــــــــــــــــــ والرواية في ((الآكلة)) بالمد على نعت ((الفئة)) أو الجماعة أو نحو ذلك، كذا روي لنا عن أبي داود، وهذا الحديث من أفراده. والغثاء بالضم والمد وبالتشديد أيضا، ما يحمله السيل من القماش شبههم بذلك لقلة عنائهم ودناءة قدرهم وخفة أحلامهم. وقول القائل: ((وما الوهن؟)) سؤال عن نوع الوهن، أو كأنه أراد من أي وجه يكون ذلك الوهن؟ فقال: ((حب الدنيا)) يريد أن حب البقاء في الدنيا وكراهية الموت يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين واحتمال الذل عن العدو، نسأل الله العافية فقد ابتلينا به وكأنه نحن المعنيون بذلك. قوله: ((ومن قلة)) خبر مبتدأ محذوف. و ((نحن يومئذ)) مبتدأ وخبر صفة لها، أي ذلك التداعي لأجل قلة نحن عليها يومئذ .. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب)) رتب إلقاء الرعب على الوصف المناسبن وهو الغلول على الكناية التلويحية؛ فإن إلقاء الرعب مشعر بظفر العدو عليهم، وهو مشعر بأن تكون أموالهم غنيمة للعدو، فيلزم منه أن يكون كاله فيئا للأعداء. ورتب كثرة الموت على فشو الزنا وكثرتها؛ وذلك أن النكاح إنما شرع لغرض التوالد والتناسل، والزنا يفضي إلى قطعهما، فلما سعى الزاني في إبطال ذلك الغرض الصحيح بفعله، جوزي بإبطال ذاته بضمها الغرض الصحيح. فالموت على هذا عبارة عن قطع التوالد والتناسل. وقريب منه ما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهو هذا. فإن قلت كيف يقل عيال من تسري وفي السراري نحو ما في المهائر؟ قلت ليس كذلك؛ لأن الغرض بالتزوج التوالد والتناسل بخلاف التسري؛ ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، كتزوج الواحدة بالإضافة على تزوج الأربع.

(8) باب الإنذار والتحذير

(8) باب الإنذار والتحذير الفصل الأول 5371 - عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((إلا فشا فيهم الدم)) وذلك لأن حكم من حكم بغير حق فقد ظلم، ومن ظلم فقد أفسد. ومن أفسد، فقد أفضى به الأمر إلى أن يهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. ((نه)): والختر الغدر، يقال ختر يختر فهو خاتر، وختار للمبالغة. [باب الإنذار والتحذير] الفصل الأول الحديث الأول عن عياض: قوله: ((كل مال نحلته)) ((قض)): هو حكاية ما علمه الله تعالى وأوحى إليه في يومه ذا، أو المعنى ما أعطيت عبدا من مال فهو حلال له، ليس لأحد أن يحرم عليه، ويمنعه عن التصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم. وليس لقائل أن يقول: هذا يقتضي أن لا يكون الحرام رزقا؛ لأن كل رزق ساقه الله تعالى إلى عبد فقد نحله وأعطاه، وكل ما نحله وأعطاه فهو حلال، فيكون كل رزق رزقه الله إياه فهو حلال، وذلك يستلزم أن يكون كل ما ليس بحلال ليس برزق؛ لأنا نقول: الرزق أعم من الإعطاء؛ لأن الإعطاء يتضمن التمليك. ولذلك قال الفقهاء: لو قال الرجل لامرأته: إن أعطيتيني ألفا فأنت طالق، فأعته بانت، ودخل الألف في ملكه، ولا كذلك الرزق. ((وإني خلقت عبادي حنفاء))، أي مستعدين لقبول الحق، والحنف عن الضلال مبرءين عن الشرك والمعاصي، وهو في معنى قوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) ((فاجتالتهم عن دينهم))، أي جالت الشياطين بهم وساقتهم إليها، افتعال من الجولان. ((ما لم أنزل به سلطانا)) مفعول ((يشركوا)) يريد به الأصنام وسائر ما عبد من دون الله، أي أمرتهم بالإشراك بالله بعبادة ما لم يأمر الله بعبادته، ولم ينصب دليلا على استحقاقه للعبادة. ثم ((نظر إلى أهل الأرض)) أي رآهم ووجدهم متفقين على الشرك منهمكين في الضلالة، إلا بقايا من اليهود والنصارى، تبرءوا عن الشرك وعضوا على التوحيد والدين الحق. ((فمقتهم)) أي أبغضهم لسوء اعتقادهم وخبث صنيعهم.

الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: [يا] رب! إذا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك واعزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك. وابعث جيشا نبعث حمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك)). رواه مسلم. 5372 - وعن ابن عباس، قال: لما نزلت {وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر! يا بني عدي!)) لبطون قريش حتى اجتمعوا ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لأبتليك وأبتلي بك)) أي لأمتحنك وأمتحن الناس بك. ((وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء))، أي كتابا محفوظا في القلوب لا يضمحل بغسل القراطيس، أو كتابا مستمرا متداولا بين الناس ما دامت السموات والأرض، لا ينسخ ولا ينسى بالكلية. وعبر عن إبطال حكمه وترك قراءته والإعراض عنه بغسل أوراقه بالماء على سبيل الاستعارة، أو كتابا واضحا آياته بينا معجزاته لا يبطله جور جائر ولا تدحضه شبهة مناظر، فمثل الإبطال معنى بالإبطال صورة. وقيل: منى به غزارة معناه وكثره جدواه من قولهم: مال فلان لا تفنيه الماء والنار. ((تقرؤه نائما ويقظان)) أي يصير لك ملكة بحيث يحضر في ذهنك وتلتفت إليه نفسك في أغلب الأحوال، فلا تغفل عنه نائما ويقظان، وقد يقال للقادر على الشيء الماهربه: هو يفعله نائما. ((وإن الله أمرني أن أحرق قريشا)) أي أهلكهم يريد به كفارهم. ((إذا يثلغوا رأسي)) أي يشدخوه فيتركوه بالشدخ مصفحا كخبزة. ((ونغزك)): ((ما لم أنزل به سلطانا)) أي لا إنزال سلطان ولا شريك على أسلوب قوله: على لا حب لا يهتدى بمناره ولا يرى الضب بها ينحجر أي لا منار ولا اهتداء به وقوله: أي لا ضب ولا انحجار نفيا للأصل والفرع. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لبطون قريش)) واللام فيه بيان، كما في قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} كأنه قيل: لمن؟ قيل: ((لبطون قريش)).

فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)) قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟! فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب) متفق عليه. وفي رواية: نادى: ((يا بني عبد مناف! إنما مثلي مثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه!)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((أرأيتكم)) أي أخبروني، الضمير المتصل المرفوع من الخطاب العام، والضمير الثاني لا محل له فهو كالبيان للأول؛ لأن الأول بمنزلة الجنس الشائع في المخاطبين، فيستوي فيه التأنيث والتذكير والإفراد والجمع، فإذا أريد بيانه بأحدى هذه الأنواع بين به، فأتى في الحديث بعلامة الجمع بيانا للمراد. وضمن ((جرب)) معنى الإلقاء، وعداه ((بعلى)) أي ما ألقينا عليك قولا مجربين لك، هل تكذب فيه أم لا؟ فما سمعنا منك إلا صدقا. وقوله: ((بين يدي)) ظرف لقوله: ((نذير)) وهو بمعنى قدام؛ لأن كل من يكون قدام أحد يكون بين الجهتين السابقتين ليمينه وشماله، وفيه تمثيل، مثل إنذاره القوم بعذاب الله تعالى النازل على القوم بنذير قوم يتقدم جيش العدو فينذرهم. ((قض)): التب والتباب الخسران والهلاك، ونصبه بعامل مضمر، و ((سائر اليوم)) يريد جميع الأيام. ((تو)): من ذهب في ((سائر)) إلى البقية فإنه غير مصيب؛ لأن الحرف من السير لا من السؤر، وفي أمثالهم في اليأس من الحاجة. أسائر اليوم وقد زال الظهر. أقول: وفيه نظر لأنه قال صاحب النهاية: - السائر المهموز الباقي -. والناس يستعملونه في معنى الجمع وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، كأنها تعني باقي الشيء، ويدل على تصحيح ما في النهاية ما في أساس البلاغة؛ فإنه أورده في باب السين مع الهمز قائلا أسأر الشارب في الإناء سؤرا وسؤرة أي بقية. وفي المثل: سائر اليوم وقد زال الظهر. انتهى كلامه. فعلى هذا المراد بقوله: ((سائر اليوم)) بقية الأيام المستقبلة. ((نه)): ((يربأ أهله)) أي يحفظهم من عدوهم، والإسم الربيئة وهو العين. والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه، وارتبأت الجبل إذا صعدته. أقول: أسلوب الحديث يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استنطقهم أولا بما أقروا به أنه صادق، فلما اعترفوا ألزمهم بقوله: ((فإني نذير لكم)) إلخ، أي إذا اعترفتم بصدقي فاتبعوا لما أقول لكم.

5373 - وعن أبي هريرة، قال: لما نزلت {وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي! انقضوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) رواه مسلم. وفي المتفق عليه قال: ((يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. ويا بني عبد ماف! لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا)). الفصل الثاني 5374 - عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمتي هذه أمة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: (0ببلالها)) ((نه)): البلال جمع بلل والعرب يطلقون النداوة على الصلة كما يطلق اليبس على القطيعة؛ لأنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل بالنداوة، ويحصل بينهما التجافي والتفرق باليبس، استعاروا البلل بمعنى الوصل واليبس بمعنى القطيعة، والمعنى أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا. وقد مر القول فيه في باب البر والصلة. [((تو))] قوله: ((ما شئت من مالي)) [أرى] أنه ليس من المال المعروف في شيء، إنما عبر به عما يملكه من الأمر وينفذ تصرفه فيه، ولم يثبت عندنا أنه كان ذا مال لا سيما بمكة. ويحتمل أن الكلمتين أعني ((من)) و ((ما)) وقع الفصل فيهما من بعض من لم يحققه من الرواة، فكتبهما منفصلتين. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((أمتي هذه)) ((مظ)): هذا الحديث مشكل

مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا: الفتن والزلازل والقتل)). رواه أبو داود. [5374] 5375 - 5376 - * وعن أبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم ملكا عضوضا، ثم كائن جبرية وعتوا وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج والخمور، يرزقون على ذلك وينصرون، حتى يلقوا الله)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5375 – 5376] ـــــــــــــــــــــــــــــ لأن مفهومه أن لا يعذب أحد من أمته صلى الله عليه وسلم، سواء فيه من ارتكب الكبائر وغيره وقد ورد الأحاديث بتعذيب مرتكبي الكبائر، اللهم إلا أن يؤول بأن المراد بـ ((الأمة)) هنا من اقتدى به صلى الله عليه وسلم كما ينبغي ويمتثل بما أمره الله به، وينتهي عما نهاه)). أقول: الحديث وارد في مدح أمته صلى الله عليه وسلم واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله تعالى ورحمته عليهم، وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها، أن الله يكفر بها في الآخرة ذنبا من ذنوبه وليست هذه الخاصية لسائر الأمم ويؤيده ذكر هذه وتعقيبها بقوله: ((مرحومة))؛ فإنه يدل على مزيد تميزهم بعناية الله ورحمته كما في قول الشاعر: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه من نسل شيبان بين الضال والنمر والذهاب إلى المثل المفهوم مهجور في مثل هذا المقام. وهذه الرحمة هي المشار إليها بقوله تعالى: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} أراد موسى عليه السلام أن يخص هذه الرحمة بأمته، فأجابه تعالى بأنها مختصة بأمة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فجرت ذهنك في الآيات لتقف على سر ما ذكرت. الحديث الثاني عن أبي عبيدة رضي الله عنه: قوله: ((إن هذا الأمر)) هو ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إصلاح الناس دينا ودنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام)). قوله: ((ملك عضوض)) ((نه)): أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا، والعضوض من أبنية المبالغة. وقوله: ((جبرية)) أي قهر وعتو يقال: جبار بين الجبرية والجبروت.

5377 - وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يكفأ – قال زيد بن يحيى الرواي: يعني الإسلام – كما يكفأ الإناء)) يعني الخمر. قيل فكيف يا رسول الله! وقد بين الله فيها ما بين؟ قال: ((يسمونها بغير اسمها فيستحلونها)). رواه الدارمي. [5377] الفصل الثالث 5378 - عن النعمان بن بشير، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكا جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)) ثم سكت، قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز كتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه وقلت: أرجو أن تكون أمير المؤمنين بعد الملك العارض والجبرية، فسر به وأعجبه، يعني عمر بن عبد العزيز رواه أحمد والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5378]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن أول ما يكفأ)) خبر ((إن)) محذوف، وهو الخمر، والكاف في ((كما يكفأ)) صفة مصدر محذوف يعني أول ما يكفأ في الإسلام إكفاء مثل إكفاء ما في الإناء من الخمر. ((قض)): ((يكفأ)) يقلب ويمال: يقال: كفأت القدر إذا قلبتها لينصب عنها ما فيها، والمراد به الشرب ها هنا؛ فإن الشارب يكفأ القدح عند الشرب، وقول الراوي: ((يعني الإسلام)) يريد به: في الإسلام وسقط عنه. والمعنى: إن أول ما يشرب من المحرمات ويجترأ على شربه في الإسلام، كما يشرب الماء ويجترأ عليه هو الخمر ويؤولون في تحليلها بأن يسموها بغير اسمها كالنبيذ والمثلث. الفصل الثالث الحديث الأول عن النعمان: قوله: ((ثم تكون ملكا عاضا)) ((كان)) ها هنا ناقصة واسمه ما يدل

كتاب الفتن

كتاب الفتن الفصل الأول 5379 - عن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. متفق عليه. 5380 - وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ـــــــــــــــــــــــــــــ عليه الخلافة، وفي القرينتين السابقتين تامة. و ((أمير المؤمنين)) خبر ((أن تكون)) وقوله: ((بعد الملك)) ظرف للخبر على تأويل الحاكم العادل؛ نحوه قوله تعالى: {وهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} أي معبود فيها. كتاب الفتن الفصل الأول الحديث الأول عن حذيفة: قوله: ((وإنه ليكون منه الشيء)) أي ليحدث منه الشيء مما نسيته، فإذا عاينته تذكرت ما نسيت. وقوله: ((مقاما))، إما مصدر ميمي أو اسم مكان. والجملة المنفية صفة. وقوله: ((مقامه)) وضع موضع ضمير الموصوف. و ((في مقامه)) متعلق بـ ((ترك)) أي قام مقاما ما ترك في مقامه ذلك شيئاً يحدث إلى قيام الساعة إلا حدث به. الحديث الثاني عن حذيفة: قوله: ((تعرض الفتن)). [((نه))]: أي توضع عليها وتبسط كما يبسط الحصير، من عرض العود على الإناء والسيف على الفخذين يعرضه إذا وضعه. [((فا))]: قيل: من عرض الجند بين يدي السلطان لإظهارهم واختبار أحوالهم. قوله: ((عودا عودا)) ((تو)): قد روى بالرفع، كذا نرويه عن كتاب مسلم. وعلى هذا الوجه أورده صاحب المصابيح والتقدير: وهو عود عود. ورواه آخرون بالنصب. ((مح)) هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها: ضم العين والدال المهملة. والثاني: فتح العين والذال المعجمة. ومعنى ((تعرض)) أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم. ويؤثر فيه شدة التصاقها. ومعنى ((عودا

أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز، مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ عودا)) أي يعاد ويكرر شيئاً بعد شيء. قال ابن سراج: ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال: غفرا غفرا، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا. وقال الخطابي: معناه: يظهر على القلوب، أي يظهر لها فتنة بعد أخرى كما ينسج الحصير عوداً وعوداً وشطبة بعد أخرى. قال القاضي عياض: وعلى هذا تترجح رواية ضم العين؛ وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه. فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحداً بعد واحد. و ((أشربها)) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب. ومنه قوله تعالى: {وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ} أي حب العجل. و ((أنكرها)) أي ردها. ((قض)): ((حتى يصير)) أي جنس الإنسان على قسمين: قسم ذو قلب أبيض كالصفاء، وقسم ذو قلب اسود مربداً. ((مظ)): الضمير في ((يصير)) أي تصير القلوب على نوعين: أحدهما أبيض وثانيهما: أسود. ((تو)): ((الصفا)): الحجارة الصافية الملساء. وأريد به هاهنا النوع الذي صفا بياضه. وعليه نبه بقوله: ((أبيض)) وإنما ضرب المثل به؛ لأن الأحجار إذا لم تكن معدنية لم تتغير بطول الزمان. ولم يدخلها لون آخر. لا سيما النوع الذي ضرب به المثل، فإنه أبدا على البياض الخالص الذي لا تشوبه كدرة. والربدة لون بين السواد والغبرة. ومنه ظليم أربد وقد أربد اربداداً، أي تلون وصار على لون الرماد. وإنما وصف القلب بالربدة؛ لأنه أنكر ما يوجد من أنواع السواد، بخلاف ما تشوبه صفا ويعلوه طراوة من النوع الخالص. ((مح)): قال القاضي عياض: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. وأما قوله: ((مربادا)) فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا. وهو منصوب على الحال. وذكر القاضي عياض خلافا في ضبطه، فإن منهم من ضبطه كما ذكرناه ومنهم من رواه ((مربئداً)) بهمزة مكسورة بعد الباء. وأصله أن لا يهمز. ويكون مربدا مثل مسوداً ومحمراً لأنه من

5381 - وعنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)). وحدثنا عن رفعها قال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المجل ـــــــــــــــــــــــــــــ أربد إلا على لغة من قال: إحمار بهمزة بعد الميم لالتقاء الساكنين. فيقال: إرباد فهو مربئد، والدال مشددة على القولين. وأما قوله: ((مجخيا)) فهو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة، ثم خاء معجمة مكسورة. ومعناه مائلا كذا قاله الهروي. وفسره الراوي في الكتاب بقوله: ((منكوساً)) ((نه)) المجخي المائل عن الاستقامة والاعتدال، شبه القلب الذي لا يعي خبراً بالكوز الذي لا يثبت فيه شيء ((قوله إلا ما أشرب من هواه)) ((مظ)) يعني لا يعرف القلب إلا ما قبل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية أقول: ولعله أراد أنه من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح أي ليس فيه حبة خير البتة إلا هذا وهذا ليس بخير، فيلزم منه أن يكون فيه خير. الحديث الثالث عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((حديثين)): ((مح)): الأول: ((حدثنا إن الأمانة ..)). الخ. والثاني: ((حدثنا عن رفعها)). والجذر بفتح الجيم وكسرها لغتان والذال المعجمة فيهما وهو الأصل. وأما الأمانة، فالظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده. والعهد الذي أخذه عليهم. قال صاحب التحرير: الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ} الآية وهي عين الإيمان. و ((الوكت)) بفتح الواو وإسكان الكاف، وبالتاء المثناة من فوق. و ((المجل)) بإسكان الجيم، وفتحها لغتان، المشهور الإسكان. [((فا))] الفرق بين الوكت والمجل أن الوكت النقطة في الشيء من غير لونه يقال: بعينه وكت، ووكت البر إذا بدت فيه نقطة الإرطاب. والمجل غلظ الجلد من العمل لا غير ويدل عليه قوله: ((فتراه منتبرا)) أي منتفخا وليس فيه شيء. ((مح)): قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئاً. فإذا زال شيء أول جزء منها زال نورها، وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله. فإذا زال شيء آخر صار كالمجل. وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة وهذه الظلمة فوق التي قبلها. ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر. ويبقى التنفيط. وإنما ذكر نفط ولم يقل نفطت اعتبارا بالعضو. أقول لعله إنما حملهم على تفسير الأمانة في قوله: ((إن الأمانة نزلت بالإيمان)) لقوله آخراً:

كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبراً، وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أميناً ويقال للرجل ما أعلقه! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)). متفق عليه. 5382 - وعنه، قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)). قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن)). قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم ـــــــــــــــــــــــــــــ ((وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان)) فهلا حملوها على حقيقتها لقوله: ((ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة)) فيكون وضع الإيمان آخرا موضعها تفخيما لشأنها وحثا على أدائها. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا دين لمن لا أمانة له)) و ((ثم)) في قوله: ((ثم ينام النومة)) للتراخي في الرتبة. وهي تقتضيه ((ثم)) في قوله ((ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة)) كما أن علم القرآن والسنة يزيد أصل الأمانة في القلوب ويربيها. كذلك ينقص استمرار ورفع الأمانة وقبضها من أثرها؛ فإن اثر المجل المشبه بالنفاطة التي ليس فيها شيء أبلغ في الخلو من أثر الوكت. وفيه تشبيهان مفردان شبهت حالهما مجموعة بحالة جمر أثر في عضو. ثم نفط وارتفع. وإنما شبه أولا أثر الأمانة أولا بأثر الوكت ثم ثانيا بأثر المجل. ثم شبههما بالجمرة المدحرجة على الرجل تقبيحا لحالهما وتهجينا لتستنفر عنها النفس وتعافهما؛ فإن الأمانة والخيانة ضدان. فإذا ارتفع أحدهما تعاقبت الأخرى. الحديث الرابع عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((عن الشر)) أي الفتنة ووهن عرى الإسلام واستيلاء الضلال وفشو البدعة، والخير عكسه يدل عليه قوله: ((إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير)) أي ببعثك وتشييد مباني الإسلام، وهدم قواعد الكفر والضلال. قوله: ((قال: نعم، وفيه دخن)) أي يكون بعد ذلك الشر خير. والحال أن في ذلك الخير شراً والمعنى أن ذلك لا يصفو بل يشوبه كدورة. [ومنه قولهم: هدنة على دخن أي سكون لعلة لا للصلح. ((نه)): أصل الدخن أن يكون في لون الدابة كدورة] إلى السواد. وقيل: الدخن – بالتحريك – مصدر دخنت النار تدخن، إذا ألقى عليها حطب رطب يكثر دخانها وفسدت. ((مظ)): ((تعرف منهم وتنكر)) أي ترى فيهم ما تعرفه أنه من ديني، وترى منهم أيضا ما تنكر

يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم؛ دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)). قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)). قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة ـــــــــــــــــــــــــــــ أنه من ديني. ((شف)): تعرف منهم المنكر بأن يصدر المنكر عنهم، وتنكرهم خبر بمعنى الأمر، أي أنكر عليهم صدور المنكر عنهم. أقول: الوجه الأول راجع إلى معنى قوله: ((نعم، وفيه دخن)) أي تعرف فيهم الخير فتقبل والشر فتنكر فهو من المقابلة المعنوية والوجه الثاني راجع إلى قوله: ((يستنون بسنتي)) فالوجه أن يكون المعطوف والمعطوف عليه كلاهما في معنى الأمر. أي اعرف منهم ذلك وأنكر. والخطاب في ((تعرف)) و ((تنكر)) من الخطاب العام. ((مح)): قيل المراد بـ ((الخير)) بعد ((الشر)) أيام عمر بن عبد العزيز. والمراد بالشر بعد الخير الأمر بعده. ((شف)): ((دعاة على أبواب جهنم)) أي جماعة يدعون الناس إلى الضلالة، ويصدونهم عن الهدى بأنواع من التلبيس لإدخالهم إياه في جهنم دخولهم فيها، وجعل كل نوع من أنواع التلبيس بمنزلة باب من أبواب جهنم. ((نه)): ((من جلدتنا)) أي من أنفسنا وعشيرتنا. ((شف)): قيل: معناه من أهل ملتنا. ويتكلمون بما قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بالمواعظ والحكم. وما في قلوبهم شيء من الخير يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ((تو)): ((ولو أن تعض بأصل شجرة)) أي تتمسك بما يصبرك وتقوي به عزيمتك على اعتزالهم، ولو بما لا يكاد يصح أن يكون متمسكا. أقول: هذا شرط يعقب به الكلام تتميما ومبالغة، أي اعتزال الناس اعتزالا لا غاية بعده، ولو قنعت فيه بعض أصل الشجرة افعل فإنه خير لك. و ((الجثمان)): الجسمان يقال: ما أحسن جثمان الرجل! وجسمانه أتى جسده. وقال الأصمعي: الجثمان الشخص والجثمان الجسم. وقوله: ((فاسمع وأطع)) جزاء الشرط، أتى لمزيد تقريره واهتمام بشأنه، وإلا فما قبل الشرط مما أغنى عنه. ((مح)): هذه الرواية في كتاب مسلم عن أبي سلام عن حذيفة. قال الدارقطني: هذا مرسل، لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة. قال الشيخ محيي الدين: هو كما قال، لكن

حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس)). قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)). 5383 - وعن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمى كافراً، ويسمى مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)). رواه مسلم. 5384 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ـــــــــــــــــــــــــــــ المتن صحيح متصل بالطريق الأول. وإنما أتى مسلم بهذا متابعة. والحديث المرسل إذا روى من آخر طريق متصلاً تبينا به صحة المرسل. جاز الاحتجاج به ويصير في المسألة حديثان صحيحان. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بادروا بالأعمال)) أي سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل نزولها، كما روى ((بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا)) فالمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته. أو بدفعه قبل وقوعه. وقوله: ((يصبح الرجل)) استئناف بيان لحال المشبه. وهو قوله: ((فتنا)) وقوله: ((يبيع دينه بعرض من الدنيا)) بيان للبيان. ((مظ)): فيه وجوه: أحدها: أن يكون بين الطائفتين من المسلمين قتال لمجرد العصبية والغضب. فيستحلون الدم والمال. وثانيها: أن تكون ولاة المسلمين ظلمة فيريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق ويشربون الخمر فيعتقد بعض الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرمات. وثالثها: ما يجري بين الناس مما يخالف الشرع من المعاملات والمبايعات وغيرها فيستحلونها. والله أعلم. الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((من تشرف لها تستشرفه)) ((تو)): أي من تطلع لها دعته إلى الوقوع فيها. والتشرف: التطلع. واستعير هاهنا للإصابة بشرها أو أريد بها أنها تدعوه إلى زيادة النظر إليها، وقيل: إنه من استشرفت الشيء أي علوته، يريد من انتصب لها انتصبت له وبلته وصرعته. وقيل: هو من المخاطرة. والإشفاء على الهلاك أي من خاطر بنفسه فيها أهلكته.

قال: ((تكون فتنة، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليستعذ به)). 5385 - وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، القاعد خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)). فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟)) ثلاثا، فقال رجل يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال ((يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: لعل الوجه الثالث أولى لما يظهر منه معنى اللام في ((لها)) وعليه كلام الفائق. وهو قوله: أي من غالبها غلبته. الحديث السابع عن أبي بكرة رضي الله عنه: قوله: ((ألا ثم تكون فتنة)) فيه ثلاث مبالغات. أقحم حرف التنبيه بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد التنبيه لها. وعطف بـ ((ثم)) لتراخى مرتبة هذه الفتنة الخاصة تنبيها على عظمها. وهو لها على أنه من عطف الخاص على العام لاختصاصها بما يفارقها من سائرها، وأنها كالداهية الدهياء. نسأل الله العافية منها بفضله وعميم طوله. قوله: ((من الساعي، إليها)) أي يجعلها غاية سعيه ومنتهى غرضه لا يرى مطلبا غيرها. ولام الغرض وإلى الغاية متقاربان معنى فحينئذ يستقيم التدرج والترقي من الماشي فيها إلى الساعي إليها. وقوله: ((فمن كان له إبل .. إلى آخره)) كناية عن الاعتزال عنها والاشتغال بخويصة نفسه. قال الشاعر: إن السلامة من ليلى وجارتها أن لا تمر على حال بواديها وقوله: ((يعمد إلى سيفه فيدق)) عبارة عن تجرده تجرداً تاماً. كأنه قيل: من لم يكن له ما يشتغل به من مهامه فلينج برأسه. و ((ثلاثا)) مصدر فعل محذوف. أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: اللهم! هل بلغت إلى عبادك ما أمرتني به أن أبلغه إليهم؟ قوله: ((يبوء بإثمه وإثمك)) فيه وجهان: أحدهما: أراد بمثل إثمك على الاتساع، أي يرجع بإثمه ومثل إثمك المقدر لو قتلته. وثانيهما: أراد بإثم قتلك على حذف المضاف، وإثمه السابق على القتل.

5386 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)). رواه البخاري. 5387 - وعن أسامة بن زيد، قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: ((هل ترون ما أرى؟)) قالوا: لا، قال: ((فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر)). متفق عليه. 5388 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((يوشك أن يكون)) قال المالكي: ((يوشك)) أحد أفعال المقاربة يقتضي اسما مرفوعا، وخبرا منصوب المحل لا يكون إلا فعلا مضارعا مقرونا بـ ((أن)). ولا أعلم تجرده من ((أن)) إلا في قول الشاعر: يوشك من فر من منيته في بعض غزاته يواقعها وقد يسند إلى ((أن)) والفعل المضارع فيسد ذلك مسد اسمها وخبرها. وفي هذا الحديث شاهد على ذلك. قوله ((غنم)) نكرة موصوفة هو اسم ((يكون)) والخبر قوله ((خير مال)) وهو معرفة فلا يجوز. اللهم إلا أن يراد بـ ((المسلم)) الجنس فلا تعيين فيه حينئذ. وفائدة التقديم أن المطلوب حينئذ الاعتزال وتحري الخير بأي وجه كان. وليس الكلام في الغنم ولذلك أخرها. وقال المالكي: يجوز في ((خير وغنم)) رفعهما على الابتداء. و ((الخير)) في موضع نصب خبرا لـ ((يكون)) واسمه ضمير الشأن؛ لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع وتقديم ضمير الشأن عليه مؤكد لمعناه. قوله: ((شعف الجبال)) ((نه)): شعف كل شيء أعلاه وجمعها شعاف. يريد به رأس كل جبل من الجبال. انتهى كلامه. والقطر عبارة عن العشب والكلأ. أي يتبع بها مواقع العشب والكلأ في شعاف الجبال. الحديث التاسع عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((أطم)): ((نه)) هو بالضم بناء مرتفع وجمعه آطام قوله ((تقع)) يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا. والأقرب إلى الذوق أن يكون حالا، والرؤية بمعنى النظر. أي كشف لي فأبصرها عيانا. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على يدي غلمة)) أي أحداث السن

5389 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج)). قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل)). متفق عليه. 5390 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا المقتول فيم قتل؟)) فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، القاتل والمقتول في النار)). رواه مسلم. 5391 - وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العبادة في الهرج كهجرة إلى)). رواه مسلم. 5392 - وعن الزبير بن عدي، قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقي من الحجاج. فقال: ((اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)). سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الذين لا مبالاة لهم بأصحاب الوقار وذوي النهي. ((مظ)): لعله أريد بهم الذين كانوا بعد الخلفاء الراشدين، مثل: يزيد وعبد الملك بن مروان وغيرهما. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يتقارب الزمان)) ((تو)): يريد به اقتراب الساعة. ويحتمل أنه أراد بذلك تقارب أهل الزمان بعضهم من بعض في الشر أو تقارب الزمان نفسه في الشر حتى يشبه أوله آخره. وقيل: بقصر أعمار أهله. ((قض)) يحتمل أن يكون المراد به أن تتسارع الدول إلى الانقضاء، والقرون إلى الانقراض، فيتقارب زمانهم وتتدانى أيامهم. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((القاتل والمقتول في النار)). ((مح)): أما القاتل فظاهر وأما المقتول؛ فإنه أراد قتل صاحبه. وفيه دلالة للمذهب الصحيح المشهور أن من نوى المعصية وأصر على النية يكون آثما، وإن لم يفعلها ولا تكلم بها. الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن الزبير قوله: ((أشر منه)). ((قض)): أخير وأشر أصلان متروكان لا يكادان يستعملان إلا نادراً. وإنما المتعارف في التفضيل خير وشر.

الفصل الثاني 5393 - عن حذيفة، قال: والله ما أدرى أنسى أصحابي أم تناسوا؟ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً وإلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته. رواه أبو داود. [5393] 5394 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة)). رواه أبو داود، والترمذي. [5394] 5395 - وعن سفينة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)). ثم يقول سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرة، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي ستة. رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود. [5395] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((يبلغ من معه)) الجملة في موضع الجر صفة ((قائد)) تقديره يبلغ مع قائد الفتن المبلغ المذكور. ((مظ)): أراد بـ ((قائد الفتنة)) من يحدث بسببه بدعة أو ضلالة أو محاربة: كعالم مبتدع يأمر الناس بالبدعة، أو أمير جائر يحارب المسلمين انتهى كلامه. وقوله ((إلى أن تنقضي الدنيا)) متعلق بمحذوف، أي ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا مهملا، لكن قد سماه فالاستثناء منقطع. الحديث الثاني عن ثوبان رضي الله عنه قوله: ((وإذا وضع السيف)) عطف على قوله: ((إنما أخاف)) على سبيل حصول الجملتين، وتفويض ترتب الثانية على الأولى إلى ذهن السامع، كأنه قيل: أخاف على أمتي من شر الأئمة المضلين، وإضلالهم الذي يؤدي إلى الفتنة والمرج، والهرج، وهيج الحروب ووضع السيف بينهم، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع .. إلخ. الحديث الثالث عن سفينة: قوله: ((الخلافة ثلاثون سنة)). ((حس)): يعني أن الخلافة حق الخلافة إنما هي للذين صدقوا هذا الاسم بأعمالهم، وتمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده. فإذا خالفوا السنة وبدلوا السيرة فهم حينئذ ملوك، وإن كان أساميهم الخلفاء. ولا بأس أن يسمى

5396 - وعن حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر؟ قال ((نعم)) قلت: فما العصمة؟ قال ((السيف)) قلت: وهل بعد السيف بقية؟ قال ((نعم، تكون إمارة على أقذاء، وهدنة على دخن)). قلت ثم ماذا؟ قال: ((ثم ينشأ دعاة الضلال، فإن كان لله في الأرض خليفة جلد ظهرك، وأخذ مالك، فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ القائم بأمور المسلمين ((أمر المؤمنين))، وإن كان مخالفا لبعض سير أئمة العدل لقيامه بأمر المؤمنين. ويسمى خليفة؛ لأنه خلف الماضي قبله وقام مقامه. ولا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود عليهما السلام. وروى أن رجلا قال لأبي بكر يا خليفة الله! فقال أنا خليفة محمد، وأنا راض بذلك، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا خليفة الله! فقال: ويحك! لقد تناولت متناولا، إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني بهذا الاسم قبلت ثم وليتموني أموركم فسميتموني أمير المؤمنين فلو دعوتني بذلك كفاك. قوله: ((ثم يقول سفينة: أمسك)) أي يقول لراويه عد مدة الخلافة. أقول لعل الوجه أن يقال: أمسك أي اضبط الحساب عاقدا أصابعك، حتى يكون ((أمسك)) محمولا على أصله. الحديث الرابع عن حذيفة رضي الله عنه قوله: ((فما العصمة؟)) أي فما العصمة عن الوقوع في ذلك الشر. ((قال: السيف)) أي تحصل العصمة باستعمال السيف. حمل قتادة هذا على أهل الردة الذين كانوا في زمن الصديق رضي الله عنه. قوله ((إمارة على أقذاء)). ((نه)) الأقذاء جمع قذا والقذى جمع قذاة. وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو نتن أو وسخ أو غير ذلك. أراد أن اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم. فشبهه بقذى العين والماء والشرب. ((قض)) أي أمارة مشوبة بشيء من البدع وارتكاب المناهي، وصلح مع خداع وخيانة ونفاق. قوله: ((وهدنة على دخن)). ((فا)) هدن سكن. يقال: هدن يهدن هدونا ومهدنا ومهدنة. وضربه مثلا لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر. قوله ((وإلا فمت وأنت عاض)). ((قض)) أي إن لم يكن لله في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على مضض الزمان، والتحمل لمشاقه وشدائده، وعض جذل الشجر وهو أصله كناية عن مكابدة الشدائد من قولهم: فلان يعض بالحجارة لشدة الألم. ويحتمل أن يكون المراد منه أن ينقطع عن الناس ويتبوأ أجمة. ويلزم أصل شجرة إلى أن يموت أو ينقلب الأمر من قولهم عض الرجل بصاحبه إذا لزمه ولصق به. ومنه: ((عضوا عليها بالنواجذ)). وقيل: هذا الجملة قسيم قوله: ((فأطعه)) ومعناه إن لم تطعه أدتك المخالفة إلى ما لا تستطيع أن

قلت: ثم ماذا؟ قال ((ثم يخرج الدجال بعد ذلك، معه نهر ونار، فمن وقع في ناره؛ وجب أجره، وحط وزره. ومن وقع في نهره، وجب وزره، وحط أجره)). قال: قلت: ثم ماذا؟ قال ((ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة)) وفي رواية: قال: ((هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء)). قلت: يا رسول الله! الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: ((لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه)). قلت: بعد هذا الخير شر؟ قال: ((فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن مت يا حذيفة! وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)). رواه أبو داود. [5396] 5397 - وعن أبي ذر، قال: كنت رديفاً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على ـــــــــــــــــــــــــــــ تصبر عليه. ويدل على المعنى الأول، قوله في الرواية الأخرى: ((فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار. فإن مت يا حذيفة! وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحدا منهم)). أقول: على الوجه الأول لفظه خبر ومعناه الأمر. وهو قسيم لقوله: ((فإن كان لله في الأرض خليفة)). وعلى الثاني هو مسبب من قوله: ((فأطعه)). قوله ((ثم ينتج المهر فلا يركب)). ((تو)): ينتج من النتج لا من النتاج ولا من الإنتاج. يقال: نتجت الفرس أو الناقة على بناء ما لم يسم فاعله نتاجا. ونتجها أهلها نتجا. والإنتاج أقرب ولادها. وقيل: استبانة حملها. وقوله ((فلا يركب)) بكسر الكاف من قولهم اركب المهر إذا حان وقت ركوبه. قوله ((فتنة عمياء صماء)). ((قض)) والمراد بكونها عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرج ولا يوجد دونها مستغاثا، أو أن يقع فيها الناس على غرة من غير بصيرة فيعمون فيها ويصمون عن تأمل الحق واستماع النصح. أقول: الوجه الأول من الاستعارة المكنية شبه الفتنة في كونها لا مخرج عنها ولا مستغاث منها بامرأة عمياء صماء. ثم نسب إليها ما هي من لوازم المشبه به. والوجه الثاني من الإسناد المجازي؛ لأن الفتنة ليست عمياء صماء بل صاحبها هو الأعمى والأصم. فأسند إليها لكونها سببا فيهما. ووصف الصاحب بالعمى والصمم أيضا ليس على الحقيقة؛ لأن المراد منه صممه عن استماع الحق وعماه عن النظر إلى الدلائل. الحديث الخامس عن أبي ذر رضي الله عنه قوله: ((خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ظرف، وقع صفة

حمار، فلما جاوزنا بيوت المدينة، قال ((كيف بك يا أبا ذر! إذا كان بالمدينة جوع تقوم عن فراشك ولا تبلغ مسجدك حتى يجهدك الجوع؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تعفف يا أبا ذر!)). قال: ((كيف بك يا أيا ذر! إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى إنه يباع القبر بالعبد؟)). قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال ((تصبر يا أبا ذر!)). قال ((كيف بك يا أيا ذر! إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدماء أحجار الزيت؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال ((تأتي من أنت منه)). قال: قلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ مؤكدة لـ ((رديفاً)). قوله ((تعفف)) ((نه)): هو الكف عن الحرام والسؤال من الناس. والمراد بـ ((البيت)) هاهنا القبر. وأراد أن مواضع القبور تضيق فيبتاعون موضع كل قبر بعبد. ((تو)): وفيه نظر؛ لأن الموت وإن استمر بالأحياء وفشا فيهم كل الفشو، لم ينته بهم إلى ذلك. وقد وسع الله عليهم الأمكنة. انتهى كلامه. وأجيب بأن المراد بمواضع القبور الجبانة المعهودة وقد جرت العادة بأنهم لا يتجاوزون عنها. ((حس)): قيل: معناه أن الناس يشتغلون عن دفن الموتى لما هم فيه، حتى لا يوجد من يحفر قبر الميت فيدفنه إلا أن يعطي عبداً أو قيمة عبد. وقيل: معناه أن لا يبقى في كل بيت كان فيه كثير من الناس إلا عبد يقوم بمصالح ضعفة أهل ذلك البيت. ((مظ)): يعني يكون البيت رخيصاً فيباع بيت بعبد. أقول: وعلى الوجهين الأخيرين لا يحسن موقع ((حتى)) حسنها على الوجهين الأولين. ((خط)): قد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتا، فدل على أنه حزر كالبيوت. قوله: ((أحجار الزيت)) ((تو)) هي من الحرة التي كانت بها الوقعة زمن يزيد. والأمير على تلك الجيوش العاتية مسلم بن عقبة المري المستبيح لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان نزوله بعسكره في الحرة الغربية من المدينة، فاستباح حرمتها وقتل رجالها، وعاث فيها ثلاثة أيام. وقيل: خمسة. فلا جرم أنه انماع كما ينماع الملح في الماء، ولم يلبث أن أدركه الموت وهو بين الحرمين وخسر هنالك المبطلون. قوله: ((تأتي من أنت منه)) خبر في معنى الأمر. ((قض)) أي ارجع إلى من أنت جئت منه، وخرجت من عنده. يعني أهلك وعشيرتك. أقول: ولا يطابق على هذا سؤاله بقوله ((وألبس السلاح؟)) والظاهر أن يقال: أن ترجع إلى إمامك ومن بايعته، فحينئذ له أن يقول: وألبس السلاح وأقاتل معه؟. فقال: لا. أي:

وألبس السلاح؟ قال: ((شاركت القوم إذا)). قلت: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: ((إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه)). رواه أبو داود. [5397] 5398 - وعن عبد الله بن عمر بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف بك إذا أبقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم؟ واختلفوا فكانوا هكذا؟)) وشبك بين أصابعه. قال: فبم تأمرني؟ قال ((عليك بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم)). وفي رواية: ((ألزم بيتك، واملك عليك لسانك؛ وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع أمر العامة)) .. رواه الترمذي، وصححه. [5398] ـــــــــــــــــــــــــــــ كن معه ولا تقاتل؛ ولذلك عقبه بقوله: ((إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف)) وهو كناية عن سلامة نفسه لمن يقصده فيقتله. يدل عليه قوله ((ليبوء بإثمك وإثمه)) ونظيره: قوله في حديث أبي بكرة في الفصل الأول: ((إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى احد الصفين)) إلى قوله: ((يبوء بإثمه وإثمك)) كما قال هاهنا: ((فألق ناحية ثوبك على وجهك ليبوء بإثمك وإثمه)) فإنه كناية عن التسليم. قيل: وهذا الكلام زجر منه صلى الله عليه وسلم [للسعي] على كثرة إراقة الدماء وإلا فمن المعلوم من أصل الشرع أن دفع الخصم واجب. الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((كيف بك؟)) مبتدأ وخبر. والباء زائدة في المبتدأ أي كيف أنت أي حالك؟. ((نه))؛ ((الحثالة)) الرديء من كل شيء. ومنه حثالة التمر والأرز والشعير وكل ذي قشر. قوله: ((مرجت عهودهم)) ((تو)): أي اختلطت وفسدت فقلت فيهم أسباب الديانات. وقوله: ((هكذا، وشبك بين أصابعه)) أي يموج بعضهم في بعض ويلتبس أمر دينهم، فلا يعرف الأمين من الخائن ولا البر من الفاجر. قوله ((عليك بما تعرف)) أي ألزم وافعل ما تعرف كونه حقا، واترك ما تنكر أنه حق. ((مظ)): ((وعليك بخاصة نفسك)) أي ألزم. أمر نفسك وأحفظ دينك، واترك الناس ولا تتبعهم. وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. والإملاك: السد والإحكام، يعني سد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس كيلا يؤذوك.

5399 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويسمى مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا فيها قسيكم، وقطعوا فيها أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم))., رواه أبو داود. وفي رواية له: ذكر إلى قوله ((خير من الساعي)). ثم قالوا: فما تأمرنا؟ قال ((كونوا أحلاس بيوتكم)). وفي رواية الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة ((كسروا فيها قسيكم، وقطعوا فيها أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم)). وقال هذا حديث صحيح غريب. [5399] 5400 - وعن أم مالك البهزية، قالت ذكر رسول الله فتنة فقربها قلت: يا رسول الله! من خير الناس فيها؟ قال: ((رجل في ماشيته يؤدي حقها، ويعبد ربه، وجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخوفونه)). رواه الترمذي. [5400] 5401 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتنة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((إن بين يدي الساعة)) يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها. قوله ((كخير ابني آدم) 9 يعني فليستسلم حتى يكون مقتولا كهابيل، ولا تكن قاتلا كقابيل، وأحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب، فلا تزال ملقاة تحتها. الحديث الثامن عن أم مالك: قوله: ((فقربها)). ((شف)): معناه وصفها للصحابة وصفا بليغاً؛ فإن من وصف عند أحد وصفاً بليغاً فكأنه قرب ذلك الشيء إليه. قوله ((يخيف العدو)) أي يرتبط في بعض ثغور المسلمين يخيف الكفار ويخوفونه. ((مظ)): يعني رجل هرب من الفتن وقتال المسلمين، وقصد الكفار يحاربهم ويحاربونه. الحديث التاسع عند عبد الله قوله ((تستنظف العرب)) ((نه)) أي تستوعبهم هلاكاً يقال: استنظفت الشيء إذا أخذته كله. ومنه قولهم: استنظفت الخراج، ولا يقال: نظفته. قوله ((قتلاها في النار)) مبتدأ وخبر. ((قض)): والمراد بـ ((قتلاها)) من قتل في تلك الفتنة. وإنما هم

تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5401] ـــــــــــــــــــــــــــــ من أهل النار؛ لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين، أو دفع ظالم أو إعانة حق. وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعا في المال والملك. قوله: ((اللسان فيها أشد)) أي القول والتكلم فيها إطلاقا للمحل وإرادة الحال ((مظ)). يحتمل هذا احتمالين: أحدهما: أن من ذكر أهل تلك الحرب بسوء يكون كمن حاربهم، لأنهم مسلمون. وغيبة المسلمين إثم. ولعل المراد بهذه الفتنة: الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه. ولا شك أن من ذكر أحدا من هذين الصدرين وأصحابهما يكون مبتداعا؛ لأن أكثرهم كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن المراد به أن من مد لسانه فيهم بشتم أو غيبة يقصدونه بالضرب والقتل. ويفعلون به ما يفعلون بمن حاربهم. أقول: ويؤيد قوله: ولعل المراد بهذه الفتنة .. إلخ. ما روينا عن الأحنف بن قيس: قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ يا أحنف! قلت أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال يا أحنف! ارجع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا توجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) قال: فقلت يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ فقال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه)). متفق عليه. وأما قوله: ((قتلاها في النار)) فللزجر والتوبيخ والتغليظ عليهم. وأما كف الألسنة عن الطعن فيهم؛ فإن كلا منهم مجتهد. وإن كان علي رضي الله عنه مصيباً، فلا يجوز الطعن فيهما. والأسلم للمؤمنين أن لا يخوضوا في أمرهما. قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله أيدينا منها. فلا نلوث ألسنتنا بها. ((مح)): كان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ؛ لأنه بالاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ فلا إثم عليه. وإن كان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة. وكانت القضايا مشتبهة حتى كان جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا. ولم تيقنوا الصواب لم يتأخروا عن مساعدته.

5402 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)) رواه أبو داود. [5402] 5403 - وعن عبد الله بن عمر، قال: كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها، حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: ((هي هرب وحرب))، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني وليس مني، إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((إشراف اللسان)) أي إطالة اللسان. ومعنى هذا مثل معنى قوله ((اللسان فيها أشد من وقع السيف)) على ما سبق. الحديث الحادي عشر عن عبد الله رضي الله عنه: قوله ((فتنة الأحلاس)). ((نه)): الأحلاس جمع حلس، وهو الكساء الذي على ظهر البعير تحت القتب، شبهها به للزومها ودوامها. والحرب – بالتحريك – نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له. قوله ((فتنة السراء)) مبتدأ وخبره الجملة بعده، والجملة معطوفة على ((فتنة الأحلاس)) من حيث المعنى. أي قال فتنة الأحلاس هرب وحرب. ثم قال: و ((فتنة السراء دخنها)) كذا .. وقوله: ((لا تدع)) خبر لـ ((فتنة الدهيماء)) والجملة عطف على ما قبلها. ((تو)) يحتمل أن يكون سبب وقوع الناس في تلك الفتنة وابتلائهم بها أثر النعمة. فأضيفت إلى ((السراء)) ويحتمل أن يكون صفة لـ ((فتنة)) فأضيفت إليها إضافة مسجد الجامع ويراد منها سعتها لكثرة الشرور والمفاسد. ومن ذلك قولهم قناة سراء، إذا كانت وسعة. وقوله: ((دخنها)) أي إثارتها وهيجانها شبهها بالدخان الذي يرتفع. وإنما قال: ((من تحت قدمي رجل)) تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها، أو إلى أنه يملك أمرها. قوله ((كورك على ضلع)). ((نه)): أي يصطلحون على رجل لا نظام له ولا استقامة؛ لأن الورك لا يستقيم على الضلع. ولا يتركب عليه لاختلاف ما بينهما وبعده. ((حس)): معناه: الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم. وذلك لان الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله. وإنما يقال في باب الملاءمة والموافقة إذا وصفوا هو ككف في ساعد وساعد في ذراع ونحو ذلك. يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به. قوله ((ثم فتنة الدهيماء)). ((نه)): هي تصغير الدهماء يريد الفتنة المظلمة، والتصغير فيها للتعظيم. وقيل: أراد بـ ((الدهيماء)) الداهية. ومن أسماء الداهية: الدهيم. زعموا أن الدهيم اسم

تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه. فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال من يومه أو من غده)) رواه أبو داود. [5403] 5404 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده)). رواه أبو داود. [5404] 5405 - وعن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن؛ ولمن ابتلي فصبر فواها)) رواه أبو داود. [5405] ـــــــــــــــــــــــــــــ ناقة غزا عليها سبعة إخوة، فقتلوا عن آخرهم وحملوا عليها .. حتى رجعت بهم، فصارت مثلا في كل داهية. واللطم هو الضرب بالكف. أقول: وهو استعارة مكنية. شبه الفتنة بإنسان ثم خيل لإصابتها الناس اللطم الذي هو من لوازم المشبه به، وجعلها قرينة لها. و ((الفسطاط)) – بالضم والكسر – المدينة التي فيها مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط. وإضافة الفسطاط إلى الإيمان. إما بجعل المؤمنين نفس الإيمان مبالغة وإما بجعل الفسطاط مستعارا للكنف والوقاية على المصرحة. أي هم في كنف الإيمان ووقايته. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((من شر قد اقترب)) أراد به الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين، من وقعة عثمان رضي الله عنه وما وقع بين علي رضي الله عنه ومعاوية. الحديث الثالث عشر عن المقداد رضي الله عنه قوله: ((فواها)) اسم صوت وضع موضع المصدر وسد مسد فعله. ((نه)): قيل معنى هذا التلهف. وقد يوضع موضع الإعجاب بالشيء. يقال: واها له. وقد يرد بمعنى التوجع. وقيل: يقال في التوجع: آهاً له. انتهى كلامه. ويجوز أن يكون ((فواهاً)) خبرا لـ ((من)) على أن اللام مكسورة، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، فعلى هذا فيه معنى التعجب. أي من ابتلي وصبر فطوبى له، وأن لا يكون خبرا على أن اللام مفتوحة. ويكون قوله: ((ولمن ابتلي)) عطفا على قوله ((لمن جنب الفتن)) فعلى هذا ((واها)) للتلهف والتحسر. أي فواها على ما باشرها وسعى فيها.

5406 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي الله، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) رواه أبو داود. [5406] 5407 - وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أوست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن ثوبان رضي الله عنه: قوله: ((على الحق)) خبر لقوله ((لا يزال)) أي ثابتين على الحق. وقوله: ((ظاهرين)) يجوز أن يكون خبرا بعد خبر. وأن يكون حالا من ضمير الفاعل في ثابتين أي ثابتين على الحق في حال كونهم غالبين على العدو. الحديث الخامس عشر عن عبد الله قوله: ((تدور رحى الإسلام)) ((قض)): دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس. قال الشاعر: فدارت رحانا واستدارت رحاهم ((تو)) إنهم يكنون عن اشتداد الحرب بدوران الرحى، ويقولون: دارت رحى الحرب، أي استتب أمرها ولم نجدهم استعملوا دوران الرحى في أمر الحرب من غير جريان ذكرها والإشارة إليها. وفي هذا الحديث لم يذكر الحرب. وإنما قال: ((رحى الإسلام)). فالأشبه أنه أراد بذلك أن الإسلام يستتب أمره ويدوم على ما كان عليه المدة المذكورة في الحديث. ويصح أن يستعار دوران الرحى في الأمر الذي يقوم لصاحبه ويستمر له، فإن الرحى توجد على نعت الكمال ما دامت دائرة مستمرة. ويقال: فلان صاحب دارتهم إذا كان أمرهم يدور عليه. ورحى الغيث: معظمه. ويؤيد ما ذهبنا إليه ما رواه الحربي في بعض طرقه: ((تزول رحى الإسلام)) مكان ((تدور)) ثم قال: كأن ((تزول)) أقرب؛ لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها. وأشار بـ ((السنين الثلاث)) إلى الفتن الثلاث. مقتل عثمان رضي الله عنه وكان سنة خمس وثلاثين. وحرب الجمل وكانت سنة ست، وحرب صفين وكانت سنة سبع، فإنها كانت متتابعة في تلك الأعوام الثلاثة. قوله: ((فإن يهلكوا فسبيل من هلك)) أي فسبيلهم سبيل من قد هلك من القرون السالفة.

يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً)). قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال ((مما مضى)). رواه أبو داود. [5407] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وإن يقم لهم دينهم)) قال الخطابي: أراد بالدين الملك. وأنشد قول زهير: لئن حللت بحر في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك قال: ويشبه أن يكون أراد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس. وكان ما بين استقرار الملك لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحواً من سبعين سنة. ويرحم الله أيا سليمان! فإنه لو تأمل الحديث كل التأمل وبني التأويل على سياقه، لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك ملك بني أمية دون غيرهم من الأمة. بل أراد به استقامة أمر الأمة في طاعة الولاة وإقامة الحدود والأحكام وجعل المبدأ فيه أول زمان الهجرة، وأخبرهم أنهم يلبثون على ما هم عليه خمسا وثلاثين سنة، أو ستا وثلاثين أو سبعا وثلاثين. ثم يشقون عصا الخلاف فتفترق كلمتهم. فإن هلكوا فسبيلهم سبيل من قد هلك قبلهم. وإن عاد أمرهم إلى ما كان عليه من إيثار الطاعة ونصرة الحق يتم لهم ذلك إلى تمام السبعين. هذا مقتضى اللفظ. ولو اقتضى اللفظ أيضا غير ذلك لم يستقم لهم ذلك القول؛ فإن الملك في بعض أيام العباسية لم يكن أقل استقامة في أيام المروانية، مع أن بقية الحديث تنقض كل تأويل يخالف تأويلنا هذا. وهي قول ابن مسعود: قلت: يا رسول الله! أمما بقي أو مما مضى؟ يريد أن السبعين تتم لهم مستأنفة بعد خمس وثلاثين، أم تدخل الأعوام المذكورة في جملتها؟ قال: مما مضى، يعني يقوم لهم أمر دينهم إلى تمام سبعين سنة من أول دولة الإسلام، لا من انقضاء خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين إلى انقضاء سبعين. وفي جامع الأصول: قيل: إن الإسلام عند قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من إحداثات الظلمة إلى أن تنقضي مدة خمس وثلاثين سنة. ووجهه أن يكون قد قاله. وقد بقيت من عمره صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو ست سنين، فإذا انضمت إلى مدة خلافة الخلفاء الراشدين، وهي ثلاثون سنة كانت بالغة ذلك المبلغ. وإن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة، ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان رضي الله عنه. وإن كان سنة ست وثلاثين من الهجرة ففيها كانت وقعة الجمل. وإن كانت سنة سبع وثلاثين، ففيها كانت وقعة صفين.

(1) باب الملاحم

الفصل الثالث 5408 - عن أبي واقد الليثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم، يقال لهم: ذات أنواط. فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم)) رواه الترمذي. [5408] 5409 - وعن ابن المسيب، قال: وقعت الفتنة الأولى - يعني مقتل عثمان - فلم يبق من أصحاب بدر أحد، ثم وقعت الفتنة الثانية - يعني الحرة - فلم يبق من أصحاب الحديبية أحد، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وبالناس طباخ. رواه البخاري. (1) باب الملاحم الفصل الأول 5410 - عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي واقد: قوله: ((ذات أنواط)). ((نه)): هي جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط وهي هنا اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها ويعكفون حولها فسألوه أن يجعل لهم مثلها، فنهاهم عن ذلك. الحديث الثاني عن ابن المسيب: قوله: ((يعني الحرة)) ((نه)): الحرة هذه أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة. كانت الوقعة المشهورة في الإسلام أيام يزيد بن معاوية لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليه مسلم بن عقبة المري في ذي الحجة سنة ثلاث وستين بها. وأصل الطباخ القوة والسمن ثم استعمل في غيره. فقيل: فلان لا طباخ له، أي لا عقل له ولا خير عنده، أراد أنها لم تبق في الناس من الصحابة أحداً. باب الملاحم ((نه)): هي جمع الملحمة وهي الحرب وموضع القتال، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها، كاشتباك لحمة الثوب بالسدا. وقيل: هو من اللحم لكثرة لحوم القتلى فيها.

فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، ويظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا}، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((دعواهما واحدة)) أي كل واحدة من الفئتين تدعى الإسلام. قوله: ((دجالون)). ((حس)): كل كذاب دجال. يقال: دجل فلان الحق بباطله، أي غطاه. ومنه: أخذ الدجال، ودجله سحره وكذبه. وقيل: سمى الدجال دجالا لتمويهه على الناس وتلبيسه. يقال: دجل إذا موه ولبس. قوله: ((يتقارب الزمان)) ((خط)): أراد به زمان المهدي لوقوع الأمن في الأرض فيستلذ العيش عند ذلك لانبساط عدله فيستقصر مدته؛ لأنهم يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون مدة أيام الشدة وإن قصرت. قوله: ((حتى يهم)) في جامع الأصول مقيد بضم الياء. و ((رب المال)) مفعوله والموصول مع صلته فاعله. وقوله: ((حتى يعرضه)) معطوف على مقدر المعنى: حتى يهم طلب من يقبل الصدقة صاحب المال في طلبه، حتى يجده وحتى يعرضه عليه. قوله: {لا يَنفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا}. معناه: لا ينفع نفسا إيمانها حينئذ أو كسبها في إيمانها خيراً لم تكن آمنت من قبل حينئذ أو كسبت في إيمانها خيراً من قبل، فهو من اللف التقديري. قوله: ((لقحته)) ((قض)): اللقحة: اللبون من النوق و ((ليط الحوض)) تطيينه. وأصله اللزق. والمعنى أن الساعة تأخذ الناس بغتة، تأتيهم وهم في أشغالهم فلا تمهلهم أن يتموها.

5411 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً، نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة)) متفق عليه. 5412 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر)) رواه البخاري. 5413 - وفي رواية له عن عمرو بن تغلب ((عراض الوجوه)). 5414 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود)) رواه مسلم. 5415 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذلف الأنوف)). ((قض)): ذلف جمع أذلف. وهو الذي يكون أنفه صغيرا ويكون في طرفه غلظ. و ((المجان)) – بفتح الميم – جمع مجن وهو الترس. والمطرق الذي أطرق أي جعل على ظهره طراق. وهو جلد يقطع على مقدار الترس فيلصق على ظهره، شبه وجوههم بالترس لبسطها وتدويرها، وبالمطرق لغلظها وكثرة لحمها. وقد ورد ذلك في الحديث الذي بعده صفة لخوز وكرمان. ولو لم يكن ذلك من بعض الرواة، فلعل المراد بها صنفان من الترك. كان أحد أصول أحدهما من خوز وأحد أصول الآخر من كرمان. فسماهم الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه وإن لم يشتهر ذلك عندنا، كما نسبهم إلى قنطوراء وهي امة كانت لإبراهيم عليه السلام. وفيه فطس الأنوف بدل قوله: ((ذلف الأنوف)) وهو جمع أفطس من الفطس وهو تطامن قصبة الأنف وانتشارها. ولعل المراد بالموعود في الحديث ما وقع في هذا العصر بين المسلمين والترك. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلا الغرقد)) ((نه)) هو ضرب من شجر العضاه وشجر الشوك. والغرقدة واحدته. ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة: بقيع الغرقد: لأنه كان فيه غرقد وقطع. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قحطان)) هو أبو اليمن وسوق الناس بعصاه عبارة عن تسخير الناس واسترعائهم كسوق الراعي الغنم بعصاه.

5416 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: الجهجاه)) وفي رواية: ((حتى يملك رجل من الموالي يقال له: الجهجاه)) رواه مسلم. 5417 - وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لتفتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى الذي في الأبيض)) رواه مسلم. 5418 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلك كسرى فلا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله)) وسمى ((الحرب خدعة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الهجهجاه)). ((مح)): هو بفتح الجيم وإسكان الهاء. وفي بعض النسخ: ((الهجهجها)) بهائين. وفي بعضها: ((الهجهجا)) بحذف الها التي بعد الألف. والأول هو المشهور. قوله: ((لتفتحن)). ((تو)): وجدناه في أكثر نسخ المصابيح بتائين بعد الفاء. ونحن نرويه عن كتاب مسلم بتاء واحدة وهو أمثل معنى؛ لأن الافتتاح أكثر ما يستعمل بمعنى الاستفتاح. فلا يقع موقع الفتح في تحقيق الأمر ووقوعه. والحديث إنما ورد في معنى الإخبار عن الكوائن. ((قض)): ((الأبيض)) قصر حصين كان بالمدائن. وكانت الفرس تسميه سفيد كوشك. والآن بني مكانه مسجد مدائن. وقد أخرج كنزه في أيام عمر رضي الله عنه. وقيل: الحصن الذي بهمدان بناه [دار بن دارا]. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليهلكن)) هلاك كسرى وقيصر كانا متوقعين. فأخبر عن هلاك كسرى بالماضي دلالة على أنه كالواقع بناء على إخبار الصادق. وأتى في الإخبار عن قيصر بلام القسم في المضارع. وبنى الكلام على المبتدأ والخبر. إشعارا بالاعتناء بشأنه وأنه [أطلب] منه. وذلك أن الروم كانوا سكان الشام، وكان صلى الله عليه وسلم في فتحه أشد رغبة؛ ومن ثمة غزا صلى الله عليه وسلم تبوك، وهي من الشام. فإن قلت: ما وجه المناسبة بين قوله: ((وسمى الحرب خدعة)) وبين الكلام السابق؟ قلت: هو وارد على سبيل الاستطراد؛ لأن أصل الكلام كان في ذكر الفتح، وكان حديثا مشتملا على الحرب. فأورده في الذكر كما ورد في قوله تعالى: {ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًا} بعد قوله: {ومَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} والمراد منهما المؤمن والكافر.

5419 - وعن نافع بن عتبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)) رواه مسلم. 5420 - وعن عوف بن مالك، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال: ((اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بين المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)) رواه البخاري. 5421 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع والعاشر عن عوف: قوله: ((ثم موتان)). ((تو)) أراد بالموتان الوباء وهو في الأصل موت يقع في الماشية، والميم منه مضمومة. واستعماله في الإنسان تنبيه على وقوعه فيهم وقوعه في الماشية؛ فإنها تسلب سلبا سريعا. وكان ذلك في طاعون عمواس زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو أول طاعون وقع في الإسلام، مات منه سبعون ألفا في ثلاثة أيام. و ((عمواس)) قرية من قرى بيت المقدس وقد كان بها معسكر المسلمين. والقعاص: داء يأخذ الغنم فلا يلبثها أن تموت. قوله: ((ثم استفاضة المال)). ((حس)): هي كثرته، وأصله التفرق والانتشار. يقال: استفاض الحديث إذا انتشر. ((نه)): هو من فاض الماء والدمع وغيرهما يفيض فيضا إذا كثر. انتهى كلامه. قوله: ((فيظل ساخطاً)) أي إنه يسخط استقلالاً للمبلغ المذكور وتحقيراً منه. والغاية والراية سواء ومن رواه بالباء الموحدة، أراد بها الأجمة. فشبه كثرة رماح العسكر بها وبنوه الأصفر الروم. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالأعماق)). ((تو)): العمق ما بعد من أطراف المفاوز. وليس ((الأعماق)) ها هنا بجمغ. وإنما هو اسم موضع بعينه من أطراف المدينة. و ((دابق)) – بفتح الباء – دار نخلة موضع سوق بالمدينة. وقوله: ((سبوا منا)) على بناء الفعل يريدون بذلك محاملة المؤمنين بعضهم عن بعض. ويبغون به تفريق كلمتهم. والمرادون بذلك هم الذين غزوا بلادهم فسبوا ذريتهم. والأظهر أن هذا القول منهم يكون بعد الملحمة

يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون قسطنطينية، فبيناهم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبيناهم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته)) رواه مسلم. 5422 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة. ثم قال: عدو يجمعون لأهل الشام ويجمع لهم أهل ـــــــــــــــــــــــــــــ الكبرى التي تدور رحاها بين الفئتين بعد المصالحة والمناجزة لقتال عدو يتوجه إلى المسلمين. وبعد [غدرة] الروم بهم. وذلك قبل فتح قسطنطينة، فيطأ الروم ارض العرب حتى ينزل بالأعماق أو بدابق، فيسأل المسلمين أن يخلوا بينهم وبين من سبى من ذريتهم فيردون الجواب عليهم على ما ذكر في الحديث. ((مح)): قسطنطينة: هي بضم القاف وإسكان السين وضم الطاء الأولى وكسر الثانية وبعدها ياء ساكنة ثم نون، هكذا ضبطناه ها هنا وهو المشهور. ونقل القاضي في المشارق عن المتقنين زيادة ياء مشددة بعد النون، وهي مدينة مشهورة أعظم مدائن الروم. قال الترمذي: والقسطنطينة قد فتحت في زمان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتفتح عند خروج الدجال. قوله: ((لكن يقتله الله بيده)) أي بيد عيسى عليه السلام. هذا الإسناد عند الموحدين حقيقي. وعند غيرهم مجازي. وفيه تصريح بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وكسب للعبد على ما هو مذهب أهل الحق. وفي معنى الاستدراك سر. وذلك أنه لو تركه حتى انذاب وهلك لكان محض فعل الله وتقديره. ولم يكن لفعل العبد مدخل فيه. فأراد أن يظهر الحكمة في عالم الأسباب. فاستدركه بقوله: ((ولكن يقتله الله)). والله أعلم. الحديث الثاني عشر عن عبد الله: قوله: ((عدو)) مبتدأ أي عدو كثير يجمعون لمقاتلة أهل الشام. قوله: ((شرطة)). ((فا)): يقال: أشرط نفسه لكذا أي أعلمها له وأعدها. فحذف المفعول.

الإسلام، يعني الروم، فيتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون، حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفني الشرطة، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون، حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفني الشرطة، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب وتفنى الشرطة فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم، فيقتلون مقتلة لم ير مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فلا يخلفهم حتى يخر ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم؟ فبيناهم كذلك إذا سمعوا ببأس هو اكبر من ـــــــــــــــــــــــــــــ والشرطة نخبة الجيش التي تشهد الوقعة أولا، سموا بذلك: لأنهم يشرطون أنفسهم للهلكة. ((مح)): ((الشرطة)) – بضم الشين – طائفة من الجيش يتقدمون للقتال. وقوله: ((يشترط)) ضبطوه بوجهين: أحدهما: بياء مثناة تحت ثم شين ساكنة مثناة فوق. والثاني بياء مثناة تحت ثم تاء مثناة فوق، ثم شين مفتوحة وتشديد الراء. ((تو)): يشكل معنى هذا من بقية الحديث، ((فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة)) فلو كانت الشرطة ها هنا على ما وصفوه في معنى قوله: ((وتفنى الشرطة)) وقد ذكر أن كل واحد من الفئتين يرجع غير غالب. والوجه في تصحيح هذه الرواية من طريق المعنى أن يقال: أراد بـ ((من بقى)) غير غالب معظم الجيش وصاحب رايتهم، لا النفر الذين تقدموا وهم الشرطة. وقوله: ((يتشرط)) فإنه في الحديث كذلك، استعمل ((يشترط)) مكان ((اشترط)) يقال: اشترط فلان بنفسه لأمر كذا، أي قدمها وأعدها وأعلمها. ولو وجدت الرواية بفتح الشين من الشرطة لكان معناه أوضح وأقوم مع قوله: ((وتفني الشرطة)) أي يشترطون فيما بينهم شرطا أن لا يرجعوا إلا غالبة، يعني يومهم ذلك فإذا حجز بينهم الليل ارتفع الشرط الذي شرطوه. وإنما أدخل فيه التاء؛ ليدل على التوحيد أي يشترطون شرطة واحدة لا مثنوية فيها ولم يعرف ذلك من طريق الرواية. أقول: إذا وجدت الرواية الصريحة الصحيحة وجب الذهاب إليها، والانحراف عن التحريف من ضم الشين إلى فتحها والتزام التكلف في تأويل التاء، والعدول عن الحقيقة في نفس الشرطة إلى ذلك المجاز البعيد. وأي مانع من أن يفرض أن الفئة العظيمة من المسلمين أفرزوا من بينهم طائفة تقدم الجيش للمقاتلة. واشترطوا عليها أن لا ترجع إلا غالبة؛ فلذلك بذلوا جهدهم وصدقوا فيما عاهدوا، وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم. وهو المراد من قوله: ((وتفني الشرطة)).

ذلك، فجاءهم الصريخ: أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس، أو من خير فوارس، على ظهر الأرض يومئذ)) رواه مسلم. 5423 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل سمعتم بمدينة، جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟)) قالوا: نعم يا رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها. قال ثور بن زيد الراوي: لا أعلمه إلا قال -: ((الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونهم فيغنمون، فبيناهم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: الجوهري: قد شرط عليه كذا واشترط عليه يشترط. وقوله: ((فيفيء هؤلاء وهؤلاء)) المراد منهما الفئتان العظيمتان لا الشرطة. وقوله: ((فبأي غنيمة يفرح)) هو جزاء شرط محذوف أبهم أولا في قوله: ((إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة)) حيث أطلقه ثم بين بقوله: ((عدو)) إلخ. بأن ذلك مقيد بهذه الصفة. فحينئذ يصح أن يقال: فإذا كان كذلك فبأي غنيمة يفرح:؟ إلخ. قوله: ((نهد إليهم)) ((مح)): أي نهض وتقدم. ((والدبرة)) بفتح الدال والباء: الهزيمة. وقوله: ((فلا يخلفهم)) هو بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام المشددة أي يجاوزهم. قوله: ((حتى يخرميتا)) ((مظ)): يعني طار الطير على أولئك الموتى فما وصل إلى آخرهم حتى يخر ويسقط ميتا من نتنهم، أو من طول مسافة مسقط الموتى. أقول المعنى الثاني ينظر إلى قول البحتري في وصف بركة: لا يبلغ السمك المحصور غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها ((فيتعاد بنو الأب)) يعني تعد جماعة حضروا تلك الحرب كلهم أقارب فلم يبق من مائة إلا واحد قد خلفهم أي قعد مكانهم في أولادهم. و ((الصريخ)) المستغيث فعيل من الصراخ. و ((الطليعة)) هو الذي يبعث ليطلع على أحوال العدو. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من بني إسحاق)). ((مظ): أي من أكراد الشام وهم من بني إسحاق النبي عليه السلام وهم مسلمون. قوله: ((قال ثور بن يزيد))، هذا إشارة إلى أن ما وقع في نسخ المصابيح من قوله: ((الذي في البحر)) مدرج من قول الراوي.

الفصل الثاني 5424 - عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح قسطنطينية خروج الدجال)) رواه أبو داود. [5424] 5425 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر)) رواه الترمذي، وأبو داود. [5425] 5426 - وعن عبد الله بن بسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة)) رواه أبو داود، وقال: هذا أصح. [5426] 5427 - وعن ابن عمر، قال: يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن معاذ رضي الله عنه: قوله: ((عمران بيت المقدس)). ((شف)): لما كان عمران بيت المقدس باستيلاء الكفار عليه وكثرة عمارتهم فيها أمارة مستعقبة لخراب يثرب. وهو أمارة مستعقبة لخروج الملحمة وهو أمارة لفتح قسطنطينية، وهو أمارة مستعقبة لخروج الدجال جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منها عين ما بعده وعبر به عنه. انتهى كلامه. فإن قلت: قال ها هنا: ((فتح قسطنيطينية خروج الدجال)). وفي الحديث السابق: ((إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل)) فكيف الجمع بينهما؟ قلت: إنه صلى الله عليه وسلم جعل الفتح علامة لخروج الدجال لا أنها مستعقبة له من غير تراخ. وصراخ الشيطان كان للإيذان بأنه واقع ليشغلوا عن القسم وكان باطلا. يدل عليه الحديث الآتي: ((الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر)) والتعريف في الصارخ في هذا الحديث للعهد، والمعهود الشيطان. الحديث الثاني إلى الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أن يحاصروا إلى المدينة))

حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح وسلاح قريب من خيبر. رواه أبو داود. [5427] 5428 - وعن ذي مخبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة)). وزاد بعضهم: ((فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)). رواه أبو داود. [5428] 5429 - وعن عبد الله بن عمرو. عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة)). رواه أبو داود. [5429] ـــــــــــــــــــــــــــــ أي يضطروا لمحاصرة العدو إياهم. المسالح جمع المسلح والمسلحة القوم الذين يحفظون الثغور من العدو وسموا مسلحة: لأنهم يكونون ذوي سلاح أو لأنهم يسكنون المسلحة وهي كالثغر. والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غفلة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. و ((سلاح)) موضع قريب من خيبر. الحديث الخامس عن ذي مخبر: قوله: ((آمناً)) صفة ((صلحا)) أي ذا أمن أو جعل الصلح أمنا على الإسناد المجازي. الحديث السادس والسابع عن عبد الله: قوله: ((ذو السويقتين)) ((مح)): هما تصغير ساقي الإنسان لدقتها. وهي صفة سوق السودان غالبا. ولا يعارض هذا قوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا} لأن معناه آمناً إلى قرب القيامة وخراب الدنيا. وقيل يخص منه قضية ذي السويقتين: قال: القاضي عياض: القول الأول أظهر. ((تو)): ((ودعوكم)) تركوكم، وقلما يستعملون الماضي منه إلا ما روى في بعض الأشعار، كقول القائل: غاله في الحب حتى ودعه

5430 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم)). رواه أبو داود، والنسائي. [5430] 5431 - وعن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: ((يقاتلكم قوم صغار الأعين)) يعني الترك. قال: ((تسوقونهم ثلاث مرات حتى تحلقوهم بجزيرة العرب، فأما في ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون الحديث: ((ما وادعوكم)) أي سالموكم فسقط الألف من قلم بعض الرواة. أقول: لا افتقار إلى هذا الطعن مع وروده في التنزيل. الكشاف: في قوله تعالى: {مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ} وقرئ بالتخفيف يعني ما تركك. قال: ثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر ولأن لفظ الازدواج ورد العجز على الصدر يجوز؛ لذلك جاء في كلامهم: إني لآتيه بالغدايا والعشايا. وقوله: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)). ((مظ)): كلام النبي صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع بل فصحاء العرب عن آخرهم بالإضافة إليه بأقل. وأيضا فلغات العرب مختلفة، منهم من انقرض لغته. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بها. قال شمر: زعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدره وماضيه. والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح. ((خط)): اعلم أن الجمع بين قوله تعالى: {قَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً} وبين هذا الحديث – أن الآية مطلقة والحديث مقيد. فيحمل المطلق على المقيد ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة. ومع ذلك أخذ منهم الجزية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)). أقول: ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام ثم قوته. وأما تخصيص الحبشة والترك بالترك والودع فلأن بلاد الحبشة وغيرها بين المسلمين وبينهم مهامة وقفار فلم يكلف المسلمين دخول ديارهم لكثرة التعب وعظم المشقة. وأما الترك فبأسهم شديد، وبلادهم باردة. والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة فلم يكلفهم دخول البلاد، فلهذين السرين خصصهم. وأما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهرا – والعياذ بالله – فلا يجوز لأحد ترك القتال؛ لأن الجهاد في هذه الحالة فرض عين. وفي الحالة الأولى فرض كفاية. الحديث الثامن عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((بجزيرة العرب)) قيل: هي اسم لبلاد العرب

السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون)) أو كما قال. رواه أبو داود. [5431] 5432 - وعن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل أناس من أمتي بغائط، يسمونه البصرة، عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر، يكثر أهلها، ويكون من أمصار المسلمين، وإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عرض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون في أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وهلكوا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء)). رواه أبو داود. [5432] ـــــــــــــــــــــــــــــ سميت بذلك لإحاطة البحار والأنهار بها: بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات. قال مالك: جزيرة العرب: الحجاز واليمامة ومالم يبلغه ملك فارس والروم. وقوله: ((فيصطلمون)) أي يحصدون بالسيف والاصطلام افتعال من الصلم وهو القطع المستأصل. الحديث التاسع عن أبي بكرة رضي الله عنه: قوله: ((بغائط)). ((فا)): الغائط: الوادي المطمئن. وغاط في الأرض يغوط ويغيط إذا غار. قوله: ((عند نهر يقال له: دجلة)) ((شف)): أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة مدينة بغداد؛ فإن دجلة هي الشط، وجسرها في وسطها لا في وسط البصرة. وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم ببصرة؛ لأن بغداد موضعا خارجا منه قريب من بابه يدعى بباب البصرة. فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بغداد باسم بعضها، أو على حذف المضاف، كقوله تعالى: {واسْأَلِ القَرْيَةَ}. وبغداد ما كانت مبنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة ولا كان مصرا في الأمصار؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويكون من أمصار المسلمين)) بلفظ المستقبل، بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قرى متفرقة سورت بعد ما خرجت مدائن كسرى منسوبة إلى البصرة محسوبة من أعمالها. وأن أحدا لم يسمع إلى زماننا بدخول الترك بصرة قط على سبيل القتال والحرب. ومعنى الحديث أن بعضا من أمتي سينزلون عند دجلة فيتوطنون ثمة، ويصير ذلك الموضع مصرا من أمصار المسلمين، وهو بغداد. فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء فتقاتل أهل بغداد. وقال بلفظ ((جاء)) دون يجيء إيذانا بوقوعه فكأنه قد وقع. وقوله: ((فرقة يأخذون في أذناب البقر)) أي فرقة يعرضون عن المقاتلة هرباً منها وطلبا للخلاص فيهيمون في البوادي ويهلكون فيها أي يعرضون عن المقاتلة، ويشتغلون بالزراعة

5433 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً، فإن مصراً منها يقال له: البصرة؛ فإن أنت مررت بها أو دخلتها. فإياك وسباخها وكلأها ونخيلها وسوقها وباب أمرائها، وعليك بضواحيها، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير)). رواه [أبو داود]. [5433] 5434 - وعن صالح بن درهم، يقول: انطلقنا حاجين، فإذا رجل فقال لنا: ـــــــــــــــــــــــــــــ ويتبعون البقر للحراثة. ((وفرقة يأخذون لأنفسهم)) أي يطلبون الأمان من بني قنطوراء، وهلكوا بأيديهم. ولعل المراد بهذه الفرقة ((المستعصم بالله)) ومن معه من المسلمين طلبوا الأمان لأنفسهم ولأهل بغداد، وهلكوا بأيديهم عن آخرهم. وفرقة ثالثة هم الغازية المجاهدة في سبيل الله قاتلوا الترك قبل ظهورهم على أهل الإسلام فاستشهد معظمهم، ونجت منهم شرذمة قليلون. قوله: ((وإذا كان في آخر الزمان)) اسم ((كان)) مضمر يدل عليه الكلام السابق، نحو قولهم: إذا كان غدا فأتني. قيل فيه: إذا تقدم أمر أو حال فهو المقدر. انتهى كلامه. قال: ((يأخذون في أذناب البقر)) على معنى يوقعون الأخذ في الأذناب كقولهم: تخرج في عراقيبها تصلى، كأنهم يبالغون في الاشتغال بالزرع ولا يعبأون بأمر آخر. ويتوغلون في السير خلفها إلى البلاد الشاسعة، فيهلكون. الحديث العاشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يمصرون أمصاراً)) أي يتخذون بلاداً. والتمصير اتخاذ المصر. والسباخ جمع سبخة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. والضواحي جمع ضاحية. وهي الناحية البارزة. قوله: ((بها خسف)) ((شف)): يريد به الخسف في الأرض. و ((قذف)) يريد به الريح الشديدة البارزة. أو قذف الأرض الموتى بعد الدفن، أو رمى أهلها بالحجارة بأن تمطر عليهم. والرجف الزلزلة، وقوله: ((ويصبحون قردة وخنازير)) المراد به المسخ، عبر عنه بما هو أشنع. الحديث الحادي عشر عن صالح: قوله: ((فإذا رجل)) خبره محذوف. وقوله: ((فقال)) معطوف عليه أي فإذا رجل واقف. فقال. والمراد بالرجل أبو هريرة. ((نه)): الأبلة – بضم الهمزة والباء وتشديد اللام – البلد المعروف قرب النصرة من جانبها البحري.

إلى جنبكم قرية يقال لها: الأبلة؟ قلنا: نعم. قال: من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشار ركعتين أو أربعاً، ويقول؛ هذه لأبي هريرة؟ سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم)). رواه أبو داود وقال: هذا المسجد مما يلي النهر. وسنذكر حديث أبي الدرداء: ((إن فسطاط المسلمين)) في باب: ((ذكر اليمن والشام))، إن شاء الله تعالى. [5434] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((هذه لأبي هريرة)) أي يقول: هذه الصلاة لأبي هريرة. قيل: فإن قيل: الصلاة عبادة بدنية لا تقبل النيابة، فيما معنى قول أبي هريرة؟ قلنا: يحتمل أن يكون هذا مذهب أبي هريرة. قاس الصلاة على الحج وإن كان في الحج شائبة مالية. ويحتمل أن يكون معناه: ثواب هذه الصلاة لأبي هريرة؛ فإن ذلك جوزه بعضهم. قوله: ((سمعت خليلي)) ((تو)): قد سبق منه هذا القول في عدة أحاديث. وكأنه قول لم يصدر عن روية، بل كان الباعث عليه ما عرف من قبله من صدق المحبة. ولو تدبر القول لم يلتبس عليه كون ذلك زائغا عن نهج الأدب. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)). قال صلى الله عليه وسلم: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته فليس لأحد أن يدعى خلته مع براءته عن خلة كل خليل)). أقول: لو تأمل حق التأمل ما ذهب إلى ما ذهب إليه؛ لأن المحب من فرط المحبة وصدق الوداد قد يرفع الاحتشام من البين، لاسيما إذا امتد زمان المفارقة على أنه نسب الخلة إلى جانبه لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه رضي الله عنه مذ أسلم ما فارق حضرة الرسالة من شدة احتياجه وفاقته. والناس مشتغلون بتجاراتهم وزروعهم. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال خليله: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت، ولكنه يريدها للأضياف، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها الغرائر حياء من الناس. فلما أخبروه أساءه الخبر، فحملته عيناه، وعمدت امرأته إلى غرارة منها. فأخرجت أحسن حوراي واختبزت وتنبه فاشتم رائحة الخبز. فقال: من أين لكم هذه؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري. فقال: بل من عند خليلي: الله، فسماه الله خليلا. هكذا ذكره في الشكاف. ((مح)): أصل الخلة الاختصاص والاستصفاء. وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذ

الفصل الثالث 5435 - عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظ كما قال، قال: هات، إنك لجريء، وكيف؟ قال: قلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر. قال: قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قال: قلت: لا؛ بل يكسر. قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً. قال: فقلنا لحذيفة: ـــــــــــــــــــــــــــــ من الخلة وهي الحاجة. فسمى إبراهيم عليه السلام بذلك؛ لأنه قصر حاجته على ربه سبحانه وتعالى. وقيل: الخلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار، وقيل: معناها المحبة والإلطاف. هذا كلام القاضي. وقال ابن الأنباري: الخليل معناه: المحب الكامل المحبة، والمحبوب الموفي بحقيقة المحبة التي ليس فيها نقص ولا خلل. قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله تعالى خليل إبراهيم وإبراهيم خليل الله. ولا يجوز أن يقال: الله تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة. الفصل الثالث الحديث الأول عن شقيق: قوله: ((كما قال)) صفة مصدر محذوف، أي أنا أحفظ قوله صلى الله عليه وسلم حفظا مماثلا لما قال. وقوله: ((إنك لجريء)) من الجراءة الإقدام على الشيء. ومعناه أنك غير هائب وقد تجاسرت على ما لا أعرفه ولا يعرفه أصحابك. وادعيت أيضاً أنك عرفت صريح القول. ومن ثمة قال: ((هات)). قوله: ((وكيف؟ قال)) عطف على ((هات)) أي هات ما قال وبين كيفيته. قوله: ((ليس هذا أريد)) وذلك أن عمر رضي الله عنه لما سأل: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ واحتمل أن يراد الفتنة الاختبار والابتلاء كما في قوله تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وأن يراد بها الوقعة والقتال. وكان سؤاله عن الثاني قال: ليس هذا أريد. وإنما أنث عمر رضي الله عنه المشار إليه بعد ما ذكره باعتبار المذكور دلالة على فظاعة المشار إليه وأنها الداهية الدهماء. قوله: ((لا بل يكسر)). فإن قلت: كان يكفي في الجواب أن يقول: يكسر، فلم أتى بـ ((لا))

(2) باب أشراط الساعة

هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله. فسأله فقال: عمر. متفق عليه. 5436 - وعن أنس، قال: فتح القسطنطينية مع قيام الساعة. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [5436] (2) باب أشراط الساعة الفصل الأول 5437 - عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)). وفي رواية: ((يقل العلم، ويظهر الجهل)). متفق عليه. 5438 - وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين يدي الساعة كذابين، فاحذروهم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((بل))؟ قلت: للتنبيه على أن هذا ليس من مقام التردد في الكسر لظهوره، فلا يسأل بأم المعادلة كما سبق مرارا. وإنما قال: ((ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً)): لأن الفتح قد يرجى غلقه بخلاف الكسر، فإنه أبعد من الرجاء. وقوله: ((من الباب؟)) كان الظاهر أن ((الأغاليط)) أراد أن ما ذكرت له لم يكن مبهماً محتملاً كالأغاليط بل صرحته تصريحاً. ولعل لهذا السر ما قال له عمر رضي الله عنه: ((إنك لجريء)). والله أعلم. باب أشراط الساعة ((نه)): الأشراط: العلامات. واحدتها: شرط – بالتحريك – وبه سميت ((شرط السلطان))؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها – هكذا قال أبو عبيدة -. وحكى الخطابي عن بعض أهل اللغة أنه أنكر هذا التفسير، وقال: أشراط الساعة ما ينكره الناس من صغار أمورها قبل أن تقوم الساعة. الفصل الأول الحديث الأول والثاني: عن جابر رضي الله عنه قوله: ((كذابين)) ((مظ)): المراد منه كثرة

5439 - وعن أبي هريرة، قال: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث إذ جاء أعرابي فقال: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)). قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) رواه البخاري. 5440 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)). رواه مسلم. وفي رواية له: قال: ((تبلغ المساكن إهاب أو يهاب)) ـــــــــــــــــــــــــــــ الجهل، وقلة العلم، والإتيان بالموضوعات من الأحاديث، وما يفترونه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يراد به أدعياء النبوة، كما كان في زمانه وبعد زمانه، وأن يراد بهم جماعة يدعون إلى أهواء فاسدة ويسندون البدع واعتقادهم الباطل إليه صلى الله عليه وسلم، كأهل البدع كلهم. الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إذا ضيعت الأمانة)) ((قض)) أخرج الجوابين مخرج الاستئناف للتأكيد، ولأن السؤال الأول لما لم يكن مما يمكن أن يجيب عنه بجواب حقيقي يطابقه – لأن تأقيت الساعة غيب لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل. عدل عن الجواب إلى ما ذكر ما يدل على المسئول عنه دلالة من أمارتها، وسلك في الجواب الثاني مسلك الأول لينتسق الكلام. قوله: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله)) معناه: أن يلي الأمر من ليس له بأهل فتلقى له أحد وسادة الملك، وأراد بالأمر الخلافة وما ينضم إليها من قضاة وإمارة ونحوهما. والوسد أحد من الوسائد، يقال: وسدته الشيء – بالتخفيف – فتوسده، إذا جعله تحت رأسه. ولفظة ((إلي)) فيها إشكال، إذ كان من حقه أن يقال: ((وسد الأمر لغير أهله)) فلعله أتى بها ليدل على إسناد الأمر إليه. أقول: كان من حق الظاهر أن يكتفي في جواب السؤال الأول بقوله: ((إذا ضيعت الأمانة)) وأن يؤتي في السؤال الثاني بمتى ليطابق الجواب فزاد في الأول ((فانتظر)) لينبه على أن قوله: ((إذا ضيعت الأمانة)) ليس إبان الساعة بل من أماراتها فلا تكون ((إذا)) شرطية حينئذ. وتأويل السؤال الثاني متى تضيع الأمانة؟ وكيف حصول التضييع؟ فقال: ((إذا وسد الأمر)) فأطنب في الأول لإفادة معنى زائد، واختصر في الثاني لدلالة الكلام عليه تفنناً، وإنما دل ذلك على دنو الساعة لأن تغير الولاة وفسادهم مستلزم لتغير الرعية، وقد قيل: ((الناس على دين ملوكهم)). الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مروجاً)) النهاية: المرج الأرض

5441 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده)). وفي رواية: قال: ((يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، ولا يعده عداً)). رواه مسلم. 5442 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب، فمن حضر فلا يأخذ منه شيئاً)) متفق عليه. 5443 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)) رواه مسلم. 5444 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال ـــــــــــــــــــــــــــــ الواسعة ذات نبات كثير يمرح فيه الدواب، أي تخلى تسرح مختلطة كيف شاءت. قوله: ((إهاب أو يهاب)). قال الشيخ محيي الدين: أما ((إهاب)) فبكسر الهمزة، وأما ((يهاب)) فبياء مثناة تحت مفتوحة ومكسورة، ولم يذكر القاضي في الشرح والمشارق إلا الكسر. وحكى القاضي عن بعضهم ((نهاب)) بالنون، والمشهور الأول. وقد ذكر في الكتاب لأنه موضع بقرب المدينة على أميال منها. التوربشتي: يريد أن المدينة يكثر سوادها حتى يتصل مساكن أهلها بإهاب أو يهاب – شك من الراوي في اسم الموضع، أو كان يدعى بكلا الاسمين فذكر وللتخيير بينهما. الحديث الخامس: عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((يقسم المال ولا يعده)) قال الشيخ محيي الدين: الحثو الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الأموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه. الحديث السادس والسابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يحسر الفرات)) نه: أي ينكشف، يقال حسرت العمامة عن رأسي وحسرت الثوب عن يدي أي: كشفتها. وقوله: ((أنا الذي أنجو)) من باب قوله: ((أنا الذي سمتني أمي حيدره)) أي: أنا الذي ينجو، فنظر إلى المبتدأ فحمل الخبر عليه لا على الموصول. وفيه كناية لأن الأصل أن يقال: أنا الذي أفوز به، فعدل إلي: أنجو؛ لأنه إذا نجا من القتل [يفوز] بالمال وملكه. الحديث الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تقيء الأرض))، ((قض)): معناه أن الأرض يلقى من بطنها ما فيه من الكنوز، وقيل ما رسخ فيها من العروق المعدنية، ويدل عليه

الأسطوانة من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً)) رواه مسلم. 5445 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمزع عليه، ويقول: ياليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء)) رواه مسلم. 5446 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أمثال الأسطوانة)) وشبهها بالأكباد حباً لأنها أحب ما هو مجني فيها، كما أن الكبد أطيب ما في بطن الجزور وأحبه إلى العرب، وبأفلاذها هيئة وشكلا كأنها قطع الكبد المقطوعة طولا، وقد حكي عن ابن الأعرابي أنه قال: الفلذة لا تكون إلا للبعير. النهاية: سمى ما في بطن الأرض قطعاً تشبيهاً وتمثيلاً، واستعار القيء للإخراج. أقول: قوله: ((أفلاذ كبدها)) استعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، شبه الأرض بالحيوان ثم خيل لها ما يلازم الحيوان من الكبد، فأضاف إليها الكبد على التخييلية لتكون قرينة مانعة من ارداة الحقيقة، ثم فرع على الاستعارة القيء ترشيحا، وقوله: ((هذا)) المشار إليه ليس عين ما قيل فيه، بل هو من جنسه: فيكون في الكلام تشبيه نحو قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي: مثل هذا. الحديث التاسع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الدين))، مظ: الدين هاهنا العادة، وليس في موضع الحال من الضمير في ((يتمرغ)) يعني: يتمرغ على رأس القبر ويتمنى الموت في حالة وليس التمرغ من عادته وإنما يحمله عليه البلاء. أقول: ويجوز أن يحمل الدين على حقيقته، أي ليس ذلك التمرغ والتمني لأمر أصابه من جهة الدين لكن من جهة الدنيا، فيقيد ((البلاء)) المطلق بالدنيا بواسطة القرينة السابقة. الحديث العاشر إلى الحادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تضيء أعناق الإبل)) قال الشيخ محيي الدين: هكذا الرواية بنصب ((أعناق)) وهو مفعول ((تضيء)) يقال: أضاءت النار وأضاءت غيرها.

5447 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب)) رواه البخاري. الفصل الثاني 5448 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار)). رواه الترمذي. [5448] ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((بصرى)) – بضم الباء – مدينة معروفة بالشام وهي مدينة حوران بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة. وكانت ناراً عظيمة خرجت من جانب المدينة الشرقي وراء الحرة، وتواتر العلم بها عند جميع أهل الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة، ((تو)) ورأي هذه النار أهل المدينة ومن حولهم رؤية لا مرية فيها ولا خفاء، فإنها لبثت نحواً من خمسين يوماً تتقد وترمي بالأحجار المحمرة بالنار من باطن الأرض إلى ما حولها مشاكلة للوصف الذي ذكره الله تعالى في كتابه عن نار جهنم: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} وقد سال من ينبوع تلك النار في تلك الصحاري مد عظيم شبيه بالصفر المذاب، فيجمد الشيء بعد الشيء فيوجد شبيها بخبث الحديد. ((قض)): فإن قلت كيف يصح أن يحمل هذا عليها، وقد روي في الحديث الذي يليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أول أشراط الساعة نار تحشر الناس)) وهي لم تحدث بعد؟. قلت: لعله لم يرد بذلك أول الأشراط مطلقا، بل الأشراط المتصلة بالساعة الدالة على أنها تقوم عما قريب؛ فإن من الأشراط بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتقدمها تلك النار، أو: أراد بالنار نار الحرب والفتن، كفتنة الترك فإنها سارت من المشرق إلى المغرب. الفصل الثاني الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((السنة كالشهر)) ((تو)): يحمل ذلك على قلة بركة الزمان وذهاب فائدته، أو على أن الناس لكثرة اهتمامهم بما دهمهم من النوازل والشدائد وشغل قلبهم بالفتن العظام، لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم. فإن قيل: إن العرب تستعمل قصر الأيام والليالي في المسرات وطولها في المكارة، قلنا: المعنى الذي يذهبون إليه في القصر والطول، مفارق للمعنى الذي يذهب إليه! فإن ذلك راجع

5449 - وعن عبد الله بن حوالة، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا، فرجعنا فلم نغنم شيئاً، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال: ((اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلمهم إلى الناس فيستأثروا عليهم)) ثم وضع يده على رأسي، ثم قال: ((يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه إلى رأسك)) رواه [أبو داود]. [5449] 5450 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ إلى تمني الإطالة للرخاء، أو إلى تمني القصر للشدة، والذي يذهب إليه راجع إلى زوال الإحساس بما مر عليهم من الزمان لشدة ما هم فيه وذلك أيضا صحيح. ((قض)): ((كالضرمة بالنار)) أي كزمان إيقاد الضرمة، وهي ما توقد به النار أولا كالقصب والكبريت. الحديث الثاني: عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه: قوله: ((على أقدامنا)) حال من الضمير المفعول، أي بعثنا إلى جهة لنعزو ونغنم ماشين على أقدامنا. وقوله: ((فأضعف)) جواب للنهي، أي: لا تفوض أمورهم إلى ((فأضعف)) عن كفاية مؤنتهم، وسد خلتهم، ولا تفوضهم إلى أنفسهم فيعجزوا عن أنفسهم لكثرة شهواتها وشرورها، ولا تفوضهم إلى الناس فيختاروا أنفسهم على هؤلاء فيضيعوا، بل هم عبادك فافعل بهم ما يفعل السادة بالعبيد. قوله: ((البلابل)) هي الهموم والأحزان، وبلبلة الصدر وسواسه. الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((دولا)) ((تو)) الدول جمع دولة، وهي اسم لكل ما يتداول من المال، يعني أن الأغنياء وأهل [الثروة] يستأثرون بحقوق الفقراء، أو يكون المراد منه أموال الفيء تؤخذ عليه غلبة وأثرة صنيع أهل الجاهلية وذوي العدوان. ((والأمانة مغنماً)) أي يذهبون بها فيغنموها، يقال: فلا يغنم الأمر، أي: يحرص عليه كما يحرص على الغنائم والزكاة.

وكان زعيم القوم أردلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها؛ فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وقذفاً، وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع)) رواه الترمذي. [5450] 5451 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء)) وعد هذه الخصال ولم يذكر ((تعلم لغير الدين)) قال: ((وبر صديقه، وجفا أباه)) وقال: ((وشرب الخمر، ولبس الحرير)) رواه الترمذي. [5451] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((والزكاة مغرماً)) أي: يشق عليهم أداؤها حتى يعدوها غرامة. ((وتعلم لغير الدين)): بالألف واللام كذا في ((جامع الترمذي)) و ((جامع الأصول)) وفي نسخ ((المصابيح)) بغير الألف واللام، والأولى أولى رواية ودراية، أي يتعلمون العلم لطلب الجاه والمال، لا للدين ونشر الأحكام بين المسلمين لإظهار دين الله. وقوله: ((وأدنى صديقه وأقصى إباه)) كلاهما قرينة لقوله: ((وأطاع الرجل امرأته وعق أمه)) لكن المذموم في الأولى الجمع بينهما، لأن إدناء الصديق محمود، بخلاف الثانية فإن الإفراد والجمع بينهما مذمومان. ((وأطاع الرجل امرأته)) أي: فيما تهواه وتأمره. ((وعق أمه)) أي: فيما تأمره، فرجح جانب الزوجة لأنها محل الشهوة، على جانب الأم، فإنها مرضاة للرب، وخص الأم بالذكر لزيادة حقها، وتأكد مشقتها في تربيته، فعقوقها أقبح من عقوق الأب. ((وأدنى صديقه)) أي قربه إلى نفسه للمؤانسة والمجالسة. ((وأقصى أباه)) أبعده ولم يصحبه ولم يستأنس به. وقوله: ((ولعن آخر هذه الأمة أولها)): أي: طعن الخلف في السلف وذكروهم بالسوء، ولم يقتدوا بهم في الأعمال الصالحة، فكأنه لعنهم. الحديث الرابع: عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ولم يذكر: تعلم لغير الدين)) هذا كلام

5452 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي)) رواه الترمذي، وأبو داود. وفي رواية له: قال: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني – أو من أهل بيتي – يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً)) [5452] 5453 - وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المهدي من عترتي من أولاد فاطمة)) رواه أبو داود. [5453] 5454 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين)) رواه أبو داود. [5454] 5455 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المهدي قال: ((فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي! أعطني أعطني. قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله)). رواه الترمذي. [5455] ـــــــــــــــــــــــــــــ صاحب المصابيح، وذلك أن الترمذي ذكر الحديثين على الولاء، وعد في كل واحد منهما الأعداد الخمسة عشر. الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((يملك العرب)) لم يذكر العجم وهم مرادون أيضاً لأنه إذا ملك العرب واتفقت كلمتهم، وكانوا يداً واحدة قهروا سائر الأمم، ويؤيده حديث أم سلمة بعد هذا. الحديث السادس والسابع: عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أجلى الجبهة)) ((النهاية)): الأجلى الخفيف الشعر ما بين [النزعتين] من الصدغين، والذي انحسر الشعر عن جبهته. والقنا: في الأنف طوله ودقة أرنبته مع حدث في وسطه. يقال: رجل أقنى وامرأة قنواء.

5456 - وعن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه الناس من أهل مكة، فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من الشام، فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأي الناس ذلك أتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق، فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش، أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً، فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، ويعمل في الناس بسنة نبيهم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، فيلبث سبع سنين، ثم يتوفي، ويصلي عليه المسلمون)) رواه أبو داود. [5456] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع: عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((فيخرج رجل من أهل المدينة)) وهو ((المهدي)) بدليل إيراد هذا الحديث أبو داود في باب ((المهدي)). قوله: ((فيخسف بهم بالبيداء)) ((تو)) البيداء: ارض ملساء بين الحرمين، وفي الحديث: ((يخسف بالبيداء بين المسجدين)) وليست بالبيداء التي أمام ذي الحليفة وهي شرف من الأرض. ((نه)): أبدل الشام هم الأولياء والعباد، والواحد ((بدل)) كجمل، أو ((بدل)) كحمل، سموا بذلك لأنه كلما مات منهم واحد بدل بآخر. قول الجوهري: الأبدال قوم من الصالحين لا تخلوا الدنيا منهم، إذا مات واحد بدل الله مكانه بآخر، قال ابن دريد: الواحد بديل. ((نه)) ((العصائب)): جمع عصابة وهم جماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين؛ ولا واحد لها من لفظها، ومنه حديث علي رضي الله عنه: ((الأبدال بالشام والنجباء بمصر والعصائب بالعراق)) أراد أن التجمع للعروب يكون بالعراق، وقيل: أراد جماعة من الزهاد سماهم بالعصائب؛ لأنه قرنهم بالأبدال والنجباء، ذكر أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيار أمتي في كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل الله عز وجل من الخمسمائة مكانه وأدخل من الأربعين مكانهم. قالوا: يا رسول الله دلنا على أعمالهم. قال: يعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويتواسون فيما آتاههم الله عز وجل)). وبإسناده أيضاً عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل في الخلق سبعة))

5457 - وعن أبي سعيد، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بلاء يصيب هذه الأمة، حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي وأهل بيتي، فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عن ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطرها شيئاً إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته حتى يتمنى الأحياء الأموات، يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين)) رواه؟؟؟. [5457] ـــــــــــــــــــــــــــــ وساق الحديث إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فبهم يحيي ويميت ويمطر وينبت ويدفع البلاء)) قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كيف بهم يحيي ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء. والله أعلم بالصواب. قوله: ((رجل من قريش أخواله كلب)) تو: يريد أن أم القرشي تكون كلبية، فينازع المهدي في أمره ويستعين عليه بأخواله من بني كلب. ((فيبعث إليهم)) أي إلى المبايعين ((بعثاً)) فيظهر المبايعون على البعث الذي بعثه القرشي. ((بجرانه)) نه: الجران باطن العنق ومنه الحديث: أن ناقته صلى الله عليه وسلم وضعت جرانها، وحديث عائشة رضي الله عنها: ((حتى ضرب الحق بجرانه)) أي قر قراره واستقام، كما أن البعير إذا برك واستراح مد عنقه على الأرض. [المظهر]: ((ضرب بجرانه)) مثل للإسلام إذا استقر قراره فلم تكن فتنة ولا هيج وجرت أحكامه على السنة والاستقامة والعدل. الحديث العاشر: عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((مدراراً)) ((فا)): المدرار الكثير الدر، والمفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: امرأة معطار ومطفال، وهو منصوب على الحال من السماء. قوله: ((حتى يتمنى الأحياء الأموات)) التوربشتي: ((الأحياء)) رفع بالفاعلية، وفي الكلام حذف، أي: يتمنون حياة الأموات أو كونهم أحياء، وإنما يتمنون ذلك ليروا ما هم فيه من الخير والأمن ويشاركوهم فيه، ومن زعم أن الصواب فيه ((الأحياء)) بالنصب من باب الإفعال، وفاعل ((يتمنى)) الأموات فقد أحال.

5458 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث، حراث، على مقدمته رجل يقال له: منصور، يوطن أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله، وجب على كل مؤمن نصره – أو قال: إجابته -)) رواه أبو داود. [5458] 5459 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبه سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)) رواه الترمذي. [5459] الفصل الثالث 5460 - وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآيات بعد المائتين)). رواه ابن ماجه. [5460] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر: عن علي رضي الله عنه: قوله: ((الحارث)) اسم لذلك الرجل. و: ((حراث)) صفته. وقوله: ((يمكن لآل محمد)) أي في الأرض، كقوله تعالى: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعل له في الأرض مكاناً، وأما مكنه الأرض أثبته فيها. ومعناه جعلهم في الأرض ذوي بسطة في الأموال ونصرة على الأعداء. وأراد بقوله: ((كما مكنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قريش)) آخر أمرها، فإن قريشاً وإن أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا من مكة لكن بقاياهم وأولادهم أسلموا ومكنوا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته وبعده إلى اليوم. الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((عذبة سوطه)) هو القذ الذي في طرفه، وعذبة كل شيء طرفه. الفصل الثالث الحديث الأول: عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((الآيات بعد المائتين)) مبتدأ وخبر، أي

5461 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها فإن خليفة الله المهدي)) رواه أحمد، والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5461] 5462 - وعن أبي إسحاق، قال: قال علي ونظر إلى ابنه الحسن قال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق، ولا بشبهه في الخلق، – ثم ذكر قصة – يملأ الأرض عدلاً. رواه أبو داود ولم يذكر القصة. [5462] 5463 - وعن جابر بن عبد الله، قال: فقد الجراد في سنة من سني عمر التي توفي فيها، فاهتم بذلك هماً شديداً، فبعث إلى اليمن راكباً، وراكباً إلى العراق، وراكباً إلى الشام، يسأل عن الجراد، هل أري منه شيئاً، فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة فنثرها بين يديه، فلما رآها عمر كبر، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل خلق ألف أمة، ستمائة منها في البحر، وأربعمائة في البر، فإن أول هلاك هذه الأمة الجراد، فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم كنظام السلك)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5463] ـــــــــــــــــــــــــــــ تتابع الآيات وظهور أشراط الساعة على التتابع والتتالي بعد المائتين، ويؤيده قوله في الحديث السابق: ((وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع)) والظاهر اعتبار المائتين بعد الإخبار. الحديث الثاني والثالث: عن أبي إسحاق رضي الله عنه: قوله: ((ولم يذكر القصة)) التعريف فيه للعهد، هذا كلام صاحب جامع الأصول وليس في سنن أبي داود. الحديث الرابع: عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((هلاك هذه الأمة)) إشارة إلى قوله: ((ألف أمة)) والمراد بها كل جنس من أجناس الدواب، كما في قوله تعالى: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.

(3) باب العلامات بين يدي الساعة

(3) باب العلامات بين يدي الساعة ذكر الدجال الفصل الأول 5464 - عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر. فقال: ((ما تذكرون؟)). قالوا: نذكر الساعة. قال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم)) وفي رواية: ((نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر)) وفي رواية في العاشرة ((وريح تلقي الناس في البحر)) رواه مسلم. 4565 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بأدروا بالأعمال ستاً: الدخان، والدجال، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب العلامات بين يدي الساعة وذكر الدجال أصل الدجل: الخلط، يقال: دجل إذا لبس وموه. و ((الدجال)) فعال من أبنية المبالغة أي: يكثر منه الكذب والتلبيس، وهو الذي يظهر في آخر الزمان ويدعي الإلهية. الفصل الأول الحديث الأول عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((فذكر الدخان)) هو الذي ذكر في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} وذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمراد من ((الدابة)) هو المذكور في قوله تعالى: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}. قيل: المراد من ((المحشر)) أرض الشام: إذا صح في الخبر: ((إن الحشر يكون في أرض الشام)). الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بادروا بالأعمال ستاً)). [((فا))]: معنى مبادرة الست بالأعمال: الانكماش في الأعمال الصالحة، والاهتمام قبل وقوعها. وتأنيث

5466 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً)) رواه مسلم. 5467 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث إذا خرجن {لا يَنفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا}: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((الست))؛ لأنها دواه ومصائب ((قض)): أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت دهشتهم وشغلتهم عن الأعمال أو سد عليهم باب التوبة وقبول العمل. و ((أمر العامة)) يريد به الفتنة التي تعم الناس، أو الأمر الذي يستبد به العوام ويكون من قبلهم. و ((خويصة)) تصغير خاصة، أي: الوقعة التي تخص أحدكم، يريد بها الموت، أو ما تعلق الإنسان في نفسه وأهله وماله فتشغله عن غيره. والله أعلم, الحديث الثالث عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((إن أول الآيات)) فإن قيل: طلوع الشمس ليس بأول الآيات: لأن الدخان والدجال قبله؟. أجيب بأن الآيات إما أمارات دالة على قرب قيام الساعة، وإما أمارات دالة على وجود قيام الساعة وحصولها. ومن الأول الدخان وخروج الدجال ونحوهما. ومن الثاني ما نحن فيه من طلوع المس من مغربها، [والرجفة]، وبس الجبال، وخروج النار وطردها الناس إلى المحشر. وإنما سمي أولا؛ لأن مبدأ القسم الثاني؛ ويؤيده حديث أبي هريرة بعده: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)) حيث جعل طلوع الشمس من مغربها غاية لعدم قيام الساعة، وينصره أيضاً ما رواه البيهقي في كتاب البعث والنشور عن الإمام الحاكم أبي عبد الله الحليمي: ((إن أول الآيات ظهور الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها)) وذلك أن الكفار يسلمون في زمان عيسى حتى تكون الدعوة واحدة، ولو كان طلوع الشمس من مغربها قبل خروج الدجال ونزول عيسى، لم ينفع الكفار إيمانهم أيام عيسى، ولو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا.

5468 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس: ((أين تذهب؟)). قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، ولا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: ((مستقرها تحت العرش)) متفق عليه. 5469 - وعن عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر اكبر من الدجال)) رواه مسلم. 5470 - وعن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يخفي عليكم، إن الله تعالى ليس بأعور وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع إلى السادس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((لمستقر لها)) ((خط)): قال بعض أهل التفسير: معناه: أن الشمس تجري لأجل قدر لها معين إلى انقطاع مدة بقاء العالم. وقال بعضهم: مستقرها من غاية ما تنتهي إليه في صعودها وارتفاعها لأطول يوم من الصيف، ثم تأخذ في النزول إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة. وأما قوله: ((مستقرها تحت العرش)) فلا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما أخبر عن غيب فلا نكذبه ولا نكيفه؛ لأن علمنا لا يحيط به. الحديث السابع والثامن عن عبد الله؛ قوله: ((إن الله لا يخفي عليكم)) جملة موطئة لقوله: ((إن الله ليس بأعور)) للتنزيه كما في وسط قوله: ((سبحانه)) في قوله: {ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ولَهُم مَّا يَشْتَهُونَ}. قوله: ((عين اليمنى)) أي عين الجنبة اليمنى أو الجهة اليمنى. قوله: ((عنبة طافية)) الطافية هي الناتنة عن حد أخواتها من الطفو، وهو أن يعلو الماء ما وقع فيه. ((تو)): وفي الأحاديث التي وردت في وصف الدجال، وما يكون منه كلمات متنافرة يشكل التوفيق بينها، ونحن نسأل الله التوفيق في التوفيق بينها، وسنبين كلا منها على حدته في الحديث الذي ذكره فيه أو تعلق به، ففي هذا الحديث أنها طافية، وفي آخر أنه جاحظ العين كأنها كوكب، وفي آخر أنها ليست بناتئة ولا حجراء.

5471 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: ك ف ر)) متفق عليه. 5472 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه؟: إنه أعور؛ وإنه يجيء معه بمثل الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة، هي النار، وإن أنذركم كما أنذر به نوح قومه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والسبيل في التوفيق بينها أن نقول: إنما اختلف الوصفان بحسب اختلاف العينين؛ ويؤيد ذلك ما في حديث ابن عمر هذا: ((إنه أعور عين اليمنى)) وفي حديث حذيفة: ((إنه ممسوح العين عليها ظفرة غليظة)) وفي حديثه أيضا. ((إنه أعور عين اليسرى)). ووجه الجمع بين هذه الأوصاف المتنافرة أن يقدر فيها أن إحدى عينيه ذاهبة والأخرى معيبة، فيصح أن يقال: لكل واحدة عوراء: إذ الأصل في العور العيب. وذكر نحوه الشيخ محيي الدين. الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((مكتوب بين عينيه ك ف ر)) لعل المراد بالتنصيص أن لا يتوهم فيها السيماء من حيث المعنى. ((مح)): هو بيان علامة تدل على كذب الدجال دلالة قطعية بديهية يدركها كل أحد، ولم يقتصر على كونه جسما أو غير ذلك من الدلائل القطعية؛ ليكون بعض العقول قد لا يهتدي إليها. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((عن الدجال)) ((مح)): هذه الأحاديث حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى الله تعالى به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله، وظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وابتاع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويقتله عيسى عليه السلام، ويثبت الله الذين آمنوا. وفتنته عظيمة جدا، تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء دلائل الحدوث والنقص، فيصدقه من يصدقه في هذه الحالة؛ ولهذا حذرت الأنبياء صلوات الله عليهم من فتنته، ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله. أما أهل التوفيق فلا يغترون ولا ينخدعون بما فيه: لما ذكرنا من الدلائل المكذبة له مع ما سبق لهم من العلم بحاله. قوله: ((كما أنذر به نوح قومه)) فإن قيل: لم خص نوحا عليه السلام بالذكر؟. قلت: لأن نوحا عليه السلام مقدم المشاهير من الأنبياء، كما خصه بالتقديم في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحًا}.

5473 - وعن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونارا، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا؛ فإنه ماء عذب طيب)) متفق عليه. وزاد مسلم: ((وإن الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، كاتب وغير كاتب)). 5474 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنته وناره، فناره جنة، وجنته نار)) رواه مسلم. 5475 - وعن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال: ((إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزي بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) وفي رواية ((فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته، إنه خارج خلة بين الشام والعرق، فعاث يمينا، وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا)) قلنا: يا رسول الله! وما لبثه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((ممسوح العين)) ((قض)): أي ممسوح إحدى عينيه للحديث السابق ونظائره. و ((الظفرة)) بالتحريك لحمة تنبت عن الماقين من كثرة البكاء أو الماء. وقيل جلدة تخرج من العين من الجانب الذي يلي الأنف، وهي يحتمل أن تكون في العين الممسوحة. وأن تكون في العين الأخرى، ولا تواري الحدقة بأسرها لتعميها. الحديث الثاني عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((جفال الشعر)) ((فا)): هو الكثير الشعر مجتمعة، ومنه الجفالة الجماعة من الناس. الحديث الثالث عشر عن النواس: قوله: ((حجيجه)) ((نه)): أي محاجه ومغالبه بإظهار الحجة عليه، والحجة الدليل والبرهان يقال: حاججته حجاجا ومحاجة فأنا حجيج فعيل بمعنى فاعل. قوله: ((دونكم)) فيه إرشاد إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان في المحاجة معه غير محتاج إلى معاونة معاون من أمته في غلبته عليه بالحجة. ((تو)): فإن قيل: أو ليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي، وأن عيسى عليه السلام يقتله إلى غير ذلك من الوقائع الدالة على أنه لا يخرج ونبي الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، بل لا تراه القرون الأولى من هذه الأمة. فما وجه قوله: ((إن يخرج وأنا فيكم))؟.

في الأرض؟ قال: ((أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم)). قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قلنا: إنما سلك هذا المسلك من التورية؛ لإبقاء الخوف على المكلفين من فتنته واللجأ إلى الله تعالى من شره، لينالوا بذلك الفضل من الله ويتحققوا بالشح على دينهم. ((مظ)): يحتمل أن يريد به تحقيق خروجه، يعني لا تشكوا في خروجه؛ فإنه سيخرج لا محالة. وأن يريد به عدم علمه بوقت خروجه، كما أنه كان لا يدري متى الساعة. أقول: الوجه الثاني من الوجهين هو الصواب: لأنه يمكن أن يكون قوله هذا قبل علمه صلى الله عليه وسلم بذلك. وقوله: ((فامرؤ حجيج نفسه)) أي وكل امرئ يحاجه ويحاوره، والدليل على عمومه قوله: ((والله خليفتي على كل مسلم)). قوله: ((قطط)) ((مح)): هو بفتح القاف والطاء، أي شديد جعودة الشعر. قوله: ((كأني أشبهه بعبد العزى)) لم يقل: كأنه عبد العزى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن جازما في تشبيهه به. قيل: إنه كان يهوديا ولعل الظاهر أنه مشرك؛ لأن العزى اسم صنم، يؤيده ما جاء في بعض الحواشي: هو رجل من حزاعة، هلك في الجاهلية. قوله: ((فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)) فإن الله تعالى يؤمنه من فتنة الدجال كما أمن أولئك الفتية من فتنة الدقيانوس الجبار. قوله: ((خلة بين الشام والعراق)) ((نه)): أي من طريق بينهما. وقيل للطريق والسبيل خلة: لأنه خل ما بين البلدين، أي أخذ محيط ما بينهما. ((مح)): هكذا هو في نسخ بلادنا خلة بفتح الخاء المعجمة وتنوين التاء. وقال القاضي: المشهور فيه حلة بالحاء المهملة ونصب التاء، يعني غير منونة. معناه سمت ذلك وقبالته، وفي كتاب العين: الحلة موضع حزن وصخور. قال: ورواه بعضهم ((حلة)) بضم اللام وبهاء الضمير أي نزوله وحلوله. قال وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين أيضا ببلادنا. وقوله: ((فعاث)) هو بعين مهملة وثاء مثلثة من العيث وهو أشد الفساد والإسراع فيه. وحكى القاضي: أنه رواه بعضهم: ((فعاث)) على صيغة اسم الفاعل. ((شف)): قيل: الصواب فيه ((فعاث)) بصيغة اسم الفاعل؛ لكونه عطفا على اسم فاعل قبله وهو قوله: ((خارج)). ((تو)): وإنما قال: ((يمينا)) و ((شمالا))؛ إشارة إلى أنه لا يكتفي بالإفساد في ما يطؤه من البلاد ويتوجه له من الأغوار والأنجاد. بل يبعث سراياه يمينا وشمالا فلا يأمن شره مؤمن ولا يخلو من فتنته موطن. قوله: ((يا عباد الله)) من الخطاب العام أراد به من يدرك الدجال من أمته. قيل: هذا القول

((لا، اقدروا له قدره)). قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: ((كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم، فيدعوهم فيؤمنون به، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى، وأسبغه ضروعا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله: فينصرف عنهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ منه استمالة لقلوب أمته، وتثبيتهم على ما يعاينونه من شر الدجال، وتوطينهم على ما هم فيه من الإيمان بالله تعالى والاعتقاد به، والتصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ((تو)): ويشكل من هذا الفصل قوله صلى الله عليه وسلم: ((يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة)) مع قوله: ((وسائر أيامه كأيامكم)) ولا سبيل إلى تأويل امتداد تلك الأيام على أنها وصفت بالطول والامتداد؛ لما فيها من شدة البلاء وتفاقم البأساء والضراء؛ لأنهم قالوا: ((يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا)) ... الحديث. فنقول وبالله التوفيق ومنه المعونة: وقد تبين لنا بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: أن الدجال يبعث معه من الشبهات، ويقبض على يديه من التمويهات ما يسلب عن ذوي العقول عقولهم، ويخطف من ذوي الأبصار أبصارهم، فمن ذلك تسخير الشياطين له، ومجيئه بجنة ونار وإحياء الميت على حسب ما يدعيه, وتقويته على من يريد إضلاله تارة بالمطر والعشب، وتارة بالأزمة والجدب. ثم لا خفاء بأنه أسحر الناس، فلم يستقم لنا تأويل هذا القول إلا بأن نقول إنه يأخذ بأسماع الناس وأبصارهم، حتى يخيل إليهم أن الزمان قد استمر على حالة واحدة، إسفار بلا ظلام وصباح بلا مساء، ويحسبون أن الليل لا يمد عليهم رواقه، وأن الشمس لا تطوي عليهم ضياءها، فيقعون في حيرة والتباس من امتداد الزمان، وتدخل عليهم الدواخل باختفاء الآيات الظاهرة في اختفاء الليل والنهار، فأمرهم أن يجتهدوا عند مصادفة تلك الأحوال ويقدروا لوقت كل صلاة قدرها إلى أن يكشف الله عنهم تلك الغمة، هذا الذي اهتدينا إليه من التأويل، والله الموفق لإصابة الحق. ((مح)): قالوا: هذا على ظاهره، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله: ((وسائر أيامه كأيامكم)). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقدروا له قدره)) فقال القاضي وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع. قالوا ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا، اقتصرنا على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. ومعناه: إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر في كل يوم، فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر، فإذا مضى بعدها قدر ما يكون

فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف ـــــــــــــــــــــــــــــ بينها وبين المغرب، فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب، وكذا حتى ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة فرائض مؤداة في وقتها. وأما الثاني الذي كشهر، والثالث الذي كجمعة، فيقاس على اليوم الأول في أنه يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرنا. والله أعلم. قوله: ((أربعون يوما)) وفي رواية المالكي: ((أربعين يوما)) وقال: أضمر: ((يلبث)) ونصب به أربعين اكتفاء بالمعنى، ولو قصد تكميل المطابقة لقيل: اربعون يوما، بالرفع؛ لأن الاسم المستفهم به في موضع رفع. أقول: الفرق بين الجوابين: أن الرفع يدل على أن الجواب لم يكن عن تفكر ورويه، فلما سألوا أطبق الجواب عليه، وأن النصب كان عن توقف وتفكر؛ حيث أنه كرر الفعل، ونحوه قوله تعالى: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي قال المشركون. و {قَالُوا خَيْرًا} أي المسلمون في جواب قوله: {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ}. قوله: ((وما إسراعه)) لعلهم علموا أن له إسراعا في الأرض، فسألوا عن كيفيته كما كانوا عالمين بلبثه في الأرض فسألوا عن كميته بقولهم: ((ما لبثه؟)) أي ما مدة لبثه؟. والمراد بالغيث هنا الغيم إطلاقا للمسبب على السبب. أي يسرع في الأرض إسراع الغيم إذا استدبرته الريح. قوله: ((فتروح عليهم سارحتهم)) أي ترجع آخر النهار. ((نه)): السارحة والسارح والسرح سواء الماشية، يقال: سرحت الماشية تسرح فهي سارحة، وسرحتها يتعدى ولا يتعدى. و ((ذري)) جمع ذروة وهي أعلى سنام البعير، وذروة كل شي أعلاه. و ((الخواصر جمع خاصرة، ومدها كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل. قوله: ((ممحلين)) ((تو)): أمحل القوم أصابهم المحل وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. ((مح)): ((اليعاسيب)) ذكور النحل هكذا فسره ابن قتينة وآخرون. قال القاضي: المراد جماعة النحل لا ذكورها خاصة، لكنه كنى عن الجماعة باليعسوب وهو أميرها؛ لأنه متى طار اتبعته جماعته. ((شف)): معناه يتبع الدجال كنوز الأرض كما تتبع اليعسوب النحل، فقوله: ((كاليعاسيب)) حال من الدجال، ويمكن أن يكون حالا من ((الكنوز)) أي كائنة كاليعاسيب، وهو كناية عن سرعة اتباعه، أي تتبعه الكنوز بالسرعة.

فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه بضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق بين مهروذتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: إذا كان قوله: ((كاليعاسيب)) حالا من الدجال فـ ((الخربة)) صفة البقاع، وإذا كان حالا من الكنوز فيجوز أن يكون الموصوف جمعا أو مفردا، و ((الممتلئ شبابا)) هو الذي يكون في غاية الشباب ونضرة مائه. ((مح)): ((جولتين)) هو بفتح الجيم على المشهور، وحكى ابن دريد كسرها، أي قطعتين. ويعني برمية الغرض أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رمية الغرض، هذا هو الظاهر المشهور. وحكى القاضي هذا ثم قال: وعندي أن فيه تقديما وتأخيرا، وتقديره: فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين، والصحيح الأول. ((تو)): أراد برمية الغرض إما سرعة نفوذ السيف فيه، وإما إصابة المحز. أقول: يؤيد تأويل محيي الدين قوله في الحديث الذي يليه: ((ثم يمشي الدجال بين القطعتين. قوله: ((يتهلل وجهه) أي يتلألأ ويضيء ويجيب ضاحكا بالدجال ويقول: كيف يصلح هذا إلها!. قوله: ((بين مهروذتين)) ((مح)): روي بالدال المهملة، والذال المعجمة أكثر، والوجهان مشهوران للمتقدمين والمتأخرين, وأكثر ما يقع في النسخ بالمهملة، معناه: لابس ثوبين مصبوغين بورس ثم الزعفران. و ((الجمان)) بضم الجيم وتخفيف الميم حب يتخذ من الفضة على هيئة اللآلئ الكبار. أقول: شبهه بالجمان في الكبر، ثم شبه الجمان باللؤلؤ في الصفاء والحسن، فالوجه أن يكون الوجه الكبر مع الصفاء والحسن. قوله: ((فلا يحل)) ((مح)): بكسر الحاء، أي لا يمكن ولا يقع. قال القاضي: معناه عندي حق واجب. قال: ورواه بعضهم بضم الحاء، وهو وهم وغلط. و ((نفسه)) بفتح الفاء. أقول: معناه لا يحصل أو لا يحق، أن يجد من ريح نفسه وله حال من الأحوال إلا حال الموت. فقوله: ((يجد)) مع ما في سياقه فاعل يحل على تقدير أن. قوله: ((بباب لد)) ((مح)): هو بضم اللام وتشديد الدال مصروف، وهو بلدة قريبة من بيت المقدس. وهذا المسح يحتمل أن يكون على ظاهره، فيمسح وجوههم تبركا، أو أنه إشارة إلى كشف ما يكونون فيه من الشدة والخوف.

ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى إلى قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج {وهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم ويقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لا يدان)) معناه لا قدرة ولا طاقة؛ لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليد، وثنى مبالغة كأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه. ومعنى ((فحرز عبادي)) أي ضمهم واجعل لهم حرزا. و ((الحدب)) بالتحريك ما ارتفع من الأرض. و ((النسل)) الإسراع. ((نه)): الخمر بالخاء المعجمة والميم الشجر المتلف، وفسر في الحديث: أنه جبل ببيت المقدس، لكثرة شجره، وهو كل ما يسترك من شجر أو بناء أو غيره. و ((هلم)) معناه: تعال، وفيه لغتان: فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد مبني على الفتح، وبنو تميم تثني وتجمع وتؤنث، تقولك هلم وهلمي وهلما وهلموا. قوله: ((رأس الثور)) ((تو)): أي تبلغ الفاقة بهم إلى هذا الحد. وإنما ذكر رأس الثور ليقاس البقية عليه في القيمة. قوله: ((فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه)) ((قض)): أي يرغبون إلى الله تعالى في إهلاكهم وإنجائهم عن مكابدة بلائهم، ويتضرعون إلى الله فيستجيب الله فيهلكهم بالنغف. ((تو)): النغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم. و ((فرسى)) جمع فريس، كقتيل وقتلى، من فرس الذئب الشاة إذا كسرها وقتلها، ومنه: فريسة الأسد. يريد أن القهر الإلهي الغالب على كل شيء يفرسهم دفعة واحدة فيصبحون قتلى. وقد نبه بالكلمتين – أعني النغف وفرسى – على أنه سبحانه يهلكهم من أدنى ساعة بأهون شيء وهو النغف، فيفرسهم فرس السبع فريسة، بعد أن طارت نعرة البغي في رءوسهم، فظنوا أنهم قاتلوا من في السماء.

النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله)) وفي رواية ((تطرحهم بالنهبل، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا بر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللحقة من البقر لتكفي القبيلة من ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الزهم)) بالتحريك مصدر قولك: زهمت يدي بالكسر من الزهومة فهي زهمة أي دسمة، وعليه أكثر الروايات فيما أعلم، وفيه من طريق المعنى وهن، وضم الزاي مع فتح الهاء أصح معنى، وهو جمع زهمة وهو الريح المنتنة. قوله: ((طيرا كأعناق البخت)) أي طيرا أعناقهم كأعناق البخت. والنهبل اسم موضع. ((مح)): ((لا يكن)) أي لا يمنع من نزول الماء بيت. ((المدر)) وهو الطين الصلب. ((قض)): أي لا يحول بينه وبين مكان ما حائل، بل يعم الأماكن كلها فيغسلها. قوله: ((كالزلفة)) روي بفتح الزاي واللام، وبالفاء وبالقاف، وروي بضم الزاي وإسكان اللام وبالفاء. قال القاضي: روي بالفاء والقاف، وبفتح اللام وإسكانها، كلها صحيحة، واختلفوا في معناه فقال ثعلب وأبو زيد وآخرون: معناه كالمرآة، وحكى صاحب المشارق هذا عن ابن عباس أيضا، شبهها بالمرآة في صفائها ونظافتها، وقيل: معناه كمصانع الماء، أي أن الماء يستنقع فيها، حتى تصير الأرض كالمصنع الذي يجتمع في الماء. قال أبو عبيدة: معناه الإجانة الخضراء، وقيل: كالصحفة، وقيل: كالروضة. و ((العصابة)) الجماعة. و ((قحفها)) بكسر القاف وهو مقعر فشرها، شبهها بقحف الآدمي وهو الذي فوق الدماغ، وقيل: هو ما انفلق من جمجمته وانفصل. و ((الرسل)) بكسر الراء وإسكان السين هو اللبن. و ((اللقحة)) بكسر اللام وفتحها مشهورتان، والكسر أشهر، وهي القريبة العهد بالولادة، وجمعها لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، و ((اللقوح)) ذات اللبن. و ((الفئام)) بكسر الفاء وبعدها همزة ممدوة هي الجماعة الكثيرة، هذا هو المشهور والمعروف في اللغة، ورواية الحديث بكسر الفاء والهمزة. قال القاضي: ومنهم من لا يجيز الهمز بل يقوله بالياء، وقال في المشارق: وحكاه الخليل بفتح الفاء، قال: وذكر صاحب العين غير

الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينا هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباظهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة)) رواه مسلم إلا الرواية الثانية وهي قوله: ((تطرحهم بالنهبل إلى قوله: سبع سنين)) رواها الترمذي. [5475] 5476 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فيلقاه المسالح مسالح الدجال. فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج. قال: فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه)) قال: ((فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يأيها الناس! هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم)) قال: ((فيأمر الدجال به فيشبح. ـــــــــــــــــــــــــــــ مهموز، وأدخله في حرف الياء، وحكى الخطابي أن بعضهم ذكره بفتح الفاء وتشديد الياء وهو غلط فاحش، والفخذ الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة. قال القاضي عياض: الفخذ هنا بإسكان الخاء لا غير، فلا يقال بإسكانها، بخلاف الفخذ التي هي العضو؛ فإنها تكسر وتسكن. قوله: ((وكل مسلم)) هكذا هو في جميع النسخ بالواو. وأقول: أراد بالتكرار ها هنا الاستيعاب أي يقبض روح خيار الناس كلهم. قولهم: ((يتهارجون)) ((مح)): أي يجامع الرجال النساء علانية بحضرة الناس كما تفعله الحمير، ولا يكترثون لذلك. و ((الهرج)) بإسكان الراء الجماع. يقال: هرج زوجته أي جامعها يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها. الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((مسالح الدجال)) ((قض)): المسالح جمع مسلحة وهي قوم ذو سلاح، ولعل المراد به ها هنا مقدمة جيشه، وأصلها موضع السلاح، ثم استعمل للثغر؛ فإنه تعد فيه الأسلحة، ثم للجند المترصدين، ثم لمقدمة الجيش؛ فإنهم من الجيش كأصحاب الثغور ممن وراءهم من المسلمين. قوله: ((ما بربنا خفاء)) هذا تكذيب لهم وبيان لتمويههم وتلبيسهم. ((أو ما تؤمن بربنا)) كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يخفي عليكم إن الله ليس بأعور.

فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضربا)). قال: ((فيقول: أو ما تؤمن بي؟)) قال: ((فيقول: أنت المسيح الكذاب)). قال: ((فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه)). قال: ((ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائما، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت إلا بصيرة)). قال: ((ثم يقول: يأيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس)). قال: ((فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا)). قال: ((فيأخذه بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)) رواه مسلم. 5477 - وعن أم شريك، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال)). قالت أم شريك: قلت: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: ((هم قليل)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فيشبح)) ((مح)): بشين معجمة ثم باء موحدة وحاء مهملة، أي مدوه على بطنه و ((شجوه)) بجيم مشددة من الشج، وهو الجرح في الرأس، ثم قال: وهذه الرواية أصح عندنا وقوله: ((فيوسع)) بإسكان الواو وفتح السين. وقوله: ((فيؤشر)) الرواية فيه بالهمزة و ((المنشار)) بهمزة بعد الميم وهو الأفصح، ويجوز تخفيف الهمزة فيهما فيجعل في الأول واو وفي الثاني ياء، ويجوز المنشار بالنون، وعلى هذا يقال نشرت الخشبة. و ((مفرقه)) بكسر الراء وسطه، و ((الترقوة)) بفتح [التاء وضم] القاف، العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق. قوله: ((لا يفعل بعدي)) مفعوله محذوف، أي ما فعل بي. وقوله: ((فيجعل)) أي الله تعالى كالنحاس لا يعمل فيه السيف. ((حس)): قال معمر: بلغني أنه يجعل على حلقة صفحة نحاس. وقوله: ((فيحسب الناس)) أي يحسبون أن الدجال قذفه فيما زعم أنه ناره، وإنما ألقي في الجنة وهي دار الثواب؛ يدل عليه قوله: ((هذا أعظم الناس شهادة)) نحو قوله تعالى: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} أي يسرحون في ثمار الجنة. الحديث الخامس عشر عن أم شريك: قوله: ((فأين العرب يومئذ)) الفاء فيه جزاء شرط

5478 - وعن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا، عليهم الطيالسة)) رواه مسلم. 5479 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه رجل وهو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ محذوف أي إذا كان حال الناس هذا، فأين المجاهدون في سبيل الله الذابون عن حريم الإسلام، المانعون عن أهله صولة أعداء الله، فكنى عنهم بها، قال: أنا الذاب الحامي الذمار، وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي. الحديث السادس عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أصبهان)) ((مح)): يجوز فيه كسر الهمزة وفتحها وبالباء والفاء. الحديث السابع عشر عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: قوله: ((نقاب المدينة)) ((مح)): هو بكسر النون. ((نه)): هو جمع نقب وهو الطريق بين الجبلين، والأنقاب جمع قلة له. قوله: ((خير الناس)) ((حس)): قال معمر: بلغني أن الرجل الذي يقتله الدجال الخضر عليه السلام. قوله: ((حديثه)) جار على قوله: الدجال؛ لأن المظهر غائب، لا على ضمير المخاطب وعكسه قوله: أنا الذي سمتني أمي حيدرة قوله: ((فيقولون لا)) ((مح)): أما قول الدجال: ((أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر، فيقولون: لا)) فقد يشكل؛ لأن ما أظهره الدجال لا دلالة له فيه على ربوبيته؛ لظهور النقص عيه، ودلائل الحديث، وتشويه الذات، وشهادة كذبه، وكفره المكتوبة بين عينيه, وغير ذلك. ويجاب بأنه: لعلهم قالوه خوفا منه لا تصديقا، ويحتمل أنهم قصدوا: لا نشك في كذبك وكفرك فإن من شك في كفره وكذبه كفر، وخادعوه بهذه التورية خوفا منه، ويحتمل أن الذين قالوا: لا نشك، هم مصدقوه من اليهود وغيرهم ممن قدر الله تعالى شقاوته.

5480 - وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يأتي المسيح من قبل المشرق همته المدينة، حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهنالك يهلك)) متفق عليه. 5481 - وعن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان)) رواه البخاري. 5482 - وعن فاطمة بنت قيس، قالت: سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة؛ فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر وهو يضحك؛ فقال: ((ليلزم كل إنسان مصلاه)) ثم قال: ((هل تدرون لم جمعتكم؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم به عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن فاطمة: قوله: ((الصلاة جامعة)) ((مح)): هو بنصب الصلاة وجامعة، الأول على الإغراء، والثاني على الحال. ((تو)): وجه الرواية بالرفع أن يقدر ((هذه)) أي هذه الصلاة جامعة. ويجوز أن ينتصب جامعة على الحال، ولما كان هذا القول للدعاء إليها والحث عليها، كان النصب أجود وأشبه بالمعنى المراد منه. قوله: ((ما جمعتكم لرغبة)) أي في أمر مرغوب من نحو عطاء، ((ولا لرهبة)) أي من خوف عدو. وقوله: ((سفينة بحرية)) أي كبيرة لا زورقا نهريا. و ((لخم)) بالخاء المعجمة، و ((جذام)) بالجيم قبيلتان. قوله: ((تميما الداري)) كذا هو في جامع الأصول وأكثر نسخ المصابيح، وتميم الداري من غير تنوين في كتاب الحميدي وبعض نسخ المصابيح، وفي بعض نسخ المصابيح وفي مسلم: ((لأن تميما الداري)). قوله: ((فلعب بهم الموج)) ((فا)): سمي اضطراب أمواج البحر. لعبا؛ لما يسير بهم إلى الوجه الذي ما أرادوه، يقال لكل من عمل عملا ل يجدي عليه نفعا: إنما أنت لاعب. قوله: ((فأرفئوا)) ((تو)): قال الأصمعي أرفأت السفينة أرفئها إرفاء أي قربتها من الشط. وبعضهم يقول: أرفيها بالياء على الإبدال، وهذا مرفأ السفن أي الموضع الذي تشد إليه وتوقف عنده.

فأرفئوا إلى جزيرة حين تغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابه، أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، قالوا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة قالوا: وما لجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمعت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يده إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم علي خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فلعب بنا البحر شهرا، فدخلنا ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): ((أقرب السفينة)) هو بضم الراء جمع قارب بكسر الراء وفتحها، وهي سفينة صغيرة، تكون مع الكبيرة كالجنيبة، يتصرف فيها ركاب السفينة لقضاء حوائجهم. ((نه)): أما أقرت فلعله جمع قارب، وليس بمعروف في جمع فاعل أفعل، وقد أشار الحميدي في غريبه إلى إنكار ذلك، وقال الخطابي: إنه جمع على غير قياس. الهلب الشعر، وقيل ما برز من الشعر وغيره، وذكر الصفة؛ لأن لفظ ((الدابة)) يقع على الذكر والأنثى. قوله: ((ما قبله)) ما استفهامية، و ((يدرون)) يمعنى يعلمون؛ لمجيئ الاستفهام تعليقا، ولا بد من تقدير المضاف بعد حرف الاستفهام، أي ما نسبة قبله من دبره. ((مح)): الحساسة هي بفتح الجيم وتشديد السين المهملة الأولى، قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال. وقوله: ((في الدير)) حال والعامل فيه اسم الإشارة. قوله: ((إلى خبركم بالأشواق)) ((تو)): أي شديد نزاع النفس إلى ما عندكم من الخبر حتى كأن الأشواق ملصقة به، أو كأنه مهتم بها. انتهى كلامه. و ((فرقنا)) أي خفنا. وقوله: ((أن تكون شيطانة)) بدل من الضمير المجرور. قوله: ((ما رأيناه قط)) (0شف)) ضمير المفعول راجع إلى الأعظم، أي ((ما)) رأينا قط أعظم الإنسان خلقا، وخلقا نصب على التمييز من ((أعظم الإنسان)). أقول: ويحتمل أن يقدر مضاف، أي ما رأينا مثل ذلك الأعظم. و ((أشده)) مرفوع عطف على الأعظم هذا. وإن لفظة ((ما)) ليست في صحيح مسلم ولا في كتاب الحميدي ولا في جامع الأصول ولا في أكثر نسخ المصابيه، ولعل من زادها نظر إلى لفظ ((قط)) حيث يكون في الماضي المنفي، والوجه أن يكون مرادا كما جاء في قول القائل: لله يبقى على الأيام ذو حيد البيت. وقوله: ((ما بين ركبتيه إلى كعبيه) ما موصولة مرفوعة المحل، المعنى مجموعة ساقاه

الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب، فقالت: أنا الجساسة، اعمدوا إلى هذا في الدير، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها. ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال: أخبروني عن نخل بيسان قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل تثمر؟ قلنا: نعم. قال: أما إنها توشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء قلنا هي كثيرة الماء. قال أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر. قالوا: وعن أي شأتها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قلنا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب، وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني: إني أنا المسيح الدجال. وإني يوشك أن ـــــــــــــــــــــــــــــ بالحديد، وحذف ((مجموعة)) في الثاني؛ لدلالة الأولى عليها. وقوله: ((ما أنت)) كأنهم لما رأوا خلقا عجيبا خارجا عما عهدوه خفي عليهم حاله فقالوا: ما أنت مكان: من أنت، وكذلك قوله لهم: ما أنتم؛ لأنه ما عهد أن إنسانا يطرق ذلك المكان، نظيره في حديث أم زرع: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع .. قوله: ((قد قدرتم على خبري)) ((قض)): أي تمكنتم من خبري، فإني لا أخفيه عنكم، فأحدث لكم عن حالي فأخبروني عن حالكم، وما أسأله عنكم أولا. و ((بيسان)) بالباء المفتوحة قرية بالشام. ((مح)): ((زغر)) بزاي مضمومة ثم غين معجمة ثم راء. وهي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام. قوله: ((إن ذلك خير لهم أن يطيعوه)) المشار إليه ما يفهم من قوله: ((وأطاعوه)) وقوله: ((أن يطيعوه)) جاء لمزيد البيان، ويجوز أن يكون المشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم و ((خير)) إما خبر لـ ((ذلك)) مسند إلى ((أن يطيعوه)) وعلى هذا لا يكون بمعنى التفضيل. أو يكون ((أن يطيعوه)) مبتدأ، و ((خير)) خبره مقدما عليه، والجملة خبر إن. ((تو)): فإن قيل: يشبه هذا القول قول من عرف الحق، والمخذول من البعد من الله بمكان لم ير له فيه مساهم، فما وجه قوله هذا. قلنا: يحتمل أنه أراد به الخير في الدنيا، أي طاعتهم له خير لهم؛ فإنهم إن خالفوه

يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، هما محرمتان على كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وطعن بمختصرته في المنبر: ((هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة)) يعني المدينة ((ألا هل كنت حدثتكم؟)) فقال الناس: نعم، ((فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشأم أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو)) وأومأ بيده إلى المشرق رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ اجتاحهم واستئصلهم، ويحتمل أنه من باب الصرفة صرفه الله تعالى عن الطعن فيه والتكبر عليه وتفوه بما ذكر عنه كالمغلوب عليه والمأخوذ عليه فلم يستطع أن يتكلم بغيره تأييدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، والفضل ما شهدت به الأعداء. قوله: ((صلتا)) ((نه)): أي مجردا، يقال: أصلت السيف إذا جرده من غمده وضربه بالسيف صلتا. قوله: ((بمخصرته)) ((فا)): هو قضيب يشير به الخطيب أو الملك إذا خاطب. ((فا)): المخصرة كالسوط، وكل ما اختصر الإنسان بيده فامسكه من عصي ونحوها فهو مخصرة. وقوله: ((هذه طيبة)) لما وافق هذا القول ما كان حدثهم به أعجبه ذلك وسر به فقال ... وقوله: (أو بحر اليمن)) لما حدثهم بقول تميم الداري لم ير أن يبين لهم موطنه ومجلسه كل التبيين؛ لما رأي في التباس من المصلحة، فرد الأمر فيه إلى التردد بين كونه في بحر الشام أو بحر اليمن، ولم تكن العرب يومئذ تسافر إلا في هذين البحرين. ويحتمل أنه أراد ببحر الشام ما يلي الجانب الشامي، وببحر اليمن ما يلي الجانب اليماني، والبحر بحر واحد. وهو الممتد على أحد جوانب جزيرة العرب، ثم أضرب عن القولين مع حصول اليقين في أحدهما فقال: لا بل من قبل المشرق. ((شف)): يمكن أنه صلى الله عليه وسلم كان شاكا في موضعه، وكان في ظنه أنه لا يخلو عن هذه المواضع الثلاثة، فلما ذكر بحر الشام وبحر اليمن، تيقن له من جهة الوحي أو غلب على ظنه، أنه من قبل المشرق، فنفي الأولين وأضرب عنهما وحقق الثالث. قوله: ((ما هو)) ((مح)): قال القاضي: لفظة ما ها هنا زائدة، صلة للكلام وليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهة المشرق. ((تو)): ويحتمل أن يكون خبرا، أي الذي هو فيه، أو الذي

5483 - وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيتني الليلة عند الكعبة، فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها، فهي تقطر ماء، متكئا على عواتق رجلين، يطوف بالبين، فسألت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم)). قال: ((ثم إذا أنا برجل جعد قطط، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن واضعا يديه على منكبي رجلين، يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح الدجال)) متفق عليه. وفي رواية: قال في الدجال: ((رجل أحمر جسيم، جعد الرأس، أعور عين اليمنى، أقرب الناس به شبها ابن قطن)). وذكر حديث أبي هريرة: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)) في ((باب الملاحم)). وسنذكر حديث ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس في ((باب قصة ابن صياد)) إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ هو يخرج منه، وفي كتب أهل اللغة في ذكر ابن قترة: حية خبيثة إلى الصغر ما هي، ومن مصطلح الأطباء في ذكر طباع العقاقير ووصف طعم الأدوية: إلى الحرارة ما هو، إلى اليبوسة ما هو، إلى العفوصة ما هو، أي الذي طبعه وطعمه كذا. أي أمر ظهوره من قبل المشرق، وابن قيرة بالياء وكسر القاف كنية نوع من الحيات. الحديث العشرون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((هذا المسيح الدجال)) ((تو)): طواف الدجال عند الكعبة من أنه كافر، مؤول بأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من مكاشفاته، كوشف بأن عيسى عليه السلام في صورته الحسنة التي ينزل عليها، يطوف حول الدين لإقامة أوده وإصلاح فساده، وأن الدجال في صورته الكريهة التي ستظهر يطوف حول ادين يبغي العوج والفساد. ووجه تسميته بالمسيح في أحب الوجوه إلينا: أن الخير مسح عنه فهو مسيح الضلالة، كما أن الر مسح عن مسيح الهداية عليه السلام. وقيل: سمي عيسى بن؛ لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، وقيل: لأنه كان أمسح الرجل لا أخمص له. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأنه كان يمسح الأرض. أي يقطعها. وقيل: المسيح الصديق، وسمي الدجال به؛ لأن إحدى عينيه ممسوحة لا يبصر بها، والأعور يسمى مسيحا.

الفصل الثاني 5484 - عن فاطمة بنت قيس في حديث تميم الداري: قالت قال: ((فإذا أنا بامرأة تجر شعرها قال: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، اذهب إلى ذلك القصر، فأتيته، فإذا رجل يجر شعره، مسلسل في الأغلال، ينزو فيما بين السماء والأرض. فقلت: من أنت؟ قال: أنا الدجال)). رواه أبو داود. [5484] 5485 - وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا. إن المسيح الدجال قصير، افحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة ولا حجراء فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور)) رواه أبو داود. [5485] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن فاطمة رضي الله عنها: قوله: ((فإذا أنا بامرأة)) قال في الحديث السابق: ((فلقيتهم دابة أهلب)) وها هنا: ((فإذا أنا بامرأة)) قيل: يحتمل أن للدجال جساستين: إحداهما الدابة، والثانية امرأة، ويحتمل أن الجساسة كانت شيطانة، تمثلت مرة في صورة دابة، وأخرى في صورة امرأة، وللشيطان التشكل بأي شكل أراد، ويحتمل أن تسمى المرأة دابة مجازا: قال تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ}. قوله: (0ينزو)) ((نه)): يقال: نزوت على الشيء أنزوا نزوا إذا وثب عليه، وقد يكون في الأجسام والعاني. الحديث الثاني عن عبادة قوله: ((حتى خشيت)) حتى غاية ((حدثتكم)) أي حدثتكم أحاديث شتى حتى خشيت أن يلتبس عليكم الأمر فاقلوا. وقوله: ((إن المسيح الدجال)) استئناف وقع تأكيدا لما عسى أن يلتبس عليهم. قوله: ((قصير)) وجه الجمع بينه وبين قوله في الحديث السابق: ((أعظم إنسان رأيناه)) أنه لا يبعد أن يكون قصيرا بطينا عظيم الخلقة، ويحتمل أن الله تعالى يغيره عند الخروج.

5486 - وعن أبي عبيدة بن الجراح، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه)) فوصفه لنا قال: ((لعله سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي)). قالوا: يا رسول الله! فيكف قلوبنا يومئذ؟ قال: ((مثلها)) يعني اليوم ((أو خير)) رواه الترمذي، وأبو داود. [5486] 5487 - وعن عمرو بن حريث، عن أبي بكر الصديق، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة)) رواه الترمذي. [5487] 5488 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع بالدجال فلينأ منه، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)) رواه أبو داود. [5488] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أفحج)) ((نه)): الفحج تباعد ما بين الفخذين. و ((مطموس العين)) أي ممسوحها، والطمس استئصال أثر الشيء، وقوله: ((ولا حجراء)) معنا لا غائرة منحجرة في نقرتها. الحديث الثالث عن أبي عبيدة: قوله: ((انذر الدجال قومه)) قدم المفعول الثاني على الأول اهتماما بشأنه، فلما حصل علم المخاطبين بالاهتمام نسق الكلام على الأصل في ((أنذركموه)) ولم يقدم الثاني على الأول. فإن قلت: قوله: ((بعد نوح)) يشعر بأنه غير منذر، وهو مخالف للحديث السابق: ((لقد أنذر نوح قومه)). قلت: غير مخالف؛ لأن الظرف أعني بعد نوح لم يؤت به للتمييز والتفضلة بل للبيان، فلا يشعر بأنه لم ينذر، فبين بالحديث السابق أنه أيضا منذر. الحديث الرابع والخامس عن عمران: قوله: ((مما يبعث به)) يعني يحسب الشخص أن نفسه مؤمن، فيتبعه لأجل ما يثيره من الشبهات، أي السحر وإحياء الميت وغير ذلك، فيصير كافرا وهو لا يدري.

5489 - وعن أسماء بنت يزيد بن السكن، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار)) رواه في ((شرح السنة)). [5489] 5490 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم السيجان)) رواه في ((شرح السنة)). [5490] 5491 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فذكر الدجال، فقال: ((إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء فيها ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها. والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها. والثالثة تمسك السماء قطرها كله، والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلك، وإن من أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك! ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما يكون ضروعا، وأعظمه أسمنة)). قال: ويأتي الرجل قد مات أخوه، ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك وأخال ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشياطين نحو أبيه ونحو أخيه)). قالت: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجه، ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم. قالت: فأخذ بلحمتي الباب فقال: ((مهيم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن أسماء: قوله: ((السعفة)) هو بفتح العين واحدة السعف، وهو غصن النخل، والكلام محمول على سرعة انقضاء تلك السنين. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه قوله: ((السيجان)) ((تو)): السيحان جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وقيل: هو الطيلسان الأخضر المنقوش بنسج، كذلك كانت القرنس كانت تعمل منها، أو من نوعها. ومنهم من يجعل ألفها منقلبة عن الواو، ومنهم من يجعلها عن الياء. الحديث الثامن عن أسماء: قوله: ((بلحمتي الباب)) ((تو)): الصواب: فأخذ بلحفتي الباب، أريد بهما العضادتان، وقد فسر بجانبيه، ومنه ألجاف السرير أن جوانبها، وفي كتاب المصابيح: بلحمتي الباب، وليس بشيء، ولم يعرف ذلك من كتب أصحاب الحديث إلا على ما ذكرنا.

أسماء؟)) قلت: يا رسول الله! لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال. قال: ((إن يخرج وأنا حي، فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن)). فقلت: يا رسول الله! والله إنا لتعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: ((يجزئهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس)) رواه أحمد. [5491] الفصل الثالث 5492 - عن المغيرة بن شعبة، قال: ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته، وإنه قال لي: ((ما يضرك؟)) قلت: إنهم يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء. قال: هو أهون على الله من ذلك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): ((مهيم)) كلمة يمانية، ومعناه: ما الحال وما الخبر؟. وأسماء منادى حذف منه حرف النداء. قوله: ((لنعجن عجيننا معناه: إنا نعد العجين لنخبزه فلا نقدر على خبزه لما فينا من خوف الدجال حين خلعت أفئدتنا بذكره، فكيف حال من ابتلي بزمانه. فمعنى قوله: ((يجزئهم)) إن الله تعالى يسليهم ببركة التسبيح والتقديس. ((مظ)): ((يجزئهم)) أي يكفيهم ما يكفي الملأ الأعلى من التسبيح والتقديس، يعني من ابتلي بزمانه في ذلك اليوم لا يحتاج إلى الأكل والشرب، كما لا يحتاج الملأ الأعلى إليهما. قوله: ((إلا هلك)) حال، يعني لا تبقى ذات ظلف في حال من الأحوال إلا في حال الهلاك. الفصل الثالث الحديث الأول عن المغيرة: قوله: ((وإنه قال لي ما يضرك)) حال أي كنت مولعا بالسؤال عن الدجال، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما يضرك؛ فإن الله تعالى كافيك شره، وقوله: ((قلت: إنهم يقولون)) استئناف جواب عن سؤال مقدر، أي سألته يوما عنه، فقال: ما يضرك، أي ما يضلك، قلت: كيف ما يضلني وإنهم يقولون أن معه جبل خبز؟. قوله: ((هو أهون)) ((مح)): قال القاضي: معناه: هو أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله تعالى على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم، بل إنما جعله الله ليزداد الذين آمنوا إيمانا، ويلزم الحجة على الكافرين والمنافقين ونحوهم، وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك.

(4) باب قصة ابن صياد

5493 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يخرج الدجال على حمار أقمر ما بين أذنيه سبعون باعا)). رواه البيهقي في ((كتاب البعث والنشور)). (4) باب قصة ابن صياد الفصل الأول 5494 - عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رهط من أصحابه قبل ابن الصياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان في أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال: ((أتشهد أني رسول الله؟)) فنظر إليه، فقال: أشهد أنك رسول الله الاميين. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على حمار أقمر)) ((نه)): هو الشديد البياض. انتهى كلامه. ((ما بين أذنيه)) وقعت صفة أخرى لحمار. باب قصة ابن الصياد الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: ((في أطم بني مغالة)) ((نه)): الأطم بالضم بناء مرتفع وجمعه آطام [مح]: المشهور مغالة بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة. قوله: ((رسول الأميين)) ((قض)): يريد بهم العرب؛ لأن أكثرهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، وما ذكره وإن كان حقا من قبل المنطوق، لكنه يشعر بباطل من حيث المفهوم، وهو أنه مخصوص بالعرب غير مبعوث إلى العجم، كما زعمه بعض اليهود، وهو إن قصد به ذلك فهو من جملة ما يلقى إليه الكاذب الذي يأتيه وهو شيطانه. قوله: ((فرصة)) ((مح)): قال الخطابي في غريبه: ((فرصه)) بصاد مهملة، أي ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض، ومنه قوله تعالى: {بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} قال الشيخ محيي الدين: هو في أكثر نسخ بلادنا: ((فرضه)) بالفاء والضاد المعجمة ومعناه ترك سؤاله عن الإسلام ليأسه منه حينئذ، ثم شرع في سؤاله بقوله: ماذا ترى؟. قوله: ((ثم قال)) عطف على ((فرصه)) وثم للتراخي في الرتبة، والكلام خارج على إرخاء العنان. أي آمنت بالله ورسله، فتفكر هل أنت منهم؟.

ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرصه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((آمنت بالله وبرسله)) ثم قال لابن صياد: ((ماذا ترى؟)) قال: يأتيني صادق وكاذب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلط عليك الأمر)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني خبأت لك خبيئا)). وخبأ له: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}. فقال: هو الدخ. فقال: ((اخسأ فلن تعدو قدرك)). قال عمر: يا رسول الله! أتأذن لي فيه أن أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن يكن هو لا تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله)). قال ابن عمر: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب الأنصاري يؤمان النخل التي فيها ابن ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((خلط)) ((مح)): أي ما يأتي به شيطانك مخلط. ((خط)): معناه: أنه كان له تارات يثيب في بعضها ويخطئ في بعضها، فلذلك التبس عليه الأمر. ((مح)): ((الدخ)) بضم الدال وتشديد الخاء وهي لغة في الدخان. ومعنى ((خبأت)) أضمرت لك اسم الدخان، والصحيح المشهور أنه صلى الله عليه وسلم أضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}. قال القاضي: وأصح الأقوال أنه لم يأت من الآية التي أضمرها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((اخسأ فلن تعدو قدرك)) أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء [أي] بعض الشيء. أقول: [يعني] قدرك أن لا تتجاوز عن إظهار الخبيئات على هذا الوجه كما هو دأب الكهنة، فلا تتجاوز منها إلى دعوى النبوة، فتقول: أشهد أني رسول الله، فهنا نكتة سنذكرها في الحديث الذي يتلوه ((تو)): ((اخسأ)) كلمة زجر واستهانة أي اسكت صاغرا مدحورا. قوله: ((إن يكن هو لا تسلط عليه)) ((قض)): ((إن يكن هو)) الضمير للدجال ويدل عليه ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن يكن هو فلست صاحبه إنما صاحبه عيسى بن مريم عليه السلام، وإن لا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد)) وهو خبر كان واسمه مستكن فيه، وكان حقه: إن يكنه، فوضع المرفوع المنفصل موضع المرفوع المتصل عكس قولهم: لولاه. ويحتمل أن يكون تأكيدا للمستكن، والخبر محذوفا على تقدير: إن يكن هو هذا. أقول: ويجوز أن يقدر: إن يكن هو الدجال، و ((هو)) ضمير فصل أو مبتدأ والدجال خبره والجملة خبر كان.

صياد، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة، له فيها زمزمة، فرأت أم ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل. فقالت: أي صاف – وهو اسمه – هذا محمد. فتناهى ابن صياد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو تركته بين)) قال عبد الله بن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى علي الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وهو يختل)) ((مح)) هو بكسر التاي أي يخدع ابن صياد ليسمع من كلامه ويعلم هو والصحابة حاله في أنه كاهن أم ساحر ونحوهما. وفيه جواز كشف أحوال ما تخاف مفسدته، وكشف الإمام الأمور المبهمة بنفسه. وقوله: [زمزمة] ((هو في معظم نسخ مسلم بزايين معجمتين، وفي بعضها برائين مهملتين، ووقع في البخاري بالوجهين: وهو صوت خفي لا يكاد يفهم أو لا يفهم. قوله: ((فتناهى)) تناهى عما كان فيه وسكت. وقوله: ((لو تركته بين)) أي بين لكم باختلاف كلامه ما يهون عليكم شأنه. ((حس)): أي بين ما في نفسه. قوله: ((لم يقله نبي لقومه)) ((تو)): يحتمل أن أحدا من الأنبياء لم يكاشف أو لم يخبر بأنه أعور، ويحتمل أنه أخبر ولم يقدر له أن يخبر عنه كرامة لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى يكون هو الذي يبين بهذا الوصف دحوض حجته الداحضة، فيبصر بأمره جهال العوال فضلا عن ذوي الألباب والأفهام. ((مح)): قصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال أم غيره، ولا شلك أنه دجال من الدجاجلة. قالوا: وظاهر الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال. وكان لابن الصياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره؛ ولهذا قال لعمر رضي الله عنه: ((إن يكن هو فلن تستطيع قتله)). وأما [احتجاجه هو] بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له، وأن لا يدخل مكة والمدينة وابن صياد قد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض. قال الخطابي: واختلف السلف في أمره بعد كبره، فروى عنه أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنه لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى يراه الناس، وقيل لهم: اشهدوا. قال: وكان ابن عمر وجابر يحلفان أن ابن الصياد هو الدجال لا يشكان فيه، فقيل لجابر: إنه

فقال: ((إني أنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أسلم، فقال: وإن أسلم. فقيل: إنه دخل مكة، وكان بالمدينة، فقال: وإن دخل. وروى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن جابر: قال: فقدنا ابن صياد يوم حرة، وهذا يبطل رواية من يرى أنه مات بالمدينة وصلى عليه، وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابرا حلف بالله تعالى أن ابن الصياد هو الدجال، وأنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره. قال البيهقي في كتابه ((البعث والنشور)): اختلفوا في أمر ابن الصياد اختلافا كثيرا: هل هو الدجال؟. فمن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة، ويجوز أن تتوافق صفة ابن الصياد وصفة الدجال كما ثبت في الصحيح: أن أشبه الناس بالدجال عبد العزي بن قطن وليس هو هو. قال: وكان أمر ابن الصياد فتنة ابتلى الله بها عباده فعصم الله تعالى منها المسلمين ووقاهم شرها. قال: وليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول عمر، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كالمتوقف في أمره ثم جاءه البيان أنه غيره. كما صح به في حديث تميم. هذا كلام البيهقي فقد اختار أنه غيره. وقد قدمنا أنه صح عن عمر وابن عمر وجابر أنه الدجال، فإن قيل: لم لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ادعى بحضرته النبوة؟. فالجواب من وجهين ذكرهما البيهقي وغيره أحدهما: أنه كان غير بالغ، واختار القاضي عياض هذا الجواب. والثاني: أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم، وجزم الخطابي بالجواب الثاني؛ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاب الصلح على أن يتركوا على حالهم، وكان ابن الصياد منهم، أو دخيلا فيهم. قال الخطابي: وأما امتحان النبي صلى الله عليه وسلم بما خبأ له من آية الدخان؛ فلأنه كان يبلغه ما يدعيه من الكهانة، ويتعاطاه من الكلام في الغيب، فامتحنه ليعلم حقيقة [حاله]، ويظهر إبطال حاله للصحابة، فإنه كاهن ساحر يأتيه الشيطان فيلقي على لسانه ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة، فامتحنه ثم قال: ((فلن تعدو قدرك)) أي لا تتجاوز قدرك وقدر أمثالك من الكهان الذين يحفظون من إلقاء الشيطان كلمة واحدة من جملة كثيرة. بخلاف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فإنهم يوحي الله تعالى إليهم من علم الغيب ما يوحي، فيكون واضحا جليا كاملا، وبخلاف ما يلهم الله تعالى الأولياء من الكرامات والله أعلم.

5495 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر – يعني ابن صياد – في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أني رسول الله؟)) فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ماذا ترى)). قال: أرى عرشا على الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى عرش إبليس على البحر وما ترى؟)) قال: أرى صادقين وكاذبا، أو كاذبين وصادقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبس عليه، فدعوه)). رواه مسلم. 4596 - وعنه، أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة. فقال: ((درمكة بيضاء مسك خالص)). رواه مسلم. 5497 - وعن نافع، قال: لقي ابن عمر ابن صياد في بعض طرق المدينة، فقال له قولا أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك الله ما أردت من ابن صياد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما يخرج من غضبة يغضبها)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((آمنت بالله)) فإن قلت: كيف طابق هذا الجواب قوله: ((أتشهد أني رسول الله؟)). قلت: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يلزمه ويفحمه فيه، ويظهر للقوم أنه كاذب في دعوى الرسالة، أخرج الكلام مخرج الاستدراج. والكلام المنصف، يعني: آمنت بالله ورسله، فإن كنت رسولا صادقا في دعواك غير ملتبس عليك الأمر كسائر الرسل فأومن بك، وإن كنت كاذبا ولبس عليك الأمر فأنت كاهن كسائر الكهان، فاخسأ ولا تعد طورك فتدعي الرسالة، ولو أجيب بقوله: ((اخسأ ولا تعد طورك)) ابتداء لم يقع هذا الموقع. وهذه النكتة الموعودة في الحديث السابق. ((مح)): ((لبس)) بضم اللام وتخفيف الباء، خلط عليه أمره. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((درمكة)) ((نه)): الدرمكة الدقيق الحواري، شبه تربة الجنة بها لبياضها ونعومتها، وبالمسك لطيبها. الحديث الرابع عن نافع: قوله: ((من غضبة يغضبها)) قيل: ((يغضبها)) في محل الجر صفة غضبة، والضمير في موضع النصب، أي أنه يغضب غضبة ليخرج بسبب غضبته فيدعي النبوة، فلا تغضبه يا عبد الله، ولا تتكلم معه لئلا يخرج، فيظهر الفتن. ((مظ)) يعني إنما يخرج الدجال حين يغضب. 5498 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: صحبت ابن صياد إلى مكة، فقال لي: ما لقيت من الناس؟! يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه لا يولد به))؟. وقد ولد لي. أليس قد قال: ((هو كافر))؟ وأنا مسلم، أو ليس قدقال: ((لا يدخل المدينة ولا مكة))؟ وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة. ثم قال لي في آخر قوله: أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو، وأعرف أباه وأمه قال: فلبسني، قال: قلت له: تبا لك سائر اليوم. قال: وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ قال: فقال: لو عرض علي ما كرهت. رواه مسلم. 5499 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لقيته وقد نفرت عينه فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قلت لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك. قال: فنخر كأشد نخير حمار سمعت. رواه مسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((يزعمون)) استئناف كأنه لما قال: ((ما لقيت)) أي أي شيء لقيت من الناس، قال: ماذا تشكو منهم؟ فقال: يزعمون ... ويجوز أن يكون حالا من فاعل لقيت، يعني أي شيء لقيت من الناس وإنهم يزعمون كذا، حتى ترددت في أمري وشككت فيه، ألست سمعت .. إلخ. ويجوز بفتح التاء على الخطاب، أي أي شيء لقيت أبا سعيد من الناس، و ((يزعمون)) على هذا بيان، والهمزة مقدرة. قوله: ((فلبسني)) ((مح)): هو بالتخفيف أي جعلني ألتبس في أمري وأشك فيه. قوله: ((لو عرض علي ما كرهت)). ((مظ)): يعني لو عرض على ما جبل في الدجال من الإغواء والخديعة والتلبيس وغير لك لما كرهت بل قبلت، وهذا دليل واضح على كفره. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وقد نفرت عينه)) ((مح)) هو بفتح النون والفاء، أي ورمت ونتأت. وذكر القاضي عياض وجوها أخر والظاهر أنها تصحيف. ((قض)) قول ابن صياد ((إن شاء الله خلقها في عصاك)) في جواب قوله: ((لا تدري وهي في رأسك)) إشارة إلى أنه يمكن أن تكون العين بحال لا يكون له شعار بحالها، فلم ل يجوز أن يكون الإنسان مستغرقا في أفكاره بحيث يشغله عن الإحساس بها والتذكر لأحوالها. قوله: ((كأشد نخير)) صفة مصدر محذوف، أي نخر نخرة.

5500 - وعن محمد بن المنكدر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجال. قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. الفصل الثاني 5501 - عن نافع، قال: كان ابن عمر يقول:: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد. رواه أبو داود، والبيهقي في ((كتاب البعث والنشور)). [5501] 5502 - وعن جابر رضي الله عنه. قال: قد فقدنا ابن صياد يوم الحرة. رواه أبو داود. [5502] 5503 - وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمكث أبو الدجال ثلاثين عاما، لا يولد لهما ولد، ثم يولد لهما غلام أعور أضرس، وأقله منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه)). ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: ((أبوه طوال ضرب اللحم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن محمد: قوله: ((سمعت عمر يلحف)) لعل عمر أراد بذلك أن ابن الصياد من الدجالين الذين يخرجون فيدعون النبوة، أو يضلون الناس ويلبسون الأمر عليهم، لا أنه المسيح الدجال. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((يوم الحرة)) هو غلبة يزيد بن معاوية على أهل المدينة، ومحاربته إياهم. قيل: هذا يخالف رواية من روى أنه مات بالمدينة وليس بمخالف. الحديث الثالث عن أبي بكرة: قوله: ((أضرس)) ((قض)): هو عظيم السن. و ((أقله)) أي أقل غلام منفعة. و ((لا ينام قلبه)) أي لا تنقطع أفكاره الفاسدة عند النوم لكثرة وساوسه وتخيلاته وتواتر ما يلقي الشيطان إليه، كما لم يكن ينام قلب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة أفكاره الصالحة، بسبب ما تواتر عليه من الوحي والإلهام. ((طوال)) بالضم والتخفيف مبالغة طويل، [والمشدد] أكثر مبالغة. و ((الفرضاخية)) بكسر الفاء وتشديد الياء الضخمة العظيمة. ((فا)): هي صفة بالضخم. وقيل: بالطول والياء مزيدة فيه للمبالغة، كما في أحمري.

كأن أنفه منقار، وأمه امرأة فرضاخية طويلة اليدين)). فقال أبوبكرة: فسمعنا بمولود في اليهود، فذهبت أنا والزبير بن العوام، حتى دخلنا على أبويه، فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، فقلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عاما، لا يولد لنا ولد، ثم ولد لنا غلام أعور أضرس، وأقله منفعة، تنام عيناه ولا ينام قلبه. قال: فخرجنا من عندهما، فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة، وله همهمة، فكشف عن رأسه فقال: ما قلتما؟ قلنا: وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي ولا ينام قلبي. رواه الترمذي. [5503] 5504 - وعن جابر، أن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلاما ممسوحة عينه طالعة بابه، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الدجال، فوجده تحت نظيفة يهمهم: فآذنته أمه فقالت: يا عبد الله! هذا أبو القاسم فخرج من القطيفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومالها قاتلها والله؟ لو تركته لبين)). فذكر مثل معنى حديث ابن عمر، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله! فأقتله فقال رسول الله،: ((إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد)). فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشفقا أنه هو الدجال. رواه في ((شرح السنة)). [5504] [وهذا الباب خال عن: الفصل الثالث] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): ((ضرب اللحم)) هو الخفيف اللحم المستدق، وفي صفة موسى عليه السلام أنه ضرب من الرجال. وقوله: ((منجدل في الشمس)) أي ملقى علي الجدالة وهي الأرض، ومنه الحديث: ((أنا خاتم الأنبياء في أم الكتاب ولآدم منجدل في طينته)). الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((طالعة نابه)) هكذا هو في شرح السنة، والظاهر: طالعا نابه، إلا أن يراد به الجنس، والتعدد فيه على التمحل. قوله: ((يهمهم)) ((نه)): أي كلام خفي لا يفهم، وأصل الهمهمة صوت البقر. قوله: ((أن يكون)) هو خبر اسمه مستكن فيه، وخبره هو، وضع الضمير المرفوع موضع المنصوب وذلك شائع. ويحتمل أن يكون ((هو)) تأكيدا للمستكن، وخبره محذوف، أي إن يكن هو ذلك الدجال. ويحتمل أن يكون هو مبتدأ وخبره محذوفا والجملة خبر كان.

(5) باب نزول عيسى عليه السلام

(5) باب نزول عيسى عليه السلام الفصل الأول 5505 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها)). ثم يقول أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: {وإن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية. متفق عليه. 5506 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، وليتركن القلاص، فلا ـــــــــــــــــــــــــــــ باب نزول عيسى عليه السلام الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيكسر الصليب)) الفاء فيه تفصيلية: لقوله: ((حكما عدلا)). ((حس)): يريد بقوله: يكسر الصليب إبطال النصرانية والحكم بشرع الإسلام. ومعنى ((قتل الخنزير)) تحريم اقتنائه وأكله وإباحة قتله، وفيه بيان أن أعيانها نجسة؛ لأن عيسى عليه السلام إنما يقتلها على حكم شرع الإسلام، والشيء الطاهر المنتفع به لا يباح إتلافه. ومعنى ((يضع الجزية)) أنه يضعها على أهل الكتاب، ويحملهم على الإسلام. انتهى كلامه. وحتى الأولى متعلقة بقوله: ((ويفيض المال))، والثانية غاية لمفهوم قوله: ((فيكسر الصليب ... إلخ. ((تو)): لم تزل السجدة الواحدة في الحقيقة كذلك، وإنما أراد بذلك أن الناس يرغبون في أمر الله ويزهدون في الدنيا، حتى تكون السجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها. قوله: ((فاقرءوا إن شئتم)) استدل بالآية على نزول عيسى عيه السلام في آخر الزمان مصداقا للحديث، وتحريره أن الضميرين في ((به)) و ((قبل موته)) لعيسى بمعنى: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله، فتكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((وليتركن القلاص)) ((نه)): هي في الأصل

يسمي عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)). رواه مسلم. وفي رواية لهما قال: ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم؟)). 5507 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون ظاهرين إلى يوم القيامة)). قال: ((فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة)) رواه مسلم. وهذا الباب خال عن: الفصل الثاني الفصل الثالث 55080 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض، فيتزوج، ويولد له، ويمكث خمسا وأربعين سنة، ثم يموت، فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم في قبر واحد بين أبي بكر وعمر)). رواه ابن الجوزي في ((كتاب الوفاء)). ـــــــــــــــــــــــــــــ جمع قلوص، وهي الناقة الشابة. ((مظ)): يعني ليتركن عيسى عليه السلام إبل الصدقة، ولا يأمر أحدا أن يسعى عليها ويأخذها؛ لأنه لا يجد من يقبلها لاستغناء الناس، والمراد بالسعي العمل. أقول: ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ترك التجارات والضرب في الأرض لطلب المال وتحصيل ما يحتاج إليه لاستغنائهم. ((نه)): ((الشحناء)) هي العداوة، والتشاحن تفاعل منه. ((شف)): إنما تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد يومئذ؛ لأن جميع الخلق يكونون على ملة واحدة، وهي الإسلام، وأعلى أسباب التباغض وأكثرها هو اختلاف الأديان. قوله: ((وإمامكم منكم)) ((حس)): قال معمر: ((وأمكم وإمامكم منكم)) وقال ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال ابن أبي ئب في معناه: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه. أقول: فالضمير في ((أمكم)) لعيسى، و ((منكم)) حال، أي يؤمكم عيسى حال كونه من دينكم. ويحتمل أن يكون معنى: ((إمامكم منكم)) كيف حالكم وأنتم مكرمون عند الله تعالى، والحال أن عيسى ينزل فيكم وعيسى يقتدي بإمامكم، ويشهد له الحديث الآتي. الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((تكرمة الله)) نصب على المفعول لأجله

(6) باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته

(6) باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته الفصل الأول 5509 - عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)). قال شعبة: وسمعت قتادة يقول في قصصه: كفضل إحداهما على الأخرى، فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة؟. متفق عليه. 5510 - وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: ((تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والعامل محذوف، والمعنى: شرع الله أن يكون إمام المسلمين منهم وأميرهم من عدادهم تكرمة لهم وتفخيما لشأنهم، أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي قبله. باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته ((تو)): الساعة جزء من أجزاء الزمان، ويعبر بها عن القيامة، وقد ورد في كتاب الله وسنة رسوله على أقسام ثلاث: القيامة الكبرى وهي بعث الناس للجزاء، والقيامة الوسطى وهي انقراض القرن الواحد بالموت، والقيامة الصغرى وهي موت الإنسان. والمراد ها هنا هذه. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((والساعة)) ((مح)): روى بنصب الساعة ورفعها. ((قض)): معناه: أن نسبة تقدم بعثته على قيام الساعة كنسبة فضل إحدى الإصبعين على الأخرى. ((تو)): ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون المراد منه ارتباط دعوته بالساعة، لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن السبابة لا تفترق عن الوسطى، ولا يوجد بينهما ما ليس [منهما]. أقول: يؤيد الوجه الأول الحديث [الآتي] لمستورد بن [شداد]. وقوله: ((كفضل إحداهما)) بدل من قوله: ((كهاتين))، وموضح له، وهو يؤيد الوجه الأول، والرفع على العطف، والمعنى: بعثت أنا والساعة بعثا متفاضلا مثل فضل إحداهما، ومعنى النصب لا يستقيم على هذا. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وإنما علمها عند الله)) حال مقررة لجهة

5511 - وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم)). رواه مسلم. 5512 - وعن عائشة، قالت: كان رجال من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: ((إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم)). متفق عليه. الفصل الثاني 5513 - عن المستورد بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه)) وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. رواه الترمذي. [5513] 5514 - وعن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إني لأرجو أن ـــــــــــــــــــــــــــــ الإشكال، أنكر عليهم سؤالهم وأكده بقوله: ((وإنما علمها عند الله)). وقوله: ((وأقسم بالله)) مقررة له، يعني تسألوني عن القيامة الكبرى وعلمها عند الله وما أعلمه هو القيامة الصغرى. ((فا)): المنفوسة المولدة يقال: نفست المرأة ونفست إذا ولدت نفسا فهي نافس ونفساء والولد منفوس؛ قال الشاعر: كما سقط [المنفوس] بين القوابل ((شف)): معناه: ما تبقى نفس مولودة اليوم إلى مائة سنة، أراد به موت الصحابة رضي الله عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم هذا على الغالب، وإلا فقد عاش بعض الصحابة أكثر من مائة سنة. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((اليوم)) هو ظرف منفوسة. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عليكم ساعتكم)) ((قض)): أراد بالساعة انقراض القرن الذين هم من عدادهم؛ ولذلك أضاف إليهم. الفصل الثاني الحديث الأول عن المستورد: قوله: ((في نفس الساعة)) ((تو)): نفس بالتحريك لا غير، أراد به قربها، أي حين تنفست، وتنفسها ظهور أشراطها، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم أول أشراطها. الحديث الثاني عن سعد: قوله: ((أن لا تعجز أمتي)) عدم العجز كناية عن التمكن من القربة، والمكانة عند الله تعالى. مثال ذلك قول المقرب عند السلطان: إني لا أعجز أن يوليني الملك كذا وكذا. يعني أن لي عنده مكانة وقربة يحصل بها كل ما أرجوه عنده، فالمعنى: إني أرجو

(7) باب لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس

لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم)). قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة. رواه أبو داود. [5514] الفصل الثالث 5515 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره، فبقى متلعقاً بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5515] (7) باب لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس الفصل الأول 5516 - عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في ـــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون لأمتي عند الله مكانة ومنزلة يمهلهم من زماني هذا إلى انتهاء خمسمائة سنة، بحيث لا يكون أقل من ذلك إلى قيام الساعة. وإنما فسر الراوي نصف اليوم بخمسمائة نظرا إلى قوله تعالى: {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأَرْضِ [ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ] فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. وإنما عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمسمائة سنة بنصف يوم تقليلا لبغيتهم، ورفعا لمنزلتهم، أي لا يناقشهم في هذا المقدار القليل، بل يزيدهم من فضله. وقد وهم بعضهم ونزل الحديث على أمر القيامة، وحمل اليوم على يوم المحشر، فهب أنه غفل عما حققناه ونبهنا عليه، فهلا انتبه لمكان الحديث وأنه من أي باب من أبواب الكتاب فإنه مكتوب في باب قرب الساعة، فأين هو منه، فقوله: ((أن لا تعجز)) مفعول أرجو، و ((أن يؤخرهم)) من صلة العجز، وحذف عنه ((عن)) والله أعلم. باب لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس هذه المجملة محكية مضاف إليها ترجمة الباب وهو من باب تسمية الشيء بالجمل على سبيل الحكاية؛ كما سموا: تأبط شرا، وبرق نحره، وشاب قرناها، وكما لو سمى بـ ((زيد منطلق)) أو بـ ((بيت شعر)).

الأرض: الله الله)). وفي رواية قال: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله)). رواه مسلم. 5517 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)). رواه مسلم. 5518 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة)). وذو الخلصة: طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى لا يقال)) أي حتى لا يذكر اسم الله ولا يعبد، وإليه ينظر قوله تعالى: {ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} يعني ما خلقته باطلا بغير حكمة، بل خلقته لتذكر فيها وتعبد. فإذا لم يذكر ولم يعبد فيها فبالحري أن [يخرب] فتقوم الساعة. ((مظ)) هذا دليل على أن بركة العلماء والصلحاء تصل إلى من في العالم من الإنس والجن وغيرهما من الحيوانات والجمادات. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لا تقوم الساعة)) الحديث فإن قيل: ما وجه التوفيق بين هذا الحديث والحديث السابق: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)). قلنا: السابق مستغرق للأزمنة عام فيها، والثاني مخصص له، كما [سينبئ] عليه حديث عبد الله بن عمر بعيد هذا. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أليات نساء دوس)) هي جمع ألية، وهي في الأصل اللحمة التي تكون في أصل العضو. ((نه)): الخلصة هو بيت كان فيه صنم لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم. وقيل: ذو الخلصة الكعبة اليمانية التي كانت باليمن، فأنفذ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله فخربها. وقيل: ذو الخلصة اسم الصنم نفسه، وفيه نظر؛ لأن ذو لا يضاف إلا إلى اسم الجنس، والمعنى: أنهم يرتدون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء دوس طائفات حول ذي الخلصة، فترتج أعجازهن.

5519 - وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى)). فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} أن ذلك تاماً. قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة، فتوفي كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)). رواه مسلم. 5520 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال فيمكث أربعين)) لا أدري أربعين يوماً أو شهراً أو عاماً ((فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث في الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه) قال: ((فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إن كنت لأظن)) إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وقوله: ((تاما)) هو بالرفع في الحميدي على أنه خبر إن، وفي صحيح مسلم وشرح السنة: بالنصب. فعلى هذا هو إما حال والعامل اسم الإشارة، والخبر محذوف، أو خبر لكان المقدر، أي ظنت من مفهوم الآية أن ملة الإسلام ظاهرة على الأديان كلها، غالبة عليها غير مغلوبة، فكيف تعبد اللات والعزى؟. وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فتوفي كل من كان في قلبه)) نظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا)). الحديث الخامس عن عبد الله: قوله: ((لا أدري أربعين يوما)) ((تو)): ((لا أدري)) إلى قوله: ((فيبعث الله عيسى))، من قول الراوي، أي لم يزدني على أربعين شيئاً يبين المراد منها، فلا أدرى أيا أراد به من هذه الثلاثة، وكبد الشيء وسطه، ومنه كبد السماء. قوله: ((في خفة الطير)) ((الشيء)): المراد بخفة الطير اضطرابها ونفرها بأدنى توهم، شبه حال الأشرار في تهتكهم، وعدم وقارهم، وثباتهم، واختلال رأيهم، وميلهم إلى الفجور والفساد، بحال الطير. قوله: ((إلا أصغى ليتا)) ((تو)): أي أمال صفحة عنقه، والمراد منه ها هنا

تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا، ورفع ليتا)) قال: ((وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله مطراً كأنه الطل، فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يأيها الناس! هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون. فيقال أخرجوا بعث النار. فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)) قال: ((فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق)). رواه مسلم. وذكر حديث معاوية: ((لا تنقطع الهجرة)) في ((باب التوبة)). ـــــــــــــــــــــــــــــ أن السامع يصعق، فيصغى ليتا ويرفع ليتا، وكذا شأن من يصيبه صيحة، فيشق قلبه، فأول ما يظهر منه سقوط رأسه إلى أحد الشقين، فأسند الإصغاء إليه إسناد الفعل الاختياري. قوله: ((وقفوهم)) عطف على قوله تعالى على سبيل التقدير، أي يقال للناس: هلم ويقال للملائكة: وقفوهم، وفي بعض النسخ بدون العاطف فهو على الاستئناف. قوله: ((بعث النار)) أي مبعوثها فيقال: ((من كم)) أي يسأل المخاطبون [عن] كمية العدد البعوث إلى النار، فيقولون: كم عددا نخرجه من كم عدد. فيقال لهم: أخرجوا من كل ألف تسعمائة [وتسعة] وتسعين. قوله: {يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ} يحتمل أن يكون يوم مرفوعاً، ويجعل الولدان صفة له، فيكون الإسناد مجازيا، وأن يكون مضافا مفتوحا، فيكون الإسناد حينئذ حقيقا، والأول أبلغ وأوفق لما ورد في التنزيل. قوله: ((يوم يكشف عن ساق)) ((خط)): هذا مما هاب القول فيه شيوخنا، وأجروه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل مالا يحيط [العلم] بكنهه من هذا الباب. أما من تأوله فقال: ذاك يوم يكشف عن شدة عظيمة وأمر فظيع، وهو إقبال الآخرة وذهابها وذهاب الدنيا، ويقال للأمر إذا اشتد وتفاقم وظهر وزال خفاؤه: كشف عن ساقه، وهذا جائز في اللغة، وإن لم يكن للأمر ساق. والله أعلم بالصواب.

كتاب أحوال القيامة وبدء الخلق

كتاب أحوال القيامة وبدء الخلق (1) باب النفخ في الصور الفصل الأول 5521 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين النفختين أربعون)) قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوما؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت ((ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل)) قال: ((وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا, وهو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامة)). متفق عليه. وفي رواية لمسلم, قال: ((كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب, منه خلق, وفيه يركب)). ـــــــــــــــــــــــــــــ كتاب أحوال القيامة وبدء الخلق باب النفخ في الصور نه: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتى إلى الحشر. الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أبيت)) ((قض)): أي لا أدري أن الأربعين الفاصل بين النفختين أي شيء: أياما, أو شهورا، أو أعواما, وأمتنع عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والإخبار عما لا أعلم. قوله: ((إلا عظما)) قيل: هو منصوب لأنه استثناء من موجب, لأن قوله: ((ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما)) نفي النفي, ونفي النفي إثبات, فيكون تقديره: كل شيء منه يبلى إلا عظما فإنه لا يبلى. ويحتمل أن يكون منصوبا عأي أنه خبر ((ليس)) لأن اسمه موصوف, كقولك: ليس أي قائما. وقوله: ((عجب الذنب)) هو بفتح العين وإسكان الجيم, وهو العظم بين الألتين يقال: إنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى, ويقال له: ((العجم)) أيضا. ((مظ)): المراد طول بقائه لا أنه لا يبلى أصلا فإنه خلاف المحسوس, وأنه ورد: ((أول ما يخلق وآخر ما يبلى)) والحكمة فيه أنه قاعدة بدن الإنسان وأسه الذي يبتني عليه, فبالحري أن 522 - وعنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة, ويطوي السماء بيمينه, ثم يقول: أنا الملك, أين ملوك الأرض؟)) متفق عليه. 5523 - وعن عبد الله بن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطوي الله السموات يوم القيامة, ثم يأخذهن بيده اليمنى, ثم يقول: أنا الملك, أين الجبارون؟ أين التكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله - وفي رواية: يأخذهن بيده الآخرى - ثم يقول: أنا الملك, أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)). رواه مسلم. 5524 - وعن عبد الله بن مسعود, قال ك جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع, والأرضين على أصبع, والجبال والشجر على أصبع, والماء والثرى على أصبع, وسائر الخلق على ـــــــــــــــــــــــــــــ

يكون أصلب من الجميع كقاعدة الجدار وأسه, وإذا كان أصلب كان أطول بقاء. ((مح)): هذا خصوص, فيخص منه الأنبياء عليهم السلام فإن الله حرم على الأرض أجسادهم كما صرح به في الحديث. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة)) ((قض)): عبر عن إفناء الله تعالى هذه المظلة والمقلة ورفعها من البين وإخراجهما من أن يكونا مأوى ومنزلا لبني آدم بقدرته الباهرة التي تهون عليها الأفعال العظام التي تتضلئل دونهما القوى وتتحير فيها الأفهام والفكر على طريقة التمثيل والتخييل, وأضاف في الحديث الذي يليه طي السموات وقبضها إلى اليمين, وطي الأرض على الشمال تشبيها وتخييلا لما بين المقبوضين من التفاوت ةالتفاضل. التوربشتي: اعلم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الحدوث وصفه الأجسام, وكل ما ورد في القرآن والأحاديث في صفاته مما ينبئ عن الجهة والفوقية والاستقرار والإتيان والنزول, فلا نخوض في تأويله, بل نؤمن بما هو مدلول تلك الألفاظ على المعنى الذي أراد الله سبحانه مع التنزيه عما يوهم الجهة والجسمية. الحديث الرابع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((يمسك السموات يوم القيامة على أصبع)) التوربشتي: السبيل في هذا الحديث أن يحمل على نوع من المجاز, أو ضرب من التمثيل, والمراد منه تصوير عظمته, [والتوقيف] * على جلالة شأنه, وأنه سبحانه يتصرف في المخلوقات تصرف أقوى قادر على أدنى مقدور,

أصبع, ثم يهزهن فيقول: أنا الملك, أنا الله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له. ثم قرأ: {ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تقول العرب في سهولة المطلب وقرب [المتناول ووفور] * القدرة وسعة الاستطاعة: هو منى على حبل الذراع, وإني أعالج ذلك ببعض كفي, واستقله بفرد إصبع, ونحو ذلك من الألفاظ, استهانة بالشيء واستظهارا في القدرة عليه, والمتورع عن الخوض في تأويل أمثال هذا الحديث في فسحة من دينه, إذا لم ينزلها في ساحة الصدر منزلة مسميات الجنس. قوله: ((فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا)) الكشاف: إنما ضحك أفصح العرب وتعجب؛؟ لنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك, ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك, ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة, وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان, ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هونا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل, ولا ترى باببا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي المتشابهات من كلام الله في الرآن وسائر كتب الله السماوية وكلام الأنبياء, فإن أكثره وغلبته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما, وما أتى الزالون إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره لما خفي عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه, وعيال عليه, إذا لا يحل عقدها المؤذية, ولا يفك قيودها المكربة إلا هو, وكم من آية من آيات التنزيل, وحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضيم وسيم بالتأويلات الغثة والوجوه الرثة, لأن من تأويل ليس من هذا العلم في عير ولا نفير, ولا يعرف قبيلا من دبير, وأنا أتعجب من مثل الشيخ التوربشتي رحمه الله, مع جلالته ووقوفه على هذا الأسلوب الغريب والفن العجيب كيف ينقل كلام الخطابي وإطنابه في الطعن على هذا الحديث المقطوع بصحته ثم نصره بحديث ليس في منزلته, مع أنه محتمل ويتفق مع من يتجاسر على الطعن على أولئك السادة والتقاة الثقات المتقنين مع ما بلغ هذا الحديث الدرجة القصيا في الصحة, وذهب الشيخ بقية السلف خاتم المحدثين ((ابن الصلاح)) إلى أن ما اتفق عليه الشيخان بمنزلة المتواتر – عفا الله عنا وعنه.

5525 - وعن عائشة, قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات)) , فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: ((على الصراط)). رواه مسلم. 5526 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشمس والقمر مكوران يوم القيامة)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ} معناه: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غير هذه, وكذلك السماوات. والتبديل: التغيير, وقد يكون في الذوات كقولك: بدلت الدراهم دنانير, وفي الاوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتما – إذا أذبتها وسويتها خاتما – واختلف في تبديل الأرض والسماوات, فقيل: تبدل أوصافها فتسير على الأرض جبالها, وتفجر بحارها, وتجعل مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وتبديل السماوات بانتثار كواكبها وكسوف شمسها, وخسوف قمرها. وقيل: يخلق بدلها أرضا وسماوات أخر, وعن ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما: ((ويحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة)). والظاهر من قولها أنها فهمت من التبديل تغيير الذات, فلهذا سألت: ((فأين يكون الناس يومئذ؟)) وكذا من جوابه صلى الله عليه وسلم: ((على الصراط)) المعهود عند المسلمين أو جنس الصراط. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الشمس والقمر مكوران)) ((تو)): يحتمل أنه من التكوير الذي هو بمعنى اللف, والجمع, أي يلف صورهما لفا يذهب انبساطها في الآفاق. ويحتمل أن يراد به رفعها؛ لأن الثواب إذا طوى رفع. ويحتمل أن يكون من قوله: ((طعنه فكوره)) إذا ألقاه, أي لقيان فلكهما, وهذا التفسير أشبه بنسق الحديث لما في بعض طرقه: ((مكوران في النار)) فيكون تكويرهما فيها ليعذب بهما أهل النار لا سيما عباد الأنوار, ولا يعذبان في النار فإنهما بمعزل عن التكليف, بل سبيلهما في النار سبيل نفسها, وسبيل الملائكة الوكيلين بها.

الفصل الثاني 5527 - عن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وأصغى سمعه, وحنى جبهته يينتظر متى يؤمر بالنفخ؟)). فقالوا: يا رسول الله! وما تأمرنا! قال: ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)). رواه الترمذي. [5527] 5528 - وعن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصور قرن ينفخ فيه)). رواه الترمذي, وأبو داود, والدارمي. [5528] الفصل الثالث 5529 - عن ابن عباس, قال في قوله تعالى: {فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}: الصور قال: و {الرَّاجِفَةُ}: النفخة الأولى, و {الرَّادِفَةُ}: الثانية. رواه البخاري في ترجمة باب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, والثاني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((كيف أنعم؟)) ((نه)) ك لنعمة بالفتح, وهي المسرة والفرح والترفه. ((قض)): معناه: كيف يطيب عيشي وقد قرب أن ينفخ في الصور؟ فكنى عن ذلك بأن صاحب الصور وضع رأس الصور في فمه وهو مترصد مترقب لأن يؤمر فينفخ فيه, والله أعلم. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الرَّاجِفَةُ)) الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال, وهي النفخة الأولى, وصفت بما يحدث بحدوثها. ((الرَّادِفَةُ)) الواقعة التي تردف الأولى, وهي النفخة الثانية.

(2) باب الحشر

5530 - وعن أبي سعيد, قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور, وقال ك ((عن يمينه جبريل, وعن يساره ميكائيل)). 5531 - وعن أبي رزين العقيلي, قال: قلت: يا رسول الله! كيف يعيد الله الخلق؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ((أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به يهتز خضرا؟)). قلت: نعم, قال: ((فتلك آية الله في خلقه, (كذلك يحيي الله الموتى))). رواهما رزين. (2) باب الحشر الفصل الأول 5532 - عن سهل بن سعد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((يهتز خضرا)) جملة حالية, و ((خضرا)) نصب على التمييز, استعار الاهتزاز لأشجار الوادي تصويرا لحسنها وبهجتها, ويقال: اهتز فلان فرحا, أي خف له, وكل من خف لأمر وارتاح له فقد اهتز له. قوله: ((فتلك آية الله في خلقه)) أي: في المخلوقات, أي ليس فرق بين إنشاء الخلق وإعادتهم, والتشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى} بيان للتسوية نحو قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي بكل خلق عن الإنشاء والإعادة عليم, ونظير هذا الحديث في الدلالة قوله تعالى: {فَانظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ} يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم, وهو على كل شيء من المقدرات قادر, وهذا من جملة المثدورات بدليل الإنشاء. باب الحشر الفصل الأول الحديث الأول عن سهل بن سعد:

القيامة على أرض بيضاء عفراء, كقرصة* النقي ليس فيها علم لأحد)). متفق عليه. 5533 - وعن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة, يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عفراء)) ((قض)): الأعفر الأبيض الذي يخلص بياضه ولا يشتد, والعفرة: لون الأرض. وقوله: ((كقرصة النقي)) تشبيه بها في اللون والشكل دون القدر, والنقي: الدقيق المنخول المنظف الذي يتخذ منه الحواري. ((ليس فيها علم لأحد)) أي علامة, يريد به الأبنية, معناه أنها تكون قاعا لا بناء فيها. أقول: ولعل الظاهر أن ذلك تعريض بأرض الدنيا, وتخصيص كل من ملاكها بقطع منها أعلم عليها, على نحو قوله تعالى: {لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ}. الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((يتكفؤها)) ((مح)): يتكفؤها بالهمز أي: يقلبها ويميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست مبسوطة كالرقاقة ونحوها. وفي نسخ مسلم: ((يكفؤها)) بالهمز. و ((الخبزة)) هي الطلمة التي توضع في الملة. ومعنى الحديث: أن الله يجعل الأرض كالطلمة والرغيف العظيم, ويكون ذلك طعاما نزلا لأهل الجنة, والله على كل شيء قدير. ((تو)): أرى الحديث مشكلا جدا, غير مستنكر شيئا من صنع الله تعالى وعجائب فطرته, بل لعدم التوفيق الذي يكون موجبا للعلم في قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم والمأكول, مع ما ورد من الآثار المنقولة أن هذه الأرض برها وبحرها يمتلئ نارا في النشأة الثانية, وتنضم إلى جهنم. فنرى الوجه فيه أن نقول: معنى قوله: ((خبزة واحدة)) أي كخبزة واحدة من نعتها كذا وكذا, وهو مثل ما في حديث سهل به سعد: ((كقرصة النقي)) وإنما ضرب المثل بقرصة النقي لاستدارتها وبياضها على ما ذكرنا, وفي هذا الحديث ضرب المثل بخبزة تشبه الالاض هيئة وشكلا ومساحة, فاشتمل الحديث على معنيين: أحدهما: بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ. والآخر: بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلا لأهل الجنة, وبيان عظم مقدارها إبداعا واختراعا من القادر الحكيم الذي لا يعجزه أمر ولا يعوزه شيء.

لأهل الجنة)). فأتى رجل من اليهود. فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم! أل أخبرك بنزل أهل الجنة يم القيامة؟ قال: ((بلى)). قال: تكون الأرض خبزة واحدة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال*: ألا أخبرك بإدامهم؟ بالأم والنون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون, يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: إنما دخل عليه الإشكال لأنه رأي الحديث مذكور في باب الحشر, وبعد قوله: ((كقرصة النقي)) حيث ظن أنه كحديث ((سهل بن سعد)) , وإنما هو من باب وهذا من باب, لأن صاحب جامع الأصول ذكر الحديث الثاني – كما في متن المشكاة – بتمامه في ((باب ذكر أهل الجنة)) , والحديث الأول في ((باب الحشر)) , فإذن لا إشكال في الحديث, وأيضا لا يستدعي التشبيه المشاركة بين المشبه والمشبه به في جميع الأوصاف, بل لو حصل التشبيه في بعض الأوصاف لكفي, وتقريره: أنه صلى الله عليه وسلم شبه أرض الحشر بالخبز النقي في الاستواء والبياض, روي في تفسير {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} عن الضحاك: ((أرضا من فضة بيضاء كالصحائف)) وكذا عن علي رضي الله عنه شبه أرض الجنة في كونها نزلا لأهلها ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زادا له يتقنع بها في سفره ذاك فحسب, وإليه أشار القاضي بقوله: لم يرد بذلك أن جرم الأرض ينقلب خبزة ي الشكل والطبع, وإنما أراد به أنها تكون حينئذ بالنسبة إلى ما أعد الله لأهل الجنة كقرصة نقي يستعجل المضيف بها نزلا للضيف, وتعريف الأرض في الحديث كتعريفها في قوله تعالى: {ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنه: هي أرض الجنة. فإن قلت: كيف ينطبق على هذا التأويل قول اليهودي: ((ألا أخبرك بإدامهم بالام والنون؟)). قلت: هو وارد على سبيل الاستطراد إثباتا للمشبه به لا للمشبه, كما في قوله تعالى: {ومَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًا}. الكشاف: ضرب البحرين العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر, ثم قال على سبيل الاستطرد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه: {ومِن كُلٍّ} أي: ومن كل واحد منهما {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًا} وهو: السمك {وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} هو: الؤلؤ والمرجان, وفيه

5534 - وعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين, راهبين, واثنان على بعير, وثلاثة على بعير, وأربعة على بعير, ـــــــــــــــــــــــــــــ أن النزل التام هو الجنة, كما كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها, والكرامة التامة هي اللقاء وحلول الرضوان, رزقنا الله وإياكم النعمة العظمى. ((بالام والنون)) أما النون: فهو الحوت باتفاق العلماء. وأما بالام: فبباء موحدة مفتوحة, وتخفيف اللام, وميم منونة مرفوعة, وفي معناه أقوال, الصحيح منها ما اختاره المحققون أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ((الثور)) وفسر اليهودي به, ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها. وأما قوله: ((يأكل منها سبعون ألفا)) قال القاضي عياض: إنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب فخصوا بأطيب النزل. ويحتمل أنه عبر به عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر, وهذا معروف في كلام العرب, والله أعلم. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يحشر الناس ثلاث طرائق)) ((خط)): الحشر المذكور في هذا الحديث إنما يكون قبل قيلم الساعة, يحشر الناس أحياء إلى الشام, فأما الحشر بعد البعث من القبور فإنه على خلاف هذه الصورة من ركوب الإبل والمعاقبة عليها, وإنما هو على ما ورد في الحديث أنهم يبعثون حفاة عراة. وفسر ((ثلاثة على بعير وأربعة على بعير)) على أنهم يعتقبون بالبعير الواحد يركب بعضهم ويمشي بعضهم. ((تو)): قول من يحمل الحشر على الحشر الذي هو بعد البعث من القبور أشد وأقوى وأشبه بسياق الحديث من وجوه, إحداها: أن الحشر على الإطلاق في متعارف الشرع لا يراد منه إلا الحشر الذي بعد قيام الساعة, إلا أن يخص بنوع من الدليل, ولم نجده هاهنا. والآخر: أن التقسيم الذي ذكر في هذا الحديث لا يستقيم في احشر إلى أرض الشام, لأن المهاجر إليها لابد أن يكون راهبات راغبا, أو راغبا راهبا, فأما أن لا يكون راغبا وراهبا وتكون هذه طريقة واحدة لا ثاني لها من جنسها فلا. والثالث: أن حشر (النار) * بقية الطائفتين على ما ذكره في هذا الحديث إلى أرض الشام والتزامها بهم حتى لا تفارقهم في مقيل, ولا مبيت, ولا مساء ولا قول لم يرد به التوقيف, ولم يكن لنا أن نقول بتسليط النار على أولى الشقاوة في هذه الدار من غير توقيف. والرابع – وهو أقوى الدلائل وأوثقها: - ما روي عن أبي هريرة, وهو في الحسان من هذا الباب ك – ((يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ... الحديث)).

وعشرة على بعير, وتحشر بقيتهم النار. تقيل معهم حيث قالوا: وتبيت معهم حيث ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما ذكر من بعث الناس حفاة عراة فلا تضاد بين القضيتين, لأن إحداهما حالة البعث من المنشر, والأخرى حالة السوق إلى المحشر, ونرى التقسيم الذي جاء به الحديث التقسيم الذي جاء به التنزيل, قال تعالى: {إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًا (4) وبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا (6) وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} الآيات. فقوله: ((راغبين راهبين)) يريد به عوام المؤمنين, وهم ذو الهيئات الذين يترددون بين الخوف والرجاء بعد زوال التكليف, فتارة يرجون رحمة الله لإيمانه, وتارة يخافون عذابه لما اجترحوا من السيئات, وهم أصحاب الميمنة في كتاب الله عز وجل, على ما جاء في الحديث الذي رواه أيضا أبو هريرة رضي الله عنه – وهو من الحسان من هذا الباب. وقوله: ((اثنان على بعير ..)) فالمراد منه أولوا السابقة من أفاضل المؤمنين وهم السابقون. وقوله: ((يحشر بقيتهم النار)) يريد به أصحاب المشأمة. فهذه ثلاث طرائق. وحملهم الصفة المذكورة في الحديث يحتمل وجهين: إما الحمل دفعة واحدة, تنبيها على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله كناقة صالح عليه السلام فيقوى على ما لا يقوى عليه غيره من البعير. وإما الحمل على سبيل الاعتقاب. فإن قيل: فلم لم يذكر من السابقين من ينفرد بفرد مركب لا يشاركه فيه أحد؟ قلنا: لأنه عرف أن ذلك حق مجعول لمن فوقهم في المرتبة من أنبياء الله, ليقع الامتياز بين النبيين والصديقين في المراكب كما وقع في المراتب. أقول: ولناصر ما ذهب إليه أبو سليمان الذي يجيب عن الوجه الأول ويقول: لا نسلم أن الحشر المذكور يراد به في القيامة, لقوله: ((يحشر بقيتهم النار)) فإن النار هي الحاشرة, فلو أريد ذلك المعنى لقيل: ((إلى النار)) , ولقوله: ((تقيل معهم حيث قالوا:)) فإنه جملة مستأنفة بيان للكلام السابق, فإن الضمير في ((تقيل)) راجع إلى النار الحاشرة وهو من الاستعارة المصرحة التبعية, فيدل على أن النار لم يرد بها النار الحقيقية بل هي نار الفتنة, كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} , ولأن هذه القيلولة والبيتوتة هي المرادة في قوله: ((ستكون هجرة بعد هجرة, فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم .. إلى قوله: ((تحشرهم النار مع

باتوا, وتصبح معهم حيث أصبحوا, وتمسي معهم حيث أمسوا)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ القردة والخنازير, تبيت معهم إذا باتوا, وتقيل معهم إذا قالوا)) * وسيجيء بيانه, وقال عليه الصلاة والسلام: ((ستخرج نار من بحر خضر موت – أو حضر موت – تحشر الناس, قلنا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام)) قال الشيخ التوربشتي: ويحتمل أن النار نكون رأي عين وهو الأصل, وأنها فتنة عبر عنها بالنار. وعن الثاني: أن التقسيم الذي ورد في الحديث مستقيم, والنورد غير ما أخذه, وذلك لأنه وارد على القصد للخلاص من الفتنة, فمن اغتنم الفرصة وسبق سار على فسحة من الظهر والزاد رغبة فيما يستقبله ورهبة مما يستدبره, ومن أبطأ حتى ضاق عليه الوقت سار راهبا على ضيق من الظهر, فيتعاقب اثنان على بعير إلى عشرة, ومن كره الله انبعاثهم فثبطهم فوقع في ورطة لا خلاص له ولا مناص, يقيل مع الفتنة حيث قالت, فعلى هذا لا بفتقر إلى عذر أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر واحد على بعير لأن السابقين هم الراكبون على بعير بعير, وكيف يساق السابقون عشرة على بعير؟! وسنقرر هذا المعنى بعيدا هذا. وعن الثالث: أنه ورد التوقيف, فكيف والحديث يدل عليه؟ وكذا حديث ((حضر موت)) , وحديث ((الشام)) على ماسبق. وعن الرابع: أن الحديث الذي ورد في الحسان لا يطابق هذا! وليت شعري كيف ينزل قوله ((اثنان على بعير ..)) إلى آخره على قوله ((.. وصنفا ركبانا)) لأن المراد بالركبان السابقون المتقون في قوله تعالى: {وسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الجَنَّةِ زُمَرًا} والمراد سوق مراكبهم إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل من يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك, ويستبعد أن يقال: يجيء وفد الله تعالى عشرة على بعير جمعا أو متعاقبا, فعلى هذا الطرائق الثلاث حالهم في الدنيا كذا, والأصناف الثلاثة حالهم في العقبى كذا, يدل عليه قول الشيخ محي الدين في شرح مسلم: قال العلماء: هذا الحشر في آخر الدنيا قبل يوم القيامة وقبل النفخ في الصور, بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر بقيتهم النار ..)) إلى آخره وهذا الحشر آخر أشراط الساعة كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة. قال: وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن تطرد الناس إلى محشرهم بثلاث طرائق ثلاث فرق, ومنه قوله تعالى إخبارا عن الجن: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي فرقا مختلفة, ولكن المطابق له ما ورد في الفصل الثالث عن أبي ذر قال: إن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج, فوجا راكبين طاعمين كاسين, وفوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم, وتحشرهم النار, وفوجا يمشون يسعون يلقي الله الآفة على الظهر فلا يبقى, حتى إن الرجل

5535 - وعن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم محشورون حفاة عراة غرلا)). ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ((وأول من يكسا يوم القيامة إبراهيم, وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال, فأقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها)) فينزل قوله: ((راغبين راهبين)) على قوله: ((طاعمين كاسين)) أي مرفهين لاستعدادهم بما يبلغهم إلى المقصد من الزاد والراحلة. وقوله: ((اثنان على بعير ..)) إلى آخره على قوله: ((وفوجا يمشون ويسعون ..)) ويلقي الله الآفة على مراكبهم حتى يضطروا إلى أن يعطوا الحديقة بالمركوب. قوله: ((وتحشر بقيتهم النار)) على قوله: ((فوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم النار)) أي تحشر الملائكة لهم النار وتلازمهم حتى لا تفارقهم أين باتوا؛ وأين قالوا. فإن قلت: ما معنى قوله: ((إن الحديقة يعطيها بذات القتب)). قلت: ذات القتب – وهي خشبة الرحل – عبارة عن البعير تحقيرا, كما في قوله تعالى: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ ودُسُرٍ} كناية عن السفينة, وفي إيثار هذه الصيغة على البعير والحديقة على القيمة إشارة إلى أنهم أنفس الأموال بذلك الحقير, وهذه الصيغة تسمى في علم البديع بالإدماج, ثم إذا ضم معه اقتضاء المقام وهو مهاجرة الأوطان, دل غاية الاضطرار, فإن الحديثة أهم شيء للثاوي المقيم, والبعير أهم شيء للظاعن المسافر, فإيثار مثل هذا الظهر على مثل تلك الحديقة في هذا المقام لئلا يقيلوا في الفتنة ولا يبيتوا فيها يدل على غاية الاضطرار ولا فرار مما لا يطاق, وهذا النوع يسمى في البديع بالإيغال, ونحوه في الأسلوب قول الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار هذا ما سنح لنا على سبيل الاجتهاد, ثم عثرنا في جامع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري على ما هو الحق, وهو قوله في باب الحشر: ((يحشر الناس [يوم القيامة] * على ثلاث طرائق ..)) الحديث فعلم [من ذلك] ** أن ما ذهب إليه الإمام التوربشتي هو الحق الذي لا محيد عنه, [والله أعلم] ... الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((غرلا)) ((نه)): الغرل جمع الأغرل وهو الأقلف, والغرلة: القلفة. قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} فإن قلت: سياق الآية في إثبات الحشر والنشر, لأن المعنى

أصيحابي أصيحابي!! فيقول: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح: {وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: {العَزِيزُ الحَكِيمُ}: متفق عليه. 5536 - وعن عاشة, قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)). قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: ((يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ نوجدكم عن العدم ثانيا كما أوجدناكم أولا عن العدم فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور؟ قلت: [دل] * سياق الآية؛ وعبارتها على إثبات الحشر, وإشارتها على المعنى المراد من الحديث وهو من باب الإدماج. قوله: ((وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم)) ((تو)): [ويروى] ** أن التقديم بهذه الفضيلة إنما وقع لإبراهيم عليه السلام؛ لأنه أول من عري في ذات الله حين أرادوا إلقاءه في النار. فإن قيل: أو ليس نبينا عليه الصلاة والسلام هو المحكوم له بالفضل على سائر الأنبياء وتأخره في ذلك يوهم أن الفضل للسابق؟ قلنا: إذا استأثر الله سبحانه عبدا بفضيلة على آخر, واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة أمثالها أو أفضل, كانت السابقة له, ولا يقدح استئثار صاحبه عليه بفضيلة واحدة في فضله, ولا خفاء بأن الشفاعة حيث لا يؤذن لأحد في الكلام لم يبق سابقة لأولى السابقة, ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أنت عليها, وكم له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ولم يشارك فيها. قوله: ((وإن إنسانا من أصحابي)) ((قض)): يريد بهم من ارتد من الأعراب الذين أسلموا في أيامه أصحاب مسيلمة والأسود وأضرابهم, فإن أصحابه وإن شاع عرفا فيمن يلازمه من المهاجرين والأنصار, شاع استعماله لغة في كل من تبعه أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرة. وقيل: أراد بالارتداد إساءة السيرة والرجوع عما كانوا عليه من الإخلاص وصدق النية والإعراض عن الدنيا. وأما تنكير ((الناس)) وتصغير ((الأصحاب)) [فللدلالة] ... على تقليلهم. والمراد ((بالعبد الصالح)) عيسى عليه الصلاة والسلام, والآية حكاية. [قوله]. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الرجال والنساء)) مبتدأ, و ((جميعا)) حال

5537 - وعن أنس, أن رجلا قال: يانبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)) متفق عليه. 5538 - وعن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يارب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون, فأي خزي من أبي الأبعد فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال لإبراهيم: ماتحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ سد مسد الخبر, أي مختلطون جميعا ويجوز أن يكون الخبر ((ينظر بعضهم إلى بعض)) وهو العامل في الحال قدم اهتماما, كما في قوله تعالى: {والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} وفيه معنى الاستفهام, ولذلك أجاب بقوله: ((الأمر أشد ...)) الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قادر)) هو مرفوع على أنه خبر الذي, واسم ليس ضمير الشأن, وسؤال الرجل مسبوق بمثل قوله ((يحشر بعض الناس يوم القيامة على وجوههم)). الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وعلى وجهه آزر قترة)) إنما أتى بالمظهر في قوله ((على وجهه آزر)) صونا عن توهم متوهم في ابتداء الحال أن الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام. قوله: ((من أبي الأبعد)) هو أفعل الذي قطع عن متعلقة للمبالغة. ((نه ((: يقال: بعد الكسر فهو باعد, أي هلك, والبعد الهلاك, ومنه حديث شهادة الأعضاء يوم القيامة, فيقول: ((بعدا لك وسحقا)) أي هلاكا. ويجوز أن يراد الأبعد من رحمة الله, وقوله: ((من أبي الأبعد)) لابد فيه من تقدير مضاف, أي من خزي أبي الأبعد, والفاء في قوله: ((فأي خزي)) مستعقب بمحذوف, أي أنك وعدتني أن لا تخزني وقد أخزيتني, وإذا كان كذلك فأي خزي, نحو قوله تعالى: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ} أي فضرب فانفجرت. والذيخ: ذكر الضباع, والأنثى ذيخة. وأراد بالتلطيخ: التلطيخ برجيعه أو بالطين.

5539 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)). متفق عليه. 5540 - وعن المقداد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً)) وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه. رواه مسلم. 5541 - وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك. قال: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير {وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد})). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن والتاسع عن المقداد رضي الله عنه: قوله: ((كمقدار ميل)) تقديره حتى يكون مقدار قرب الشمس منهم مثل مقدار ميل، نظيره قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى}. أي كان قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل أو من مكان القرب مثل مقدار قوسين. ((حس)): قال سليم: ((لا أدري أي الميلين يعني، مسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين. قوله: ((إلى حقويه)) الحقو الخصر ومشد الإزار. الحديث العاشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((وما بعث النار؟)) أي ما مقدار مبعوث النار. قوله: ((وأينا ذلك الواحد؟)) لا يخلو هذا الاستفهام من أن يكون مجرى على حقيقته، أو يكون استعظاماً لذلك الحكم، واستشعار خوف منه، فالأول يستدعي أن يجاب بأن ذلك الواحد فلان أو متصف بالصفة الفلانية، والثاني يستدعي أن يجاب بما يزيل ذلك الخوف دفعاً لليائس. والثاني هو المراد بقوله: ((أبشروا)) وكأنه قال: وأينا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الناجي المفلح من بين سائر بني آدم: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب

قالوا: يا رسول الله؟ وأينا ذلك الواحد؟ قال: ((أبشروا فإن منكم رجلا، ومن يأجوج ومأجوج ألف)) ثم قال: ((والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فكبرنا. فقال: ((أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فكبرنا. فقال: ((أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)) فكبرنا. قال: ((ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود)). متفق عليه. 5542 - وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: ((أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف)) تنبيه على أن يأجوج ومأجوج داخلون في هذا الوعيد، وبقوله: ((أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)) أن غير يأجوج ومأجوج من الأمم السالفة الفائقة الحصر أيضاً داخلون في الوعيد، فإذا وزع نصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع مثله من الأمم السابقة على هؤلاء يكون كالواحد من الألف، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض)) وقولهم: ((الله أكبر مراراً)) متعجبين، استبشاراً منهم واستعظاماً لهذه النعمة العظمى والمنحة الكبرى، فيكون هذا الاستعظام بعد ذلك الاستعظام إشارة إلى فوزهم بالبغية بعد اليأس منها، والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((يكشف ربنا عن ساقه)) تو: مهب أهل السلامة من السلف التورع عن التعرض للقول في مثل هذا الحديث وهو الأمثل والأحوط، وقد تأوله جمع من العلماء بأن الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب واستعماله فيه شائع، ومن ذلك قول الشاعر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها ومنه قول الله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} أي عن شدة، وتنكير ((الساق)) في الآية من دلائل هذا التأويل، ووجه تعريف الساق في الحديث دون الآية أن يقال: أضافها إلى الله تعالى تنبيها على أنها الشدة لا يجليها لوقتها إلا هو، أو على أنها هي التي ذكرها في كتابه. وقوله: ((فيعود ظهره طبقاً واحداً)) أي يرد عظاماً بلا مفاصل لا ينثني عند الرفع والخفض، والمعنى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم القيامة عن شدة ترتفع دونها سواتر الامتحان فيتميز عند ذلك أهل اليقين والإخلاص والإيقان بالسجود الموصوف على أهل الريب والنفاق، والله أعلم.

5543 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)) وقال: اقرأوا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}. متفق عليه. الفصل الثاني 5544 - عن أبي هريرة، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يومئذ تحدث أخبارها} قال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل علي كذا وكذا يوم كذا وكذا)). قال: ((فهذه أخبارها)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. [5544] 5545 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يموت إلا ندم)). قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: ((إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع)) رواه الترمذي. [5545] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} فإن قلت: كيف وجه صحة الاستشهاد بالآية، فإن المراد بالوزن في الحديث وزن الجثة ومقداره لقوله: ((العظيم السمين)) وفي الآية: إما وزن العمال لقوله تعالى: {فحبطت أعمالهم} وإما مقدارهم والمعنى نزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار؟ قلت: الحديث من الوجه الثاني على سبيل الكناية وذكر الجثة والعظم لا ينافي إرادة مقداره وتفخيمه، قال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة}. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن لا يكون ازداد)) أي خيراً وبراً. و ((أن لا يكون نزع)) أي نزع نفسه عن ارتكاب المعاصي.

5546 - وعنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم)) قيل: يا رسول الله! وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: ((إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك)) رواه الترمذي. [5546] 5547 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: {إذا الشمس كورت} و {إذا السماء انفطرت} و {إذا السماء انشقت}، رواه أحمد، والترمذي. [5547] الفصل الثالث 5548 - عن أبي ذر، قال: إن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حدثني: ((إن الناس يحشرون ثلاثة أفواج: فوجا راكبين طاعمين كاسين، وفوجا تسحبهم الملائكة على ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((صنفا مشاة)) تو: فإن قيل: لم بدأ بالمشاة بالذكر قبل أولى السابقة؟ قلنا لأنهم هم الأكثرون من أهل الإيمان. قض: ((يتقون بوجوههم)) يريد به بيان هوانهم واضطرابهم، إلى حد جعلوا وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن مؤذيات الطرق، والمشي إلى المقصد لما لم يجعلوها ساجدة لمن خلقها وصورها. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((إن الناس يحشرون)) المراد بالحشر هنا ما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب)) وقوله: ((ستخرج نار من بحر حضر موت- أو حضر موت- تحشر الناس)) قلنا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: ((عليكم بالشام)). وقوله: ((طاعمين كاسين)) هو عبارة عن كونهم مرفهين لاستعدادهم بما يبلغهم إلى المقصد

(3) باب الحساب والقصاص والميزان

وجوههم وتحشرهم النار، وفوجاً يمشون ويسعون ويلقي الله الآفة على الظهر، فلا يبقى، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها)) رواه النسائي. [5548] (3) باب الحساب والقصاص والميزان الفصل الأول 5549 - عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)). قلت: أو ليس يقول الله: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال: ((إنما ذلك العرض؛ ولكن من نوقش في الحساب يهلك)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ من الزاد والراحلة، ودون هؤلاء قوم ((يمسون ويسعون ويلقى الله عز وجل الآفة)) على مراكبهم حتى يضطروا إلى أن يعطى الحديقة بالمركوب، والهالكون من تحشر الملائكة لهم النار وتلزمهم حتى لا تفارقهم أين باتوا وأين قالوا، فبقى أن يقال: لم ذكر المؤلف هذا الحديث في باب الحشر؟ وهلا ذكره في باب أشراط الساعة؟ قلنا: تأسياً بمحيي السنة، والعجب أن محيي السنة حمل الحديث على ما ذهب إليه الخطابي، حيث قال: وهذا الحشر قبل قيام الساعة وإنما يكون ذلك إلى الشام أحياء، وأما الحشر بعد البعث من القبور فعلى خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل والمعاقبة عليها، وإنما هو كما أخبر أنهم يبعثون حفاة عراة، وأورده في هذا الباب. والله أعلم. باب الحساب والقصاص والميزان ((نه)) القصاص: اسم من أقصه الحاكم يقصه إذا أمكنه من أخذ القصاص، وهو أن يفعل به مثل فعله من: قتل أو قطع أو ضرب أو جرح. الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من نوقض الحساب)) ((فا)) ((مظ)): يقال ناقشه الحساب إذا عاسره فيه واستقصى فلم يترك قليلا ولا كثيراً، وأنشد ابن الأعرابي للحجاج: إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب عفو ... عن مسيء ذنوبه كالتراب

5550 - وعن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) متفق عليه. 5551 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يدني المؤمن فيضع على كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب! حتى قرره بذنوبه، ورأي نفسه أنه قد هلك. قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}. متفق عليه. 5552 - وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عدي رضي الله عنه: قوله: ((ولو بشق تمرة)) ((مظ)) يعني إذا عرفتم ذلك فاحذروا من النار ولا تظلموا أحداً ولو بشق تمرة. أقول: ويحتمل أن يقال: المعنى إذا عرفتم أنه لا ينفعكم في ذلك اليوم شيء إلا العمال الصالحة، وأن أمامكم النار، فاجعلوا الصدقة جنة بينكم وبينها ولو بشق تمرة. الحديث الثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كنفه ويستره)) ((قض)): كنفه حفظه وستره عن أهل الموقف وصونه عن الخزي والتفضيح، مستعار من كنف الطائر وهو جناحه يصون به نفسه، ويستر به بيضه ويحفظه، وأصله الجانب، يقال: أكنفت الرجل إذا صنته. وفيه: ((حتى أقره بذنوبه)) أي جعله مقرا بأن أظهر له ذنوبه وألجأه إلى الإقرار بها. الحديث الرابع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قوله: ((فكاكك)) ((تو)): فكاك الرهن ما يفك به ويخلص. والكسر فيه لغة. ((قض)): لما كان لكل مكلف مقعد من الجنة ومقعد من النار، فمن آمن حق الإيمان بدل مقعده من النار بمقعد من الجنة، ومن لم يؤمن فبالعكس، كانت الكفرة كالخلف للمؤمنين في مقاعدهم من النار، والنائب منابهم فيها، وأيضاً لما سبق القسم الإلهي بملء جهنم كان ملاؤها من الكفار خلاصاً للمؤمنين ونجاة لهم من النار، فهم في ذلك للمؤمنين كالفداء والفكاك،

5553 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، يا رب! فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيجاء بكم فتشهدون على أنه قد بلغ)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) رواه البخاري. 5554 - وعن أنس، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: ((هل تدرون مما أضحك؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)) قال: ((يقول: بلى)). قال: ((فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)). قال: ((فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام ـــــــــــــــــــــــــــــ ولعل تخصيص اليهود والنصارى بالذكر لاشتهارهما بمضادة المسلمين، ومقابلتهما إياهم في تصديق الرسول المقتضى لنجاته. الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فيقول: محمد وأمته، وقد قال الله تعالى: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} مقدما صلة الشهادة ليفيد اختصاصهم بشهادته عليهم لا على غيرهم؟ قلت: لم يرد باختصاصهم بشهادة أنه يشهد عليهم للزوم المضرة، والكلام وارد في مدح الأمة، فالغرض هنا أنه يزكيهم، فضمن ((شهد)) معنى ((رقب)) لأن العدول حتاج إلى رقيب يحفظ أحوالهم ليطلع عليها ظاهراً وباطناً فيزكيهم، ولما كانوا هم العدول من بين سائر الأمم خصهم الله تعالى بكون الرسول عليهم شهيداً، أي: رقيباً مزكياً، وهذا لا يدل على أنه لا يشهد على سائر الأمم، مع أن مزكي الشاهد أيضاً شاهد. قوله: ((وسطاً)) ((نه)): يقال: هو من أوسط القوم، أي: خيارهم، وقد وسط وساطة فهو وسيط. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ألم تجرني من الظلم)) أي ألم تجعلني في إجارة منك بقولك: {وما ربك بظلام للعبيد}. قوله: ((وبالكرام الكاتبين)) فإن قلت: دلت أداة الحصر على أن لا يشهد عليه غيره، فكيف أجاب بقوله: كفي بنفسك وبالكرام الكاتبين؟

الكاتبين شهودا)). قال: ((فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي)). قال: ((فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام)). قال: ((فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)) رواه مسلم. 5555 - وعن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((فهل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟)) قالوا: لا. قال: ((فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟)) قالوا: لا. قال: ((فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)). قال: ((فيلقى ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: بذل له مطلوبه وزاد عليه تأكيداً وتقريراً. قوله: ((كنت أناضل)) ((نه)) أي: أجادل وأخاصم وأدافع، يقال: فلان يناضل عن فلان، إذا رمى عنه وحاج وتكلم بعذر ودفع عنه. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء في هذا الحديث: ((نعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله وعد المؤمن أن يستر عليه ولا يطلع عليه غيره كما أخبر به بقوله: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ..)) الحديث. ثم قال: فهذا عبد مؤمن يستر على الناس عيوبهم، واحتمل في نفسه تقصيرهم فلم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس، ولم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه، فمثل هذا العبد جدير بان يجازى بمثل فعله ذلك في القيامة، ويرجو ستر الله عليه ذنوبه. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((هل تضارون)) ((مح)): روى ((تضارون)) بتشديد الراء وتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما. وفي الرواية الأخرى: ((هل تضامون)) بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضمها. وفي رواية البخاري: ((لا تضارون أو لا تضامون)) على الشك. ((قض)): ((تضارون)) المشدد من الضرر، والمخفف من الضير، أي: تكون رؤيته تعالى رؤية جلية بينة لا تقبل مراء ولا مرية فيخالف فيها بعضكم بعضاً. ويكذبه، كما لا يشك في رؤية أحدهما – يعني: الشمس والقمر- ولا ينازع فيهمان فالتشبيه إنما وقع في الرؤية باعتبار جلائها وظهورها بحيث لا يرتاب فيها، لا في سائر كيفياتها ولا في المرئي، فإنه سبحانه منزه عن الجسمية وعما يؤدي إليها. و ((تضامون)) بالتشديد من الضم أي: لا يضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤيته لإشكاله

العبد فيقول: أي فل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى)) قال: ((أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني قد أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني، فذكر مثله، ثم يلقى الثالث، ـــــــــــــــــــــــــــــ وخفائه كما يفعلون في الهلال. او لا يضمكم شيء دون رؤيته فيحول بينكم وبينها. وبالتخفيف من الضيم، أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعض دون بعض، بل تستوون فيها، وأصله ((تضيمون)) فنقلت فتحة الياء إلى الضاد فصارت ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها، وكذلك ((تضارون)) بالتخفيف، وأما المشدد فيحتمل أن يكون مبنياً للفاعل على معنى لا تضارون بعضكم بالمخالفة والمجادلة في صحة الرؤية، فسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية، أو يكون مبينا للمفعول على معنى: لا تضارون أي تنازعون في رؤيته. وفيه: ((وأذرك)) أي: لم أذرك ولم أمكنك على قومك فتصير رئيسهم وتأخذ من مرباعهم وهو ربع الغنيمة وكان ملوك الجاهلية يأخذونه. قوله ((أي فل)) نه: معناه يا فلان، وليس ترخيماً له، لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيماً لفتحوها او ضموها. قال سيبويه: ليست ترخيماً وإنما هو صيغة ارتجلت في باب النداء، وقد جاء في غير النداء، قال: ((في لجة أمسك فلاناً عن فل)) بكسر اللام للقافية. وقال الزهري: ليس بترخيم فلان ولكنها كلمة على حدة فبنو أسد يوقعونها على الواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وغيرهم يثني ويجمع ويؤنث. وقال قوم: إنه ترخيم فلان، فحفت النون للترخيم والألف لسكونها، وتفتح اللام وتضم على مذهبي الترخيم. قوله: ((ألا كما تضارون ...)) كان الظاهر أن يقال: لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أخرج مخرج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب أي: لا تشكون إلا كما تشكون في رؤية القمرين، وليس في رؤيتهما شك، ولا تشكون فيه البتة. ((فإني قد أنساك)) مسبب عن قوله: ((أفظننت أنك ملاقي)) يعني سودتك وزوجتك، وفعلت بك من الإكرام حتى تشكرني وتلقاني لأزيد في الإنعام وأجازيك عليه، فلما نسيتني في الشكر نسيناك وتركنا جزاءك وعليه قوله تعالى: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}

فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذاً. ثم يقال: الآن تبعث شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك يسخط الله عليه)). رواه مسلم. وذكر حديث أبي هريرة: ((يدخل من أمتي الجنة)) في ((باب التوكل)) برواية ابن عباس. الفصل الثاني 5556 - عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وعدني ربي أن ـــــــــــــــــــــــــــــ ونسبة النسيان إلى الله تعالى إما مشاكلة أو مجازاً عن الترك. فقوله: ((فذكر مثله)) أي قال الراوي: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثاني مثلما ذكر في الأول من سؤال الله تعالى له وجوابه على ما سبق. وأما حكم الثالث فليس كذلك، فإنه لما قرر الله تعالى ما أولاه من النعم سأله: ما فعلت بها؟ وكيف شكرت تلك النعم؟ قال: ((آمنت بك ...)) إلخ ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب ان ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ..)) الحديث. وقوله: ((هاهنا إذاً)) إذاً جواب شرط وجزاء، والتقدير: إذا أثنيت على نفيك بما أثنيت إذاً فاثبت هاهنا كي نريك أعمالك بإقامة الشاهد عليها. قوله: ((من ذا الذي يشهد علي؟)) حال تقديره: يتفكر في نفسه قائلاً: من ذا الذي يشهد علي؟ قوله: ((وذلك)) إشارة إلى المذكور من السؤال والجواب وختم الفم ونطق الفخذ وغيره. قوله: ((ليعذر)) ((تو)) على بناء الفاعل من الإعذار، والمعنى: يزيل عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي أمامة رضي الله عنه: قوله: ((وثلاث حثيات)) ((شف)): يحتمل

يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. [5556] 5557 - وعن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: لا يصح هذا الحديث، من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. 5558 - وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى. [5558] 5559 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيخلص ـــــــــــــــــــــــــــــ النصب عطفاً على قوله: ((سبعين ألفاً)) والرفع عطفاً على قوله: ((سبعون ألفاً)) والرفع اظهر في المبالغة، إذ التقدير: مع كل سبعون ألفاً وثلاث حثيات، بخلاف النصب. ((نه)): الحثيات كناية عن المبالغة في الكثرة، وإلا فلا كف ثم ولا حتى جل الله عن ذلك وعز. ((تو)): الحثية ما يحثيه الإنسان بيديه من ماء أو تراب أو غير ذلك، ويستعمل فيما يعطيه المعطي بكفيه دفعة واحدة، وقد جيء به هاهنا على وجه التمثيل، وأريد بها الدفعات، أي: يعطي بعد هذا العد المنصوص عليه ما يخفي على العادين حصره وتعداده فإن عطاءه الذي لا يضبطه الحساب أوفي وأربى من النوع الذي يتداخله الحساب. الحديث الثاني عن الحسن: قوله: (0ثلاث عرضات)) قيل: هي ثلاث مرات، فأما المرة الأولى فيدفعون عن أنفسهم ويقولن: لم يبلغنا الأنبياء ويحاجون الله. والمرة الثانية: يعترفون بذنوبهم ويعتذرون. ولا تتم قضيتهم في المرتين بالكلية. والمرة الثالثة: فيطير كتابهم إما باليمين فذلك أهل السعادة، وإما بالشمال فذلك أهل الشقاوة- نعوذ بالله من ذلك- فتتم قضيتهم. قوله: ((تطير الصحف)) هكذا في سنن الترمذي وجامع الأصول، وفي نسخ المصابيح ((تطاير)). والفاء في قوله: ((فآخذ بيمينه)) تفصيلية، أي: فمنهم آخذ بيمينه ومنهم آخذ بشماله. الحديث الثالث: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((فيقول: إنك لا تظلم)) فإن

رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ قال: لا، يا رب فيقول بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5559] 5560 - وعن عائشة، أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يبكيك؟)). قال: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: كيف طابق هذا جوابا لقوله: ما هذه البطاقة؟ قلت: اسم الإشارة للتحقير، كأنه أنكر ان تكون هذه البطاقة المحقرة موازنة لتلك السجلات، فرد بقوله: ((إنك لا تظلم بحقيرة)) أي: لا تحقي هذه فإنها عظيمة، إذ لا يثقل مع اسم الله شيء، فلو ثقل على اسم الله شيء فقد ظلمت. قوله: ((فتوضع السجلات)) ((نه)): السجلات جمع سجل بالكسر والتشديد، وهو الكتاب الكبير، والبطاقة رقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما يجعل فيه إن كان عيناً فوزنه أو عدده، وإن كان متاعاَ فقيمته، قيل سميت بذلك لأنها تشد بطاقة من الثوب فتكون الباء حينئذ زائدة، وهي كلمة كثيرة الاستعمال بمصر، ويروى بالنون وهو غريب. والطيش الخفة، وقد طاش يطيش طيشاً فهو طائش. الحديث الرابع: عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عند الميزان)) قال أهل الحق: قال الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} نضع ميزاناً يوم القيامة توزن به الصحائف التي يكون مكتوبا فيها أعمال العباد، وله كفتان إحداهما للحسنات والأخرى للسيئات، وعن الحسن: له كفتان ولسان. قوله: ((وعند الصراط)) ((مح)): مذهب أهل الحق أنه جسر ممدود على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب أعمالهم ومنازلهم، والآخرون يسقطون فيها- عافانا

صلى الله عليه وسلم: ((أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتى يعلم: أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الكتاب حين يقال {هاؤم اقرؤوا كتابيه}، حتى يعلم: أين يقع كتابه، أفي يمينه أم في شماله؟ أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط: إذا وضع بين ظهري جهنم)) رواه أبو داود. [5560] الفصل الثالث 5561 - عن عائشة، قالت: جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل وجعل يهتف ـــــــــــــــــــــــــــــ الله الكريم – والمتكلمون من أصحابنا والسلف يقولون: إنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وهكذا جاء في رواية أبي سعسد. قوله: ((أم في شماله أو من وراء ظهره)) وفي جامع الأصول ((أم)) بدل ((أو)) والأول أولى وأوفق للجمع بين معنى الآيتين: {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه} {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا}. الكشاف: قيل: تغل يمينه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: (0فكيف أنا منهم؟)) أي: كيف يكون حالي من أجلهم وبسببهم؟ قوله: ((يهتف)) ((نه)): هتف يهتف هتفاً، وهتف به هتافاً، إذا صاح به ودعاه. قوله: ((خيراً)) خيراً صفة شيئاً والجار والمجرور هو المفعول الثاني.

ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما تقرأ قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفي بنا حاسبين})) فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار. رواه الترمذي. 5562 - وعنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: ((اللهم حاسبني حساباً يسيراً)) قلت: يا نبي الله! ما الحساب اليسير؟ قال: ((أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه، إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة! هلك)). رواه أحمد. [5562] 5563 - وعن أبي سعيد الخدري، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني من يقوى على القيام يوم القيامة الذي قال الله عز وجل: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}؟ فقال: ((يخفف على المؤمن حتى يكون عليه كالصلاة المكتوبة)). 5564 - وعنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} ما طول هذا اليوم؟ فقال: ((والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا)). رواهما البيهقي في كتاب ((البعث والنشور)). [5546] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أن ينظر)) أي العبد. ((فيتجاوز عنه)) أي: الله تعالى. الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بدل من قوله {ليوم عظيم} أي: يتجلى سبحانه بجلاله وهيبته، ويظهر سطوات قهره على الجبارين، وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده.

(4) باب الحوض والشفاعة

5565 - وعن أسماء بنت يزيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة، فينادي مناد فيقول: أين الذين كانت تتجافي جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يؤمر لسائر الناس إلى الحساب)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). (4) باب الحوض والشفاعة الفصل الأول 5566 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر)). رواه البخاري. 5567 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن أسماء رضي الله عنها: قوله: {تتجافي جنوبهم عن المضاجع} أي: ترتفع وتتنحى عن المضاجع داعين ربهم عابدين له لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وهم المتهجدون. باب الحوض والشفاعة ((غب)): الشفع ضم الشيء إلى مثله، ومنه الشفاعة وهو الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى مرتبة، ومنه الشفاعة في القيامة. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((هذا الكوثر)) الكوثر فوعل من الكثرة. و ((أذفر)) أي: طيب الريح، والذفر بالتحريك يقع على الطيب والكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به. الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((حوضي مسيرة شهر)) أي مسيرة حوضي وزواياه سواء أي مربع لا يزيد طوله على عرضه.

شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبدا)). متفق عليه. 5568 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه)). قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال: ((نعم لكم سيماء ليست لأحد من الأمم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((كيزانه كنجوم السماء)) أي: في الإشراق والكثرة. وقوله: ((يشرب)) يجوز أن يكون مرفوعاً على أن ((من)) موصولة ومجزوماً على أنها شرطية. قوله: ((ماؤه أبيض)) مح: النحويون يقولون: لا يبنى فعل التعجب وأفعل التفضيل من الألوان والعيوب بل يتوصل إليه بنحو: أشد وأبلغ، فلا يقال: ما أبيض زيداً، ولا زيد أبيض من عمرو، وهذا الحديث يدل على صحة ذلك وحجة على من منعوه، وهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال. الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أبعد من أيلة من عدن)) من الأولى متعلقة بـ ((أبعد)) والثانية متعلقة ببعد مقدر، أي: أبعد من بعد أيلة من عدن، والحاصل أن بعد ما بين طرفي الحوض أزيد من بعد ما بين أيلة وعدن. تو: ((أيلة)) بالياء الساكنة بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن، و ((عدن)) آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند. قض: اختلاف الأحاديث في مقدار الحوض لأنه صلى الله عليه وسلم قدره على سبيل التمثيل والتخمين لكل أحد على حسب ما رآه وعرفه. قوله: ((وأحلى من العسل)) أي: ألذ من العسل المخلوط ((باللبن)) ونظيره قول الشاعر: ونغمه معتف جدواه أحلى ... على أذنيه من نغم السماع أي: ألذ. وقوله: ((وإني لأصد الناس)) يراد بالناس المذكورون في الحديث الآتي. قوله: ((سيماء)) فا: السومة والسيماء والسيمياء العلامة. قوله: ((يغت)) قض: أي يدفق دفقا متتابعاً دائماً بقوة، فكأنه من ضغط الماء لكثرته عند خروجه، وأصل الغت الضغط.

5569 - وفي رواية له عن أنس، قال: ((ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)). 5570 - وفي أخرى له عن ثوبان، قال: سئل عن شرابه. فقال: ((أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل يغت، فيه ميزابان يمدانه من الجنة: أحدهما من ذهب والآخر من ورق)). 5571 - وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي)). متفق عليه. 5572 - وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا! فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن سهل رضي الله عنه: قوله: ((فرطكم)) مح: الفرط بفتح الفاء والراء هو الفارط الذي يتقدم الوراد ليصلح لهم الحياض والدلاء والأرشية وغيرها من أمور الاستسقاء، فمعناه: إني سابقكم إلى الحوض كالمهييء لكم. قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث يدل على أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار. و ((سحقاً سحقاً)) أي: بعداً لهم، ونصبه على المصدر، وكرر للتأكيد. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يهموا بذلك)) ((مح)): على بناء المجهول، أي: يحزنون لما امتحنوا به من الحبس، من قولهم: ((أهمني)) إذا أقلقك وأحزنك. قوله: ((لو استشفعنا)) لو هي المتضمنة للتمني والطلب. وقوله: ((فيريحنا)) من الإراحة، ونصبه بأن المقدرة بعد الفاء الواقعة جواباً للو، والمعنى: لو استشفعنا أحداً إلى ربنا فيشفع لنا فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب والحبس، قال في أساس البلاغة: شفعت له إلى فلان وأنا شافعه وشفيعه واستشفعني إليه فشفعت له، واستشفع بي، قال الأعشى: مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع وقوله: ((أنت آدم)) هو من باب قوله: أنا أبو النجم وشعرى شعرى.

ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم. - ويذكر خطيئته التي أصاب: أكله من الشجرة وقد نهي عنها - ولكن ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله: ربه بغير علم - ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هناكم - ويذكر ثلاث كذبات كذبهن ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو مبهم فيه معنى الكمال لا يعلم ما يراد منه ففسر بما بعده من قوله ((أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده)) إلى آخره. قوله: ((كل شيء)) وضع شيء موضع الأشياء أي: المسميات، لقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} أي: أسماء المسميات إرادة للتقصي واحداً فواحداً حتى يستغرق المسميات كلها. قوله: ((لست هناكم)) قض: أي يقول لهم آدم عليه السلام: لست في المكان والمنزل الذي تحسبونني، يريد به مقام الشفاعة. وقوله: ((ويذكر خطيئته التي أصاب)) اعتذاراً عن التقاعد والتأني عن الشفاعة، والراجع إلى الموصول محذوف أي التي أصابها، وأكله بدل من خطيئته - انتهى كلامه - ويجوز أن يكون بياناً للضمير المبهم المحذوف، نحو قوله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات في يومين}. مح: قال القاضي عياض: لست هناكم كناية عن أن منزلتهم دون هذه المنزلة، يقولونه تواضعاً وإكباراً لما يسألونه، وقد يكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم معيناً، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر لأن تتدرج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وبارك وسلم، ومبادرة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجابته لرغبتهم لتحققه أن هذه الكرامة والمقام له خاصة. قال الشيخ محي الدين رحمه الله: والحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في الابتداء، ولم يلهموا سؤال نبينا صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا، فأما إذا سألوه غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا، ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة

ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً. قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس - ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته)) قال: ((فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ـــــــــــــــــــــــــــــ وكمال القرب، وفيه تفضيله على جميع المخلوقين من الرسل والآدميين والملائكة المقربين، فإن هذا الأمر العظيم - وهي الشفاعة العظمى - لا يقدر على الإقدام عليه غيره صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. قوله: ((سؤاله ربه بغير علم)) موقع سؤاله هنا موقع أكله في القرينة السابقة، وقوله: ((بغير علم)) حال من الضمير المضاف إليه في سؤاله، أي: صادراً عنه بغير علم، أو من المضاف، أي: ملتبسا بغير علم، و ((ربه)) مفعول سؤاله، والمراد بالسؤال قوله: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} طلب أن ينجيه من الغرق، والمراد من قوله: ((بغير علم)) أنه سأل ما لا يجوز سؤاله، وكان يجب عليه أن لا يسأل كما قال الله تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} وذلك أنه قال: {إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} أي: وعدتني أن تنجي أهلي من الغرق وإن ابني من أهلي فنجه، قيل له: ما شعرت من المراد بالأهل، وهو من آمن وعمل صالحاً، وابنك عمل غير صالح. ((مح)) قال المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام دليل على أنه أرسل أيضاً لم يصح أنه قبل نوح، لإخبار النبي عن آدم عليه الصلاة والسلام أن نوحاً أول رسول بعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوا، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبياً غير مرسل. قال القاضي عياض: وقد قيل: إن إدريس هو إلياس، وأنه كان نبياً في بني إسرائيل كما جاء في بعض الأخبار، فإن كان هكذا سقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما، وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفاراً، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. قال القاضي: وقد رأيت أنبا الحسن ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، وحديث أبي ذر نص دال على أن آدم وإدريس رسولان. قوله: ((ويذكر ثلاث كذبات)) قض: إحدى الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم عليه السلام قوله: {إني سقيم} وثانيها قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} وثالثها قوله لسارة: ((هي أختي)) والحق أنها معاريض، ولكن لما كانت صورتها صورة الكذب سماها ((أكاذيب)) واستنقص من نفسه لها، فإن من كان أعرف بالله وأقرب منه منزلة كان أعظم خطراً، وأشد خشية، وعلى هذا القياس سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطايا.

ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). قال: ((فيأتوني فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)). قال: ((فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء تحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..)) ((مح)) هذا مما اختلفوا في معناه، قال القاضي: المتقدم ما كان قبل النبوة، والمتأخر عصمتك بعدها. وقيل: المراد ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من سهو وتأويل - حكاه الطبري، واختاره القشيري. وقيل: ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك. وقيل: المراد أنه مغفور له غير مؤاخذ بذنب لو كان. وقيل: هو تنزيه له عن الذنوب. قوله: ((فيؤذن لي)) قال القاضي عياض: فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها، والمقام المحمود الذي ادخره الله تعالى له وأعلمه أنه سيبعثه فيه. قال القاضي: وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما: ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد سجوده وحمده والإذن له بالشفاعة بقوله: ((أمتي، أمتي)) وقوله: ((ما يبقى في النار إلا من قد حبسه القرآن)) أي: وجب عليه الخلود، وبين مسلم أن قوله: ((وجب عليه الخلود)) هو تفسير قتادة الراوي، وهذا التفسير صحيح، ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار، وهم الكفار، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد. قوله: ((فأستأذن على ربي في داره)) أي: فأستأذن في الدخول على دار ربي فيؤذن لي في الدخول عليه. تو: إضافة دار الثواب هنا إلى الله تعالى كإضافته في قوله تعالى: {لهم دار السلام} على أن السلام اسم من أسماء الله تعالى في أحد الوجهين، وإضافتها إلى الله تعالى للشرف والكرامة، والمراد بالاستئذان عليه أن يدخل مكاناً لا يقف فيه داع إلا استجيب، ولا يقوم به سائل إلا أجيب، ولم يكن بين الواقف فيه وبين ربه حجاب، والحكمة في نقل النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه ذلك إلى دار السلام لعرض الحاجة هي أن موقف العرض والحساب موقف السياسة، ولما كان من حق الشفيع أن يقوم مقام كرامة فتقع الشفاعة موقعها أرشد صلى الله عليه وسلم إلى

داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً. فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)) قال: ((فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذي لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد! وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه)) قال: ((فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع؛ فيحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من قد حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود، ثم تلا هذه الآية {عسى أن يبعثك الله مقامًا محموداً} قال: ((وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ النقلة عن موقف الخوف في القيامة إلى موقف الشفاعة والكرامة، وذلك مثل الذي يتحرى الدعاء في مواقف الخدمة ليكون أحق بالإجابة. قوله: ((فيحد لي حداً)) تو: يريد أنه يبين لي في كل طور من اطوار الشفاعة حداً أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: ((شفعتك فيمن أخل بالجماعات))، ثم يقول: ((شفعتك فيمن أخل بالصلوات)) ومثله فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى، وعلى هذا ليريه علو الشفاعة في عظم الذنب على ما فيه من الشفاعة. قوله: ((فأخرجهم من النار)) فإن قلت: دل أول الكلام على أن المستشفعين هم الذين حبسوا في الموقف وهموا وحزنوا لذلك وطلبوا أن يخلصهم من ذلك الكرب، ودل قوله: ((فأخرجهم من النار)) على أنهم من الداخلين فيها، فما وجهه؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: لعل المؤمنين صاروا فرقتين، فرقة سير بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به صلى الله عليه وسلم فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمراً بعد زمر، كما دل عليه قوله: ((فيحد لي حداً إلخ)) فاختصر الكلام، وهو من حلية التنزيل وقد ذكرنا قانوناً في فتوح الغيب في سورة هود يرجع إليه في مثل هذا الاختصار. وثانيهما: أن يراد بالنار الحبس والكرب، وما كانوا فيه من الشدة ودنو الشمس إلى رءوسهم وحرها وسفعها، وإلجامهم بالعرق، وبالخروج الخلاص منها - والله أعلم-.

5573 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك: فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع فأقول: يا! رب أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وهذا المقام)) يحتمل أن يكون فاعل قال الراوي، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التجريد [تعظيما لشأنه - والله سبحانه وتعالى أعلم -]. الحديث السادس: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لست لها)) اللام فيه مثلها في قوله تعالى: {امتحن الله قلوبهم للتقوى}، الكشاف: اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أي كائن له ومختص به. قال: أنت لها أحمد من بين البشر وعلى هذا قوله: ((أنا لها)) وقوله: ((ليس ذلك لك)). قوله: ((فيمن قال: لا اله إلا الله)) هذا يؤذن بأن ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة ثم بمثقال حبة من خردل، غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، وهو ما يوجد في القلوب من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أن يراد بالثمرة ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن ظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقوته. وأن يراد بها العمل وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه حديث أبي سعيد بعد هذا، يعني قوله: ((ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرًا قط)).

من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردلة من إيمان، فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)). متفق عليه. 5574 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ خط: حبة الخردل مثل في القلة لا في الوزن لأن الإيمان ليس بجسم يحصل به الوزن والكيل، ولكن ما يشكل في العقول يرد إلى العيار المحسوس ليعلم. قوله: ((ليس ذلك لك)) قض: أي: ليس هذا لك، وإنما أفعل ذلك تعظيماً لاسمي وإجلالاً لتوحيدي، وهو مخصوص بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة)) الحديث. ويحتمل أن يجري على عمومه ويحمل على حال ومقام آخر. أقول: إذا فسرنا ما يختص بالله تعالى بالتصديق المجرد عن الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل، وذكرنا أن ما يختص بالله تعالى بالتصديق المجرد عن الثمرة من ازدياد اليقين أة العمل، وذكرنا أن ما يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإيمان مع الثمرة من ازدياد اليقين أو العمل فلا اختلاف. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أسعد الناس)) قض: أسعد هنا بمعنى السعيد، إذ لا يسعد بشفاعته من لم يكن من أهل التوحيد، أو المراد بمن قال من لم يكن له عمل يستحق به الرحمة ويستوجب به الخلاص من النار فإن احتياجه إلى الشفاعة أكثر، وانتفاعه بها أوفر. أقول: قد سبق أن حلول شفاعته إنما هو في حق من أثمر إيمانه إما مزيد طمأنينة أو عمل، وتختلف مراتب اليقين والعمل فيكون التفضيل بحسب المراتب، ولذلك أكد خالصاً بقوله: ((من قلبه))، وقد علم أن الإخلاص معدنه ومكانه القلب، فذكر القلب ها هنا تأكيد وتقرير، كما في قوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} الكشاف: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: فإنه آثم، وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟)). قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند

5575 - وعنه، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم)). وذكر حديث الشفاعة وقال: ((فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم قال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل، تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)). ثم قال: ((والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر)). متفق عليه. 5576 - وعن حذيفة في حديث الشفاعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: خذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؟ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يوم يقوم الناس)) بدل من قوله: ((يوم القيامة)). قوله: ((إن ما بين المصراعين)) مظ: المصراعان البابان المغلقان على منفذ واحد، والمصراع مفعال من الصرع وهو الإلقاء، وإنما سمي الباب المغلق مصراعاً لأنه كثير الإلقاء والدفع. وقيل: ((هجر)) قرية من قرى المدينة، وقيل: قرية من قرى البحرين، يعني مسافة ما بين البابين كمسافة ما بين مكة وهجر – والله أعلم-. الحديث التاسع عن حذيفة رضي الله عنه، قوله: ((جنبتي الصراط)) تو: يريد بجنبتي الصراط ناحيتيه اليمنى واليسرى، يقال: جنبه وجنبته بالتحريك وجنابته وجنابتيه، والمعنى: أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة أمرهما يتمثلان هناك للأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيحاجان عن المحق الذي رعاهما، ويشهدان على المبطل الذي أضاعهما ليتميز كل منهما، وقيل: يرسل من الملائكة من يحاج لهما وعنهما، وفي الحديث حث على رعاية حقهما والاهتمام بأمرهما.

5577 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} وقال عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} فرفع يديه، فقال: ((اللهم أمتي أمتي)). وبكى فقال الله تعالى: ((يا جبريل! اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيه؟)) فأتاه جبريل ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ويمكن أن تحمل الأمانة على الأمانة العظمى، وهي ما في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} وصلة الرحم صلتها الكبرى وهي ما في قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ...} إلى قوله: {... واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} فيدخل في الحديث معنى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكأنهما اكتنفا جنبي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وقطري الإيمان والدين القويم. الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((وقال عيسى)) مح: هو مصدر يقال: قال قولاً وقالاً وقيلاً، وقد أضيف إلى عيسى عطفاً على مفعول تلا، أي: قول الله وقول عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} أقول: لعله صلى الله عليه وسلم أتى بذكر الشفاعة التي صدرت عن النبيين عن الخليل بتقدير الشرط والصيغة الشرطية، لأن المعنى أن الأصنام أضللن كثيراً من الناس، فمن تاب عن عبادتها وتبعني في التوحيد فإنه متصل بي، فاقبل شفاعتي فيهم، فلا بد من تقدير تاب لأنه مصحح الشفاعة في حق المشركين وعن روح الله كذلك، لأن الضمير في قوله: {وإن تغفر لهم} راجع إلى من اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فيكون التقدير إن تغفر لهم بعد ما تابوا عن ذلك فإنك غفور رحيم، وعقبه بقوله: ((أمتي، أمتي)) ليبين الفرق بين الشفاعتين، وبون ما بين المنزلتين، وتحريره أن قوله: ((أمتي أمتي)) متعلق بمحذوف، إما أن يقدر: ((شفعني في أمتي وأرضني فيها)) أو: ((أمتي ارحمهم .. وأرضني بالشفاعة فيهم)) والحذف لضيق المقام وشدة الاهتمام، وهذا يدل على الجزم والقطع والتكرير لمزيد التقرير، ومن ثم أجيب في الحديث: بقوله: ((أنا سنرضيك)) حيث أتى بإن وضمير التعظيم وسين التأكيد، ثم اتبعه بقوله: ((لا نسؤك)) تقريراً بعد تقرير على الطرد والعكس، وفي التنزيل: {ولسوف يعطيكك ربك فترضى} زيد لام الابتداء على حرف الاستقبال، ولفظة ((ربك)) وجمع بين حرفي التوكيد والتأخير، فيكون المعنى: ولأنت سوف يعطيك ربك وإن تأخر العطاء. وقوله: ((وربك أعلم)) من باب التتميم صيانة عما لا ينبغي أن يتوهم، فهو كقوله

فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. فقال الله لجبريل: ((اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)). رواه مسلم. 5578 - وعن أبي سعيد الخدري، أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا، يا رسول الله! قال: ((ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد. فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} في قوله تعالى: {قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} اللهم ارزقنا شفاعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم المكرم والشفيع المشفع يوم الدين، ولا تسؤه فينا بأن تحرمنا شفاعته يا رب العالمين. مح: هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد: منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه في أمرهم. ومنها: البشارة العظيمة لهذه الأمة المرحومة زادها الله شرفا بما وعده الله تعالى بقوله: ((سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة. ومنها: بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظم لطفه سبحانه وتعالى به صلى الله عليه وسلم، والحكمة في إرسال جبريل عليه السلام لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرفه وأنه بالمحل الأعلى فسترضى وتكرم. ((ولا نسوؤك)) تأكيد للمعنى، أي: لا نخزيك في حق أمتك، لما قد يتوهم أن قوله: ((سنرضيك)) قد يراد به في حق البعض بأن يعفو عنهم ويدخل الباقي في النار، فقال الله تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك حزناً بل ننجي الجميع. الحديث الحادي عشر عن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه: قوله: ((والأنصاب)) الأنصاب جمع نصب، وهي حجارة كانت تعبد من دون الله تعالى ويذبحون عليها تقرباً إلى آلهتهم، وكل ما نصب واعتقد تعظيمه من الحجر والشجر فهو نصب.

إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين قال: فماذا ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أتاهم رب العالمين)) قال الشيخ الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب الأقاويل المشهورة: قال البيهقي: قد تكلم الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله في تفسر هذا الحديث وتأويله بما فيه الكفاية، قال: إن هذا موضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخريج، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله سبحانه وتعالى بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر المجيء والإتيان غير أنا لا نكيف ذلك ولا نجعله حركة وانتقالاً كمجيء الأشخاص وإتيانهما فإن ذلك من نعوت الحدث تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ويجب أن يعلم أن الرؤية التي هي ثواب الأولياء وكرامة لهم في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم، واحتج بحديث صهيب في الرؤية بعد دخول الجنة، وإنما تعرضهم لهذه الرؤية امتحان من الله تعالى فيقع به التمييز بين من عبد الله تعالى وبين من عبد الطواغيت ليتبع كل من الفريقين معبوده، وليس ينكر أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائماً، وحكمه على الخلق جارياً حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق واستقرت أمور العباد قرارها، ألا ترى قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} وجاء في الحديث: إن المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً. قال: ويخرج معنى إتيان الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليتيقنوه، فتكون معرفتهم له في الآخرة عياناً، كما كان اعترافهم بربوبيته في الدنيا علماً واستدلالاً، ويكون طريق الرؤية بعد أن لم يكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه. قيل: ويشبه - والله أعلم - أن يكون إنما حجبهم عن تحقق الرؤية في الكرة الأولى حتى قالوا: ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا)) من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجب، فقالوا عندما رأوه: ((أنت ربنا)). قال الشيخ: والذي يوضح ما ذكره الإمام أبو سليمان أن الدنيا وإن كانت دار ابتلاء فقد يتحقق الجزاء في بعض الأحوال كما قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فهكذا الآخرة وإن كانت دار جزاء فقد يقع فيها الابتلاء، بدليل أن القبر وهو أول منزل من منازل الآخر يجري فيه الابتلاء. ثم قال: فليس معنى الخبر هذا فذاك، وإلا فمعناه ما أراد صلى الله عليه وسلم مع تنزيه الله تعالى عن كل مماثلة ومشابهة - والله أعلم -. تو: إتيان الله في الكتاب مفسر بإتيان أمره وإتيان بأسه، ولفظ التنزيل محتمل لكلا القولين، فأما هذا الحديث فإنه مؤول على إتيان أمره، وهو قوله: ((فماذا تنتظرون)) ومن السلف

تنظرون؟ يتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم)). [5578] ـــــــــــــــــــــــــــــ من يتنزه عن تأويله خشية الخطأ مع تمسكه بالعروة الوثقى وهي تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بما تتحدث به النفوس من أوصاف الخلق، وعلى هذا القول في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)) ويجوز أن يعبر عن الإتيان والمجيء عن التجليات الإلهية والتعريفات الربانية، ولا سبيل إلى القول في هذا الحديث وأمثاله إلا من أحد الطريقين: إما التأويل على النسق الذي بينا، وإما السكوت على الوجه الذي ذكرنا. ((مح)): الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر بالإتيان عن الرؤية مجازاً. وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه الله إتياناً. وقيل: المراد بالإتيان إتيان بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث، أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة من صور ملائكته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم، فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامة المخلوق ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم فيستعيذون بالله منه. أقول: قول من قال: إن الرؤية حقيقية غير أنا لا نكيف ذلك ونحيل كنه معرفتها إلى علم الله تعالى، وتفسير الإتيان بالتجليات الإلهية والتعريفات الربانية، هو القول الحق، لأن هذا الإتيان مسبوق بقوله: هل تضارون في رؤية الشمس؟ وقد أكده بقوله: بالظهيرة صحواً، وزاد في تقريره وتأكيده بقوله: ليس معها سحاب، وكذا قوله: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ... ؟ إلى آخره، فإن ليلة البدر هنا بمنزلة الظهيرة هناك، وأنت قد عرفت أن التأكيد والتقرير إنما يصار إليه لدفع توهم التجوز ورفع الخطأ والسهو، فإذا ذهبنا إلى المجاز في هذا المقام فكيف نأمن مثله في إثبات الرؤية الحقيقية في الجنة؟ ولا يذهب إلى هذا إلا من أنكر الرؤية مطلقا كالمعتزلة وأشباههم. قوله: ((فماذا تنظرون)) أي: قلنا لكم: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فبعضكم اتبع ما عبده فلم لا تتبعونهم؟ وكان من جوابهم: إنا ما تبعناهم ما دمنا في الدنيا عند أفقر أوقات كوننا محتاجين إليهم، فكيف نتبعهم الآن وهم مع ما يعبدون من دون الله حصب جهنم؟.

5579 - وفي رواية أبي هريرة: ((فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه)). وفي رواية أبي سعيد: ((فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير ـــــــــــــــــــــــــــــ فقوله: ((أفقر)) حال، و ((ما)) مصدرية، و ((الوقت)) مقدر كما سبق. مح: معناه أنهم تضرعوا إلى الله تعالى، ولجئوا إليه، وتوسلوا بهذا القول المشعر بالإخلاص إلى الخلاص، يعني: ربنا فارقنا الناس في الدنيا الذين زاغوا عن طاعتك من الأقرباء وممن يحتاج إليهم في المعاش والمصالح الدنيوية، وهكذا كان دأب الصحابة ومن بعدهم من المؤمنين في جميع الأحول والأزمان فإنهم كانوا يقاطعون من حاد الله ورسوله مع حاجتهم إليه، وآثروا رضا الله تعالى على ذلك. قوله: ((من تلقاء نفسه)) أي: من نحوها وجهتها مخلصا لا لجهة اتقاء الخلق وتعلق الرجاء بهم، وهذا أيضاً يدل على أن الرؤية هي الرؤية الحقيقية. ((مح)): وهذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده، وقد استدل بهذا، وبقوله تعالى: {يدعون إلى السجود فلا يستطيعون} على جواز تكليف ما لا يطاق. وقوله: ((طبقة واحدة)) أي: صفحة، أي: صار فقار ظهره واحدة كالصفحة، وقد يتوهم في هذا الحديث أن المنافقين يرون الله تعالى مع المؤمنين، وهو باطل، إذ ليس في الحديث تصريح برؤيتهم الله تعالى، وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الله تعالى، ثم يمتحن بالسجود، فمن سجد كان مخلصاً، ومن لم يقدر عليه كان منافقاً، وهذا لا يدل على أن المنافقين يرون الله تعالى. قوله: ((تحل الشفاعة)) أي تقع ويؤذن فيها. قوله: ((ويقولون اللهم سلم سلم)) القائلون الرسل بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذا.

وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة في الحق - قد تبين لكم - من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كأجاويد الخيل)) نه: هي جمع أجواد وأجواد جمع جواد، وهي الفرس السابق الجيد. قوله: ((فناج مسلم ....)) قسم المارة على الصراط من المؤمنين على ثلاث فرق، قسم مسلم فلا يناله شيء أصلاً، وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص، وقسم يكردس ويلقى فيسقط في جهنم، وخدش الجلد قشره بعود أو نحوه، خدشه يخدشه خدشاً. مح: ((مكدوس)) بالسين المهملة هكذا هو في الأصول، وكذا نقله القاضي عياض عن أكثر الرواة، قال: ورواه العذري بالشين المعجمة، ومعناه بالمعجمة السوق الشديد، وبالمهملة كون الأشياء بعضها راكبة على بعض، ومنه تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضاً. مح: ((مكدوس في النار)) أي: جمعت يداه ورجلاه وألقي فيها. قوله: ((حتى إذا خلص)) ((حتى)) غاية قوله: ((ومكدوس في نار جهنم)) أي: يبقى المكدوس في النار حتى يخلص بعد العذاب بمقدار ذنبه، أو بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بفضل الله تعالى، ووضع المؤمنون في موضع الراجع إلى المكدوس إشعاراً بالعلية وأن صفة الإيمان منافية للخلود في النار. قوله: ((ما من أحد منكم)) خطاب للمؤمنين. قوله: ((بأشد)) خبر. و ((مناشدة)) منصوب على التمييز. و ((في الحق)) ظرف له. و ((قد تبين)) حال إما من الضمير في أشد، وإما من الحق. و ((من المؤمنين)) متعلق أفعل، أي: بأشد مناشدة منكم، فوضع المظهر موضع المضمر. و ((الله)) متعلق بمناشدة. مح: معناه ما منكم من أحد يناشد الله في الدنيا في استيفاء حقه واستقصائه وتحصيله من جهة خصمه والمعتدي عليه بأشد منكم مناشدة لله تعالى في الشفاعة لإخوانكم يوم القيامة - انتهى كلامه -. وقوله: ((يقولون: ربنا كانوا يصومون)) بيان لمناشدتهم في الآخرة.

عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا! ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دنيار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا ًكثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لم نذر فيها خيراً)) أي: من كان فيه شيء من ثمرات الإيمان، من ازدياد اليقين والعمل الصالح، فوضع الخير موضع الذات كما يوضع العدل موضعه مبالغة. ((مح)) قال القاضي عياض: قيل: معنى الخير هنا اليقين. قال: والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان، لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزؤ بشيء زائد عليه من عمل صالح أو ذكر خفي أو عمل من أعمال القلب من الشفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى ونية صادقة. قوله: ((فيقبض قبضة من النار)) هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم تؤذن فيهم الشفاعة، وتفرد الله تعالى بعلم ما تكنه القلوب بالرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان، وفيه دليل: على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته نية، وعلى: زيادة الإيمان ونقصانه وهو مذهب أهل السنة. والحمم: جمع حمة وهي الفحمة. وعاد: بمعنى صار، ومنه حديث كعب: ((وددت أن يعود هذا اللبن قطراناً) أي يصير. و ((أفواه)) جمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة، وهو جمع سمع من العرب على غير قياس، وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها. قوله: ((كما تخرج الحبة)) ((حس)): الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء، اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت الريح، ثم إذا أمطرت من قابل نبتت. وقال الكسائي: هي حب الرياحين، فأما الحنطة ونحوها فهي الحب لا غير، والحبة من العنب فبالفتح.

فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير قدموه، فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه)). متفق عليه. 5580 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا، وعادوا حمماً، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تروا أنها تخرج صفراء ملتوية)). متفق عليه. 5581 - وعن أبي هريرة، أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر معنى حديث أبي سعيد غير كشف الساق وقال: ((يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، لا ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((حميل السيل)): هو ما يحمله السيل من غثاء أو طين، فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل نبتت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتاً. مح: وإنما شبه بها لسرعة نباته وحسنه وطراوته. قوله: ((في رقابهم الخواتيم)) قال صاحب التحرير: المراد بالخواتيم هنا أشياء من ذهب أو غيره تعلق في أعناقهم يعرفون بها. قوله: ((لكم ما رأيتم)) فيه حذف، أي: ينظرون في الجنة إلى أشياء ينتهي إليها بصرهم، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه. الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((قد امتحشوا)) جملة حالية، ((مح)) هو بفتح التاء المثناة، والحاء المهملة، والشين المعجمة هكذا هو في الروايات وبه ضبطه الخطابي والهروي، ونقله القاضي عياض عن شيوخه، ومعناه احترقوا، قال القاضي عياض: ورواه بعض شيوخنا بضم التاء وكسر الحاء. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه. قوله: ((كلاليب)) هي جمع كلوب، وهي حديدة معقوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور. و ((السعدان)) بفتح السين نبت له شوكة عظيمة يقال له: حسيكة.

يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((تخطفهم)) يروى بفتح الطاء وكسرها أو تخطفهم بسبب أعمالهم القبيحة أو بحسب أعمالهم. قوله: ((فمنهم من يوبق بعمله)) نه: وبق يبق، ووبق يوبق إذا هلك، وأوبق غيره فهو موبق أيك مهلك. والمخردل: المتقطع تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوى في النار، يقال: خردلت اللحم بالدال والذال، أي: فصلت أعضائه وقطعته - انتهى كلامه -. والفاء في قوله: ((فمنهم)) تفصيل للناس الذين تخطفهم الكلاليب بحسب أعمالهم، فالكافر يوبق، والمؤمن العاصي إما مخدوش مرسل أو مدوس مخردل في نار جهنم ثم ينجو. و ((حتى إذا فرغ الله)) غاية قوله: ((يخردل)) ونحوه سبق في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون. وقوله: ((ثم ينجو)) كالمجمل للتفصيل لأن المضارع قد يراد منه الاستمرار والتكرير. قوله: ((إلا أثر السجود)) أي: إلا موضع أثر السجود. مح: ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان. وقال القاضي عياض: المراد بأثر السجود الجبهة خاصة. والمختار الأول. و ((قشبني)) أي: سمني وآذاني وأهلكني، وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي. و ((ذكاؤها)) بالمد وفتح الذال المعجمة، وكذا وقع في جميع روايات الحديث أي: لهبها

فيقول: هل عسيت إن أفعل ذلك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك، فيعطي الله ما شاء الله من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة ورأي بهجتها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم قال: يا رب! قدمني عند باب الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت. فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها فرأي زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة فيقول الله تبارك ـــــــــــــــــــــــــــــ واشتعالها وشدة وهجها، والأشهر في اللغة مقصورة وقيل: إن القصر والمد لغتان، يقال: ذكت النار تذكو إذا اشتعلت، وأذكيتها أنا. قوله: ((أن تسأل غير ذلك)) خبر عسى، و ((إن أفعل ذلك)) معترض بينهما، والمعنى: هل يتوقع منك السؤال؟ فإن قلت: كيف يصح هذا من الله تعالى وهو عالم بما كان وما يكون؟ قلت: معناه أنكم يا بني آدم لما عهد منكم من رخاوة الوعد ونقص العهد أحقاء بأن يقال لكم: يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم ذلك أم لا؟ وحاصله أن معنى عسى راجع إلى المخاطب لا إلى الله تعالى: وهو من باب إرخاء العنان وبعث المخاطب على التفكر في أمره وشأنه لينصف من نفسه ويذعن للحق. والبهجة: الحسن والنضارة، وبهجة الجنة حسنها وحسن ما فيها من النعيم، يقال بهج الشيء يبهج فهو بهيج، ويهج به بالكسر إذا فرح به وسر. قوله: ((لا أكون أشقى خلقك)) فإذا قلت: كيف طابق هذا الجواب قوله: ((أليس قد أعطيت العهود والميثاق؟)). قلت: كأنه قال: يا رب بلى أعطيت العهود والميثاق، ولكن تأملت في كرمك وعفوك ورحمتك وقولك: {لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}. فوقفت على أني لست من الكفار الذين أيسوا من رحمتك، وطمعت في كرمك وسعة رحمتك، فسألت ذلك، وكأنه تعالى رضي عنه بهذا القول فضحك. قوله: ((فسكت)) كذا في صحيح البخاري وأكثر نسخ المصابيح، فعلى هذا جواب ((إذا))

وتعالى: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت. فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك أذن له في دخول الجنة، فيقول: تمن، فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله تعالى: تمن من كذا وكذا، أقبل يذكره ربه، حتى إذا انتهت به الأماني قال الله: لك ذلك ومثله معه)). وفي رواية أبي سعيد: ((قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله)). متفق عليه. 5582 - وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل، يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاؤوها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين فترفع ـــــــــــــــــــــــــــــ محذوف، والمعنى: إذا بلغ ورأي ما رأي تحير فسكت، ونظيره قوله تعالى: ((وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)). قوله: ((تمن من كذا)) خط: ((من)) فيه للبيان، يعني تمن من كل جنس ما تشتهي منه. أقول: نحوه {يغفر لكم ذنوبكم} ويحتمل أن تكون زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش. قوله: ((أقبل يذكره ربه)) بدل من الجملة السابقة على سبيل البيان، و ((ربه)) تنازع فيه العاملان. الحديث الرابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((فهو يمشي)) الفاء يجوز أن تكون تفصيلية، أبهم أولا دخوله في الجنة ثم فصل كيفية دخوله فيها ثانياً، وأن تكون لتعقيب الأخبار، وأن تقدم ما بعدها على ما قبلها في الوجود فوقعت موقع ثم في هذا المعنى، كأنه قيل: أخبركم عقيب هذا القول حاله في المشي قبل دخوله إلى الجنة. وقوله: ((لقد أعطاني)) جواب قسم محذوف، أي أقسم من الفرح أن نجاته نعمه ما ظفر بها أحد من العالمين. و ((تسفعه النار)) أي أعلمت في وجهه علامة، يقال: سفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة، يريد أثراً من النار.

له شجرةٌ فيقول: أي رب! أدْنني من هذه الشجرة فلأ ستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا بن آدم! لعلي إِن أَعطيتُكها سألتني غيرَها؟ فيقول: لا يارب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى مالا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها، وأستظل بظلها لا أسألكَ غيرها. فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! فيقول: لعلي إِن أدنيتُك منها تسألني غيرَها؟ فيُعَاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيهِ منها ـــــــــــــــــــــــــــــ والفاء في قوله: ((فلأستظل)) سببية، واللام مزيدة للتأكيد أو عكسه. قوله: ((هذه)) منصوبة المحل بالفعل يفسره ما بعده، أي: هذه أسألك ولا أسألك غيرها. وقوله: ((لا أسألك غيرها)) حال أو استئناف. و ((يعذره)) أي جعله معذورًا، نه: قد تكون ((أعذر)) بمعنى عذر، ومنه حديث المقداد: ((لقد أعذر الله إليك)) أي أعذرك وجعلك موضع العذر فأسقط عنك الجهاد. وقوله: ((لا أسألك غيرها)) حال تنازع فيه: أستظل وأشرب. قوله: ((سألتني)) جواب الشرط، وهو دال على خبر لعل. قوله: ((ما يصريني)) نه: وفي رواية: ((ما يصريك مني)) أي ما يقطع مسألتك ويمنعك من سؤالي، يقال: صريت الشيء إذا قطعته، وصريت الماء وصريته إذا جمعته وحبسته. تو: صرى الله عنه شره إذا رفع، وصريته منعته، وصريت ما بينهم صريًا أي فصلت، يقال: اختصمنا إلى الحاكم فصرى ما بيننا، أي قطع ما بيننا وفصل، وحسن أن يقال: ما يفصل بيني وبينك، أي ما الذي يرضيك حتى تترك مناشدتك والمعنى أنى أجبتك إلى مسألتك كرة بعد أخرى وأخذت ميثاقك أن لا تعود ولا تسأل غيره وأنت لا تفي بذلك، فما الذي يفصل بيني وبينك في هذه القضية، ويكون على وجه المجاز والاتساع والمبتغى منه التوقيف على فضل الله ورحمته وكرمه وبره بعباده حتى أنه يخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على الاستزادة، وقال الشيخ: وفي المصابيح: ((ما يصريني منك)) وهو غلط، والصواب: ((ما يصريك مني)) كذا رواه المتقنون من أهل الرواية، ((مظ)): يمكن أن يحمل على القلب فأصله: ما يصريك مني، وقلب للعلم به، والقلب شائع في كلامهم ذائع في استعمالهم. أقول: ((الرواية صحيحة والمعنى صحيح على سبيل الكناية.

فيستظلُّ بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرةٌ عند باب الجنة هي أحسنُ من الأوليَين، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه فلأستظلَّ بظلِّها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! قال: بلى يارب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقولُ: أي ربِّ! أدخلنيها فيقول: يا بن آدم! ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها. قال: أي ربِّ! أتستهزئ مني وأنت ربّ العالمين؟ فضحك ابنُ مسعودٍ، فقال: ألا تسألوني مم ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: ((يصريني)) يفتح الياء وإسكان الصاد المهملة كذا في صحيح مسلم، وروى في غير مسلم: ((ما يصريك مني)) قال إبراهيم الحربي: هو الصواب وأنكر الرواية الأولى التي في صحيح مسلم وغيره، وليس كما قال، بل كلاهما صحيح، وإن السائل متى انقطع عن المسئول انقطع المسئول عنه، والمعنى: أي شيء يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك - انتهى كلامه - وكأن هذا من توارد الخواطر كوقع الحافر على الحافر. وقوله: ((أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟)): وارد من القائل على سبيل الفرح والاستبشار. مح: قال القاضي عياض: هذا الكلام صادر عنه وهو غير ضابط لما قال من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشة وفرحًا، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، ونحوه حديث التوبة قول الرجل عند وجدان زاده مع راحلته من شدة الفرح: ((أنت عبدي وأنا ربك)). تو: الضحك من الله تعالى ومن رسوله وإن كانا متفقين في اللفظ فإنهما متباينان في المعنى، وذلك أن الضحك من الله سبحانه يحمل على كمال الرضا عن العبد، وإرادة الخير ممن يشاء أن يرحمه من عباده. قض: وإنما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجابًا وسرورًا بما رأي من كمال رحمة الله ولطفه على عبده المذنب وكمال الرضا عنه، وأما ضحك ابن مسعود فكان اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: ((هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم)). قوله: ((ولكني على ما أشاء قادر)) فإن قلت: لم استدركه؟. قلت: ((عن مقدر فإنه تعالى لما قال له: ((أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟)) فاستبعده العبد لما رأي أنه ليس أهلا لذلك وقال: أتستهزئ بي؟ قال سبحانه وتعالى: نعم كنت لست أهلا له لكني أجعلك أهلا لها وأعطيك ما استبعدته لأني على ما أشاء قادر قدير.

أضحك، فقالوا: ممَّ تضحكُ؟ فقال: هكذا ضحكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ممَّ تضحكُ يا رسول الله؟ قال: ((من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير)). رواه مسلم. 5583 - وفي رواية له عن أبي سعيد نحوه، إلا أنه لم يذكر ((فيقولُ: يا بن آدم! ما يصريني منك؟)) إلى آخر الحديث وزاد فيه: ((ويذكره الله: سل كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فيقولان: الحمد لله الذى أحياك لنا وأحيانا لك. قال: فيقول: ما أعطى أحدٌ مثل ما أُعطيت)). 5584 - وعن أنسٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليصيبن أقوامًا سفعٌ من النار بذنوبٍ أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته فيقال لهم: الجهنميون)). رواه البخاري. 5585 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرجُ أقوامٌ من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنَّة ويُسمَّون الجهنميين)). رواه البخاري. وفي رواية: ((يخرج قوم من أُمَّتي من النَّار بشفاعتي، يسمَّون الجهنميين)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((زوجتاه)) مح: بالتاء تثنية زوجة هكذا ثبت في الروايات والأصول، وهي لغة صحيحة معروفة. ((الحمد لله الذى أحياك لنا وأحيانا لك)) معناه خلقك لنا وخلقنا لك، وضع أحيا موضع خلق إشعارًا بالخلود، وأنه تعالى جمع بينهما في هذه الدار التي لا موت فيها، وأنها دائمة السرور والحياة، قال الله تعالى: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}. والله أعلم. الحديث الخامس عشر والسادس عشر عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((يسمون الجهنميين)) ليست التسمية بها تنقيصًا لهم بل استذكارًا، ليزيدوا فرحًا على فرح، وابتهاجًا على ابتهاج، ولأن يكون ذلك علمًا لكونهم عتقاء الله تعالى، ونحوه ما سبق في حديث أبي سعيد: ((فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل)).

5586 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولا، رجلٌ يخرج من النار حبوًا. فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيُخيل إليه أنها ملأي فيقول: يارب! وجدتها ملأي. فيقول الله: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. فيقول: أتسخر مني - أو تضحك مني - وأنت الملكُ؟! ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهلِ الجنة منزلة. متفق عليه. 5587 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل الجنَّةِ دُخولا الجنةَ، وآخر أهل النار خُروجًا منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغارا ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم لا يستطع أن ينكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كل سيئة حسنةً. فيقول: ربِّ قد عملت أشياء لا أراها هاهنا)) وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذُه. رواه مسلم. 5588 - وعن أنسٍ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرجُ من النار أربعةٌ، فيُعرضون ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عشر إلى التاسع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يخرج من النار أربعة)) لعل هذا الخروج - والله أعلم - بعد الورود المعنى بقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها}. وقيل: معنى الورود الدخول فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، وإليه الإشارة بقوله في الحديث الذي يليه: ((يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم)) فذكر من الأربعة واحدًا وحكم عليه بالنجاة وترك الثلاثة اعتمادًا على المذكور لأن العلة متحدة في الإخراج من النار والنجاة منها، ولأن الكافر لا خروج له البتة فيدخل مرة أخرى، ولهذا قال: ((حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)) ونحوه في الأسلوب - وهو أن يراد أشياء ويذكر بعضها ويترك بعضها - قوله تعالى: {فيه

على الله، ثم يؤمرُ بهم إلى النار، فيلتفتُ أحدهم فيقول: أي رب! لقد كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن لا تُعيدني فيها)) قال: ((فيُنجيه الله منها)). رواه مسلم. 5589 - وعن أبي سعيد [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخلصُ المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذنَ لهم في دخول الجنة، فو الذى نفسُ محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا)). رواه البخاري. 5590 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلُ أحدٌ الجنة إلا أُري مقعده من النارِ لو أساءَ ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحدٌ إلا أُري مقعده منَ الجنةِ لو أحسن ليكونَ عليه حسرةً)). رواه البخاري. 5591 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} جمع الآيات وفصلها بآيتين إحداهما قوله تعالى: {مقام إبراهيم} وثانيهما: {من دخله كان آمنا} – الكشاف - ذُكرَ هاتان الآيتان وطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، ونحوه في طي الذكر قول جرير: كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها الحديث العشرون عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((إذا هذبوا)) الجوهري: التهذيب كالتنقية، ورجل مهذب أي مطهر الأخلاق، فعلى هذا قوله: ((ونقوا)) تفسير لقوله: ((هذبوا)) وأدخل واو العطف بين المفسر والمفسر. ((أهدى بمنزله في الجنة)) هدى لا يتعدى بالباء بل باللام وإلى فالوجه أن يضمن معنى اللصوق، أي ألصق بمنزله هاديًا إليه، وفي معناه قوله تعالى: {يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} أي يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، فجعل {تجرى من تحتهم الأنهار} بيانًا له وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((جيء

الجنة، وأهل النار إلى النار؛ جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثمَّ يذبحُ، ثمَّ يُنادى مُناد: يا أهلَ الجنةِ! لا موت ويا أهل النار! لا موتَ. فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزُنًا إلى حزنهم)) متفق عليه. الفصل الثاني 5592 - عن ثوبانَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضي من عدنَ إلى عمَّان البلقاء، ماؤهُ أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابُه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا فقراء المهاجرين الشعث رءوسًا، الدنسُ ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا يفتح لهم السُّدَدُ)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5592] ـــــــــــــــــــــــــــــ بالموت)) تو: المراد منه أن يمثل لهم ذلك على المثال الذي ذكره في غير هذه الرواية: ((يؤتى بالموت ككبش أعين ....)) الحديث وذلك ليشاهدوه بأعينهم فضلا أن يدركوه ببصائرهم، والمعاني إذا ارتفعت عن مدارك الأفهام واستعلت عن معارج النفوس لكبر شأنها صيغت لها قوالب من عالم الحس حتى تتصور في القلوب وتستقر في النفوس، ثم إن المعاني في الدار الآخرة تنكشف للناظر انكشاف الصور في هذه الدار الفانية، هذا وأما إذا أحببنا أن نؤثر الإقدام في سبيل لا معلم بها لأحد فاكتفينا بالمرور عن الإلمام. الفصل الثاني الحديث الأول عن ثوبان رضي الله عنه: قوله: ((إلى عمان البلقاء)) البلقاء مدينة بالشام. حس: عمان بفتح العين وتشديد الميم، موضع بالشام، وبضم العين وتخفيف الميم موضع بالبحرين. قوله: ((وأكوابه)) جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له. ((والسدد)) الأبواب، والواحد سدة سمي بذلك لأن المدخل يسد به.

5593 - وعن زيد بن أرقم، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلا، فقال: ((ما أنتم جزءٌ من مائة ألف جزء ممن يردُ عليَّ الحَوضَ)). قيل: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة. رواه أبو داود. [5593] 5594 - وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذ لكل نبي حوضًا، وإنهم ليتباهون أيُّهم أكثر واردةً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردةً)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5594] 5595 - وعن أنسٍ، قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال: ((أنا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثالث عن سمرة رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل نبي حوضًا)) يجوز أن يحمل على ظاهره فيدل على أن لكل نبي حوضًا، وأن يحمل على المجاز ويراد به العلم والهدى، ونحوه قوله: ((ومنبري على حوضي)) في وجه، وإليه يلمح قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)). وقوله: ((أيهم أكثر واردة)) أي ناظرين أيهم أكثر أمة واردة. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأين أطلبك؟)) أي في أي موطن من المواطن التي أحتاج إلى شفاعتك أطلبك، لتخلصني من تلك الورطة؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم: ((على الصراط وعند الميزان والحوض)) أي أنت في أفقر أوقاتك إلى شفاعتي في هذه المواطن، فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وحديث عائشة رضي الله عنها في الفصل الثاني من باب الحساب: ((فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدًا؟)). قلت: جوابه لعائشة رضي الله عنها بذلك لئلا تتكل على كونها حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي هريرة لئلا ييأس.

فاعل)). قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ قال: ((اطلبني أوَّل ما تطلبُني على الصراط)) قلتُ: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: ((فاطلبني عند الميزان)) قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: ((فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطيء هذه الثلاث المواطن)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5595] 5596 - وعن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قيل له: ما المقامُ المحمودُ؟ قال: ((ذلك يومٌ ينزلُ الله تعالى على كرسيه فيئطُّ كما يئطُّ الرحلُ الجديد من تضايقه ـــــــــــــــــــــــــــــ ((أول ما تطلبني)) ما: مصدرية، وأول: نصبه على المصدر، أي اطلبني أول طلب. و ((الثلاث)) روي على صيغة التذكير والتأنيث، والتذكير ظاهر، وأما التأنيث فباعتبار البقعة. الحديث الخامس عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ذلك اليوم ينزل الله تعالى على كرسيه)) فإن قيل: كيف وجه المطابقة بين السؤال والجواب؟ قلت: ما دل على الجواب هو قوله: ((ثم أقوم على يمين الله)) أي المقام الذى فيه قيامي على يمين الله، فلما أراد أن يفخم ويعظم شأنه أتى في مقدمة الجواب باسم الإشارة الدال على بعده منزلة ثم أخبر عنه بقوله: ((يوم)) ونكره تنكير تهويل، ثم وصفه بما يشتمل على عظمة شأنه عز اسمه وجل سلطانه من أخذ الزبدة من المجموع، من غير نظر إلى مفردات الكلام في جهة من جهتي الحقيقة والمجاز، على مامر في الحديث الرابع من الفصل الأول في باب النفخ في الصور، فأطنب في بيانه ثم أدرج فيه ما سيق الكلام لأجله من قوله: ((ثم أقوم على يمين الله مقامًا)) هذا على سبيل الكناية الإيمائية، وأما على سبيل المجاز، والاستعارة التمثيلية فهو ما أشار إليه بقوله مثل التجلي لعباده بنعت العظمة والكبرياء، والإقبال عليهم للعدل والقضاء، وإدناء المقربين منهم على حسب مراتبهم، وكشف الحجاب فيما بينه وبينهم بنزول السلطان من غرف القصر إلى صدر الدار، وجلوسه على كرسي الملك للحكومة والفصل، وإقامة خواصه وأهل كرامته حواليه قدامًا ووراء ويمينًا وشمالا على تفاوت مراتبهم لديه. وقوله: ((فيئط كما يئط الرحل)) مبالغة وتصويرًا لعظمة التجلي على طريقة الترشيح. والريطة: الملاءة الرقيقة من الكتان التي لا تكون لفقتين يؤتى بها من الشام، وجمعها رياط. أقول: وقوله: ((وهو كسعة)) حال، أو معترضة جيء بها دفعًا لتوهم من يتوهم أن أطيط

به وهو كسعةِ ما بين السماء والأرض، ويُجاءُ بكم حُفاةٌ عُرَاةً غُرلا، فيكون أول من يُكسى إبراهيم يقول الله تعالى: اكسوا خليلي، فيؤتى بريطتيْنِ بيضاوين من رياط الجنَّة، ثم أُكْسَى على أثره، ثم أقومُ عن يمين الله مقامًا يغبطنى الأولون والآخرون)). رواه الدارمي. [5596] ـــــــــــــــــــــــــــــ الكرسي للضيق بسبب تشبيهه بالرحل في الأطيط فقال: ((وهو كسعة ما بين السماء والأرض)). دفعًا لهذا التوهم، وهو من قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض}. فإن قلت: لفظ الحديث غير مطابق للفظ الآية فكيف شبهه به؟. قلت: هذا تمثيل لسعة الكرسي وتصوير لتعظيمه بحسب العرف لا بحسب المقدار فإن الكرسي أوسع منهما عند التحقيق، ونحوه: {جنة عرضها السماوات والأرض} لأن أدنى مرتبة أهل الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها، ومنه بحسب المدة قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض}. في وجه. قوله: ((أول من يكسى إبراهيم)) في بعض النسخ برفع أول ونصب إبراهيم وفي بعضها على العكس، فعلى الثاني فيه تقديم وتأخير كما في قوله تعالى: {إن خير من استأجرت القوى الأمين} وقد سبق بيانه، وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على ما سوى الله تعالى من الموجودات، وحيازته قصب السبق من بين السابق واللاحق من الملائكة والثقلين، وكفي بالشاهد شهيدًا على أن الملك الأعظم إذا ضرب سرادق الجلال لقضاء شئون العباد وجمع أساطين دولته وأشراف مملكته وجلس على سرير ملكه، فلا يخفي أن من يكون على يمينه هو أولى بالقرب وأحق أن يغتبط منه. وأما كسوة إبراهيم قبلة صلى الله عليه وسلم فلا يدل على تفضيله عليه بل على فضله، وأنه إنما قدم كسوته على كسوة مثل من يغتبطه الأولون والآخرون إظهارًا لفضله ومكانته، ونحوه قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله ...} إلى قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك ...} الآية. الكشاف: في ((ثم)) هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة، وأجل ما أوتى من النعمة، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله تعالى عليه بها.

5597 - وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شعار المؤمنين يوم القيامة على الصراط: رب سلِّم سلم)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5597] 5598 - وعن أنسٍ، أذنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)). رواه الترمذي، وأبو داود. [5598] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن المغيرة رضي الله عنه: قوله: ((شعار المؤمنين)) أي: علامتهم التي يتعارفون بها مقتديا كل أمة برسولهم في قوله: ((اللهم سلم سلم)). الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((شفاعتي لأهل الكبائر)) مح: قال القاضي: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا ووجوبها سمعًا بصريح قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذهبهم في تخليد المذنبين في النار بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وبقوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}، وأجيب أن الآيتين في الكافرين، والمراد بالظلم الشرك، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها مختصة بزيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. أقسام الشفاعة والشفاعة خمسة أقسام، أولها: مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه أيضًا وردت في نبينا صلى الله عليه وسلم. الثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم ممن يشاء الله تعالى.

5599 - ورواه ابن ماجه عن جابر [5599] 5600 - وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني آت من عند ربي فخيَّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)). رواه الترمذي، وابن ماجه. [5600] 5601 - وعن عبد الله بن أبي الجدعاء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدخلُ الجنَّةَ بشفاعة رجلٍ من أمتي أكثر من بني تميم)) رواه الترمذي، والدرامي وابن ماجه. [5601] 5602 - وعن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((إنَّ من أمتي من يشفعُ للفئام ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعُصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة)) رواه الترمذي [5602] ـــــــــــــــــــــــــــــ الرابعة: الشفاعة فيمن يدخل النار من المذنبين، فقد جاءت الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال: ((لا إله إلا الله)) الخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وهذه لا ننكرها أيضًا. أقول: معنى الحديث الذي نحن بصدده: أن شفاعتي التي تنجي الهالكين مختصة بأهل الكبائر. الحديث الثامن إلى العاشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((للفئام)) الجوهري: الفئام الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه، والعامة تقول: ((فيام)) بلا همز. وقوله: ((حتى يدخلوا)) يحتمل أن يكون غاية يشفع، والضمير لجميع الأمة، أي تنتهي شفاعتهم إلى أن يدخلوا جميعهم في الجنة. ويجوز أن يكون بمعنى ((كي)).

5603 - وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل وعَدَني أن يدخل الجنةَ من أمتي أربعمائة ألف بلا حساب)) فقال أبو بكر، زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا، فحثا بكفيه وجمعهما، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا فقال عمر: دعنا يا أبا بكر! فقال أبو بكر: وما عليك أن يُدخلنا الله كلَّنا الجنة؟ فقال عمر: إنَّ الله عز وجل إن شاء أن يُدْخِلَ خلقه الجنَّةَ بكف واحد فعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق عمر)) رواه في ((شرح السنة)). [5603] 5604 - وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يصف أهل النار، فيمرُّ بهم الرجلُ من أهل الجنة، فيقول الرجل منهم: يا فلان! أما تعرفني؟ أنا الذي سقيتك شربةً. وقال بعضهم: أنا الذى وهبت لك وضوءًا، فيشفع له فيدخله الجنة)). رواه ابن ماجه. [5604] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((زدنا يا رسول الله)) أي زدنا في الإخبار عما وعدك ربك من إدخال الجنة بشفاعتك، يدل على هذا التأويل حديث أبي أمامة فقال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا وثلاث حثيات من حثيات ربي)). تو: إنما ضرب بالمثل الحثيات لأن من شأن المعطي إذا استزيد أن يحثي بكفيه من غير حساب، وربما ناوله ملء كف، وإنما لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بمثل كلام عمر رضي الله عنه لأنه وجد في البشارات في ذلك مدخلا، فإن الله ينجى خلقه من عذابه بشفاعة الشافعين الفوج بعد الفوج، والقبيل بعد القبيل، ثم يخلص من قصر عنه شفاعة الشافعين بفضل رحمته، وهم الذين سلم لهم الإيمان، ولم يعملوا خيرًا قط، على ما مرَّ في الحديث. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أنا الذي سقيتك)) مظ: فيه تحريض على الإحسان إلى المسلمين لاسيما مع الصلحاء، والمجالسة معهم ومحبتهم، فإن محبتهم زين في الدنيا ونور في الآخرة. والوضوء: بفتح الواو، الماء الذي يتوضأ منه. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((أن تنظلقا فتلقيا)) خبر إن فإن قلت: كيف يجوز حمل الانطلاق إلى النار وإلقاء النفس فيها على الرحمة؟

5605 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجلين ممَّن دخل النار اشتد صياحهما، فقال الربُّ تعالى: أخرجوهما. فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحُكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا. قال: فإنَّ رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، فيُلْقي أحدهما نفسه، فيجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر، فلا يُلقي نفسه، فيقول له الرب تعالى: ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب! إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها. فيقول له الرب تعالى: لك رجاؤك فيدحلان جميعًا الجنة برحمة الله)). رواه الترمذي. [5605] 5606 - وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يردُ الناسُ النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرجلِ، ثم كمشيه)). رواه الترمذي، والدارمي. [5606] ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: هذا من حمل السبب على المسبب، وتحقيقه أنهما لما فرطا في جنب الله وقصرا في العاجلة في امتثال أمره، أمرا هنالك بالامتثال في إلقاء أنفسهما في النار إيذانًا بأن الرحمة إنما هي مترتبة على امتثال أمر الله عز وجل. الحديث الرابع عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((يرد الناس)) تو: الورود لغة قصد الماء ثم يستعمل في غيره، والمراد هنا الجواز على جسر جهنم، وقد بينه بما بعده من قوله: ((فأولهم كلمح البرق ...)) إلى تمام الحديث، وإنما سماه ورودًا لأن المارة على الصراط يشاهدون النار ويحضرونها، تقول: وردت ماء كذا، إذا حضرته وإن لم تشرع فيه. ومعنى قوله: ((يصدرون منها)) أي ينصرفون عنها، فإن الصدر إذا عدى بمن اقتضى الانصراف على الاتساع، ومعناه النجاة منها بأعمالهم إذ ليس هناك انصراف وإنما هو المرور عليها، فوضع الصدر موضع النجاة منها للمناسبة التي بين الصدر والورود. أقول: ثم في قوله: ((ثم يصدرون)) مثلها في قوله تعالى: {ثم ننجى الذين اتقوا} في أنها للتراخي في الرتبة لا الزمان. بين الله تعالى التفاوت بين ورود الناس النار وبين نجاة المتقين منها، لذلك بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاوت بين ورود الناس النار وبين صدورهم منها على أن المواد بالصدور الانصراف، ولهذا عدى بمن ولم يعد بعن. والحضر: بضم الحاء وسكون الضاد، العدو الشديد.

الفصل الثالث 5607 - عن ابن عمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أمامكم حوضي، ما بين جنبيه كما بين جرباء، وأذرح)) قال بعض الرواة: هما قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال. وفي رواية: ((فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا)). متفق عليه. 5608 - 5609 - * وعن حذيفة وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجمعُ الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تُزلفَ لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لستُ بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله)) قال: ((فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمة الله تكليما، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست يصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذَنُ له، وتُرْسل الأمانةُ والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالا، فيمرُّ أوَّلكم كالبرق)). قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أيُّ شيء كمر البرق؟ قال: ((ألم تروا إلى البرقِ كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين. ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشدِّ الرِّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: يارب! ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثم كراكب في رحله)) أي الراكب على راحلته، وعداه بفي لتمكنه من السير، والشد: العدو. الفصل الثالث الحديث الأول والثاني عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((استفتح لنا الجنة)) أي اطلب أن يفتح لنا باب الجنة حتى ندخلها. قوله: ((من وراء)) مح: المشهور الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز في العربية بناؤهما على الضم. قال أبو البقاء. الصواب الضم فيهما، لأن تقديره من وراء ذلك. قال: وإن صح الفتح قبل. وقال الشيخ أبو عبد الله: الفتح صحيح وتكون الكلمة مركبة كشذر مذر، وشغر بغر، فبناؤهما على الفتح، وإن ورد منصوبًا منونًا جاز.

سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلاَّ زحفًا)). وقال: ((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقةٌ مأمورة، تأخذ من أُمرت به، فمخدوش ناج، ومكردسٌ في النار)). والذي نفسُ أبي هريرة بيده إن قَعر جهنم لسبعين خريفًا. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال صاحب التحرير: هذا وارد على سبيل التواضع، أي لست بصدد تلك الدرجة الرفيعة، ومعناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بواسطة سفارة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى عليه الصلاة والسلام فإنه حصل له الكلام بغير واسطة، وإنما كرر لأن نبينا صلى الله عليه وسلم حصل له السماع بغير واسطة، وحصل له الرؤية أيضًا، فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم. وإرسال الأمانة والرحم لعظم أمرهما وكبر موقعهما فتصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أنهما يقومان ليطالبا كل من يريد الجواز على الصراط بحقهما، فمن وفي بحقهما يعاوناه على الجواز على الصراط وإلا تركاه. قوله: ((أي شيء كمر البرق)) أي ما الذي شبه من المارين بمر البرق. وقوله: ((ألم تروا أن البرق)) بيان لما شبهوا به البرق وهو سرعة اللمعان، يعنى سرعة مرورهم على الصراط كسرعة لمعان البرق، كأنه استبعد أن يكون في الإنسان ما يشبه البرق في السرعة فسأله عن أمر آخر وهو المشبه، فأجاب بأن ذلك غير مستبعد وليس بمستنكر أن يمنحهم الله تعالى ذلك بسبب أعمالهم الحسنة، ألا ترى كيف أسند الجريان إلى الأعمال في قوله: ((تجرى بهم أعمالهم)) أي تجرى وهي ملتبسة بهم، لقوله تعالى: {وهي تجرى بهم في موج كالجبال} ويجوز أن تكون الباء فيه للتعدية، ويؤيد الوجه الأول قوله: ((حتى تعجز أعمال العباد)) وقوله: ((حتى يجيء الرجل)) بدل من قوله ((حتى تعجز)) وتوضيح له. قوله: ((لسبعين خريفًا)) مح: في بعض الأصول ((لسبعون)) بالواو وهو ظاهر، وفيه حذف، أي مسافة قعر جهنم مسيرة سبعين خريفًا، وفي معظم الأصول والروايات ((لسبعين)) بالياء، وهو صحيح أيضًا على تقدير مسيرة سبعين، فحذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه، أو يكون التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفًا، فسبعين ظرف لمحذوف.

(5) باب صفة الجنة وأهلها

5610 - وعن جابر، قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرجُ من النار قومٌ بالشفاعة، كأنهم الثعارير)). قلنا: ما الثعارير؟ قال: ((إِنَّه الضَّغابيس)). متفق عليه. 5611 - وعن عثمان بن عفَّان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يشفعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)). رواه ابن ماجه. [5611] (5) باب صفة الجنة وأهلها الفصل الأول 5612 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصَّالحين مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطر على قلب بشر. واقرءوا إن شئتم: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرَّة أعين}. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((الثعارير)) بالثاء المثلثة والعين المهملة، نه: الثعارير هي القثاء الصغار شبهوا بها لأن القثاء تنمو سريعًا، وقيل: هي رءوس الطراثيث تكون بيضًا، شبهوا ببياضها، وواحدها طرثوث وهو نبت يؤكل. و ((الضغابيس)) بالضاد والغين المعجمتين، وهي أيضًا صغار القثاء، واحدها ضغبوس. باب صفة الجنة وأهلها الجنة: البستان من الشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. والتركيب دائر على معنى الستر، وكأنها لتكاثفها وتظللها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنة إذا ستره، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان. الفصل الأول الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مالا عين رأت)) ((ما)) هنا إما موصولة أو موصوفة، و ((عين)) وقعت في سياق النفي فأفاد الاستغراق، والمعنى: ما رأت العيون كلهن ولا عين واحدة منهن، والأسلوب من باب قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} فيحتمل نفي الرؤية والعين معًا، أو نفي الرؤية فحسب، أي لا رؤية ولا عين، أولا رؤية، وعلى الأول الغرض منه العين وإنما ضمت

ـــــــــــــــــــــــــــــ إليه الرؤية ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه، وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة وعكسه. قوله: ((ولا خطر على قلب بشر)) هو من باب قوله تعالى: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} وقوله: ((على لا حب لا يهتدي بمناره)) أي لا قلب ولاخطور، أولا خطور، فعلى الأول ليس لهم قلب يخطر فجعل انتفاء الصفة دليلا على انتفاء الذات، أي إذا لم تحصل ثمرة القلب وهو الإخطار فلا قلب، كقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع} فإن قيل: لم خص البشر هنا دون القرينتين السابقتين؟. قلت: لأنهم هم الذين ينتفعون بما أعد لهم ويهتمون بشأنه ويخطرون ببالهم بخلاف الملائكة. والحديث كالتفصيل للآية: فإنها نفت العلم، والحديث نفي طريق حصوله. قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم}: الكشاف: لا تعلم النفوس كلهن ولا نفس واحدة منهن، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك، فأخفاه من جميع خلائقه فلا يعلمه إلا هو، مما تقرُّ به عيونهم، ولا مزيد على هذه العِدَة ولا مطمح وراءها. ((حس)): يقال: أقر الله عينك، ومعناه أبرد الله دمعتها لأن دمعة الفرح باردة - حكاه الأصمعي - وقال غيره: معناه بلغك الله أمنيتك حتى ترضي به نفسك وتقر عينك فلا تستشرف إلى غيره. انتهى كلامه. فعلى هذا الأول من القرة البرد، والثاني من القرار. وفي قوله: ((أعددت)) دليل على أن الجنة مخلوقة، ويعضده سكنى آدم وحواء الجنة، ولمجيتها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام: كالنجم والثريا والكتاب ونحوها، وذلك أن الجنة كانت تطلق على كل بستان متكاثف أغصان أشجارها، ثم غلبت على دار الثواب، وإنما قال: ((اللاحقة بالأعلام)) لكونها غير لازمة للام، وتحقيق القول أنها منقولة شرعية على سبيل التغليب، وإنما تغلب إذا كانت موجودة معهودة، وكذلك اسم النار منقول لدار العقاب على سبيل الغلبة، وإن اشتملت على الزمهرير والمهل والضريع وغير ذلك، ولولا ذلك لما كان يغني عن طلب القصور والحور والولدان بالجنة، ولا عن طلب الوقاية من الزمهرير والمهل والضريع عن مطلق النار.

5613 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موضع سوطٍ في الجنةٍ خيرٌ من الدنيا وما فيها)). متفق عليه. 5624 - وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غَدْوة في سبيل الله أو رَوْحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأةً من نساءِ أهل الجنة اطلعت إِلى الأرض لأضَاءَت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفُها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها)). رواه البخاري. 5615 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ في الجنةِ شجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلّها مائةَ عامٍ لا يقطعُها، ولقابُ قوسِ أحدِكم في الجنةِ خيرٌ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ أو تغرب)). متفق عليه. 5616 - وعن أبي موسى، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ للمؤمنِ في الجنة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((موضع سوط في الجنة) تو: إنما خص السوط بالذكر لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزل أن يلقي سوطه قبل أن ينزل معلمًا بذلك المكان الذي يريده لئلا يسبقه إليه أحد. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة)) فإن قلت: ما وجه الربط بينه وبين الكلام السابق؟. قلت: المراد أن ثواب غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، لأن ثوابها جنة نصيف امرأة فيها خير من الدنيا وما فيها، فكيف الجنة نفسها؟. و ((النصيف)) الخمار والمعجر. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في ظلها)) نه: أي في دارها وناحيتها، وقد يكني بالظل عن الكنف والناحية. قوله: ((ولقاب قوس أحدكم)) القاب والقيب بمعنى القدر، وعينه واو لثلاثة أوجه، لأن بنات الواو من معتل العين أكثر من بنات الياء، وأن (ق وب) موجود دون (ق ي ب) وأنه علامة تعرف بها المسافة بين الشيئين من قولهم: قوبوا في هذه الأرض، إذا أثروا فيها بمواطئهم ومحلهم. ((تو)): الراجل يبادر إلى تعيين المكان بوضع قوسه كما أن الراكب يبادر إليه برمي سوطه. الحديث الخامس عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((المؤمنون)) كذا في البخاري وشرح

لخيمة من لؤلؤةٍ واحدة مُجوَّفة، عرضُها - وفي رواية: طولُها - ستُّون ميلا، في كلِّ زاوية منها أهلٌ، ما يرونَ الآخرينَ، يطوفُ عليهم المؤمنُ، وجنتانِ من فضةٍ، آنيتُهما وما فيهما؛ وجنَّتان من ذهبٍ، آنيتُهما ومافيهما؛ وما بينَ القومِ وبينَ أنْ ينظروا إلى ربِّهم إلاَّ رداءُ الكبرياء على وجهِه في جنة عدن)). متفق عليه. 5617 - وعن عُبادةَ بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنَّةِ مائةُ درجةٍ، ما بينَ كلِّ درجتَين كما بينَ السماءِ والأرض، والفردوسُ أعْلاها درجةً، منها تفجَّرُ أنهارُ الجنةِ الأربعةِ، ومن فوقِها يكونُ العرشُ، فإذا سألتمُ الله فاسألوه الفردوسَ)) رواه الترمذيُّ. ولم أجده في ((الصَّحيحينِ)) ولا في ((كتاب الحميدي)). [5617] ـــــــــــــــــــــــــــــ السنة ونسخ المصابيح، وفي مسلم والحميدي وجامع الأصول: ((المؤمن)) فعلى هذا جمع لإرادة الجنس. قوله: ((على وجهه)) حال من رداء الكبرياء، والعامل معنى ليس. وقوله: ((في الجنة)) متعلق بمعنى الاستقرار في الظرف فيفيد بالمفهوم انتفاء هذا الحصر في غير الجنة، وإليه أشار الشيخ التوربشتي بقوله: يريد بذلك أن العبد المؤمن إذا تبوأ مقعده من الجنة تبوأ والحجب مرتفعة، والموانع التي تحجبه عن النظر إلى ربه مضمحلة، إلا ما يصدهم من هيبة الجلال وسبحات الجمال ورتبة الكبرياء، فلا يرتفع ذلك إلا برأفة ورحمة منه تفضلا على عباده - انتهى كلامه - وأنشد في المعنى: أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لاخيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله وأصد عنه تجلدا ... وأروم طيف خياله قوله: ((في جنة عدن)) نه: أي جنة إقامة. يقال: عدن بالمكان يعدن عدنًا أي لزمه ولم يبرح منه. الحديث السادس عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قوله: ((والفردوس أعلاها درجة)) نه: الفردوس هو البستان الذي فيه الكروم والأشجار، والجمع فراديس، ومنه جنة الفردوس. قوله: ((أنهار الجنة الأربعة)) هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير

5618 - وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ في الجنةِ لسُوقًا يأتونَها كلَّ جُمعةٍ، فتهبُّ ريحُ الشمال، فتحثو في وجوهِهم وثيابِهم، فيزدادون حُسنًا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالا، فيقول لهم أهلوهُم: واللهِ لقدِ ازدَدتم بعدَنا حسنًا وجمالا. فيقولونَ: وأنتم واللهِ لقدِ ازددتم بعدَنا حُسنًا وجمالا)). رواه مسلم. 5619 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أولَ زُمرةٍ يدخلونَ الجنةَ على صورةِ القمر ليلةَ البدْرِ، ثم الذينَ يلونَهم كأشدِّ كوكب دُريِّ ني السماءِ إضاءة، قلوبُهم على قلب رجلٍ واحدٍ، لا اختلافَ بينهم ولا تباغُضَ، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يُرى مُخُّ سُوقِهنَّ من وراء العظمِ واللحم منَ ـــــــــــــــــــــــــــــ آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفي}. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن في الجنة لسوقًا)) مح: السوق مجمع لأهل الجنة يجتمعون فيها في كل مقدار جمعة - أي أسبوع - وليس هناك أسبوع حقيقة لفقد الشمس والليل والنهار. و ((الشمال)) بفتح الشين بغير همز، وخصها بالذكر لأنها ريح المطر عند العرب وكانوا يرجون السحاب الساقية. أقول: لعل تسمية المجمع بالسوق من باب تسميتهم الأنف بالمرسن والشفة بالمشفر. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كأشد كوكب)) أفرد المضاف إليه ليفيد الاستغراق في هذا النوع من الكوكب، يعني إذا تقصيت كوكبًا كوكبًا رأيتهم كأشده إضاءة. فإن قلت: ما الفرق بين هذا والتركيب السابق؟. قلت: كلاهما تشبيهان، إلا أن الوجه في الثاني هو الإضاءة فقط، وفي الأول الهيئة والحسن والضوء، كما إذا قلت: إن زيدًا ليس بإنسان بل هو في صورة الأسد وهيئته وجرأته، وهذا التشبيه قريب من الاستعارة المكنية، والكوكب الدري هو الشديد الإنارة نسب إلى الدر وشبه صفاؤه بصفائه. قوله: ((زوجتان)) الظاهر أن التثنية للتكرير لا للتحديد كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر

الحسن؟ يسبِّحونَ اللهَ بكرةً وعشيا، لا يسقمونَ، ولا يبولونَ، ولا يتغوطونَ ولا يتفلونَ، ولايمتخطون، آنيتُهم الذهبُ والفضةُ، وأمشاطُهم الذهبُ، ورَقودُ مجامرِهم الألوةُ، ورشحهمُ المسكُ، على خَلقِ رجلٍ واحد، على صورةِ أبيهم آدمَ، ستونَ ذراعًا في السماءِ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ كرتين} لأنه قد جاء أن للواحد من أهل الجنة العدد الكثير من الحور العين. وقوله: ((من الحسن)) تتميم صونا من توهم ما يتصور في تلك الرؤية مما ينفر عنه الطبع، والحسن هو الصفاء ورقة البشرة ونعومة الأعضاء. ويراد بقوله: ((بكرة وعشيًا)) الديمومة، كما تقول العرب: أنا عند فلان صباحًا ومساءً، لا يقصد الوقتين المعلومين بل الديمومة. قوله: ((ووقود مجامرهم)) نه: المجامر جمع مجمر بالكسر، وهو الذي توضع فيه النار للبخور وبالضم هو الذي يتبخر به وأعد له الجمر - انتهى كلامه -. والمراد في الحديث هو الأول، وفائدة الإضافة أن ((الألوة)) هي الوقود نفسه بخلاف المتعارف فإن وقودهم غير الألوة. مح: هي بفتح وضم اللام، العود الهندي. ((ورشحهم المسك)) أي عرقهم. قوله: ((على خلق رجل واحد)) مح: روى بضم الخاء واللام، وبفتح الخاء وإسكان اللام، وكلاهما صحيح ويرجح الضم بقوله في الحديث الآخر ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد))، وقد يرجح الفتح بقوله: ((لايمتخطون ولا يتفلون)) أي لا يبصقون. أقول: فعلى هذا لا يكون قوله ((على صورة أبيهم آدم)) بدلا من قوله: ((على خلق رجل واحد)) بل يكون خبر مبتدأ محذوف، فإن قيل: الموصوفون بالصفات المذكورة كلهم على خلق رجل واحد حسن الإبدال. وأما توجيه الضم فالجملة كالإجمال للتفصيل الذي هو مسبوق بمجمل، أجمل أولا بقوله: ((قلوبهم على قلب رجل واحد)) ثم فصل بقوله: ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض)) وعلل الاختلاف بقوله: ((لكل امرئ منهم زوجتان .. إلى آخره)) على معنى أن كل واحد رضي بما أوتي من الثواب على حسب مرتبته، وثانيًا بقوله: ((على خلق رجل واحد)) تأكيدًا وتقريرًا فهو كالفذلكة للمجموع، وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بوصف حسن خلقهم الباطن وختم بوصف حسن خلقهم الظاهر.

5620 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِن أهل الجنَّةِ يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولايتغَوطون، ولا يمتخطون)). قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: ((جُشَاءٌ ورشحٌ كرشح المسكِ، يُلْهمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما تلهمون النَفَسَ)) رواه مسلم. 5621 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يَدْخُل الجنة ينعَم ولا يبْأس، ولا تَبْلى ثيابُه، ولا يفْنى شبابُه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((ستون ذراعًا في السماء)) أي طولا فكنى عنه به. الحديث التاسع: عن جابر رضي الله عنه: قوله: فما بال الطعام؟)) أي ما بال فضل الطعام، وحينئذ يستقيم جوابه بقوله: ((جشاء ورشح)) أي يندفع بالجشاء والرشح. والإلهام: إلقاء الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله وجهة الملأ الأعلى. قوله: ((كما تلهمون)) وارد على سبيل المشاكلة لأن المراد به التنفس، قال الراغب: في هذا الحديث إشارة عجيبة، لأنه إذا أمكن أن يأكل دود أطعمة مستحيلة فيخلف جشاء طيبًا يبقى أطول مدة فلا يلحقه فساد، فكيف ينكر أن يتناول أهل الجنة طعامًا معرى عن العفونات والاستحالات فيخلف منه مسك؟ والذي يستبعده بعض الناس من ذلك هو أنهم يريدون أن يتصوروا أبدانًا متناولة لأطعمة لا استحالة فيها ولا تغير لها ولا يكون فيها فضولات، وتصور ذلك محال، وذلك أن التصور هو إدراك الوهم خيال ما أدركه من الحسن الحسي، وما أدركه الحس جزؤه لا كله كيف يمكنه تصوره؟ ولو كان للإنسان سبيل إلى تصور ذلك لما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ولما قال صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن الله تعالى: ((أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رآت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)). وجملة الأمر يجب أن يكون معلومًا أن النقصانات منتفية عن الجنة لأنها من الأعدام، وليس في الجنة أعدام إذ هي في غاية الكمال والتمام. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ينعم ولا يبأس)) قض: معناه أن الجنة دار الثبات والقرار، وأن التغيير لا يتطرق إليها، فلا يشوب نعيمها بؤس، ولا يعتريه فساد ولا تغير، فإنها ليست دار الأضداد ومحل الكون والفساد.

5622 - 5623 - * وعن أبي سعيدٍ، وأبي هريرةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يُنادي مُنادٍ: إِنَّ لكم أنْ تصحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإِنَّ لكم أنْ تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإِنَّ لكم أنْ تشبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وإِنَّ لكم أنْ تنعَموا فلا تبأسوا أبدًا)). رواه مسلم. 5624 - وعن أبي سعيد الخدريِّ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ أهل الجنةِ يتراءون أهل الغرفِ من فوقِهم كما تتراءونَ الكوكبَ الدريَّ الغابر في الأفق، منَ المشرق أو المغربِ، لتفاضُلِ ما بينهم)) قالوا: يا رسولَ الله! تلكَ منازلُ الأنبياءِ لايبلغُها غيرُهم. قال: ((بَلى والذي نفْسي بيدِه، رجالٌ آمنوا باللهِ وصدَّقوا المرسلينَ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: قوله: ((لايبأس)) تأكيد لقوله ينعم، والأصل أن الإيحاء بالواو لكن أراد به التقرير على الطرد والعكس كقوله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. الحديث الحادي عشر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: ((ينادي مناد ... إلى آخره)) هذا النداء والبشارة ألذ وأشهى لما فيه من السرور، وفي عكسه أنشد المتنبي: أشد الغم عندي في سرور ..... تيقن منه صاحبه انتقالا الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((الغابر في الأفق)) تو: قد اختلف فيه، فمنهم من رواه بالهمز بعد الألف من الغور، يريدون انحطاطه في الجانب الغربي، ومنهم من رواه بالباء من الغبور، والمراد منه الباقي في الأفق بعد انتشار ضوء الفجر، وإنما يستبين في ذلك الوقت الكوكب المضيء، ولا شك أن الرواية الأولى نشأت من التصحيف، وفي كتاب المصابيح: ((من المشرق والمغرب)) والصواب: ((من المشرق أو المغرب)) وكذلك رواه في كتاب مسلم، قال المؤلف: وكذا بـ ((أو)) شرح السنة، وجامع الأصول ورياض الصالحين. مح: معنى الغابر الذاهب الماضي، أي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون، وروي في غير صحيح مسلم: ((الغارب)) بتقديم الراء، وروي ((العارب)) بالعين المهملة والراء، ومعناه البعيد في الأفق، وكلها راجعة إلى معنى واحد. أقول: فإن قلت: ما فائدة تقييد الكوكب بالدري ثم بالغابر في الأفق؟. قلت: للإيذان أنه من باب التمثيل الذي وجهه منتزع من عدة أمور متوهمة في المشبه، شبه

5625 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئدتُهم مثلُ أفئدةِ الطير)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المستضىء الباقي في جانب المشرق أو المغرب في الاستضاءة من البعد، فلو قيل: ((الغائر)) لم يصح لأن الإشراق يفوت عند الغروب، اللهم إلا أن يقدر المستشرف على الغروب كقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} أي شارفن بلوغ أجلهن، لكن لايصح هذا المعنى في الجانب الشرقي، نعم يجوز على التقدير كقولهم: متقلدًا سيفًا ورمحًا، وعلفته تبنا وماء باردًا، أي: طالعًا في الأفق من المشرق وغابرًا في المغرب. فإن قلت: ما فائدة ذكر المشرق والمغرب؟ وهلا قيل: في السماء - أي في كبدها -؟. قلت: لو قيل في السماء كان القصد الأولي في بيان الرفعة ويلزم منه البعد، وفي ذكر المشرق والمغرب القصد الأولي البعد ويلزم منه الرفعة، وفيه شبهة من معنى التقصير بخلاف الأول فإن فيه نوع اعتذار، وقريب منه قول الشاعر: هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا الحديث الثالث عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثل أفئدة الطير)) ((مح)) قيل: مثلها في رقتها كما ورد: ((أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبًا))، وقيل: في الخوف والهيبة، والطير أكثر الحيوان خوفًا وفزعًا، قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وقيل: المراد يتوكلون كما ورد: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانًا)). أقول: قد تقرر في علم البيان أن وجه الشبه إذا أضمر عم تناوله، فيكون أبلغ مما لو صرح به، فينبغي أن يحمل الحديث على المذكورات كلها، ومن ثم خص الفؤاد بالذكر دون القلب. غب: الفؤاد كالقلب لكن يقال: له فؤاد، إذ اعتبر فيه معنى الفأد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته، ولحم فئيد مشوي، قال الله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأي} - انتهى كلامه -. والقريحة إذا أريد وصفها بشدة الإدراك وصفت بالوقود، يقال: متوسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقادها.

5626 - وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله تعالى يقولُ لأهل الجنةِ: يا أهل الجنةِ! فيقولونَ: لبَّيكَ ربنا وسعدَيْكَ، والخيرُ كلُّه في يديكَ. فيقولُ: هل رضيتم؟ فيقولونَ: وما لَنا لانرضي ياربُّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقكَ؟ فيقول: ألا أُعطيكم أفضلَ من ذلكَ؟ فيقولونَ: ياربُّ وأيُّ شيء أفضلُ من ذلكَ؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضْواني فلا أسخطُ عليكم بعدَه أبدًا)). متفق عليه. 5627 - وعن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ أدْنى مقعَدِ أحدِكم من الجنةِ أن يقولَ له: تمنَّ؛ فيتمنَّى، ويتمنَّى. فيقولُ له: هل تمنَّيتَ؟ فيقول: نعمْ. فيقول له: فإنَّ لكَ ما تمنَّيتَ ومثلَه معَه)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: وأحل لكم رضواني)) الحديث مأخوذ من قوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ...} إلى قوله: {ورضوان من الله أكبر} الكشاف: إنما كبر عن ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، لأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما يتهنأ له برضاه كما يتنغص عليه بسخطه، ولم يجد لها لذة وإن عظمت. أقول: وأكبر أصناف الكرامة رؤية الله تعالى، ونكر رضوان في التنزيل إرادة للتقليل ليدل على أن شيئًا يسيرًا من الرضوان خير من الجنان وما فيها. قال صاحب المفتاح: والأنسب أن يحمل على التعظيم، وأكبر على مجرد الزيادة مبالغة لوصفه بقوله: ((من الله)) أي: رضوان عظيم يليق أن ينسب إلى من اسمه (الله) معطي الجزيل وما لايكتنه كنهه، ومن عطاياه الرؤية وهي أكبر أصناف الكرامة، فحينئذ يناسب معنى الحديث الآية، حيث أضافه إلى نفسه، وأبرزه في صورة الاستعارة، وجعل الرضوان كالوفود النازلة على الملك الأعظم، ويؤيد هذا التأويل الحديث الثاني في أول باب الرؤية، يقول الله تبارك تعالى لأهل الجنة: ((تريدون شيئًا أزيدكم ... ؟)) إلى قوله: ((فيرفع الحجاب، فينظرون إلى وجه الله تعالى، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم)) فحينئذ لايصح أن يقال في الآية: ورؤية قليلة من الله أكبر. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن يقول له)) خبر إن،

5628 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سيحانُ وجيحانُ والفراتُ والنيلُ، كلٌّ من أنهار الجنةِ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والمعنى أن أدنى منزلة أحدكم في الجنة أن ينال أمانيه كلها بحيث لاتبقى له أمنية، ونحوه قول الشاعر: لم يبق جودك لي شيئًا أؤمله تركتني أصحب الدنيا بلا أمل قول الله في حقه كذا. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سيحان ...)) مح: سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، والمذكوران في الحديث في بلاد الآرمن، فسيحان نهر المصيصة، وجيحان نهر أردنة، وهما نهران عظيمان جدًّا، هذا هو الصواب، وأما قول الجوهري: جيحان نهر بالشام فغلط. وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا على أن جيحون بالواو نهر خراسان، وقيل: سيحون نهر بالسند. قض: خص الأنهار الأربعة بالذكر لعذوبة مائها، وكثرة منافعها، كأنها من أنهار الجنة، ويحتمل أن يكون المراد بها الأنهار الأربعة التي هي أصول أنهار الجنة، وسماها بأسامي الأربعة التي هي أعظم أنهار الدنيا وأشهرها وأعذبها وأفيدها عند العرب، على سبيل التشبيه والتمثيل ليعلم أنها في الجنة بمثابتها، وأن ما في الدنيا من أنواع المنافع والنعائم فنموذجات لما يكون في الآخرة، وكذا ما فيها من المضار المردية والمستكرهات المؤذية. مح: قال القاضي عياض: كون هذه الأنهار من الجنة أن الإيمان يعم بلادها، وأن الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة، والأصح أنها على ظاهرها وأن بها مادة من الجنة مخلوقة، موجودة اليوم عند أهل السنة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يجريان من الجنة، وفي البخاري من أصل سدرة المنتهى. حس ((في معالم التنزيل)): [روي عن ابن عباس] أن الله تعالى أنزل هذه الأربعة من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض، وذلك قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض}. أقول: ((سيحان)) مبتدأ، وكل مبتدأ ثان، والتقدير: كل منها و ((من أنهار الجنة)) خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، فإذا أريد التشبيه قدر من جنس أنهار الجنة، والفرق بين الوجه

5629 - وعن عُتبةَ بنِ غزوان، قال: ذُكرَ لنا أنَّ الحجرَ يُلقى من شفة جهنمَ فيهْوي فيها سبعينَ خريفًا لايُدركُ لها قَعرًا، والله لتُملأنَّ. ولقد ذُكرَ لنا أنَّ ما بينَ مصراعَينِ من مصاريعِ الجنةِ مسيرةُ أربعينَ سنةً، وليأتينَّ عليها يومٌ وهو كظيظٌ منَ الزِّحام)). رواه مسلم. الفصل الثاني 5630 - عن أبي هريرةَ، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! مِمَّ خُلقَ الخلقُ؟ قال: ((منَ الماءِ)). قُلنا: الجنةُ ما بناؤُها؟ قال: ((لَبِنةٌ من ذهبٍ ولبنةٌ من فضة، وملاطُها المسكُ الأذفرُ، وحصباؤُها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتربتُها الزَّعفَرَانُ، منْ يدخلْها يَنْعَمْ ولايبْأس، ويخلدُ ولا يموت، ولا تَبْلى ثيابُهُم، ولا يفْنى شبابُهم)). رواه أحمد، والترمذي، والدارمي. [5630] ـــــــــــــــــــــــــــــ الأول والثاني - على ماذكره القاضي ناصر الدين - أن المشتبه في الأول أنهار الدنيا، والمشبه به أنهار الجنة، ووجه التشبيه السلامة والعذوبة والهضم والبركة، وفي الثاني على العكس وعلى هذا وجه التشبيه الشهرة والفائدة والعذوبة، وفي الوجه الثالث - على ما ذكره القاضي عياض - وجه التشبيه المجاورة والانتفاع، سمى أنهار الدنيا بأنهار الجنة لمجاورتها بالمؤمنين والانتفاع بها. و ((من)) في ((من أنهار الجنة)) على الوجه الرابع يجوز أن تكون ابتدائية أي مبتدأة ناشئة منها، أو اتصالية، أو تبعيضية. الحديث السابع عشر عن عتبة رضي الله عنه: قوله: ((كظيظ)) أي ممتلئ، [((فا))]: يقال: كظ الوادي كظيظًا بمعنى اكتظ، وفي الغريبين: يقال: كظه الشراب والغيظ، أي ملأ صدره فهو كظيظ، فعلى الأول هو لازم، وعلى الثاني متعد. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وملاطها)) [((نه))]: الملاط الطين الذي يجعل بين سافي البناء، ويملط به الحائط، أي يخلط. قوله: ((ولا يبأس)) ((تو)): قد وجدناه في المصابيح وفي بعض كتب الحديث: ((يبؤس)) بالهمزة المضمومة لدلالة الواو على الضم، وبأس الأمر يبؤس إذا اشتد، وبأس يبأس إذا افتقر، والغلط إنما وقع في رسم الخط، والصواب ((لايبأس)).

5631 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في الجنةِ شجرةٌ إلا وساقُها من ذهبٍ)). رواه الترمذي. [5631] 5632 - وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ في الجنة مائةَ درجةٍ، ما بين كلِّ درجتينِ مائةُ عامٍ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريب. [5632] 5633 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ، لو أنَّ العالمينَ اجتمعوا في إحداهُنَّ لوسعتهم)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريب. 5634 - وعنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {وفُرُشٍ مرفوعةٍ} قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلى الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: {وفرش مرفوعة} الكشاف: أي نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، وقيل: هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش، ويدل عليه قوله: {إنا أنشأناهن إنشاء} وعلى التفسير الأول أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن. تو: قول من قال: المراد منه ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات وما بين كل درجتين من الدرجات لكما بين السماء والأرض، هذا القول أوثق وأعرف من الوجوه المذكورة وذلك لما في الحديث: ((إن للجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)). أقول: قول من قال: مرفوعة على الأسرة أقرب لما عقبة بقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} ليوافق قوله: {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} ويؤيد الوجه الأول حديث أبي سعيد في أول الفصل الثالث، قال: ((إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين مسندًا ...)) الحديث. قوله: ((لكما بين السماء)) أدخل لام الابتداء في الخبر، والكاف اسم، قال الزجاج في قوله تعالى: {إن هذان لساحران} قالت النحاة القدماء: إن الضمير فيه مضمر، أي إنه هذان لساحران، قالوا: وأصل هذه اللام أن تقع في الابتداء ووقوعها في الخبر جائز، وأنشدوا:

((ارتفاعُها لكما بين السماءِ والأرض، مسيرة خمسمائة سنة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريب. 5635 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أولَ زُمرةٍ يدخلونَ الجنةَ يوم القيامةِ ضوءُ وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدْر، والزُّمرةُ الثانيةُ على مثل أحسنِ كوكب درِّى في السماءِ، لكلِّ رجلٍ منهم زوجتَانِ على كلِّ زوجةٍ سبعون حُلة، يرى مُخُّ ساقها من ورائها)). رواه الترمذي. [5635] 5636 - وعن أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يُعطى المؤمنُ في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع)). قيل: يا رسول الله! أو يطيق ذلك؟ قال: ((يُعطى قوةَ مائة)). رواه الترمذي. [5636] 5637 - وعن سعد بنِ أبي وقَّاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنْ ما يُقلُّ ظُفُرٌ مما في الجنَّة بدا لتزخرفتْ له ما بين خوافقِ السماوات والأرض، ولو أنَّ رجلاً من أهل الجنَّة! اطّلَع فبدا أساوره لطَمس ضوؤه ضوء الشَّمس كما تطمسُ الشَّمس ضوء النجوم)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [5637] ـــــــــــــــــــــــــــــ أم الحليس لعجوز شهربه ترضي من اللحم بعظم الرقبه الحديث السادس إلى الثامن عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((ما يقل ظفر)) ما موصولة، والعائد محذوف، أي ما يقله ظفر. قض: أي قدر ما يستقل بحمله ظفر، ويحمل عليها. ((لتزخرفت)): أي تزينت. و ((الخوافق)) جمع خافقة وهي الجانب، وهي في الأصل الجانب الذي يخرج منه الرياح، من الخفقان، ويقال: الخافقان المشرق والمغرب - انتهى كلامه -. وقوله: ((ما بين خوافق)) فاعل تزخرفت، وإنما أنث باعتبار الأماكن كما في قوله تعالى: {أضاءت ما حوله} في وجه.

5638 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أهلُ الجنةِ جُرْدٌ مرٌد كحلى، لايفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم)). رواه الترمذي، والدارمي [5638]. 5639 - وعن معاذ بن جبل، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ جُرْدًا مُرْدًا مكحَّلين أبناءَ ثلاثين - أو ثلاثٍ وثلاثين – سنة)) رواه الترمذي. [5639]. 5640 - وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذُكر له سدرة المنتهى قال: ((يسيرُ الراكبُ في ظلِّ الفَنَنِ منها مائةَ سنةٍ، أو يستظل بظلها مائةُ راكب - شكَّ الرَّاوي - فيها فراشُ الذهبِ، كأن ثمرَها القِلالُ. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جرد)) نه: هو جمع الأجرد وهو الذي لا شعر على جسده، وضده الأشعر. والكحل: بفتحتين، سواد في أجفان العين خلقة، والرجل أكحل وكحيل، كحلي. الحديث العاشر والحادي عشر عن أسماء رضي الله عنها: قوله: ((سدرة المنتهى)) قيل: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر، والمنتهى موضع الانتهاء، وكأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل: لم يجاوزها أحد وإليها ينتهى علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقوله: ((الفنن)) غب: الفنن الغصن المورق، وجمعه أفنان، ويقال ذلك للنوع من الشيء وجمعه فنون. وقوله: ((فيها فراش الذهب)) تفسير لقوله في التنزيل: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} ومنه أخذ ابن مسعود حيث فسر قوله تعالى: {ما يغشى} بقوله: ((يغشاها فراش من ذهب))، والفراش واحده فراشة وهي التي تطير وتتهافت في السراج. قال الإمام أبو الفتح العجلي في تفسيره: ولعله أراد الملائكة تتلالأ أجنحتها تلألأ أجنحة الفراش كأنها مذهبة.

5641 - وعن أنسٍ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: ((ذاكَ نهرٌ أعطانيه الله - يعني في الجنة - أشدُّ بياضًا من اللَّبنِ، وأحلى من العسلِ، فيه طيرٌ أعناقها كأعناق الجُزُر. قال عُمر: إِنَّ هذه لناعمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكلتُها أنعَمُ منها)). رواه الترمذي. [5641] 5642 - وعن بُريدةَ، أن رجلا قال: يارسول الله! هل في الجنَّة من خيل؟ قال: ((إِنِ اللهُ أدْخَلكَ الجنةَ فلا تشاء أن تُحمَل فيها على فرسٍ من ياقوتةٍ حمراء يطيرُ بكَ في الجنة حيثُ شئتَ، إلا فعلتَ)). وسألهُ رَجُلٌ فقال: يا رسولَ الله! هل في الجنةِ من إبلٍ؟ قال: فلم يقلْ له ما قال لصاحبِه. فقال: ((إِنْ يدخلك الله الجنةَ يكنْ لكَ فيها ما اشتهتْ نفسُك ولذَّتْ عينك)). رواه الترمذي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((إن الله أدخلك الجنة)) الله: مرفوع بفعل يفسره ما بعده، ولا يجوز رفعه على الابتداء لوقوعه بعد حرف الشرط، وقوله: ((فلا تشاء إلى آخره)) جواب للشرط. ((قض)): تقدير الكلام: إِن أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل على فرس كذلك إلا حملت عليه، المعنى أنه ما من شيء تشتهيه النفس إلا وتجده في الجنة كيف شاءت، حتى لو اشتهت أن تركب فرسًا على هذه الصفة لوجدته وتمكنت منه. ويحتمل أن يكون المراد: إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن يكون لك مركب من ياقوتة حمراء يطير بك حيث شئت ولا ترضي به فتطلب فرسًا من جنس ما تجده في الدنيا حقيقة وصفة، والمعنى: فيكون لك من المراكب ما يغنيك عن الفرس المعهود، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الرواية الأخرى، وهو ((إن أدخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان فحملت عليه)) ولعله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبين الفرق بين مراكب الجنة ومراكب الدنيا، وما بينهما من التفاوت على التصوير والتمثيل، مثل فرس الجنة في جوهره بما هو عندنا أثبتُ الجواهر وأدومها وجودًا، وأنصعها لونًا، وأصفاها جوهرًا، وفي شدة حركته وسرعة انتقاله بالطير، وأكد ذلك في الرواية الأخرى بقوله: ((له جناحان)) وعلى هذا قياس ما ورد في صفة أبنية الجنة ورياضها وأنهارها إلى غير ذلك، والعلم بحقائقها عند الله تعالى.

5643 - وعن أبي أيوب، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال: يا رسول الله! إني أُحبُّ الخيلَ، أَفي الجنَّة خيلٌ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِن أُدخلتَ الجنَّة أتيتَ بفرسٍ من ياقوتة له جناحانِ فَحُمِلتَ عليه ثم طارَ بِك حيث شئت)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ ليس إِسناده بالقويِّ، وأبو سَورة الراوي يضعَّف في الحديث، وسمعتُ محمَّد بن إِسماعيل يقول: أبو سورةَ هذا منكرُ الحديث يروي مناكير. 5644 - وعن بُريدةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أهلُ الجنَّةِ عشرونَ ومائةُ صف، ثمانونَ منها من هذه الأمةِ، وأربعون من سائر الأمم)). رواه الترمذي، والدارمي، والبيهقي في ((كتاب البعث والنشور)). [5644] 5645 - وعن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بابُ أمتى الذي يَدْخلونَ منه الجنةَ عرضُه مسيرة الراكبِ المجودِ ثلاثًا، ثم إِنهم ليُضْغَطُونَ عليه، حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: الوجه الأول ذهب إليه الشيخ التوربشتي، وتقدير قوله: ((إلا حملت)) يقتضي أن يروي قوله: إلا فعلت على بناء المفعول لأنه استثناء مفرغ، أي لا يكون بمطلوبك إلا مسعفا [وإذا نزل على بناء الفاعل كان التقدير: فلا يكون بمطلوبك إلا فائزًا] والوجه الثاني من الوجهين السابقين قريب من الأسلوب الحكيم، فإن الرجل سأله عن الفرس المتعارف في الدنيا فأجابه صلى الله عليه وسلم بما في الجنة، أي اترك ما طلبت فإنك مستغن عنه بهذا المركب الموصوف. الحديث الرابع عشر والخامس عشر عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((ثمانون منها من هذه الأمة)) فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وبين ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)) فكبرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة)) فكبرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة؟)). قلت: يحتمل أن يكون الثمانون صفًّا مساويًا في العدد للأربعين صفًّا، وأن يكونوا كما زاد على الربع والثلث، يزيد على النصف كرامة له صلى الله عليه وسلم. الحديث السادس عشر عن سالم رضي الله عنه: قوله: ((الراكب المجود)) قال في أساس البلاغة: يجود في صنعته يفوق فيهاء وأجاد الشيء، وجوده أحسن فيما فعل، وجود في عدوه عدا عدوًا جوادًا، وسرنا عقبة جوادًا أو عقبتين جوادين أي بعيدة طويلة، وفرس جواد من خيل جياد، وأجاد فلان صار له فرس جواد فهو مجيد.

تكادَ مناكبُهم تزول)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ ضعيفٌ، وسألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه، وقال: خالد بن أبي بكر، يروي المناكير. [5645] 5646 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الجنَّةِ لسوقًا ما فيها شرى ولابيعٌ إلا الصُّور من الرجال والنساءِ، فإذا اشتهى الرجلُ صورةً دخل فيها)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب. 5647 - وعن سعيد بن المسيب، أنه لَقي أبا هريرةَ، فقال أبو هريرةَ: أسأل اللهَ أن يجمعَ بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد: أَفيها سوقٌ؟ قال: نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهلَ الجنةِ إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذَنُ لهم ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: والمجود يحتمل أن يكون صفة الراكب، والمعنى الراكب الذي يجود ركض الفرس. وأن يكون مضافًا إليه، والإضافة لفظية أي الفرس الذي يجود في عدوه. وقوله: ((ليضغطون)) أي يزحمون، يقال: ضغطه يضغطه ضغطًا أي عصره وضيق عليه وقهره. الحديث السابع عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إن في الجنة لسوقًا)) قد سبق في الفصل الأول في حديث أنس أن المراد بالسوق المجمع وهذا يؤيده فالاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا بأن يجعل تبديل الهيئات من جنس البيع والشرى، كقوله تعالى: {يوم لاينفعُ مالٌ ولاَ بَنونَ إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ}. قيل: يحتمل الحديث معنيين: أحدهما: أن يكون معناه عرض الصور المستحسنة عليه فإذا اشتهى وتمنى صورة من تلك الصور المعروضة عليه، صوره الله تعالى بشكل تلك الصورة بقدرته وثانيهما: أن المراد من الصورة الزينة التي يتزين الشخص بها في تلك السوق، ويتلبس بها ويختار لنفسه من الحُلي والحلل والتاج، يقال: لفلان صورة حسنة أي شارة حسنة وهيئة مليحة. وعلى كلا المعنيين التغيير في الصفة لا في الذات. أقول: ويمكن أن يجمع بينهما ليوافق حديث أنس: ((فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالا ...)) الحديث. الحديث الثامن عشر عن سعيد بن المسيب: قوله: ((ويتبدى لهم)) أي ويظهر لهم.

في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورونَ ربهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضة من رياض الجنَّة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجَد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم – وما فيهم دنيٌّ - على كثبان المسك والكافور، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضلَ منهم مجلسًا)). قال أبو هريرةَ: قلت: يا رسول الله! وهل نرى ربَّنا؟ قال: ((نعم! هل تتمارون في رؤية الشمسِ والقمرِ ليلةَ البدر؟)) قلنا: لا. قال: ((كذلك لاتتمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضَرهُ الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان! أتذكر يوم قلت كذا وكذا؟ فيذكِّره ببعض غَدراته في الدنيا. فيقول: ياربِّ! أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبسعة مغفرتي بلغتَ منزلتك هذه. فبيناهم على ذلك غشيتهم سحابةٌ من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط، ويقول ربُّنا: قوموا إِلى ما أعددتُ لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقًا قد حَفَّتْ به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيونُ إلى مثلهِ، ولم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((وما فيهم دنى)) تتميم صونًا لما يتوهم من قوله: ((ويجلس أدناهم)) من الدناءة، والمراد به الأدنى في المرتبة. وقوله: ((ما يرون)) من الإراءة على بناء المفعول، أو بمعنى يظنون أي لا يظنون ولا يتوهمون. ((أن أصحاب الكراسي)) أي المنابر أفضل منهم حتى يحزنوا بذلك، وإليه الإشارة في الحديث بقوله: ((وذلك أنه لاينبغي لأحد أن يحزن فيها)). قوله: ((إلا حاضره الله محاضرة)) تو: الكلمتان بالحاء المهملة والضاد المعجمة، والمراد من ذلك كشف الحجاب والمقاولة مع العبد من غير حجاب ولا ترجمان، وبينه الحديث: ((ما فيكم من أحد إلا ويكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) الحديث. قوله: ((فبسعة مغفرتي)) عطف على مقدر، أي بلى غفرت لك فبلغت بسعة رحمتي هذه المنزلة الرفيعة، والتقديم دل على التخصيص، أي بلوغك تلك المنزلة كائن بسعة رحمتي لا بعملك. قوله: ((ما لم تنظر العيون)) مظ: ما موصولة، والموصول مع صلته يحتمل أن يكون منصوبًا بدلا من الضمير المنصوب المقدر العائد إلى ما في قوله: ((ما أعددت))، ويحتمل أن يكون في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي المعد لكم ما لم تنظر العيون إلى مثله. أقول: والوجه أن تكون ((ما)) موصوفة بدلا من سوقًا، أو إبهامية تزيد الشيوع في سوقًا

تسمع الآذانُ، ولم يخطر على القلوبِ، فيحملُ لنا ما اشتهينا، ليس يُباعُ فيها ولايُشترى، وفي ذلكَ السوق يَلقى أهلُ الجنةِ بعضُهم بعضًا)). قال: ((فيُقبلُ الرجلُ ذو المنزلةِ المرتفعةِ، فيلقى مَن هو دونَه - وما فيهم دنيٌّ - فيروعُه مايرى عليه من اللباسِ، فما ينقضي آخرُ حديثه حتى يتخيَّل عليه ما هو أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزنَ فيها، ثمَّ ننصرفُ إلى منازِلنا، فيتلقانا أزواجُنا، فيقُلنَ: مرحبًا وأهلا لقد جئت وإنَّ بكَ من الجمال أفضلَ مما فارقتَنا عليه، فيقولُ: إنَّا جالسْنا اليومَ ربَّنا الجبَّارَ، ويحِقُّنا أن ننقلبَ بمثل ما انقلبنا)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ غريب. [5647] 5648 - وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أدْنى أهل الجنَّةِ الذي له ثمانونَ ألف خادمٍ، واثنتانِ وسبعونَ زوجةً، وتُنصَبُ له قُبةٌ من لؤلؤٍ وزبرجد وياقوت ـــــــــــــــــــــــــــــ المفخم بالتنكير، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: {فبما نَقْضِهِم ميثاقَهُم} ويكون قوله: ((قد حفت به الملائكة)) وقوله: ((ما لم تنظر العيون)) صفة لقوله: ((سوقًا))، وقوله: ((ليس يباع فيها)) حال من ((ما)) في ((ما اشتهيتم)) وهو المحمول، والضمير في ((يباع)) عائد إليه. وقوله ((فيروعه مايرى عليه)) الضمير المجرور، يحتمل أن يرجع إلى ((من)) فيكون الروع مجازًا عن الكراهة مما هو عليه من اللباس، وأن يرجع إلى الرجل والمنزلة فالروع بمعنى الإعجاب، أي: يعجبه حسنه فيدخل في روعه ما يتمنى مثل ذلك لنفسه، يدل عليه قوله: ((فما ينقضي آخر حديثه)) أي ما ألقي في روعه من الحديث. قال في الأساس: ومن المجاز شهد الروع أي الحرب، وفرس رائع يروع الرائي بحاله، وكلام رائع رائق. وضمير المفعول فيه عاد إلى ((من)). قوله: ((حتى يتخيل عليه)) أي يظهر عليه لباس أحسن من لباس صاحبه، ((غب)): يقال: خيلت السماء أبدت خيالا للمطر، وفلان مخيل بكذا أي خليق، وحقيقته أنه مظهر خيال ذلك. وقوله: ((فيتلقانا)) أي يستقبلنا. الحديث التاسع عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((وتنصب له قبة من لؤلؤ))

كما بينَ الجابيةِ إلى صنعاءَ)). وبهذا الإسنادِ، قال: ((ومن ماتَ من أهلِ الجنة من صغيرٍ أو كبيرٍ يُردونَ بَني ثلاثينَ في الجنةِ، لايزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهلُ النارِ)). وبهذا الإسناد، قال: ((إنَّ عليهمُ التيجانَ، أدنى لؤلؤةٍ منها لتُضىءُ ما بينَ المشرقِ والمغرب)). وبهذا الإسناد، قال: ((المؤمنُ إذا اشتهى الولدَ في الجنةِ كان حمله ووضعُه وسنُّه في ساعة كما يشتهي)). وقال إسحاقُ بن إبراهيم في هذا الحديث: إذا اشتهى المؤمنُ في الجنة الولدَ كان في ساعة ولكن لايشتهي رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وروى ابنُ ماجه الرابعةَ، والدارميُّ الأخيرةَ. [5648] 5649 - وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الجنةِ لمجتمعًا للحورِ العينِ يرفعنَ بأصواتٍ لم تسمع الخلائقُ مثلَها، يقلنَ: نحنُ الخالدات فلا نبيدُ، ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قض)): يريد أن القبة معمولة منها أو مكللة بها، وأن فسحتها وبعد ما بين طرفيها كما بين الموضعين وهما: جابية الشام وصنعاء اليمن. قوله: ((من صغير أو كبير يردون)) فيه تغليب لأن الرد إنما يتصور في الكهول والمشايخ دون الصغير، فإن قلت: ما التوفيق بين هذا الحديث وبين ما رواه مسلم عن أبي هريرة في باب البكاء: ((دعاميص الجنة)) أي دخالون على منازلها لا يمنعون عن موضع كما في الدنيا؟. قلت: ((في الجنة)) ظرف ليردون وهو لايشعر أنهم لم يكونوا دعاميص قبل الرد. الحديث العشرون عن علي رضي الله عنه: قوله: ((للحور العين)) ((غب)): حور جمع أحور وحوراء، والحور قيل: ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد وذلك نهاية الحسن من العين، ويقال للبقر الوحشي: أعين وعيناء لحسن عينه وجمعها عين، وبه شبه النساء قال تعالى: {وحورٌ عينٌ كأمثال اللؤلؤ المكنونِ}. الحديث الحادي والعشرون عن حكيم بن معاوية رضي الله عنه: قوله: ((ثم تشقق الأنهار

ونحنُ الناعماتُ فلا نبأسُ، ونحنُ الراضياتُ فلا نسخطُ، طوبى لمن كانَ لنَا وكُنَّا له)). رواه الترمذي. [5649] 5650 - وعن حكيمِ بن معاويةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الجنةِ بحرَ الماءِ، وبحرَ العسل، وبحرَ اللبن، وبحرَ الخمرِ، ثمَّ تشقَّقُ الأنهارُ بعدُ)). رواه الترمذي. [5650] 5651 - ورواه الدارميُّ عن معاوية. [5651] الفصل الثالث 5652 - عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ الرجلَ في الجنَّةِ ليتكئُ في الجنةِ سبعين مسْندًا قبلَ أن يتحولَ، ثمَّ تأتيهِ امرأةٌ فتضربُ على منكبه، فينظرُ وجهه في خدِّها أصفي من المرآةِ، وإنَّ أدنى لؤلؤة عليها تضيءُ ما بين المشرقِ ـــــــــــــــــــــــــــــ بعد)) يريد بالبحر مثل دجلة والفرات ونحوهما، وبالنهر مثل نهر معقل حيث تشقق من أحدهما، ثم تشقق منه الجداول. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أصفي من المرآة)) حال من قوله: ((خدها)). قوله: ((سبعين مسندًا)) هذا يؤيد قول من فسر قوله تعالى وتقدس: {وفرش مرفوعة} بأنها منضودة بعضها فوق بعض، كما سبق في الحديث الخامس من الفصل الثاني. وقوله: ((قبل أن يتحول)) ظرف لقوله: ((ثم تأتيه)). ((من المزيد)) يراد به قوله تعالى: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} ومن المزيد أيضًا ما في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [أي الجنة وما يزيد عليها رؤية الله تعالى، وإنما سميت زيادة، لأن الحسنى هي الجنة] وما وعد الله تعالى بفضله جزاء أعمال المكلفين، والزيادة فضل على فضل.

والمغرب، فتسلمُ عليه، فيردُّ السلامَ، ويسألُها: من أنتِ؟ فتقول: أنا من المزيد، وإنَّه ليكونُ عليها سبعونَ ثوبًا، فينفذُها بصرُه، حتى يُرى مخُّ ساقها من وراء ذلكَ، وإِنَّ عليها من التيجان أنَّ أدنى لؤلؤة منها لتُضيءُ مابين المشرق والمغربِ)). رواه أحمد. [5652] 5653 - وعن أبي هريرة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتحدَّثُ - وعنده رجلٌ من أهل البادية -: ((إنَّ رجلا من أهل الجنة استأذن ربَّه في الزرع. فقال له: ألستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكن أحبُّ أن أزرعَ، فبذرَ، فبادرَ الطرفَ نباتُه واستواؤُه، واستحصادُه، فكانَ أمثالَ الجبالِ. فيقولُ اللهُ تعالى: دونكَ يا بن آدمَ! فإنه لايشبعُك شيء)). فقال الأعرابيُّ: واللهِ لا تجدُه إلاَّ قُرشيًّا أو أنصاريًا، فإنهم أصحابُ زرعٍ؛ وأمَّا نحنُ فلسنا بأصحاب زرع! فضحكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاريُّ. 5654 - وعن جابرٍ، قال: سأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أينامُ أهلُ الجنةِ؟ قال: ((النومُ أخو الموتِ، ولا يموتُ أهلُ الجنةِ)). رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5654] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن أدنى لؤلؤة)) إن بالكسر مزيدة، واللام داخلة في خبر إن الأولى نحو قوله تعالى {ألمْ يعلمُوا أنهُ من يُحاددِ اللهَ ورسولهُ فإنَّ لهُ نارَ جهنم} أي فله نار جهنم. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن رجلا)) بكسر الهمزة مفعول يتحدث على حكاية ما تلفظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((ألست فيما شئت؟)) أي ما تفعل بالزرع وتتعب فيه ألست في سعة منه لما يحصل لك جميع ما تشتهيه بمجرد التمنى؟. قوله: ((دونك يا بن آدم خذ ما تمنيت)) قاله على سبيل التوبيخ تهجينًا لما التمسه، ومن ثمة رتب عليه قوله: ((فإنه لايشبعك شيء)) وقد يوجد في تعارف الناس مثل هذا التوبيخ. اللهم اجعلنا من الداخلين في الجنة، واسلكنا في الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولتك رفيقًا.

(6) باب رؤية الله تعالى

(6) باب رؤية الله تعالى الفصل الأول 5655 - عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنَّكم سترونَ ربَّكم عِيَانًا)) وفي رواية: قال: كنَّا جلوسًا عند رسول صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القمر لاتضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن ـــــــــــــــــــــــــــــ باب رؤية الله تعالى الفصل الأول الحديث الأول عن جرير رضي الله عنه: قوله: ((عيانًا)) يجوز أن يكون مصدرًا مؤكدًا أو حالًا مؤكدة إما من الفاعل أو المفعول، أي معاينين أو معاينًا. ((حس)): سئل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {إلى ربهَا ناظرة} فقيل: قوم يقولون: إلى ثوابه؟. فقال مالك: كذبوا، وأين هم عن قوله تعالى {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. [ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب فقال {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}] ((مح)): اعلم أن مذهب أهل الله قاطبة أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طوائف من أهل البدع (المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة) أن الله تعالى لايراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة. وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم على أنها لاتقع في الدنيا، وحكى الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته المعروفة عن أبي بكر بن فورك أنه حكى فيها قولين للإمام أبي الحسن الأشعري، أحدهما وقوعها، والثاني لا تقع. ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال

لاتُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا)) ثمَّ قرأ: {وسبِّح بحمدِ ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبهَا} متفق عليه. 5656 - وعن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلَ أهلُ الجنة الجنَّةَ يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنجنا من النَّار؟)) قال: ((فيرفعُ الحجاب، فينظرون إلى وجه الله، فما أُعطوا شيئًا ـــــــــــــــــــــــــــــ الأشعة، ولا مقابلة المرئى ولا غير ذلك، ولكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضًا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بالدلائل الجلية. ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة له - تعالى عن ذلك - بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة. قوله: ((كما ترون)) قال في جامع الأصول: قد يخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله: ((كما ترون)) كاف التشبيه للمرئى، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي، ومعناه ترون رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون فيه ولاتمترون. و ((لا تضامون)) روى بتخفيف الميم من الضيم الظلم، على معنى أنكم ترونه جميعكم لا يظلم بعضكم في رؤيته فيراه البعض دون البعض. وبتشديد الميم من الانضمام والازدحام أي: لا يُزدحم بكم في رؤيته، ويَضُمُّ بعضكم إلى بعض من ضيق كما يجرى عند رؤية الهلال مثلا دون رؤية القمر، إنما يراه كل منكم موسعًا عليه منفردًا به. قوله: ((فإن استطعتم أن لاتغلبوا)) قض: ترتيب قوله: ((إن استطعتم)) على قوله: ((سترون)) بالفاء يدل على أن المواظب على إقامة الصلوات والمحافظ عليها خليق بأن يرى ربه، وقوله: ((لا تغلبوا)) معناه لا تصيروا مغلوبين بالاشتغال عن صلاتي الصبح والعصر، وإنما خصهما بالحث لما في الصبح من ميل النفس إلى الاستراحة والنوم وفي العصر من قيام بالأسواق واشتغال الناس بالمعاملات، فمن لم يلحقه فترة في الصلاتين مع مالهما من قوة المانع فبالحري أن لايلحقه في غيرهما - والله أعلم -. الحديث الثاني عن صهيب رضي الله عنه: قوله: ((ألم تبيض وجوهنا؟)) تقرير وتعجيب من أنه كيف يمكن الزيادة على ما أعطاهم الله من سعة فضله وكرمه. ((فيرفع الحجاب)) رفع الحجاب دفع للتعجب كأنه قيل لهم: هذا هو المزيد.

أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم)) ثمَّ تلا {للَّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}. رواه مسلم. الفصل الثاني 5657 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أدنى أهل الجنَّةِ منزلة لمن ينطر إِلى جِنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {للذين أحسنوا الحسنى} أي للذين أجادوا الأعمال الصالحة وقرنوها بالإخلاص الحسنى، أي المثوبة الحسنى وهي الجنة، ونكر الزيادة ليفيد ضربا من التفخيم والتعظيم بحيث لايقدر قدره ولا يكتنه كنهه، وليس ذلك إلا لقاء وجهه الكريم، وإذا كان مفسر التنزيل من نزل عليه فمن تعداه فقد تعدى طوره. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ينظر إلى جنانه)) كناية عن كون الناظر يملك في الجنة ما يكون مقداره مسيرة ألف سنة، لأن المالكية في الجنة خلاف ما في الدنيا، وفي التركيب تقديم وتأخير حيث جعل الاسم وهو قوله: ((لمن ينظر)) خبرًا، أو الخبر وهو ((أدنى منزلة)) اسمًا اعتناء بشأن المقدم لأن المطلوب بيان ثواب أهل الجنة وسعتها وأن أدناهم منزلة من يكون ملكه كذا، نحوه قوله تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين}. الكشاف: فإن قلت: كيف جعل ((خير من استأجرت)) اسمًا، و ((القوي الأمين)) خبرًا؟. قلت: هو مثل قوله: ألا إن خير الناس حيًا وميتا أسير ثقيف عندهم في السلاسل في أن العناية هي سبب التقديم.

الله من يظر إلى وجهه غدوةً وعشيَّة)) ثم قرأ {وجوه يومئذٍ ناضرة إِلى ربها ناظرة}. رواه أحمد، والترمذي. [5657] 5658 - وعن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! أكلُّنا يرى ربَّه مُخْليًا به يوم القيامة؟ قال: ((بلى)). قال: وما آيةُ ذلك في خلقه؟ قال: ((يا أبا رزين! ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: {يومئذ ناضرة} أي ناعمة غضة حسنة، وقدم صلة ((ناظرة)) إما لرعاية الفاصلة وهي ((ناضرة)) ((باسرة)) ((فاقرة)) وإما لأن الناظر يستغرق عند رفع الحجاب بحيث لا يلتفت إلى ما سواه، وكيف يستبعد هذا والعارقون في الدنيا ربما استغرقوا في بحار الحب بحيث لم يلتفتوا إلى الكون وذلك في مقام الغرق وهو انسداد مسالك الالتفات من القلب باستيلاء أنوار الكشف عليه قد شغفها حبًا قال: فلما استبان الصبح أدرج ضؤه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب يجرعهم كأسًا لو ابتليت لظى بتجريعه صارت كأسرع ذاهب ويعضده حديث جابر في آخر الفصل الثالث: ((فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم)). الحديث الثاني عن أبي رزين رضي الله عنه: قوله: ((مخليا به)) أي: خاليًا. [((نه)): يقال خلوت به ومعه وإليه واختليت به إذا انفردت به: أي كلكم يراه منفردًا بنفسه، كقوله: لا تضارون في رؤيته] أقول: قاس القائل رؤية الله تعالى على ما في المتعارف، فإن الجم الغفير إذا رأوا شيئًا يتفاوتون في الرؤية لا سيما شيئًا له نوع خفاء، فيضيم بعضهم بعضًا بالازدحام، فمن راء يرى رؤية كاملة وراء دونها، فالمراد بقوله: ((مخليًا)) إثبات كمالها، ولهذا طابق الجواب بالتشبيه بالقمر ليلة البدر لا بالهلال.

أليس كلُّكم يرى القمر ليلةَ البدرِ مُخْليًا به؟)) قال: بلى. قال: ((فإنما هو خلقٌ من خَلْقِ الله، والله أجلُّ وأعظم)). رواه أبوداود. [5658] الفصل الثالث 5659 - عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: ((نورٌ أنَّي أراه)). رواه مسلم. 5660 - وعن ابن عبَّاس: {ماكذب الفؤادُ مارأي} {ولقد رآه نزلة أخرى} ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((نور أنى أراه؟)) قال الإمام أحمد: يعني على طريق الإيجاب. أي أراد أن الاستفهام ليس للإنكار المستلزم للنفي، بل للتقرير المستلزم للإيجاب، أي نور حيث أراه. ((مح)): وفي الرواية الأخرى ((رأيت نورًا))، و ((أنى)) بفتح الهمزة وتشديد النون المفتوحة، هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول، ومعناه: حجابه نور فكيف أراه، قال الإمام المازري: معناه أن النور منعني من الرؤية كما جرت العادة، فإن كمال النور يمنع الإدراك. وروي: ((نوراني)) منسوب إلى النور، وما جاء من تسمية الله تعالى بالنور في مثل قوله سبحانه وتعالى: {الله نور السموات والأرض} وفي الأحاديث معناه ذو نور أو منورهما، وقيل: هادي أهل السماوات والأرض. وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأي} ((مح)): قال ابن مسعود: ((رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل)) وهذا الذي قاله هو مذهبه في هذه الآية، وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد أنه رأي ربه سبحانه وتعالى، ثم اختلفوا، فذهب جماعة إلى أنه صلى الله عليه وسلم رأي ربه بفؤاده دون عينه، وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه.

قال: رآه بفؤاده مرتين. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الإمام أبو الحسن الواحدي: قال المفسرون: هذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة المعراج، قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي رآه بقلبه، وعلى هذا رأي بقلبه ربه رؤية صحيحة وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرًا حتى رأي ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين. قال: ومذهب جماعة من المفسرين أنه رأي بعينه، وهو قول: أنس وعكرمة والربيع، قال المبرد: إن الفؤاد رأي شيئًا فصدق فيه، و (ما رأي) في موضع النصب، أي ما كذب الفؤاد مرئيه. أقول: لا يستقيم تأويل {فأوحى إلى عبده ما أوحى} استقامة يساعدها الذوق إذا جعل الضمير في أوحى لجبريل، وكذا نظم الكلام، وإنما يوافق إذا قلنا: إن الضمير لله سبحانه وتعالى وبيانه أن يجري الكلام إلى قوله: {وهو بالأفق الأعلى} على أمر الوحي بالواسطة وتلقيه من الملك في دفع شبه الخصوم، ومن قوله: {ثم دنا فتدلَّى} إلى قوله: {من آيات ربه الكبرى} على أمر العروج إلى الجناب الأقدس فحينئذ (عبده) من إقامة المظهر موضع المضمر لتصحيح نسبة القرب وتحقيق معنى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} ولا يخفي على كل ذي لب إباء مقام قوله: {ما أوحى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى، إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المنافاة بين المتساويين وما ينطوي عنده بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة ((ثم)) على هذا منزلة على التراخي بين المرتبتين، والفرق بين الوحيين: وحي بواسطة وتعليم، وآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنده الترقي من مقام {وما منا إلا له مقام معلوم} إلى مخدع {قاب قوسين أو أدنى}. قال القاضي عياض: اختلف الخلف والسلف هل رأي نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من (المحدثين) والمتكلمين. وروي عن ابن عباس أنه رأي بعينه، ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن - وكان يحلف على ذلك -، وحكى مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه. ووقف بعض مشايخنا وقال: ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة.

وفي رواية الترمذي قال: رأي محمد ربه. قال: عكرمة قلتُ: أليس الله يقول: ـــــــــــــــــــــــــــــ واختلفوا أن نبينا صلى الله عليه وسلم هل كلمه ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟. فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزاه بعضهم إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس. وكذلك اختلفوا في قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى} فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي مقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم رضي الله تعالى عنهم: أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه تعالى، أو من الله، والدنو والتدلي على هذا متأول ليس على وجهه، قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود، فدنوه صلى الله عليه وسلم من ربه عزو جل: قربه منه، وظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته عليه، واطلاعه على أسرار ملكوته وغيبه بما لم يطلع عليه سواه، والدنو من الله تعالى، إظهار ذلك له وإيصال عظيم بره وفضله إليه، و {قاب قوسين أو أدنى} على هذا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن الله إجابة الرغبة وإثابة المنزلة، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: ((من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا)) هذا آخر كلام القاضي عياض. وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة وإن كانت كثيرة لكنا لانتمسك (إلا بالأقوى)، منها حديث ابن عباس رضي الله عنه: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؟ والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة: هل رأي محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها، لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقوله تعالى: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب} ولقوله: {لا تدركه الأبصار} والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذا بالظن والاجتهاد، وقد قال عمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئًا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب التحرير.

{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}؟ قال: ويحك! ذاك إِذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأي ربَّه مرَّتين. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الشيخ محيي الدين النواوي: الحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، وإثبات هذا ليس إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا ينبغي أن يشكك فيه، ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستباط من الآيات، أما احتجاجها بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} فجوابه أن الإدارك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط، فإذا ورد النص بنفي الإحاطة به لا يلزم منه نفي الرؤية بغير الإحاطة، وبقوله: {ما كان لبشر أن يكلمه الله} الآية فجوابه أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة، وقال ابن عباس وعلى هذا معنى {نزلة أخرى} يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عروجات في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات، وكل عرجة نزلة – تم كلامه. وفي التفسير الكبير: واعلم أن النصوص وردت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأي ربه بفؤاده وجعل بصره في فؤاده، أو رآه ببصره وجهل فؤاده في بصره، وكيف لا ومذهب أهل السنة الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كانت رؤية بالإراءة، وإن حصل من طريق القلب كان معرفة، والله تعالى قادر على أن يحصل العلم يخلق مدرك للعلوم في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، واختلاف الوقوع مما ينبيء عن الاتفاق على الجواز والله أعلم. وروى السلمي عن جعفر بن محمد: أدناه منه حتى كان قاب قوسين، والدنو من الله تعالى لا حد له، والدنو من العبد بالحدود. {فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه لايعلم به أحد سواه بلا واسطة إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته، {فأوحى إلى عبده ما أوحى} أي كان ما كان وجرى ما جرى. وذكر الشيخ أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج: أخبر الله تعالى بقوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} أنه صلى الله عليه وسلم بلغ من الرتبة والمنزلة والقدر الأعلى ما لا يفهم الخلق.

ـــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال: {أو أدنى} أي حل فوق ذلك. قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: {ما زاغ البصر} إخبار عن حالة صلوات الله تعالى وسلامه عليه بوصف خاص، وكأن {ما زاغ البصر} حاله في طرف الإعراض وفي طرف الإقبال، تلقى ما ورد عليه في مقام {قاب قوسين} بالروح والقلب {وما طغى} حاله في الفرار من الله تعالى حياء إلى مطاوي الانكسار لئلا تنبسط النفس. وقال: فيه وجه آخر ألطف منه أنه {ما زاغ البصر} حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر {وما طغى} لم تسبق البصيرة البصر فتجاوز حده وتتعدى مقامه، ولم يزل صلى الله عليه وسلم مستجلسًا [حجاله في حقارة] أدب حاله حتى خرق حجب السماوات، فانصبت إليه أقسام القرب انصبابا، وانقشعت عنه الحجب حجابًا حجابًا، حتى استقام على صراط {ما زغ البصر وما طغى} فمر كالبرق الخاطف إلى مخدع الرمل واللطائف، وهذا غاية الأدب ونهاية الأرب. وقال أبو العباس عن ابن عطاء: لم يره بطغيان ميل بل رآه على شرط اعتدال القوى. وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدا بكليته لربه يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل. وعن حقائق السلمي قال الصادق: لما قرب الحبيب إلى الحبيب بغاية القرب نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق بغاية اللطف لأنه لايحمل غاية الهيبة إلا غاية اللطف، وذلك قوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} أي كان ما كان وجرى ما جرى، قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه، وألطف له إلطاف الحبيب لحبيبه، وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه، فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدًا. قال جعفر: لا يعلم ما رأي إلا الذي أرى، والذي رأي صار الحبيب إلى الحبيب قريبًا وله نجيا وبه أنيسًا، يرفع درجات من يشاء. قال السلمي: ما كذب الفؤاد ما رأي البصر، وهو مشاهدة ربه كفاحًا ببصره وقلبه. وقال ابن عطاء: ما اعتقد القلب خلاف ما رآه العين، وليس كل من رأي شيئًا مكن فؤاده من إدراكه، إذ العيان قد يظهر فيه فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم محمول فيها فؤاده وعقله وحسه، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به والله أعلم.

5661 - وعن الشعبي، قال: لقيَ ابنُ عباس كعبًا بعرفة، سأله عن شيء، فكبَّر حتى جاوبته الجبال. فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم فقال كعب: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلَّم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين قال مسروقٌ: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأي محمدٌ ربَّه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيءٍ قفَّ له شعري قلتُ: رويدًا، ثم قرأتُ {لقد رأي من آيات ربه الكبرى} فقالت: أين تذهب بك؟ إنما هو جبريل. من أخبرك أن محمدًا رأي ربه أو كتم شيئًا ممَّا أُمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} فقد أعظم القرية، ولكنه رأي جبريل، لم يره في صورته إِلا مرَّتين: مرة ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ذاك)) إذا تجلى بنوره [يعني دلَّت الآية على أنه تعالى لا تحيط به وبحقيقة ذاته حاسة الإبصار، هذا إذا تجلى بنوره] الذي هو نوره وظهر بصفة الجلال، وأما إذا تجلى بما يسعه نطاق البشرية من صفة الجمال فلا استبعاد إذن. الحديث الثالث عن الشعبي: قوله: ((حتى جاوبته الجبال)) صدى كأنه استعظم ما سأل عنه فكبر لذلك كذلك، ولعل ذلك السؤال سؤال رؤية الله تعالى كما سئلت عائشة رضي الله عنها: فقف لذلك شعرها. وأما قوله: ((إنا بنو هاشم)) فبعث له على التسكين من ذلك الغيظ والتفكر في الجواب، يعني نحن بنو هاشم أهل علم ومعرفة فلا نسأل عما هو مستبعد غير واقع ومن ثمة لما تفكر قال: ((إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام)) والله أعلم بحقيقته. قوله: ((قف شعري)) أي قام من الفزع. نه: ((رويدًا)) أي أمهل وتأن، وهو تصغير رود، يقال: أرود به إروادًا أي أرفق، ويقال: رويد زيد، ورويد زيدًا، وهي مصدر مضاف، وقد يكون صفة نحو ساروا سيرًا رويدًا، وهي من أسماء الأفعال المتعدية. قوله: ((ثم قرأت {لقد رأي من آيات ربه الكبرى})) أي قرأت الآيات التي خاتمتها هذه، يدل عليه رواية مسلم: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله تعالى: {ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} الآيات؟. قوله: ((أين تذهب بك؟)) أي أخطأت فيما فهمت من معنى الآية وذهبت إليه، فأسندت الإذهاب إلى الآية مجازًا.

عند سدرة المنتهى، ومرَّة في أجياد، له ستُّمائة جناحٍ، قد سدَّ الأُفُقَ)). رواه الترمذي وروى الشيخان مع زيادة واختلاف وفي روايتهما: قال: قلت لعائشة: فأين قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}؟ قالت: ذاك جبريل عليه السلام؛ كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ الأفق. [5661] 5662 - وعن ابن مسعود في قوله: {فكان قاب قوسين أو أدنى} وفي قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأي} وفي قوله: {رأي من آيات ربِّه الكبرى} قال فيها كلِّها: رأي جبريل عليه السلام، له ستُّمائة جناحٍ. متفق عليه. وفي رواية الترمذي قال: {ما كذب الفؤاد مارأي} قال: رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف، قد ملأ ما بين السماءِ والأرض. وله وللبخاري في قوله: {لقد رأي من آيات ربِّه الكبرى} قال: رأي رفرفًا أخضر، سد أفق السَّماء. [5662] 5663 - وسُئل مالك بن أنس عن قوله تعالى {إلى ربها ناظرة} فقيل: قومٌ يقولون: إلى ثوابه فقال مالك: كذبوا فأين هم عن قوله تعالى {كلاَّ إنهم عن ربِّهم يومئذ لمحجوبون}؟ قال مالك: الناسُ ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعيُنهم، ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((أجياد)) موضع معروف بأسفل مكة من شعابها. قوله: ((فتدلى)) أي تعلق عليه، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير، والدوالي الثمار المعلقة. و ((قاب قوسين)) مقدار قوسين، والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والزرع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع. وتقديره: وكان مقدار مسافة قربه [مثل قاب] قوسين، فحذفت هذه المضافات. الحديث الرابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((من رفرف)) ((نه)): أي بساط، وقيل: فراش، ومنهم من يجعل الرفرف جمعًا واحده رفرفة، وجمع الرفرف رفارف.

(7) باب صفة النار وأهلها

وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب فقال: {كلاَّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. رواه في ((شرح السنة)). [5663] 5664 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((بينا أهلُ الجنة في نعيمهم، إذ سطعَ لهم نورٌ، فرفعوا رءوسهم، فإذا الربُّ قد أشرفَ عليهم من فوقهم، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة! قال: وذلك قوله تعالى: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم}. قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم)) رواه ابن ماجه. [5664] (7) باب صفة النار وأهلها الفصل الأول 5665 - عن أبي هريرة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله! إن كانت لكافية قال: ((فضلت عليهن بتسعة وستين جزءًا كلهنُّ مثلُ حرها)): متفق عليه. واللفظ للبخاري. وفي رواية مسلم: ((ناركم التي يوقد ابن آدم)). وفيها: ((عليها)) و ((كلها)) بدل: ((عليهن)). ((وكلهن)). ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والسادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم)) هذا الاختصاص يؤيد ما ذهبنا إليه أن التقديم في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} للاختصاص كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في أول الفصل الثاني. باب صفة النار وأهلها الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إن كانت لكافية)) إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، أي إن هذه النار لكافية في إحراق الكفار وعقوبة الفجار، فهلا اكتفي بها ولأي شيء زيدت في حرها؟.

5666 - وعن ابن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)). رواه مسلم. 5667 - وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار، يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل، ما يُرى أن أحدًا أشدُّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا)). متفق عليه. 5668 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه)). رواه البخاري. 5669 - وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا بن آدم! هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب! ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم! هل رأيت بؤسًا قط؟ وهل مرَّ بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا والله، يارب! ما مرَّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيت شدَّة قطُّ)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن قلت: كيف طابق قوله: ((فضلت عليهن)) جوابًا وقد علم من قوله: ((جزء من سبعين)) هذا التفضيل؟. قلت: معناه المنع من الكفاية، أي لا بد من التفضيل لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق، ولذلك أوثر النار على سائر أصناف العذاب زيادة في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مردة خلق الله من الجن والإنس. قال الشيخ أبو حامل في الإحياء: اعلم أنك أخطأت في القياس، فإن نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب جهنم بها، وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هربا مما هم فيه. الحديث الثاني إلى الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((صبغة)) نه: أي يغمس في النار غمسة كما يغمس الثوب في الصبغ. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لو أن لك ما في الأرض)) أي لو ثبت، لأن ((لو)) تقتضى الفعل الماضي، وإذا وقعت ((أن)) المفتوحة بعد ((لو)) كان حذف الفعل واجبًا، لأن ما في ((أن)) من معنى التحقيق والثبات منزل منزلة ذلك الفعل المحذوف.

5670 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم. فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيتَ إِلا أن تُشرك بى)) متفق عليه. 5671 - وعن سمرة بن جندب، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجزَتِهِ، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرقُوته)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أردت منك)) ظاهر هذا الحديث موافق لمذهب المعتزلة لأن المعنى أردت منك التوحيد فخالفت مرادى وأتيت بالشرك. ((مظ)): الإرادة هنا بمعنى الأمر، والفرق بين الإرادة والأمر أن ما يجرى في العالم لا محالة كائن بإرادته ومشيئته، وأما الأمر فقد يكون مخالفًا لإرادته ومشيئته. أقول: الأظهر أن تحمل الإرادة هنا على أخذ الميثاق في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم} لقرينة قوله: ((وأنت في صلب آدم)) فقوله: ((أبيت إلا أن تشرك بي)) إشارة إلى قوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} ويحمل الإباء هاهنا على نقض العهد. قوله: ((إلا أن تشرك بي)) استثناء مفرغ وإنما حذف المستثنى منه مع أن كلامه موجب لأن في الإباء معنى الامتناع فيكون نفيًا، أي: ما اخترت إلا الشرك. الحديث السابع عن سمرة رضي الله عنه: قوله: ((منهم من تأخذه النار)) أول الحديث في شرح السنة برواية أبي سعيد رضي الله عنه: ((إذا خلص المؤمنون من النار ...)) إلى قوله: ((فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم)). قوله: ((إلى ترقوته)) نه: هي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين، وزنها ((فعلوة)) بالفتح. وفي الحديث بيان تفاوت العقوبات في الضعف والشدة لا أن بعضًا من الشخص معذب دون بعض، ويؤيده قوله في الحديث السابق: ((وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه)).

5672 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرةُ ثلاثة أيام للراكب المسرع)). وفي رواية: ((ضرس الكافر مثل أحدٍ، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)). رواه مسلم. وذكر حديث أبي هريرة: ((اشتكت النار إلى ربها)). في باب ((تعجيل الصلوات)). الفصل الثاني 5673 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة)). رواه الترمذي. [5673] 5674 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضرسُ الكافر يوم القيامة مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة)). رواه الترمذي. [5674] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مسيرة ثلاثة)) هكذا هو في جامع الأصول وشرح السنة أنثه باعتبار الليالى. ((مح)): هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وهو مقدور الله تعالى يجب الإيمان به لإخبار الصادق به. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أوقد على النار)) هذا قريب من قوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم} أي أوقد الوقود فوق النار، أي النار ذات طبقات توقد كل طبقة فوق أخرى ومستعلية عليها. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثل البيضاء)) نه: هو اسم جبل. و ((الربذة)) بالراء المهملة بعدها باء مفتوحة بعدهما ذال معجمة، قرية معروفة قرب المدينة. قض: أي يزاد في مقدار أعضاء الكافر زيادة في تعذيبه بسبب زيادة المماسة للنار.

5675 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعًا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة)). رواه الترمذي. [5675] 5676 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الكافر ليُسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس)). رواه أحمد، والترمذي، وقال هذا حديث غريب. [5676] 5677 - وعن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصعود جبل من نار يُتصعدُ فيه سبعين خريفًا، ويهوى به كذلك فيه أبدًا)). رواه الترمذي. [5677] 5678 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: ((كالمهل)) ((أي كعكر الزيت، فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه)). رواه الترمذي. [5678] 5679 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((إن الحميم ليُصَبُّ على رءوسهم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قوله: ((الصعود)) التعريف فيه للعهد، والمشار إليه ما في قوله تعالى: {سأرهقه صعودا} أي سأغشيه عقبة شاقة المصعد. قوله: ((فيه أبدًا)) فيه زيادة تأكيد، ومن أمثلة سيبويه في باب ما بينى فيه المستقر توكيدًا: عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك. الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((كعكر الزيت)) أي الدرن منه والدنس. قوله: ((فروة وجهه)) أي جلدته، والأصل فيه فروة الرأس وهي جلدتها بما عليها من الشعر، فاستعارها من الرأس للوجه. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((حتى يخلص)) قض: يخلص إلى

فينفذ الحميم، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر ثم يُعاد كما كان)). رواه الترمذي. [5679] 5680 - وعن أبي أُمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: ((يقرب إلى فيه يكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يَخْرج من دبره. يقول الله تعالى: {وسُقُوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم} ويقول: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب})). رواه الترمذي. [5680] 5681 - وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لسرادق النار أربعة جُدُرٍ، كثف كل جدار مسيرةُ أربعين سنة)). رواه الترمذي. [5681] 5682 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن دلوا من غساقٍ يُهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا)). رواه الترمذي. [5682] ـــــــــــــــــــــــــــــ جوفه أي يصل إليه ((فيسلت)) أي يذهب ويمر ((حتى يمرق)) أي يخرج، من مرق السهم إذا نفذ في الغرض وخرج منه. و ((الصهر)) الإذابة، فيه إشارة إلى قوله تعالى: {يصهر به ما في بطونهم والجلود}. الحديث السابع إلى التاسع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((لسرادق النار)) روى بفتح اللام على أنه مبتدأ، وكسرها على أنه خبر، وهذا أظهر. نه: السرادق كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. الحديث العاشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((من غساق)) نه: هو بالتخفيف والتشديد، ما يسيل من صديد أهل النار وغسالتهم، وقيل: ما يسيل من دموعهم، وقيل: هو الزمهرير. ((لأنتن)) أنتن الشيء إذا تغير وصار ذا نتن.

5683 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنَّ قطرةً من الزَّقُّرم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟!)) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن صحيح. [5683] 5684 - وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وهم فيها كالحون} قال: ((تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته)). رواه الترمذي. [5684] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((حق تقاته)) أي واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم، أي بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئًا وهذا معنى قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقوله: {ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون} تأكيد لهذا المعنى، أي لا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، فمن واظب على هذه الحالة وداوم عليها مات مسلمًا، وسلم في الدنيا من الآفات، وفي الأخرة من العقوبات، ومن تقاعد عنها وقع في العذاب في الآخرة، ومن ثم أتبعه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لو أن قطرة من الزقوم ..)) الحديث. و ((الزقوم)) ما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز فقال تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الحميم طلعها كأنه رءوس الشياطين} وهو فعول من الزقم اللقم الشديد والشرب المفرط. الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((كالحون)) أي: عابسون حين تحترق وجوههم من النار. قوله: ((فتقلص)) على صيغة المضارع، أي تتقلص ومعناه تنقبض. الحديث الثالث عشر والرابع عشر من أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((فيعدل ماهم فيه)) أي مثله ومساويه في الألم.

5685 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يأيها الناس! ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرح العيون، فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت)) رواه في ((شرح السنة)). [5685] 5686 - وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُلقى على أهل النار الجوعُ، فيعدِلُ ماهم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمنُ ولا يغنى من جوع، فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام ذى غُصَّةٍ. فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغُصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت مافي بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: ألم تكُ تأتيكم رسلكم بالبينات؟ قالوا: بلى. قالوا: فادعوا، وما دعاءُ الكافرين إلا في ضلال)) قال: ((فيقولون: ادعوا مالكًا، فيقولون: يا مالكُ! ليقض علينا ربُّكَ)) قال: ((فيجييهم إنكم ماكثونَ)). قال الأعمشُ: نبئتُ أنَّ بين دعائهم وإجابة مالك إياهُم ألف عامٍ. قال. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من ضريع)) هو نبت بالحجاز ذو شوك، يقال له: الشبرق. وقوله: ((بطعام ذى غصة)) هو ما يتشبث في الحلق ولايسوغ فيه. وقوله: ((فيذكرون)) يقتضى محذوفا، أي إذا أتوا بطعام ذى غصة فتناولوه وغصوا به فيذكرون. قوله: ((ادعوا خزنة جهنم)) الظاهر أن ((خزنة)) ليس بمفعول لادعوا بل هو منادى ليطابق قوله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب} وقوله {ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} إلزام للحجة وتوبيخ وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات، قالوا: فادعوا أنتم فإنا لا نجتريء على ذلك، وليس قولهم: فادعوا، لرجاء المنفعة ولكن للدلالة على الخيية، وأن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكافرين؟ ولما أيسوا من دعاء خزنة جهنم لأجلهم وشفاعتهم لهم أيقنوا أن لاخلاص لهم ولا مناص من عذاب الله، فقالوا: ((يا مالك ادع

((فيقولون: ادعوا ربكم، فلا أحدٌ خير من ربكم، فيقولون: ((ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظالمون)) قال: ((فيجيبُهم: {اخسئوا فيها ولاتكلمون} قال ((فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك بأخذون في الزفير والحسرة والويل)). قال عبد الله بن عبد الرحمن: والناسُ لا يرفعون هذا الحديث. رواه الترمذي. [5686] 5687 - وعن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) فما زال يقولها، حتى لو كان في مقامى هذا سمعه أهل السوق، وحتى سقطت خميصةٌ كانت عليه عند رجليه. رواه الدارمي. [5687] 5688 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن رصاصةً مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي ـــــــــــــــــــــــــــــ ربك ليقض علينا)) أي سل ربك أن يقضي علينا، وهو من: قضى عليه إذا أماته. و ((غلبت علينا شقوتنا)) أي ملكتنا، من قولك: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة: سوء العاقبة. واخسئوا فيها: ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه. {ولا تكلمون} في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولايخفف. الحديث الخامس عشر عن النعمان رضي الله عنه: قوله: ((حتى لو كان في مقامي)) في الكلام حذف، أي قال الراوى: لم يزل يقول ويمد بها صوته ويتحرك حتى لو كان في مقامي هذا المكان كان الراوي فيه سمعه أهل السوق وحتى سقطت خميصته. الحديث السادس عشر عن عبد الله رضي الله عنهما: قوله: ((لو أن رصاصة)) تو: في سائر نسخ المصابيح ((رضراضة)) مكان ((رصاصة)) وهو غلط لم يوجد في جامع الترمذي، ولعل الغلط وقع من غيره، ((والرصاصة)) القطعة من الرصاص. ((وأشار إلى مثل الجمجمة)) تشبيهًا بحجمها وتنبيها على تدور شكلها، بين مدى قعر جهنم بأبلغ ما يمكن من البيان، فإن الرصاص من الجواهر الرزينة، والجوهر كلما كان أتم رزانة كان

مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة، لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها)). رواه الترمذي. [5688] 5689 - وعن أبي بُردة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في جهنم لواديًا يقال له: هبهب، يسكنه كل جبار)). رواه الدارمي. [5689] الفصل الثالث 5690 - عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يعظم أهل النار في النار حتى إنَّ بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عامٍ، وإنَّ غلظ جلدِه سبعونَ ذراعًا، وإنَّ ضرسه مثل أحدٍ)). [5690] ـــــــــــــــــــــــــــــ أسرع هبوطًا إلى مستقره لاسيما إذا انضم إلى رزانته كبر جرمه، ثم قدره على الشكل الكروي فإنه أقوى انحدارًا. وأبلغ مرورًا في الجو. أقول: قوله: ((قبل أن تبلغ أصلها)) متعلق بمحذوف، أي سارت الرصاصة ومضى أربعون خريفًا قبل أن تبلغ الرصاصة إلى أصل السلسلة وهي المذكورة في قوله تعالى: {في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا} والمراد بالعدد الكثرة. وإذا روى: ((أو قعرها)) يراد به قعر جهنم لأن السلسلة لا قعر لها، والله أعلم. الحديث السابع عشر عن أبي بردة رضي الله عنه: قوله: ((هبهب)) نه: الهبهب السريع، وهبهب السراب إذا ترقوق. الجوهري: هبهبته إذا دعوته لينزو، والهبهبي الراعي. تو: سمى بذلك إما لسرعة وقوعه في المجرمين، أو لشدة أجيج النار فيه أو للمعانه عند الاضطرام والالتهاب.

5691 - وعن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في النار حيَّات كأمثال البُخت تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفًا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال المؤكفة، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفًا)). رواه أحمد. [5691] 5692 - وعن الحسن، قال: حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة)). فقال الحسن، وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فسكت الحسن. رواه البيهقي في ((كتاب البعث والنشور)). [5692] 5693 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار إلا شقي)). قيل: يا رسول الله! ومن الشقي؟ قال: ((من لم يعمل لله بطاعةٍ، ولم يترك له معصيةً)). رواه ابن ماجه. [5693] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول إلى الثالث: عن الحسن. قوله: ((مكوران)) هو من طعنة فكوره إذا ألقاه، أي يلقى ويطرح كل منهما عن فلكهما. قوله: ((أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أي تقابل النص الجلي بالقياس وتجعل موجب دخول النار العمل، فإن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بطاعة)) الباء فيه زائدة، وكذا في قوله: ((بمعصية)) وبناء المرة فيهما مع التنكير للتقليل، وزيادة الباء للتيأكيد يدل على ترجيح جانب الرحمة، وأن الله لا يضيع أجر من عمل له طاعة ما، أو ترك لأجله ولخوفه معصية ما، نحو قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}.

(8) باب خلق الجنة والنار

(8) باب خلق الجنة والنار الفصل الأول 5694 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لايدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم. قال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي ارحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله رجله. تقول: قط قط قط. فهنالك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض، فلا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقًا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب خلق الجنة والنار الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تحاجت الجنة والنار)) نه: يقال: حاججته حجاجًا ومحاجة فأنا محاج أي غالبته فالحجة عليه، ومنه الحديث: ((فحج آدم موسى)) أي غلبة بالحجة - انتهى كلامه -. والحديث لا يحمل على هذا لأن كل واحدة منهما ليست بغالبة على الأخرى فيما تكلمت به بل لمجرد حكاية ما اختصت به، وفيها شائبة من معنى الشكاية، ألا ترى كيف قال الله تعالى للجنة: ((إنما أنت رحمتي)) وللنار: ((إنما أنت عذابي)) فأفحم كلا منهما بما تقتضيه مشيئته. وهذه المحاجة جارية على التحقيق فإنه تعالى قادر على أن يجعل كل واحدة منهما مميزة مخاطبة، أو على التمثيل. و ((سقطهم)) أي أرداءهم. ((وغرتهم)) بغين معجمة مكسورة، أي من ليس لهم حذق في أمور الدنيا. ((حس)): سمى الجنة رحمة لأن بها تظهر رحمة الله تعالى كما قال: ((أرحم بك من أشاء)) وإلا فرحمة الله من صفاته التي لم يزل بها موصوفًا، ليس لله تعالى صفة حادثة ولا اسم حادث فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته جل جلاله وتقدست أسماؤه، والقدم والرجل المذكوران في هذا الحديث من صفات الله تعالى المنزهة عن التكييف والتشبيه، وكذلك كل

5695 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقولُ: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولايزال في الجنة فضلٌ حتى ينشيء الله لها خلقًا فيسكنهم فضل الجنة)). متفق عليه. وذكر حديث أنس: ((حفت الجنة بالمكاره)) في ((كتاب الرقاق)). الفصل الثاني 5696 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لما خلق الله الجنة قال ـــــــــــــــــــــــــــــ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب والسنة كاليد والأصبع والعين والمجيء والإتيان والنزول، فالايمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. قوله: ((قط قط)) أي حسبي. ((مح)): فيه ثلاث لغات، بإسكان الطاء فيهما، وبكسرها منونة وغير منونة. ((ويزوي بعضها إلى بعض)) أي يضم بعضها إلى بعض ويجمع. وقوله: ((وأما الجنة)) أما التفصيلية تقتضي متعددًا وقرينتها قوله: ((فلا يظلم الله من خلقه)). يعني أما النار فيضع الله رجله فتمتليء، ولا ينشيء لها خلقًا فلا يظلم الله من خلقه أحدًا لم يعمل سوءا، وأما الجنة فينشيء لها خلقًا لم يعمل خيرًا، حتى تمتليء، فإن الله متفضل على عباده بغير عمل منهم فالله أعلم بحقائق الأمور. ((مح)): وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقا. هذا دليل لأهل السنة على أن الثواب ليس متوقفًا على الأعمال، فإن هؤلاء يخلقون حينئذ ويعطون الجنة بغير عمل - انتهى كلامه. وللمعتزلة أن يقولوا: إن نفي الظلم عمن لم يذنب دليل على أنه إن عذبهم كان ظلمًا وهو عين مذهبنا. والجواب: إنا وإن قلنا: إنه تعالى وإن عذبهم لم يكن ظالما فإنه لم يتصرف في ملك غيره، لكنه تعالى لا يفعل ذلك لكرمه ولطفه مبالغة في نفي الظلم وإثبات للكرم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه:

لجبريل: اذهب فانظر إليها، نذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لايسمع بها أحدٌ إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحدٌ)). قال: ((فلما خلق الله النار قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، قال: ((فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [5696] الفصل الثالث 5697 - عن أنسٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لنا يومًا الصلاة، ثم رقى المنبر، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، فقال: ((قد أريتُ الآن مذ صليتُ لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبل هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا يسمع بها أحد إلا دخلها)) أي طمع في دخولها، ولا يهتم إلا بشأنها لحسنها وبهجتها. وقوله: ((لقد خشيت أن لا يدخلها أحد)) أي لوجود المكاره من التكاليف الشاقة ومخالفة هوى النفس وكسر الشهوات، وقوله: ((لا يسمع بها أحد فيدخلها)) أي لا يسمع بها أحد إلا فزع منها واحترز فلا يدخلها. الفصل الثالث الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كاليوم)) الكاف في موضع الحال، وذو الحال المفعول به وهو الجنة والنار لشهادة السابق، والمعنى لم أر الجنة والنار في الخير والشر يومًا من الأيام مثل ما رأيت اليوم، أي رأيتهما رؤية جلية ظاهرة مثلتا في قبل هذا الجدار ظاهرًا خيرها وشرها، ونحوه قول الشاعر: حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوبًا ولا طالبًا

(9) باب بدء الخلق وذكر الأنبياء

(9) باب بدء الخلق وذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الفصل الأول 5698 - عن عمران بن حصين، قال: إنى كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: ((اقبلوا البشرى يابني تميم!)) قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن! إذ لم يقبلها بنو تميم)). قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: ((كان ـــــــــــــــــــــــــــــ باب بدء الخلق وذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الفصل الأول الحديث الأول عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((إذ جاءه قوم)) أي وقت مجيئهم. قوله: ((اقبلوا البشرى يابني تميم)) أي اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة من التفقه في الدين والعمل به، ولما لم يكن جل اهتماهم إلا بشأن الدنيا والاستعطاء دون دينهم قالوا: ((بشرتنا فأعطنا)) أي بشرتنا بالتفقه وإنما جئنا للاستعطاء فأعطنا فالفاء فصيحة، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذ لم يقبلها بنو تميم)). قوله: ((عن أول هذا الأمر)) أي مبدأ العالم. و ((ما)) في ((ما كان)) استفهامية، أي: أي شيء كان أول الأمر؟ كرر السؤال لمزيد الاهتمام، وإنما تحسر الراوي بقوله: ((لوددت)) لأنه ظفر بالسؤال ولم يفز بالأول من التفقه في الدين. قوله: ((ولم يكن شيء قبله)) حال، كما في قول الحماسي. مشينا مشية الليث غدا والليث غضبان وعلى مذهب الكوفي خبر، والمعنى يساعده إذ التقدير: كان الله في الأزل متفردًا متوحدًا، وهو مذهب الأخفش فإنه جوز دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو: ((كان زيد وأبوه قائم)) على جعل الجملة خبرًا مع الواو تشبيها للخبر بالحال.

الله ولم يكن شيء قبلة، وكان عرشُه على الماء، ثمَّ خلقَ السماواتِ والأرضَ، وكتبَ في الذكر كل شيء)) ثم أتاني رجلٌ فقال: يا عمرانُ! أدرك ناقتكَ فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، وايم الله لوددت أنَّها قد ذهبت ولم أقُم رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): هذا فصل مستقل بنفسه لا امتزاج له بالفصل الثاني وهو قوله: {وكان عرشه على الماء} لما بين الفصلين من المنافاة، فإنك إذا جعلت {وكان عرشه على الماء} من تمام القول الأول فقد ناقضت الأول بالثاني، لأن القديم من لم يسبقه شيء ولم يعارضه في الأولية، وقد أشار بقوله: {وكان عرشه على الماء} إلى أنهما كانا مبدأ التكوين، وأنهما كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل السماوات والأرض إلا الماء، وكيفما كان فالله سبحانه وتعالى خالق ذلك كله وممسكه بقوته وقدرته. أقول: أراد الشيخ بما قال أن المعطوف عليه مقيد بقوله: ولم يكن قبله شيء)) فلو جعل المعطوف غير مستقل لزم المحذور، فإذا جعل مستقلا ويعطف الثانية على الأولى من حيث الجملية فلا، فإذن لفظة ((كان)) في الموضعين بحسب حال مدخولها فالمراد بالأول الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم. غب: ((كان)) عبارة عما مضى من الزمان وفي كثير من وصف الله تنبيء عن معنى الأزلية، قال الله تعالى: {وكان الله بكل شيء عليما} وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقًا بوصف له موجود فيه فتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له قليل الانفكاك منه، قال الله تعالى: {وكان الشيطان للإنسان خذولا} ولا فرق بين أن يكون الزمان المستعمل فيه ((كان)) قد تقدم تقدمًا كبيرًا، وبين أن يكون في زمان قد تقدم بآن واحد على الوقت الذي استعملت فيه ((كان)) كقوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيا} - انتهى كلامه -. ومما يدل على صحة قولنا: وبالثاني الحدوث بعد العدم، ما ورد في الفصل الثاني من النص القاطع: ((كان في عماء ما تحته ماء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء)) فالحاصل أن عطف قوله: ((وكان عرشه على الماء)) على قوله: ((كان الله ولم يكن قبله شيء)) من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود، وتفويض الترتيب إلى الذهن فالواو فيه بمنزلة ثم، وقد سبق في باب الإيمان بالقدر مزيد تقرير وشرح لهذا الكلام

5699 - وعن عمر، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه رواه البخاري. 5700 - وعن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إنَّ الله تعالى كتب كتابًا قبلَ أن يخلق الخلق: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي؛ فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((حتى دخل أهل الجنة)) غاية أخبرنا أي أخبرنا مبتدئا من بدء الخلق حتى انتهى إلى وصول أهل الجنة الجنة، ووضع الماضي موضع المضارع للتحقيق المستفاد من قول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كتب كتابًا)) تو: يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويكون معنى قوله: ((فهو مكتوب عنده)) أي فعلم ذلك عنده، ويحتمل أن يكون المراد القضاء الذي قضاه وعلى الوجهين، فإن قوله: ((فهو مكتوب عنده فوق العرش)) تنبيه على كينونته مكنونا على سائر الخلائق، مرفوعًا عن حيز الإدراك، ولا تعلق بهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات، تعالى الله عن صفات المحدثات، فإنه هو المباين عن جميع خلقه المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته، وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق منها أكبر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا بالاستحقاق، ألا ترى أنها تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن تصدر منه طاعة استوجب بها ذلك، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} فالحمد لله على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقنا. مح: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى إثابة المطيع وعقاب العاصي، والمراد بالسبق هنا وبالغلبة في أخرى كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة، إذا كثرا منه. أقول: قوله: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) يحتمل أن تكون ((أن)) مفتوحة بدلا من ((كتابا)) أو مكسورة حكاية لمضمون الكتاب، وهو على وزان قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة}

5701 - وعن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خُلقت الملائكة من نور، وخُلقَ الجان من مارج من نار، وخُلقَ آدمُ مما وصف لكم)). رواه مسلم. 5702 - وعن أنس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما صورَ الله آدم في الجنة تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ أي أوجب وعدًا أن يرحمهم قطعًا، بخلاف ما يترتب عليه مقتضى الغضب من العقاب، فإن الله تعالى غفور كريم يتجاوز عنه بفضله، وأنشد: وإنى إذا ما أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالمراد بالسبق هنا القطع بوقوعها. الحديث الرابع عن عاثشة رضي الله عنها: قوله: ((الجان من مارج)) مح: الجان أي الجن والمارج، اللهب المختلط بسواد النار. الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لما صور الله آدم)) ((تو)): أرى هذا الحديث مشكلا جدًّا، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن آدم خلق من أجزاء الأرض، وقد دل على أنه دخل الجنة وهو بشر حي، ويؤيده المفهوم من نص الكتاب: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}. قض: الأخبار متظاهرة على أنه تعالى خلق آدم من تراب قبض من وجه الأرض، وخمره حتى صار طينًا، ثم تركه حتى صار صلصالا، وكان ملقى بين مكة والطائف ببطن نعمان، ولكن ذلك لا ينافي تصويره في الجنة لجواز أن تكون طينته لما خمرت في الأرض وتركت فيها حتى مضت عليها الأطوار واستعدت لقبول الصورة الإنسانية حملت إلى الجنة فصورت ونفخ فيها الروح، وقوله تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} فلا دلالة له أصلا على أنه أدخل الجنة بعد ما نفخ فيه الروح، إذ المراد بالسكون الاستقرار والتمكن، والأمر به لا يجب أن يكون قبل الحصول في الجنة، وقد تضافرت وتعاونت الروايات على أن حواء خلقت من آدم في الجنة وهي أحد المأمورين به، ولعل آدم عليه السلام لما كانت مادته التي هي البدن من العالم السفلي، وصورته التي بها يتميز عن سائر الحيوانات ويضاهي بها الملائكة من العالم العلوي، أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم تكون مادته إلى الأرض لأنها نشأت فيها، وأضاف حصول صورته إلى الجنة لأنها منها.

5703 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اختتن إبراهيم النبيُّ وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)) متفق عليه. 5704 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يكذب إبراهيم إلاَّ ثلاثَ كذباتٍ: ثنتين منهنَّ في ذات الله قوله {إني سقيم}، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا)، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لا يتمالك) أي لا يكون له قوة وثبات بل يكون متزلزل الأمر متغير الحال معرضًا للآفات. مح: طاف بالشيء يطوف طوفًا وطوافًا، وأطاف يطيف إذا استدار حوله، ((لا يتمالك)) أي لا يملك نفسه ولا يتجنب الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه. وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب. أقول: الأجوف في صفة الإنسان مقابل للصمد في صفة الباريء. قيل: السيد سمى بالصمد لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في الرغائب، من صمدت الشيء إذا قصدته، وقيل: إنه المميز عن أن يكون بصدد الحاجة أو في معرض الآفة، مأخوذ من الصمد بمعنى المصعد وهو الصلب الذي لا جوف له، فالإنسان مفتقر إلى الغير لقضاء حوائجه وإلى الطعام والشراب ليملأ جوفه، فإذا لا تماسك له في شيء ظاهرًا وباطنًا. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بالقدوم)) تو: القدوم بالتخفيف آلة النجار معروفة، وبالتشديد اسم موضع، وقيل: هو بالتخفيف أيضًا، هكذا في جامع الأصول وفي كتاب الحميدي: قال البخاري: قال أبو الزناد (وهو راوي الحديث): اختتن إبراهيم بالقدوم (مخففة) وهو موضع. تو: ومن المحدثين من يشدد وهو خطأ. مح: ((القدوم)) وقع في رواية البخاري الخلاف في التخفيف والتشديد، يقال لآلة النجار، قدوم بالتخفيف لا غير، وأما ((القدوم)) مكان بالشام ففيه التشديد والتخفيف، ومن رواه بالتشديد أراد به القرية، ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلا ثلاث كذبات)) مح: قال المازري: أما الكذب فيما هو طريق البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه، سواء قل أو كثر، فإن تجويزه منهم يرفع الوثوق بأقوالهم، ولأن منصب النبوة يرتفع عنه، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ

وقال: بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ هاهُنا رجلا معه امرأةٌ من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة، فقال لها: إنَّ هذا الجبار إن يعلم أنكِ امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، [فإنك أختي] في الإسلام، ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري ـــــــــــــــــــــــــــــ ويعد من الصغائر كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف. قوله: ((في ذات الله)) قال في المغرب: ذو بمعنى الصاحب يقتضي شيئين موصوفًا ومضافًا إليه، وتقول للمؤنث: امرأة ذات مال، ثم اقتطعوها عن مقتضيها وأجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها غير المقتضية لما سواها فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ونسبوا إليها من غير تغيير علامة التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتية، واستعملوها استعمال النفس والشيء. وعن أبي سعيد: كل شيء ذات وكل ذات شيء. مح: هذه أيضًا في ذات الله تعالى، لأنها سبب دفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة لا يرضي بها الله تعالى، وإنما خص الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى لكون الثالثة متضمنة نفعًا له ودفعًا لحرمه - انتهى كلامه -. أقول: قوله: ((في ذات الله)) أي في الدفع عن ذات الله ما لا يليق بجلاله، يدل عليه ما جاء في حديث آخر: ((ما منها كذبة إلا ما حل عن دين الله)) أي خاصم وجادل وذب عن دين الله تعالى، وهو معنى التعريض لأنه نوع من الكناية ونوع من التعريض يسمى بالاستدراج وهو: إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة ليعثر حيث يريد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج، فقوله: ((إنى سقيم)) إيهام منه أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سقيم ليتركوه فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيم لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهة. وقوله: ((بل فعله كبيرهم)) تنبيه على أن الإله الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه، كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير؟. وقوله عن سارة: ((أختي)) دفع عنها قصد الجبار إياها، قيل: كان من ديدن هذا الجبار أو من دينه أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، فلذلك قال: ((إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك)) ويحتمل أن يكون المراد به أنه إن علم ذلك ألزمني بالطلاق، أو قصد قتلي حرصًا عليك. فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة عن ساحته، فما باله يشهد على نفسه بها في حديث الشفاعة في قوله: ((وإني كنت قد كذبت ثلاث كذبات)) فذكرها نفسي نفسي نفسي؟ على أن تسميتها وأنها معاريض بالكذبات إخبار بالشيء على خلاف ما هو به؟.

وغيرُكِ، فأرسل إليها، فأتي بها، قام إبراهيم يُصلي، فلمَّا دخلت عليه، ذهب يتناولها بيده، فأخذ - ويُروى فغطَّ - حتى ركض برجله، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية، فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنك لم تأتني بإنسانٍ، إنما أتيتني بشيطانٍ، فأخدَمَها هاجر، فأتته وهو قائمٌ يصلي، فأومأ بيده مهيم؟ قالت: رد ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية وسميناها معاريض فلا ننكر أن صورتها صورة التعريج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها فسماها معاريض، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك وأنها مختصة بالحبيب فتجوز بالكذبات. مح: قوله: ((إذ أتى)) جواب: ((بينا)) أي بيناهما يسيران ذات يوم إذ أتيا على بلد جبار من الجبابرة فوشى بهما، وقوله: ((من هذه؟)) بيان للسؤال سأل الجبار بهذا اللفظ، وقوله: ((يغلبني عليك)) أي يأخذك مني قهرًا، من قولك: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه. وقوله: ((ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك)) يريد به قوله: {إنما المؤمنون إخوة} يعني أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والسبب اللاصق ما يفضل الأخوة في النسب، وليس أحد أحق بهذا الاسم العقد مني ومنك الآن، لأنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك. وقوله: ((فأرسل إليها)) أي الجبار إلى سارة يطلبها. وقوله: ((قام إبراهيم)) جملة مستأنفة، كأن قائلا قال: فما فعل بعد؟ فأجيب: قام. ((وذهب يتناولها)) أي طفق. ((فأخذ)) أي حبس نفسه وضغط، والمراد به الخنق هاهنا، أي أخذ بمجاري نفسه حتى سمع له غطيط، وكذا معنى ((الغط)). ((وركض برجله)) أي ضرب، وأصل الركض الضرب بالرجل كما تركض الدابة. وقوله: ((فأخذ مثلها)) أي أخذه مثل الأخذة الأولى. وقوله: ((إنما أتيتني بشيطان)) أراد به المتمرد من الجن، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم. وقوله: ((فأخدمها)) أي الجبار.

الله كيد الكافر في نحره، وأخدم هاجر)) قال أبو هريرة: تلك أمكم يابني ماء السماء! متفق عليه. 5705 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم إذ قال: (ربِّ أرني كيف تحيي الموتى) ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((هاجر)) خادمة لسارة. و ((مهيم)) هي كلمة يمانية يستفهم بها، ومعناها ما حالك وما شأنك، جعلت مفسرة للإيماء، أي أومأ بيده إيماء يفهم منه معناها. قوله: ((كيد الكافر في نحره)) النحر أعلى الصدر، هو من قوله تعالى: {ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله}. قوله: ((أمكم يا بني ماء السماء)) ((قض)): قيل: أراد بهم العرب سموا بذلك لأنهم يبتغون المطر ويتعيشون به والعرب وإن لم يكونوا بأجمعهم من بطن هاجر لكن غلب أولاد إسماعيل على غيرهم. وقيل: أراد بهم الأنصار لأنهم أولاد ((عامر بن حارثة الأزدي)) جد ((نعمان بن المنذر)) وهو كان ملقبا ((بماء السماء)) لأنه كان يستمطر به. ويحتمل أنه أراد بهم ((بني إسماعيل)) وسماهم بذلك لطهارة نسبهم وشرف أصولهم. الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((نحن أحق بالشك)) خط: مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله هذا اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم عليه السلام أولى بأن لا يشك ولا يرتاب فيه، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من قبل الشك ولكن من قبل زيادة العلم، واستفادة معرفة كيفية الإحياء، والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ما لم تجده بعلم الآنية، والعلم في الوجهين حاصل والشك مرفوع. وقد قيل: إنما طلب الإيمان حسًّا وعيانًا لأنه فوق ما كان عليه من الاستدلال، والمستدل لا يزول عنه الوسواس والخواطر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الخبر كالمعاينة)).

5706 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلا حييا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما تستر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص أو أدرة، وإن الله أراد أن يبرئه، فخلا يومًا وحده ليغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمح موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجرُ! ثوبي يا حجرُ! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله وقالوا والله ما بموسي من بأس، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ويرحم الله لوطًا)) تمهيد وتقدمة للخطاب المزعج، كما في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}. ((قض)): استعظام لما قاله واستغراب لما بدر منه حينما أجهده قومة فقال: {أو آوى إلى ركن شديد} إذ لا ركن أشد وأمنع من الركن الذي كان يأوى إليه، وهو عصمة الله تعالى وحفظه. قوله: ((لأجبت الداعي)) يريد به قوله تعالى: {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله} تو: هو منبيء عن إحماده صبر يوسف وتركه الاستعجال بالخروج من السجن مع امتداد مدة الحبس عليه. ثم إن في ضمن هذا الحديث تنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا من الله بمكان لا يشاركهم فيه أحد، فإنهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر، فلا تعدوا ذلك منقصة ولا تحسبوه مسبة. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أدرة)) نه: الأدرة بالضم نفخة بالخصية، يقال: رجل أدر بين الأدرة، بفتح الهمزة والدال، وهي التي يسميها الناس الغيلة. و ((جمح)) أي أسرع إسراعًا لا يرده شيء، وكل شيء مضى لوجهه على أمر فقد جمح. و ((الندب)) بالتحريك أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، فشبه به أثر الضرب بالحجر. أقول: الفاء في قوله: ((فإن الله)) للتعقيب، وأصل الكلام فقالوا: كيت وكيت فأراد الله أن يبرئه، وأتى بإن المؤكدة تأكيدًا اعتناء بشأنه. وقوله: ((عريانًا)) حال، وكذا قوله: ((أحسن)) لأن الرؤية بمعنى النظر.

ضربًا، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعة أو خمسًا. متفق عليه. 5707 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أيوب يغتسل عُريانا، فخر عليه جرادٌ من ذهب، فجعل أيوبُ يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوبُ! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثلاثا)) أي ندبات، بيانًا وتفسيرًا لاسم إن. مح: فيه معجزتان ظاهرتان لموسى عليه الصلاة والسلام، إحداهما: مشى الحجر بثوبه، والثانية: حصول الندب في الحجر بضربه، وفيه: حصول التمييز في الجماد، وفيه: جواز الغسل عريانًا في الخلوة وإن كان ستر العورة أفضل، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد، وخالفهم ابن أبي ليلى فقال: إن للماء ساكنًا. وفيه: ابتلاء الأنبياء والصالحين من أذى السفهاء والجهال وصبرهم عليه. وفيه: أن الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم منزهون عن النقائص في الخلق والخلق، سالمون من العاهات والمعايب، اللهم إلا على سبيل الابتلاء. قوله: ((بالحجر)) متعلق بخبر طفق، أي طفق يضرب الحجر ضربًا. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فخر عليه)) نه: خر يخر بالضم والكسر إذا سقط من علو، وخر الماء يخر بالكسر. و ((يحثى في ثوبه)) أي يصيد فيه. أقول: الفاء في ((فخر)) مثلها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا دخل آدم)). قال المالكى: الفاء في قوله: ((فإذا دخل آدم)) زائدة كالأولى في قوله تعالى: {فبذلك فليفرحوا}. قال جار الله: أصل الكلام: قل: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا. أقول: قدر ثلاث فاءات فالأولى: لربط الكلام بما قبله، والثالثة: جواب الشرط المقدر، والثانية: زائدة، لأن الباء في ((بذلك)) متعلقة بما بعده قدم للاختصاص. قوله: ((ألم كن أغنيتك؟)) هذا ليس بعتاب منه تعالى، فإن الإنسان وإن كان مثريا لا يشبع

5708 - وعنه، قال: استبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود. فقال المسلم: والذي اصطفي محمدًا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفي موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودى، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطشٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ بثراه بل يريد المزيد عليه، بل من قبيل التلطف والامتحان بأنه هل يشكر على ما أنعم عليه فيزيد في الشكر، وإليه الإشارة بقوله: ((ولكن لا غنى لى عن بركتك)) ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه جوابًا عن قوله: ((أعطه أفقر إليه مني؟)) ((ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك)). الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا تخيروني على موسى)) تو: أي لا تفضلوني عليه، قول قاله على سبيل التواضع أولا، ثم لردع الأمة عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانيًا، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبية، فينتهز الشيطان عند ذلك فرصة فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيطرون الفاضل فوق حقه ويبخسون المفضول حقه، فيقعون في مهواة الغي، ولهذا قال: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) أي لا تقدموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم بل بما أتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا أقول إن أحدًا خير من يونس بن متى)) أي: لا أقول من تلقاء نفسي، ولا أفضل أحدًا عليه من حيث النبوة والرسالة فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل يقول: كل من أكرم بالنبوة فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله تعالى وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أكرم بالرسالة، وإليه وقعت الإشارة بقوله سبحانه: {لا نفرق بين أحد من رسله} وإنما خص يونس بالذكر من بين الرسل لما قص الله عليه في كتابه من أمر يونس، وتوليه عن قومه، وضجره عند تثبطهم في الإجابة، وقلة الاحتمال عنهم والاحتفال بهم حين أرادوا التنصل، فقال عز من قائل: {ولا تكن كصاحب الحوت} وقال: {وهو مليم} فلم يأمن صلى الله عليه وسلم أن يخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة في حقهم، فنبأهم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

بجانب العرش، فلا أدري كان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان فيمن استثنى الله؟)). وفي رواية: ((فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطورِ، أو بعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى)). 5709 - وفي رواية أبي سعيد قال: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) متفق عليه. وفي رواية أبي هريرة: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)). 5710 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متى)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ هذا قول جامع في بيان ما ورد في هذا الباب فافهم ترشد إلى الأقوم. وأما ما ذكره في هذا الحديث من الصعقة فهي بعد البعث عند نفخة الفزع، وأما في البعث فلا تقدم لأحد فيه على نبينا صلى الله عليه وسلم، واختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بهذه الفضيلة لا يوجب تفضيلا على من تقدمه بسوابق جمة وفضائل كثيرة، والله المسئول أن يعرفنا حقوقهم، ويحيينا على محبتهم، ويميتنا على سنتهم، ويحشرنا على ما كانوا عليه. قوله: ((ولا أقول: إن أحدًا)) قال المالكي: استعمل أحدًا في الإثبات لمعنى العموم لأنه في سياق النفي، كأنه قيل: لا أحد أفضل من يونس والشيء قد يعطى حكم ما هو في معناه وإن اختلف في اللفظ، فمن ذلك قوله تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر} فأجرى في دخول الباء على الخبر مجرى (أو ليس الذي) لأنه بمعناه، ومن إيقاع أحد في الإيجاب المؤول بالنفي قول الفرزدق: ولو سئلت عني نوار وأهلها إذًا أحد لم تنطق الشفتان فإن ((أحد)) وإن وقع مثبتًا لكنه في الحقيقة منفي لأنه مؤخر معنى، كأنه قال: إذا لم ينطق أحد. قوله: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) بالصاد المهملة ظاهر، أي لا تفرقوا بينهم، وبالضاد المعجمة معناه لا يوقع الفضل بين أنبياء الله، أي لا تفضلوا بعض الأنبياء على بعض نحو قوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} أي وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما - في الكشاف -. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا خير)) قيل: ضمير المتكلم

وفي رواية للبخاري قال: من قال: أنا خيرٌ من يونس بن متى فقد كذب)). 5711 - وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا)) متفق عليه. 5712 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سمى الخضر لأنه جلس ـــــــــــــــــــــــــــــ يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعود إلى كل قائل، أي لا يقول بعض الجاهلين من المجتهدين في العبادة أو العلم أو غير ذلك من الفضائل، فإنه لو بلغ ما بلغ إلا أنه لم يبلغ درجة النبوة، ويؤيده الرواية الأولى: ((ما ينبغى لعبد أن يقول: إنى خير من يونس بن متى)). مظ: إنما خص يونس بالذكر لأن الله تعالى لم يذكره في جملة أولي العزم من الرسل، وقال الله تعالى: {ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} فقصر به عن مراتب أولى العزم والصبر من الرسل، بقوله صلى الله عليه وآله وبارك وسلم: إذا لم آذن لكم أن تفضلوني على يونس بن متى، فلا يجوز لكم أن تفضلوني على غيره من ذوي العزم من أجلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا منه صلى الله عليه وسلم على التواضع والهضم من نفسه، وليس ذلك بمخالف لقوله: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) لأنه لم يقل ذلك مفتخرًا ولا متطاولا به على الخلق، وإنما قال ذلك ذاكرًا للنعمة ومعترفًا بالمئة فيه، وأراد بالسيادة ما يكرم به في القيامة من الشفاعة، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يؤول قوله: ((من قال: أنا خير منه فقد كذب)) لأن المراد أنا خير في النبوة والرسالة كما قال الله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} والله أعلم. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((الخضر)) مح: جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا لا سيما عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه وحضوره في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر، وصرح الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بذلك، قال: وشذ من أنكره من المحدثين. قال الجيزي المفسر وأبو عمرو، هو نبي، واختلفوا في كونه مرسلا. وقال القشيري وكثيرون: هو ولي.

على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)). رواه البخاري. 5713 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران، فقال له: أجب ربك)). قال: ((فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها)) قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ واحتج من قال بنبوته بقوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} فدل على أنه أوحى إليه، وبأنه أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام، ويبعد أن يكون الولي أعلم من نبي. وأجاب الآخرون: يجوز أن يكون قد ألقى إليه بطريق الإلهام، كما ألقى إلى أم موسى في قوله تعالى: {إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه ...}. قال الثعلبي المفسر: الخضر نبي معمر محجوب عن أكثر الأبصار. قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وذكر أقوالا في أنه في زمن ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أم بعده بقليل أو كثير. قال القاضي عياض: في هذا حجة بينة لأهل السنة وصحة مذهبهم أن العبد لا قدرة له على الفعل إلا بإرادة الله وتيسيره له، خلافًا للمعتزلة القائلين بأن للعبد فعلا من قبل نفسه وقدرة على الهدى والضلال. وفيه: أن الذين قضى لهم بالنار طبع على قلوبهم وختم وجعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا وحجابًا مستورًا، وجعل في آذانهم وقرًا، وفي قلوبهم مرض ليتم سابقته ويمضي كلمته لاراد لحكمه ولا معقب لأمره وقضائه. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: أطفال الكفار في النار. قوله: ((لأرهق أبويه)) نه: أي أغشاهما، يقال: رهقه بالكسر يرهقه رهقًا أي غشيه، وأرهقه أي أغشاه إياه، وأرهقني فلان إثما حتى رهقته أي حملني إثمًا حتى حمله له. الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((على فروة بيضاء)) الفروة: الأرض اليابسة، وقيل: الهشيم اليابس من النبات. أقول: لعل الثاني أنسب لأن قوله: ((خضراء)) إما تمييز أو حال، كأنه قيل: نظر الخضر عليه السلام إلى مجلسه ذاك فإذا هي تتحرك من جهة الخضرة والنضارة. الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ففقأها)) أي قلعها وأعماها. مح: هي بالهمز. و ((متن الثور)) ظهره.

((فرجع الملك إلى الله، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني)) قال: ((فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثورٍ، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيثس بها سنةٌ، قال: ثم مه؟، قال: ثمَّ تموت. قال: فالآن من قريبٍ، رب أدنني من الأرض المقدسة رميةً بحجر)). قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((رمية بحجر)) قدر ما يبلغه. و ((ثم مه)) هي هاء السكت، و ((ما)) استفهامية، أي: ثم ماذا يكون أحياة أم موت؟. و ((الكثيب)) الرمل المستطيل. ومعنى: ((أجب ربك)) أي للموت. وأما سؤاله الإدناء من الأرض المقدسة لشرفها وفضيلة ما فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم. قالوا: وإنما سأل الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم فيفتتن به الناس. وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين. قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وقالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟. وأجاب عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد. والثاني: أن هذا على المجاز والمراد أن موسى ناظره وحاجَّه فغلبه بالحجة، يقال: فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فرد الله عليه عينه)) فإن قيل: أراد رد حجته، كان بعيدًا. والثالث: أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند الله وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، وأتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم له بخلاف الأولى.

5714 وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض على الأنبياءُ فإذا موسى ضربٌ من الرجال، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به ـــــــــــــــــــــــــــــ حس: يجب على المسلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جرى عليه عرف البشر فيقع في الارتياب، لأنه أمر مصدره قدرة الله تعالى وحكمه، وهي مجادلة جرت بين ملك كريم ونبي كليم، كل واحد منهما مخصوص بصفة يخرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به، فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما، وقد اصطفي الله تعالى موسى بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، فلما دنت وفاته وهو بشر يكره الموت طبعًا لطف الله به بأن لم يفاجئه بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به بأن يأخذه قهرًا، بل أرسله على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعًا عن نفسه بما كان من صكه إياه فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية، وقد كان في طبع موسى عليه السلام حدة على ما قص الله تعالى علينا من أمره في كتابه، من: وكزه القبطي، وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، هذا وقد جرت سنة الدين بدفع كل قاصد بسوء. وقد ذكر الخطابي رحمه الله هذا المعنى في كتابه ردًا على من طعن في هذا الحديث وأمثاله من أهل البدع الملحدين - أبادهم الله تعالى - انتهى كلامه -. فإن قلت: أي فرق بين قول الملك: ((عبد لك)) على التنكير، وبين قول الله: عبدى؟. قلت: يدل قول الملك على نوع طعن حيث نكره وشنع عليه بقوله: لا يريد الموت، وقول الله تفخيم لشأنه وتعظيم مكانة حيث أضافه إلى نفسه ردًا عليه وتنبيها أن ما ظهر من موسى كان دلالا منه واعتزازًا وأننا نرضي بما يريد فجعلنا الخيرة له إكرامًا. قوله: ((فما توارت يدك)) قض: هكذا مذكور في صحيح مسلم، ولعل الظاهر فما وارت يدُك بالرفع، وأخطأ بعض الرواة، ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه: فله ما غطت يده بكل شعرة سنة. ويحتمل أن يكون بدلا منصوبًا بنزع الخافض، وفي ((توارت)) ضمير، وإنما أنثه لكونه مفسرًا بالشعرة)). أقول: قوله: ((من شعرة)) بيان ((ما)) والضمير فيه راجع إلى متن الثور، وما توارت قطعة منه فأنثه باعتبار القطعة التي توارت بيدك أو تحت يدك. الحديث السادس عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فإذا موسى ضرب من الرجال)) قض: لعل أرواحهم مثلت له بهذه الصورة، ولعل صورهم كانت كذلك، أو صور أبدانهم كوشفت له في نوم أو يقظة.

شبهًا عروة بن مسعود، ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهًا صاحبكم - يعنى نفسه -، ورأيت جبريل، فإذا أقرب من رأيت به شبهًا دحية بن خليفة)) رواه مسلم. 5715 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت ليلة أسرى بي موسى، رجلا آدم طوالا، جعدًا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار، والدَّجَّال في آيات أراهن الله إياه، فلا تكن في مرية من لقائه)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والضرب: الرجل الخفيف. وأما ((شنوءة)): فبشين معجمة مفتوحة ثم نون ثم واو ثم همزة ثم هاء، وهي قبيلة معروفة، قال ابن قتيبة: سموا بذلك من قولهم: رجل فيه شنوءة أي تقزز. وقال الجوهرى: الشنوءة التقزز وهو التباعد عن الأدناس، ومنه أزد شنوءة وهم حي من اليمن نسب إليهم شنوئي. قال: قال ابن السكيت: أزد شنوَّة بالتشديد غير مهموز وينسب إليه الشنوي. فإن قلت: ما الفرق بين تشبيه موسى وبين التشبيهين الآخرين؟. قلت: التشبيهات الثلاثة للبيان، والأولى من باب قولك: لون عمامتي من لون هذه العمامة لعمامة بين يدي المخاطب. والثاني والثالث: كقولك: لون هذه العمامة كلون عمامتي. فالتشبيه الأول لمجرد البيان، والأخيران للبيان مع تعظيم المشبه في مقام المدح. قوله: ((به شبهًا)) قدم على العامل للاختصاص تأكيدًا لإضافة أفعل إلى من، أي وكان عروة ابن مسعود أخص الناس بعيسى شبها. الحديث السابع عشر عن ابن عباس رضي الله عنه: قوله: ((رجلا آدم)) نه: الآدم من الناس الأسمر الشديد السمرة. و ((الطوال)) بضم الطاء وتخفيف الواو، الطويل. و ((الجعد)) ضد السبط، وسبط بكسر الباء وفتحها مسترسل الشعر - انتهى كلامه -. وقوله: ((إلى الحمرة)) حال، أي مائلا لونه إلى الحمرة والبياض، فلم يكن شديد الحمرة والبياض. وقوله: ((في آيات)) أي رأيت المذكور في جملة آيات، لعله أراد الآيات المذكورة في قوله

5716 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي، لقيتُ موسى - فنعته -: فإذا رجلٌ مضطربٌ، رجلُ الشعر، كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {لقد رأي من آيات ربه الكبرى} فعلى هذا في الكلام التفات حيث وضع إياه في موضع إياي، أو الراوى نقل معنى ما تلفظ به، والظاهر أن قوله: {فلا تكن في مرية من لقائه} يتعلق بأول الكلام وهو حديث موسى عليه الصلاة والسلام تلميحًا إلى ما في التنزيل من قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه}. الكشاف: قيل: من لقائك موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، فيكون ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام وما يتبعه من الآيات مستطردًا لذكر موسى، وإنما قطعة عن متعلقه وأخره ليشمل معناه الآيات على سبيل التبعية والإدماج، أي لا تكن يا محمد في رؤية ما رأيته من الآيات في شك، فعلى هذا الخطاب في قوله تعالى: {فلا تكن} رسول الله صلى الله عليه وسلم والكلام كله متصل ليس فيه تغيير من الراوى إلا لفظة إياه. ويشهد له قول الشيخ محيى الدين في شرح هذا الحديث: كان قتادة يفسرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقى موسى عليه الصلاة والسلام، ودافعه عليه جماعة، منهم: مجاهد والكلبى والسدى، ومعناه فلا تكن في شك من لقائك موسى، والشارحون ذهبوا إلى أن قوله: في آيات أراهن الله ... إلى آخره من كلام الراوى ألحقه بالحديث دفعًا لاستبعاد السامعين، وإماطة لما عسى أن يختلج في صدورهم. وقال المظهر: الخطاب في {فلا تكن} خطاب عام لمن سمع هذا الحديث إلى يوم القيامة، والضمير في ((لقائه)) عائد إلى الدجال، أي إذا كان خروجه موعدًا فلا تكن في شك من لقائه. وقال غيره: الضمير راجع إلى ما ذكر، أي فلا تكن في شك من رؤية ما ذكر من الآيات إلى يوم القيامة. وفي الوجوه بحث على ما لا يخفي والله أعلم. الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فنعته)) هو من كلام الراوي أدرجه بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ((مضطرب)) قض: يريد أنه كان مستقيم القد حادًّا، فإن الحاد يكون قلقًا متحركًا كأن فيه اضطرابًا، ولذلك يقال: رمح مضطرب إذا كان طويلا مستقيمًا. وقيل: إنه كان مضطربًا من خشية الله تعالى، وهذه صفة النبيين والصديقين، كما روى أنه صلى الله عليه وسلم: كان يصلي ولقلبه أزيز كأريز المرجل.

ولده به)) قال: ((فأتيت بإناءين: أحدُهما لبنٌ والآخر فيه خمرٌ. فقيل لي: خُذْ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: هديت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك)) متفق عليه. 5717 - وعن ابن عباس، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد، فقال: ((أي واد هذا؟)) فقالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى)) فذكر من لونِه وشعرِه شيئًا، واضعًا أصبعيه في أذنيه، له جؤارٌ إلى الله ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((رجل الشعر)) نه: أي لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما. قوله: ((عيسى ربعة)) بالتسكين، أي لا طويل ولا قصير، والتأنيث على تأويل النفس. قوله: ((أحدهما لبن)) مظ: كان القياس ((فيه لبن)) كما قال: ((فيه خمر)) عدل إرادة لتكثير اللبن وكأن الإناء انقلب لبنًا، ولما كان الخمر منهيًّا عنه قلله. قوله: ((هديت الفطرة)) قض: أي الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، فإن فيها الإعراض عما فيه غائلة وفساد كالخمر المخل بالعقل الداعى إلى الخير الوازع عن الشر المؤدى إلى صلاح الدارين وخير المنزلين، والميل إلى ما فيه نفع خال عن مضرة دنيوية ومعرة دينية كشرب اللبن فإنه من أصلح الأغذية وأول ما به حصلت التربية. تو: العالم القدسي تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لتدرك بها المعانى، ولما كان اللبن في العالم الحسي من أول ما يحصل به التربية ويترشح به المولود صيغ عنه مثال الفطرة التي تتم بها القوة الروحانية، وينشأ عنها الخاصية الإنسانية. الحديث التاسع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((واضعًا .. مارًّا)) حالان مترادفتان أو متداخلتان من موسى عليه الصلاة والسلام وقد تخلل بينهما كلام الراوي. و ((الجؤار)) رفع الصوت. و ((هرشي)) بفتح الهاء والشين المعجمة مقصورة، جبل على طريق الشام والمدينة قرب الجحفة. و ((لفت)) يروي فيه كسر اللام وإسكان الفاء وفتحها معه، وفتحهما. و ((الخطام)) بكسر الخاء الحبل الذي يقاد به البعير، يجعل على خطمه أي مقدم أنفه وفمه. و ((الخلبة)) بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة بينهما لام يجوز فيها الضم والإسكان كذلك، حبل الليف.

بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي)). قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية. فقال: ((أي ثنية هذه؟)) قالوا: هرشي - أو لفت فقال: ((كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته خلبة، مارًّا بهذا الوادي ملبيًا)) رواه مسلم. 5718 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرح، فيقرأ القرآن قبل أن تسرح دوابُّه، ولا يأكل إلا من عمل يديه)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات والدار الآخرة ليست بدار عمل؟. الجواب من وجوه: أحدها: أنهم كالشهداء بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا، لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل. وثانيها: التلبية دعاء وهو من عمل الآخرة، قال الله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وثالثها: أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما ((بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة ..)) وذكر الحديث في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام. ورابعها: أنه صلى الله عليه وسلم أرى حالهم التي كانت في حياتهم، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا؟ وكيف كان حجهم وتلبيتهم؟ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كأني أنظر إلى موسى)). وخامسها: أن يكون أخبر عما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤية عين - هذا آخر كلام القاضي عياض -. وفي الحديث دليل على استحباب وضع الأصبع في الأذن عند رفع الصوت بالآذان ونحوه، وهذا الاستنباط والاستحباب يجيء على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم إن شرع من قبلنا شرع لنا والله أعلم. الحديث العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فيقرأ القرآن)) نه: الأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمى القرآن قرآنا لأنه جمع: القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، كالغفران والكفران، وقد يطلق على القراءة نفسها، يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا.

5719 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى)) متفق عليه. 5720 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة - وفي رواية: بمائة امرأة - كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله. فلم يقل ونسي، فطاف عليهن، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجلٍ، وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: يرد بالقرآن الزبور، وإنما قال القرآن لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة. وقد دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده، كما يطوي المكان لهم، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني. الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فقضى به للكبرى)) مح: قالوا: يحتمل أن داود عليه الصلاة والسلام قضى به للكبرى لشبه رآه فيهما، أو لكونه كان في يدها، وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم لا القطع حقيقة، فلما تميزت حكم به للصغرى بإقرار الكبرى لا بمجرد الشفقة. قال العلماء: ومثل ذلك يفعله الحكام ليتوصلوا به إلى حقيقة الصواب. فإن قيل: كيف نقض سليمان حكم أبيه داود؟. فالجواب من وجوه: أحدها: أن داود لم يكن جزم بالحكم. وثانيها: أن يكون ذلك فتوى من داود. وثالثها: لعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه. الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كلهن تأتي بفارس)) أي كل واحدة منهن، والكل هاهنا واجب أن يكون إفراديًا. قوله: ((وايم الذي نفس محمد بيده)) تو: الأصل في ((ايم الله)) ((ايمن الله)) حذف منه النون،

5721 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريَّاء نجارًا)) رواه مسلم. 5722 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء إخوةٌ من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحدٌ، وليس بيننا نبيٌّ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وهو اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها، وتقديره ((ايمن الله قسمى)) وإذا حذفت منه النون قيل: ((ايم الله)) بكسر الهمزة أيضًا. و ((أجمعون)) تأكيد للضمير، ومنهم من يرويه ((أجمعين)) على الحال، والرواية المعتد بها ((أجمعون)) بالرفع. قيل: والحديث يدل على أن من أراد أن يعمل عملا يستحب أن يقول عقيب قوله: ((إنى أعمل كذا)) ((إن شاء الله)) تتميمًا تبركًا وتيمنًا وتسهيلا لذلك العمل. الحديث الثالث والعشرون والرابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا أولى الناس بعيسى)) ((قض)): الموجب لكونه أولى الناس بعيسى عليهما الصلاة والسلام أنه كان أقرب المرسلين إليه، وأن دينه متصل بدينه ليس بينهما نبي، وأن عيسى كان مبشرًا به ممهدًا لقواعد دينه داعيًا للخلق إلى تصديقه. و ((العلة)) الضرة، مأخوذ من العلل وهو الشربة الثانية بعد الأولى، وكأن الزوج علَّ منها بعد ما كان ناهلا من الأخرى. وأولاد العلات: أولاد الضرات من رجل واحد، والمعنى أن حاصل أمر النبوة والغاية القصوى من البعثة التي بعثوا جميعًا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق، وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم، فهم متفقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالوصلة المؤدية والأوعية الحافظة له، فعبر عما هو الأصل المشترك بين الكل بالأب ونسبهم إليه، وعبر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض بالأمهات، وهو معنى قوله: ((أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) وأنهم وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم - كلا في عصره - أمر واحد وهو الدين الحق الذي فطر الناس مستعدين لقبوله ممكنين من الوقوف عليه والتمسك به، فعلى هذا المراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم وانكشفت عنهم. قوله: ((الأنبياء إخوة من علات ... إلى آخره)) استئناف فيه دليل على الحكم السابق وكأن

5723 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بنى آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد، غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب)). متفق عليه. 5724 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ سائلا سأل عما هو المقتضى لكونه أولى الناس به فأجاب بأن بين الأنبياء أخوة ليست بينهم وبين سائر الناس، ثم بينهما من قرب الزمان واتصال الدعوة ما ليس بين عيسى وغيره من الأنبياء، وهو معنى قوله: ((ليس بيننا نبي)) أي بيني وبين عيسى عليه السلام والله أعلم. أقول: قوله: ((الأنبياء إخوة من علات)) كما مر استئناف على بيان الموجب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة)) فينبغى أن ينزل البيان على المبين، يعني الأنبياء كلهم متساوون فيما بعثوا لأجله من أصل التوحيد وليس لأحد اختصاص فيه، لكن أنا أخص الناس بعيسى لأنه كان مبشرًا بي قبل بعثتي وممهدًا لقواعد ملتي، تم في آخر الزمان متابع لشريعتي وناصر لديني فكأننا واحد. و ((الأولى والآخرة)) يحتمل أن يراد بهما الحالة الأولى وهي كونه مبشرًا، والحالة الآخرة وهي كونه ناصرًا ومقويًا لدينه عليه الصلاة والسلام وعلى جميع النبيين. فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} - أي أنا أخصهم به وأقربهم منه-؟. قلت: الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم، متبوعًا، والتنزيل في كونه تابعًا وله الفضل تابعًا ومتبوعًا، قال الله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم} وقد مرَّ تفسيره. الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فطعن في الحجاب)) أي المشيمة، وهذا يدل على أن المس في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يمسه الشيطان)) على الحقيقة كما مر في باب الوسوسة. الحديث السادس والعشرون عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((كفضل الثريد على سائر الطعام)) لم يعطف عائشة رضي الله عنه على آسية لكن أبرز الكلام في صورة جملة مستقلة تنبيها على اختصاصها بما امتازت به عن سائرهن، ونحوه في الأسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلى من الدنيا ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).

وذكر حديث أنس: ((يا خير البرية)). وحديث أبي هريرة: ((أي الناس أكرم)) وحديث ابن عمر: ((الكريم بن الكريم)) في ((باب المفاخرة والعصبية)). الفصل الثاني 5725 - عن أبي رزين. قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: ((كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء)). رواه الترمذي وقال: قال يزيد بن هارون العماء: أي ليس معه شيء. [5725] ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: قيل إنما مثل بالثريد لأنه أفضل طعام العرب ولا يرون في الشبع أغنى غناء منه. وقيل: إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم. وروى: ((سيد الطعام اللحم)). وكأنها فضلت على النساء كفضل اللحم على سائر الأطعمة، والسر فيه أن الثريد مع اللحم جامع بين: الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضرب مثلا ليؤذن بما أعطيت من: حسن الخلق وحلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال. وعما يدل على أن الثريد أشهى الأطعمة عندهم وألذها قول الشاعر: إذا ما الخبز تأدمه يلحم فذاك أمانة الله الثريد الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي رزين رضي الله عنه: قوله: ((كان في عماء)) ((فا)): هو السحاب الرقيق، وقيل: السحاب الكثيف المطبق. وقيل: شبه الدخان يركب رءوس الجبال، وعن الجرمى: الضباب. نه: العماء بالفتح والمد السحاب، قال أبو عبيدة: لا ندرى كيف كان ذلك العماء؟ وفي

5726 - وعن العباس بن عبد المطلب، زعم أنه كان جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيهم، فمرت سحابة، فنظروا إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تسمون هذه؟)). قالوا: السَّحاب. قال: ((والمزن؟)) قالوا: والمزن. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ رواية: ((عمى)) بالقصر، ومعناه ليس معه شيء، وقيل: هو كل أمر لا تدركه عقول بنى آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن. ولا بد في قوله: ((أين كان ربنا؟)) من مضاف محذوف كما حذف في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم} ونحوه، فيكون التقدير: ((أين كان عرش ربنا؟)) يدل عليه قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء}. قال الأزهرى: نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة، أي نجرى اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل. أقول: لم يفتقر إلى التقدير، ولا بد لقوله: ((في عماء)) بالمد، من التأويل حتى يوافق الرواية الأخرى: ((عمى)) مقصورًا، وأما ما ورد في الصحاح عن عمران بن الحصين رضي الله عنه: ((كان الله ولم يكن شيء وكان عرشه على الماء)) وذلك أن قوله: ((ما تحته هواء وما فوقه هواء)) جاء تتميمًا وصونا لما يفهم من قوله: ((في عماء)) من المكان فإن الغمام المتعارف محال أن يوجد بغير هواء فهو نظير قوله: ((كلتا يديه يمين)) على ما سبق، فالجواب من الأسلوب الحكيم، سئل عن المكان فأجاب عن أن لامكان، يعني إن كان هذه مكانًا فهو في مكان، وهو إرشاد له في غاية اللطف. قض: المراد به ما لا تقبله الأوهام ولا تدركه الفطن والأفهام، عبر به عن عدم المكان بما لا يدرك ولا يتوهم، وعن عدم ما يحويه ويحيط به بالهواء، فإنه يطلق ويراد به الخلاء الذي هو عبارة عن عدم الجسم ليكون أقرب إلى فهم السامع، ويدل عليه أن السؤال كان عما قبل أن يخلق خلقه، فلو كان العماء أمرًا موجودًا لكان مخلوقًا إذ ما من شيء سواه إلا وهو مخلوق خلقه وأبدعه، فلم يكن الجواب طبق السؤال. الحديث الثاني عن العباس رضي الله عنه: قوله: ((المزن)) نه: هو الغيم والسحاب واحدته مزنة، وقيل: هي السحاب الأبيض وكذا: ((العنان)) بالفتح السحاب والواحدة عنانة، وقيل: ما عن لك فيها، أي اعترض وبدا لك إذا رفعت رأسك.

((والعنان؟)). قالوا: والعنان. قال: ((هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟)) قالوا. لا ندري قال: ((إن بعد ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، والسماء التي فوقها كذلك)) حتى عد سبع سماوات. ثم ((فوق السماء السابعة بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال، بين أظلافهن ووركهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش، بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك)). رواه الترمذي، وأبو داود. [5726] 5727 - وعن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: جهدت الأنفس، وجاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا ـــــــــــــــــــــــــــــ و: ((الأوعال)) هي تيوس الجبل واحدها: ((وعل)) بكسر العين؟ والمراد هاهنا ملائكة على صورة الأوعال. و ((الظلف)) للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل. و ((الورك)) ما فوق الفخذ وهي مؤنثة. أقول: استعمل ((زعم)) ونسبه إلى عباس رمزًا إلى أنه لم يكن حينئذ مسلمًا ولا تلك العصابة كانوا مسلمين، يدل عليه قوله: ((في البطحاء)) وأراد صلى الله عليه وسلم أن يشغلهم عن السفليات إلى العلويات، والتفكر في ملكوت السموات والعرش، ثم يترقوا إلى معرفة خالقهم ورازقهم ويستنكفوا عن عبادة الأصنام ولا يشركوا بالله الملك العلام، فأخذ في الترقى من السحاب، ثم من السماوات، ثم من البحر ثم من الأوعال، ثم من العرش إلى ذى العرش، فالفوقية بحسب العظمة لا المكان، فإن الله فوق أن يكون العرش منزله ومستقره، بل الله خالقه وهو منزه عن المقر والمكان والله أعلم. والمراد بـ ((السبعون)) في الحديث التكثير لا التحديد، لما ورد أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، والتنكير هنا أبلغ والمقام له أدعى. الحديث الثالث عن جبير رضي الله عنه: قوله: ((جهدت الأنفس)) الجهد: بفتح الجيم المشقة، وبضمها الطاقة. و ((نهك)) أي دنف وضنى، فهو منهوك، والمراد به هاهنا نقصان الأموال وتلفها. قوله: ((فإنا نستشفع بك على الله)) يقال: استشفعت بفلان على فلان فتشفع لى إليه وشفعه

نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، سبحان الله)). فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ((ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماوا ته لهكذا)) وقال بأصابعه مثل القبة عليه ((وإنه ليئط أطيط الرحل بالراكب)) رواه أبو داود. [5727] 5728 - وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقيه مسيرة سبعمائة عام)). رواه أبو داود. [5728] ـــــــــــــــــــــــــــــ أجاب شفاعته، ولما قيل: إن الشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له وسائلا عنه إلى ذي سلطان منع صلى الله عليه وسلم أن يستشفع بالله تعالى على أحد، وقوله ذلك إشارة إلى أثر هيبة أو خوف استشعر من قوله ((سبحان الله)) تنزيها عما نسب إلى الله تعالى من الاستشفاع به على أحد، وتكراره ذلك مرارًا. وقوله: ((لهكذا)) اللام فيه ابتدائية دخلت في خبر ((إن)). و ((مثل القبة)) حال من المشار به، وفي ((قال)) معنى الإشارة، أي: أشار بأصابعه مشابهة هذه الهيئة، وهي الهيئة الحاصلة للأصابع الموضوعة على الكف مثلا حالة الإشارة. قوله: ((ليئط به)) نه: يعني أنه ليعجز عن حمله وعظمته إذا كان معلومًا أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله. خط: هذا الكلام إذا أجرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله سبحانه وتعالى وعن صفاته منفية. قيل: إنه ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى في النفوس، وإفهام السائل من حيث يدركه فهمه، إذ كان أعرابيا جافيًا لا علم له بمعانى ما دق من الكلام، وقرر بهذا التمثيل والتشبيه معنى عظمة الله تعالى وجلاله في نفس السائل، وأن من يكون كذلك لا يجعل شفيعًا إلى من هو دونه.

5729 - وعن زرارة بن أوفي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ((هل رأيت ربك؟ فانتفض جبريل وقال: يا محمد! إن بيني وبينه سبعين حجابًا من نور، لو دنوت من بعضها لاحترقت)) هكذا في ((المصابيح)). [5729] 5730 - ورواه أبو نعيم في ((الحلية)) عن أنس إلا أنه لم يذكر: ((فانتفض جبريل)). [5730] 5731 - وعن ابن عباس، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذ الله خلق إسرافيل، منذ يوم خلقه صافًا قدميه لا يرفع بصره، بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورًا، ما منها من نورٍ يدنو منه إلا احترق)) رواه الترمذي وصححه. 5732 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله آدم وذريته، قالت الملائكة: ياربِّ! خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن زرارة رضي الله عنه: قوله: ((فانتفض)) أي: ارتعد من هيبة ما سمع، قيل: فيه دليل على حقيقة رؤية الله تعالى في دار البقاء، فإنه لو كانت مستحيلة ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((منذ يوم خلقه)) ((مظ)): منذ هاهنا حرف جر وهو بمعنى في - انتهى كلامه -. و ((صافًا)) حال من إسرافيل لا من ضميره المنصوب، و ((منذ يوم)) ظرف لصافًا وليس بمعنى في، المعنى أن الله خلق إسرافيل صافًا قدميه من أول مدة خلقه. قال الدار الحديثى: اتفقوا أن مذ ومنذ إنما يدخلان أسماء الزمان، ثم قالوا: إن أريد ابتداء الزمان الماضى الذي انتهاؤه أنت فيه يكونان للابتداء، نحو ما رأيته منذ يومين أو منذ سنة كذا، أي انتفي الرؤية من ابتداء يومين أنا في آخرهما، وليسا بمعنى في وإن قال به بعض؛ لأن المفهوم منهما نفي الرؤية في مدة معينة أنت في آخرها مقصودًا به ابتداؤها وانتهاؤها. الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا اجعل)) يحتمل أن تكون ((لا)) نفي لأجعل، وأن تكون ردًا لقولهم، ثم يبتدىء بالجملة الاستفهامية إنكارًا عليهم وهو أبلغ.

ولنا الآخرة. قال الله تعالى: لا أجعلُ من خلقته بيديَّ ونفخت فيه من روحي؛ كمن قلت له: كن فكان)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [5732] الفصل الثالث 5733 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته)) رواه ابن ماجه. [5733] 5734 - وعنه، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: ((خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كمن قلت له: كن)) أي لا يستوي في الكرامة من خلقته بنفسي ولا وكلت خلقه إلى أحد، ((ونفخت فيه من روحي)) وهو آدم وأولاده مع من يكون بمجرد الأمر بقول: كن، وهو الملك، وإضافة الروح إلى نفسه إضافة تشريف كقوله: بيت الله. الفصل الثالث الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((المؤمن أكرم على الله)) يراد بالمؤمن عوامهم، وببعض الملائكة عوامهم أيضًا. قال محيى السنة في تفسير قوله تعالى: {ولقد كرمنا بنى آدم}: الأولى أن يقال: عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة، قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} ويستدل به أهل الله في تفضيل الأنبياء على الملائكة. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((روايا الأرض)) ((نه)): سمى السحاب روايا البلاد، والروايا من الإبل الحوامل للماء واحدتها راوية، فشبهها بها، وبه سميت المزادة راوية، وقيل: بالعكس.

5735 - وعنه، قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون ما هذا؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هذه العنان هذه روايا الأرض، يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه، ولا يدعونه)). ثم قال: ((هل تدرون ما فوقكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوفٌ)). ثم قال: ((هل تدرون ما بينكم وبينها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((بينكم وبينها خمسمائة عام)) ثم قال: ((هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ((سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة)). ثم قال كذلك حتى عدَّ سبع سموات ((ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض)). ثم قال: ((هل تدرون ما فوق ذلك؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين)). ثم قال: ((هل تدرون ما الذي تحتكم؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنها الأرض)) ثم قال: ((هل تدرون ما تحت ذلك؟)). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إن تحتها أرضًا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة)). حتى عدَّ سبع أرضين ((بين كل أرضين مسيرة خسمائة سنة)). قال ((والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله)). ثم قرأ: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم) رواه أحمد، والترمذي. وقال الترمذي: ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الرقيع)) اسم لكل سماء، والجمع أرقعة، وقيل: الرقيع اسم سماء الدنيا. و ((المكفوف)) الممنوع من الاسترسال، يعني أن الله تعالى حفظها أن تقع على الأرض وهي معلقة بلا عمد كالموج المكفوف. وقوله: ((دليتم)) أي أرسلتم، يقال: أدليت الدلو ودليتها إذا أرسلتها في البئر. قوله: ((على علم الله وقدرته وسلطانه)) أما علم الله تعالى فهو من قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم}. وأما قدرته فهو من قوله تعالى، {هو الأول والآخر} أي هو الأول الذي يبديء كل شيء ويخرجه من العدم إلى الوجود، والآحر الذي يفنى كل شيء: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}. وأما سلطانه فمن قوله: {والظاهر والباطن} قال الأزهري: يقال: ظهرت على فلان إذا غلبته، وظهرت على السطح إذا علوته - انتهى كلامه -.

قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف نفسه في كتابه. [5735] 5736 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضًا)). [5736] 5737 - وعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأنبياء كان أول؟ قال: ((آدم)). قلت: يا رسول الله! ونبي كان؟ قال: ((نعم نبيٌّ مكلم)). قلتُ: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ((ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا)). [5737] ـــــــــــــــــــــــــــــ المعنى: هو الغالب الذي لا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه. والباطن: هو الذي لا ملجأ ولا منجي دونه. والكاف في ((كما)) منصوب على الصدر، أي هو مستو على العرش استواء مثل ما وصف نفسه به في كتابه، وهو مستأثر بعلمه باستوائه عليه، وفي قول الترمذي إشعار إلى أنه لا بد لقوله ((لهبط على الله)) من هذا التأويل المذكور، ولقوله: {على العرش استوى} من تفويض علمه إليه تعالى والإمساك عن تأويله، كما سبق أن بعضًا من خلاف الظاهر يحتاج إلى التأويل ومنها ما لا يجوز الخوض فيه. الحديث الرابع والخامس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((ونبي كان)) لا بد فيه من تقدير همزة الاستفهام للتقرير لما قال أولا: ((أي الأنبياء؟)) وأجيب بقوله: ((آدم)) أي: أو هو نبي كان؟. ذكر ((نبي)) بعد قوله: ((نعم)) لينيط به ((مكلم)) أي لم يكن نبيًا فقط بل كان نبيًا مكلما أنزل عليه الصحف. الكشاف في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} هذا دليل بيِّن على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.

كتاب الفضائل والشمائل

وفي رواية عن أبي أمامة، قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله كم وفاءُ عدة الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعةٌ وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا)). 5738 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الخبر كالمعاينة، إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يُلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت)) روى الأحاديت الثلاثة أحمد [5738]. [كتاب الفضائل والشمائل] (1) باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه الفصل الأول 5739 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت من خير قرون بني ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((كم وفاء؟)) أي: وكم كمال عددهم؟. نه: يقال: وفي الشيء وفاء إذا تم وكمل. قوله: ((جمًا غفيرًا)) نه: أي مجتمعين كثيرين وأصل الكلمة من الجموم والجمة، وهو الاجتماع والكثرة. والغفير: من الغفرة وهو التغطية والستر، جعلت الكلمتان في موضع الشمول والإحاطة، ولم تقل العرب ((الجماء)) إلا موصوفة وهي منصوبة على المصدر كطرًا وقاطبة فإنها أسماء وضعت موضع المصدر. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إن الله تعالى أخبر)) استشهاد وتقرير لمعنى قوله: ((ليس الخبر كالمعاينة)) فإنه تعالى لما قال: {إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} عند نزول ألواح التوراة عليه لم يلق الألواح، {ما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه}. كتاب الفضائل والشمائل باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قرنا فقرنًا)) حس: القرن كل طبقة

آدمَ قرناً فقرناً، حتى كنتُ من القرن الذي كنتُ منه)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ مقترنين في وقت، سمى قرناً لأنه يقرن أمة بأمة وعالماً بعالم، وهو مصدر قرنت، أي وصلت، وجعل اسماً للوقت أو لأهله. وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل: أربعون، وقيل: مائة. قوله: ((حتى كنت)) غاية قوله: ((بعثت)) والمراد بالبعث تقلبه في أصلاب الآباء أباً فأباً قرناً فقرناً حتى ظهر في القرن الذي وجد فيه، يعني انتقلت أولاً من صلب ولد إسماعيل، ثم من كنانة، ثم من قريش، ثم من بني هاشم، فالفاء في قوله: ((قرناً فقرناً)) للترتيب على سبيل الترقي من الآباء الأبعد إلى الأقرب فالأقرب، كما في قولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، نحو: {فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً} وعلى أن الطوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل والتاليات، وفي معناه أنشد ابن الرومي: كم من أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علا برسول الله عدنان وفي قولنا: ((حتى ظهر في القرن الذي وجد)) نسخته مما روى الإمام ابن الجوزي في كتابه الوفاء عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجنت بماء التسنيم، فغمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات، فعرفت الملائكة محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن يعرف آدم، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم هذا سيد ولدك من المرسلين، فلما حملت حواء بشيث انتقل النور من آدم إلى حواء، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيئاً فإنها ولدته وحده كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم. وروى أيضًا أنه مر عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من خثعم يقال لها: (فاطمة بنت مر) وكانت من أجمل الناس وأعفهم، وكانت قرأت الكتب، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: هل لك أن تقع على وأعطيك، مائة من الإبل؟ فقال: أما الحرام فالممات دونه ... وأما الحل فلا حل ثم مضى إلى امرأته بنت وهب وكان معها، ثم ذكر الخثعمية وما عرضت عليه فأقبل إليها، فلم ير منها الإقبال عليه آخراً كما رآه منها أولاً، فقال لها: هل لك فيما قلت لي؟ فقالت: قد كان ذلك مرة فاليوم لا. فذهب ميلاً، وقالت: أي شيء صنعت بعدي، قال: وقعت على زوجتي آمنة، فقالت: والله لست بصاحبة ريبة ولكني رأيت نور النبوة في وجهك فأردت أن يكون ذلك في، فأبى الله إلا أن يجعله حيث جعله.

5740 - وعن واثلة بن الأسقع، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِن الله اصطفي كنانة من ولد إِسماعيل، واصطفي قريشاً من كنانة، واصطفي من قريش بنى هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: ((إن الله اصطفي من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفي من ولد إسماعيل بني كنانة)). [5740] 5741 - وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافعٍ، وأول مشفع)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية: لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه مر به على كاهنة يقال لها: (فاطمة بنت مر) وقد قرأت الكتب فرأت في وجهه نوراً، فقالت: يا فتى هل لك أن تقع على وأعطيك .. إلى آخره. الحديث الثاني عن واثلة رضي الله عنه: قوله: ((واصطفاني من بني هاشم)) حس: هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان، وقريش هم أولاد النضر بن كنانة كانوا يتفرقون في البلاد فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا قريشاً لأنه قرشهم أي جمعهم ولكنانة ولد سوى النضر وهم لا يسمون قريشاً لأنهم لم يقرشوا. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أنا سيد ولد آدم)) مح: قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمورهم ويتحمل عنهم مكارههم ويرفعها عنهم، والتقييد بيوم القيامة مع أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والآخرة معناه أنه: يظهر يوم القيامة سؤدده بلا منازع ولا معاند بخلاف الدنيا فقد نازعه فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهو قريب من معنى قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} مع أن الملك له قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك أو من يضاف إليه مجازاً فانقطع كل ذلك في الآخرة. وفي الحديث دليل على فضيلته صلى الله عليه وسلم على كل الخلق، لأن مذهب أهل

5742 - وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)) رواه مسلم،. 5743 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتى باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمدٌ فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)). رواه مسلم. 5744 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما صدقه من أمته إلا رجل واحد)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ السنة أن الآدمي أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين بهذا الحديث وغيره، وأما الحديث الآخر: ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) فجوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم. والثاني: قاله أدباً وتواضعاً. والثالث: أن المنهى إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنفيص المفضول. والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة. والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة ولا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى، ولابد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}. الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بك أمرت)) بك متعلق بأمرت، والباء للسببية قدمت للتخصيص، والمعنى: بسببك أمرت أن لا أفتح لغيرك لا بشيء آخر، ويجوز أن يكون صلة للفعل و ((أن لا أفتح)) بدلاً من الضمير المجرور، أي أمرت بأن لا أفتح لأحد غيرك. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه. قوله: ((أنا أول شفيع في الجنة)) مظ: أي أنا شافع للعصاة من أمتي في دخول الجنة. وقيل: أنا أول شافع في الجنة لرفع درجات الناس فيها. و ((ما)) في ((ما صدقت)) مصدرية، وهذا كناية عن أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أمة.

5745 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، فكنتُ أنا سددت موضع اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل)). وفي رواية: ((فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)). متفق عليه. 5746 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مثلي ومثل الأنبياء)) هذا من التشبيه التمثيلي، شبه الأنبياء وما بعثوا به من الهدى والعلم وإرشادهم الناس إلى مكارم الأخلاق بقصر شيد بنيانه وأحسن بناؤه، ولكن ترك منه ما يصلحه وما يسد خلله من اللبنة، فبعث نبينا لسد ذلك الخلل مع مشاركته إياهم في تأسيس القواعد ورفع البنيان، هذا على أن يكون الاستثناء منقطعاً، ويجوز أن يكون متصلاً من حيث المعنى إذ حاصل الكلام: تعجبهم المواضع إلا موضع تلك اللبنة، وليس ذلك المصلح إلا ما اختص به من معنى المحبة، وحق الحقيقة الذي يعتنيه أهل العرفان. وقوله: ((أنا سددت موضع اللبنة)) يحتمل وجهين: أن يكون الساد بلبنة ذلك الموضع، وأن يسده بنفسه ويكون بمنزلة اللبنة، ويؤيد هذا الرواية الأخرى من قوله: ((فأنا اللبنة)). الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما من الأنبياء من نبي)) من فيه بيانية، ومن الثانية زائدة تزاد بعد النفي، و ((ما)) في ((ما مثله)) موصولة وقعت مفعولاً ثانياً لأعطى، و ((مثله)) مبتدأ، و ((آمن)) خبره، والجملة صلة الموصول، والراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوباً عليه في التحدي والمباراة، والمراد بالآيات المعجزات، وموقع المثل هنا موقعه في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} أي مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، يعني: ليس نبي من الأنبياء إلا قد أعطاه الله تعالى من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته أنه إذا شوهد اضطر المشاهد إلى الإيمان به، وتحريره أن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خارق العادات بحسب زمانه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة، كقلب العصا ثعباناً في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، وإخراج اليد البيضاء، لأن الغلبة في زمنه للسحر فآتاهم بما هو فوق السحر واضطر إلى الإيمان، وفي زمن

5747 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) متفق عليه. 5748 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست: ـــــــــــــــــــــــــــــ عيسى عليه الصلاة والسلام الطب فآتاهم بما هو أعلى من الطب وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وفي زمانه صلى الله عليه وسلم البلاغة والفصاحة فجاء بالقرآن وأبطل الكل. قوله: ((وإنما كان الذي أوتيته وحياً)) قض: أي معظم الذي أوتيت وأفيده، إذ كان له غير ذلك معجزات من جنس ما أوتيه غيره. والمراد بالوحي: القرآن البالغ أقصى غاية الإعجاز في النظم والمعنى، وهو أكثر فائدة وأعم منفعة من سائر المعجزات، فإنه يشتمل على الدعوة والحجة، ويستمر على مر الدهور والأعصار، وينتفع به الحاضرون عند الوحي المشاهدون، والغائبون عنه والموجودون بعده إلى يوم القيامة على السواء، ولذلك رتب عليه قوله: ((فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة)). الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((نصرت بالرعب)) نه: الرعب الفزع والخوف، وقد أوقع الله تعالى في قلوب أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الخوف منه، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوا وفزعوا منه. قوله: ((وجعلت لي الأرض مسجداً)) حس: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله عز وجل لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس. وقوله: ((طهوراً)) أراد به التيمم بالتراب. قوله: ((وأعطيت الشفاعة)) أي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون. والتعريف في ((النبي)) لاستغراق الجنس وهو أشمل من لو جمع، لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، لأن الجنسية في المفرد قائمة في وحدانيته فلا يخرج منه شيء، وفي الجمع فيما فيه الجنسية من الجموع فيخرج منه واحد أو اثنان على الخلاف في أقل الجمع اثنان أو ثلاثة. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فضلت على الأنبياء بست)) تو: وفي

أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) رواه مسلم. 5749 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي)) متفق عليه. 5750 - وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط ـــــــــــــــــــــــــــــ حديث جابر بخمس، وليس هذا باختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف زمان، يقع فيه حديث الخمس متقدماً وذلك أنه أعطيها فحدث به، ثم زيد له السادسة فأخبر عن ست. قوله: ((أعطيت جوامع الكلم)) حس: قيل: هي القرآن جمع الله سبحانه وتعالى بلطفه معاني كثيرة في ألفاظ يسيرة، وقيل: إيجاز الكلام في إشباع من المعنى، فالكلمة القليلة الحروف منها تتضمن كثيراً من المعاني وأنواعاً من الكلام. وقوله: ((إلى الخلق كافة)) كافة يجوز أن يكون مصدراً، أي أرسلت إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو أن تكون حالاً إما من الفاعل، والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، وإما من المجرور أي مجموعين قيل: هذا الحديث وإن دل بمنطوقه على أنه صلى الله عليه وسلم مخصوص من عند الله بالفضائل الست، لكن لا يدل بمفهومه على حصر فضائله فيها، فإن له فضائل غير منحصرة. وقوله: ((وختم بي النبيون)) أي أغلق باب الوحي وقطع طريق الرسالة وسد، وأخبر باستغناء الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجة وتكميل الدين، كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لك دينكم} أما باب الإلهام فلا ينسد، وهو مدد يعين النفوس الكاملة فلا ينقطع لدوام الضرورة وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير، وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة والدعوة احتاجوا إلى التذكير والتنبيه لاستغراقهم في الوساوس وانهماكهم في الشهوات، فالله تعالى أغلق باب الوحي بحكمته وفتح باب الإلهام برحمته لطفاً منه بعباده. الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بمفاتيح خزائن الأرض)) نه: أراد ما سهل الله تعالى له ولأمته من افتتاح البلاد المتعددات، واستخراج الكنوز المتنوعات.

عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عشر عن ثوبان رضي الله عنه: قوله ((زوى لي الأرض)) تو: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب منها. خط: توهم بعض الناس أن ((من)) في ((منها)) للتبعيض وليس ذلك كما توهمه بل هي للتفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزء فجزء حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها. تو: يريد بالأحمر والأبيض خزائن كسرى وقيصر، وذلك لأن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير، والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم،. قوله: ((بسنة عامة)) السنة: القحط والجدب وهي من الأسماء الغالبة. وقوله: ((من سوى أنفسهم)) صفة ((عدوا))، أي كائنا من سوى أنفسهم، وإنما قيده بذلك القيد لما سأل أولاً ذلك فمنع، على ما يأتي في الحديث الآتي. وقوله: ((فيستبيح بيضتهم)) أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم وبيضة الدار وسطها ومعظمها، أراد عدواً يستأصلهم ويهلكهم جميعهم. وقيل: أراد إذا هلك أصل البيضة كان هلاك كلها من طعم أو فرخ وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض أفراخها. والنفي منصب على السبب والمسبب معاً، فيفهم منه أنه قد يسلط عليهم عدو لكن لا يستأصل شأفتهم. قوله: ((أعطيتك لأمتك)) اللام فيه هي التي في قوله سابقاً: ((سألت ربي لأمتي)) أي أعطيت سؤالك لدعائك لأمتك، والكاف هو المفعول الأول. قوله: ((أن لا أهلكهم)) هو المفعول الثاني كما هو في قوله: ((سألت ربي أن لا يهلكها)) هو المفعول الثاني. وجواب: ((لو)) ما يدل عليه قوله: ((وأن لا أسلط)). و ((حتى)) بمعنى كي، أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضاً. فقوله: ((إني إذا قضيت قضاءً فلا يرد)) توطئة لهذا المعنى، ويدل عليه حديث خباب بن الأرت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن

5751 - وعن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف فقال: ((سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)). رواه مسلم. 5752 - وعن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف ببعض ـــــــــــــــــــــــــــــ لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)). ((مظ)): أعلم أن لله تعالى في خلقه قضائين، مبرماً ومعلقاً، أما القضاء المعلق فهو عبارة عما قدره في الأزل معلقاً بفعل، كما قال: إن فعل الشيء الفلاني كان كذا وكذا، وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا فهو من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال الله تعالى في محكم خطابه: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}. أما القضاء المبرم فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه ولا المقضى له، لأنه من علمه بما كان وما يكون وخلاف معلومه مستحيل قطعاً، وهذا مما لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال الله تعالى: {لا معقب لحكمه} فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قضيت قضاء فلا يرد)) من القبيل الثاني، ولذلك لم يجب إليه. وفيه: أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا. الحديث الثالث عشر عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أمتي بالغرق)) يراد به والله أعلم الغرق العام كما فعل تعالى بقوم نوح وقوم فرعون. والضمير في ((أعطانيها)) عائد إلى المسألة. الحديث الرابع عشر عن عطاء رضي الله عنه: قوله: ((أجل)) هو حرف يصدق به الخبر خاصة تقول لمن قال: ((قام زيد)): أجل. وجوز بعضهم وقوعه بعد الاستفهام، وفي الحديث جاء جواباً للأمر على تأويل: قرأت التوراة هل وجدت صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها؟ فأخبرني قال: أجل. قوله: ((إنا أرسلناك شاهداً)) حال مقدرة من الكاف، أو من الفاعل، أي مقدراً أو مقدرين شهادتك على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم.

صفته في القرآن: {يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة؛ ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غُلفاً. رواه البخاري. [5752] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حرزاً للأميين)) قض: أي حصناً وموئلاً للعرب يتحصنون به من غوائل الشيطان، أو عن سطوة العجم وتغلبهم، وإنما سموا أميين لأن أغلبهم لا يقرءون ولا يكتبون. ((ليس بفظ)) يحتمل أن يكون آية أخرى في التوراة لبيان صفته، وأن يكون هو حالاً إما من ((المتوكل)) وإما من الكاف في ((سميتك))، فعلى هذا فيه التفات. وكذا في قوله: ((لن يقبضه حتى يقيم)) بالياء المثناة من تحت على رواية المشكاة ويعضده ما في شرح السنة: ((لن يقبضه الله)). قال الكلبي: ((فظاً)) في القول، ((غليظ القلب)) في الفعل. قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) أي هو لين الجانب شريف النفس لا يرفع الصوت على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم في السوق لدناءته، بل يلين جانبه لهم ويرفق بهم. قوله: ((الملة العوجاء)) قض: يريد به ملة إبراهيم، فإنها قد اعوجت في أيام الفترة، فزيدت ونقصت وغيرت وبدلت، وما زالت كذلك حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم فأقامها. قوله: ((بأن يقولوا)) متعلق بقوله: ((يقيم)) فإن قلت: قوله: ((إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن)) يقتضى أن تكون المذكورات كلها مثبتة في القرآن؟. قلت: أجل، أما قوله: {يأيها النبي إنا أرسلناك} ففي الأحزاب. وقوله: ((حرزاً للأميين)) ففي قوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب}. وقوله: ((وسميتك المتوكل ..)) إلى قوله: ((ولكن يعفو ويغفر)) في قوله: {ولو كنت فظاً غليظ القلب ...} إلى قوله: {... إن الله يحب المتوكلين}. قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) في قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} أي دم على التسبيح والتحميد، واجعل نفسك من الذين لهم مساهمة ونصيب

5753 - وكذا الدارمي، عن عطاء، عن ابن سلام نحوه. وذكر حديث أبي هريرة: ((نحن الآخرون)) في ((باب الجمعة)). [5753] ـــــــــــــــــــــــــــــ وافر في السجود، فلا تخل بها ولا تشتغل بغيرها، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أوحى إلى أن اكون من التاجرين ولكن أوحى إلى أن أكون من الساجدين)) قوله: ((ولا سخاب في الأسواق)) من باب قوله تعالى: {ولا شفيع يطاع} إذ هو يحتمل أن يراد به نفي سخاب وحده ونفيهما معاً، وهو المراد هنا. وقوله: ((ولا يدفع السيئة بالسيئة)) في قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن}. وقوله: ((حتى يقيم به الملة العوجاء)) في قوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} أي ما يوحى إلي أن أقيم التوحيد وأنفي الشرك. قلت: كيف الجمع بين قوله: ((ويفتح به أعيناً عمياً)) وبين قوله تعالى: {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم}؟. قلت: دل على إيلاء الفاعل المعنوي حرف النفي على أن الكلام في الفاعل، وذلك أن الله تعالى نزل حرصه على إيمان القوم بمنزلة من يدعى استقلالاً بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقل فيها بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله تعالى وتيسيره، وعلى هذا ((يفتح)) معطوف على قوله: ((يقيم الله بواسطته الملة العوجاء، بأن يقولوا ((لا إله إلا الله)) ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعيناً عمياً، هذا على رواية البخاري والدارمي وكتاب الحميدي وجامع الأصول، وأما في المصابيح: ((يفتح بها أعين عمى)) على بناء المفعول، والأول أصح رواية ودراية. فإن قلت: هل لليهود أن يتمسكوا بقوله: ((حرزاً للأميين)) على ما زعموا أنه مبعوث إلى العرب خاصة؟. قلت: لا، لقوله: ((حتى يقيم به الملة العوجاء)) لأنهم حرفوا وبدلوا وغيروا، فأرسل ليقيم عوجهم وأودهم، وهل أحد أقوم وأولى منه بإقامة عوجهم والله أعلم.

الفصل الثاني 5754 - عن خباب بن الأرت، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فأطالها. قالوا: يا رسول الله! صليت صلاةً لم تكن تصليها قال: ((أجل، إنها صلاة رغبة ورهبة، وإني سألت الله فيها ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)). رواة الترمذي، والنسائي. [5754] 5755 - وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِن الله عز وجل أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة)). رواه أبو داود. [5755] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن خباب رضي الله عنه: قوله: ((وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض)) هو من قوله تعالى: {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} المعنى: يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم متابعة لإمام، وينشب القتال بينكم وتختلطوا وتشتبكوا في ملاحم القتال، يضرب بعضكم رقاب بعض. الحديث الثاني عن أبي مالك رضي الله عنه: قوله: ((وأن لا يظهر أهل الباطل)) تو: يريد أن الباطل وإن كثر أنصاره فلا يغلب الحق بحيث يمحقه ويطفئ نوره، ولم يكن ذلك بحمد الله مما ابتلينا به من الأمر الفادح والمحنة العظمى بتسليط الأعداء علينا مع استمرار الباطل، فالحق أبلج والشريعة قائمة لم تخمد نارها ولم يندرس منارها. أقول: وحرف النفي في القرائن زائد، مثله في قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وفائدته توكيد معنى الفعل الذي يدخل عليه وتحقيقه، وذلك أن الإجارة تثبت إذا كانت الخلال مثبتة لا منفية.

5756 - وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها وسيفاً من عدوها، رواه أبو داود. [5756] 5757 - وعن العباس، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه سمع شيئاً، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: ((من أنا؟)) فقالوا: أنت رسول الله. فقال: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عوف رضي الله عنه: قوله: ((سيفين سيفاً منها وسيفاً من عدوها)) قض: معناه أن سيوفهم وسيوف أعدائهم لا يجتمعان عليهم فيؤديان إلى استئصالهم، بل إذا جعلوا بأسهم بينهم سلط الله عليهم العدو فيشغلهم به عن أنفسهم ويكف عنهم بأسهم - وهو قول الشيخ التوربشتي-. أقول: والظاهر أن يقال: إنه تعالى وعدني أن لا يجتمع على أمتي محاربتين: محاربة بعضهم بعضاً ومحاربة الكفار معهم، بل يكون أحدهما، فإذا كانت إحداهما لا تكون الأخرى، لأنه موافق للأحاديث السابقة، لأنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم ليستأصلهم، وسأله أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجاب الأول ومنع الثاني ولم يجمع بين المنعين. الحديث الرابع عن العباس رضي الله عنه: قوله: ((فكأنه سمع)) مسبب عن محذوف، أي جاء العباس غضبان بسبب ما سمع طعنا من الكفار في رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو قوله تعالى: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} كأنهم حقروا شأنه وأن هذا الأمر العظيم الشأن لا يليق إلا بمن هو عظيم من إحدى القريتين: كالوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي مثلاً، فأمرهم صلى الله عليه وسلم على سبيل التبكيت على ما يلزم تعظيمه وتفخيمه، وأنه أولى بهذا الأمر من غيره لأن نسبه أعرق وأرومته أعلى وأشرف، ومن ثم لما قالوا ((أنت رسول الله)) ردهم بقوله: ((أنا محمد بن عبد الله)) ويعضد هذا التأويل ما روى البخاري عن أبي سفيان أنه حين سأله هرقل عظيم الروم عن نسبه صلى الله عليه وسلم فقال: ((هو فينا ذو نسب)) فقال هرقل: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها)) ألا ترى أنه جعل النسب ظرفاً لتبعث وأتى بفي، أي عريق في النسب. قوله: ((ثم جعلهم قبائل)) بعد قوله: ((ثم جعلهم فرقتين)) إشارة إلى بيان الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة.

في خير فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً)). رواه الترمذي. [5757] 5758 - وعن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: ((وآدم بين الروح والجسد)). رواه الترمذي. [5758] 5759 - وعن العرباض بن سارية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إني عند الله مكتوب. خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري، دعوة ـــــــــــــــــــــــــــــ فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب لأن القبائل تنشعب منها. فقوله: ((خلق الخلق)) أي الملائكة والثقلين. ((فجعلني في خيرهم)) أي في الإنس. ((ثم جعلهم فرقتين)) العرب والعجم. ((فجعلني في خيرهم)) أي في العرب. وهلم جرا. فأنا بفضل الله ولطفه على ما في سابقة الأزل: خير الخلق نفساً، حيث خلقني إنساناً، رسولاً، خاتماً للرسل، تمم دائرة الرسالة بي، وجعلني نقطة تلك الدائرة يطوف جميعهم حولي، ويحتاجون إلي، وخيرهم بطناً، حيث نقلني من طيب إلى طيب، إلى أن نقلني من صلب عبد الله بالنكاح من أشرف القبائل والبطون، فأنا أفضل خلق الله عليه وأكرمهم لديه. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وآدم بين الروح والجسد)) جواباً لقولهم: ((متى وجبت؟)) أي وجيت في هذه الحالة، فعامل الحال وصاحبها محذوفان. الحديث السادس عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: قوله: ((وإن آدم لمنجدل)) فا: انجدل مطاوع جدله إذا ألقاه على الأرض، وأصله الإبقاء على الجادلة - وهي الأرض الصلبة - وهذا على سبيل إنابة فعل مناب فعل. و ((الطينة)) الخلقة من قولهم: طانه الله على طينتك.

إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام)). رواه في ((شرح السنة)). [5759] ـــــــــــــــــــــــــــــ والجار الذي هو ((في)) ليس بمتعلق ((بمنجدل)) وإنما هو خبر ثان، لأن الواو وما بعدها في محل النصب على الحال من المكتوب، والمعنى: كتبت خاتم الأنبياء في الحال الذي آدم عليه الصلاة والسلام مطروح على الأرض، حاصل في أثناء الخلقة لما يفرغ من تصويره وإجراء الروح فيه. أقول: قوله: على سبيل إنابة فعل مناب فعل لا يجوز إجراء ((منجدل)) على أن يكون مطاوعاً لجدل، لما يلزم منه أن يكون آدم منفعلاً من الأرض الصلبة، بل هو ملقى عليها، ولا يجوز أن يكون في متعلقاً بمنجدل، لما يلزم منه أن يكون المنجدل مظروفاً في طينته، وإنما هو ظرف له وهو حاصل فيه. وفيه أن الغايات والكمالات سابقة في التقدم لاحقة في الوجود. قوله: ((بأول أمري)) قيل: أي بأول ظهر من نبوتي ومبعثي في الدنيا على لسان أبي الملة الحنيفية إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقوله: ((دعوة إبراهيم)) أي هو دعا ربه حين بنى الكعبة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} فاستجاب الله دعاءه فيه. ((وبشارة عيسى)): أراد قوله تعالى: {ومبشراً برسول يأتيي من بعدي اسمه أحمد}. قوله: ((ورؤيا أمي)) يحتمل أن يراد منه الرؤية في المنام وفي اليقظة: فعلى الأول: معنى ((وضعتني)) أي شارفت وقربت من الوضع، وذلك لما روى ابن الجوزي في كتاب الوفاء أن أمه صلى الله عليه وسلم رأت حين دنت ولادتها أن أتاها آت فقال لها: قولي: أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد. بعد أن رأت حين حملت به أن آتيا أتاها وقال: هل شعرت أنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟. وعلى الثاني: يكون المرئي محذوفاً وهو ما دل عليه قوله: ((وقد خرج لها نور أضاء لها منه قصور الشام)).

5760 - ورواه أحمد، عن أبي أمامة من قوله: ((سأخبركم)) إلى آخره. [5760] 5761 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر. وما من نبي يومئذ: آدم فمن سواهُ إلا تحت ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ولا فخر)) حال مؤكدة، أي: أقول هذا ولا فخر. تو: الفخر إدعاء العظمة والمباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه. مح: فيه وجهان: أحدهما: قاله امتثالاً لأمر الله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدث}. وثانيهما: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه في توقيره صلى الله عليه وسلم كما أمرهم الله تعالى به. قال الراغب: فإن قلت: كيف استحسن مدح الإنسان نفسه وقد علم في الشاهد استقباحه؟ حتى قيل للحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الإنسان نفسه؟. قلنا: قد يحسن ذلك عند تنبيه المخاطب على ما خفي عليه من حاله، كقول المعلم للمتعلم: اسمع مني فإنك لا تجد مثلي، وعلى ذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} وسئل بعض المحققين عن شيء لم يقبح إطلاقه في الله تعالى مع ورود الشرع فأنشد: ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((المدح هو الذبح)) وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل، فكذلك الممدوح، لأن المدح يوجب الفتور ويورث الكبر والعجب، وهو لذلك مهلك كالذبح، فإن سلم المدح عن هذه الآفات لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً إليه، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة، وكانوا أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً، بل يزيدهم جداً ببعثهم على أن يزيدوا فيما يستوجبون الحمد من مكارم الأخلاق. نه: قاله صلى الله عليه وسلم إخباراً عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثاً بنعمة الله تعالى عنده، وإعلاماً لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: ((ولا فخر)) أي

لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)). رواه الترمذي. [5761] 5762 - وعن ابن عباس، قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، قال بعضهم: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال ـــــــــــــــــــــــــــــ أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله تعالى لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها. واللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، يريد به انفراده بالحمد يوم القيامة على رءوس الخلائق، والعرب تضع اللواء موضع الشهرة. أقول: فعلى هذا لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رءوس الخلائق. ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقة يسمى: لواء الحمد، وعليه كلام الشيخ التوربشتي حيث قال: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر المقامات، ولما كان نبينا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أعطى لواء الحمد، ليأوي إلى لوائه الولون والاخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((آدم فمن دونه تحت لوائي)) ولهذا المعنى افتتح كتابه بالحمد، واشتق اسمه من الحمد فقيل: محمد وأحمد، وأقيم يوم القيامة المقام المحمود، ويفتح عليه في ذلك المقام من المحامد ما لم يفتح على أحد قبله ولا يفتح على أحد بعده، وأمد أمته ببركته من الفضل الذي أتاه فنعت أمته في الكتب المنزلة قبله بهذا النعت فقال: أمته الحامدون يحمدون الله في السراء والضراء، ولله الحمد أولاً وآخراً. قوله: ((وما من نبي يومئذ آدم)) ((نبي)) نكرة وقعت في سياق النفي وأدخل عليه ((من)) الاستغراقية فيفيد استغراق الجنس. وقوله: ((آدم فمن سواه)) بدل أو بيان من محله، و ((من)) فيه موصولة و ((سواه)) صلته، وصح لأنه ظرف، وأوثر الفاء التفصيلية في ((فمن سواه)) على الواو للترتيب على منوال قولهم: المثل فالأمثل. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله ((سمعهم)) حال من الضمير في ((دنا)) وقد مقدرة. و ((يتذاكرون)) حال من الضمير المنصوب في ((سمعهم)).

آخر: موسى كلمه الله تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمه الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجى الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وانا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ والفاء في قوله: ((فعيسى)) جواب شرط محذوف، أي إذا ذكرتم الخليل والكليم فاذكروا عيسى كقوله تعالى: {فلم تقتلوهم} أي إذا افتخرتم بقتلهم فإنكم لم تقتلوهم. وقوله: ((كلمة الله)) سمى بها لأنه وجد من غير واسطة أب. و ((روحه)) إضافة تشريف كبيت الله ونحوه. وقوله: ((فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كرره لينيط به غير ما أناط به أولاً، أو يكون خرج أولاً من مكان وثانياً منه إلى آخر. وقوله: ((قد سمعت كلامكم)) من باب قوله: قلدته سيفاً ورمحاً، أي سمعت كلامكم وأدركت عجبكم. قوله: ((وأنا حبيب الله ولا فخر)) هو قريب من القول الموجب، قرر أولاً ما ذكر من فضائلهم بقوله: ((وهو كذلك)) ثم نبه على أنه أفضلهم واكملهم وجامع لما كان متفرقاً فيهم، فالحبيب خليل ومكلم ومشرف. وقيل: من قاس الحبيب بالخليل فقد أخطأ، لأن الحبيب من جهة القلب، يقال: حببته أي أصبت حبة قلبة، كما يقال: كابدته وراءسته وفاءدته، أي أصبت كبده ورأسه وفؤاده. والخليل من الخلة وهي الحاجة، أي المحب لحاجته إلى من يخالله، والحبيب محب لا لحاجته. وعن جعفر بن محمد قال: أظهر اسم الخلة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأن الخليل ظاهر في المعنى، وأخفي اسم المحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم لتمام حاله إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه بل يحب إخفاءه وستره لئلا يطلع عليه سواه، ولا يدخل أحد فيما بينهما، وقال لنبيه وصفيه لما أظهر له حال المحبة: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وليس الطريق إلى محبة الله إلا باتباع حبيبه، ولا يتوصل إلى الحبيب بشيء أحسن من مصاحبة حبيبه وطلب رضاه.

القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر)) رواه الترمذي والدارمي. [5762] 5763 - وعن عمرو بن قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن الآخرون، ـــــــــــــــــــــــــــــ غب: قيل الخلة تنسب إلى العبد ولا تنسب إلى الله تعالى، فيقال: إبراهيم خليل الله، ولا يقال: الله خليل إبراهيم، وهو وإن كان من الأسماء المتضايقة التي يقتضى وجود أحدهما وجود الآخر وارتفاعه ارتفاع الآخر، إلا أنه ليس المراد بقولهم: ((إبراهيم خليل الله)) مجرد الصداقة بل المراد الفقر إليه، وخص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الاسم وإن شاركته الموجودات كلها في افتقارها إليه لمعنى فيه، وهو أنه لما استغنى عن المعينات من أعراض الدنيا واعتمد على الله حقا وصار بحيث لما قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وصبر إذ ألقى في النار، وعرض ابنه للذبح، صار لاستغنائه عما سواه فقيراً إليه، فخص بهذا الاسم. أما المحبة فأجيز نسبتها إلى الله تعالى، فقيل: محمد حبيب الله، وقد قال الله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} وقال الله تعالى: {فاتبعوني يحببكم الله} قال بعض الصوفية: من أحب الله فهو المراد ومنزلته منزلة من سأله فقال: {رب اشرح لي صدي} ومن أحبه الله فهو المراد ومنزلته منزلة من قال له: {ألم نشرح لك صدرك} قوله: ((ومعي فقراء المؤمنين)) هذا دليل على فضلهم وكرامتهم على الله تعالى، لأنهم استحقوا محبة الله تعالى لمتابعتهم حبيبه واتصافهم بصفته، وليس الفقر عند الصوفية الفاقة والحاجة، بل الفقر عندهم الحاجة إلى الله تعالى لا إلى غيره، والاستغناء به لا عنه بغيره، قال الثوري: نعت الفقير السكون عند العدم والبذل عند الوجود. وقيل لسهل بن عبد الله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر؟ فقال: إنما استعاذ من فقر النفس، الذي مدح صلى الله عليه وسلم الغنى في ضده فقال: ((الغنى غنى النفس)) فكذلك الفقر المذموم فقر النفس، وهو الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث العاشر عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((نحن الآخرون)) يعني في المجئ إلى

ونحن السابقون يوم القيامة، وإني قائل قولاً غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، ومعي لواء الحمد يوم القيامة، وإن الله وعدني في أمتي، وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة)). رواه الدارمي. [5763] 5764 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر)). رواه الدارمي. [5764] 5765 - وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف على ألف خادم كأنهن بيض مكنون، أو لؤلؤ منثور)). رواه الترمذي، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. [5765] 5766 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((فأكسا حلة من حلل الجنة، ـــــــــــــــــــــــــــــ والسابقون: في دخول الجنة وغيرها من الفضائل. و ((في أمتي)) أي في شأنهم وشفاعتهم وتخليصهم. ((وأجارهم)) أي أنقذهم. الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فأنا خطيبهم إذا أنصتوا)) أي أنا المتكلم من بين الناس حين سكتوا عن الاعتذار فأعتذر لهم عند ربهم، فأطلق لساني بالثناء على الله تعالى بما هو أهله ولم يؤذن لأحد في التكلم. قوله: ((وأنا مستشفعهم)) في بعض النسخ بفتح الفاء على بناء المفعول من قولهم: استشفعته إلى فلان، أي سألته أن يشفع إليه. وفي بعضها بكسر الفاء على بناء الفاعل، أي سألت الله أن أكون شفيعاً لهم. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأكسا)) عطف على مقدر على ما رواه صاحب الجامع.

ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري)). رواه الترمذي. وفي رواية ((جامع الأصول)) عنه: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسا)). 5767 - وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سلوا الله لي الوسيلة)) قالوا: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال: ((أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو)). رواه الترمذي. [5767] 5768 - عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر)). رواه الترمذي. [5768] 5769 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله،: ((إن لكل نبي ولاة ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سلوا الله لي الوسيلة)) هي المذكورة في دعاء الأذان: ((آت محمداً الوسيلة)). نه: هي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها: وسائل، يقال: وسل إليه وسيلة وتوسل - انتهى كلامه-. وإنما طلب صلى الله عليه وسلم من أمته الدعاء له بطلب الوسيلة افتقاراً إلى الله وهضماً لنفسه، أو لتنفع أمته وتثاب به، أو يكون إرشاداً لهم في أن يطلب كل منهم من صاحبه الدعاء له. وقوله: ((أن أكون أنا هو)) قد وضع فيه الضمير المرفوع مقام المنصوب في خبر كان، وقد سبق بيانه مراراً. وقوله: ((وما الوسيلة؟)) معطوف على مقدر، أي نفعل ذلك وما الوسيلة؟. الحديث الخامس عشر عن أبي رضي الله عنه: قوله: ((إمام النبيين)) تو: هو بكسر الهمزة، والذي يفتحها ينصبها على الظرف لم يصب. الحديث السادس عشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((ولاة من النبيين)) تو: أي أحباء وقرناء وهم أولى به من غيرهم.

من النبيين، وإن وليي أبي وخليل ربي. ثم قرأ: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ولي المؤمنين}. رواه الترمذي. [5769] 5770 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال)) رواه في ((شرح السنة)). [5770] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((وإن وليي أبي)) يعنى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد بينه بقوله: ((وخليل ربي))، وفي كتاب المصابيح: ((وإن وليي ربي)) وهو غلط، ولعل الذي حرف هذا دخل عليه من قوله سبحانه: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب} والرواية على ما ذكرناه هو الصواب. مظ: لو كان كما ذكره التوربشتي لكان قياس التركيب أن يكون: وليي أبي خليل ربي من غير واو العطف الموجب للمغايرة، وبإضافة الخليل إلى ربي ليكون عطف بيان لأبي. أقول: والرواية المعتبرة كما ذكره الشيخ في جامع الترمذي وجامع الأصول، وكذا في مسند أحمد بن حنبل أيضًا، وأيضًا لو ذهب إلى أن خليل ربي عطف بيان بلا واو لزم خمول كون إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبا النبي صلى الله عليه وسلم ووليه فأتى به بياناً، وإذا جعل معطوفاً عليه لزم شهرته به، والعطف يكون لإثبات وصف آخر له عليه الصلاة والسلام على سبيل المدح، فعلى ما عليه الرواية يلزم مدحه مرتين بخلاف ذلك، ونحوه في الاعتبار قول الشاعر: إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا أي أنا أذكر من لا يخفي شأنه ولا يفعل كذا، فلو جعل بنو نشهل خبراً لزم خمول المتكلم أو الجهل بارتفاع شأن قومه. فإن قلت: لزم من قوله: ((لكل نبي ولاة)) أن يكون لكل واحد منهم أولياء متعددة؟. قلت: لا لأن النكرة المفردة إذا وقعت في مكان الجمع أفادت الاستغراق، أي: أن لكل واحد واحداً لقوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام}. الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مكارم الأخلاق)) هو من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم: جرد قطيفة، وأخلاق ثياب.

5771 - وعن كعب يحكى عن التوراة قال: نجد مكتوباً محمد رسول الله عبدى المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة للشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم ينادى في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذا قوله: ((محاسن الأفعال)). غب: كل شيء يشرف في باب فإنه يوصف بالكرم، قال تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} {ومقام كريم} {إنه لقرآن كريم} وإذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر، وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم، حتى يظهر ذلك منه، قال بعض العلماء: الكرم كالحرية، إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة، والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة - انتهى كلامه -. ومعنى هذا الحديث وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((مثلى ومثل الأنبياء)) إلى قوله: ((أنا سددت موضع تلك اللبنة)) يلتقيان في معنى إتمام الناقص. الحديث الثامن عشر عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((ملكه بالشام)) مظ: أراد بالملك هاهنا النبوة والدين، فإن ذلك يكون بالشام أغلب، وإلا فملكه بجميع الآفاق لقوله: ((وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها))، وقيل: معناه الغزو والجهاد ثمة لأنها تصير بلاد الكفار، والجهاد ملكاً لأهل الإسلام، ولهذا لا ينقطع الجهاد في بلاد الشام أصلا، وأمره بالمسافرة إليها لإدراك فضيلة الجهاد والمرابطة في سبيل الله. ((يحمدون الله في كل منزلة)) أي في كل منزل، لعل تأنيثه باعتبار البقعة والناحية، قال ذو الرمة: أمنزلتى مي سلام عليكما. أي: يا منزلتى مي، إذا نزلوا شكروا الله تعالى عليه لأنه آواهم إلى المنزل والسكون فيه. قوله: ((على كل شرف)) أي يكبرون الله على كل موضع عال، تعجباً لعظمة الله تعالى وقدرته، لما يشرفون منها على عجائب خلق الله.

في الصلاة سواء، لهم بالليل دوى كدوى النحل)). هذا لفظ ((المصابيح)). وروى الدارمي مع تغيير يسير. [5771] 5772 - وعن عبد الله بن سلام، قال: مكتوب في التوراة: صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه. قال أبو مودود: وقد بقى في البيت موضع قبره. رواه الترمذي. [5772] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((على كل شرف)) أي يكبرون الله على كل موضع عال، تعجباً لعظمة الله تعالى وقدرته، لما يشرفون منها على عجائب خلق الله. قوله: ((ورعاة للشمس)) جمع راع، أي أنهم يحفظون أوقات الصلاة بطلوع الشمس وغروبها ودلوكها، يراقبون ذلك وينظرون سيرها ليعرفوا مواقيت الصلاة كيلا تفوت عنهم الصلاة في وقتها. وقوله: ((يتأزرون على أنصافهم)) أي يشدون الإزار على أنصافهم من السرة إلى الركبة، أو يشدون معقد السراويل، والمراد مبالغتهم في ستر عوراتهم، ويجوز أن يكون على معنى إلى، أي: أزرهم إلى أنصاف سوقهم. أقول: وفيه إدماج لمعنى التجلد والتشمر للقيام إلى الصلاة، لأن من شد إزاره إلى ساقه شمر لمزاولة ما اهتم بشأنه، يقال: كشف عن ساق الجد، وقامت الحرب على ساقها. أو يكون كناية عن التواضع والإخبات، كما أن جر الإزار كناية عن الكبر والخيلاء. ((ويتوضئون على أطرافهم)) أي يصبون الماء في التوضؤ على أطرافهم، ويسبغون أماكن الوضوء. ((مناديهم ينادى في جو السماء)) أي يؤذن مؤذنهم في مواضع عالية كالمنارة وغيرها. وقوله: ((صفهم للقتال شبه صفوفهم في الجماعات)) شبه صفوفهم في الجماعات - بسبب مجاهدتهم النفس الأمارة والشيطان - بصف القتال والمجاهدة مع أعداء الدين، وأخرجه مخرج التشابه في التشبيه إيذاناً بأن كل واحد منهما يصح أن يكون مشبها ومشبهاً به، بل أخر ذكر صف الصلاة، ليكون مشبهاً به لكونه أبلغ.

الفصل الثالث 5773 - عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى فضل محمدا صلي لله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء. فقالوا: يا أبا عباس! بم فضله الله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين} وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر ـــــــــــــــــــــــــــــ معه)) هذا هو المكتوب في التوراة، أي مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، عيسى ابن مريم يدفن معه، أو المكتوب صفة محمد كذا وعيسى بن مريم يدفن معه. وأبو مودود هو أحد رواة الحديث. ((مدني)). الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ومن يقل منهم إني إله من دونه)) يفهم التفضيل من صولة الخطاب وغلظته في مخاطبة أهل السماء، وفرض ما لا يتأتى منهم وجعله كالواقع، وترتب الوعيد الشديد عليه إظهار لكبريائه وجلالته، وأنهم بعداء من أن ينسبوا إلى ما يشاركوني، كقوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم. ومن ملاطفته بالخطاب معه صلى الله عليه وسلم، وأن ما صدر أو يصدر منه مغفور، وجعل فتح مكة عليه للمغفرة والنصرة وإتمام النعمة والهداية إلى الصراط المستقيم وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، انظركم التفاوت بين هذا الوعد وذلك الوعيد. وأما بيان فضله على الأنبياء: فإن الآية دلت على أن لكل نبي مرسل إلى قوم مخصوص وهو صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كافة الناس، ولا ارتياب بأن الرسل إنما بعثوا لإرشاد الخلق إلى الطريق المستقيم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، فكل من كان منهم في هذا الأمر أكثر تأثيراً كان أفضل وأفضل، فكان له صلى الله عليه وسلم فيه القدح المعلى، وحاز قصب السبق، إذ لم يكن مختصاً بقوم دون قوم، وزمان دون زمان، بل دينه انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وتغلغل في كل مكان، واستمر امتداده على وجه كل مكان، زاده الله شرفاً على شرف، وعزاً على عز، ماذر شارق ولمح بارق، فله الفضل بحذافيره سابقاً ولاحقاً، ولقد صدق الله وعده في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون} وحقق قول حبيبه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من قوله:

لك الله ما تقدم من ذنبك وما تقدم من ذنبك وما تأخر} قالوا: وما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء} الآية، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} فأرسله إلى الجن والإنس. 5774 - وعن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله! كيف علمت أنك نبي حتى استيقنت؟ فقال: ((يا أبا ذر! أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما إلى الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. قال فزنه برجل، فوزنت به فوزنته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنت بهم فرجحتهم، ثم قال، كأني أنظر إليهم ينتثرون على من خفة الميزان. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لو وزنته بأمته لرجحها)). رواهما الدارمي. [5774] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، فسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)). قوله: ((فأرسله)) الفاء للتعقيب، ظاهر العبارة يقتضي أن يكون للنتيجة وتوجيهه أن تعريف: ((الناس)) لاستغراق الجنس، وكافة تكف كل فرد من أفراد هذا الجنس أن يخرج من الإرسال، لأن ((كافة)) إما حال من المفعول أو صفة مصدر محذوف، والجن تبع للإنس، وهداية الجن تابعة لهداية الإنس، فمن طريق هذا الالتزام يلزم تناول رسالته صلى الله عليه وسلم للثقلين جميعاً. الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((حتى استيقنت؟)) حتى غاية للعلم، أي كيف تدرجت في العلم حتى بلغ علمك غايته التي هي اليقين؟. قوله: ((فوزنته)) أي غلبته في الوزن. ((ينتثرون على)) أي يتساقط الألف الموزون على من خفة تلك الكفة. وفيه: أن الأمة كما يفتقرون في معرفة كون النبي صادقاً إلى إظهار خوارق العادات بعد التحدي، كذلك النبي يفتقر في معرفة كونه نبياً إلى أمثال هذه الخوارق.

5775 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب على النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها)). رواه الدارقطني. [5775] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((كتب على النحر)) أي أوجب، وعنى به قوله: {فصل لربك وانحر} ولم يوجد في الأحاديث وجوب الضحى عليه صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث، والله أعلم.

(2) باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته

(2) باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته ـــــــــــــــــــــــــــــ باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته مح: ذكر أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه [الأحوذي في شرح الترمذي] عن بعضهم: أن لله تعالى ألف اسم, وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم أيضًا. ثم ذكر منها على التفصيل بضعًا وستين. قال ابن الجوزي في الوفاء: ذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي أن لنبينا صلى الله عليه وسلم اثنين وعشرين اسمًا: (محمد) و (أحمد) و (محمود) - وقيل: هو اسم مفعول من التحميد, وهو المبالغة من الحمد، يقال حمدت فلانًا أحمده إذا أثنيت عليه بحمد على خصاله وأحمدته إذا وجدته محمودًا - ويقال: هذا الرجل محمود, فإذا بلغ النهاية في ذلك وتكاملت فيه المحاسن والمناقب فهو محمد, قال الأعشى يمدح بعض الملوك: إلى الماجد الفرع الجواد المحمد. أراد الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة, وهذا البناء يدل أبدًا على بلوغ النهاية, كما تقول في الحمد: محمد, وفي الذم: مذمم, وقيل هذا البناء للتكثير نحو: فتحت الباب فهو مفتح, إذا فعلت به ذلك مرة بعد أخرى. و (محمد): اسم منقول من الصفة على سبيل التفاول, أي أنه سيكثر حمده. وأما أحمد: فأفعل من الحمد قطع متعلقه للمبالغة، قال ابن الجوزي في الوفاء: قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوة نبينا صلي الله عليه سلم أنه لم يسم قبله أحد باسمه صيانة من الله تعالى لهذا الاسم, كما فعل بيحيى, إذا لم يجعل له من قبل سميَّا, وذلك أن الله تعالى سماه في الكتب المتقدمة وبشر به الأنبياء, فلو جعل الاسم مشتركًا فيه شاعت الدواعى ووقعت الشبهة, إلا أنه لما قرب زمنه, وبشر أهل الكتاب بقربه سموا أولادهم بذلك. (والماحي): قيل: هو الذي يمحو الله به الكفر, لأنه صلى الله عليه وسلم بعث والدنيا مظلمة بغيابه الكفر, فأتى صلى الله عليه وسلم بالنور الساطع حتى محى الكفر, من قولك: محوت الخط محوًا, ومحت الريح والأمطار رسم الربع. مح: يحتمل أن يراد به الظهور بالحجة والغلبة, كما قال تعالى:} ليظهره على الدين كله {وجاء في حديث آخر مفسرًا بالذي محيت به سيئات من تبعه, كما قال الله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {. (والحاشر): حس: أي يحشر أول الناس, لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض)). مح: هو من قوله ((يحشر الناس على قدمي)) أي على إثري وزمان نبوتي وليس بعدي نبي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: هو من الإسناد المجازي، لأنه سبب في حشر الناس، لأن الناس لم يحشروا ما لم يحشر، ومنه قولهم: ناقة ضبوث، شك في سمنها فضبثت أي حبست، وإنما جعلت ضابثة لما بها من الداعي إلى الضبث ومنه الحلوب والركوب. والعاقب: مح: قال ابن الأعرابي: العاقب والعقرب الذي يخلف في الخير من كان قبله، ومنه عقب الرجل يقال لولده. (والمقفي): قيل: هو على صيغة الفاعل، المولى الذاهب، يقال: قفي عليه أي ذهب به، وكأن المعنى: هو آخر الأنبياء فإذا فنى فلا نبي بعده، فمعنى المقفي والعاقب واحد لأنه تبع الأنبياء صلوات الله عليهم وهو المقفي لأنه المتبع للنبيين، وكل شيء يتبع شيئًا فقد قفاه، يقال: هو يقفو أثر فلان أي يتبعه، قال الله تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} وسميت قافية البيت بها لأنها كلمة تتبع سائر الكلمات وسمى القفا لأنه خلف الوجه. هذا أحد الوجهين في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم المقفي. والوجه الآخر: أن يكون ((المقفي)) بفتح القاف ويكون مأخوذًا من القفي، والقفي الكريم والضيف، والقفاوة البر واللطف، فكأنه سمى المقفي لكرمه وفضله. والوجه الأول أحسن وأوضح. (ونبي الرحمة): قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا رحمة مهداة))، والرحمة: اللطف والرأفة والإشفاق لأنه صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رحيمًا. (ونبي الملاحم): الملاحم جمع الملحمة وهي الحرب، سمي به لحرصه على الجهاد، ومسارعته إلى القراع، وقلة إحجامه، ولذلك قال علي رضي الله عنه: ((كنا إذا التحم الناس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد منا إلى العدو أقرب منه)). قال في شرح السنة: إن قيل: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا نبي الرحمة ونبي الملاحم)) كيف وجه الجمع بينهما؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا رحمة)) وقال جل ذكره: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فكيف يكون مبعوثًا بالرحمة وقد بعث بالسيف؟. قيل: هو مبعوث بالرحمة كما ذكر وكما أخبر الله تعالى، وذلك أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالرحمة، وأيدهم بالمعجزات، فمن أنكر من تلك الأمم الحق بعد الحجة والمعجزة عذبوا بالهلاك والاستئصال، واستؤنى بهذه الأمة فلم يعاجلوا بالهلاك

ـــــــــــــــــــــــــــــ والاستئصال، ولكن الله أمر نبيه بالجهاد معهم بالسيف ليرتدعوا عن الكفر، ولم يجتاحوا بالسيف فإن للسيف بقية، وليس مع العذاب المنزل بقية. وروى أن قومًا من العرب قالوا: يا رسول الله أفنانا السيف. فقال: ((ذاك أبقى لآخركم)). فهذا معنى الرحمة المبعوث بها - ذكره الخطابي. قال الشيخ الإمام: ومما يؤيد ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أن الله تعالى بعث إليه ملك الجبال فقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)). وهو مبعوث بالرحمة أيضًا حيث إن الله تعالى وضع في شريعته عن أمته ما كان في شرائع الأمم السالفة عليهم من الآصار والأغلال، كما قال الله تعالى في كتابه في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ..} إلى قوله: {... ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}، وأعطى أمته في الأعمار القصيرة على الأعمال اليسيرة ضعف ما أعطى الأمم الماضية في الأعمار الطويلة على الأعمال الكثيرة الثقيلة، كما جاء في حديث ابن عمر: ((إن اليهود والنصارى قالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟ قال الله تعالى: ((ذلك فضلى أوتيه من أشاء)) فقد أكمل الله على الخلائق بإرساله الرحمة، وأتم عليهم النعمة، وأعظم عليهم المنة فلله الحمد أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. (والشاهد): لأنه هو الذي يشهد يوم القيامة للأنبياء على الأمم بتبليغ الأنبياء إليهم برسالات الله جل ثناؤه، [ويشهد على أمته] قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} ويشهد لهم أي يزكيهم، قال الله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا}. وقيل: سماه شاهدًا لمشاهدته الحال كأنه الناظر إليها، والمخبر بما شاهد منها، ويقال للسان: الشاهد، لأنه يعبر ويشهد، قال الأعشى: فلا تحسبني شاكرًا لك نعمة على شاهدي يا شاهد الله فاشهدي أراد بشاهد نفسه لسانه، وبشاهد الله الملك. (والمبشر والنذير): بشر أهل الإيمان بالجنة والرضوان وأنذر أهل النار بالخزي والبوار.

ـــــــــــــــــــــــــــــ (والضحوك): هو اسمه في التوراة: وذلك أنه كان طيب النفس فكهًا، وكان لا يحدث بحديث إلا ضحك حتى تبدو نواجذه، وكان لينًا مع الجفاة لطيفًا في المنطق معهم، كأن وجهه دائرة القمر عند امتلاء نوره صلى الله عليه وسلم. (والمتوكل): الذي يكل أموره إلى الله عز وجل، فإذا أمره الله بالشيء نهض غير هيوب ولا ضرع، فاشتقاق التوكل من قولنا: رجل وكل، أي ضعيف، وكان صلى الله عليه وسلم إذا همه أمر عظيم أو نزلت به ملمة من الملمات راجعًا إلى ربه غير متكل على حول نفسه وقوتها. (والفاتح): سمى به لفتحه من الإيمان أبوابًا [منسدة]، والفتح الحكم، قال الله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} أي احكم، فسمى صلى الله عليه وسلم فاتحًا لأنه تعالى جعله حكمًا في خلقه، فجعلهم على المحجة البيضاء. ويحتمل أن يكون (الفاتح) من فتحة ما استغلق من العلم، وهذا الوجه مروي عن علي رضي الله عنه. (والأمين) مأخوذ من الأمانة، وكان صلى الله عليه وسلم يسمى قبل البعثة أمينًا لما عاينوا من أمانته وحفظه لها، وكل من أمن منه الخلف والكذب فهو أمين. (والمصطفي) أصل الصفا خلوص الشيء من الشوب، والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، واصطفاء الله تعالى بعض عباده قد يكون يإيجاده تعالى إياه صافيًا من الشوب الموجود في غيره، وقد يكون باختياره وبحكمه وإن لم يتغير ذلك من الأول. فأما المصطفي فقد شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعند الإطلاق يفهم (محمد) صلى الله عليه وسلم لأنه أرفع قدرًا. (والخاتم): من ختمت الشيء إذا أتممته وبلغت آخره، وخاتمة الشيء وختامه آخره، ومنه ختم القرآن. سمى صلى الله عليه وسلم (خاتم النبيين) لأنه آخرهم في البعثة إلى الخلق وإن كان في الفضل أولا. (والرسول والنبي والأمي): قيل: أراد به أنه من مكة المكرمة وهي أم القرى، وقيل: المراد الذي لا يكتب ولا يقرأ. (والقثم) من القثم وهو الإعطاء، سمى به صلى الله عليه وسلم لأنه كان أجود بالخير من الريح الهابة، ويعطي فلا يبخل، ويمنح فلا يمنع.

ـــــــــــــــــــــــــــــ أو من القثم: الجمع، يقال للرجل الجموع للخير: قثوم سمى به صلى الله عليه وسلم لأنه كان جامعًا لجميع المناقب الرفيعة والفضائل السنية، والأول أصح وأقرب. ونقل هذه الأسامي من الوفاء، وهو مذكور في الكتاب والسنة من غير ذلك هذه. و (نبي التوبة): لأنه تواب كثير التوب والرجوع إلى الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة أو مائة مرة)) ولأنه قبل من أمته التوبة بمجرد الاستغفار بخلاف الأمم السالفة، قال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيما} ألم تر كيف عدل عن المضمر إلى المظهر في قوله: {واستغفر لهم الرسول} أي: شفاعة من اسمه الرسول لقبول توبة المذنبين بمكانة عظيمة عند الله تعالى، ولما كان هذا المعنى مختصًا به سمي: بـ (نبي التوبة). (والقاسم): [قال صلى الله عليه وسلم: (([أنا القاسم] والله المعطى)). (والعبد): قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} {فأوحى إلى عبده ما أوحى}. (وعبد الله): قال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}. (والمزمل والمدثر): رويّ عن عكرمة: أي الذي زمل أمرًا عظيمًا، أي حمله. ورويّ عن ابن عطاء: يأيها المخفي ما نظهره عليك من آثار الخصوصية آن أوان كشفه فأظهره، فقد أيدناك بمن يتبعك ويوافقك ولا يخذلك ولا يخالفك وهو أبو بكر وعلي رضي الله عنهما. (والشفيع والشافع والمشفع والحبيب [والخطيب] والحي والجليل والداعي) قال تعالى: {وداعيًا إلى الله} أي: داعيًا لأهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد وشرائع الإسلام {بإذنه} أي بتيسيره وتسهيله. (والسراج المنير) أي السراج المنير الذي جلى الله به ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما تجلى ظلمات الليل بالسراج المنير ويهتدى به، أو أمد الله بنور نبوته نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار، ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء. (وحريص ورءوف ورحيم): قال الله تعالى: {حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}.

الفصل الأول 5776 - عن جبير بن مطعم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ لى أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب)) والعاقب: الذي ليس بعده شيء. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ (والطيب): قال الله تعالى: {الطيبون للطيبات}. (وأولوا العزم): قال الله تعالى: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}. (والصاحب): قال الله تعالى: {ما ضل صاحبكم وما غوى}. (والصالح): هو من قول الأنبياء: ((مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح)). (والقائد والسيد): من قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا قائدهم إذا وفدوا)). (والحرز): من قوله: ((وحرزا للأميين)). (والإمام): من قوله: ((كنت إمام النبيين)). (والنور): قالت أمه: خرج لها نور أضاء لها. (والأزهر): من قوله: أزهر اللون. (والأجود): من قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير. (والشكور): من قوله: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟. الفصل الأول الحديث الأول عن جبير رضي الله عنه: قوله: ((على قدمي)) أي على أثري، والظاهر على قدميه اعتبارًا للموصول إلا أنه اعتبر المعنى المدلول بلفظة: ((أنا)). ((مح)): ضبطوه بتخفيف الياء على الإفراد، وتشديدها على التثنية. الحديث الثاني والحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شتم قريش)) تو: يريد بذلك تعريضهم إياه بمذمم مكان محمد، وكانت العوراء بنت حرب زوجة أبي لهب تقول:

5777 - وعن أبي موسى الأشعري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمي لنا نفسه أسماءً فقال: ((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة)). رواه مسلم. 5778 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم! يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد)) رواه البخاري. 5779 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادَّهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية، فقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديرًا ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مذممًّا قلينا ودينه أبينا وأمره عصينا الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وإذا شعث رأسه)) أي تفرق شعر رأسه، فدل هذا على أنه عند الادهان يجمع شعر رأسه ويضم بعضه إلى بعض، وكانت الشعرات البيض من قلتها لا تتبين فإذا شعث رأسه ظهرت. قوله: ((لا بل كان مثل الشمس والقمر)) رده الراوي ردًا بليغًا حيث شبهه بالسيف الصقيل، ولما لم يكن الوجه شاملا للطرفين قاصرًا عن تمام المراد من الاستدارة والإشراق الكامل والملاحة، قال: لا بل كان مثل الشمس في نهاية الإشراق، والقمر في الحسن والملاحة، وحين جرى التعارف في تمثيل الشمس بالإشراق والقمر في الحسن والملاحة دون الاستدارة أتى بقوله: ((وكان مستديرًا)) بيانًا للمراد فيهما. الحديث الخامس عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه: قوله: ((ناغض كتفه اليسرى)) ((نه)): النغض والناغض أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه. والجمع: هو أن تجمع الأصابع وتضمها، يقال: ضربه بجمع كفه، بضم الجيم. والخيلان: جمع الخال وهو الشامة في الجسد. والثآليل: جمع ثؤلول وهو هذه الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها.

5780 - وعن عبد الله بن سرجس، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزًا ولحمًا أو قال: ثريدًا - ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى، جمعًا عليه، خيلانٌ كأمثال الثآليل. رواه مسلم. 5781 - وعن أم خالد بنت خالد بن سعيد، قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصةٌ سوداءُ صغيرة، فقال: ((ائتوني بأم خالد)) فأتى بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده، فألبسها. قال: ((ابلي وأخلقي، ثم ابلي وأخلقي)) وكان فيها علم أخضر أو أصفر. فقال: ((يا أم خالد! هذا سناه)) وهي بالحبشية: حسنة. قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرنى أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعها)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: وظاهر قوله: ((جمعا)) يحتمل أن يكون المراد تشبيه به في الهيئة، وأن يكون في المقدار، والمراد به هنا الهيئة ليوافق قوله: ((مثل بيضة الحمام)). الحديث السادس عن أم خالد رضي الله عنها: قوله: ((خميصة سوداء)) [مظ]: الخميصة كساء أسود مربع له علمان. و ((تحمل)) حال من الضمير في ((بها))، والتكرار في قوله: ((ابلي وأخلقي)) دعاء لها بطول عمرها. ((فزبرني أبي)) أي صاح عليّ ونهاني عن ذلك. وقد أشار الشيخ الصمداني ((شهاب الدين السهروردي)) قدس الله سره في عوارفه إلى استناد المشايخ الصوفية في لبس الخرقة بهذا الحديث. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بالطويل البائن)) قض: الظاهر البين طوله، من بان إذا ظهر. نه: أي المفرط طولا الذي يعد من قدر الرجال الطوال. و ((الأمهق)) هو الكريه البياض كلون الجص، يريد أنه كان نير البياض. ((ولا بالآدم)) أي الشديد السمرة. و ((القطط)) أي الشديد الجعودة. و ((السبط)) من الشعر المنبسط المسترسل، أي كان شعره صلى الله عليه وسلم وسطًا بينهما. ويقال: ((رجل ربعة)) ومربوع إذا كان بين الطويل والقصير.

5782 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وفي رواية يصف النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون. وقال: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه. وفي رواية: بين أذنيه وعاتقه. متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قال: كان ضخم الرأس والقدمين، لم أر بعده ولا قبله مثله، وكان سبط الكفين. وفي أخرى له، قال: كان شثن القدمين والكفين. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الأزهر)) الأبيض المستنير، والزهر والزهرة البياض النير وهو أحسن الألوان. وقوله: ((شثن القدمين والكفين)) أي أنهما يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل: هو الذي في أنامله غلط بلا قصر، ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم، ويذم في النساء. الحديث الثامن عن البراء رضي الله عنه. قوله: ((لمة أحسن)) نه: اللمة من شعر الرأس دون الجمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت فهي الجمة. الحديث التاسع عن سماك رضي الله عنه: قوله: ((ضليع الفم)) ((مح)): أي عظيمه، هكذا قاله الأكثرون وهو الأظهر. قالوا: والعرب تمدح ذلك وتذم [صغر] الفم. وقال شمر: عظيم الأسنان. وأما قوله: ((أشكل العينين)) فقال القاضي عياض: تفسير سماك ((أشكل العينين)) وهم منه وغلظ ظاهر، وصوابه ما اتفق عليها العلماء ونقله أبو عبيدة وجميع أصحاب الغريب، وهو أن الشكلة حمرة في بياض العين وهو محمود. وأما ((المنهوش)) فبالشين المعجمة. الحديث العاشر عن أبي الطفيل رضي الله عنه:

5783 - وعن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين، له شعرُ بلغ شحمة أُذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، شعره يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير. 5784 - وعن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوش العقبين. قيل لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم قيل: ما أشكل العينين؟ قال: طويل شق العين. قيل: ما منهوش العقبين؟ قال: قليل لحم العقب. رواه مسلم. 5785 - وعن أبي الطفيل، قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبيض مليحاً مُقصداً. رواه مسلم. 5786 - وعن ثابت، قال: سُئل أنس عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يبلغ ما يخضب، لو شئت أن أعد شمطاته في لحيته - وفي رواية: لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه - فعلت. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مقصداً)) نه: هو الذي ليس بطويل ولا قصير، ولا جسيم، كأن خلقه يجيء به القصد من الأمور، والمعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط. الحديث الحادي عشر عن ثابت: قوله: ((إنه لم يبلغ ما يخضب)) أي كان قليل الشيب لا يظهر في بدء النظر ولم يفتقر إلى كتمه بالخضاب. قوله: ((شمطاته)) نه: الشمط الشيب، والشمطات الشعرات التي كانت في شعر لحيته يريد به قلتها. و ((نبذ)) أي يسير من شيب، يقال: بأرض كذا نبذ من [كذا] أي شيء يسير. و ((العنفقة)) الشعر الذي في الشفة السفلى، وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذقن وأصل العنفقة خفة الشيء وقلته - انتهى كلامه.

وفي رواية لمسلم، قال: إنما كان البياض في عنفقته، وفي الصدغين وفي الرأس نبذ. 5787 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشي تكفأ، وما مسست ديباجة ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. 5788 - وعن أم سليم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها، فيقيل عندها. فتبسط نطعاً فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أم سُليم! ما هذا؟)) قالت: عرقك نجعله في طيب وهو من أطيب الطيب. وفي رواية قالت: يا رسول الله! نرجو بركته لصبياننا قال: ((أصبتِ)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((نبذ)) مبتدأ، وقوله: ((في عنفقته)) خبره، والجملة خبر كان، والعائد محذوف، أي نبذ منه. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((تكفأ)) مح: هو بالهمز وقد يترك همزه، وزعم كثيرون أنه بلا همزة وليس كما قالوا. تو: قيل: تمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها، من قولهم: أكفأته وكفأته إذا أملته، ويقال: كفأت الإناء فانكفأ وتكفأ، وأراد به الترفع عن الأرض مرة واحدة كما يكون من مشي الأقوياء وذوي الجلادة، بخلاف المتماوت الذي يجر رجله في الأرض، ويدل عليه قول الواصف، إذا مشي تقلع. ((مح)): قال شمر: معناه مال يميناً وشمالاً كما تكفأ السفينة. قال الأزهري: هذا خطأ لأن هذه صفة المختال. قال القاضي عياض: لا يعد فيما قاله ((شمر)) إذا كان خلقة وجبلة، والمذموم منه ما كان مستعملاً مقصوداً. الحديث الثالث عشر [عن أم سليم رضي الله عنها]: قوله: ((يأتيها فيقيل)) مح: أم حرام وأم سليم كانتا خالتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم محرمين إما من الرضاع وإما من النسب، فيحل له الخلوة بهما، فكان يدخل عليهما خاصة، ولا يدخل على غيرهما من النساء.

5789 - وعن جابر بن سمرة، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً، وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار. رواه مسلم. وذكر حديث جابر: ((سموا باسمي)) في ((باب الأسامي)). وحديث السائب بن يزيد: نظرت إلى خاتم النبوة في ((باب أحكام المياه)). الفصل الثاني 5790 - عن علي بن أبي طالب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: قد وجدت في بعض كتب الحديث أنهما كانتا من ذوات محارم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقيل في بيت أجنبية، وإذا لم يكن بينه وبينها سبب محرم من رحم وصلة فلابد أن يكون ذلك من جهة الرضاع، وإذ قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحمل إلى المدينة رضيعاً تعين أن يكون ذلك من قبل أبيه عبد الله، فإنه ولد بالمدينة، وكان عبد المطلب قد فارق أباه هاشماً وتزوج بالمدينة من بني النجار، وأم سليم وأم حرام بنتا ملحان كانتا من بني النجار، فعرفنا من جميع ذلك أن الحرمة بينهم كانت حرمة رضاع، ولقد وجدنا الجم الغفير من علماء النقل أوردوا أحاديث أم حرام وأم سليم ولم يبين أحد منهم العلة، إما من الغفلة عنها، وإما لعدم العلم بها، فأحببت أن أبين وجه ذلك لئلا يظن جاهل أنه كان في سعة من ذلك لمكان العصمة، ولا يتذرع به مستبيح إلى الترخص بما لا رخصة فيه، وأراني ـ والله أعلم ـ أول من وفقت لذلك، فواها لها من درة كنت مستخرجها والله أحمد على هذه الموهبة السنية. الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((صلاة الأولى)) ((مح)): هي صلاة الظهر. وفي مسحه الصبيان بيان حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للأطفال وملاطفتهم. وقوله: ((من جؤنة عطار)) ((مح)): هو بضم الجيم التي يعد فيها الطيب ويحرز. ((مح)) وفي الحديث بيان طيب ريحه صلى الله عليه وسلم وهو مما أكرمه الله سبحانه وتعالى به، قالوا: وكانت هذه الريح الطيبة صفته وإن لم يمس طيباً، ومع هذا كان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات، مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة، وأخذ الوحي الكريم، ومجالسة المسلمين. الفصل الثاني الحديث الأول عن علي رضي الله عنه:

بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، مشرباً حمرة، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [5790] 5791 - وعنه، كان إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((مشرباً حمرة)) نه: الإشراب خلط لون بلون، كأن أحد اللونين سقى اللون الآخر، يقال: بياض مشرب حمرة، بالتخفيف فإذا شدد كان للتكثير والمبالغة. و ((الكراديس)) رءوس العظام، واحدها كردوس، وقيل: هي ملتقى كل عظمتين ضخمين كالركبتين والمرفقين. و ((المسربة)) بضم الراء، ما دق من شعر الصدر سائلاً إلى الجوف. قوله: ((تكفأ تكفؤاً)) ((نه)): أي تمايل إلى قدام، هكذا روى غير مهموز والأصل الهمزة، وبعضهم يرويه مهموزاً، لأن مصدر تفعل من الصحيح تفعل كتقدم تقدماً وتكفأ تكفؤاً والهمزة حرف صحيح، وأما إذا اعتل انكسرت عين المستقبل منه نحو: تخفي تخفياً، وتسمى تسمياً، فإذا خففت الهمزة التحقت بالمعتل وصار تكفياً بالكسر. حس: ((الصبب)) الحدور وهو ما انحدر من الأرض، يريد أنه كان يمشي مشياً قوياً، يرفع رجليه من الأرض رفعاً تاماً، لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب خطاه تنعماً. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((الممغط)) ((نه)): هو بتشديد الميم الثانية، المتناهي الطول، وأمغط النهار إذا امتد، وأمغطت الحبل وغيره إذا مددته، وأصله منمعط والنون للمطاوعة فقبلت ميماً وأدغمت في الميم. ويقال بالعين المهملة بمعناه. و ((المتردد)) أي المتناهي في القصر كأنه يرد بعض خلقه على بعض وتداخلت أجزاؤه. و ((المطهم)) هو المنتفخ الوجه، وقيل الفاحش السمن، وقيل: النحيف الجسم، وهو من الأضداد. و ((المكلثم)) هو من الوجوه القصير الحنك الداني الجبهة المستدير مع خفة اللحم، أراد أنه كان أسيل الوجه ولم يكن مستديراً.

جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد، ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى يتقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي. [5791] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولما كان المكلثم المستدير بينه بقوله: ((وكان في الوجه تدوير)) نه: لم يكن مستديراً كل الاستدارة بل كان فيه بعض ذلك، ويكون معنى قوله: ((وكان في الوجه تدوير)) أي: كان تدويرًا ما، وكان بين الإسالة والاستدارة [مسنون الوجه]. ((تو)): قوله: ((أدعج)) الدعج والدعجة شدة سواد العين وغيرها، يريد أن سواد عينيه كان شديداً. وقيل: الدعجة شدة سواد العين في بياضها. و ((أهدب الأشفار)) أي طويل شعر الأجفان. و ((جليل المشاش)) أي عظيم رءوس العظام كالمرفقين والركبتين والكتفين. وقال الجوهري: هي رءوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. و ((الكتد)) بفتح التاء وكسرها مجتمع الكتفين وهو الكاهل. و ((الأجرد)) الذي ليس على بدنه شعر، ولم يكن صلى الله عليه وسلم كذلك، وإنما أراد به أن الشعر كان في أماكن من بدنه كالمسربة والساعدين والساقين، فإن ضد الأجرد الأشعر وهو الذي على جميع بدنه شعر. و ((شثن الكفين والقدمين)) أي أنهما يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم ويذم في النساء. وقوله: ((إذا مشى تقلع)) أراد قوة مشيه كأنه يرفع رجليه عن الأرض رفعاً قوياً لا كمن يمشي اختيالاً متقارب الخطا، فإن ذلك من مشي النساء، ويوصفن به. وقوله: ((وإذا التفت التفت معاً)) أراد أنه لا يسارق بالنظر، وقيل: أراد لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف. ولكن كان يقبل جميعاً ويدبر جميعاً: تو: يريد أنه كان إذا توجه إلى الشيء توجه بكليته ولا يخالف ببعض جسده بعضاً كيلا يخالف بدنه قلبه وقصده ومقصده، ثم لما في ذلك من التلون وأمارة الخفة.

5792 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه، من طيب عرقه - أو قال: من ريح عرقه - رواه الدارمي. [5792] 5793 - وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: قلت للربيع بنت معوذ بن عفراء: صفي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة. رواه الدارمي. [5793] 5794 - وعن جابر بن سمرة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو أحسن عندي من القمر. رواه الترمذي، والدارمي. [5794] ـــــــــــــــــــــــــــــ واللهجة: اللسان، يقال: هو فصيح اللهجة، من لهج بالشيء إذا ولع به. نه: والعريكة الطبيعة، يقال: فلان لين العريكة إذا كان مطاوعاً منقاداً قليل الخلاف. وهاب الشيء يهابه إذا خافه وإذا وقره وعظمه. و ((من رآه بديهة)) أي مفاجأة وبغتة، يعني من لقيه قبل الاختلاط به هابه لوقاره وسكونه، فإذا جالسه وخالطه بان له حسن خلقه. نه: والنعت: وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في القبيح إلا أن يتكلف متكلف فيقول: نعت سوء، والوصف يقال في الحسن والقبح. انتهى كلامه. والمعنى: من أراد أن يصفه فيعجز عن وصفه فيعجز عن وصفه فيقول: لم أر قبله. قوله: ((عشرة)) هكذا هو في الترمذي والجامع، أي: الصحبة، وفي المصابيح: ((العشيرة)) أي الصاحب. الحديث الثالث: عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((من ريح عرقه)) هو بفتح الراء والقاف، و ((أو)) لترديد الراوي. وقد سبق للشيخ محيى الدين معناه في الحديث الآخر من الفصل الأول. الحديث الرابع عن أبي عبيدة رضي الله عنه: قوله: ((لو رأيته رأيت الشمس طالعة)) أي لرأيت شمساً طالعة، جرد من نفسه الزكية الطاهرة شمساً وهي هي، ونحوه قولك: لئن لقيته ليلقينك منه الأسد وإذا نظرت إليه لم تر إلا أسداً. الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه:

5795 - وعن أبي هريرة، قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه. وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. رواه الترمذي. [5795] 5796 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان في ساقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً، وكنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل. رواه الترمذي. [5796] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إضحيان)) ((فا)) يقال: ليلة ضحياء وإضحياء وإضحيانة وهي المقمرة من أولها إلى آخرها، وأفعلان مما قل في كلامهم وهو بكسر الهمزة. الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كأن الشمس تجري في وجهه)) شبه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه، وفيه معنى قول الشاعر: يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظراً وفيه أيضًا عكس التشبيه للمبالغة، ويجوز أن يقدر متعلق الخبر للاستقرار فيكون من باب تناسي التشبيه، فجعل وجهه صلى الله عليه وسلم مقراً ومكاناً لها من باب التناسي ومنه قول الشاعر: هي الشمس مسكنها السماء فعز الفؤاد عزاء جميلاً قوله: ((إن لنجهد أنفسنا)) تو: يجوز فيه فتح النون وضمها، يقال: جهد دابته وأجهدها إذا حملها فوق طاقتها. نه: ((لغير مكترث)) أي غير مبال، ولا يستعمل إلا في النفي أما في الإثبات فشاذ. الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((حموشة)) قض: حموشة الساق دقتها، يقال: حمشت قوائم الدابة إذا دقت، وشفة حمشة قليلة اللحم. قوله: ((لا يضحك إلا تبسماً)) جعل التبسم من الضحك واستثنى منه، فإن التبسم من الضحك بمنزلة السنة من النوم، ومنه قوله تعالى: {فتبسم ضاحكاً من قولها} أي شارعاً في الضحك.

الفصل الثالث 5797 - عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، إذا تكلم رُئى كالنور يخرج من بين ثناياه. رواه الدارمي. [5797] 5798 - وعن كعب بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك. متفق عليه. 5799 - وعن أنس، أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا يهودي! أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟)). قال: لا، قال الفتى. بلى والله يا رسول الله! إنا نجد لك في التوراة نعتك وصفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أقيموا هذا من عند رأسه، ولوا أخاكم)) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)). [5799] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أفلج الثنيتين)) نه: الفلج بالتحريك فرجة ما بين الثنايا والرباعيات، والفرق فرجة ما بين الثنيتين. انتهى كلامه. وفي الحديث استعمل ((فلج)) موضع ((فرق)) والضمير في ((يخرج)) يجوز أن يرجع إلى ما دل عليه ((تكلم)) وأن يرجع إلى ((النور)) والكاف زائدة نحو قولك: مثلك يجود، فعلى الأول: تشبيه، ووجه البيان الظهور، كما شبهت الحجة الظاهرة بالنور، وعلى الثاني: لا تشبيه فيه ويكون من معجزاته صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني عن كعب رضي الله عنه: قوله: ((وكنا نعرف ذلك)) حال مؤكدة، أي كان ظاهراً جلياً لا يخفي على كل ذي بصر وبصيرة. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(3) باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم

5800 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما أنا رحمة مهداة)) رواه الدارمي، والبيهقي في ((شعب الإيمان)). (3) باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم القصل الأول 5801 - عن أنس، قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍ ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟ متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إنما أنا رحمة مهداة)) أي ما أنا إلا رحمة للعالمين أهداها الله إليهم، فمن قبل هديته أفلح ونجا، ومن لم يقبل خاب وخسر، كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم نه: الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب متعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة. والشمائل: جمع شمال وهو الخلق. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أف)) اسم الفعل بمعنى الضجر والكره، وحرف التحضيض دخل على الماضي فأفاد التقديم، كما في المضارع يفيد التحريض. واعلم أن ترك اعتراض النبي صلى الله عليه وسلم على أنس رضي الله عنه فيما خالف أمره إنما يعرض فيما يتعلق بالخدمة والآداب، لا فيما يتعلق بالتكاليف الشرعية فإنه لا يجوز ترك الاعتراض فيه. وفيه أيضًا مدح أنس فإنه لم يرتكب ما يتوجه إليه من النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض ما. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى أمر)) حكاية الحال الماضية، كما تقول: شربت الإبل حتى يجر بطنه، ويجوز أن تكون حتى ناصبة بمعنى كي.

5802 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: ((يا أنيس! ذهبت حيث أمرتك؟)). فقلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله!. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقول أنس رضي الله عنه: ((نعم)) في جواب النبي صلى الله عليه وسلم: ((ذهبت حيث أمرتك؟)) مع أنه لم يذهب منبيء عن عزمه على ذهابه إلى المأمور به، فإنه قد جزم بذهابه إليه فكأنه قد ذهب، ولهذا قال: أنا ذاهب، ويحمل قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أذهب، وأمثاله على أنه كان صبياً غير مكلف. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نجراني)) نه: هو موضع معروف بين الحجاز والشام واليمن. والجبذ: لغة في الجذب، وقيل: هو مقلوب منه. قوله: ((في نحر الأعرابي)) أي استقبل صلى الله عليه وسلم نحره استقبالاً تاماً، وهو معنى قوله: ((وإذا التفت التفت معاً)) وهذا يدل على أنه لم يتغير ولم يتأثر من سوء أدبه، ولعله كان من المؤلفة قلوبهم ولذلك خاطبه باسمه. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فاستقبلهم)) الضمير راجع إلى ما دل عليه الصوت الذي فزع منه أهل المدينة. قوله: ((لم تراعوا)) معناه لا فزع ولا روع فاسكنوا. حس: ويروى: ((لن تراعوا)) والعرب تضع ((لم)) و ((لن)) موضع ((لا)) انتهى كلامه. فعلى هذا يكون خبراً في معنى النهي. وقوله: ((ما عليه سرج)) صفة أخرى لفرس جاء بياناً وتأكيداً. قوله: ((في عنقه)) أي في عنق النبي صلى الله عليه وسلم سيف. وقوله: ((بحراً)) أي جواداً واسع الجري، وذلك الفرس يسمى ((المندوب)) أي المطلوب. مح: فيه بيان ما أكرمه الله تعالى به من جليل الصفات. وفيه: معجزة انقلاب الفرس سريعاً بعد أن كان بطيئاً.

5803 - وعنه، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء. متفق عليه. 5804 - وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: ((لم تراعوا، لم تراعوا)) وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، وفي عنقه سيف. فقال: ((لقد وجدته بحراً)) متفق عليه. 5805 - وعن جابر، قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قط فقال: لا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه: جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك. وجواز العارية. وفيه جواز الغزو على الفرس المستعار. واستحباب تقلد السيف في العنق. وتبشير الناس بعد الخوف إذا ذهب. الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فقال: لا)) ومنه قول الفرزدق في زين العابدين: حمال أثقال إذا فدحوا ... حلو الشمائل يحلو عنده نعم ما قال: لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد لم ينطق بذاك فم الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما يخاف الفقر)) يجوز أن يكون حالاً من ضمير يعطى، وأن يكون صفة لعطاء والتنكير فيه للتعظيم، أي: عطاء ما يخاف الفقر معه.

5806 - وعن أنس، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه، فقال: أي قوم! أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطى عطاءً ما يخاف الفقر. رواه مسلم. 5807 - وعن جبير بن مطعم، بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين، فعلقت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أعطوني ردائي، لو كان لي [عدد] هذه العضاه نعم لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((يا قوم أسلموا)) فإن قلت: كيف دل هذا الوصف على وجوب الإسلام؟ قلت: مقام ادعاء النبوة مع العطاء الجزيل يدل على وثوقه على من أرسله إلى دعوة الخلق، فإن من جبلة الإنسان خوف الفقر، كما قال الله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر}. الحديث السابع عن جبير رضي الله عنه: قوله: ((مقفله)) مصدر ميمي، أو اسم زمان، أي عند رجوعه أو زمان رجوعه. وقوله: ((فعلقت الأعراب)) أي طفقت، وقيل تشبثت. وقوله: ((فخطفت)) أي علق رداؤه بها، فاستعير لها الخطف. وفي الغريبين: ((العضاه)) اسم شجر أم غيلان، وقيل: كل شجر له شوك عظيم، الواحدة عضة، وأصلها عضهة. و ((عدد)) منصوب على المصدر، أي بعدد عددها، أو على نزع الخافض، أي بعددها. قوله: ((ثم لا تجدوني بخيلاً)) مظ: يعني إذا جربتموني في الوقائع لا تجدوني متصفاً بالأوصاف الرذيلة. وفيه: دليل على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه ليعتمد عليه. أقول: ((ثم)) هنا للتراخي في الرتبة، يعني: أنا في ذلك العطاء لسن بمضطر إليه، بل أعطيه مع أريحية نفس ووفور نشاط، ولا بكذوب أدفعكم عن نفسي ثم أمنعكم عنه، ولا بجبان أخاف أحداً. فهو كالتتميم للكلام السابق. الحديث الثامن والتاسع والعاشر عن أنس رضي الله عنه:

5808 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يأتون بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه بالغداة الباردة فيغمس يده فيها. رواه مسلم. 5809 - وعنه، قال: كانت أمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري. 5810 - وعنه، أن امرأة كانت في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال: ((يا أم فلان! انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك)) فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها. رواه مسلم. 5811 - وعنه، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، كان يقول عند المعتبة: ((ما له ترب جبينه؟!)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((جاءوه بالغداة الباردة)) فيه تكلف المشاق لتطييب قلوب الناس لا سيما مع الخدم والضعفاء، وليتبركوا بإدخال يده الكريمة في أوانيهم، وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الضعفاء. الحديث الحادي عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ولا لعاناً ولا سباباً)) فإن قلت: بناء فعل للتكثير أو للمبالغة، ونفيه لا يستلزم نفي اللعن والسب مطلقاً؟. قلت: المفهوم هنا غير معتبر لأنه وارد في مدحه صلى الله عليه وسلم، فإن أريد التكثير فيعتبر بحسب من يستحق اللعن من الكفار والمنافقين، أي ليس لعاناً لكل واحد منهم، وإن أريد المبالغة كان المعنى: أن اللعن بلغ في العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان اللاعن بمثله لعاناً بليغ اللعن، نحو قوله تعالى: {وأن الله ليس بظلام للعبيد}. قوله: ((ترب جبينه)) [نه]: أي غاية ما يقول عند الغضب والمخاصمة هذه الكلمة، وهي أيضًا ذات وجهين، إذ يحتمل أن تكون دعاء على المقول له بمعنى رغم أنفك، وأن تكون دعاء له بمعنى سجد لله وجهك. الحديث الثاني عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

5812 - وعن أبي هريرة، قال: قيل يا رسول الله! ادع على المشركين. قال ((إني لم أبعث لعاناً؛ وإنما بعثت رحمة)). رواه مسلم. 5813 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأي شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه. 5814 - وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم. رواه البخاري. 5815 - وعنها، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه. متفق عليه. 5816 - وعن الأسود، قال: سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وإنما بعثت رحمة)) أي إنما بعثت لأقرب الناس إلى الله تعالى وإلى رحمته، وما بعثت لأبعدهم عنها، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟ الحديث الثالث عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((في خدرها)) تتميم، فإن العذراء إذا كانت في خدرها كانت أشد حياء مما إذا كانت خارجة عنه. ((مح)): قوله: ((عرفناه في وجهه)) معناه أنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بالشيء الذي يكرهه لحيائه، بل يتغير وجهه فيفهم كراهيته له، وفيه فضيلة الحياء، وأنه محثوث عليه ما لم ينته إلى الضعف والخور. الحديث الرابع عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مستجمعاً)) تو: تريد ضاحكاً كل الضحك. يقال: استجمع كل مجمع، واستجمع الفرس جريا، انتهى كلامه. فعلى هذا ضاحكاً وضع موضع ضحكاً على أنه منصوب على التمييز. قال في المغرب: استجمع السيل اجتمع من كل موضع، واستجمعت للمرء أموره، وهو لازم، وقولهم استجمع الفرس جرياً نصب على التمييز، وأما قول الفقهاء: مستجمعاً شرائط الجمعة فليس [بثبت]- انتهى كلامه.

5817 - وعن عائشة، قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. متفق عليه. 5818 - وعنها، قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. رواه مسلم. الفصل الثاني 5819 - عن أنس، قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثمان سنين، خدمته ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لم يكن يسرد)) يقال: فلان سرد الحديث سرداً إذا تابع الحديث بحديث استعجالاً، وسرد الصوم تواليه، يعني لم يكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متتابعاً بحيث يأتي بعضه إثر بعض فيلتبس على المستمع، بل كان يفصل بين كلامين بحيث لو أراد المستمع عده أمكنه، فيتكلم بكلام واضح مفهوم في غاية الوضوح والبيان. الحديث السادس عشر عن الأسود رضي الله عنه: قوله: ((في مهنة أهله)) ((نه)): المهنة الخدمة، والرواية بفتح الميم وقد تكسر، قال الزمخشري: وهو عند الإثبات خطأ، وقال الأصمعي: المهنة بفتح الميم ولا يقال: مهنة بالكسر، وكان القياس لو قيل مثل: جلسة وخدمة، إلا أنه جاء على فعلة واحدة. الحديث السابع عشر والثامن عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((نيل منه)) ((نه)): يقال: نال ينال نيلا إذا أصاب، وفي الحديث ((أن رجلاً كان ينال من الصحابة))، يعني الوقيعة فيهم. قوله: ((إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى)) استثناء منقطع، أي ما عاقب أحداً لخاصة نفسه بجناية جني عليه، بل بحق الله تعالى إذا فعل شيئاً من المحرمات امتثالاً لقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه:

عشر سنين، فما لامني على شيء قط أتي فيه على يدي، فإن لامني لائم من أهله قال: ((دعوه، فإنه لو قضي شيء كان)). هذا لفظ ((المصابيح)) وروى البيهقي في ((شعب الإيمان)) مع تغيير يسير. [5819] 5820 - وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الترمذي. [5820] 5821 - وعن أنس، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، لقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه ليف. رواه ابن ماجه والبيهقي في ((شعب الإيمان)). [5821] 5822 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، وقالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. رواه الترمذي. [5822] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أتى فيه على يدي)) هو صفة شيء، وضمن فيه معنى عيب أو طعن، و ((على يدي)) حال. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فاحشاً ولا متفحشاً)) نه: الفاحش ذو الفحش في كلامه وفعاله، والمتفحش الذي يتكلف ذلك ويتعمده. ((قض)): نفت عنه صلى الله عليه وسلم الفحش والتفوه به طبعاً وتكلفاً. الحديث الثالث والحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يخصف نعله)) ((حس)): أي يطبق طاقة على طاقة، وأصل الخصف الضم والجمع، ومنه قوله تعالى: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} أي يطبقان ورقة فوق ورقة على بدنهما.

5823 - وعن خارجة بن زيد بن ثابت، قال: دخل نفر على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا. وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي. [5823] 5824 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له. رواه الترمذي. [5824] 5825 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئاً لغد. رواه الترمذي. [5825] 5826 - وعن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت. رواه في ((شرح السنة)). [5826] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كان بشراً)) تمهيد لما تقوله بعده، لأنه لما رأت اعتقاد الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يليق بمنصبه أن يفعل ما يفعل غيره من عامة الناس، وجعلوه كالملوك فإنهم يترفعون عن الأفعال العادية الدنيئة تكبراً، كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} فقالت: إنه صلى الله عليه وسلم كان خلقاً من خلق الله تعالى، وواحداً من أولاد آدم شرفه الله تعالى بالنبوة، وكرمه بالرسالة، وكان يعيش مع الخلق بالخلق، ومع الحق بالصدق فيفعل مثل ما فعلوا، ويعينهم في أفعالهم تواضعاً وإرشاداً لهم إلى التواضع ورفع الترفع، وتبليغ الرسالة من الحق إلى الخلق كما أمر، قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي}. الحديث الخامس والسادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ولم ير مقدماً ركبتيه)) قيل: أي ما كان يجلس في مجلس بحيث تكون ركبتاه متقدمتين على ركبتي صاحبه، كما يفعل الجبابرة في مجالسهم. وقيل: لم يكن يرفع ركبتيه عند من يجالسه، بل كان يخفضهما تعظيماً لجليسه.

5827 - وعن جابر، قال: كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل وترسيل. رواه أبو داود. [5827] 5828 - وعن عائشة، قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل، يحفظه من جلس إليه. رواه الترمذي. [5828] 5829 - وعن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي. [5829] 5830 - وعن عبد الله بن سلام، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء. رواه أبو داود. [5830] ـــــــــــــــــــــــــــــ قالوا: أراد بالركبتين الرجلين، وتقديمهما مدهما وبسطهما كما يقال: قدم رجلاً وأخر أخرى، ومعناه كان صلى الله عليه وسلم لا يمد رجليه عند جليسه تعظيماً له. وفيه وفي قوله: [((كان لا ينزع يده قبل نزع صاحبه))] تعليم لأمته في إكرام صاحبه وتعظيمه، فلا يبدأ بالمفارقة عنه، ولا يهينه بمد الرجلين إليه في وجهه، وإرشاد لهم أن يكرموا من يجالسهم ويصافحهم جلباً للمودة بينهم. الحديث السابع إلى التاسع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ترتيل وترسيل)) ((نه)) ترتيل القراءة التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات، تشبيهاً [يالثغر] المرتل، وهو المشبه بنور الأقحوان، يقال: رتل القراءة وترتل فيها. والترسيل: الترتيل، يقال: ترسل الرجل في كلامه ومشيه إذا لم يعجل، وهو الترتيل سواء. الحديث العاشر إلى الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه: قوله: ((طرفه إلى السماء)) انتظاراً لما يوحى، وشوقاً إلى الرفيق الأعلى، قال الشاعر: تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

الفصل الثالث 5831 - عن عمرو بن سعيد، عن أنس، قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم ابنه مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قيناً، فيأخذه فيقبله ثم يرجع. قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة)) رواه مسلم. 5832 - وعن علي، أن يهودياً يقال له: فلان، حبر، كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم دنانير، فتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((يا يهودي! ما عندي ما أعطيك)). قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذًا أجلس معك)) فجلس معه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عمرو بن سعيد رضي الله عنه: قوله: ((أرحم بالعيال)) مح: هذا هو المشهور، ويروى ((بالعباد)). و ((العوالي)): القرى التي عند المدينة. والظئر: بكسر الظاء مهموزة، المرضعة ولد غيرها، وزوجها ظئر لذلك المرضع، والظئر يقع على الأنثى والذكر. والقين: الحداد. قوله: ((إنه مات في الثدي)) أي مات في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيته بلبن الثدي. ومعنى: ((تكملان رضاعه)) أي تتمانه سنتين، فإنه توفي وله سنة عشر شهراً - أو سبعة عشر شهراً - فترضعانه بقية السنتين. قال صاحب التحرير: وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم يكون عقيب موته، ويدخل الجنة متصلاً بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((يهودي يحبسك؟)) همزة الإنكار مقدرة، والتنكير فيه للتحقير.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهددونه ويتوعدونه، ففطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي يصنعون به، فقالوا: يا رسول الله! يهودي يحبسك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منعني ربي أن أظلم معاهدًا وغيره)) فلما ترجل النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ومُلكُه بالشام، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا سخاب في الأسواق. ولا مُتزىٍّ بالفحش، ولا قول الخنا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك الله، وكان اليهودي كثير المال. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5832]. 5833 - وعن عبد الله بن أبي أوفي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيفضي الحاجة. رواه النسائي، والدارمي [5833]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وترجل النهار: أي ارتفع. ((نه)): فما ترجل النهار حتى أتى بهم، أي ما ارتفع النهار تشبيها بارتفاع الرجل عن الصبي. الحديث الثالث والحديث الرابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ولكن نكذب بما جئت به)) أي لا نكذبك لأنك عندنا صادق، والصادق الموسوم بالصدق، ولكنَّا نجحد آيات الله، وروى أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا خيرنا؟ فقال له: والله إن محمدًا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ وقوله: ((ولكن نكذب بما جئت به)) وضع موضع ((ولكن نحسدك)) وضعًا للمسبب موضع السبب، والله أعلم. الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وإن حجزته لتساوي الكعبة)) أي كان طويلا بحيث يساوي معقد إزاره طول الكعبة.

5834 - وعن علي، أن أبا جهل قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم: {فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} رواه الترمذي. [5834] 5835 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة! لو شئت لسارت معى جبال الذهب، جاءني ملكٌ وإن حجزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبيًّا عبدًا، وإن شئت نبيًّا ملكًا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إلي أن ضع نفسك)) [5835]. 5836 - وفي رواية ابن عباس: فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل بيده أن تواضع. فقلت: ((نبيًّا عبدًا)). قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقولُ: ((آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)) رواه في ((شرح السنة)). [5836] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يقرأ عليك السلام)): ((نه)): يقال: أقرأ فلانًا السلام، وأقرأ عليه السلام، كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده. قوله: ((نبيًا عبدًا)) هو خبر ((تكون)) محذوف بدليل الرواية الأخرى: ((إن الله يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًّا ..)) وجزاء الشرط محذوف، أي: إن شئت أن تكون نبيًّا عبدًا فكن إياه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب المبعث وبدء الوحي غب: أصل الوحى الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: أمر وحى، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكناية، وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم}.

(4) باب المبعث وبدء الوحي

(4) باب المبعث وبدء الوحي الفصل الأول 5837 - عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه. 5838 - وعنه، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يُوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا، وتوفي وهو ابن خمسٍ وستين. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لأربعين سنة)) اللام فيه بمعنى الوقت كما في قوله تعالى: {قدمت لحياتى}. ذكر في وفاته ثلاث روايات: إحداها: أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة، والثانية: ابن خمس وستين سنة، والثالثة: ثلات وستين سنة، وهي أصحها وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية: أنس وعائشة وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. فرواية ((ستين)) مقتصرة على العقود. ورواية ((الخمس)) متأولة بأن اعتبر الراوي الكسور. وأنكر عروة على ابن عباس قوله، وقال: إنه لم يدرك أول النبوة ولا كثرت صحبته بخلاف الباقين. وولد عام الفيل على الصحيح المشهور، وادعى القاضى عياض الإجماع عليه. واتفقوا على أنه ولد يرم الاثنين في شهر ربيع الأول. واختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر أم ثامنه؟ أم عاشر؟. وتوفي يوم الاثنين في ثانى عشر ربيع الأول ضحى، صلى الله عليه وسلم. وأقول: مجاز قوله: ((على رأس ستين .. إلى آخره)) كمجاز قولهم: رأس آية ... إلى آخرها، وسموا آخر الشيء رأسًا لأنه مبدأ مثله من آية أخرى أو عقد آخر. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما:

5839 - وعن أنس، قال: توفاه الله على رأس ستين سنة. متفق عليه. 5840 - وعنه، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين. رواه مسلم. قال محمد بن إسماعيل البخاري: ثلاث وستين، أكثر. 5841 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ويرى الضوء سبع سنين)) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى من أمارات النبوة سبع سنين النبوة ضياء مجردًا، وما رأي معه ملكًا، وهو معنى قوله: ((ولايرى شيئًا)) أي سوى الضوء، قالوا: والحكمة في رؤية الضوء المجرد دون رؤية الملك حصول استئناسه أولا بالضوء المجرد، وذهاب روعه، إذ في رؤية الملك مظنة ذهول وذهاب عقل لغلبة دهشته فإنه أمر خطير. الحديث الثالث إلى الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((قالت: أول مابدئ به)) ((مح)): هذا الحديث من مراسيل الصحابة، فإن عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند جمهور العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. أقول: والظاهر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لقولها: قال: ((فأخذني فغطني)) فيكون قولها: ((أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي)) حكاية ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {قل للذين كفروا ستغلبون} بالتاء والياء على تأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤدي لفظ ما أوحى إليه أو معناه، فلا يكون الحديث حينئذ من المراسيل. قوله: ((مثل فلق الصبح)) ((قض)): شبه ماجاءه في اليقظة ووجده في الخارج طبقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه. والفلق: الصبح، لكنه لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه للتخصيص والبيان، إضافة العام إلى الخاص، كقولهم: عين الشيء ونفسه. أقول: للفلق شأن عظيم ولذلك جاء وصفًا لله تعالى في قوله سبحانه: {فالق الإصباح}

العدد - قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزودُ لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزودُ لمثلها، حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ((ما أنا بقاريء))، قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلتُ: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلتُ: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم}. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة. فقالت له: يا بن عم! اسمع من ابن أخيك. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبيء عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة، وطلوع تباشير الصبح، بظهور سلطان الشمس وإشراقها الآفاق، كما أن الرؤيا الصالحة مبشرات تنبيء عن وفود أنوار عالم الغيب وآثار مطالع الهدايات، شبه به الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء النبوة، وتنبيه من تنبيهاتها لمشتركي العقول على ثبوت النبوة، لأن النبي إنما سمي نبيًا لأنه ينبيء عن عالم الغيب الذي لا تستقل العقول بإدراكه. ((مح)): قالوا: إنما ابتديء صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها القوى البشرية، فبديء بتباشير الكرامة وصدق الرؤيا استئناسًا. والحراء: بكسر الحا، المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وهو مذكر مصروف هذا هو الصحيح، وقيل: مؤنث غير مصروف. قال القاضي الزاهد صاحب [لثعلب] والخطابي وغيرهما: يغلط العوام في ((حراء)) في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة. وهو جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.

فقال له ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي. فقال ورقة: هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعًا، ياليتنى فيها أكون حيًا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أومخرجي هم؟)) قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك انصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله ((الليالى ذوات العدد)) أطلق الليالى وأراد بها الليالي مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دراهم معدودة}. ((تو)) فسرت التحنث بقولها: ((وهو التعبد الليالى ذوات العدد)) ويحتمل أن يكون التفسير من قول الزهرى أدرجه في الحديث وذلك من دأبه. ((مح)): قوله: ((الليالى ذوات العدد)) متعلق بيتحنث لا بالتعبد، ومعناه يتحنث الليالى، ولو جعل متعلقًا بالتعبد فسد المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالى ذوات العدد، والخلوة شأن الصالحين وعباد الله العارفين. قال الخطابي: حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه، ويجمع همه، فالمخلص في الخلوة يفتح الله عليه ما يؤنسه في خلوته تعويضًا من الله تعالى إياه عما تركه لأجله، واستنار قلبه بنور الغيب حتى تذهب ظلمة النفس، واختيار الخلوة لسلامة الدين وتفقد أحوال النفس وإخلاص العمل لله تعالى. قوله: ((قبل أن ينزع إلى أهله)) نزع إلى أهله ينزع نزاعًا أي اشتاق، وبعير نازع وناقة نازع إذا حنت إلى أوطانها. ((تو)): ((حتى جاء الحق)) أي أمر الحق وهو الوحي، أو رسول الحق وهو جبريل عليه السلام. ((مح)): ((ما أنا بقاريء)) معناه لا أحسن القراءة، فإن قلت: قد تقرر في علم المعاني أن إيلاء الضمير حرف النفي يفيد الاختصاص والحصر وهو يستدعي أن يكون حكم المخاطب مشوبًا بصواب وخطأ، فيرد خطؤه إلى الصواب فأين هذا من جبريل؟. قلت: إنه صلى الله عليه وسلم لما سمع من جبريل: ((اقرأ)) تصور منه صلى الله عليه وسلم أنه اعتقد أن حكمه صلى الله عليه وسلم ليس كحكم سائر الناس في أن حصول القراءة والتمكن منها إنما هو بطريق التعلم ومدارسة الكتب فلهذا رده بقوله: ((ما أنا بقاريء)) أي حكمي كحكم سائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو

5842 - وزاد البخاري: حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبل، فكلما أوفي بذورة جبل لكي يُلقي نفسه منه، ـــــــــــــــــــــــــــــ بالتعلم، وعدمه بعدمه، فلذلك أخذه وغطه مرارًا ليخرجه من حكم سائر الناس ويستفرغ منه البشرية ويفرغ فيه صفات الملكية فحينئذ يعلم معنى: اقرأ، ويخاطب بقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق ..} إلى قوله: {.. مالم يعلم} ففي المقروء أيضًا إشارة إلى رد ما تصوره صلى الله عليه وسلم من أن القرآن إنما يتيسر بطريق التعليم فقط بل إنها كما تحصل من التعليم بواسطة العلم فقد تحصل بتعليم الله بلا واسطة، فقوله: {علم بالقلم} إشارة إلى العلم التعليمي، وقوله: {علم الإنسان مالم يعلم} إلى العلم اللدني، ومصداقه قوله تعالى {إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى}. قوله: ((الغط)) العصر الشديد والكبس، ومنه الغط في الماء الغوص فيه، قيل: إنما غطه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئًا؟. ((مح)): قالوا: والحكمة في الغط شغله عن الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له، وكرره ثلاثًا مبالغة في التنبيه، فقيه أنه ينبغى للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم ويأمره بإحضار قلبه. والجهد: يجوز فيه فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب بلغ جبريل في الجهد، وعلى الرفع بلغ الجهد مني مبلغه وغايته، وممن ذكر الوجهين - أعني نصب الدال ورفعها - صاحب التحرير. ((تو)): لا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وهم فيه أو جوزه من طريق الاحتمال، فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطه، وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد، وهذا قول غير سديد، فإن البنية البشرية لا تستدعي استيفاء القوة الملكية لاسيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القضية على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب. أقول: لاشك أن جبريل في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى بها عند سدرة المنتهى، وعندما رآه مستويًا على الكرسي فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له وغطه، وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد. وقوله: {اقرأ باسم ربك} ((مح)): هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن {اقرأ} وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف. وقيل: أوله {يأيها المدثر} وليس بشيء.

تبدَّى له جبريل، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقًا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه. ـــــــــــــــــــــــــــــ واستدل بهذا الحديث بعض من يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ليست بقرآن في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا، وجواب المثبتين لها: أنها لم تنزل أولاً بل نزلت البسملة في وقت آخر كما نزلت باقي السورة في وقت آخر. أقول: قوله {اقرأ} أمر بإيجاد القراءة مطلقًا وهو لايختص بمقروء دون مقروء، فقوله: {باسم ربك} حال، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك. قل: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم اقرأ، وهذا يدل على أن البسملة مأمور بقراءتها في ابتداء كل قراءة، فيكون مأمورًا بقراءتها في ابتداء هذه السورة أيضًا. وقوله: {ربك الله خلق} وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإطلاق في خلق أولا على منوال يعطى ويمنع، وجعل توطئة لقوله: {خلق الإنسان} إيذانًا بأن الإنسان أشرف المخلوقات، ثم الامتنان عليه بقوله: {علم الإنسان مالم يعلم} يدل على أن العلم أجل النعم وأكثرها فائدة. وقوله: ((فرجع بها)) أي صار بسبب تلك الضغطة يضطرب فؤاده، ورجع يجيء بمعنى قصد أيضًا، كما في قولهم: ما روجع إليه في خطب إلا كفي، أي ما قصد. و ((زملوني)) أي غطوني بالثياب ولفوني بها. قوله: ((لقد خشيت على نفسي)) ((مح)): قال القاضي عياض: ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو يكون هذا لأول [ما رأي] التباشير في النوم واليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، و [تحققه] رسالة ربه سبحانه وتعالى فيكون قد خاف أن يكون من الشيطان الرجيم، فأما منذ قد جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشك فيه وتسلط الشيطان عليه. قال الشيخ محيى الدين: وهذا الاحتمال ضعيف لأنه تصريح بأن هذا كان بعد غط الملك وإتيانه: بـ {اقرأ باسم ربك}.

ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: إخراج قوله: ((لقد خشيت)) على القسمية بعد قوله: ((يرجف فؤاده)) يدل على انفعال حصل له من الضغط فخشي على نفسه من ذلك أمرًا توهم منه كما يحصل للبشر إذا دهمه أمر لم يعهد به، ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم: ((زملوني))، وأتت خديجة بكلمة الردع وصرحت بقولها: ((لا يخزيك الله)) إلى آخره. ((مح)): ((لا يخزيك الله)) هو بضم الياء وبالخاء المعجمة في رواية يونس وعقيل، وفي رواية معمر (يحزنك) بالحاء المهملة والنون، ويجوز فتح الياء في أوله وضمها، وكلاهما صحيح، والخزيُ: الفضيحة والهوان، و ((الكل)) الثقل، ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال [وهو] الإعياء، ((تكسب)) بفتح التاء هو الصحيح المشهور، وروى بضمها، قال ثعلب والخطابي وغيرهما: يقال: كسبت الرجل مالاً، وأكسبته مالاً، لغتان أفصحهما بحذف الألف، فمعنى الضم تكسب غيرك المال المعدوم، أي تعطيه إياه تبرعًا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وقيل: معناه تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفرائد ومكارم الأخلاق. ومعنى الفتح قيل: كمعنى الضم، وقيل: معناه تكسب المال المعدوم، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادح يكسب المال [لا سيما قريش، وكان صلى الله عليه وسلم محظوظًا في تجارته، وهذا القول ضعيف وغلط، ويمكن تصحيحه بأن يضم معهما زيادة فمعناه] العظيم الذي يعجز عنه غيرك، ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم، كما ذكرت من حمل الكل وصلة الرحم وقرى الضيف والإعانة على نوائب الحق. وصاحب التحرير جعل المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدوم العاجز عن الكسب، وسماه معدومًا لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف في المعيشة. و ((النوائب)) جمع نائبة وهي الحادثة، وإنما أضيفت إلى الحق لأن النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، قال لبيد: نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

5843 - وعن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبًا حتى هويت إلى ـــــــــــــــــــــــــــــ أرادت أنك ممن لم يصبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء. وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ. وفيه: تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له. وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على: كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها. وقولها له: ((يا بن عم)) على الحقيقة؛ لأنه ورقة بن نوفل بن أسد، وهي خديجة بنت خويلد ابن أسد. و ((الناموس)): جبريل عليه السلام، قال أهل اللغة: الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، يقال: نامست الرجل إذا ساررته. قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصصه بالوحي. والضمير في ((ياليتني فيها)) يعود إلى أيام النبوة ومدتها. قال المالكي: قد يظن أن ((يا)) حرف نداء حذف المنادي منه، أي: يامحمد ليتني كنت حيًا. وهو ضعيف، لأن الشيء إنما يجوز حذفه مع صحة المعنى بدونه إذا كان الموضع الذي ادعي فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته، كحذف المنادي قبل أمرٍ، كقوله تعالى: {ألا يسجدوا} أي ألا يا هؤلاء اسجدوا، أو دعاء كقول الشاعر: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى. بعد ثبوته مثله في قوله تعالى: {يا آدم اسكن} وقوله: يا رب هب لي من لدنك مغفرة، بخلاف ليت فإن المنادي لم تستعمله العرب قبلها ثابتًا، فيتعين كون ((يا)) التي تقع قبلها لمجرد التنبيه مثل ((ألا)) في نحو: ألا ليت شعري، وقد يجمع بين ((يا)) و ((ألا)) تأكيدًا، للتنبيه كقوله: ألا يا اسلمي. ومثل ((يا)) الواقعة قبل ليت للتنبيه ((يا)) قبل ((حبذا)) في قول الشاعر:

الأرض، فجئت أهلي، فقلتُ: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: {يأيها ـــــــــــــــــــــــــــــ يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا وقبل ((رب)) في قول الراجز: يارب ساريات ماتوسنا و ((جذعًا)) يعني شابًا قويًا حتى أبالغ في نصرتك، والجذع في الأمل للدواب وهو هنا استعارة. وقال الخطابي والمازري وغيرهما: نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره: ليتني أكون فيها جذعًا، على مذهب الكوفيين. قال القاضي: الظاهر عندي أنه منصوب على الحال، وخبر ليت قوله: ((فيها)). قوله: ((إذ يخرجك قومك)) قال المالكي: ((إذا فيه وقع موقع ((إذا)) في إفادة الاستقبال، وهو استعمال صحيح غفل عن التنبيه عليه أكثر النحويين. وقلت: ليس التنبيه عليه من وظيفتهم بل من وظيفة أهل المعانى، إما وضعًا للآتي موضع الماضي قطعًا بوقوعه كإخبار الله تعالى عن المستقبل، أو استحضارًا للصورة الآتية في مشاهدة السامع تعجبًا وتعجيبًا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) استبعادًا للإخراج وتعجبًا منه. وقال أيضًا: الأصل فيه وفي أمثاله تقديم حرف العطف على الهمزة كما تقدم على غيرها من أدوات الاستفهام، نحو {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله} ونحو: {أم هل تستوي الظلماتُ والنورُ} ونحو {فأين تذهبون} فالأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كما جيء بعده في أخواتها فيقال في: أفتطمعون، وفي أو كلما: ((فأتطمعون، وأكلما))، لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل، والعاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف، ولكن خصت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على أنها أصل أدوات الاستفهام، لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد خولف هذا الأصل في غير الهمزة وأرادوا التنبيه عليه، فكانت الهمزة بذاك أولى لأصالتها في الاستفهام، وقد غفل الزمخشري في معظم كلامه في الكشاف عن هذا المعنى فادعى أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة معطوفة عليها بالعاطف مابعده، وفي هذا تكلف وحذف في موقع لم يثبت فيه الثبوت على ما سبق في ((ياليتني)).

المدثر. قم فأنذر وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر}، ثم حمي الوحي وتتابع)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والجواب أنه لا يجوز فيما نحن بصدده أن يقدر تقديم حرف العطف على الهمزة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) جواب ورد على قوله: ((إذ يخرجك قومك)) على سبيل الاستبعاد والتعجب فيكف يستقيم العطف؟ ولأن هذه جملة إنشائية وتلك خبرية، والحق أن الأصل أمخرجي هم؟ فأريد مزيد استبعاد وتعجب فجيء بحرف العطف على تقدير: على أو ماضي، أو هم مخرجي، وأما إنكار الحذف في مثل هذه المواضع فمستبعد لأن مثل هذه الحذوف من حلية من رشح بالبلاغة لاسيما قد شحن التنزيل بمثلها، على أن الحذف المردود هو ما لا دليل عليه ولا أمارة قائمة عليه، والدليل هنا وجود العاطف، ولا يجوز العطف على المذكور فيجب أن يقدر بعد الهمزة ما يوافق المعطوف تقريرًا للاستبعاد وشدا لعضده. وقال: ((مخرجي)) خبر مقدم، وهم مبتدأ مؤخر، ولا يجوز العكس لأن مخرجي نكرة فإن إضافته إضافة غير محضة، ولو روي ((مخرجي)) مخفف الياء على أنه مفرد لجاز وجعل مبتدأ وما بعده فاعل سد مسد الخبر، لأن مخرجي معتمدة على همزة الاستفهام مستندة إلى ما بعدها لأنه وإن كان ضميرًا فإنه منفصل والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر، ومنه قول الشاعر: أمنجز أنتم وعدًا وثقت به أم اقتفيتم جميعًا نهج عرقوب ((وإن يدركني يومك)) ((قض)): يريد الزمان الذي أظهر فيه الدعوة أو عاداه قومه فيه وقصدوا إيذاءه وإخراجه. و ((المؤزر)) البالغ في القوة من الأزر وهو القوة. و ((لم ينشب)) أي لم يلبث ولم يبرح وأصله أنه لم يتعلق بشيء، أو لم يشتغل فكنى به عن ذلك. قوله: ((أن توفي)) بدل اشتمال من ورقة، أي لم تلبث وفاته. وقوله: ((فيما بلغنا)) معترض بين الفعل ومصدره. و ((الشواهق)) الجبال العالية. ((فيسكن لذلك جأشه)) أي اضطراب قلبه وقلقه. الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فجئثت)) ((تو)): جئث الرجل إذا أُفزع، وكذلك جئف. وقوله: ((رعبًا)) أي ممتلئًا رعبًا، ويجوز أن يكون معناه: مرعوبًا كل الرعب، ويحتمل أن يكون من ((الجأث)) وهو الإفزاع بالرعب لاقتران معنييهما، وهو أن الفزع انقباض ونقار يعترى

5844 - وعن عائشة، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، ـــــــــــــــــــــــــــــ الإنسان من الشيء المخيف وهو قريب من الفزع، والرعب والانقطاع من امتلاء الخوف، والرعب يتعدى ولا يتعدى يقال: رعبته فرعب. ((قض)): رعبًا نصب على المفعول لأجله. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مثل صلصلة الجرس)) يجوز أن يكون مفعولا مطلقًا، والأحسن أن يكون حالا، أي يأتيني الوحي مشابهًا صوته لصلصلة الجرس، والصلصلة صوت الحديد إذا حرك، يقال: صل الحديد وصلصل.، والصلصلة أشد من الصليل. ((تو)): هذا الحديث يغالط فيه أبناء الضلالة ويتخذونه ذريعة إلى تضليل العامة وتشكيكهم، وهو حق أبلج ونور يتوقد من شجرة مباركة يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار، لايغلط فيه إلا من أعمى الله قلبه، وجملة القول في هذا الباب أن نقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم معنيًا بالبلاغ مهيمنًا على الكتاب مكاشفًا بالعلوم الغيبية، مخصوصًا بالمسامرات العلية، كان يتوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد، فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا مما شاهدوه ما لم يشاهدوه، فلما سأله الصحابة عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل العويصة والعلوم الغريبة التي لا يميط نقاب التعري عن وجهها لكل طالب ومتطلب، وعالم ومتعلم ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيهًا على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال وأبهة الكبرياء، فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، ويلاقى من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك، فإذا سرى عنه وجد القول بينًا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، وهذا معنى قوله: ((فيفصم عني وقد وعيت)). ومعنى: ((يفصم)) يقلع عني كرب الوحي، شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم، يقال: أفصم المطر أي أقلع. وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها [سلسلة] على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)). وقد تبين لنا من حديث عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان يأتيه على صفتين: أولاهما: أشد من الأخرى، وذلك لأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع

وهو أشده علىَّ، فيفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملكُ رجلا فيكلمني، فأعي ما يقولُ)). قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الملكية فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة على ما ذكر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث حسن صحيح. والأخرى: يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته وكانت هذه أيسر والله أعلم. أقول: لا يبعد أن يكون هناك صوت على الحقيقة متضمن للمعاني مدهش للنفس لعدم مناسبتها إياه ولكن القلب للمناسبة يشرب معناه، فإذا سكن الصوت آفاق النفس فحينئذ تتلقى النفس من القلب ما ألقى إليه فيعي، على أن العلم بكيفية ذلك من الأسرار التي لا يدركها العقل. ((مح)): قال القاضي عياض: إن ما جاء من مثل ذلك يجري على ظاهره، وكيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان إذ جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله. [مظ]: يريد - والله أعلم - أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع بسمعه حتى يتفهم ويتثبت فيتلقنه حينئذ ويعيه، ولذلك قال: ((هو أشده عليّ)). قوله: ((ليتفصد عرقًا)) ((تو)): أي يسيل، يقال: انفصد الشيء وتفصد إذا سال، كأنه شبه بالعِرق المفصود إذا سال عنه الدم. الحديث الثامن عن عبادة رضي الله عنه: قوله: ((كُرِبَ لذلك)) ((تو)): يحتمل أنه كان يهتم لأمر الوحي أشد الاهتمام، ويهاب مما يطالب به من حقوق العبودية والقيام بشكر النعم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم من الله خزي ونكال فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس حتى يعلم ما يقضي إليه. ويحتمل أن المراد منه كرب الوحي وشدته، فإن الأصل في الكرب الشدة، وإنما قال الصحابي: كرب، لما وجد من شبه حاله بحال المكروب.

5845 - وعن عبادة بن الصامت، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربَّد وجهه وفي رواية: نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم، فلما أُتلي عنه رفع رأسه. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((تربد وجهه)) أي تغير، وأكثر ما يقال ذلك في التغير من الغضب، وتربد الرجل أي تعبس. وقوله: ((فلما أُتلى عنه)) كذا هو في المصابيح، وأرى صوابه: ((فلما تليّ عليه)) من التلاوة، وإن كان ((أتلى عليه)) محققًا فمعناه أحيل، يقال: أتليته إذا أحلته، أي أحيل إليه البلاغ، وذلك أن الملك إذا قضى إليه ما نزل به فقد أحال عليه البلاغ. ((مح)): أتلي، بهمزة وتاء مثناة فوق ساكنة ولام وياء، هكذا هو في معظم نسخ بلادنا، معناه: ارتفع عنه الوحي، هكذا فسره صاحب التحرير وغيره. ووقع في بعض النسخ: ((أجلي)) بالجيم. وفي رواية ابن ماهان: ((نجلي)) ومعناهما أزيل عنه وزال عنه. أقول: ضمن ((أتلي)) معنى ((أقلع)) فعدى بعن، وينصره رواية شرح السنة: ((فلما أقلع عنه)). الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ما جربنا عليك إلا صدقا)) ضمن جرب معنى ألقي، أي ما ألقينا عليك شيئا من الأخبار مجربين إياك إلا وجدناك فيه صادقًا، ومر الكلام مستقصى في هذا الحديث في باب قبل كتاب الفتن مع تغيير يسير. الحديث العاشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((إلى فرثها ودمها)) الضمير راجع إلى جزور وهي مؤنث. ((نه)): الجزور البعير ذكراً كان أو أنثى إلا أن اللقطة مؤنثة، يقال: هذه جزور وإن أردت ذكرًا والجمع [جزر] وجرائر. والسلا: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفًا فيه، قيل: هي في الماشية السلا وفي الناس المشيمة، والأول أشبه؛ لأن المشيمة تخرج بعد الولد ولا يكون الولد فيها حين يخرج. قوله: ((فانبعث أشقاهم)) ((مح)): هو عقبة بن أبي معيط كما مرح به في الرواية الأخرى، فإذا قيل: كيف استمر في الصلاة مع وجود نجاسة على ظهره؟

5846 - وعن ابن عباس، قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فهر! يا بني عدي!)) لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل - وفي رواية: أن خيلا تخرج بالوادي تريد أن تغير عليكم - أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: ((فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد)). قال أبو لهب: تبالك، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب} متفق عليه. 5847 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ أجاب القاضي عياض: بأنه ليس هذا بنجس؛ لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران وإنما النجس الدم، وهو مذهب مالك ومن وافقه من أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه نجس. وهذا القول الذي قاله القاضي ضعيف؛ لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم في الغالب، ولأنه ذبيحة عباد الأوثان، والجواب المرضي أنه لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحابًا للطهارة. ((حس)): قيل: كان الصنيع منهم قبل تحريم هذه الأشياء من: الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك، فلم يكن تبطل الصلاة بها كالخمر كان يصيب ثيابهم قبل تحريمها. أقول: لعل ثباته على ذلك كان مزيدًا للشكوى وإظهار ما صنع أعداء الله تعالى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذهم أخذًا وبيلا، ولذلك كرر له الدعاء ثلاثا. وقوله: ((عليك بقريش)) أي اذهب بهم واستأصلهم عن آخرهم كما يقال: ذهبت به الخيلاء.

ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبُّهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاثًا - وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل! سأل ثلاثا -: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)). قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأتبع أصحاب القليب لعنة)). متفق عليه. 5848 - وعن عائشة: أنها قالت: يارسول الله؟ هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك، فكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وماردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم)) قال: ((فناداني ملك ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((وأتبع أصحاب القليب لعنة)) أي أتبع عذابهم الدنيا بعذاب الآخرة من قوله تعالى: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} أي بئس العون المعان، فإذا اللعنة لما تبعتهم كأنها رفدتهم على سبيل ما يستوجبون به العذاب على التهكمية فلما أعينت في الآخرة بلعنة أخرى صارت مرفودة، فإذن اللعنة ملعونة، وفي الحقيقة [هم] الملعونون دنيا وعقبى. الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أشد مالقيت)) خبر كان؛ واسمه عائد على مقدر وهو مفعول قوله: ((لقد)). و ((يوم العقبة)) ظرف كان، المعنى: كان مالقيت من قومك يوم العقبة أشد مالقيت منهم، وأراد بالعقبة التي بمنى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند العقبة في الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فدعا ابن عبد ياليل فما أجاب إلى ما أراد صلى الله عليه وسلم. ووضع ((إذا)) التي هي للاستقبال موضع ((إذا)) استحضارًا لتلك الحالة الفظيعة. و ((على وجهي)) متعلق بقوله: ((انطلقت)) أي: انطلقت حيرانًا هائمًا لا أدري أين أتوجه من شدة ذلك ولم أستفق مما أنا فيه من الغم حتى بلغت ((قرن الثعالب)). و ((القرن)) جبل صغير، و ((قرن الثعالب)) جبل بعينه بين مكة والطائف. وقوله: ((لتأمرني بأمرك)) أي بشأنك وبما تريده.

الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد! إنَّ الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا)). متفق عليه. 5849 - وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشُج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: ((كيف يفلح قومٌ شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته؟)) رواه مسلم. 5850 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه)). يشير إلى رباعيته ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)). متفق عليه. وهذا الباب خالٍ عن: الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــ ((نه)): ((الأخشبان)) الجبلان المطبقان بمكة وهو أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قيعان، والأخشب كل جبل خشن غليظ. الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يسلت الدم)) أي يزيله من رأسه، من سلتت المرأة خضابها إذا أزالته. و ((شج في رأسه)) من باب قوله: [يجرح في عراقيبها نصلى] بولغ في الشج حيث أوقع الرأس ظرفًا. الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يشير إلى رباعيته)) حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامله ((قال)) وقع مفسرًا لمفعول فعلوا [أي فعلوا] هذا. وقوله: ((يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم)) يحتمل أن يراد به الجنس، وأن يراد به نفسه صلى الله عليه وسلم وضعًا للظاهر موضع [المضمر] إشعارًا بأن من يقتله من هو رحمة للعالمين لم يكن إلا أشقى الناس، والذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبي بن خلف. ((مح)): ((في سبيل الله)) احترازًا ممن يقتله في حد أو قصاص، لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصدًا له صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني خالٍ.

الفصل الثالث 5851 - عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: {يأيها المدثر} قلت: يقولون: {اقرأ باسم ربك} قال أبو سلمة: سألتُ جابرًا عن ذلك. وقلت له مثل الذي قلت لي. فقال لي جابر: لا أحدثك إلا بما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري هبطتُ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ونظرت عن خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا عليَّ ماءً باردًا، فنزلت: {يأيها المدثر. قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر. والرجز فاهجر} وذلك قبل أن تفرض الصلاة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن يحيى: قوله: ((لا أحدثك .. إلخ)) إخبار عما سمع واعتقد من أن أول ما نزل من القرآن: {يأيها المدثر} لكن لايدل على المطلوب؛ لأنه قال: في آخرته فقلت: ((دثروني، فنزلت، {يأيها المدثر} وقد سبق في حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما نزل من القرآن {اقرأ باسم ربك}. ((مح)): قول من قال: إن أول ما نزل {يأيها المدثر} ضعيف، والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما صرح به في حديث عائشة، وأما {يأيها المدثر} فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن جابر يدل عليه قوله وهو يحدث عن فترة الوحي ... إلى أن قال: فأنزل الله {يأيها المدثر}. أقول: ينبغي أن يقدر في هذا الحديث بعد قوله: ((جاورت بحراء)) جاءه الملك فقال: اقرأ .. إلى قوله: فيرجف فؤاده ثم فتر الوحي، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت .. إلخ. ويؤيد هذا التقرير الحديث السابق وهو حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء .. الحديث)) فإن فترة الوحي يدل على تقدمه. والله أعلم.

(5) باب علامات النبوة

(5) باب علامات النبوة الفصل الأول 5852 - عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقعُ اللون قال أنس: فكنت أرى أثر المخيط في صدره رواه مسلم. 5853 - وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((قضيت جواري)): بالكسر أي اعتكافي. باب علامات النبوة الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثم لأمه)) ((تو)): تقول: لأمت الجرح والصدع إذا سددته فالتأم، يريد أنه سواه وأصلحه. ويقال: انتقع لونه، إذا تغير من جنون أو فزع، وكذلك ((امتقع)) بالميم. وهذا الحديث وأمثاله مما يجب فيه التسليم ولا يتعرض له بتأويل من طريق المجاز والاتساع إذ لا ضرورة في ذلك، إذ هو خبر صادق مصدوق عن قدرة القادر. قوله: ((هذا حظ الشيطان منك)) قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بشرًا متعلقًا [عما انعلق عنه] سائر البشر، ولا ينكر هذا لقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى} والعلقة في الإنسان أصل المفاسد والمعاصى، ولذلك قال جبريل عليه السلام بعد ما أخرجها: ((هذا حظ الشيطان منك)) فعصمه من آفته وطغمه، كما أسلم له شيطانه على يده، قدر الله تعالى في سابقة لطفه أن يخرج حظ الشيطان منه، فجعله قدسيًّا طاهر الأصل والعنصر منور القلب مقدس الجسم مستعدًا لقبول الوحي السماوي والفيض الإلهي، لا تتطرق إليه هواجس النفس. الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه:

5854 - وعن أنس قال, إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما. متفق عليه. 5855 - وعن ابن مسعود, قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل, وفرقة دونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إني لأعرفه الآن)) تقرير لقوله: ((إني لأعرف حجرًا بمكة)) واستحضار له في مشاهدته وكأنه يسمع سلامه الآن. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: {فأراهم القمر} قال الزجاج: زعم قوم – عدلوا عن القصد وما عليه أهل العلم – أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة, والأمر بين في اللفظ لقوله: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فكيف يكون هذا في يوم القيامة؟؛ لأن معنى قوله: {سحر مستمر} مطرد, يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة ومعجزات سابقة. وقال الإمام فخر الدين الرازي: إنما ذهب المنكر إلى ما ذهب؛ لأن الانشقاق أمر هائل, ولو وقع لعم وجه الأرض وبلغ مبلغ التواتر. والجواب: أن الموافق قد نقله وبلغ مبلغ التواتر, وأما المخالف فربما ذهل أو حسب أنه نحو الخسوف, والقرآن أولى دليل وأقوى شاهد, وإمكانه لا شك فيه, وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وأما امتناع الخرق والالتئام فحديث اللئام. ((مح)): قالوا: إنما هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون, والأبواب مغلقة, وهم متغطون بثيابهم, فقل من يتفكر في السماء وينظر إليها. ((حس)): هذا شيء طلبه قوم خاص على ما حكاه أنس, فأراهم ذلك ليلا وأكثر الناس نيام ومستكنون في الأبنية, والأيقاظ في البوادي والصحاري قد يتفق أن يكونوا مشاغيل في ذلك الوقت, وقد يكسف القمر فلا يشعر به كثير من الناس, وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر, ولو دامت هذه الآية حتى يشترك فيها العامة والخاصة ثم لم يؤمنوا لاستؤصلوا بالهلاك, فإن من سنة الله تعالى في الأمم قبلنا أن نبيهم كان إذا أتى بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا أهلكوا، كما قال الله تعالى في المائدة: {إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} فلم يظهر الله هذه الآية للعامة لهذه الحكمة. والله أعلم.

5856 - وعن أبي هريرة، قال: قال أبو جهل: هل يُعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي – زعم ليطأ على رقبته – فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه, ويتقي بيديه, فقيل له مالك, فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولا, وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) رواه مسلم. 5857 - وعن عدي بن حاتم, قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا آتاه رجلٌ فشكا إليه الفاقة, ثم آتاه الآخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: ((يا عدي! هل رأيت الحيرة؟ فإن ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((هل يعفر؟)) يريد به سجوده على التراب، وإنما آثر التعفير على السجود تعنتًا وعنادًا وإذلالا وتحقيرًا. قوله: ((زعم)) وقع حالا من الفاعل بعد حال من المفعول, وزعم بمعنى طمع وأراد. قال في أساس البلاغة: ومن المجاز: زعم فلان في غير مزعم, طمع في غير مطمع, لأن الطامع زاعم ما لم يستيقن. قوله: ((إلا وهو ينكص)) المستثنى فاعل ((فجيء)) أي: فما فجيء في أصحاب أبي جهل من أمر إلا نكوص عقبيه, وقد سد الحال ها هنا مسد الفاعل, كما سدت مسد الخبر في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) وفيه إرخاء عنان الكلام للمعنى لا للفظ, ويحتمل أن يكون الضمير المستتر في ((فجئهم)) لأبي جهل. والمجرور في ((منه)) للأمر, أي: ما فجيء أبو جهل وأصحابه من الأحوال إلا هذه الحالة. والهول: الخوف والأمر الشديد, وقد هاله يهوله فهو هائل. والخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة. الحديث السادس عن عدي رضي الله عنه: قوله: ((هل رأيت الحيرة؟)) ((نه)): الحيرة بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة, ومحلة معروفة بنيسابور. والظعينة: المرأة، قيل لها ذلك لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن, أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت.

طالت بك حياةٌ فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله, ولئن طالت بك حياةٌ لتفتحن كنوز كسرى, ولئن طالت بك حياةٌ لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه, وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له, فليقولن ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى, فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلاجهنم, وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم, اتقوا النار ولو بشق تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) قال عديٌّ: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله, وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, ولئن طالت بكم حياةٌ لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((يخرج ملء كفه)). رواه البخاري. 5858 - وعن خباب بن الأرت, قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة, فقلنا: ألا تدعو الله, فقعد وهو محمرٌ وجهه وقال: ((كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض, فيجعل فيه, فيجاء بمنشار, فيوضع فوق رأسه فيشق نصفين. فما يصُده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: الظغينة المرأة في الهودج, ثم قيل للهودج بلا امرأة وللمرأة بلا هودج: ((ظعينة)) قوله: ((وأفضل عليك)) أي أحسن إليك بمعنى أعطيتك المال ومكنتك من إنفاقه والاستمتاع منه. فإن قلت: ما وجه نظم هذا الحديث؟ قلت: لما اشتكى الرجل الفاقة والخوف وهو العسر المعني في قوله تعالى: {إن مع العسر يسرا} وهو ما كانت الصحابة عليه قبل فتح البلاد, أجاب عن السائل في ضمن بشارة لعدي وغيره من الصحابة باليسر والأمن, ثم بين أن هذا اليسر والغنى الدنيوي عسر في الآخرة وندامة, إلا من وفقه الله تعالى بأن يسلطه على إنفاقه فيصرفه في مصارف الخير, ونظيره حديث علي رضي الله عنه: ((كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة, وراح في حلة, ووضعت بين يديه صحفه؟ .. إلى قوله-: لأنتم اليوم خير منكم يومئذ؟)) وقد سبق في باب: تغير الناس.

الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب. وما يصدُّه ذلك عن دينه, والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون)). رواه البخاري. 5859 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان, وكانت تحت عباده بن الصامت, فدخل عليها يومًا فأطعمته؛ ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك, قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضُوا على غزاة في سبيل الله, يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة, أو مثل الملوك على الأسرة)). فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم, فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك, فقلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: ((ناسٌ من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله)). كما قال في الأولى. فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((أنت من الأولين)). فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية, فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر, فهلكت. متفق عليه. 5860 - وعن ابن عباس, قال: إن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة, وكان ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لترون ما قال)) أي سيُرى ما قال وهو الرجل الذي يخرج بصدقته ... إلى آخره. الحديث السابع عن خباب رضي الله عنه قوله: ((من عظم وعصب)) بيان ((ما)) في ((ما دون لحمه)) وفيه من المبالغة أن الأشماط تنفذ من: اللحم إلى العظم والعصب لحدتها وقوتها. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((على أم حرام)) قد ذكر وجه الدخول عليها في حديث أختها أم سليم. وثبج كل شيء وسطه, وثبج الرمل معظمه, شبه ثبج البحر بظهر الأرض, والسفينة بالسرير, فجعل الجلوس عليها متشابهًا لجلوس الملوك على أسرتهم, إيذانًا بأنهم بذالون لأنفسهم, ويركبون هذا الأمر العظيم مع وفور نشاطهم وتمكنهم من مقامهم كالملوك على أسرتهم. مح: قيل: هو صفة لهم في الآخرة إذا دخلوا الجنة, والأصح أنها صفة لهم في الدنيا، أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثره عددهم. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما:

يرقي من هذا الريح, فسمع سفهاء أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه. فقال: يا محمد! إني أرقي من هذا الريح, فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أما بعد)) فقال: أعد على كلماتك هؤلاء, فأعادهنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة, وقول السحرة, وقول الشعراء, فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغن ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((من هذا الريح)) الإشارة بهذا إلى ما في الذهن, والخبر مبين له, وذكره باعتبار الجنون. تو: الإشارة بهذا إلى جنس العلة التي كانوا يرونها الريح, وأنهم كانوا يرون أن الخبل الذي يصيب الإنسان والأدواء التي كانوا يرونها من مسة الجن نفخة من نفخات الجن فيسمونها الريح. قوله ((لعل الله يشفيه)) جواب للو, أي لو رأيته لداويته ورجوت شفاءه من الله تعالى. قوله ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله)) طابق هذا القول قول ضماد من حيث إنه لما سمع من سفهاء أهل مكة: أن محمدًا مجنون اعتقد أنه كذلك فقال: هل لك رغبة في أن أرقيك وأخلصك من الجنون؟ كأنه صلى الله عليه وسلم ما التفت إلى قوله ذلك وأرشده إلى الحق البحت والصدق المحض: أي أني لست بمجنون أتكلم بكلام المجانين بل كلامي نحو هذا وأمثاله, فتفكروا فيه هل ينطق المجنون بمثل هذه الكلمات, ونحوه قوله تعالى: {ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين} أي أنهم جننوه لأجل القرآن, وما هو إلا ذكر وموعظة للعالمين فكيف يجنن من جاء بمثله. وأشار بهؤلاء إلى الكلمات, والعرب ربما استعملوها في غير العقلاء وقد شهد به التنزيل, قال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} قال الشاعر: ذم المنازل بعد منزله اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام قوله ((ولقد بلغن قاموس البحر)) تو: وفي كتاب المصابيح: ((بلغنا)) وهو خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى, والرواية لم ترد به. و ((ناعوس البحر)) أيضًا خطأ.

قاموس البحر, هات يدك أبايعك على الإسلام, قال: فبايعه. رواه مسلم. وفي بعض نسخ ((المصابيح)): بلغنا الناعوس البحر. وذكر حديثا أبي هريرة وجابر بن سمرة ((يهلك كسرى)) والآخر ((ليفتحن عصابةٌ)) في باب ((الملاحم)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك رواه مسلم في كتابه وغيره من أهل الحديث وقد وهموا فيه, والظاهر أن سمع بعض الرواة أخطأ فيه فروي ملحونًا, وهذه هي الألفاظ التي لم تسمع في لغه العرب والصواب فيه ((قاموس البحر)) وهو وسطه ومعظمه, من القمس وهو الغوص, والقماس الغواص. أقول: قوله: ((بلغنا)) خطأ إن أراد به من حيث الرواية فلا ننكره لأنا ما وجدناها في الأصول, وإن أراد بحسب المعنى فمعناه صحيح أي: قد وصلنا إلى لجة البحر ومحل اللآلئ والدر فيجب أن نقف عليه ونغوص فيه استخراجًا لفوائده والتقاطًا لفرائده. ومعنى قوله: ((بلغن)) أن كلماتك قد بلغت في الفصاحة والبلاغة الغاية القصوى بحيث لم ير لأحد من الفصحاء مثله. فعلى الأول: قوله: ((قاموس البحر)) استعارة مصرحة لأن المشبه وهو الكلمات غير مذكورة في هذه الجملة, وعلى الثاني تشبيه واقع على سبيل التجريد لذكر المشبه والمشبه به. وقوله: ((ناعوس البحر)) أيضًا خطأ وليس بصواب, إما رواية، فقد فقال الشيخ محيى الدين في شرح صحيح مسلم: ناعوس البحر ضبطناه بوجهيين أشهرهما بالنون والعين هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا, والثاني: قاموس البحر بالقاف والميم, وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم. قال القاضي عياض: وروى بعضهم ((ناعوس البحر)) بالنون والعين, وقال شيخنا أبو الحسن: ((ناعوس البحر)) بمعنى القاموس. ((نه)): قال أبو موسى: ((ناعوس البحر)) كذا وقع في صحيح مسلم, وفي سائر الروايات ((قاموس البحر)) وهو وسطه ولجته, ولعله لم يجود كتبته فصحفه بعضهم, وليست هذه اللفظة أصلا في مسند إسحاق بن راهويه الذي روى عنه مسلم هذا الحديث, غير أنه قرنه بأبي موسى وروايته فلعلها فيها, قال: وإنما أورد نحو هذه الألفاظ؛ لأن الإنسان إذا طلبه ولم يجده في شئ من الكتب فيتحير فإذا نظر في كتابنا عرف أصله ومعناه. وإما دراية: فقال القاضي ناصر الدين: ((ناعوس البحر)) معظمه ولجته التي يغاص فيها لإخراج اللآلئ, من نعس إذا نام, لأن الماء من كثرته لا تظهر حركته فكأنه نائم.

وهذا الباب خال عن: الفصل الثاني الفصل الثالث 5861 - عن ابن عباس, قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت في المدة التي كانت بينى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبينا أنا بالشام ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول هذا على طريق المجاز والتوسع في الكلام, وقد تقرر أن المجاز لا يستدعي تقدم استعمال فيما جوز فيه, بل العلاقة المعتبرة كافية في الاستعمال, وقد جاء في أساس البلاغة: ومن المجاز تناعس البرق إذا فتر وحده ناعس, وقد عرف عن حال الغواصين أنهم إنما يغوصون في لجة البحر إذا كان هادئًا ساكنا غير متلاطم أمواجه حتى يتمكنوا من إخراج الدر, فشبه تمكن الكلمات بسبب نظمها المعجز من استخراج المعاني منها بتمكن [البحر بالدر] من استخراج الدر واللآلئ منه. ويجوز أن يراد بناعوس البحر: رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستعارة, على أنه من الجائز أن يكون الناعوس حقيقة في القاموس, وكانت لغه غريبة خفي مكانها فلم تنقل نقلا فاشيًا الفصل الثاني خال الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله ((انطلقت)) أي سافرت وهاجرت أوطاني. قوله: ((من فيه إلى في)) من للابتداء, أي الحديث الذي أرويه انتقل من فيه إلى في لم يكن بيننا واسطة. قوله: ((في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)) مح: يعني صلح الحديبية. و ((دحية)) بكسر الدال وفتحها. و ((عظيم بصرى)) أميرها. و ((هرقل)) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف. قال العلماء: وإنما سأل قريب النسب لأنه أعلم بحاله وأبعد من أن يكذب في نسبه, ثم

إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: قال: وكان دحية الكلبيُّ جاء به فدفعه إلى عظيم بُصرى, فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل, فقال هرقل: هل هنا أحدٌ من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم, فدعيت في نفرٍ من قريش, فدخلنا على هرقل, فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي, قال أبو سفيان: فقلت: أنا, فأجلسوني بين يديه, وأجلسوا أصحابي خلفي, ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي, فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافةُ أن يؤثر عليَّ الكذب لكذبته, ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه من ملكٍ؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا: قال: ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ـــــــــــــــــــــــــــــ أكد ذلك فقال لأصحابه: ((إن كذبني فكذبوه)) أي لا تستحيوا منه, وإنما أجلس أصحابه خلفه ليكون أهون عليهم في تكذيبه إن كذب. و ((الترجمان)) بضم التاء وفتحها والفتح أفصح, وهو المعبر عن لغة أخرى. و ((لولا مخافة أن يؤثر على)) معناه لولا خوف أن ينقلوا عنى الكذب إلى قومى ويتحدثوا به لكذبت عليه لبغضي إياه, وإنما عداه بعلي لتضمن معنى المضرة, أي: كذب يكون عليّ لا لي. وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام. قوله: ((ومن يتبعه؟)) وفي الحميدي وجامع الأصول: فهل يتبعه؟ و ((أم)) هنا متصلة, وفي وقوعها قرينة ((هل)) إشكال, لأن هل تستدعي السؤال عن حصول الجملة, وأم المتصلة تستدعي حصولها لكن السؤال بها عن تعين أحد المعنيين مسندًا ومسندًا إليه, والظاهر ما في صحيح مسلم وشرحه والمشكاة ومن يتبعه فتكون همزة الاستفهام مقدرة في قوله: ((أشراف الناس)) فسأل أولا مجملا, ثم سأل ثانيًا مفصلا. و ((السخط)) بفتح السين كراهة الشيء وعدم الرضي به. و ((السجال)) بكسر السين من المساجلة, وأصله من السجل وهو الدلو, لأن لكل واحد من الواردين دلوًا مثل ما للآخر, ولكل واحد منهم يوم في الاستسقاء, ومعناه هاهنا أن الحرب دلو تارة له وتارة عليه. وقوله: ((ونحن منه في هذه المدة)) يعني مدة الهدنة والصلح الذي جرى يوم الحديبية.

ضعفاؤهم: قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا: بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا, يصيب منا ونصيب منه. قال. فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في هذه المدة, لا ندري ما هو صانع فيها؟ قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه قال: فهل قال هذا القول أحدٌ قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم, فزعمت أنه فيكم ذو حسب, وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا, فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب مُلك آبائه. وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم, وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا, فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((تبعث في أنساب قومها)) من باب التجريد, أي يبعث ذا حسب, وهي كقولك: في البيضة عشرون رطلا من الحديد, وهي في نفسها هذا المقدار. قوله: ((لم يكن ليدع الكذب)) ليدع. ليترك، واللام تأكيد للجحد, المعنى لم يصح ولم يستقم أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب على الناس قبل أن يظهر رسالته ثم بعد إظهاره الرسالة يكذب على الله تعالى, هذا بعيد, ونحوه قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أي محال أن يعذبهم وأنت فيهم. وثم في الحديث استبعادية كقوله تعالى: {ثم أنتم تمترون} مح: والحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له. وأما قوله: ((ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل)) فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم, والضعفاء لا يأنفون فيسارعون إلى الانقياد واتباع الحق. وأما سؤاله عن الردة فلأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه, بخلاف من دخل في الأباطيل.

له؟ فزعمت أن لا, وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون, وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه, وكذلك الرسل تبتلى, ثم تكون لها العاقبة. وسألتك هل يغدر. فزعمت أنه لا يغدر, وكذلك الرسل لا تغدر, وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله, قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله قال: ثم قال: بما يأمركم؟ قلنا: يأمرنا بالصلاة, والزكاة, والصلة, والعفاف قال: إن يكُ ما تقول حقا فإنه نبيٌّ, وقد كنت أعلم أنه خارجٌ, ولم أكن أظنه منكم, ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه, ولو كنت عنده لغسلت عند قدميه, وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه. متفق عليه. وقد سبق تمام الحديث في ((باب الكتاب إلى الكفار)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما سؤاله عن الغدر فلأن من طلب حظ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره مما يتوصل به إلى ذلك, ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرًا ولا غيره من القبائح. وبشاشة اللقاء: الفرح بالمرئى والانبساط إليه والأنس به. ((وكذلك الرسل تبتلى)) يعني يبتليهم في ذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذل وسعهم في طاعة الله تعالى. والصلة: صلة الأرحام وكل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. والعفاف: الكف عن المحارم. قال العلماء: وقول هرقل: ((إن يك ما تقول حقا فإنه نبي ..)) أخذه من الكتب القديمة, ففي التوراة هذا ونحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه بالعلامات, وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة, هكذا قاله المازري. قوله: ((أخلص إليه)) أي أصل إليه. نه: يقال: خلص فلان إلى فلان, أي وصل إليه. مح: لا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما شح في الملك ورغب في الرئاسة فآثرها على الإسلام، وقد جاء ذلك مصرحًا به في صحيح البخاري, ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرئاسة – والله أعلم.

(6) باب في المعراج

(6) باب في المعراج ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في المعراج العروج: هو الذهاب في صعود، قال: {تعرج الملائكة والروح}. والمعراج: بالكسر شبه السلم مفعال من العروج والصعود كأنه آلة له. وليلة المعراج سميت لصعود النبي صلى الله عليه وسلم فيها. مح: قال القاضي عياض: اختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل: إنما كان جميع ذلك في المنام. والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامه المتأخرين في الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: أنه أسرى بجسده صلى الله عليه وسلم فمن طالعها وبحث عنها فلا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل, ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل. وقيل: ذلك قبل أن يوحى إليه, وهو غلط لم يوافق عليه, فإن الإسراء أقل ما قيل فيه: إنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرًا. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: أسرى به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة. وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق. وقد أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون هذا قبل الوحى إليه. وأما قوله في رواية شريك: ((وهو نائم)) وفي الرواية الأخرى: ((بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان)) فقد يحتج بها من يجعلها رؤيا نوم, ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حاله أول وصول الملك إليه, وليس في الحديث ما يدل على كونه نائمًا في القصة كلها. وقال محيى السنة في المعالم: والأكثرون على أنه صلوات الله عليه أسرى بجسده في اليقظة. وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك. أقول: وقد روينا عن البخاري والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} قال: وهي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس.

الفصل الأول 5862 - عن قتادة, عن أنس بن مالك, عن مالك بن صعصعة, أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به: ((بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال: شئ أريه النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة رآه بعينه حين ذهب إلى بيت المقدس, ولأنه قد أنكرته قريش وارتدت جماعة ممن كانوا أسلموا حين سمعوه, وإنما تنكر إذا كانت في اليقظه فإن الرؤيا لا ينكر منها ما هو أبعد من ذلك, على أن الحق أن المعراج مرتان مرة في النوم وأخرى باليقظة. قال محيى السنة: رؤيا أراه الله قبل الوحي بدليل قول من قال: ((فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقًا لرؤياه, كما أنه رأي فتح مكة في المنام في سنة ست من الهجرة, ثم كان تحققه سنة ثمان, وعن بعض المحققين أن الأرواح مأخوذة من أنوار الكمال والجلال وهي بالنسبة إلى الأبدان بمنزلة قرص الشمس بالنسبة إلى هذا العالم, وكما أن كل جسم يصل إليه نور الشمس تتبدل ظلماته بالأضواء فكذلك كل عضو وصل إليه نور الروح انقلب حاله من الموت إلى الحياة. قالوا: الأرواح أربعه أقسام: ((الأول: الأرواح المكدرة بالصفات البشرية, وهي أرواح العوام غلبتها القوى الحيوانية لا تقبل العروج. والثاني: الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن باكتساب العلوم وهذه أرواح العلماء. والثالث: الأرواح التي لها كمال القوة المدبرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة, وهذه أرواح المرتاضين إذا كسروا قوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. والرابع: الأرواح التي حصل لها كمال القوتين وهذه غاية الأرواح البشرية وهي للأنبياء والصديقين, فلما ازداد قوة أرواحهم ازداد ارتفاع أبدانهم عن الأرض, ولهذا لما كان الأنبياء صلوات الله عليهم قويت فيهم هذه الأرواح عرج بهم إلى السماء, وأكملهم قوة نبينا صلى الله عليه وسلم فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى. الفصل الأول الحديث الأول عن قتادة: قوله: ((أسرى به)) صفة ليلة, أي أسرى به فيها, ونحوه في التقدير قوله تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزى نفس عن نفس شيئًا} لا تجزى صفة ((يومًا)) أي لا تجزى فيه نفس. قوله: ((أنا في الحطيم)) قض: الحطيم قيل: هو الحجر سمي حجرًا لأنه حجر عنه بحيطانه,

أتاني آت, فشق ما بين هذه إلى هذه)) يعني من ثغرة نحره إلى شعرته ((فاستخرج قلبى, ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا, فغُسل قلبي, ثم حشي, ثم أعيد)) وفي رواية: ((ثم غسل البطن بماء زمزم, ثم مليء إيمانًا وحكمةً - ثم أتيت بدابَّة دون البغل وفوق الحمار, أبيض يقال له: البراق, يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه, فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا, فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد أرسل إليه. قال: نعم قيل: ـــــــــــــــــــــــــــــ وحطيمًا لأنه حطم جداره عن مساواة الكعبة, وعليه ظاهر قوله: ((بينما أنا في الحطيم)) وربما قال: في الحجر, فلعله صلى الله عليه وسلم حكى لهم قصة المعراج مرات, فعبر بالحطيم تاره وبالحجر أخرى. وقيل: الحطيم غير الحجر وهو ما بين المقام إلى الباب, وقيل ما بين الركن والمقام والزمزم والحجر, والراوي شك في أنه سمع في الحطيم أو في الحجر. قوله: ((إلى شعرته)) نه: الشعرة بالكسر العانة, منبت شعرها. تو: ما ذكر في الحديث من شق النحر واستخراج القلب وما يجري مجراه فإن السبيل في ذلك التسليم دون التعرض بصرفه إلى وجه يتقوله متكلف ادعاء للتوفيق بين المنقول والمعقول تبرؤا مما يتوهم أنه محال, ونحن - بحمد الله- لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق عن الأمر المحال به عن القدرة. قوله: مملوءه إيمانًا)) قض: لعله من باب التمثيل, ومثل له المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها. قوله: ((عند أقصى طرفه)) أي أن البراق يضع خطوه عند غاية نظره لغاية سرعته في مشيه، سمي براقًا لبريق لونه وسرعة سيره كبرق السحاب. مح: قالوا: هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال الزبيدي في مختصر العين وصاحب التحرير: هي دابة كانت الأنبياء صلوات الله عليهم يركبونها, وهذا الذي قال يحتاج إلى نقل صحيح. أقول: لعلهم حسبوا ذلك من قوله في حديث آخر: ((فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء)) أي ربطت البراق بالحلقة, وأظهر منه حديث أنس في الفصل الثاني لقول جبريل للبراق: ((فما ركبك أحد أكرم على الله منه)). قوله: ((وقد أرسل إليه)) الواو للعطف, وحرف الاستثناء مقدر, أي أطلب وأرسل إليه؟. مح: وفي رواية أخرى: ((وقد بعث إليه)) أي بعث إليه للإسراء وصعود السماوات, وليس

مرحبًا به, فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت, فإذا فيها آدم, فقال: هذا أبوك آدم, فسلم عليه, فسلمت عليه, فرد السلام, ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح؛ ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية, فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد أرسل اليه؟ قال: نعم, قيل: مرحبا به, فنعم المجيء جاء. ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة, قال: هذا يحيى وهذا عيسى فسلم عليهما، فسلمت فردًا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة, فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك! قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه! قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففُتح، فلما خلصتُ إذا يوسف, قال: هذا يوسف, فسلم عليه, فسلمت عليه, فردَّ. ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح؛ ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة, فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فإن ذلك لا يخفي على الملائكة إلى هذه المدة, وهذا هو الصحيح. قال القاضي عياض: وفي هذا أن للسماء أبوابًا حقيقية وحفظة موكلين بها وفيه إثبات الاستئذان وأنه مما ينبغي أن يقال أنا زيد مثلا. قض: أي أرسل إليه للعروج, وقيل: معناه أوحي إليه وبعث نبيًا, والأول أظهر, لأن أمر نبوته كان مشهورًا في الملكوت لا يكاد يخفي على خزان السموات وحراسها وأوفق للاستفتاح والاستئذان, ولذلك تكرر معه, وتحت هذه الكلمات ونظائرها أسرار يتفطن لها من فتحت بصيرته واشتعلت قريحته. وقيل: كان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه, أو للاستبشار بعروجه إليه, إذا كان من البين عندهم أن أحدًا من البشر لا يترقى إلى أسباب السموات من غير أن يأذن الله له ويأمر ملائكته بإصعاده, فإن جبريل لا يصعد بمن لا يرسل إليه, ولا يستفتح له أبواب السماء. تو: وأمر بالتسليم عليهم لأنه كان عابرًا عليهم، وكان في حكم القيام وكانوا في حكم القعود, والقائم يسلم على القاعد وإن كان أفضل منه, وكيف لا؟ والحديث دل على أنه أعلى رتبة وأقوى حالا وأتم رؤية وعروجا, ورؤيته الأنبياء في السموات وفي بيت المقدس حيث أمَّهم يحمل على رؤية روحانياتهم الممثلة بصورهم التي كانوا عليها, غير عيسى عليه الصلاة والسلام فإن رؤيته محتملة للأمرين أو أحدهما, وأن ما ذكره من بكاء موسى عليه الصلاة والسلام فإنه يحمل على الرقة لقومه والشفقة عليهم حيث لم ينتفعوا بمتابعته انتفاع هذه الأمة بمتابعة نبيهم,

محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت فإذا إدريس, فقال: هذا إدريس, فسلم عليه, فسلمت عليه, فردَّ, ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح؛ ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة, فاستفتح, قيل: من هذا. قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح, فلما خلصت, فإذا هارون, قال: هذا هارون فسلم عليه, فسلمت عليه، فردَّ, ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح؛ ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة, فاستفتح, قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصتُ فإذا موسى, قال: هذا موسى, فسلم عليه, فسلمت عليه, فردَّ, ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح, فلما جاوزت بكى, قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي, ثم صعد بي إلى السماء السابعة, فاستفتح جبريل, قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. ـــــــــــــــــــــــــــــ ولم يبلغ سوادهم, ولا يصح أن يحمل إلا على هذا الوجه أو ما يضاهي ذلك, فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من عوام المؤمنين فضلا على من اختاره الله لرسالته واصطفاه لمكالمته. وقوله: ((لأن غلامًا بعث بعدي)) لم يرد بذلك استصغار شأنه, فإن الغلام قد يطلق ويراد به القوي الطري الشباب, والمراد منه استصغار مدته مع استكثار فضائله واستتمام سواد أمته. قوله: ((فنعم المجيء جاء)) مظ: المخصوص بالمدح محذوف وفيه تقديم وتأخير تقديره: جاء فنعم المجيء مجيئه. قال المالكي: في قول الملك: ((نعم المجيء جاء)) شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول والصفة عن الموصوف في باب ((نعم)) لأنها تحتاج إلى فاعل عن المجيء وإلى مخصوص بمعناها, وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها, وهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء, والتقدير: نعم المجيء الذي جاء, أو: نعم المجيء مجيء جاء, وكونه موصولاً أجود لأنه مخبر عنه, وكون المخبر عنه معرفة أولى عن كونه نكرة.

قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت, فإذا إبراهيم, قال: هذا أبوك إبراهيم, فسلم عليه, فسلمت عليه, فرد السلام. ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح, ثم رفعتُ إلى سدرة المنتهى, فإذا نبقها مثل قلال هجر, وإذا ورقها مثل آذان الفيلة, قال: هذا سدرة المنتهى, فإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أمَّا الباطنان فنهران في الجنة، وأمَّا الظاهران فالنيل والفرات, ثم رفع لى البيت المعمور, ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل, فأخذت اللبن, فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك, ثم فرضت علىَّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم, فرجعت فمررت على موسى, فقال: بما أُمرتَ؟ قلت: أُمرتُ بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك: لا تستطع خمسين صلاة كل يوم, وإني والله قد جربت الناس قبلك, وعالجت بني ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ثم رفعت إلى سدرة المنتهى)) تو: الرفع تقريبك الشيء, وقد قيل في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} أي مقربة لهم, وكأنه أراد سدرة المنتهى استبينت له نعوتها كل الاستبانة حتى اطلع عليها كل الاطلاع بمثابة الشيء المقرب إليه, وفي معناه: ((رفع لي البيت المعمور)) و ((رفع لي بيت المقدس)). مح: سميت ((سدرة المنتهى)) لأن علم الملائكة ينتهي إليها, ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى عن عبد الله بن مسعود أنها سميت بذلك لأنه ينتهي إليها, ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تبارك وتعالى. قوله: ((فإذا نبقها)) تو: النبق بكسر الباء حمل السدر ويخفف أيضًا, الواحدة نبقة. قوله: ((نهران باطنان)) مح: قال مقاتل: الباطنان هو السلسبيل والكوثر, والظاهران النيل والفرات, يخرجان من أصلها ثم يسيران حيث أراد الله تعالى, ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها, وهذا لا يمنعه شرع ولا عقل وهذا ظاهر الحديث فوجب المصير إليه. قوله: ((وعالجت بني إسرائيل)) تو: أي مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم من الطاعة, والمعالجة مثل المزاولة والمحاولة.

إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك, فرجعت فوضع عني عشرًا, فرجعت إلى موسى فقال مثله, فرجعت فوضع عني عشرًا, فرجعت إلى موسى فقال مثله, فرجعت فوضع عني عشرًا, فرجعت إلى موسى فقال مثله, فرجعت فوضع عني عشرًا, فأمرت بعشر صلوات كل يوم, فرجعت إلى موسى فقال مثله, فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم, وإني قد جربت الناس قبلك, وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك, قال: سألت ربي حتى استحييتُ؛ ولكني أرضي وأسلم. قال: فلما جاوزت, نادى مناد, أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)). متفق عليه. 5863 - وعن ثابت البناني, عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق, وهو دابة أبيض طويل, فوق الحمار ودون البغل, يضع حافره عند منتهى طرفه, فركبته حتى أتيت بيت المقدس, فربطته بالحلقه التي تربط بها الأنبياء)) قال: ((ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين, ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ولكني أرضي وأسلم)) فإن قلت: حق ((لكن)) أن تقع بين لامين متغايرين معنى فما وجهه هاهنا؟. قلت: تقدير الكلام هنا: حتى استحييت فلا أرجع فإني إذا رجعت كنت غير راض ولا مسلم, ولكني أرضي وأسلم. خط: مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في باب الصلاة كانت إنما جاءت بين رسولنا محمد وموسى صلوات الله عليهما, لأنهما عرفا أن الأمر الأول غير واجب قطعًا, فلو كان واجبًا قطعًا لما صدرت منهما المراجعة، فصدور المراجعة دليل على أن ذلك غير واجب قطعًا، لأن ما كان واجبًا قطعًا لا يقبل التخفيف. وقيل: في الأول فرض خمسين, ثم رحم عباده ونسخها بخمس, كآية الرضاع وعدة المتوفي عن زوجها, وفيه دليل على أنه يجوز نسخ الشيء قبل وقوعه. الحديث الثاني عن ثابت: قوله: ((شطر الحسن)) مظ: أي نصف الحسن, وقيل: البعض, لأن الشطر كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقًا.

من لبن, فاخترت اللبن, فقال جبريل: اخترت الفطرة, ثم عرج بنا إلى السماء)). وساق مثل معناه. قال: ((فإذا أنا بآدم, فرحب بي ودعا لى بخير)). وقال في السماء الثالثة: ((فإذا أنا بيوسف, إذا هو قد أعطى شطر الحسن, فرحب بي ودعا لي بخير)). ولم يذكر بكاء موسى. وقال في السماء السابعة: ((فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور, وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون إليه, ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة, وإذا ثمرها كالقلال, فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت, فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها, وأوحى إليَّ ما أوحى, ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة, فنزلت إلى موسى, فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فإن أمتك لا تطيق ذلك, فإني بلوت بني ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: وقد يراد به الجهة أيضًا, نحو قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أي إلى جهة من الحسن ومسحة منه, كما يقال: عليه مسحة ملك ومسحة جمال, أي: أثر ظاهر, ولا يقال ذلك إلا في المدح. وقوله: ((إذ هو قد أعطي)) بدل من الأول في معنى بدل الاشتمال. قوله: ((مسندا)) منصوب على الحال في صحيح مسلم وشرحه وشرح السنة, وفي المصابيح مرفوع وهو على حذف المبتدأ. وقوله: ((لا يعودون إليه)) الضمير المجرور فيه عائد على البيت المعمور, أي يدخلون فيه ذاهبين غير عائدين أبدًا لكثرتهم. قوله: ((فلما غشيها من أمر الله ما غشى)) قيل فراش من ذهب. قض: ولعله مثل ما يغشى الأنوار التي تنبعث منها ويتساقط على موقعها بالفراش, وجعلها من الذهب لصفاءها وإضاءتها في نفسها. قوله: ((بين ربي وبين موسى)) مح: معناه بين الموضع الذي ناجيته فيه أولا فناجيته فيه ثانيًا, وبين موضع ملاقاة موسى أولا. قوله: ((إنهن خمس)) الضمير فيه مبهم يفسره الخبر كقوله: هي النفس ما حملتها تتحمل.

إسرائيل وخبرتهم قال: ((فرجعت إلى ربي, فقلت: يا رب! خفف عن أمتي فحط عني خمسًا, فرجعت إلى موسى, فقلت: حط عني خمسًا. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك, فارجع إلى ربك فسله التخفيف)).قال: ((فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى, حتى قال يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة, لكل صلاة عشر, فذلك خمسون صلاة، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له عشرًا, ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له شيئًا فإن عملها كتبت له سيئة واحدة)) قال: ((فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقلت: قد رجعتُ إلى ربي حتى استحييت منه)). رواه مسلم. 5864 - وعن ابن شهاب, عن أنس, قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فرج عني سقف بيتي, وأنا بمكة, فنزل جبريل, ففرج صدري, ثم غسله بماء زمزم, ثم جاء بطست من ذهب ممتليء حكمة وإيمانًا. فأفرغه في صدري ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي. فعرج بي إلى السماء فلما جئت إلى السماء الدنيا. قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال من هذا؟ قال: جبريل قال هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم: فقال أُرسل إليه؟ قال: نعم, فلما فُتح علونا السماء الدنيا, إذا رجلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((كتبت له حسنة)) كتب مبني على المفعول, والضمير فيه راجع إلى قوله: ((بحسنة)) وحسنة وضعت موضع المصدر, أي كتبت الحسنة كتابة واحدة, وكذا عشرًا, وكذا شيئًا منصوبان على المصدر, كذا في مسلم وجامع الأصول وشرح السنة, وفي بعض نسخ المصابيح: ((حسنة)) و ((عشر)) مرفوعان وهو غلط من الناسخ. الحديث الثالث عن ابن شهاب: قوله: ((فرج عني سقف بيتي)) فإن قيل: قد روى أنس في حديث المعراج عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا في الحطيم)) أو ((في الحجر)) وفي هذا الحديث قال: ((فرج عني سقف بيتي؟)). قلت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان)) أحدهما حال اليقظة على ما رواه مالك, والثاني: في النوم. ولعله صلى الله عليه وسلم أراد ببيتي بيت أم هانيء, إذ روى أيضًا الإسراء منه, فأضافه إلى نفسه تارة لأنه ساكنه, وإليها أخرى لأنها صاحبته.

قاعدٌ, على يمينه أسودةٌ, وعلى يساره أسودةٌ إذا نظر قبل يمينه ضحك, وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح, قلت: لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم هذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه, فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار, فإذا نظر عن يمينه ضحك. وإذا نظر قبل شماله بكى, حتى عرج بي إلى السماء الثانية, فقال لخازنها: افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأول)) قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم, وإدريس, وموسى وعيسى, وإبراهيم, ولم يثبت كيف منازلهم, غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا, وإبراهيم في السماء السادسة, قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم عرج بي, حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) وقال ابن حزم وأنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ففرض الله على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك, حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وأباحبة الأنصاري)) بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة, كذا في شرح السنة, وفي المصابيح: بالياء. مح: بالحاء المهملة والباء الموحدة هكذا ضبطناه هنا: وفي ضبطه واسمه اختلاف, قيل: حية بالياء المثناة تحت, وقيل: بالنون, والأصح ما ذكرناه, وقد اختلف في اسمه فقيل: عامر, وقيل: مالك, وقيل: ثابت. قوله: ((ظهرت لمستوى)) مح: أي علوت, والمستوى بفتح الواو, وقال الخطابي: المراد به المصعد, وقيل: المكان المستوي. و ((صريف الأقلام)) بالصاد المهملة صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه, وما ينسخونه من اللوح المحفوظ, أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده الله من أمره وتدبيره. قال القاضي: هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابه الوحي والمقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات, لكن كيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا الله تعالى, وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان إذا جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله. ((تو)) قوله: ((لمستوى)) اللام فيه للعلة, أي علوت لاستعلاء مستوى, أو لرؤيته أو لمطالعته, ويحتمل أن يكون متعلقًا بالمصدر, أي ظهرت ظهورًا لمستوى, ويحتمل أن يكون بمعنى إلى,

لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق فراجعت، فوضع شطرها فرجعت إلى موسى، فقلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته؛ فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال: راجع بك فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ ثم أدخلت الجنة فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) متفق عليه. 5865 - وعن عبد الله، قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الله تعالى: {أوحي لها} أي إليها، والمعنى أني إنما قمت مقاماً بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث طلعت على الكوائن وظهر لي ما يراد من أمر الله وتدبيره في خلقه، وهذا والله هو المنتهى الذي لا تقدم فيه لأحد عليه. أقول: لام الغرض وإلى الغاية يلتقيان في المعنى. الكشاف في قوله تعالى: {كل يجري إلى أجل مسمى} فإن قلت: يجري لأجل مسمى ويجري إلى أجل مسمى أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق الطعن، ولكن المعنيين- أعني: الانتهاء والاختصاص- كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأن قولك: ((يجري إلى أجل مسمى)) معناه يبلغه وينتهي إليه، وقولك: ((يجري لأجل مسمى)) يريد يجري لإدراك أجل مسمى. وقوله: ((لا يبدل القول لدي)) يحتمل أن يراد أني ساويت بين الخمس والخمسين في الثواب وهذا القول غير مبدل، أو جعلت الخمسين خمساً ولا تبديل فيه. وقوله: ((استحييت من ربي)) لا يناسب المعنى الثاني. و ((الجنابذ)) جمع جنبذة وهي القبة. الحديث الرابع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((في السماء السادسة)) هكذا هو في جامع الأصول. قال القاضي عياض: كونها في السماء السابعة هو الأصح وقول الأكثرين، وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى.

وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى}. قال: فراش من ذهب، قال: فأعطني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الشيخ محيي الدين: ويمكن أن يجمع بينهما، فيكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة، فقد علم أنها في نهاية من العظم. وقد قال الخليل: السدرة في السماء السابعة وقد أظلت السموات والجنة. وقد ذكر القاضي عياض أن مقتضى خروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصل سدرة المنتهى أن يكون أصلها في الأرض، فإن سلم هذا أمكن حمله على ما ذكرناه. و ((المقحمات)) بكسر الحاء الذنوب العظام والكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار. والمراد بغفرانها أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين وليس المراد به لا يعذب أصلا، وقد علم من نصوص الشرع وإجماع أهل السنة إثبات عذاب العصاة من الموحدين. قوله: ((فيقبض منها)) لعل القابض غير الصاعد بالأعمال من الملائكة وكذلك النازل. قوله: ((فرا من ذهب)) فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله في غير هذا الحديث: ((فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟)). قلت: قوله: ((غشيها ألوان لا أدري ما هي)) في موقع قوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} في إرادة الإبهام للتفخيم والتهويل وإن كان معلوماً كما في قوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} في حق فرعون، ثم قوله: ((فراش من ذهب)) بيان له. قوله: ((خواتيم سورة البقرة)) تو: ليس معنى قوله: ((أعطى)) أنها أنزلت عليه، بل المعنى أنه استجيب له فيما لقن في الآيتين من قوله سبحانه {غفرانك ربنا} إلى قوله {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} ولمن يقوم بحقها من السائلين. أقول: في كلامه إشعار بأن الإعطاء بعد الإنزال لأن المراد منه الاستجابة، والاستجابة مسبوقة بالطلب، والسورة مدنية والمعراج في مكة، ويمكن أن يقال: إن هذا من قبيل: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} والنزول بالمدينة من قبيل: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى}.

5866 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كرباً ما كربت مثله، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شئونه، وإذا عيسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، فإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم- يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام)) رواه مسلم. وهذا الباب خال عن: الفصل الثاني ـــــــــــــــــــــــــــــ وإنما أوثر الإعطاء لما عبر عنهما بكنز تحت العرش، وروينا عن أحمد بن حنبل عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي)) وكان لنبينا صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى مقامان يغبطان الأولون والآخرون. أحدهما في الدنيا ليلة المعراج، وثانيهما في العقبى وهو المقام المحمود، ولا أهتم فيهما بشأن إلا بشأن هذه الأمة المرحومة. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من بيت المقدس ((مح)) فيه لغتان: فتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال المخففة، والثانية: ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، ولم أضبطهما. قوله: ((كرباً)) كذا في الصابيح، وفي شرح صحيح مسلم ((كربة)). مح: الضمير في ((مثله)) يعود إلى معنى الكربة وهو الغم والهم، أو الشيء. قال الجوهري: الكربة بالضم الغم الذي يأخذ النفس لشدته. قوله: ((فرفعه الله لي)) أي رفع حجاب بيت المقدس لي لأنظر إليه. قوله: ((قائم يصلي أشبه الناس)) أخبار متعاقبة لإبراهيم. قوله: ((فأممتهم)) مح: قال القاضي عياض: فإن قيل: كيف رأى موسى عليه الصلاة والسلام يصلي، وأم صلى الله عليه وسلم الأنبياء في بيت المقدس ووجدهم على مراتبهم في السموات؟ والجواب: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رآهم وصلى بهم في بيت المقدس ثم صعدوا إلى السماء فوجدهم فيها، وأن يكون اجتماعه بهم وصلاته معهم بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى. قوله: ((فبدأني بالسلام)) إنما بدأ بالسلام ليزيل ما استشعر من الخوف منه، بخلاف سلامه على الأنبياء ابتداء كما سبق.

(7) باب في المعجزات

الفصل الثالث 5867 - عن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) متفق عليه. (7) باب في المعجزات الفصل الأول 5868 - عن أنس بن مالك، أن أبا بكر الصديق [رضي الله عنه] قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب في المعجزات المعجزة: مأخوذة من العجز الذي هو ضد القدرة، وفي التحقيق: المعجز فاعل العجز في غيره وهو اله سبحانه وتعالى، وسميت دلالات صدق الأنبياء وإعلام الرسل معجزة لعجز المرسل إليهم عن معارضتها بمثلها، ودخلت الهاء فيها إما للمبالغة كعلامة ونسابة، وإما: أن تكون صفة لمحذوف كآية وعلامة. الفصل الأول الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ونحن في الغار)) الغار نقب في أعلى ثور، وهو جبل بيمين مكة على مسيرة ساعة. قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وما ظنك باثنين الله ثالثهما)) أي: جاعلهما ثلاثة بضم نفسه تعالى إليهما في المعية المعنوية التي أشار إليها بقوله سبحانه وتعالى: {إن الله معنا} وهو من قوله تعالى: {ثاني اثنين إذا هما في الغار ...}. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اعم أبصارهم)) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون، قد أخذ الله بأبصارهم عنه. فإن قلت: أي فرق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}.

5869 - وعن البراء بن عازب، عن أبيه، أنه قال لأبي بكر: يا أبا بكر! حدثني كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم يأت عليها الشمس، فنزلنا عندها وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله! وأنا أنفض ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت: أفتحلب؟ قال: نعم فأخذ شاة فحلب في قعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي. فيها يشرب ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: بينهما بون بعيد، لأن معنى قوله: {معكما} أي ناصركما وحافظكما من مضرة فرعون، ومعنى قوله: {الله ثالثهما} أي الله تعالى جاعلهما ثلاثة، فيكون تعالى أحد الثلاثة، وأن كل واحد منهم مشترك فيما له وعليه من النصرة والخذلان. فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((الله ثالثهما)). وبين قوله: ((ثالثهما الله))؟. قلت: لا يقدم ما تقدم هنا إلا لنكتة سرية فإن قوله: ((الله ثالثهما)) يفيد أنهم مختصان بأن الله ثالثهما وليس بثالث غيرهما، وفي عكسه يفيد أن الله تعالى ثالثهما لا غيره، وكم بين العارتين. الحديث الثاني عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((ومن الغد)) أي بعضه، أي أسرينا ليلتنا وبعض الغد، وهو من وادي: ((علفته تبنا وماء بارداً)) إذ الإسراء لا يكون إلا بالليل، وإنما ذكر ((ليلتنا)) ليدل به على أن الإسراء كان قد وقع طوال الليلة. وقوله: ((قائم الظهيرة)) نه: أي قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته، أي وقفت، والمعنى أن الشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول فيحسب الناظر المتأمل أنها قد وقفت وهي سائرة لكن سيراً لا يظهر له أثر سريع كما يظهر قبل الزوال وبعده، فيقال لذلك الوقوف المشاهد: قام قائم الظهيرة. قوله: ((فرفعت لنا صخرة)) أي أظهرت، ومنه رفع الحديث وهو إذاعته وإظهاره. قوله ((لم يأت عليها شمس)) بحيث يذهب بظلها، يعني كان ظلها ممدوداً ثابتاً. قوله: ((وأنا أنفض ما حولك)) نه: أي أحرسك وأطواف هل أرى طلباً، يقال: نفضت المكان واستنفضته إذا نظرت جميع ما فيه، والنفضة بفتح الفاء وسكونها النفيضة قوم يبعثون متجسسين هل يرون عدواً أو خوفاً. قوله: ((في قعب)) هو بفتح القاف قدح من خشب مقعر.

ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حتى استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله: فشرب حتى رضيت، ثم قال: ((ألم يأن للرحيل؟)) قلت: بلى قال: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، وابتعنا سراقة ابن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله! فقال: ((لا تحزن إن الله معنا)) فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض فقال: إني أراكما دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: الكثبة من اللبن قدر حلبة، والكثبة كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كثب. و ((يرتوي فيها)) رويت من الماء بالكسر وارتويت وترويت كله بمعنى. أقول: فعلى هذا ينبغي أن يقال: ((يرتوي منها)) لا ((فيها)). مح: يرتوي فيها يستقي فيها، يعني جعل القدح آلة للري والسقي، ومنه الرواية وهي الإبل التي يستقي عليها الماء. وقوله: ((يشرب ويتوضأ)) مستأنفتان لبيان الاعتمال في السقي. قوله: ((فوافقته حتى استيقظ)) قض: يعني وافقته في النوم، أو تأنيت به حتى استيقظ، وفي بعض نسخ البخاري، ((حين استيقظ)) أي وافق إتياني وقت اسيتقاظه، ويؤيده ما روى: فوافقته وقد استيقظ. قوله: ((فارتطمت به)) أي ساخت قوائمها كما تسوخ في الوحل. و ((الجلد من الأرض)) الصلبة. قوله: ((أن أرد عنكما)) شف: الجار محذوف تقديره: بأن أراد وقوله: ((فالله لكما)) حشو بينهما. ويمكن أن يقال: فالله مبتدأ، ولكما خبره، وقوله: ((أن أرد)) خبر ثان للمبتدأ. وقال غيره: معناه فادعوا لي كيلا يرتطم فرسي على أن أترك طلبكما ولا أتبعكما بعد، ثم دعا لهما بقوله: ((فالله لكما)) أي الله حافظكما وناصركما حتى تبلغ بالسلامة إلى مقصدكما. ويجوز أن يكون معناه: ادعوا لي حتى أنصرف عنكما، فإن الله قد تكفل بحفظكما عني وحبسني عن البلوغ إليكما. أقول: الفاء في ((فالله)) تقتضي ترتيب ما بعدها عليه، و ((لكما)) خبر المبتدأ يقتضي متعلقاً بتعلق به هو وما بعده، فالتقدير: ادعوا لي بأن أتخلص مما أنا فيه فإنكما إن فعلتما فالله أشهد لأجلكما أن أراد عنكما الطلب.

لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتم، ما هاهنا، فلا يلقى أحداً إلا رده. متفق عليه. 5870 - وعن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد، إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: ((أخبرني بهن جبريل آنفا؛ أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت)). قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن ـــــــــــــــــــــــــــــ ويؤيد هذا التقرير ما في شرح السنة: ((والله)) على القسم، أي أقسم بالله لكما على أن أرد الطلب عنكما. قوله: ((فجعل لا يلقى أحداً)) أي فشرع فيما وعد من رد من لقي. قوله: ((ما هاهنا)) بمعنى الذي، أي كفيتم الذي هنا، والمعنى كفيتم الطلب في هذا الجانب لأني كفيتكم ذلك. مح: فيه فوائد: منها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضيلة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه من وجوه. وفيه: خدمة التابع للمتبوع واستصحاب الركوة ونحوها في السفر للطهارة والشرب. وفيه: فضل التوكل على الله تعالى وحسن عاقبته. الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((يخترف)) أي يجتني. قوله: ((وما ينزع الولد)) أي ما سبب نزوع الولد وميله إلى أحد أبويه، فحذف المضاف وأن المصدرية من المضارع، كما في قولك: ((أحضر الوغي)). خط: ((سبق)) إذا علا وغلب، يقال: نزع الولد إلى أبيه إذا أشبهه- ذكره في الغريبين- يعني إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، وإذا غلب ماء المرأة أشبهها الولد- انتهى كلامه. فعلى هذا التأنيث في ((نزعت)) بتأويل النسمة. قوله: ((قوم بهت)) نه: هو جمع بهوت من بناء المبالغة في البهت مثل: صبور وصبر، ثم يسكن تخفيفاً.

تسألهم يبهتونني. فجاءت اليهود فقال: ((أي رجل عبد الله فيكم؟)) قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا فقال: ((أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟)) قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقالوا: شرنا وابن شرنا، فانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله! رواه البخاري. 5871 - وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغنا إقبال أبي سفيان، وقام سعد بن عبدة، فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إقبال أبي سفيان)) أي بالعير من الشام إلى مكة، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان، فأعجب المسلمين تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة، فقيل له إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله، فمضى بهم إلى بدر، ونزل جبريل وأخبر أن الله وعدكم إحدى الطائفتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. مح: قالوا: إنما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستشارة اختبار الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقونه على ذلك أم لا؟ فأجابوا أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها. وفيه: حث على استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة. قوله: ((أن نخيضها)) قض: الإخاضة الإدخال في الماء والكناية للخيل والإبل وإن لم يجر ذكرهما لقرينة الحال. وضرب الأكباد عبارة عن تكليف الدابة للسير بأبلغ ما يمكن. قوله: ((إلى برك الغماد)) مح: هو بفتح الباء وإسكان الراء هو المشهور من كتب الحديث وروايات المحدثين.

الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا مصرع فلان)) ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. 5872 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم)) فأخذ أبو بكر بيده فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قال القاضي عياض عن بعض أهل اللغة: صوابه كسر الباء. قال: وكذا قيده شيوخ حديث أبي ذر في البخاري. واتفقوا على أن الراء ساكنة إلا ما حكاه القاضي عن الأصيلي بإسكانها وفتحها، وهذا غريب ضعيف. والغماد: بكسر الغين المعجمة وضمها لغتان مشهورتان، وأهل الحديث على ضمها واللغة على كسرها، وهو موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل. وقيل: بلد يماني. وقيل: موضع بأقصى هجر. قوله: ((فم ماط أحدهم)) يريد ما بعد. الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أنشدك عهدك)) تو: يقال: نشدت فلاناً أنشده نشداً إذا قلت له: نشدتك الله، أي سألتك بالله، وقد يستعمل في موضع السؤال. والعهد هاهنا بمعنى الأمان، يريد: أسألك أمانك وإنجاز وعدك الذي وعدتنيه بالنصر، فإن قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وقد علم أن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليعده وعدا فيخلفه فما وجه هذا السؤال؟. قلنا: الأصل الذي لا يفارق هذا العلم هو أن الدعاء مندوب إليه علم الداعي حصول المطلوب أو لم يعلم، ثم إن العلم بالله يقتضي الخشية منه، ولا ترفع الخشية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أوتوا ووعدوا من حسن العاقبة، فيجوز أن يكون خوفه من مانع ينشأ من قبله أو من قبل أمته فيحبس عنهم النصر الموعود، ويحتمل أنه وعد بالنصر ولم يعين له الوقت، وكان على وجل من تأخر الوقت فتضرع إلى الله تعالى لينجز له الوعد في يومه ذلك.

حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. رواه البخاري. 5873 - وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب)). رواه البخاري. 5874 - وعنه، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما ما أظهر من الضراعة فقيل: الأحسن أن يقال: إن مبالغة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السؤال مع عظم يقينه بربه وكمال علمه به كان تشجيعاً للصحابة وتقوية لقلوبهم، لأنهم كانوا يعرفون أن دعاءه لا محالة مستجاب لاسيما إذا بالغ فيه. أقول: المراد بالوعد ما في قوله تعالى: {وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يبلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نعزك، وأنفق فسينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمساً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك)) رواه مسلم عن عياض المجاشعي. ولعله صلى الله عليه وسلم لما استحضر معنى قوله تعالى: {إن الله غني عن العالمين} وقوله تعالى: {والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم} في قوله: ((إن تشأ لا تعبد)) أي: إن تشأ ألا تعبد فتهلك هذه العصابة، خاف من ذلك، وحين نظر إلى وعده وأنه لا يخلف وعده بالغ في الدعاء بقوله: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فرحاً مستبشراً مع وفور نشاط وهزة، ومن ثمة وثب في الدرع. مح: بدر هو ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة. قال ابن قتيبة: هو بئر كانت لرجل يسمى بدراً. وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبعة عشر خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة. الحديث السادس والحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((يشتد)) أي يعدو ليحمل، يقال: شد في الحرب يشد بالكسر.

المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. رواه مسلم. 5875 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. متفق عليه. 5876 - وعن البراء. قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله فقال عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أقدم حيزوم)) مح: هو بهمزة قطع مفتوحة وبكسر الدال من الإقدام، قالوا: وهي كلمة زجر للفرس. وقيل بهضم الدال وهمزة وصل مضمومة من التقدم. والأول أشهرهما. وحيزوم: اسم فرس الملك، وهو منادي حذف حرف النداء. والخطم: بالخاء المعجمة الأثر على الأنف. قوله: ((من مدد السماء الثالثة)) فيه تنبيه على أن مدد السماء كان من السموات كلها، وهذا من الثالثة خاصة. وقوله: ((صدقت، ذلك)) إشارة إلى المذكور من قوله: ((سمع ضربة ... الخ)). الحديث الثامن: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قوله: ((كأشد القتال)) الكاف فيه زائدة تأكيداً. وقوله: ((يعني ...)) من قول الراوي أدرجه بياناً لعله عرف ذلك من دليل. الحديث التاسع عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((رهطاً إلى أبي رافع)) ((قض)): أبو رافع كنية أبي الحقيق اليهودي أعدى عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبذ عهده وتعرض له بالهجاء، وتحصن عنه بحصن كان له، فبعثهم إليه ليقتلوه فدخل عليه عبد الله بن عتيك رضي الله عنه كما دل عليه الحديث.

بطنه، حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته. فجعلت أفتح الأبواب، حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي فتوقعت، في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، فانطلقت إلى أصحابي، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ((ابسط رجلك)). فبسطت رجلي فمسحها، فكأنما لم أشتكها قط. رواه البخاري. 5877 - عن جابر، قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: ((أن نازل)). ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيباً أهيل، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديداً، فأخرجت جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهمة داجن فذبحتها، وطحنت ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((حتى أخذ في ظهره)) عداه بفي ليدل على شدة التمكن وأخذه منه كل مأخذ، وإليه أشار بقوله: ((حتى أخذ في ظهره)). وقوله: ((فوقعت في ليلة مقمرة)) يعني كان سبب وقوعه على الأرض أن ضوء القمر وقع في الدرج فدخل عليه، فحسب أن الدرج مساو للأرض فوقعت منه على الأرض فانكسرت ساقي. فعصبتها: أي شددتها. فكأنما لم أشتكها: أي كأنها لم تتوجع قط. الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كدية)) نه: الكدية قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيه الفأس. و ((الذواق)) المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول من الذوق يقع على المصدر والاسم. و ((كثيباً أهيل)) أي رملاً سائلاً. قض: والمعنى أن الكدية التي عجزوا عن رضها صارت بضربة واحدة ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتل من رمل مصبوب سيال. والانكفاء: الانصراف والانقلاب. والخمص: بسكون الميم، الجوع، سمي بذلك لأن البطن تضمر به. قوله: ((ولنا بهمة)) مح: هي الصغيرة من أولاد الضأن ويطلق على الذكر والأنثى كالشاة. و ((الداجن)): ما ألف البيوت.

الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت: يا رسول الله؟ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعالى أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل الخندق! إن جابراً صنع سوراً فحي هلا بكم)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء)). وجاء، فأخرجت له عجيناً، فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ((ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها)) وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ في قوله: ((فساررته)) جواز المسارة بالحاجة بحضرة الجماعة، وإنما المنهي أن يتناجى اثنان دون الثالث. كما سبق. و ((السور)) بضم السين غير مهموز هو الطعام الذي يدعى إليه، وقيل: الطعام مطلقاً، وهي لفظة فارسية، وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بالألفاظ الفارسية وهو يدل على جوازه. وأما: ((حي هلا)) فهو بتنوين ((هلا)) وقيل: بلا تنوين على وزن ((علا)). ويقال: ((حيهل)) ومعناه عليكم بكذا أو أودعكم بكذا. والبرمة: القدر مطلقاً، وجمعها: برام، وهي في الأصل المتخذ من الحجر. قوله: ((فبصق)) ((مح)): هو بالصاد هكذا هو في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة. قوله: ((وقدحي من برمتكم)) تو: يقال: قدحت المرق أي غرفته، ومنه المقدح وهو المغرفة، سلك بالخطاب مسلك التلوين فخاطب به ربة البيت. أقول: لعل في نسخته: ((فلتخبز معي)) بالإضافة إلى ياء المتكلم كما هو في بعض نسخ المصابيح، فحمله على ما ذهب إليه. قال الشيخ محيي الدين: جاء في بعض الأصول: ((ادعي)) على خطاب المؤنث، وهو الصحيح الظاهر، ولهذا قال: " ((فلتخبز معك)) وفي بعضها ادعوا بالواو، أي اطلبوا، وفي بعضها: ادع- انتهى كلامه. ويعلم منه أن ((معي)) لم يرد بها رواية، وإذا ذهب إلى ((ادعي معك)) لم يكن من تلوين الخطاب في شيء.

5878 - وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق فجعل يمسح رأسه ويقول: ((بؤس ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)) رواه مسلم. 5879 - وعن سليمان بن صرد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلي الأحزاب ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((لتغط)) بكسر الغين المعجمة، أي يغلي ويسمع غليانه. وقوله: ((كما هي)) ما كافة وهي مصححة لدخول الكاف على الجملة، وهي مبتدأ والخبر محذوف، أي كما هي قبل ذلك. مح: قد تظاهرت الأحاديث بمثل هذا من تكثير الطعام القليل، ونبع الماء وتكثيرة، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف حتى صار مجموعها بمنزلة التواتر وحصل العلم القطعي وقد مع العلماء أعلاماً من دلائل النبوة في كتبهم كالقفال الشاشي، وصاحبه أبي عبد الله الحليمي، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم مما هو مشهور، وأحسنها كتاب البيهقي، ولله الحمد ما أنعم به على نبينا صلى الله عليه وسلم وعلينا بإكرامه. الحديث الحادي عشر عن أبي قتادة رضي الله عنه: قوله: ((حين يحفر الخندق)) حكاية الحال الماضية، وكذا ((يقول)). وقوله: ((تقتلك الفئة الباغية)) بيان لقوله: ((بؤس ابن سمية)) وكان من الظاهر أن يقال: تقتله، ولما كان المراد بهذا البؤس نفسه استقام ذلك. قض: البؤس الشدة. وسمية بالضم اسم أم عمار بن ياسر. والمعنى: يا بؤس عمار احضري هذا أوانك، نادي بؤسه وأراد نداءه، ولذلك خاطبه بقوله: ((ستقتلك الفئة الباغية)) يريد به معاوية وقومه، فإنه قتل يوم الصفين. واتسع في حذف ((يا)) وهي لا تحذف عن أسماء الأجناس. الحديث الثاني عشر عن سليمان بن صرد رضي الله عنه: قوله: ((أجلى الأحزاب)) وهم قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله تعالى النصر بأن أرسل عليهم ريح الصبا وجنود لم يروها وهم الملائكة، وقذف في قلوبهم الرعب، فقال طلحة بن خويلد الأسدي: النجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وهذا معنى الإجلاء.

عنه: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم)). رواه البخاري. 5880 - وعن عائشة، قالت: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: ((قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعته، اخرج إليهم)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأين)) فأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه. 5881 - وفي رواية للبخاري قال أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة. 5882 - وعن جابر، قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضأنا قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((الآن نغزوهم)) إخبار بأنه قلت شوكة المشركين من اليوم فلا يقصدوننا البتة بعد بل نحن نغزوهم، ونقتلهم وتكون عليهم دائرة السوء، وكان كما قال فكان معجزة. الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((موكب جبريل)) في صحيح البخاري وشرح السنة وأكثر نسخ المصابيح بدون ((من)) نصيباً على نزع الخافض، وفي بعضها بإثبات ((من)). نه: الموكب جماعة ركاب يسيرون برفق. الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((خمس عشرة مائة)) عدل عن الظاهر لاحتماله التجوز في الكثرة والقلة، وهذا يدل على أنه اجتهد فيه وغلب ظنه على هذا المقدار، وقول البزار في الحديث الذي يتلو هذا الحديث: ((كنا أربع عشرة مائة)) كان عن تحقيق، لما سبق في الفصل الثاني من باب قسمة الغنائم أن أهل الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة تحقيقاً، وقول من قال: هم ألف وخمسمائة وهم.

5883 - وعن البراء بن عزب، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة يوم الحديبية، - والحديبية بئر- فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، ثم قال: ((دعوها ساعة)) فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. رواه البخاري. 5884 - وعن عوف، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا فلاناً- كان يسميه أبو رجاء ونسبه عوف- ودعا عليا، فقال: ((اذهبا فابتغيا الماء)). فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطحيتين من ماء، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ في من أفواه المزادتين، ونودي في الناس: اسقوا. فاستقوا قال: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً، حتى روينا. فملأنا كل قربة معنا وإداوة، وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة منها حين ابتدأ. متفق عليه. 5885 - وعن جابر، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر والحديث السادس عشر عن عوف: قوله: ((كان يسميه أبو رجاء)) فاعل يسميه أبو رجاء، وضمير المفعول عائد إلى فلان، وكذا في قوله: ((نسبه)). قوله: ((مزادتين)) قض: المزادة الراوية وهي في الأصل لما يوضع فيه الزاد. والسطحية: نوع من المزادة يكون من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه. ((نه)) قوله: ((فاستنزلوها)) الضمير يجوز أن يرجع إلى المرأة أي: طلبوا منها أن تنزل عن البعير، وقيل: الضمير راجع إلى المزادة، يعني: أنزلوها، واستنزل وأنزل بمعنى. وقوله: ((عطاشاً)) حال. و ((أربعين)) بيان له. وقوله: ((وايم الله لقد أقلع عنها)) أي: وايمن الله قسمي لقد انكفت الجماعة عن تلك المزادة ورجعوا عنها، وإن الشأن والحديث ليشبه إلينا أن تلك المزادة كانت أكثر ماء من تلك الساعة التي استقوا منها. الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وادياً أفيح)) نه: كل موضع واسع يقال له: أفيح، وروضة فيحاء.

فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فلم ير شيئاً يستتر به، وإذا شجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أنه الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي علي بإذن الله)). فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما قال: ((التئما علي بإذن الله))، فالتأمتا فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا برسول الله مقبلا، وإذا الشجرتين قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، رواه مسلم. 5886 - وعن يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ قال: ضربة أصابتني يوم خيبر فقال ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((المخشوش)) هو الذي في أنفه الخشاش بالكسر، وهو عويد يجعل في أنفس البعير ليكون أسرع إلى الانقياد. و ((المنصف)) الموضع الوسط بين الموضعين. قوله: ((وإذا شجرتين)) بالنصب، كذا في صحيح مسلم وأكثر نسخ المصابيح، وفي بعضها ((شجرتان)) بالرفع وهو مغير، فتقدير النصب: فوجدت شجرتين نابتتين بشاطئ الوادي، وهو كمسألة: ((كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها)). قال شارح اللباب: إنما جوز الإتيان بالضمير المنصوب وهو ((إياها)) لأن المفاجأة تدل على الوجدان، ولفظ ((هو)) فصل وعماد، و ((إياها)) مفعول وجدت مضمراً، والمفعول الأول محذوف ناب ضمير الفصل والعماد عنه أي: ((وجدته إياها)) و ((إذا)) بمعنى وجدت. قوله: ((يصانع قائده)) تو: أي ينقاد له ويوافقه، والأصل في المصانعة الرشوة وهي أن تصنع لصاحبك شيئاً حتى يصنع لك شيئاً. قوله: ((انقادي علي)) أي لا تعصي علي، ونظيره قوله تعالى: {ما لك لا تأمنا على يوسف} أي: لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه. قوله: ((التئما علي بإذن الله)) على حال، أي اجتمعا مظلتين علي. قوله: ((فحانت مني التفاتة)) أي ظهرت مني التفاتة ونظرة، من حان إذا أتى وقت الشيء. واللفتة: فعلة من اللالتفات.

الناس: أصيب سلمة. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها. حتى الساعة. رواه البخاري. 5887 - وعن أنس قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله- يعني خالد بن الوليد- حتى فتح الله عليهم)). رواه البخاري. 5888 - وعن عباس، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي عباس! ناد أصحاب السمرة؛ فقال عباس- وكان رجلا صيتا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة)) فقال: والله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار؛ يا معشر الأنصار؛ قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم. فقال: هذا حين حمى ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عشر على الحديث العشرين عن عباس رضي الله عنه. قوله: ((إلى قتالهم)) متعلق بنظر، وفي الحديث كما في المصابيح اختصار مخل، لأن المذكور قبل: ((ولى المسلمون مدبرين)) فلابد من ذكر ما يستقيم به المعنى والحديث رواه مسلم عن العباس، وفيه بعد قوله: ((آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي عباس ناد أصحاب السمرة)) فقال العباس- وكان رجلاً صيتاً-: ((فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة)) قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: ((يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث من الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ......... الحديث)).

الوطيس. ثم أخذ حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: ((انهزموا ورب محمد)) فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبراً. رواه مسلم. 5889 - وعن أبي إسحاق، قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة؛ فررتم يوم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((هذا)) مبتدأ، والخبر محذوف. و ((حين)) مبني لأنه مضاف إلى ير متمكن متعلق باسم الإشارة، أي هذا القتال حين اشتد الحرب، وفيه معنى التعجب واستعظام الحرب، ونحوه تعلق الحال والتعجب في قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخاً} و {تلك القرى نقص عليك من أنبائها} تعجباً من حصول البشارة بالولد في حال الشيخوخة، أشير إلى تلك القرى في حالة اقتصاصنا عليك صفتها العجيبة الشأن لمزيد من التسلي وتثبيتاً لنفسك. نه: ((حمي الوطيس)) شبه التنور، وقيل: هو الضراب في الحرب، وقيل: هو الوطء الذي يطس الناس أي يدقهم. وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأها ولم يسمع هذا الكلام من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من فصيح الكلام عبر به عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق. انتهى كلامه. قوله: ((يا لبيك)) المنادي محذوف، أي: يا قوم، لقوله تعالى: {ألا يا اسجدوا} على وجه. قوله: ((ما هو إلا أن رماهم)) يعني ليس انهزامهم سوى رميهم بالحصيات وما كان بالقتال والضرب بالسيف والطعان. ويحتمل أن يكون الضمير عبارة عن لأمر والشأن، ويكون هو المستثنى منه. مح: فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما فعلية والأخرى خبرية، وهو أنه: أخبر بهزيمتهم، ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين. الحديث الحادي والعشرون عن أبي إسحاق:

حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح، فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بلغته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده، فنزل واستنصر وقال: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ثم صفهم. رواه مسلم. وللبخاري معناه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا والله)) مح: هذا الجواب لذي أجابه البراء من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام: فررتم كلكم، فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك فقال البراء: ((لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا)). فإن قلت: ذكر في الحديث السابق: ((ولى المسلمون مدبرين)) [وبعدوا بعداً صاح بهم العباس وكان صيتا] وفي هذا الحديث: ((فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) فكيف الجمع؟. قلت: أقدر قبل الفاء في قوله: ((فأقبلوا هناك)) جميع ما يتصل به من فرارهم وتصويت العباس لهم وإقبالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((فنزل واستنصر)) أي النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا واستكانة لله تعالى، وطلب النصرة منه تعالى لعلمه أن النصرة ليس إلا منه، وقد سبق في باب البيان والشعر كلام في أنه لم يقصد بكلامه ذلك الشعر. مح: فإن قيل: كيف نسب نفسه إلى جده دون أبيه وافتخر بذلك مع أن الافتخار من عمل الجاهلية؟. فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر لأن أباه قد توفي شبابا قبل اشتهاره، وكان جده مشهوراً شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد أهل مكة، وكان مشتهراً عندهم ان عبد المطلب بشر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيظهر ويكون شأنه عظيماً، وكان أخبره بذلك سيف بن ذي يزن. وقيل: إن عبد المطلب رأى رؤيا تدل على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مشهوراً عندهم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بذلك ونبئهم بأنه صلى الله عليه وسلم لابد من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة لهم لتقوى نفوسهم، وأعلمهم أيضاً أنه ثابت يلازم الحرب لم يول مع من ولى، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون. وأما قوله: ((أنا النبي لا كذب)) فمعناه: أنا النبي حقاً فلا أفر ولا أولي وفيه دليل على جواز قول الإنسان في الحرب أنا فلان أنا فلان، أو أنا ابن فلان، أو نحن ذلك.

5890 - وفي رواية لهما: قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه، يعني النبي صلى الله عليه ولسم. 5891 - وعن سلمة بن الأكوع، قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فولى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: ((شاهت الوجوه)) فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. رواه مسلم. 5892 - وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعى الإسلام: ((هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدث أنه من أهل الناس، قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به ـــــــــــــــــــــــــــــ واحمرار البأس: كناية عن اشتداد الحرب، فاستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة، أو لاستعار نار الحرب واشتعالها كما في الحديث السابق ((حمي الوطيس)). وفيه بيان لشجاعته وعظيم وثوقه بالله تعالى. وقوله: ((يحاذيه)) أي يوازيه، ويحاذي منكبه حذو منكبه. الحديث الثاني والعشرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. قوله: ((فلما غشوا)) أي الكفار، أي قاربوا الغشيان. وشاهت الوجوه: أي قبحت، يقال: شاه يشوه شوهاً، ورجل أشوه، وامرأة شوهاء. قوله: ((فما خلق)) الظاهر أن يقال: وما بقي منهم، فعدل عنه إلى ما هو عليه تأكيداً وتقريراً للحصر، وأن أحداً ما خلص من ذلك البتة. وفيه بيان معجزاته صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: إيصال تراب تلك القبضة اليسيرة إلى أعينهم جميعاً. وثانيهما: أنها بحيث ملأت عين كل واحد منهم من تلك القبضة اليسيرة وهم أربعة آلاف فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب. الحديث الثالث والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أرأيت الذي تحدث)) أي أخبرني عن حال من قلت في شأنه: إنه من أهل النار والحال أنه من أهل الجنة لأنه قاتل في سبيل الله تعالى أشد القتال، فرد عليه بقوله: ((أما إنه من أهل النار)) أي القول ما قلت وإن ظهر لك خلافة.

الجراح؛ فقال: ((أما إنه من أهل النار)) فكاد بعض الناس يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته، فانتزع سهماً فانتحر بها، فاشتد رجال المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله؛ صدق الله حديثك، قد انتحر فلان وقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)). رواه البخاري. 5893 - وعن عائشة، قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم عندي، دعا الله ودعاه، ثم قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فأهوى بيده إلى كنانته)) أي قصد ومال إلى جعبته. ويقال: انتحر الرجل إذا نحر نفسه، وفي المثل: سرق السارق فانتحر. فاستد: أي عدا قاصداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((الله أكبر)) يحتمل تعجباً وفرحاً لوقوع ما أخبر عنه فعظم الله حمداً وشكراً لتصديق قوله. وأن يكون كسراً للنفس وعجبها حتى لا يتوهم أنه من عنده، وينصره قوله: ((إني عبد الله)) وقوله: ((أذن يا بلال: لا يدخل الجنة إلا مؤمن)) تعريض بقول ذلك الرجل وتعريضه في قوله: ((وقد قاتل في سبيل الله من أشد القتال)) بأنه من أهل الجنة، كما سبق. مح: اسم الرجل ((قزمان)) قاله الخطيب البغدادي، وكان من المنافقين كذا في جامع الأصول. قوله: ((وإن الله ليؤيد))، أي إن الله تعالى ينصر هذا الدين ويقويه بالرجل الفاجر، فلا ترتابوا في هذا كما ارتبتم في ذلك لشدة عنايته بهذا الدين وصونه عن الزوال إلى يوم الدين. الحديث الرابع والعشرون عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله)) مح: قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لذلك وزعم أنه يحط من منزل النبوة، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع. وهذا الذي ادعاه باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقة وعصمته بما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بها فهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه، وقد قيل: إنه إنما كان يتخيل أنه وطئ زوجاته وليس يواطئ، وقد يتخيل للإنسان قبل هذا في المنام.

((أشعرت يا عائشة! أن الله قد أفتاني فيما استفتيته، جاءني رجلان، جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب: قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذوران)) فذهب النبي ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: إنه يتخيل إليه ما يخيل ولكن لم يعتقد صحته وكانت معتقداته على السداد والصحة. وقيل: ((ليخيل إليه)) أي يظهر له من نشاطه أنه قادر على إتيان النساء فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يتمكن من ذلك. وكل ما جاء من أنه تخيل شيئاً لم يفعله فمحمول على التخييل بالبصر لا بالعقل وليس فيه ما يطعن في الرسالة. مظ: وأما ما زعموا من دخول الضرر على الشرع بإثباته فليس كذلك، لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم وهم بشر يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا وابنه، وسم نبينا صلى الله عليه وسلم بخيبر، وأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله عز وجل وأرصدهم له، وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل. فإن قيل: كلام النبوة يمنع من حلول الاختلال بالسحر بجسم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لا يطول ذلك بل يزول سريعاً فكأنه ما حل، وفائدة الحلول تنبيه على أن هذا بشر مثلكم، وعلى أن السحر تأثيره حق إذا أثر في أكمل الإنسان فكيف بغيره؟ قوله: ((دعا الله ودعاه)) أي عقب دعاء بدعاء واستمر عليه، يدل على هذا التأويل الرواية الأخرى: ((ثم دعا ثم دعا)). مح: هذا دليل على استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة وتكريره وحسن الالتجاء إليه تعالى. و ((المضبوب)) المسحور، يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنوا بالطب عن السحر، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، وللسحر: طب، وهو من أعظم الأدواء. و ((المشاطة)) بضم الميم الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند تسريحه بالمشط. و ((الجب)) بضم الجيم والباء هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا، وفي بعضها: ((جف)) بالفاء وهما بمعنى، وهو وعاء طلع النخل، ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا أضاف في الحديث ((طلعة)) إلى ذكر إضافة بيان.

صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر. فقال: ((هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين)) فاستخرجه. متفق عليه. 5894 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ((ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل)) فقال عمر: ائذن لي أضرب عنقه. فقال: ((دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي كتاب مسلم: ((في بئر ذي أوران)): كذا وقع في بعض روايات البخاري وفي معظمهما ((ذوران)) وكلاهما صحيح مشهور، والأول أصح وأجود، وفي بئر في المدينة في بستان بني زريق. قوله: ((وكأن نخلها رءوس الشياطين)) تو: أراد بالنخل طلع النخل، وإنما أضافه إلى بئر لأنه كان مدفوناً فيها، وأما تشبيهه ذلك برءوس الشياطين فلما صادقوه عليه من الوحشة وقبح المنظر، وكانت العرب تعد رءوس الشياطين من أقبح المناظر ذهاباً في الصورة إلى ما يقتضيه المعنى. وقيل: أريد بالشياطين الحيات الخبيثان العرمات، وأيا ما كان فإن الإتيان بهذا المنظر في الحديث مسوق على نص الكتاب في التمثيل، قال الله تعالى: {كأنه رءوس الشياطين}. الحديث الخامس والعشرون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((قسماً)) تو: القسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، سمي الشيء المقسوم وهو الغنيمة بالمصدر. والقسم: بالكسر الحظ والنصيب، ولا وجه للمكسور في الحديث لأنه يختص إذا تفرد نصيب وهذا القسم كان في غنائم خيبر قسمها بالجعرانة. و ((خبت وخسرت)) على ضمير المخاطب لا على ضمير المتكلم، وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم العدل منه، لأن الله تعالى بعثه رحمة للعالمين وبعثه ليقوم بالعدل فيهم، فإذا قدر أنه لم يعدل فقد خاب المعترف بأنه مبعوث إليهم فخاب وخسر لأن الله لا يحب الخائنين فضلاً من أن يرسلهم إلى عباده. قوله: ((فقال: دعه)) حس: كيف منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله مع أنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم؟.

صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله، إلا رصافه إلى نضيه وهو قدحه، إلى قذذه فلا يوجد في شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على خير فرقة من الناس)). قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته. وفي رواية: أقبل رجل غائر العينين، نأتي الجبهة، كث اللحية، مشرف الوجنتين محلوق الرأس، فقال: يا محمد! اتق الله. فقال: ((فمن يطع الله إذا عصيته؟ فيأمنني ـــــــــــــــــــــــــــــ قيل: إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا الناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نجم ذلك في زمن علي رضي الله عنه، وقاتلهم حتى قتل كثيراً منهم. قوله: ((لا يجاوز تراقيهم)) حس: أي لا تتجاوز قراءتهم عن ألسنتهم إلى قلوبهم فلا يؤثر فيها، أو لا يتصاعد عن مخرج الحرف وحيز الصوت إلى محل القبول والإنابة. و ((يمرقون من الدين)) أي: يخرجون من الدين، ويمرون عليه سريعاً من غير حظ وانتفاع به، خروج السهم من الرمية، يعني: الصيد ومروره بجميع أجزائه وتنزهه من التلوث بما يمر عليه من فرث ودم. و ((الرصاف)) بالضم والكسر عصب يلوي فوق مدخل النصل، والرصافة والرصفة. ونضى السهم قدحه وهو ما جاوز الريش إلى النصل، م النضو لأنه بري حتى صار نضوا فهو مجاز باعتبار ما كان. والقذذ: ريش السهم واحده قذذه. أخرج متعلقات الفعل على سبيل التعداد لا التنسيق. وقوله: ((إلى قذذه)) من كلام الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ((وهو قدحه)) تفسير للنضى من قول الراوي. قوله: ((البضعة)) هي قطعة اللحم. و ((تدردر)) أي تحرك وتزحزح ماراً وجائياً.

الله على أهل الأرض ولا تأمنوني)) فسأل رجل قتله، فمنعه، فلما ولى قال: ((إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، فيقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)). متفق عليه. 5895 - وعن أبي هريرة، قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال: ((اللهم اهد أم أبي هريرة)). فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صرت إلى الباب فاذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خصخصة الماء، فاغتسلت فلبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، فحمد الله وقال خيراً رواه مسلم. 5896 - وعنه، قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن من ضئضئ هذا)) نه: الضئضئ الصل، يقال: ضئضئ صدق وضؤضؤ صدق، يريد أن يخرج من نسله وعقبه، ((تو)) وأما من ذهب إلى أنهم يتولدون منه فقد أبعد، إذ لم يذكر في الخوارج قوم من نسل ذي الخويصرة، ثم إن الزمان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إلى أن نابذ المارقة عليا رضي الله عنه وحاربوه لا يحتمل ذلك، بل معناه من الأصل الذي هو منه في النسب أو من الأصل الذي هو عليه في المذهب. وأراد بقتل عاد: الاسئصال بالإهلاك، فإن عاداً لم تقتل وإنما أهلكت بالصيحة فاستؤصلت بالإهلاك. الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مجاف)) نه: أجاف الباب، أي: رده عليه، ومنه الحديث: ((أجيفوا أبوابكم)) أي ردوها.

ملء بطني وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: ((لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً أبداً)). فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. ثم جمعتها إلى صدري، فو الذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته ذلك إلى يومي هذا. متفق عليه. 5897 - وعن جرير بن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تريحني من ذي الخلصة؟)). فقلت: بلى، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: ((اللهم ثبته واجعله هادياً مهديا)). قال: فما وقعت عن فرسي بعد، فانطلق في مائة وخمسين فارساً من أحمس فحرقها بالنار وكسرها. متفق عليه. 5898 - وعن أنس، قال: إن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. ((إن الأرض لا تقبله)). فأخبرني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها فوجده منبوذاً فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: دفناه مراراً فلم تقبله الأرض. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الخشف)) الحس والحركة، وقيل: هو الصوت، وكذلك الخشفة بالسكون. و ((الخضخضة)) تحريك الماء. وقوله: ((وعجلت عن خمارها)) أي عجلت الفتح متجاوزة عن خمارها. وقوله: ((قال خيراً)) أي قولا خيراً، أو ذكر كلاماً متضمناً للخير. الحديث السابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((والله الموعد)) يعني لقاء الله الموعد، يعني به يوم القيامة، فهو يحاسبني على ما أزيد وأنقص لاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده منالنار)). قوله: ((الصفق بالأسواق)) هو كناية عن العقود في البيع والشرى، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارات، كما أن الأنصار كانوا أرباب زراعات. وأموال أهل المدينة المواضع التي فيها نخيلهم. وقوله: ((على ملء بطني)) حال، أي ألزمه صلى الله عليه وسلم قانعاً بما يملأ بطني، فعداه بعلى مبالغة، وفي معناه قول الشاعر:

5899 - وعن أبي أيوب، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: ((يهود تعذب في قبورها)). متفق عليه. 5900 - وعن جابر، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت هذه الريح لموت منافق)). فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات رواه مسلم. 5901 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا عسفان، فأقام بها ليالي، فقال الناس: ما نحن هاهنا في شيء، وإن عيالنا لخلوف ما نأمن عليهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((والذي نفسي بيده ما في المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها)). ثم قال: ((ارتحلوا)) فارتحلنا وأقبلنا إلى المدينة، فو الذي يحلف به ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان وما يهيجهم قبل ذلك شيء. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فإن ملكت [كفاف] قوت فكن به قنيعاً فإن المتقي الله قانع قوله: ((فينسي)) جواب النفي على تقدير أن، فيكون عدم النسيان سبباً عن المذكورات كلها، وأوثرت ((لن)) النافية دلالة على أن النسيان بعد ذلك كالمحال، فقوله: ((مقالتي هذه)) كأنه إشارة إلى دعاء دعاه حينئذ وقوله ((من مقالتي شيئاً)) إشارة إلى جنس المقالات كلها وقوله ((ذلك)) إشارة إلى الجنس باعتبار المذكور. و ((النمرة)) شلمة مخططة من مآزر الأعراب، وجمعها ((نمار)) كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. الحديث الثامن والعشرون عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((من ذي الخلصة)) ذو الخلصة بيت لخثعم كان يدعي: ((كعبة اليمامة)) والخلصة اسم طاغيتهم التي كانت فيه. شف: فيه ((إيماء إلى أن النفوس الزكية الكاملة المكملة قد يلحقها العناء مما هو على خلاف ما ينبغي من عبادة غير الله تعالى وغيرها مما لايجوز. قوله: ((من أحمس)) نه: هم قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا، والحماسة الشجاعة. وقوله: ((فانطلق)) هو من كلام الراوي، وقيل: هو كلام جرير نفسه ففيه التفات.

5902 - وعن أنس، قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا. فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي- أو غيره- فقال: يا رسول الله! تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم حالينا ولا علينا)). فما يشير إلى ناحية من السحاب إلى انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهراً، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع والعشرون والحديث الثلاثون عن أبي أيوب رضي الله عنه: قوله: ((وجبت)) أي غربت، وأصله من السقوط، قال تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت. الحديث الحادي والثلاثون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((قرب المدينة)) نصب على انتزاع الخافض والخبر متعلقه. قوله: ((تكاد أن تدفن)) قال المالكي: وقع خبر كاد مقروناً بأن وهو صحيح، لكن وقوعه غير مقرون بأن أكثر وأشهر، ولذلك لم يقع في القرآن إلا غير مقرون بها، والسبب المانع من الاقتران في باب المقاربة هو دلالة الفعل على الشروع كطفق وجعل فإن ((أن)) تقتضي الاستقبال، وفعل الشروع يقتضي الحال فتنافيا، وما لا يدل على الشروع كعسى وأوشك وكرب وكاد فمقتضاه مستقبل فاقتران خبره بأن مؤكد لمقتضاه، فإذا انضم إلى هذا التعليل استعمال فصيح ونقل صحيح كما في الحديث المذكور وغيره من قول أنس: ((فما كدنا أن نصل إلى منازلنا)) وبعض الصحابة: ((والبرمة: بين الأثافي قد كادت أن تنضج)) وقول خبير: ((كاد قلبي أن يطير)) تأكد الدليل على الجواز ولم يوجد لمخالفته سبيل، وقد اجتمع الوجهان في قول عمر رضي الله عنه: ((ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب)). الحديث الثاني والثلاثون عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((لخلوف)) نه: يقال: حي خلوف إذا غاب الرجال وأقام النساء، ويطلق على المقيمين والظاعنين.

وفي رواية قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر)). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس. متفق عليه. 5903 - وعن جابر، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه، صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال: ((بكت على ما كانت تسمع من الذكر)). رواه البخاري. 5904 - وعن سلمة بن الأكوع، أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: ((كل بيمينك))، قال لا أستطيع. قال: ((لا استطعت)). ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا عليه)) أي على كل واحد من الشعب والنقب. و ((يحرسانها)) الضمير راجع إلى المدينة، والمراد شعبها ونقبها. الحديث الثالث والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قزعة أي قطعة من السحاب. ((نه)) قوله: ((يتحادر أي ينزل ويقطر وهو تفاعل من الحدور ضد الصعود، يتعدى ولا يتعدى. و ((الجوبة)) الحفرة المستديرة الواسعة، وكل سقف بلا بناء جوبة، أي صار السحاب والغيم محيطاً بآفاق المدينة. قوله: ((حوالينا)) حوله وحواله وحوليه وحواليه بمعنى، وإنما أوثر حوالينا لمراعاة الازدواج مع قوله: ((علينا)) نحو قوله تعالى {وجئتك من سبأ بنبأ يقين}. ((ولا علينا)) عطف جملة على جملة، أي: أمطر حوالينا ولا تمطر علينا، ولو لم يكن بالواو لكان حالا، أي أمطر على المزارع ولا تمطر على الأبنية، وأدمج في قوله: ((ولا علينا)) معنى المضرة، كأنه قيل: اجعل لنا لا علينا. قوله: ((فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت)) وفي أصل المالكي: ((فما جعل يشير

5905 - وعن أنس، أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة بطيئاً، وكان يقطف، فلما رجع قال: ((وجدنا فرسكم هذا بحراً)). فكان بعد ذلك لا يجاري. وفي رواية: فما سبق بعد ذلك اليوم. رواه البخاري. 5906 - وعن جابر قال: توفي أبي وعليه دين، فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقتل: قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك ديناً كثيراً، وإني أحب أن يراك الغرماء، فقال لي: ((اذهب فبيدر كل تمر على ناحية ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه كأنهم أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدراً ثلاث مرات ثم جلس عليه، ثم قال: ((ادع لي أصحابك)). فما زال يكيل لهم حتى أدى الله عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدين ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها، وحتى إني أنظر ـــــــــــــــــــــــــــــ بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت)) وهذا أنسب لأن الناحية إنما تنسب إلى السماء وهي التي تنكشف عن السحاب. الجوهري: والفرج في قول أبي ذؤيب: وللشر بعد القارعات فروج أي تفرج وانكشاف. وقال المالكي: وفي ((فما جعل يشير)) غرابة لأن أفعال الشروع إن صحبها نفي كان مع خبرها نحو جعلت لا ألهو، وقد ندر في هذا الحديث دخول فاء على جعل، وسهل ذلك أن معنى ما جعل يفعل وجعل لا يفعل واحد. قوله: ((قناة شهرا)) نصب على الحال أو المصدر على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه أي: مثل القناة، أو: سيلان القناة في الدوام والاستمرار والقوة والمقدار. نه: الجواد المطر الواسع الغزير، يقال: جادهم المطر يجودهم جوداً. و ((الآكام)) جمع أكم، والأكم جمع إكام، والإكام جمع أكمة وهي الرابية. و ((الظراب)) الجبال الصغار واحدها ظرب بوزن كتف، وقد يجمع في القلة على أظرب. وأقلع المطر: إذا كف وانقطع، وأقلعت عنه الحمى إذا فارقته- انتهى كلامه والضمير فيه للسحاب فإنها جمع سحابة.

إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص ثمرة واحدة. رواه البخاري. 5907 - وعنه، قال: إن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمناً، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيئ فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمناً، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((عصرتيها؟)). قالت: نعم. قال: ((تركتيها ما زال قائماً)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: فيه استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به، لكن لا يشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء. الحديث الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: قوله: ((أن رجلاً)) تو: الرجل يقال له: ((بشر بن راعي العير)) وقيل: ((بسر)) السير المهملة وهو من أشجع. قوله: ((ما منعه إلا الكبر)) هو قول الراوي ورد استئنافاً لبيان موجب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان قائلاً قال: لم دعا عليه بـ ((لا استطعت)) وهو رحمة للعالمين؟ فأجيب بأن ما منعه عن الأكل باليمين العجز بل منعه الكبر. وقريب منه أو مثله في الإجابة ما رويناه في موطأ الإمام مالك عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار ومعي صاحب يرعى لنا وعليه بردان قد خلقا فنظر إليه فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما له ثوبان غير هذين؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فمره يلبسهما، فلبسهما، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس هذا خيراً؟ ضرب الله عنقه)) فقال الرجل: في سبيل الله يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في سبيل الله)) فقتل الرجل في سبيل الله. الحديث السادس والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((كان يقطف)) أي يقارب خطاه. فا: القطاف بوزن الخراف مقاربة الخطا والإبطاء، من القطف وهو القطع لأن سيره يجيء مقطعاً غير مطرد، ونقيضه الوساعة. قوله: ((بحراً)) هو المفعول الثاني لوجدنا، شبه الفرس بالبحر في سعة خطوه وسرعة جريه. الحديث السابع والثلاثون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فبيدر)) أمر بجمع كل تمر في بيدره، من قولهم: بيدر. قال في المغرب: البيدر الموضع الذي يداس فيه الطعام. قوله: ((أغروا بي)) أي لجوا في مطالبتي وألحوا، كأن دواعيهم حملتهم على الإغراء بي والاسم الغراء بالفتح والمد، وأغريت الكلب بالصيد، وأغريت بنيهم والاسم الغراة.

5908 - وعن أنس، قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولائتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسلك أبو طلحة؟)). قلت: نعم. قال: ((بطعام؟)) قلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: ((قوموا)). فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم: قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ والضمير في: ((أعظمها)) راجع إلى البيادر. و ((بيدراً)) تمييز. قوله: ((أمانته)) تو: يريد دينه لأنه ائتمن على أدائه، قال الله تعالى: {وتخونوا أماناتكم} أي ما ائتمنتم عليه. وقوله: ((حتى إني أنظر)) حتى هاهنا هي الداخل ما بعدها في ما قبلها، وهي عاطفة على مقدر جمع أولا في قوله: ((فسلم الله البيادر كلها)) ثم فصلها بقوله: حتى كذا وحتى كذا. الحديث الثامن والثلاثون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((في عكة لها)) نه: هي وعاء من جلد مستدير ويختص بالسمن والعسل وهو بالسمن أخص. قوله: ((يقيم لها)) أي العكة ذكرها باعتبار الظرف. وقوله: ((فأتت النبي صلى الله عليه وسلم)) أي فأتت وشكت انقطاع إدام بيتها من العكة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عصرتيها)) والياء فيها وفي ((تركتيها)) لإشباع الكسرة. الحديث التاسع والثلاثون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثم دسته)) نه: يقال: دسه يدسه دساً إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة. وقوله: ((ولا ثتني)) قض: يعني عممتني أو لففتني، من اللوث وهو اللف، وهو لف الشيء بالشيء وإدارته عليه، ومنه لاث به الناس إذا استداروا حوله.

فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلمي يا أم سليم! ما عندك)) فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، قم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا. ثم قال ((ائذن لعشرة)) فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((سؤراً)) تو: هو بالهمزة أي بقية. فإن قيل: كيف تستقيم هذه الروايات من صحابي واحد، ففي إحداها يقول: ((وترك سؤراً)) وفي الأخرى يقول: 00فجعلت أنظر هل نقص من شيء؟)) وفي الثالثة يقول: ((ثم أخذ ما بقى فجمعه ... الحديث))؟. قلنا: وجه التوفيق فيهن هين بين وهو أن نقول: إنما قال: ((وترك سؤراً))، باعتبار أنهم كانوا يتناولون منه فما فضل منهم سماه سؤراً وإن كان بحيث يحسب أنه لم ينقص منه شيء، وأراد بذلك ما فضل عنهم بعد أن فرغوا منه. وقيل: أخبر في الأولى أنه دعا فيه بالبركة، وفي الثانية يحكيه على ما وجده عليه بعد الدعاء وعوده إلى المقدار الذي كان عليه قبل التناول، والثالثة لا التباس فيها على ما ذكرناه. قوله: ((الله ورسوله أعلم)) مح: فيه منقبة عظيمة لأم سليم ودلالة على عظم دينها ورجحان عقلها، تعني أنه صلى الله عليه وسلم قد عرف قدر الطعام فهو أعلم بالمصلحة ولو لم يعلم المصلحة لم يفعلها. وإنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم، فإن القصعة التي فيها الطعام لا يتحلق عليه أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم. وقوله: ((فأذمته)) أي جعلت باق العكة إداماً للمفتوت. الحديث الأربعون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثلاثمائة)) منصوب على أنه خبر لكان المقدر. و ((زهاء ثلاثمائة)) أي قدر ثلاثمائة من زهوت القوم إذا حزرتهم. الحديث الحادي والأربعون عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

وفي رواية لمسلم أنه قال: ((ائذن لعشرة)) فدخلوا فقال: ((كلوا وسموا الله)) فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وترك سؤراً. وفي رواية البخاري، قال: ((أدخل علي عشرة)) حتى عد أربعين، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر هل نقص منها شيء؟ وفي رواية لمسلم: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان. فقال: ((دونكم هذا)). 5909 - وعنه، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وأنتم تعدونها تخويفاً)) هو من قوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} والآيات إما أن يراد بها المعجزات أو آيات الكتاب المنزلة، وكلتاهما بالنسبة إلى المؤمن الموافق بركات وازدياد في إيمانه، وبالنسبة إلى المخالف المعاند إنذار وتخويف، يعن لا نرسلها إلا تخويفاً من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له. وفيه مدح للصحابة الذين سعدوا بصحبة خير البشر ولزموا طريقته، وذم لمن عدل عن الطريق المستقيم. وإنما طلب فضله من الماء كيلا يظن أنه صلى الله عليه وسلم موجد للماء، فإن الإيجاد إليه سبحانه وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((والبركة من الله)) أي أن هذا الذي رأيتم من زيادة الماء أيضاً ليس مني، إنما هو بركة من الله تعالى وفضله. مح: في كيفية هذا النبع وجهان حكاهما القاضي وغيره. أحدهما: أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه وينبع من ذاتها، وهو قول المزني وأكثر العلماء، وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر، ويؤيده ما جاء في رواية: ((فرأيت الماء ينبع من أصابعه)). وثانيهما: أنه تعالى أكثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه. قوله: ((حي على الطهور)) تو: يريد هلم وأقبل عليه، فتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، والعرب تقول: حي على الثريد وهو كفعل الأمر. الحديث الثاني والأربعون عن أبي قتادة رضي الله عنه:

5910 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً. كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقل الماء. فقال: ((اطلبوا فضلة من ماء)) فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ((حي على الطهور المبارك، والبركة من الله)) ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. رواه البخاري. 5911 - وعن أبي قتادة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غداً)) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل فمال عن الطريق، فوضع رأسه، ثم قال: ((احفظوا علينا صلاتنا)) فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، ثم قال: ((اركبوا)) فركبنا. فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وضوء دون وضوء. قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لا يلوي أحد على أحد)) أي لا يلتفت ولا يعطف عليه، ولا يصرف همه إليه، بل يمشي كل واحد على حدته من غير أن يراعي الصحبة لاهتمامه بطلب الماء. و ((إبهار الليل)) أي انتصف، وبهرة كل شيء وسطه. وقيل: ابهار الليل إذا طلعت نجومه واستنارت. قوله: ((بميضأة)) فا: هي على مفعلة ومفعالة، وميضأة مطهرة كبيرة يتوضأ منها. قوله: ((دون وضوء)) أي دون وضوء كامل، أي وضوء خفيفاً لقلة الماء. قوله: ((فلم يعد أن رأى الناس)) لم يضبط الشيخ محيي الدين هذه اللفظة، وفي أكثر نسخ المصابيح وقعت بفتح الياء والسكون العين وضم الدال، وإثبات الفاء في قوله: ((فتكابوا)) وليس في صحيح مسلم ولا شرحه الفاء. و ((أن رأى الناس)) يحتمل أن يكون فاعلاً أي لم تتجاوز رؤية الناس الماء أكبأتهم فتكابوا وأن يكون مفعولاً أي لم يتجاوز السقى أو الصب رؤية الناس الماء في تلك الحالة وهي كبهم عليه. قوله: ((فتكابوا عليها)) أي ازدحموا على الميضأة مكباً بعضهم على بعض. قوله: ((أحسنوا الملأ)) فا: الملأ حسن الخلق، وقيل: للخلق الحسن ملأ لأنه أكرم ما فيه الرجل وأفضله، من قولهم لكرام القوم ووجوههم: ملاء.

وبقي فيها شيء من ماء. ثم قال: ((احفظ علينا ميضأتك؛ فسيكون لها نبأ)) ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا وعطشنا، فقال: ((لا هلك عليكم)) ودعا بالميضأة فجعل يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحسنوا الملأ، كلكم سيروي)) قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب فقال لي: ((اشرب)) فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله! فقال: ((إن ساقي القوم آخرهم)) قال: فشربت وشرب، قال: فأتى الناس الماء جامين رواء. رواه مسلم هكذا في ((صحيحه))، وكذا في ((كتاب الحميدي)). و ((جامع الأصول)). وزاد في ((المصابيح)) بعد قوله: ((آخرهم)) لفظة: ((شرباً)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قال المازني عن أبي عبيدة: يقال لكرام القوم ملأ، ثم يقولون: ما أحسن ملأه أي خلقه، وإنما قيل للكرام: ملأ، لأنهم يتمالئون، أي يتعاونون. قوله: ((فأتى الناس الماء)) الفاء سببية، أي فحصل للناس عن آخرهم مما جرى ما راموا من الري مستريحين. تو: ((جامين)) أي مستريحين، قد ذهب عنهم إعياؤهم، من الجمام بالفتح وهو الراحة، وأكثر ما يستعمل ذلك في الفرس. و ((رواء)) بالكسر جمع راو وهو الذي روى من الماء. الحديث الثالث والأربعون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((خذوا في أوعيتكم)) أي صبوا في أوعيتكم آخذين، أو: خذوا صابين في أوعيتكم. وقوله: ((بهما)) يجوز أن تكون الباء فيه سببية أو استعانة أو حالا، وقد جيء بالجملة استطراداً بالشهادتين واستبشاراً للأمة. حسن: احتج البخاري في النهد في الطعام وفي جواز قسم ما يكال ويوزن مجازفة وقبضة قبضة بهذا الحديث. قوله: ((غير شاك)) مرفوع صفة ((عبد)). وقوله: ((فيحجب)) مرفوع عطفاً على الجملة السابقة، والنفي منصب عليهما معاً.

5912 - وعن أبي هريرة، قال: لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة. فقال عمر: يا رسول الله! ادعهم بفضل أزودهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة. فقال: ((نعم)). فدعا بنطع، فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال ((خذوا في أوعيتكم)) فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والأربعون والخامس والأربعون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وأنا علي ناضح)) نه: الناضح الإبل التي يستقى عليها، والجمع النواضح ويجمع أيضاً على ((نضاح)). وفقار الظهر: خرزاته، الواحدة فقارة. قوله: ((قدامها)) بدل أو بيان لقوله: ((بين يدي الإبل)) وهو ظرف لقوله: ((فما زال)) ويجوز أن يكوف ظرفاً ليسير، ويسير خبره، واسمه عائد إلى ناضح. الحديث السادس والأربعون عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: قوله: ((وادي القرى)) تو: وادي القرى لا يعرب الياء من الوادي فإن الكلمتين جعلتا اسماً واحداً. وجبلا طيء أحدهما سلمى، والآخر أجأ على فعل بالتحريك وهما بأرض نجد. الحديث السابع والأربعون عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((يسمى فيها القيراط)) أي يذكر، قض: أي يكثر أهلها ذكر القراريط في معاملاتهم لتشددهم فيها وقلة مروءتهم، وأنشد جار الله لبعض البدويات: عريض القفا ميزانه في شماله قد انحصر في حسب القراريط شاربه وقيل: القراريط كلمة يذكرها أهلها في المسابة. ومعنى الحديث: أن القوم لهم دناءة وخسة، أو في لسانهم بذاء وفحش، فإذا استوليتم عليهم وتمكنتم منهم فأحسنوا إليهم بالصفح والعفو عما تنكرون، ولا يحملنكم سوء أفعالهم.

5913 - وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب، فعمدت أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور فقالت: يا أنس! اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت، فقال: ((ضعه)) ثم قال: ((اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً)) رجالاً سماهم ((وادع من لقيت)) فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم. قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. متفق عليه. 5914 - وعن جابر، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح قد أعيي، فلا يكاد يسير فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لبعيرك؟)) قلت: قد عيي، فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره فدعا له، فمازال بين يدي الإبل قدامها يسير فقال لي: ـــــــــــــــــــــــــــــ وأقوالهم على الإساءة فإن لهم ذمة ورحماً، وذلك لأن هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومارية أم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ابن النبي صلى الله عليه وسلم كانتا من القبط. قوله: ((يختصمان في موضع لبنة)) لعله صلى الله عليه وسلم علم من طريق الوحي والمكاشفة أنه ستحدث هذه الحادثة في مصر، وسيكون عقيب ذلك فتن وشرور لخروج المصريين على عثمان رضي الله عنه أولاً، وقتلهم محمد بن أبي بكر ثانياً، فجعل ذلك علامة وأمارة لتلك الفتن وأمره بالخروج منها حينما رآه، وعلم أن في طباع سكانها خسة ومماكسة كما دل عليه صدر الحديث، فإذا اقتضت الحال إلى أن يتخاصموا في مثل هذا المحقر فينبغي أن يتحرز عن مخالطتهم ويتجنب عن مساكنتهم. الحديث الثامن والأربعون عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((في أصحابي)) تو: صحبة النبي صلى الله عليه وسلم المعتد بها هي المقرونة بالإيمان، ولا يصح أن تطلق إلا على من صدق في إيمانه وظهر منه أمارته دون من أغمض عليهم بالنفاق وإضافتها إليهم لا تجوز إلا على المجاز لتشبههم بالصحابة وتسترهم بالكلمة وإدخالهم أنفسهم في ـــــــــــــــــــــــــــــ ((كيف ترى بعيرك؟)) قلت: بخير، قد أصابته بركتك. قال: ((أفتبيعنيه بوقية؟)) فبعته على أن لي فقار ظهره إلى المدينة. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه ورده علي. متفق عليه. 5915 - وعن أبي حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اخرصوها)) فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم

عشرة أوسق وقال: ((أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله)) وانطلقنا، حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستهب عليكم الليلة ريح شديدة)) فلا يقم فيها أحد، فمن كان له بعير فليشد عقاله)) فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها ((كم بلغ ثمرها؟)) فقالت: عشرة أوسق. متفق عليه. 5916 - وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لها ذمة ورحماً- أو قال: ذمة وصهراً- فإذا رأيتم رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها)). قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ غمارها ولهذا قال: ((في أصحابي)) ولم يقل: من أصحابي، وذلك مثل قولنا: إبليس كان في الملائكة، أي في زمرتهم، ولا يصح أن يقال: كان من الملائكة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {كان من الجن} وقد أسر هذا القول إلى خاصته وذوي المنزلة من أصحابه أمر هذه الفئة المشئومة المتلبسة لئلا يقبلوا منهم الإيمان، ولا يأمنوا من قبلهم المكر والخداع، ولم يكن يخفى على المحفوظين شأنهم لاشتهارهم بذلك في الصحابة إلا أنهم كانوا لا يواجهونهم بصريح المقال أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حذيفة أعلمهم بأسمائهم، وذلك لأنه كان ليلة العقبة مع النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك حين هموا بقتله، ولم يكن على العقبة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار يقود وحذيفة يسوق به، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نادى أن: ((خذوا بطن

5917 - وعن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في أصحابي- وفي رواية قال: في أمتي- اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة: سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى تنجم في صدورهم)). رواه مسلم. وسنذكر حديث سهل بن سعد: ((لأعطين هذه الراية غداً)) في (باب مناقب علي)) [رضي الله عنه]. وحديث جابر ((من يصعد الثنية)) في ((باب جامع المناقب)) إن شاء الله تعالى. ـــــــــــــــــــــــــــــ الوادي فإنه أوسع لكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الثنية)) فلما سمع المنافقون طمعوا في المكر به فاتبعوه متلثمين وهم اثنا عشر رجلا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خشفة القوم من روائه فأمر حذيفة أن يردهم، فاستقبل حذيفة وجوه رواحلهم بمحجن كان معه فضربها ضرباً فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، فانقلبوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، فأدرك حذيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لحذيفة: هل عرفت منهم أحداً؟ قال: لا فإنهم كانوا متلثمين ولكن أعرف رواحلهم، فقال: لحذيفة: هل عرفت منهم أحداً؟ قال: لا فإنهم كانوا متلثمين ولكن أعرف رواحلهم، فقال: إن الله تعالى أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله عند الصباح، فمن ثمة كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، وقد ذكر عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر فتات اثنان ومات اثنا عشر رجلاً على النفاق على ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد اطلعت على أسمائهم في كتاب حفاظ الحديث مروية عن حذيفة، غير أني وجدت في بعضها اختلافاً فلم أر أن أخاطر بديني فيما لا ضرورة لي. قوله: ((تكفيهم الدبيلة)) قض: الدبيلة في الأصل تصغير الدبل وهي الداهية، فأطلقت على قرحة رديئة تحدث في باطن الإنسان. ويقال لها: الدبلة بالفتح والضم. وفسرها في الحديث بنار تخرج في أكتافهم. ((حتى تنجم)) أي تظهر، من نجم ينجم بالضم إذا طلع وظهر، ولعله أراد بها ورماً حاراً يحدث في أكتافهم بحيث يظهر أثر تلك الحرارة وشدة لهبها في صدورهم ممثلة بسراج من نار وهو شعلة المصباح. وقد روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه إياهم، وأنهم هلكوا كما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم.

الفصل الثاني 5918 - عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإن أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله. فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. فقال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت. رواه الترمذي. [5918] ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((فلما أشرفوا)) مظ: أي اطلعوا عليه ووصلوا إليه نزلوا، واسم ذلك الراهب كان ((بحيراً)) وكان أعلم النصراينة، والموضع الذي كان فيه هو: ((بصري)) من بلاد الشام. ((فجعل يتخللهم)) أي أخذ يمشي بين القوم. قوله: ((مثل التفاحة)) يروى بالضم والنصب، الضم على أنه خبر مبتدأ محذوف، والنصب على إضمار الفعل، ويجوز الجر على البدل لا الصفة لأن مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة إلى المعرفة. قوله: ((عليه)) حال أي مال ظله عليه. وقوله: ((أيكم وليه؟)) متعلقة محذوف، هو جواب للاستعطاف، أي: لتنبئن أيكم وليه؟ وبطل عمل الفعل للتعليق الاستفهامي.

5919 - وعن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي. والدارمي [5919]. 5920 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه، فقال: له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ قال: فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال: فارفض عرقاً. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [5920]. 5921 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، فشد به البراق)). رواه الترمذي [5921]. 5922 - وعن يعلي بن مرة الثقفي، قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلما رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((بعنيه)) فقال: بل نهبه لك يا رسول الله! وإنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره. قال: أما إذ ذكرت هذا ـــــــــــــــــــــــــــــ فلم يزل يناشده: أي الراهب يقول لأبي طالب: بالله عليك ن ترد محمداً إلى مكة وتحفظه من العدو، حتى رده إلى مكة. قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم فيقتله الروم. و ((الكعك)) الخبز، وهو فارسي معرب. و ((ما علمك)) سؤال عن وصف العلم، أي بين لنا كيفية عملك به. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فاستصعب عليه)) تو: يريد أنه لم يمكنه من الركوب، يقال: استصعب عليه الأمر أي صعب. ووجدنا الرواية في ((أكرم)) بالنصب فلعل التقدير، فما ركبك أحد كان أكرم على الله منه. و ((فارفض عرفاً)) أي فاض، وارفضاض الدمع ترششها، وكل ذاهب متفرق مرفض. الحديث الرابع عن بريدة رضي الله عنه:

من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلق، فأحسنوا إليه، ثم سرنا حتى نزلنا منزلا، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له. فقال: ((هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول صلى الله عليه وسلم، فأذن لها)). قال: ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره ثم قال: ((اخرج فإني محمد رسول الله)). ثم سرنا فلما رجعنا مررنا بذلك الماء فسألها عن الصبي، فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريباً بعدك. رواه في ((شرح السنة)) [5922]. 5923 - وعن ابن عباس، قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنون، وإنه ليأخذ عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى. رواه الدارمي. [5923]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: (فخرج به الحجر)) فإن قلت: كيف الجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس: ((فربطه بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء))؟. قلت: لعل المراد من الحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة وقد انسد فخرقه جبريل عليه السلام. الحديث الخامس عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه: قوله: ((يسني عليه)) قض: يعني يستسقي عليه من سنت الناقة الأرض تسنوا إذا سقتها. و ((الجرجرة)) صوت تردد البعير في حلقه. والجران: مقدم العنق، وجمعه جرن. ((منه ريباً بعدك)) أي شيئاً نكرهه فيريبنا ويقلقنا ويضجرنا. قوله: ((أما إذا ذكرت)) جواب ((أما)) محذوف.

5924 - وعن أنس، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة، فقال: يا رسول الله! هل تحب أن نريك آية؟ قال: ((نعم)). فنظر إلى شجرة من ورائه فقال: ادع بها، فدعا بها، فجاءت، فقامت بين يديه فقال: مرها فلترجع، فأمرها، فرجعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسبي حسبي)). رواه الدارمي [5924]. 5925 - وعن ابن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؟)). قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: ((هذه السلمة)). فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً، أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها. رواه الدارمي [5925]. 5926 - وعن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بما أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله)) ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فإنه شكا)) جواب لأما المقدرة، تقديره: أما إذا ذكرت أن البعير لأهل بيت مالهم معيشة فلا ألتمس شراه، وأما البعير فعاهدوه فإنه اشتكى، إذ لابد لأما التفصيلية من التكرار. الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فثع ثعة)) نه: الثع القيء، والثعة المرة الواحدة. الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حسبي)) أي: كفاني في تسليتي عما لقيته من الحزن، هذه الكرامة من ربي ومنحه لي هذه معجزة. الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((هذه السلمة)) نه: السلم من شجر العضاة، واحدها سلمة بفتح اللام، ورقها القرظ الذي يدبغ به، وبها سمي الرجل سلمة.

فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((ارجع)) فعاد، فأسلم الأعرابي. رواه الترمذي وصححه [5926]. 5927 - وعن أبي هريرة، قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر، وقال: قد عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته، ثم انتزعته مني؟! فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من هذا الرجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم. قال: فكان الرجل يهودياً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده)). رواه في ((شرح السنة)) [5927]. 5928 - وعن أبي العلاء، عن سمرة بن جندب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة، من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة قلنا: [فمما] كانت ـــــــــــــــــــــــــــــ والخد والأخدود الشق في الأرض. الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إن دعوت)) جواب لقوله: ((بما أعرف)) أي بأني إذا دعوتها تشهد. وقوله: ((هذا العذق)) بكسر العين المهملة العرجون بما فيه من الشماريخ وهو بمنزلة العنقود من العنب. وبالفتح: النخلة. الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأقعى)) أي جلس مقعياً. و ((استثفر)) أي أدخل ذنبه بين رجليه. وقوله: ((عمدت)) إن روي على صيغة المتكلم يكون إخباراً على سبيل الشكاية، وإن روي على الخطاب يكون استفهاماً على سبيل الإنكار.

تمد؟ قال: من أي شيء تعجب؟ ما كنت تمد إلا من هاهنا وأشار بيده إلى السماء. رواه الترمذي، والدارمي [5928]. 5929 - وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر. قال: ((اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم اللهم إنهم جياع فأشبعهم)) ففتح الله له، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا، وشبعوا. رواه أبو داود [5929]. 5930 - وعن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم؛ فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر)). رواه أبو داود. [5930]. 5931 - وعن جابر، أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفعوا أيديكم)) وأرسل إلى اليهودية فدعاها، فقال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إن رأيت كاليوم)) ((فا)): أي ما رأيت أعجوبة كأعجوبة اليوم، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ((تو)): الراعي، قيل: إنه هبار بن أوس الخزاعي، يقال له: مكلم الذئب. قوله: ((إنها أمارات)) الضمير يحتمل أن يكون للقصة وأن يكون مبهما يفسره ما بعده، وأن يرجع إلى معنى ما تكلم به الذئب باعتبار الحالة والقصة. الحديث الحادي عشر عن أبي العلاء: قوله: ((نتداول)) أي نتناوب بأكل الطعام منها. ((نه)): وفي الحديث: ((يوشك أن تدال الأرض منا)) أي يجعل لها الكرة والدولة علينا فتأكل لحومنا كما أكلنا ثمارها، وتشرب دماءنا كما شربنا مياهها.

((سممت هذه الشاة؟)) فقالت: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)) للذراع، قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلن تضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبنى بياضة من الأنصار. رواه أبو داود. والدارمي [5931]. 5932 - وعن سهل بن الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فجاء فارس فقال: يا رسول الله! إني طلعت على جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم، اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله وقال: ((تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى)) ثم قال: ((من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله. قال: ((اركب)) فركب فرساً له. فقال: ((استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه)) فلما أصبحنا خرج رسول ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فمما كانت تمد؟)) أي أي شيء كانت القصعة تمد به، وهو من المدد من قولك: مد السراج بالزيت، وفيه معنى التعجب، ولذلك قال: ((من أي شيء تعجب؟)). وذهب المظهر ومن تبعه أن قوله: ((من أي شيء تعجب؟)) هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من قول سمرة، والسائل أبو العلاء وهو الظاهر. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((منصورون)) على أعداء الدين. ((مصيبون)) أي الغنائم. ((مفتوح لكم)) أي البلاد. الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((شاة مصلية)) تو: المصلية المشوية من قولك: صليت اللحم إذا شويته. والمرأة: قيل: إنها زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب بن أبي مرحب جاءت بشاة مشوية فسمتها وأكثرت في الكتف والذراع لما بلغها أنهما أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الله صلى الله عليه وسلم، إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: ((هل حسستم فارسكم؟)) فقال رجل: يا رسول الله! ما حسسنا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: ((أبشروا، فقد جاء فارسكم)) فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فلم أر أحداً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل نزلت الليلة)) قال لا إله إلا مصلياً أو قاضي حاجة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا عليك أن لا تعمل بعدها)). رواه أبو داود [5932]. 5933 - وعن أبي هريرة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: يا رسول الله! ادع الله فيهن بالبركة، فضمهن، ثم دعا لي فيهن بالبركة، قال: ((خذهن فاجعلهن في مزودك، كلما أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثراً)). فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله، فكنا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوى حتى كان يوم قتل عثمان فإنه انقطع. رواه الترمذي [5933]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم)): فيه اختلاف إذ الرواية وردت أنه أمر بقتلها فقتلت، ووجه التوفيق بينهما: أنه عفا عنها في أول الأمر، فلما مات بشر بن البراء بن معرور من الأكلة التي ابتلعها أمر بها فقتلت مكانه. قوله: ((في يدي)) حال من هذه، أي مستقرة فيها. قوله: ((بالقرن والشفرة)) أي كانت المحجمة: قرناً، والمبضع السكين العريضة. الحديث الخامس عشر عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه: قوله: ((حتى كان عشية)) أي حتى كان السير ممتداً إلى وقت العشية. قوله: ((على بكرة أبيهم)) ((قض)): يقال: جاء القوم على بكرة أبيهم أي جاءوا بأجمعهم بحيث لم يبق لم يبق منهم أحد، و ((على)) هنا بمعنى مع، وهو مثل تضربه العرب، وكان السبب فيه أن جمعاً من العرب عرض لهم انزعاج فارتحلوا جميعاً ولم يخلفوا شيئاً حتى إن بكرة كانت

الفصل الثالث 5934 - عن ابن عباس، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي [رضي الله عنه] على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم فقالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــ لأبيهم أخذوها معهم، فقال من وراءهم: ((جاءوا على بكرة أبيهم)) فصار ذلك مثلا في قوم جاءوا بأجمعهم وإن لم يكن معهم بكرة- وهي التي يستقى عليها الماء- فاستعيرت في هذا الموضع. قوله: ((فثوب بالصلاة)) ((نه)): التثويب هنا إقامة الصلاة، والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمي الدعاء تثويباً لذلك وكل داع مثوب. قوله: ((فلا عليك أن لا تعمل بعدها)) أي لا بأس عليك أن لا تعمل بعد هذه الليلة من المبرات والخيرات فإن عملك الليلة كاف لك عند الله مثوبة وفضيلة، وأراد النوافل والتبرعات من الأعمال لا الفرائض، فإن ذلك لا يسقط. ويمكن أن ينزل على ما عليه من عمل الجهاد في ذلك اليوم جبراناً لقلبه وتسلية له. الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أن تأخذ منه شيئاً)) إن جعل ((منه)) صلة لتأخذ و ((شيئاً)) مفعولا له فيكون نكرة شائعة فلا يختص بالتمر، وإن جعل حالاً من ((شيئاً)) اختص به. و ((حملت)) يجوز أن يحمل على الحقيقة وأن يحمل على معنى الأخذ، أي أخذت مقدار كذا بدفعات. و ((الحقو)) معقد الإزار وسمي الإزار به للمجاورة. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فاقتصوا أثره)) الاقتصاص الإتباع والتتبع، يقال: قص الأثر واقتصه إذا اتبعه. و ((اختلط عليهم)) أي اشتبه. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه:

أين صاحبك هذا، قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. رواه أحمد. [5934] 5935 - وعن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود)). فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني سائلكم عن شيء فهل أنتم مصدقي عنه؟)) قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أبوكم؟)) قالوا: فلان. قال: ((كذبتم، بل أبوكم فلان)). قالوا: صدقت وبررت. قال: ((فهل أنتم مصدقي عن شيء إن سألتكم عنه؟)). قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا. فقال لهم: ((من أهل النار؟)) قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً)). ثم قال: ((هل أنتم مصدقي عن شيء إن سألتكم عنه؟)). فقالوا: نعم يا أبا القاسم قال: ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فهل أنتم مصدقي)) وفي أصل المالكي: ((فهل أنتم صادقوني)) قال: كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ، قال: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية الأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها من خفاء الإعراب، فلما منعوها ذلك كان الأصل متروكاً فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل، كقول الشاعر: وليس يعييني وفي الناس ممتنع صديق إذا أعي ((عليك)) صديق ولما كان لأفعل التفضيل شبه بفعل التعجب اتصلت به النون المذكورة أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غير الدجال أخوفني عليكم)) والأصل أخوف مخوفاتي عليكم فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصلت أخوف بها مقرونة بالنون كما اتصل معنى في البيت المذكور. قوله: ((وبررت)) بالكسر أي أحسنت. وقوله: ((نكون فيها يسيراً)) هذا هو الذي حكى الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات}.

هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟)). قالوا: نعم. قال: ((فما حملكم على ذلك؟)) قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك. رواه البخاري. 5936 - وعن عمرو بن أخطب الأنصاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفجر وصعد على المنبر فخطبنا، حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا، حتى حضرت العصر. ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا. رواه مسلم 5937 - وعن معن بن عبد الرحمن، قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك- يعني عبد الله بن مسعود- أنه قال: آذنت بهم شجرة. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اخسئوا)) إلى خلودهم فيها، قال تعالى: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} وهو في الأصل زجر الكلب. وقوله: ((أن نستريح)) مفعول لأردنا، وجزاء الشرط المتوسط بين الفعل والمفعول محذوف لوجود القرينة، أي إن كنت كاذبا يضرك فنستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك فتنتفع بهدايتك، وحاصله أردنا الامتحان. الحديث الثالث عن عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه: قوله: ((فأعلمنا)) أي أحفظنا، أي أعلمنا الآن أحفظنا يومئذ. الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فجعل لا يراه)) كأنه إتباع لقوله: ((فجعلت أقول)) أي طفقت أريه الهلال فهو لا يراه فأقحم ((جعل)) مشاكلة كما أقحم: ((ولا تحسبنهم)) في قوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب}: تأكيداً لقوله: {لا تحسبن الذين يفرحون}. قوله: ((سأراه)) أي لا يهمني الآن رؤيته بتعب وسأراه بعد من غير تعب. الحديث السادس إلى التاسع عن عاصم بن كليب:

5938 - وعن أنس، قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: ((هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله)). قال عمر: والذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر، بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله حتى انتهى إليهم، فقال: ((يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقاً)). فقال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ فقال: ((ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً)). 5939 - وعن أنيسة بنت زيد بنت أرقم، عن أبيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قال: ((ليس عليك من مرضك بأس، ولكن كيف لك إذا عمرت بعدي فعميت؟)). قال: أحتسب وأصبر. قال: ((إذاً تدخل الجنة بغير حساب)). قال: فعمي بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رد الله عليه بصره ثم مات. [5939] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((الأسرى)) الأسرى والأسارى جمع أسير، وهم كفار، وذلك أنه لما لم يوجد صاحب الشاة ليستحلوا منه وكان طعاماً في صدد الفساد فلم يكن بد من إطعام هؤلاء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعامهم. الحديث العاشر عن حبيش بن خالد: قوله: ((مرملين)) ((حس)): المرمل من نفد زاده، يقال: أرمل الرجل إذا ذهب طعامه. ((مسنتين)) أي أصابهم القحط، يقال: أسنت الرجل فهو مسنت. ((كسر الخيمة)) - بكسر الكاف وفتحها- جانب الخيمة.

5940 - وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)). وذلك أنه بعث رجلاً، فكذب عليه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد ميتاً، وقد انشق بطنه، ولم تقبله الأرض. رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5940] 5941 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، ففني، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم)). رواه مسلم. 5942 - وعن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر يقول: ((أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه)) فلما رجع استقبله دعي امرأته، فأجاب ونحن معه، فجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا، ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الجهد)) الهزال. ((فتفاجت)) أي فتحت ما بين رجليها للحلب. ((اجترت)) الجرة ما يخرج البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه، يقال: اجتر البعير يجتر. ((يربض الرهط)) أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا، أي على الأرض، من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازماً له. و ((الثج)) السيلان، ((وبهاء اللبن)) [وبيض] رغوته. و ((غادره)) أي تركه. و ((بايعها على الإسلام)) وتمام الحديث: ((فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلى ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن، عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال لا حلوب في البيت؟

فنظرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)). فأرسلت المرأة تقول: يا رسول الله: إني أرسلت إلى النقيع- وهو موضع يباع فيه الغنم- ليشتري لي شاة، فلم توجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن يرسل بها إلى بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إلي بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعمي هذا الطعام الأسرى)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5942] 5943 - وعن حزام بن هشام، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد- وهو أخو أم معبد- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة خرج مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله الليثي، مروا على خيمتي أم معبد، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك. وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه ـــــــــــــــــــــــــــــ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه لم تعبه نحلة ولم تزر به صقلة، وسيم قسيم، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت عليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لانزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يأس من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود، لا عابس ولا مفند. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمة أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيال قصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجازى وسودد

الشاة يا أم معبد؟)) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: ((هل بها من لبن؟)) قال: هي أجهد من ذلك، قال: ((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت، فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ليهن بني كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أحتكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب يرددها في مصدر ثم مورد قوله: ((يتساوكن)) تساوكت الإبل إذا اضطربت أعناقها من الهزال، أراد أنها تتمايل من ضعفها. ((ولم تعبه نحلة)) من نحول الجسم وكذا صقله. والوسيم: الحسن الوضي، وكذا القسيم. والدعج: السواد في العين. والوطف: طول شعر العين. والصهل: الحدة والصلابة في الصوت. والسطع: الطول. والزجج: في الحاجبين تقوس فيهما مع طول في أطرافهما وسبوغ. والقرن: التقاء الحاجبين. وسما: أي علا برأسه وارتفع من جلسائه. وفصل: بين لا نزر ولا هذر أي: وسط لا قليل ولا كثير. ولا يأس من طول: أي ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. ولا تقتحمه: أي لا تحتقره العين ولا تزدريه. والمحشود:- بالحاء والشين المعجمة- الجماعة. والمحفود: المخدوم.

حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، وبايعها، وارتحلوا عنها. رواه في ((شرح السنة))، وابن عبد البر في ((الاستيعاب))، وابن الجوزي في كتاب ((الوفاء)) وفي الحديث قصة [5943] ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا مفند: أي خرف لا فائدة في كلامه. وقول الهاتف في الشعر: ((فيال قصي .. البيت)) مقالة فيال قصي أي تعالوا ليتعجب منكم فيما أغتلتموه من حقكم وأضعتموه من عزكم بعصيانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلجائكم إياه إلى الخروج من بين أظهركم، ((وما)) مبتدأ بمعنى الذي، والخبر ((من فعال))، و ((لا تجازي)) صفته. و ((سودد)) عطف عليه. و ((زوى)) نحى وباعد. الضمير في ((به)) راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباء للسببية. والصريح: اللبن الخالص الذي لم يمذق. فغادرها رهنا: أي ترك الشاة عندها مرتهنة بأن تدر. وقال: الصوت الذي سمعوا بمكة صوت بعض مسلمي الجن، أقبل من أسفل مكة، والناس يتبعونه ويسمعون الصوت ولا يرونه، حتى خرج بأعلى مكة. قالت أسماء: فلما سمعناه عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن وجهه إلى المدينة- انتهى كلام محيي السنة. وقال ابن عبد البر: فلما بلغ حسن بن ثابت ذلك جعل يجاوب الهاتف وهو يقول: لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم وقدس من يسري إليهم ويغتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم وحل على قوم بنور مجدد هداهم به عبد الضلالة ربهم وأرشدهم، من يتبع الحق ويرشد وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا عمي وهداة يهتدون بمهتد لقد نزلت منه على أهل يثرب ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مسجد وإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقه في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد

(8) باب الكرامات

(8) باب الكرامات الفصل الأول 5944 - عن أنس، أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة، في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلبان، وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصى أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقا بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله. رواه البخاري. 5945 - وعن جابر، قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل، فقال ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن علي ديناً فاقض، واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفنته مع آخر في قبر. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب الكرامات الكرامات: جمع كرامة وهي اسم من الإكرام والتكريم، وهي فعل خارق للعادة غير مقرون بالتحدي، وقد اعترف بها أهل السنة وأنكرها المعتزلة، واحتج أهل السنة بحدوث الحمل لمريم من غير الفحل، وحضور الرزق عندها من غير سبب ظاهر، وأيضاً ففي لبث أصحاب الكهف ثلثمائة سنة وأزيد في النوم أحياء من [عرافه] دليل ظاهر. والمعتزلة بأنه لو جاز ظهور الخارق في حق الولي لخرج عن كونه دليلا على النبوة. وأجيب بأنه تمتاز المعجزة عن الكرامة باشتراط الدعوى في المعجزة وعدم اشتراطها في الكرامة. الفصل الأول الحديث الأول إلى الثالث عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((إن أصحاب الصفة)) هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشاهيرهم على ما ذكره الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء: أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وصهيب، وبلال، وأبو هريرة، وخباب بن الأرت، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، و [بشير] بن الخصاصية، وأبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وفيهم نزل قوله

5946 - وعن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)) وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له امرأته: ما حبسك عند أضيافك؟ قال: أو ما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، فغضب وقال: والله لا أطعمه أبداً، فحلفت المرأة أن لا تطعمه، وحلف الأضياف أن لا يطعموه. قال أبو بكر: كان هذا من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكلوا وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها. فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: وقرة عيني إنها الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار، فأكلوا، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه أكل منها. متفق عليه. وذكر حديث عبد الله بن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام في ((المعجزات)). ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} وكان الصفة في المسجد مسقفة بجريد النخل، وكان هؤلاء الفقراء يستوطنون تلك السقيفة ويبيتون فيها فنسبوا إليها، وكان الرجل إذا قدم المدينة وكان له بها عريف ينزل على عريفه، فإن لم يكن له بها عريف نزل الصفة. قوله ((بثالث)) هذا هو الصحيح، وفي أكثر نسخ المصابيح بثلاثة وهو غير صحيح رواية ومعنى. ومعنى: ((ربت)) أي ارتفع الطعام من أسفل القصعة ارتفاعاً أكثر، وإسناد ((ربت)) إلى القصعة مجازي. قوله: ((يا أخت بني فراس)) تو: امرأة أبي بكر هذه كانت أم رومان- أم عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهم- من بني فراس بن تميم بن مالك بن النضر بن كنانة والمنتمون إلى النضر بن كنانة كلهم قريش.

الفصل الثاني 5947 - عن عائشة قالت: لما مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. رواه أبو داود [5947]. 5948 - وعنها، قالت: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلى وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو؟)): اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. فقاموا، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5948] 5949 - وعن ابن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ الجيش بأرض الروم أو أسر، فانطلق هارباً يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد. فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد، له بصبصة حتى ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول إلى الثالث عن ابن المنكدر: قوله: ((بصبصة)) نه: يقال: بصبص الكلب بذنبه إذا حركه وإنما يفعل ذلك من طمع أو خوف. الحديث الرابع عن أبي الجوزاء: قوله: ((منه كوى إلى السماء)) أي منافذ، واحدتها كوة- بفتح الكاف وضمها-. مظ: قيل في سبب كشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السماء لما رأت قبر النبي صلى الله عليه وسلم سال الوادي من بكائها، قال تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} حكاية عن حال الكفار. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يستشفع به عند الجدب فتمطر السماء، فأمرت عائشة رضي الله عنها بكشف قبره مبالغة في الاستشفاع به فلا يبقى بينه وبين السماء حجاب. قوله: ((يسمى عام الفتق)) أي عام الخصب.

قام إلى جنبه، كلما سمع صوتاً أهوى إليه، ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد. رواه في ((شرح السنة)) [5949]. 5950 - وعن أبي الجوزاء. قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوى إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. ففعلوا، فمطروا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. رواه الدارمي [5950]. 5951 - وعن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ولم يقم، ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الدارمي [5951]. 5952 - وعن أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خدمة عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له بستان يحمل في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [5952] ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن سعيد بن عبد العزيز: قوله: ((أيام الحرة)) هو يوم مشهور في الإسلام، أيام يزيد بن معاوية لما نهب المدينة عسكر أهل الشام، ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحرة هذه أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها. والهمهمة: كلام خفي لا يفهم. الحديث السادس عن أبي خلدة: قوله: ((سمع أنس؟)) أي سمع أنس من رسول الله، أحاديث ورواها عنه؟.

الفصل الثالث 5953 - عن عروة بن الزبير أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل خاصمته أروى بنت أوس إلى مروان بن الحكم، وادعت أنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه إلى سبع أرضين)) فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فاعلم بصرها واقتلها في أرضها قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. متفق عليه. وفي رواية لمسلم عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بمعناه، وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر، تقول: أصابتني دعوة سعيد، وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته، فوقعت فيها، فكانت قبرها. 5954 - وعن ابن عمر، أن عمر بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، فجعل يصيح: يا ساري! الجبل. فقدم رسول من الجيش. فقال: يا أمير المؤمنين! لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح يصيح: يا ساري! الجبل. فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5954] ـــــــــــــــــــــــــــــ فأجاب: من كانت له هذه المنزلة والصحبة من النبي صلى الله عليه وسلم كيف لا يسمع ولا يروى عنه؟. الفصل الثالث الحديث الأول عن عروة بن الزبير: قوله: ((أنا كنت آخذ؟)) فيه معنى الإنكار على نفسه، وقوله: ((بعد الذي ...)) مقرر لجهة الإنكار على نفسه. قوله: ((سبع أرضين)) بفتح الراء، وإسكانها قليل. وفي الحديث تصريح بأن الأرض سبع طباق وهو موافق لقوله تعالى: {سبع سموات ومن

(9) باب هجرة أصحابه صلى الله عليه وسلم من مكة ووفاته

5955 - وعن نبيهة بن وهب، أن كعباً دخل على عائشة، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: ما من يوم يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون بأجنحتهم، ويصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبطوا مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفونه. رواه الدارمي [5955]. (9) باب هجرة أصحابه صلى الله عليه وسلم من مكة ووفاته الفصل الأول 5956 - عن البراء، قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الأرض مثلهن} ومن قال: المراد بالسبع الأقاليم فقد وهم لأنه لو كان كذلك لم يطوق الظالم بشبر من كل إقليم بخلاف طباق الأرض فإنها تابعة لهذا الشبر. قوله: ((لا أسألك بينة)) كأن سعيداً لما أنكر توجه عليه البينة وعند فقدها توجه عليه اليمين فأجرى مروان هذا الكلام منه مجرى اليمين وقال: لا أسألك بينة بعد هذا. قوله: ((يزفونه)) يحتمل أن يكون من الإسراع، أو من زفاف العروس. ((نه)): يزف بالكسر من زف في مشيته، إذا أسرع، وبالفتح من زففت العروس إذا أهديتها إلى زوجها. باب هجرة أصحابه صلى الله عليه وسلم من مكة ووفاته الفصل الأول الحديث الأول عن البراء بن عازب رضي الله عنه: قوله: ((الولائد)) ((نه)) الولائد جمع وليدة وهي الجارية الصغيرة، والذكر وليد، فعيل، بمعنى مفعول. قوله: ((قرأت: {سبح اسم ربك})) أي تعلمت، ذكر المسبب وهو القراءة وأراد السبب وهو التعلم. قوله: ((في سور مثلها)) أي في جملة سور مثلها في المقدار.

مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرآننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء، فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت: {سبح اسم ربك الأعلى} في سور مثلها من المفصل. رواه البخاري. 5957 - وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: ((إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده)). فبكى أبو بكر قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا!! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. متفق عليه. 5958 - وعن عقبة بن عامر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني ليست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)) وزاد بعضهم: ((فتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((إن عبداً خيره الله)) فهم الصديق من هذا الكلام مفارقته صلى الله عليه وسلم الدنيا فبكى، كما فهمت الصديقة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((مع الذين أنعمت عليهم من النبيين)) أنه صلى الله عليه وسلم خير كما يجيء بعد. الحديث الثالث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: قوله: ((على قتلى أحد)) ((مظ)): أي استغفر لهم، واستغفاره لهم كالوداع للأحياء والأموات، أما الأحياء فبخروجه من بينهم، وأما الأموات فبانقطاع دعائه واستغفاره لهم.

5959 - وعن عائشة، قالت: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه. وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته، فأمر وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)). ثم نصب يده، فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى)) حتى قبض ومالت يده. رواه البخاري. 5960 - وعنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة)) وكان في شكواه الذي قبض أخذته بحة شديد، فسمعته ـــــــــــــــــــــــــــــ والفرط: بالتحريك بمعنى فارط كتبع بمعنى تابع وهو الذي يتقدم الواردة فيهيئ لهم الأرشاد والدلاء يسقي لهم. يريد أنه شفيع لأمته يتقدمهم، فإنه يتقدم على المشفوع له. ((مح)): فيه معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك. وأنهم لا يرتدون، وقد عصمهم الله تعالى من ذلك. وأنهم يتنافسون في الدنيا، وقد وقع ذلك. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بين سحري ونحري)) ((نه)): السحر الرئة، أي أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو مستند إلى صدرها وما يحاذي نحرها منه. وقيل: السحر ما يلصق بالحلقوم من أعلى البطن. قوله: ((دخل علي عبد الرحمن)) بيان لجمع الله تعالى بين ريق النبي صلى الله عليه وسلم وريقها. قوله: ((في الرفيق الأعلى)) ((نه)): الرفيق الأعلى الجماعة من الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وهو اسم جاء على فعيل، ومعناه الجماعة، كالصديق والخليط ومنه قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا}.

يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فعلمت أنه خير. متفق عليه. 5961 - وعن أنس، قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة واكرب أباه! فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)). فلما مات قالت: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ والرفيق: المرافق في الطريق. وقيل: المعنى ألحقني بالرفيق الأعلى، أي بالله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعيل بمعنى فاعل، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: سمعته يقول عند موته: ((بل الرفيق الأعلى)) وذلك أنه خير بين البقاء في الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله. ((تو)): قد ذهب بعضهم ((في الرفيق الأعلى)) أنه اسم من أسماء الله تعالى. قال الأزهري: غلط قائل هذا، الرفيق هاهنا جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة، ومنه قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا}. وقوله: ((إن الله رفيق)) لم يوجب إطلاق هذا الاسم عليه كما لم يوجب ((إن الله حيي ستير)) إطلاق ذلك عليه، وإنما أراد به إيضاح معنى لم يكن يقع في الأفهام إلا من هذا الطريق. أقول: لم لا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على إطلاق هذا الاسم عليه وما المانع وليس هذا نحو قوله: ((إن الله حيي)) لأن ذلك إخبار. وقول صاحب النهاية: إنه اختار ما عند الله تعالى، تصريح بأن المراد منه القرب والزلفى عند الله تعالى، ولو أريد به الملائكة والنبيون لقيل: من عند الله تعالى، ويؤيده حديث أبي سعيد رضي الله عنه: إن عبدً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده فاختار ما عنده)) وحديث جعفر في آخر الفصل الثالث من هذا الباب: ((يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك .. الحديث)) ولأن حصول هذه البغية مستلزم لحصول تلك المنزلة كما قال تعالى: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.

الفصل الثاني 5962 - عن أنس، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحاً لقدومه. رواه أبو داود [5962]. وفي رواية الدارمي قال: ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي إدخال ((في)) على ((الرفيق الأعلى)) إيذان بغاية القرب وشدة تمكنه منه وحلول رضوانه عليه وحصول رضاه عن الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله: {راضية مرضية}. والله أعلم الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بحة)) ((نه)): البحة بالضم غلظ في الصوت، يقال: بح يبح بحوحاً، وإن كان من داء فهو البحاح، ورج أبح بين البحح إذا كان ذلك فيه خلقة. الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قالت: يا أبتاه)) أصله يا أبي، فالتاء بدل من الياء لأنهما من الحروف الزوائد والألف للندبة لمد الصوت، والهاء للسكت، ولابد للندبة من إحدى العلامتين: ياء أو واو، لأن الندبة لإظهار التوجع ومد الصوت وإلحاق الألف في آخرها للفصل بينها وبين النداء، وزيادة الهاء في الوقف إرادة بين الألف لأنها خفية وتحذف في الوصل. وقوله: ((من جنة الفردوس)) في البخاري وشرح السنة وقع ((من)) موصولة، وفي بعض نسخ المصابيح وقعت جارة، والأول أنسب لأنه من وادي قولهم: ((وامن حفر بئر زمزماه)). الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أضاء منها)) الضمير راجع إلى المدينة، وفيه معنى التجريد كقولك: لئن لقيته لتلقين منه الأسد، وهذا يدل على أن الإضاءة كانت محسوسة.

وفي رواية الترمذي قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا. 5963 - وعن عائشة، قالت. لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) ادفنوه في موضع فراشه. رواه الترمذي [5963]. الفصل الثالث 5964 - عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: ((إنه لن ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وما نفضنا أيدينا)) ((تو)): يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كنت عليه من الصفاء والألفة و [الرقة]، لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم من التأييد والتعليم، ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق. الفصل الثالث الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الرفيق الأعلى)) أي أختار الرفيق الأعلى. وقوله: ((أنه الحديث)) أي أن هذا القول إشارة إلى الحديث الذي قال، وهو صحيح. الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أبهري)) ((نه)): الأبهر عرق في الظهر، وهما أبهران، وقيل: هما الأكحلان اللذان في الذراعين، وقيل: هو عرق مستبطن القلب فإذا انقطع لم يبق معه حياة. وقيل: الأبهر عرق منشؤه من الرأس ويمتد إلى القدم وله شرايين تتصل بأكثر الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمى ((النأمة)) ومنه قولهم: أسكت الله نأمته، أي أماته، ويمتد إلى الحلق فيسمى فيه ((الوريد)) ويمتد إلى الصدر فيسمى ((الأبهر)) ويمتد إلى الظهر فيسمى ((الوتين)) - والفؤاد معلق به- ويمتد إلى الفخذ فيسمى ((النسا)) ويمتد إلى الساق فيسمى ((الصافن)). والهمزة في ((الأبهر)) زائدة.

يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)). قالت عائشة: فلما نزل به، ورأسه على فخذي غشي عليه، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى)). قلت: إذن لا يختارنا. قالت: وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله: ((إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)) قالت عائشة: فكان آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((اللهم الرفيق الأعلى)). متفق عليه. 5965 - وعنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري في ذلك السم)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويجوز في ((أوان)) الضم والفتح، فالضم لأنه خبر المبتدأ، والفتح على البناء لإضافته إلى مبني، كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت [ألما أصح] والشيب وازع الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أكتب لكم كتاباً)) قال النووي: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته ومرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله تعالى عليه تبليغه، وليس هو معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر صلى الله عليه وسلم حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه في هذا الحال كلام من الأحكام مخالف لما سبق، فإذا علمت ما ذكرنا فقد اختلفوا في الكتاب الذي أراد كتابته. فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع. وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ. وأما كلام عمر رضي الله عنه: ((حسبكم كتاب الله)) فقد اتفقوا على أنه من دلائل فقه عمر رضي الله عنه وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لكونها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها.

5966 - وعن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده)). فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندك القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغط والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا عني)). قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وأشار بقوله: ((حسبكم كتاب الله)) إلى قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء}. وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}. قال البيهقي في كتاب دلائل النبوة: إنما قصد عمر رضي الله عنه بذلك التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلب الوجع عليه، [ولو] كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب مالا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم لقوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} كما لم يترك التبليغ لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وكما أمر في تلك الحالة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك. وقال البيهقي: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك، كما هم بالكتابة في أول مرضه حين قال: ((وارأساه)) ثم ترك الكتاب وقال: ((يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) وذلك بسبب استخلافه أبا بكر في الصلاة. وقال أيضاً: إن كان المراد منه بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك من قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب والسنة بيانها نصاً أو دلالة، وفي تكلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، فرأى الاقتصار على ما سبق بيانه تخفيفاً عليه ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستناط وإلحاق الفروع بالأصول، فرأى عمر رضي الله عنه الصواب ترك الكتابة تخفيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة للمجتهدين، وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دليل على استصواب رأيه، وكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه.

وفي رواية سليمان بن أبي مسلم الأحوال قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى. قلت يا بن عباس! وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: ((ائتنوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)). فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: ما شأنه؟! أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه. فقال: ((دعوني، ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه)). فأمرهم بثلاث: فقال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم)). وسكت عن الثالثة، أو قالها فنسيتها قال سفيان: هذا من قول سليمان. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر رضي الله عنه على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ظن به غير ذلك مما لا يليق بحاله، لكنه لما رأى ما غلب عليه صلى الله عليه وسلم من الوجع وقرب الوفاة مع ما غشيه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقول المريض مما لا عزيمة له فيجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش، فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى رفع درجته فوق الخلق كلهم لم ينزهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية، وقد سها في الصلاة، فينبغي أن يتوقف في مثل هذا حتى تتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه. وقد قال الخطابي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اختلاف أمتي رحمة)). والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها: في إثبات الصانع ووحدانيته، وإنكارها ذلك كفر. وثانيها: في صفاته ومشيئته، وإنكارها بدعة. وثالثها: في أحكام الفروع المحتملة وجوها. فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء. وقال المازري: إن قيل: كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله: ((ائتوني بكتف أكتب لكم))؟.

5967 - وعن أنس، قال: قال أبو بكر لعمر [رضي الله عنهما] بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت. فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكى أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالجواب: أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال: أصلها الندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال: أصلها الوجوب، فلعله ظهر منه صلى الله عليه وسلم من القرائن ما دل على أنه لم يوجب ذلك عليهم بل جعله إلى اختيارهم فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم، وأدى اجتهاد عمر رضي الله عنه إلى الامتناع، ولعله اعتقد أن ذلك صدر منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد جازم، وكان هذا قرينة في إرادة عدم الوجوب. - هذا آخر ما في شرح مسلم- قوله: ((أهجر؟)) ((نه)): أهجر أي اختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الاستفهام، أي: هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض؟ ولا يجعل إخباراً فيكون من الفحش والهذيان، والقائل عمر ولا يظن به ذلك. ((مح)): قال القاضي عياض: أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هكذا في صحيح مسلم وغيره ((أهجر)) على الاستفهام، وهو أصح من رواية من روى ((هجر)) بغير همز لأنه لا يصح منه صلى الله عليه وسلم، لأن معنى ((هجر)) هذى، وإنما جاز ذلك من قائله استفهاماً للإنكار على من قال: ((لا تكتبوا)) أي لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهجر، وإن صحت الرواية الأخرى كانت خطأ من قائلها لأنه قالها من غير تثبت لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحالة الدالة على وفاته وخوف الفتن والضلال بعده، وقول عمر رضي الله عنه: ((حسبكم كتاب الله)) رد على نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ((دعوني ذروني)) معناه دعوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه، فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما أنتم فيه. قوله: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) مر بيانه في باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب.

5968 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، ونحن في المسجد، عاصباً رأسه بخرقة، حتى أهوى نحو المنبر، فاستوى عليه واتبعناه، قال: ((والذي نفسي بيده إني لأنظر إلى الحوض من مقامي هذا، ثم قال: ((إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها، فاختار الآخرة)) قال: فلم يفطن لها أحد غير أبي بكر، فذرفت عيناه، فبكى، ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله! قال: ثم هبط فما قام عليه حتى الساعة. رواه الدارمي [5968] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وأجيزوا الوفد)) ((مح)): أمر صلى الله عليه وسلم بإكرام الوفود وضيافتهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة. وقالوا: سواء كان الوفد مسلمين أو كفاراً، لأن الكفر إنما يفد غالباً فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم. وقوله ((وسكت عن الثالثة)) الساكت هو ابن عباس رضي الله عنهما، والناس: سعيد بن جبير. قال مهلب: الثالثة: تجهيز جيش أسامة. قال القاضي عياض: ويحتمل أنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري وثناً يعبد)). الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نزورها)) هو أفخم بلاغة من أن لو قال: ((أزورها)) حسب ما اقتضاه تعظيم المزور، كأنه قيل: لم ننطلق إليها؟ فأجيب: نزورها، لأنها مستحقة لذلك، ونحوه في الاستئناف قول الشاعر: وقال رائدهم ارسوا نزاولها. قوله: ((إني لا أعلم)) مفعول لقوله: ((لا أبكي)). الحديث الخامس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((حتى الساعة)) حتى هي الجارة، والمراد بالساعة القيامة، يعني فما قام عليه بعد في حياته.

5969 - وعن ابن عباس، قال: لما نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح}. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة قال: ((نعيت إلي نفسي) فبكت قال: ((لا تبكي فإنك أول أهلي لاحق بي)) فضحكت: فرآها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: يا فاطمة رأيناك بكيت ثم ضحكت. قالت: إنه أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسه فبكيت، فقال لي: لا تبكي فإنك أول أهلي لاحق بي فضحكت. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمين، هم أرق أفئدة، والإيمان يمان، والحكمة يمانية)) رواه الدارمي [5969]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((نعيت إلي نفسي)) ضمن ((نعى)) معنى الإنهاء، وعدي بإلى، أي أنهى إلي نعي نفسي، كما تقول: أحمد إليك فلاناً. يقال: نعى الميت ينعاه نعياً، ونعاه إذا أذاع موته وأخبر به، ولعل السر في ذلك أنه تعالى رتب قوله: {فسبح بحمد ربك} على مجموع قوله: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس} فهو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاشتغال بخاصة نفسه في الثناء على الله بصفات الجلال حامداً له على ما أولى من النعم بصفات الإكرام وهي بذلك المجهود فيما كلف به من تبليغ الرسالة ومجاهدة أعداء الدين، وبالإقبال على العبادة والتقوى، والتأهب للمسير إلى المقامات العليا، واللحوق بالرفيق الأعلى. وقوله: ((فرآها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)) يراد بها عائشة رضي الله عنها وجمعها في قوله: ((فقلن)) تعظيماً لشأنها. وقوله: ((وجاء أهل اليمين)) عطف على قوله: ((جاء)) وتفسير لقوله تعالى: {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً)) وإيذان بأن المراد بالناس هم أهل اليمين. قوله ((والإيمان يمان)) قيل: إنما قال ذلك لأن الإيمان بدأ من مكة وهي تهامة، وتهامة من أرض اليمن، ولهذا يقال: الكعبة يمانية. وقيل: إنه قال هذا القول وهو بتبوك، ومكة والمدينة يومئذ بينه وبين اليمين فأشار إلى ناحية اليمين وهو يريد مكة.

5970 - وعن عائشة، أنها قالت: وارأساه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك)) فقالت عائشة: واثكلياه! والله إني لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً ببعض أزواجك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أنا وارأساه! لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد، أن يقول القائلون: أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون)) رواه البخاريز 5971 - وعنها: قالت: رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً، وأن أقول: وارأساه! قال: ((بل أنا يا عائشة! وارأساه)) قال: وما ضرك لو مت قبلي، فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك؟)) قلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فغرست فيه بعض نسائك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه. رواه الدارمي [5971] ـــــــــــــــــــــــــــــ ((والحكمة يمانية)) الحكمة كل كلمة صالحة تمنع صاحبها من الوقوع في المهالك. الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وارأساه)) ندبت نفسها وأشارت إلى الموت. قوله: ((ذاك لو كان وأنا حي)) أي إن حصل ذاك، أي موتك وأنا حي أستغفر لك. فأجابت بقولها: ((واثكلياه والله إني لأظنك)) يعني إني فقدتني وعشت بعدي وتفرغت لغيري نسيتني. وقوله: ((أن يقول القائلون)) مفعول له على تقدير محذوف، أي أجعل أبا بكر ولي عهدي كراهة أن يقول القائلون: لم يعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الخلافة، أو يتمنى المتمنون الخلافة، ثم قلت: ((يأبى الله إلا خلافته، ولذلك يدفع المؤمنون خلافة غيره لاستخلافي إياه في الإمامة الصغرى والله أعلم. الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لكأني بك)) فيه جواب قسم محذوف، والمذكور معترض بين الحال وصاحبها، والمعنى: والله لكأني أبصرتك والحال كيت وكيت.

5972 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن رجلاً من قريش دخل على أبيه على بن الحسين، فقال: ألا أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى حدثنا عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم قال لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: ((يا محمد! إن الله أرسلني إليك تكريماً لك، وتشريفاً لك، خاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل! مغموماً، وأجدني يا جبريل! مكروباً)). ثم جاءه اليوم الثاني، فقال له ذلك، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رد أول يوم، ثم جاءه اليوم الثالث، فقال له كما قال أول يوم، ورد عليه كما رد عليه، وجاء معه ملك يقال له: إسماعيل على مائة ألف ملك، كل ملك على مائة ألف ملك، فاستأذن عليه، فسأله عنه. ثم قال جبريل: هذا ملك الموت يستأذن عليك. ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك. فقال: ائذن له، فأذن له، فسلم عليه، ثم قال يا محمد! إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أتركه تركته فقال: وتفعل يا ملك الموت؟ قال: نعم، بذلك أمرت، وأمرت أن أطيعك. قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فقال جبريل: يا محمد! إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لملك الموت: ((امض لما أمرت به)) فقبض روحه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا صوتاً من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث التاسع عن جعفر بن محمد: قوله: ((وأمرت أن أطيعك)) عطف على قوله: ((بذلك أمرت)) أي بقبض روحك وهو من العطف المخصص للمعطوف عليه. وقوله: ((امض لما أمرت به)) أي انفذ لما أمرت به ولا تتوقف فيه. وإلى هاهنا ذكره ابن الجوزي في كتابه ((الوفاء)) وذكر بعده: ((فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئ الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا)).

(10) باب

وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فاتقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصائب من حرم الثواب. فقال علي: أتدرون من هذا؟ هو الخضر عليه السلام. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5972] (10) باب الفصل الأول 5973 - عن عائشة، قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهما ولا شاة ولا بعيراً، ولا أوصي بشيء. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((عزاء في كل مصيبة)) أي تعزية من كل مصيبة، فأقام الاسم مقام المصدر. ((نه)): في الحديث: ((من لم يتعز بعزاء الله)) قيل: أراد بالتعزي في هذا الحديث التسلي والتصبر عند المصيبة وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلى هذا يجوز أن يقدر مضاف في قوله: ((في الله)) أي في لقاء الله تسلياً وتصبراً من كل مصيبة، وأن يراد أن في الله تسلية على التجريد، نحو قوله: ((وفي الرحمن للضعفاء كاف)) ويؤيده القرينتان، يعني: ((خلفاً)) و ((دركاً)) أي مدركاً. قوله: ((فبالله فاتقوا)) الله الفاء فيه جواب للشرط، وبالله حال قدمت على عاملها اختصاصاً كما في قوله تعالى: {فإياي فاعبدون}، أي إذا كان الله معزيا وخلفاً ومدركاً فخصوه بالتقوى مستعينين به. والفاء في ((فاتقوا)) وردت لتأكيد الربط، وكذا في قوله: ((فارجوا)) وتقديم المفعول ليس لإرادة التخصيص بل لتتعادل به القرينة في اقتران الفاء. وفيه دلالة بينة على أن الخضر عليه السلام حي موجود. باب الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولا أوصي بشيء)) ((مح)): وفي رواية أخرى ذكروا عند عائشة رضي الله عنها: أن علياً رضي الله عنه كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته حتى مات فمتى أوصى؟.

5974 - وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة. رواه البخاري. 5975 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة)). متفق عليه. 5976 - وعن أبي بكر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركناه صدقة)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى: ((ولا أوصى بشيء)) أي لا أوصى بثلث ماله ولا غيره إذ لم يكن له مال ولا أوصي إلى علي رضي الله عنه ولا إلى غيره خلاف ما يزعمه الشيعة، وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، ووصيته لأهل البيت، وإخراج اليهود من جزيرة العرب، وإجازة الوفد، فليست مرادة بقولها: ((ولا أوصي)). وأما الأرض التي كانت له صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك فقد [سبلها] صلى الله عليه وسلم في حياته وجعلها صدقة على المسلمين. الحديث الثاني والثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لا يقتسم ورثتي ديناراً)) هو إخبار، ويجوز أن يكون بمعنى النهي، فهو على منوال قوله: على لا حب ولا يهتدي بمناره. أي لا دينار هناك فيقتسم. قوله: ((ما تركت بعد نفقة نسائي)) ((حس)): قال سفيان بن عيينة: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات إذ كن لا يجوز لهن أن ينكحن أبداً فجرت لهن النفقة. وقوله: ((مؤنة عاملي)) أراد بالعامل الخليفة بعده، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله من الصفايا التي كانت من أموال بني النضير وفدك، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، ثم وليها أبو بكر، ثم عمر كذلك، فلما صارت إلى عثمان رضي الله عنه استغنى عنها بماله فأقطعها مروان وغيره من أقاربه فلم تزل في أيديهم حتى ردها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. الحديث الرابع عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((لا نورث)) أصله ((لا يورث منها)) فحذف ((من)) فاستتر ضمير المتكلم في الفعل فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، كما في قوله تعالى: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} في وجه، وقوله تعالى: {نرتع ونلعب} أي يبرح سيري، وترتع إبلنا، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه انقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم.

كتاب المناقب

5977 - وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)) رواه مسلم. 5978 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم لا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم)) رواه مسلم. [كتاب المناقب] (1) باب مناقب قريش وذكر القبائل ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف- وهو وجه لطيف قوله ((ما تركناه صدقة)) جملة مستأنفة، كأنه لما قيل: لا نورث. فقيل: ما تفعلون بتركتكم؟ فأجيب: ما تركناه صدقة. قال المالكي: ((ما)) في قوله: ((ما تركناه صدقة)) موصولة مبتدأ، وتركناه صلته، والعائد محذوف، وصدقة خبر. وروي: ((صدقة)) بالنصب، فالتقدير: ما تركنا مبذول صدقة، فحذف الخبر وبقي الحال كالعوض منه، ونظيره: {ونحن عصبة} بالنصب وقد تقدم بيانه في باب السجود من هذا الكتاب مستقصي. ((مح)) والحكمة في أن الأنبياء لا يوروثون أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك، ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا، فيهلك الظان وينفر الناس عنهم. الحديث الخامس والسادس عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((وسلفاً بين يديها)) ((نه)): قيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح. باب مناقب قريش وذكر القبائل ((غب)): المنقبة طريق منفذ في الجبل، واستعير للفعل الكريم إما لكونه تأثيراً له، أو لكونه منهجاً في رفعة.

الفصل الأول 5979 - عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) متفق عليه. 5980 - وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الناس تبع لقريش في الخير والشر)) رواه مسلم. 5981 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في هذا الشأن)) حس: معناه تفضيل قريش على قبائل العرب وتقديمها في الإمامة والإمارة. خط: كانت العرب تقدم قريشاً وتعظمها، وكانت دراهم موسماً، والبيت الذي هم سدنته منسكا، وكانت لهم السقاية والرفادة، ويعظمون الحجيج ويسقونهم فحازوا به الشرف والرياسة عليهم. قض: المراد بهذا الشأن الدين، والمعنى أن مسلمي قريش قدوة لغيرهم من المسلمين لأنهم المتقدمون في التصديق، السابقون بالإيمان، وكافرهم قدوة غيرهم من الكفار لأنهم أول من رد الدعوة، وكفر بالرسول، وأعرض عن الآيات ((شف)) فلا يكون حينئذ قوله: ((وكافرهم .. إلى آخره)) في معرض المدح. أقول: يؤيد قول القاضي الحديث الذي يتلوه، كأنه قيل: هم متبوعون في كل أمر، والناس يقتفون أثرهم ويزعمون أن كل ما صدر عنهم خير، ونحوه قول الشاعر: ونحن التاركون لما سخطنا ونحن الآخذون لما رضينا الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا يزال هذا الأمر في قريش)) مح: هذه الأحاديث وأشباهها فيها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لغيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة ومن بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة. وبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدهر ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى الآن.

5982 - وعن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين))) رواه البخاري. 5893 - وعن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، كلهم من قريش)) وفي رواية: ((لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش)) وفي رواية ((لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن معاوية رضي الله عنه: قوله: ((ما أقاموا الدين)) ما مصدرية، والوقت مقدر وهو متعلق بقوله: ((كبه الله)). مظ: أي الخلافة في قريش لا يعاديهم ولا يخالفهم أحد في ذلك إلا أذله الله ما داموا يحافظون على الدين. انتهى كلامه. ويفهم من قول الشيخ التوربشتي أن قوله: ((ما أقاموا)) إذا علق بكبة يستقيم المعنى إذا حمل الدين على الصلاة، وأما إذا حمل على الدين بأصوله وتوابعها فلا لأن منهم من غير وبدل ولم يصرف عنه الأمر. وقيل: معنى الحديث لا يخالف قريشاً أحد في الأمور المتعلقة في الدين بأن أرادوا نقضه وبطلانه وقريش تريد إقامته وإمضاءه إلا أذله الله وقهره. أقول: واللفظ لا يساعد إلا ما عليه المظهر وهو أظهر. الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((إلى اثني عشر خليفة)) تو: السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم فإنهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء وإن قدر أنهم على الولاء فإن المراد منه المسلمون بها على المجاز. قال القاضي عياض: يوجه هاهنا سؤال وهو: أنه قد جاء ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً)) وهو مخالف لهذا الحديث؟. وأجيب: بأن المراد بثلاثون سنة خلافة النبوة وقد جاء مفسراً في بعض الروايات: ((خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً)) ولم يشترط هذا في الاثني عشر. وقيل: المراد باثني عشر أن يكونوا مستحقين الخلافة من العادلين وقد مضى منهم من علم ولابد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة. قوله: ((إلى اثني عشر)) إلى هاهنا نحو حتى في الرواية الأخرى، لأن التقدير: لا يزال الدين قائماً حتى يكون عليهم اثنا عشر خليفة، في أن ما بعدها داخل في ما قبلها.

5984 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله)) متفق عليه. 5985 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف في قوله تعالى {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} إلى تفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فحكم يدور مع الدليل، ومما فيه دليل على الخروج قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} لأنه لو دخل الليل لوجب الوصال، ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله)) يحتمل أن يكونا خبرين وأن يحمل على الدعاء لهما، وأما قوله: ((وعصيت عصت الله)) فهو إخبار ولا يجوز حمله على الدعاء، لكن فيه إظهار شكاية منهم تستلزم الدعاء عليهم بالخذلان لا بالعصيان. حس: قيل إنما دعا لغفار وأسلم لأن دخولهما في الإسلام كان من غير حرب، وكانت غفار تزن- أي تتهم- بسرقة الحجاج، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمحو عنهم تلك السيئة ويغفر لهم. وأما عصية فهم الذين قتلوا القراء ببئر معونة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت عليهم. مح: قال القاضي: هو من حسن الكلام والمجانسة في الألفاظ مأخوذ من سالمته إذا لم تر منه مكروهاً، وكأنه دعا لهم بأن يضع الله عنهم التعب الذي كانوا فيه. الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس لهم مولى)) جملة مقررة للجملة الأولى على الطرد العكس، وفي تمهيد ذكر الله لذكر رسوله وفي تخصيص ذكر الرسول إيذان بمكانته ومنزلته عند الله وإشعار بأن توليه إياهم بلغ مبلغاً لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه.

5986 - وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسلم وغفار ومزينة وجهينة خير من بني تميم ومن بني عامر والحليفين بني أسد وغطفان)) متفق عليه. 5987 - وعن أبي هريرة، قال: ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث سنوات، سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: ((هم أشد أمتي على الدجال)) قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه صدقات قومنا)) وكانت سبية منهم عند عائشة، فقال: ((أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل)) متفق عليه. الفصل الثاني 5988 - عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يرد هوان قريش أهانه الله)) رواه الترمذي [5988] ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: ((موالي)) أي هم ناصروه والمختصون به، وهو أيضاً وليهم وناصرهم والمتكفل بهم وبمصالحهم. الحديث الثامن عن أبي بكر رضي الله عنه: قوله: ((والحليفين)) إنما يقال لهم: ((الحليفان)) لأنهم تحالفوا على التناصر ((مح)) وتفضيل هذه القبائل لسبقهم إلى الإسلام وحسن آثارهم فيه. الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث)) صفة موصوف محذوف، وكذا ((سمعت)). و ((يقول فيهم)) جملة حالية، أي خصال ثلاث سمعتها في حالة كونه صلى الله عليه وسلم قائلاً إياها في حقهم. وقوله: ((سمعته)) بيان أو بدل لقوله: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والخصال الثلاث: أحدها قوله: ((هم أشد أمتي على الدجال)). وثانيها: ((هذه صدقات قومنا)) شرفهم بإضافتهم إلى نفسه صلى الله عليه وسلم. وثالثها: ((اعتقيها فإنها من ولد إسماعيل)) فإن دل على فضيلتهم لكونهم من بني إسماعيل، والولد بضم الواو وسكون اللام جمع ولد.

5989 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أذقت أول قريش نكالا، فأذق آخرهم نوالا)) رواه الترمذي [5989]. 5990 - وعن أبي عامر الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الحي الأسد والأشعرون لا يفرون في القتال، ولا يغلون، هم مني وأنا منهم)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [5990]. 5991 - وعن أنس: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأزد أزد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتين على الناس زمان يقول الرجل: يا ليت أبي كان أزدياً، ويا ليت أمي كانت أزدية)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [5991]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أول قريش نكالا)) يوم بدر والأحزاب، والنكال: العبرة، وقيل: العقوبة، ويؤيده حديث عياض المجاشعي: ((إن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ...)) الحديث. الحديث الثالث عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه: قوله: ((الأسد)) تو: هو بسكون السين وهم حي من اليمن، ويقال: هم الأزد، وهو بالسين أفصح، وهما أزدان: أزد شنوءة وأزد عمان. قوله: ((الأشعرون)) بسقوط الياء في جامع الترمذي وجامع الأصول، وبإثباتها في المصابيح. قال الجوهري: تقول العرب: جاءتك الأشعرون، بحذف الياء. الحديث الرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((الأزد أزد الله في الأرض)) قض: يردي الأزد أزد شنوءة وهم حي من اليمن أولاد أزد ابن الغوث بن بنت مالك بن كهلان بن سبأ، وإضافتهم إلى الله تعالى من حيث إنهم حزبه وأهل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: قوله: ((أزد الله)) يحتمل وجوها:

5992 - وعن عمران بن حصين، قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكره ثلاثة أحياء: ثقيف، وبني حنيفة، وبني أمية. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [5992]. 5993 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في ثقيف كذاب ومبير)) قال عبد الله بن عصمة يقال: الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، والمبير هو الحجاج ابن يوسف وقال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً. رواه الترمذي [5993]. 5994 - وروى مسلم في ((الصحيح)) حين قتل الحجاج عبد الله بن الزبير قالت أسماء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا ((أن في ثقيف كذاباً ومبيراً)) فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. وسيجيء تمام الحديث في الفصل الثالث. 5995 - وعن جابر، قال: قالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. قال: ((اللهم اهد ثقيفاً)) رواه الترمذي [5995] ـــــــــــــــــــــــــــــ أحدها: اشتهارهم بهذا الاسم بأنه ثابتون في الحرب لا يفرون- على ما مر في الحديث السابق، وعليه كلام القاضي. وثانيها: أن تكون الإضافة للاختصاص والتشريف كبيت الله وناقة الله، على ما يدل عليه قوله: ((يريد الناس أن يضعوهم)). وثالثها: أن يراد بها الشجاعة، والكلام على التشبيه، أي: الأزد أسد الله، فجاء به إما مشاكلة، أو قلب السين زاياً. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((كذاب ومبير)) قض: أشار بالكذب إلى ((المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي)) قام بعد وقعة الحسين ودعا الناس إلى طلب ثأره وكان غرضه من ذلك أن يصرف إلى نفسه وجوه الناس ويتوصل به إلى تحصيل الإمارة، وكان طالباً للدنيا مدلساً في تحصيلها، وإياه عنت أسماء بقولها: ((فأما الكذاب فرأيناه)) وبالمبير إلى ((الحجاج)) وهو من البوار بمعنى الهلاك. قوله: ((أحصوا ما قتل الحجاج صبراً)) أصل الصبر الحبس، وقالوا: قتل فلان صبراً أي قتل وهو مأسور ولم يقتل في معركة ولا خلسة.

5996 - وعن عبد الرزاق، عن أبيه، عن ميناء، عن أبي هريرة، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل أحسبه من قيس فقال: يا رسول الله! العن حميراً. فأعرض عنه، ثم جاءه من الشق الآخر، فأعرض عنه، ثم جاءه من الشق الآخر، فأعرض عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله حميراً، أفواههم سلام، وأيديهم طعام، وهم أهل أمن وإيمان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرزاق، ويروي عن ميناء هذا أحاديث مناكير [5996]. 5997 - وعنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((ممن أنت؟ قلت: من دوس: قال: ((ما كنت أرى أن في دوس أحداً فيه خير)) رواه الترمذي [5997]. 5998 - وعن سلمان، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبغضني فتفارق دينك)) قلت: يا رسول الله! كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال: ((تبغض العرب فتبغضني)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [5998]. 5999 - وعن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر، وليس هو عند أهل الحديث بذاك القوي [5999]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس والسابع عن عبد الرزاق: قوله: ((أفواههم سلام)) أي يفشون السلام، فجعل أفواههم نفس السلام مبالغة، وعلى هذا قوله: ((وأيديهم طعام)) أي يطعمون الطعام. الحديث الثامن إلى آخر عن سلمان رضي الله عنه: قوله: ((تبغض العرب)) العرب ما يقابل العجم. نه: ((العرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية أو المدن، والنسب إليها أعرابي وعربي.

6000 - وعن أم الحرير، مولاة طلحة بن مالك، قالت: سمعت مولاي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتراب الساعة هلاك العرب)) رواه الترمذي. [6000] 6001 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة، والأمانة في الأزد)) يعني اليمن. وفي رواية موقوفاً. رواه الترمذي وقال: هذا أصلح [6001]. الفصل الثالث 6002 - عن عبد لله بن مطيع، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: ((لا يقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم، إلى يوم القيامة)) رواه مسلم. 6003 - وعن أبي نوفل، معاوية بن مسلم، قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة، قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس، حتى مر عليه عبد الله بن عمر، ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول عن عبد الله بن مطيع: قوله: ((لا يقتل قرشي صبراً)) قال الحميدي: وقد تأول بعضهم هذا الحديث فقال: معناه لا يقتل قرشي بعد هذا اليوم صبراً إلى يوم القيامة وهو مرتد عن الإسلام ثابت على الكفر، إذ قد وجد من قريش من قتل صبراً فيما سبق ومضى من الزمان بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجد منهم من قتل صبراً وهو ثابت على الكافر. أقول: ويجوز أن يكون النفي بمعنى النهي وهو أبلغ من صريح النفي كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من: ليرحمك الله، ونحوه قوله تعالى {الزاني لا ينكح إلا زانية} في وجه، وهذا الوجه اقرب إلى مدح قريش وتعظيم، ويبقى الكلام على إطلاقه. الحديث الثاني إلى آخره عن أبي نوفل: قوله: ((على عقبة المدينة)) يردي على عقبة في مكان واقعة على طريق المدينة وكان عبد الله بن الزبير مصلوباً.

فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولا للمرحم، أما والله لأمة أنت شرها لأمة سوء- وفي رواية لأمة خير- ثم نفذ عبد الله ابن عمر، فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله، فأرسل إليه، فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور اليهود، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبني بقروني. قال: فقال: أروني سبتي، فأخذ نعليه، ثم انطلق بتوذف حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا بن ذات النطاقين! ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((أنهاك عن هذا)) المشار إليه بهذا إلى صلبه، يعني كنت أنهاك عما يؤدي إلى ما أراك فيه فعلى هذا هو من وادي قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً}. وقوله: ((إن كنت)) هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف وما زائدة. وقوله: ((وصولا للرحم)) بفتح الواو، مح: قال القاضي عياض: هذا أصح من قول بعض الإخباريين ووصفه بالإمساك، وقد عده صاحب كتاب الأجواد فيهم، وهو المعروف من أحواله. قوله: ((لأمة أنت شرها لأمة خير)) هكذا هو مروي عن مشايخنا، وكذا نقله القاضي عياض عن جمهور رواة صحيح مسلم ونقله القاضي عن رواية السمرقندي: ((لأمة سوء)) قال: وهو خطأ وتصحيف. ((ثم نفذ)) أي مضى وذهب. وقوله: ((من يسحبك بقرونك)) أي: يجرك بضفائر شعرك. و ((سبتي)) بكسر السين المهملة وإسكان الباء الموحدة وتشديد الياء المثناة من تحت هي النعل التي لا شعر عليها. و ((يتوذف)) بالواو والذال المعجمة، قال: أبو عبيد: معناه يسرع، وقيل: يتبخر. قوله: ((ذات النطاقين)) النطاق: ما تشد به المرأة وسطها عند الأشغال لترفع به ثوبها، وسميت بذلك لأنها قطعت نطاقاً نصفين عند مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدت بأحدهما قربته وبالآخر سفرته، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ((ذات النطاقين)).

أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا ((إن في ثقيف كذاباً ومبيراً))، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. قال: فقام عنها فلم يراجعها. رواه مسلم. 6004 - وعن نافع، أن ابن عمر أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالا: ألم يقل الله تعالى {وقاتلوهم ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: شدت بأحدهما سفرته وبالآخر وسطها للشغل، وكان الحجاج من خبثه حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حقها: ((ذات النطاقين)) على الذم وأنها خادمة خراجة ولاجة تشد نطاقها للخدمة، والعرب تمدح بترك الانتطاق، قال امرؤ القيس: وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل كأنها سلمت أنها ((ذات النطاقين)) ولكن نطاق ليس هذا شأنه، وإليه الإشارة بقولها: ((أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما ... الخ)) ونظيره قوله تعالى: {ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} كأنه قيل: نعم هو أذن كما قلتهم، إلا أنه أذن خير لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، إلا أنه فسر بما هو مدح له وإن كانوا قصدوا به المذمة. قوله: ((فلا إخالك إلا إياه)) الظاهر أن يقال: لا إخاله إلا إياك، فقدم ثاني مفعوليه اهتماماً وأن المحكوم عليه بهذا الحكم هو، لا أن المبير من هو، فهو ينظر إلى قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} قدم شركاء وهو المفعول الثاني على الأول على الأول وهو الجن، وقدم أيضاً لله عليهما اهتماماً ومزيداً للإنكار- كما مر فيه البيان في شرح التبيان-. مح: في سلام ابن عمر رضي الله عنهما عليه وهو مصلوب اسحباب السلام على الميت وتكريره. وفيه الثناء على الموتى بجميل صفاتهم المعروفة.

(2) باب مناقب الصحابة [رضي الله عنهم أجمعين]

حتى لا تكون فتنة} فقال ابن عمر: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. رواه البخاري. 6005 - وعن أبي هريرة، قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا قد هلكت، عصت وأبت، فادع الله عليهم، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: ((اللهم اهد دوساً وأت بهم)) متفق عليه. 6006 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) [6006]. (2) باب مناقب الصحابة [رضي الله عنهم أجمعين] ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه منقبة عظيمة لابن عمر رضي الله عنهما لقوله الحق في الملأ وعدم اكتراثه بالحجاج، لأنه يعلم أن مقامه وثناءه عليه يبلغه، فلم يمنعه ذلك أن يقول الحق ويشهد لابن الزبير بما يعلمه فيه من الخير، وبطلان ما أشاع عنه الحجاج من قوله: عدو الله، وظالم، ونحوه. فأراد ابن عمر رضي الله عنهما براءة ابن الزبير من الذي نسب إليه الحجاج، وإعلام الناس بمحاسنه. ومذهبنا أن ابن الزبير كان مظلوماً. والله أعلم بالصواب. باب مناقب الصحابة رضي الله عنهم الصحابي المعروف عند أهل الحديث وبعض أهل الأصول: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسلم ويعرف كونه صحابياً بالتواتر كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أو بالاستفاضة أو بقول صحابي غيره إنه صحابي، أبو بقوله عن نفسه إنه صحابي، إذا كان عدلا والصحابة كلهم عدول مطلقاً لظواهر الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به. ((مح)): قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم بيعة الرضوان، ومن له مزية من أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم: من صلى إلى القبلتين، وقيل: أهل بيعة الرضوان، وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة أيتهما أفضل؟ وفي عائشة وفاطمة. وأما معاوية فهو من العدول الفضلاء ومن الصحابة الخيار، والحروب التي جرت بينهم كانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم متأولون في حروبها، ولم يخرج أحد منهم من العدالة لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل كما اختلف المجتهدون بعدهم في مسائل، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم.

الفصل الأول 6007 - عن أبي سعدي الخدري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه. 6008 - وعن أبي بردة، عن أبيه، قال: رفع- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- رأسه إلى السماء، وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء. فقال: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد؛ وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((لا تسبوا)) مح: أعلم أن سب الصحابي حرام وهو من أكبر الفواحش، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزر، وقال بعض المالكية: يقتل: وقال القاضي عياض: سب أحدهم من الكبائر. قوله: ((ولا نصيفه)) قض: النصيف النصف، أي نصف مد، وقيل هو: مكيال دون المد، والمعنى أنه لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهباً من الفضيلة والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصفه لما يقارنه من مزيد الإخلاص وصدق النية وكمال النفس. أقول: ويمكن أن يقال: إن فضيلتهم بحسب فضيلة إنفاقهم وعظم موقعه، كما قال الله تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}، من قبل الفتح أي قبل فتح مكة، يعني قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، هذا في الإنفاق فكيف بمجاهدتهم وبذل أرواحهم ومهجهم وفراغهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. الحديث الثاني عن أبي بردة رضي الله عنه: قوله: ((مما يرفع)) بيان لكثير، أو هو خبر كان، أي كثيراً رفع رأسه، وما مصدرية ويجوز أن تكون زائدة. قوله: ((أمنة للسماء)) يقال: أمنته وأمنته غيري وهو في أمن منه، وفلان أمنة وأمنة بسكون الميم كأنها المرة من الأمن. ويجوز أن يكون جمع آمن كبار وبررة.

6009 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل، فيفتح ـــــــــــــــــــــــــــــ وأمنة إذا نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مصدراً مبالغة من قولهم: رجل عدل. أو: جمعاً فيكون من باب قوله تعالى: {شهاباً رصدا} أي راصدين، وقوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً}. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أمناً لأصحابه بمنزلة الجماعة. ((نه)) أراد بوعد السماء انشقاقها وذهابها يوم القيامة، وذهاب النجوم تكويرها وانكدارها وانعدامها. وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن. وكذلك أراد بوعد الأمة. والإشارة في الجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير، فإنه لما كان بين أظهرهم كان يبين لهم ما يختلفون فيه، فلما توفي جالت الآراء واختلفت الأهواء وكان الصحابة يسندون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أو فعل أو دلالة حال، فلما فقد قلت الأنوار، وقويت الظلم، وكذلك حال السماء عند ذهاب النجوم، والأمنة في هذا الحديث جمع أمين وهو الحافظ. الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فئام من الناس)) مح: هو بفاء مكسورة ثم همزة، أي جماعة، وحكى القاضي عياض بالياء مخففة بلا همز، ولغة أخرى بفتح الفاء عن الخليل، والمشهور الأول.

لهم [به]، ثم يبعثه الثاني فيقولون: هل فيهم من رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفتح لهم [به] ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا، هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم [به])). 6010 - وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن)) وفي رواية: ((ويحلفون ولا يستحلفون)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضل لأصحابه والتابعين وتابعيهم. والبعث هنا الجيش. الحديث الرابع عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((قرني ثم الذين يلونهم)) نه: يعني الصحابة ثم التابعين، والقرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. وقيل: القرن أربعون سنة. وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق من الزمان، وهو مصدر قرن يقرن- انتهى كلامه-. و ((ثم)) فيه بمنزلة الفاء في قوله: الأفضل فالأفضل، على أنه بيان لتراخي الرتبة في النزول، والخير الأول أطلق على ما اقتضاه معنى التفضيل من الاشتراك حتى انتهى إلى حد يرتفع فيه الاشتراك فيختص بالموصوف فلا يدخل ما بعده من قوله: ((ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ...)) الحديث فهو كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً}. وقولك: الصيف أحر من الشتاء. قوله: ((ويظهر فيهم السمن)) نه: في الحديث: ((ويكون في آخر الزمان قوم يتسمنون)) أي يتكبرون بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف. وقيل: أراد جمعهم الأموال. وقيل: يحبون التوسع في المأكل والمشرب وهي أسباب السمن. تو: كني به عن الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الدين، فإن الغالب على ذوي السمانة أن لا يهتموا بارتياض النفوس، بل معظمهم همهم تناول الحظوظ، والتفرغ للدعة والنوم.

6011 - وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة ((ثم يخلف قوم يحبون السمانة)) الفصل الثاني 6012 - عن عمر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن لشيطان ثالثهم، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)) رواه. [6012] 6013 - وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تمس النار مسلماً رآني أو رأى من رآني)) رواه الترمذي [6013] ـــــــــــــــــــــــــــــ مح: قالوا: والمذموم من السمن، ما يستكسبه، وأما ما هو خلقه فلا يدخل في هذا. قوله: ((يشهدون ولا يستشهدون)) مح: هذا مخالف في الظاهر لحديث: ((خير الشهور من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل))؟ قالوا: والجمع بينهما أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حق من هو عالم بها قبل أن يسألها له صاحبها، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لأحد لا يعلم بها فيخبره بها ليستشهده عند القاضي، ويلحق به من كانت عنده شهادة في حد ورأى المصلحة في الكشف، هذا ما عليه الجمهور. ومعنى الجمع في قوله: ((يخونون ولا يؤتمنون)) أنهم يخونون خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى معها ثقة، بخلاف من خان حقيراً مرة واحدة فإنه لا يخرج به عن أن يكون مؤتمناً في بعض المواطن. الفصل الثاني الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((بحبوحة الجنة)) نه: بحبوحة الدار وسطها، يقال: بحبح إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام. قوله: ((فليلزم الجماعة)) المراد بالجماعة السواد الأعظم وما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين والسلف الصالح، فيدخل فيه حبهم وإكرامهم دخولاً أولياً. قوله: ((وهو من الاثنين أبعد)) أفعل هنا لمجرد الزيادة، ولو كان مع الثلاثة لكان بمعنى التفضيل إذ البعد مشترك بين الثلاثة والاثنين وليس بمشترك بين الاثنين والفذ على ما لا يخفى.

6014 - وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذونهم غرضاً من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [6014] 6015 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح)) قال الحسن: فقد ذهب ملحنا فكيف نصلح؟ رواه في ((شرح السنة)) [6015] 6016 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [6016] وذكر حديث ابن مسعود ((لا يبلغني أحداً)) في باب ((حفظ اللسان)). الفصل الثالث 6017 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الذين يسبون ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلى آخره: عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: قوله: ((الله الله في أصحابي)) أي اتقوا الله ثم اتقوا الله في حق أصحابي، لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم. أو التقدير: أذكركم الله وأنشدكم في حق أصحابي وتعظيمهم وتوقيرهم، كما يقول الأب المشفق: الله الله في حق أولادي. وقوهل: ((فبحبي أحبهم)) أي بسبب حبه إياي أحبهم، أي إنما أحبهم لأنه يحبني، وإنما أبغضهم لأنه يبغضني والعياذ بالله تعالى، فحق لذلك قول من قال: إن من قد سبهم فقد استوجب القتل في الدنيا على ما سبق في مذهب بعض المالكية. الفصل الثالث الحديث الأول عن ابن عمر رضي الله عنهما:

(3) باب مناقب أبي بكر [رضي الله عنه]

أصحابي فقولوا: لعنة الله على شركم)) رواه الترمذي [6017] 6018 - وعن عمر بن الخطاب: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سألت ربي عن اختلاف أصحابي من بعدي، فأوحى إلي: يا محمد! إن أصحابي عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أقوى من بعض، ولكل نور، فمن أخذ بشيء مماهم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى)) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم)). رواه رزين [6018] (3) باب مناقب أبي بكر [رضي الله عنه] الفصل الأول 6019 - عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أمن الناس علي ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لعنة الله على شركم)) هو من الكلام المنصف الذي من سمعه من موال أو مناف، قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، ومنه بيت حسان في حق من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء والتعريض والتورية أوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقلة شوكته بالهوينا. الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((عن اختلاف أصحابي)) أي في فروع الشرائع لا في أصولها، لقوله بعد ذلك: ((فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلاف فهو عندي على هدى)). و ((من)) في قوله: ((ما هم)) بيان شيء. ومن في ((من اختلافهم)) بيان. وفيه أن اختلاف الأئمة رحمة للأمة، والله أعلم. باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قوله: ((إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)) كذا هو في صحيح مسلم، وفي البخاري: ((أبا بكر)) بالنصب وهو الظاهر، لأنه اسم ((إن)) والرفع مشكل.

في صحبته وماله أبو بكر- وعند البخاري: أبا بكر- ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي ـــــــــــــــــــــــــــــ مظ: وفيه أوجه: الأول: أن تكون ((من)) زائدة على مذهب الأخفش. وقيل: ((إن)) هاهنا بمعنى نعم كما في جواب قوله: لعن الله ناقة حملتني إليك، قال: إن وصاحبها. فقوله: ((أبو بكر)) مبتدأ، و ((من أمن الناس)) خبره. وقيل: اسم ((إن)) ضمير الشأن. تو: يريد أن من أبذلهم وأسمحهم من من عليه منا لا من من عليه منة، إذ ليس لأحد أن يمتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه ورد مورد الأحماد، وإذا حمل على معنى الامتنان عاد ذماً على صاحبه لأن المنة تهدم الصنيعة. و ((الخوخة)) كوة في الجدار تؤدي الضوء. وقال الليث: ناس من أهل اللسان يسمون هذا الباب الذي يسميه العرب، المحترف ((خوخة))، فعلى هذا الخوخة مر بين بيتين أو دارين ينصب عليه باب. وكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه آخر خطبة خطبها، ولا خفاء بأن ذلك تعريض بأن أبا بكر هو المستخلف بعده. وهذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة فذلك لأن أصحاب المناازل اللاصفة بالمسجد قد جعلوا من بيوتهم مخترقاً يمرون فيه إلى المسجد، أو كوة ينظرون منها إليه، فأر بسد جملتها سوى خوخة أبي بكر تكريماً له بذلك أولاً، ثم تبينها للناس في ضمن ذلك على أمر الخلافة حيث جعله مستحقاً لذلك دون الناس. وإن أريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة، وسد أبواب المقالة دون التطرق إليه والتطلع عليها، وأرى المجاز فيه أقوى إذ لم يصح عندنا أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، ثم إنه مهد المعنى المشار إليه وقرره بقوله: ((ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا)) ليعلم أنه أحق الناس بالنيابة عنه، وكفانا من الحجة على هذا التأويل تقديمه إياه في الصلاة وإباؤه كل الإباء أن يقف غيره ذلك الموقف والله أعلم. قوله: ((لاتخذت أبا بكر خليلاً)) قض: الخليل الصاحب الواد الذي يفتقر إليه ويعتمد في الأمور عليه، فإن أصل التركيب للحاجة، والمعنى لو كنت متخذاً من الخلق خليلاً أرجع إليه في الحاجات وأعتمد عليه في المهمات لاتخذت أبا بكر، ولكن الذي ألجأ إليه وأعتمد عليه في جملة الأمور ومجامع الأحوال هو الله تعالى، وإنما سمي إبراهيم عليه السلام خليلاً من الخلة

بكر)) وفي رواية: ((لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً)) متفق عليه. 6020 - وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً)) رواه مسلم. 6021 - وعن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا، ولا؛ [و] يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) رواه مسلم وفي ((كتاب الحميدي)): ((أنا أولى)) بدل: ((أنا ولا)). ـــــــــــــــــــــــــــــ بالفتح التي هي الخصلة فإنه تخلق بخلال حسنة اختصت به، أو من التخلل فإن الحب تخلل شغاف قلبه واستولى عليه، أو من الخلة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يفتقر حال الافتقار إلا إليه، وما كان يتوكل إلا عليه، فيكون فعيلا بمعنى فاعل، وفي الحديث بمعنى مفعول. وقوله: ((ولكن أخوة الإسلام)) استدراك عن مضمون الجملة الشرطية، ونحوها: كأن ليس بيني وبينه خلة ((ولكن أخوة الإسلام)) نفى الخلة المنبئة عن الحاجة وأثبت الإخاء المقتضي للمساواة. الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وقد اتخذ الله)) فيه مبالغة من وجهين: أحدهما: أنه أخرج الكلام على التجريد حيث قال: ((صاحبكم)) ولم يقل: اتخذني. وثانيهما: ((اتخذ صاحبكم)) بالنصب عكس ما لمح إليه الحديث السابق من قوله: ((غير ربي)) فدل الحديثان على حصول المخاللة من الطرفين. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أن ولا)) مح: هكذا هو في بعض النسخ المعتمدة، أي يقول: أنا أحق بالخلافة ولا يستحقها غيري. وفي بعضها: ((أنا أولى)) أي أنا أحق بالخلافة. قال القاضي عياض: هذه الرواية أجود. وأما طلبه لأخيها مع أبي بكر فلأن يكتب الكتاب، وهذا دليل لأهل السنة على أنا خلافة

6022 - وعن جبير بن مطعم، قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فكلمته في شيء فأمرها أن ترجع إليه قالت: يا رسول الله! أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت. قال: ((فإن لم تجدني فأتى أبا بكر)) متفق عليه. 6023 - وعن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)). قلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها)). قلت: ثم من؟ قال: ((عمر)). فعد رجالا، فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم. متفق عليه. 6024 - وعن محمد بن الحنفية، قال، قلت لأبي: أي الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. رواه البخاري. 6025 - وعن ابن عمر، قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكر ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضله، ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة بين الأنصار وغيرهم أولاً، ولذكر حافظ النص ما معه ورجعوا إليه أولاً، ثم اتفقوا عليه. وأما ما تدعيه الشيعة من النص على ((علي)) رضي الله عنه والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين، وأول من كذبهم علي رضي الله عنه حين سئل: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ قال: ما عندي إلا ما في هذه الصحيفة .. الحديث. ولو كان عنده نص لذكره. وأما قوله في الحديث الذي يليه حين قال للمرأة: ((فإن لم تجدني فأت أبا بكر)) فليس فيه نص على خلافته بل هو إخبار بالغيب الذي أعلمه الله به. الحديث الرابع والخامس عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: قوله: ((على جيش ذات السلاسل)) قض: السلاسل رمل ينعقد بعضه ببعض، وسمي الجيش بذلك لأنهم كانوا مبعوثين إلى أرض بها رمل كذلك. الحديث السادس والسابع عن ابن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((لا نفاضل بينهم)) ((خط)): وجه ذلك أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم فيه، وكان علي رضي الله عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السن، ولم يرد ابن عمر الإزراء بعلي ولا تأخيره عن الفضل بعد عثمان، وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة.

وفي رواية لأبي داود، قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضي الله عنهم. [6025] الفصل الثاني 6026 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن صاحبكم خليل الله)) رواه الترمذي [8026] 6027 - وعن عمر [رضي الله عنه] قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي [8027] 6028 - وعن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ((أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض)) رواه الترمذي [8028] ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: وأيضاً قد عرف أن أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وأصحاب العقبتين الأولى والثانية يفضلون غيرهم، وكذلك علماء الصحابة وذووا الفهم المتبتلون عن الدنيا. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه)) وفسر قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى} بأن المراد منه أبو بكر رضي الله عنه. الحديث الثاني والثالث عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((أنت صاحبي في الغار)) كما قال الله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} قيل: من أنكر صحبة أبي بكر لأنه أنكر النص الجلي.

6029 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6029]. 6030 - وعن عمر، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك عند مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. قال: فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك)) فقلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: ((يا أبا بكر؟ ما أبقيت لأهلك؟)). فقال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً. رواه الترمذي، وأبو داود [6030] 6031 - وعن عائشة، أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنت عتيق الله من النار)) فيومئذ سمي عتيقاً رواه الترمذي [6031]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أن يؤمهم غيره)) مظ: هذا دليل على فضله على جميع الصحابة فإذا ثبت هذا فقد ثبتت خلافته؛ لأن خلافة المفضول مع وجود الفاضل لا تصح. الحديث الخامس عن عمرو رضي الله عنه: قوله: ((ووافق ذلك عندي مالا)) أي صادف أمره بالتصدق حصول مال عندي. قوله: ((أبقيت)) قول الصديق رضي الله عنه: ((أبقيت لهم الله ورسوله)) إطناباً يوافق قول القاروق رضي الله عنه اختصاراً في قوله: ((مثله)) في تطابقهما على [مجرى] البلاغة، ونظيره في الإطناب قول الله تعالى حكاية عن عبدة الأصنام بعد ما سئلوا: ما تعبدون؟: {نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} قالوه ابتهاجاً منهم بعبادة الأصنام وافتخاراً بمواظبتها. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عتيق الله)) غب: العتيق المتقدم في الزمان أن المكان، أو الرقابة، ولذلك قيل للقديم: عتيق، وللكريم: عتيق، ولمن حل عن الرق: عتيق.

6032 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين)) رواه الترمذي [6034]. 6033 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي يدخل منه أمتي)) فقال أبو بكر: يا رسول الله! وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك يا أبا بكر! أول من يدخل الجنة من أمتي)) رواه أبو داود [6033]. الفصل الثالث 6034 - عن عمر، ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال: وددت أن عملي كله مثل عمله يوماً واحداً من أيامه، وليلة واحدة من لياليه، أما ليلته فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقباً، فشق إزاره وسدها به، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فيحشرون معي)) المراد بالحشر هنا الجمع، كقوله تعالى: {وأن يحشر الناس ضحي} وكذا معنى قوله: ((حتى أحشر)). الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أول من يدخل الجنة من أمتي)) لما تمنى رضي الله عنه بقوله: ((وددت)) والتمني إنما يستعمل فيما لا يستدعى إمكان حصوله، قيل له: ((لا تتمنى النظر إلى الباب فإن لك ما هو إلى منه وأجل، وهو دخولك فيه أول أمتي)) وحروف التنبيه ينبهك على [الرمزة] التي لوحنا بها. الفصل الثالث الحديث الأول عن عمر رضي الله عه: قوله ((فكسحه)) أي كنسه، الكسح الكنس.

وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه. ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مالك يا أبا بكر؟)) قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده، ثم انتفض عليه، وكان سبب موته. وأما يومه، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة. فقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه. فقلت: ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((فألقمهما)) أي جعل رجليه كاللقمة لها غاية للحرص على سدها. ((ثم انتقض عليه)) أي نكست الجراحة بعد أن اندملت لتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في أساس البلاغة، انتقضت القرحة نكست. قوله: ((في رجله)) بدل من أبي بكر، بدل البعض، وجيء بفي بياناً لشدة تمكن اللدغ فيها، كما في قول الشاعر: يجرح في عراقيبها نصلي قوله: ((لو منعوني عقالا)) نه: أراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة، لأن على صاحبها التسليم وإنما يقع القبض بالرباط. وقيل: أراد ما يساوي عقالا من حقوق الصدقة. وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل، قيل: أخذ عقالا، وإذا أخذ أثمانها قيل: أخذ نقداً. وقيل: أراد بالعقال صدقة العام، يقال: أخذ المصدق عقال هذا العام إذا أخذ منهم صدقته، وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم، واختاره أبو عبيد، وقال: هو أشبه عندي بالمعنى. وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في هذا بالأقل لا بالأكثر، وليس بسائر في كلامهم أن العقال صدقة عام. وفي أكثر الروايات: ((لو منعوني عناقاً)) وفي أخرى: ((جدياً)). قلت: قد جاء في الحديث ما يدل على القولين، فمن الأول: حديث عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ مع كل فريضة عقالاً، فإذا جاءت إلى المدينة باعها ثم تصدق بها. وحديث محمد بن سلمة أنه كان يعمل بالصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقالهما وقرانهما.

(4) باب مناقب عمر

يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! تألف الناس وارفق بهم فقال لي: أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي؟. رواه رزين. (4) باب مناقب عمر الفصل الأول 6035 - عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومن الثاني: حديث عمر رضي الله عنه أنه أخر الصدقة عام الرمادة، فلما أحيا الناس بعث عامله فقال: اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالا وائتني بالآخر، يريد صدقة عامين. قوله: ((وخوار في الإسلام)) نه: هو من خار يخور إذا ضعفت قوته ووهنت. أقول: أنكر عليه ضعفه ووهنه في أمر الدين، ولم يرد أن يكون جباراً بل أراد به التصلب والشدة في الدين، ولكن لما ذكر الجاهلية قرنه بذكر الجبار، ومن العجب أن أبا بكر كان منسوباً إلى الرفق والأناة وعمر رضي الله عنه إلى الشدة والصلابة فعكس الأمر في هذه القضية. باب مناقب عمر رضي الله عنه الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي عنه: قوله: ((محدثون)) ((نه)): المحدث في كلامهم هو الرجل الصادق الظن، وهو في الحقيقة من ألقى في روعة شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدث به. وفي قوله: ((وإن يك في أمتي أحد فهو عمر)) لم يرد هذا القول مورد التردد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذ كانوا موجودين في غيرهم من الأمم فالبحري أن يكونوا موجودين في هذه الأمة أكثر عدداً وأعلى رتبة، وإنما ورد مورود التأكيد والقطع به، ولا يخفى على ذي الفهم محله من المبالغة كما في قول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان، يريد بذلك اختصاصه بالكمال في صداقته لا نفي الأصدقاء. أقول: هذا الشرط من باب قول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه.

6036 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: استأذن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله! فقال الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب)) قال عمر: يا عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ أنت أفظ وأغلظ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيه يا بن ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمراد بالمحدث: الملهم المبالغ فيه الذي انتهى إلى درجة الأنبياء في الإلهاء فالمعنى: لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون من قبل الملأ الأعلى، فإن يكن في أمتي أحد هذا شأنه فهو عمر، جعله لانقطاع قرينه وتفوقه على أقرانه في هذا كأنه تردد هل هو نبي أم لا؟ فاستعمل إن، يؤيده ما ورد في الفصل الثاني: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)) فلو في هذا الحديث بمنزلة إن على سبيل الفرض والتقدير كما في قول عمر رضي الله عنه: ((نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه)). الحديث الثاني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قوله: ((ويستكثرونه)) مح: أي يطلبن منه النفقات الكثيرة. قال القاضي عياض في قوله: ((عالية أصواتهن)) يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن علو أصواتهن إنما كان لاجتماعهن في الصوت لا أن كلام كل واحدة بانفراده أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم. قوله: ((أنت أفظ وأغلظ)) لم يرد بذلك مزيد الفظاظة والغلظة لعمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان حليماً مواسياً رقيق القلب في الغاية، بل المبالغة في فظاظة عمر رضي الله عنه مطلقاً. قوله: ((إيه)) تو: هو اسم يسمى به الفعل، لأن معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: ((إيه)) بكسر الهاء، فإن وصلت نونت وقلت: ((إيه حدثنا))، وإذا أسكته وكففته قلت: ((إيها عنا)) ومن حقه في هذا الحديث أن يكون: ((إيها)) أي اكفف يا بن الخطاب عن هذا الحديث، ورواه البخاري في كتابه مجروراً منوناً والصواب: ((إيها)) وروى مسلم هذا الحديث في جامعة وليس لهذه الكلمة في روايته ذكر. أقول: معنى قول عمر: ((أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)) أي أتوقرنني ولا توقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

الخطاب! والذي نفسي بيده ما لقيت الشيطان سالكاً فجا قط إلا سلك فجاً غير فجك)) متفق عليه. وقال الحميدي: زاد البرقاني بعد قوله: يا رسول الله: ما أضحك. 6037 - وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك)) فقال [عمر]: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أعليك أغار؟. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ حس: هو من قولهم: هبت الرجل إذا وقرته وعظمته، يقال: هب الناس يهابوك، أي وقرهم يوقروك- انتهى كلامه-. ولا شك أن الأمر بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب لذاته يجب الاستزادة منه فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيه) استزادة منه في طلب توقيره وتعظيم جانبه، ولذلك عقبه بقوله: ((والذي نفسي بيده .. الخ)) فإنه يدل على استرضاء ليس بعده استرضاء، إحماداً منه صلى الله عليه وسلم لفعاله كلها لاسيما هذه الفعلة. قوله: ((ما لقيك الشيطان سالكاً)) تو: فيه تنبيه على صلابته في الدين واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، حتى كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسيف الصارم والحسام القاطع إن أمضاه مضى وإن كفه كف، فلم يكن له على الشيطان سلطان إلا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هو كالوازع بين يدي الملك فلهذا كان الشيطان ينحرف عن الفجر الذي سلكه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة إلى العالمين مأموراً بالعفو عن المذنبين، معنياً بالصفح عن الجاهلين لم يكن ليواجههم فيما لا يحمده من فعل مكروه أو سوء أدب بالفظاظة والغلظة والزجر البليغ، إذ لا يتصور الصفح والعفو مع تلك الخلال، فلهذا تسامح هو فيها واستحسن استشعارهن الهيبة من عمر رضي الله عنه. مح: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان متى رآه سالكاً فجا هرب لرهبته من عمر رضي الله عنه، وفارق ذلك الفج لشدة بأسه. قال القاضي عياض: ويحتمل أنه ضرب مثلاً بالشيطان وإغوائه وأن عمر رضي الله عنه فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد وخالف ما يأمره به. والصحيح الأول.

6038 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) متفق عليه. 6039 - وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج [في] أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر ابن الخطاب)) قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((العلم)) متفق عليه. 6040 - وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليه دلو؟ فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قميص)) ((مح)) القميص الدين، وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة وسنته الحميدة في المسلمين بعد وفاته ليقتدي به. وأما تفسير اللبن بالعلم فلكثرة الانتفاع بهما، وفي أنهما سبباً الصلاح، فاللبن غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم، والعلم سبب في صلاح الدنيا والآخرة وغذاء للأرواح. الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رأيتني على قليب)) قض: لعل القليب إشارة إلى الدين الذي هو منبع ما به تحي النفوس، وهو أمر المعاش. ونزع الماء منها إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء حكمه والقيام لمراسمه وسياساته. وتناوبهم في ذلك إشارة إلى أن هذا الأمر ينتهي من الرسول صلوات الله عليه إلى أبي بكر، ومنه إلى عمر. ونزع أبي بكر ذنوباً أو ذنوبين إشارة إلى قصر مدة خلافته وأن الأمر إنما يكون بيده سنة أو سنتين ثم ينتقل إلى عمر، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر. وضعفه: فيه إشارة إلى ما كان فيه أيامه من الاضطراب والارتداد واختلاف الكلمة، أو إلى ما كان له من لين الجانب وقلة السياسة والمداراة مع الناس، ويدل على هذا قوله: ((غفر الله ضعفه)) وهو اعتراض ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلم أن ذلك موضع ومغفور عنه غير قادح في منصبه.

فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن)). 6041 - وفي رواية ابن عمر، قال: ((ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريه، حتى روي الناس وضربوا بعطن)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومصير الدلو في نوبة عمر غرباً- وهو الدلو الكبير الذي يستقي به البعير- إشارة إلى ما كان في أيامه من تعظيم الدين وإعلاء كلمته وتوسيع خططه وقوته، وجده في النزع إشارة إلى ما اجتهد في إعلاء أمر الدين وإفشائه في مشارق الأرض ومغاربها اجتهاداً لم يتفق لأحد قبله ولا بعده. والعبقري: القوي، قيل: العبقر اسم واد يزعم العرب أن الجن تسكنه فنسبوا إليه كل من تعجبوا منه أمراً كقوة أو غيرها، فكأنهم وجدوا ما وجدوا منه خارجاً عن وسع الإنسان فحسبوا أنه جني من العبقر، ثم قالوا لكل شيء نفيس. وقوله: ((حتى ضرب الناس بعطن)) أي حتى رووا إبلهم فأبركوها وضربوا لها عطناً وهو مبروك الإبل. مح: في قوله: ((وفي نزعه ضعف)) ليس فيه حط لمنزلته ولا إثبات فضيلة لعمر عليه رضي الله عنهما، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وفتح البلاد وحصول الأموال والغنائم. وأما قوله: ((والله يغفر له صعفه)) فليس فيه نقص له، ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يزينون بها كلامهم، وقد جاء في صحيح مسلم أنها كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا والله يغفر لك. أقول: أراد أنه من باب التتميم وهو أن يقيد بكلام فيه نوع إيهام للنقص بما بصونه عنه، مثاله قول أبي الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا ((مح)) وقوله: ((فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة)) إشارة إلى نيابة أبي بكر رضي الله عنه وخلافته بعده، وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته من نصب الدنيا ومشاقها. وفي قوله: ((ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر .. إلى قوله: وضربوا بعطن)) إشارة إلى أن أبا بكر رضي الله عنه قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وابتدأ الفتوح، ومهد الأمور، وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر رضي الله عنه.

الفصل الثاني 6042 - عن ابن عمر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)). رواه الترمذي. [6042] 6043 - وفي رواية أبي دواد، عن أبي ذر، قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول] [((إن))] الله وضع الحق على لسان عمر يقول به)). [6043] 6044 - وعنه علي [رضي الله عنه] قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) [6044]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفريه: تروى بإسكان الراء وتخفيف الياء، وكسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، ومعناه: لم أر شيئاً يعمل عمله ويقع قطعه. وأصل ((الفري)) بالإسكان القطع تقول العرب: تركته يفري الفري إذا عمل العمل فأجاد. الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((جعل الحق على لسان عمر)) ضمن جعل معنى أجرى فعداه بعلى، وفيه معنى ظهور الحق واستعلائه على لسانه، وفي وضع الجعل والوضع موضع أجرى إشعار بأن ذلك كان خلقياً ثابتاً مستقراً. الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إن السكينة تنطق)) تو: أي لم يكن يبعد أنه ينطلق بما يستحق أن تسكن إليها النفوس وتطمئن به القلوب، وأنه أمر غيبي ألقي على لسانه، ويحتمل أنه أراد بالسكينة الملك الذي يلهمه ذلك القول. نه: قيل: أراد بها السكينة التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، قيل في تفسيرها، إنها حيوان له وجه كوجه الإنسان مجتمع وسائرها خلق رقيق كالريح والهواء. وقيل: هي صورة كالهرة كانت معهم في جيوشهم فإذا ظهرت انهزم أعداؤهم.

6045 - وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعز الإسلام بأبي جهل ابن هشام، أو بعمر بن الخطاب)) فأصبح عمر، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم صلى في المسجد ظاهرا. رواه أحمد، والترمذي [6045]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: هي ما كانوا يسكنون إليه من الآيات التي أعطيها موسى عليه السلام، والأشبه بحديث عمر أنه تكون هي الصورة المذكورة. أقول: لعله إنما حمله على هذا القول لما أثبت للسكينة النطق، لكن ما ذهب إليه الشيخ التوربشتي أولاً أولى فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون إسناداً مجازياً وذلك أن نزول السكينة لما كان سبباً لنطقه بالحق أسنده إليها. وثانيهما: أن يكون استعارة مكنية، شبه السكينة بمتكلم يفصح عن الحق تشبيهاً بليغاً كما تقرر في موضعه، ثم خيل لها ما به قوام المتكلم في الإفصاح من النطق ونسب إليه لتكون قرينة بالغة لإرادة الحقيقة. ونظيره في الوجهين قوله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} الكشاف: الذكر الحكيم القرآن، وصف بوصفه من هو بسببه أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. انتهى كلامه. يعني الضمير في الحكم راجع إلى القرآن. فإسناد الحكيم إليه مجازي وذلك أن قائله لما كان حكيماً وصف بصفته، أو شبه القرآن بالشخص الذي ينطق بالحكمة فأثبت له النطق على الاستعارة المكنية، فإن قلت: ما محل قوله على لسان عمر وما موقعه؟. قلت: محله الحال، وموقعه موقع الترشيح من الاستعارة كما في قول من قال: جلالك يا خير الملوك مساعياً على منبر المجد المؤثل خاطب وقول الآخر: على منبر العلياء جدك يخطب وللبلدة العذراء سيفك يخطب الحديث الثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((اللهم أعز الإسلام)) أي قوه وانصره كقوله تعالى: {فعززنا بثالث} أي فقويناه, يقال: المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، وتعزز لحم الناقة.

6046 - وعن جابر، قال: قال عمر لأبي يكر: يا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: أما إنك إن قلت ذلك، فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6046]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((على النبي صلى الله عليه وسلم)) إما خبر، أي غدا مقبلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ضمن ((غدا)) معنى ((أقبل)) نحو قوله تعالى: {وغدوا على حرد قادرين} روى الحاكم أبو عبد الله في دلائل النبوة عن ابن عباس أن أبا جهل قال: إن من يقتل محمدً فله على مائة ناقة وألف أوقية من فضة، فقال عمر: الضمان صحيح؟ قال: نعم عاجلاً غير آجل، فخرج عمر فلقيه رجل فقال: أين تريد؟ قال: أريد محمداً لأقتله، قال: كيف تأمن من بني هاشم؟ قال: إن لأظنك قد صبأت؟ قال: ألا أخبرك بأعجب من هذا؟ إن أختك وخنتك قد صبئا مع محمد. فأقبل عمر إلى منزل أخته وكانت تقرأ سورة طه، فوقف يستمع ثم قرع الباب فأخفوها، فقال عمر: ما هذه الهيمنة، فأظهت الإسلام، فبقي عمر حزيناً كئيباً فباتوا كذلك إلى أن قامت الأخت وزوجها يقرآن {طه ما أنزلنا ...} فلما سمع قال: ناوليني الكتاب حتى أنظر فيه، فلما قرأ إلى قوله: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} قال: اللهم إن هذا أهل أن لا يعبد سواه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبات ساهر العين ينادي كل ساعة: واشوقاه إلى محمد حتى أصبح، فدخل عليه خباب بن الأرت فقال: يا عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات الليلة ساهراً يناجي الله عز وجل أن يعز الإسلام بك أو بأبي جهل، وأنا أرجو أن تكون دعوته قد سبقت فيك. فخرج متقلداً سيفه، فلما وصل إلى منزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا عمر أسلم أو لينزلن الله فيك ما أنزل بوليد بن المغيرة))، فارتعدت فرائص عمر ووقع السيف من يده فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: إن اللات والعزى تعبد على رءوس الجبال وفي بطون الأودية ودين الله يعبد سراً، والله لا يعبد سراً بعد يومنا هذا. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((فلقد سمعت)) جواب قسم محذوف وقع جواباً للشرط على سبيل الإخبار، كأنه أنكر عليه قوله: ((يا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ((ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر)) ونحوه في الإخبار والإنكار قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}.

6047 - وعن عقبة بن عامر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)) رواه الترمذي. قال: [هذا] حديث غريب [6047]. 6048 - وعن بريدة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء. فقالت: يا رسول الله! إني كنت نذرت إن ردك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كنت نذرت فاضربني، وإلا فلا)) فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت إستها ثم قعدت عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ليخاف منك يا عمر! إني كنت جالساً وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر! ألقت الدف)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب [6048]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((إني كنت نذرت)) تو: النبي صلى الله عليه وسلم إنما مكانها من ضرب الدف بين يديه لأنها نذرت، فدل نذرها على أنها عدت انصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليه، فانقلب الأمر فيه من صفة اللهو إلى صفة الحق، ومن المكروه إلى المستحب، ثم إنه لم يكره من ذلك ما يقع به الوفاء بالنذر، وقد حصل ذلك بأدنى ضرب، ثم عاد الأمر في الزيادة إلى حد المكروه ولم ير أن يمنعها لأنه لو منعه صلى الله عليه وسلم كان يرجع إلى حد التحريم فلهذا سكت عنها وحمد انتهاءها عما كانت فيه بمجيء عمر رضي الله عنه. فإن قلت: كيف قرر إمساكها عن ضرب الدف هاهنا بمجيء عمر ووصفه بقوله ((إن الشيطان ليخاف منك يا عمر)) ولم يقرر انتهاء أبي بكر رضي الله عنه الجاريتين اللتين كانتا تدففان أيام منى؟. قلت: منع أبا بكر بقوله: ((دعهما)) وعلله بقول: ((فإنها أيام عيد)) وقرر ذلك هنا فدل ذلك على أن الحالات والمقامات متفاوتة، فمن حال تقتضي الاستمرار، ومن حالة لا تقتضيه.

6049 - وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فسمعنا لغطاً وصوت صيبان. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها فقال: ((يا عائشة! تعالي فانظري)) فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه. فقال لي: ((أما شبعت؟ أما شبعت؟)) فجعلت أقول: لاأ لأنظر منزلتي عنده، إذا طلع عمر فارفض الناس عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر)) قالت: فرجعت. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب [6049]. الفصل الثالث 6050 - عن أنس. وابن عمر، أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((لغطاً)) قض: اللغط الصوت الشديد الذي لا يفهم. و ((تزفن)) أي ترقص، والزفن: الرقص. ((فارفض الناس عنها)) أي تفرق النظارة الذين كانوا حول الحبشية الراقصة عنها لمهابة عمر رضي الله عنه والخوف من إنكاره عليهم. قوله: ((ما بين المنكب)) ظرف لأنظر، أي فيما بين، فحذف ((في)) كما في قوله: كما عسل الطريق الثعلب. الفصل الثالث الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وافقت ربي في ثلاث)) ما أحسن هذه العبارة وما ألطفها حيث راعى فيها الأدب الحسن، ولم يقل: وافقني ربي في ثلاث، لأن الآيات إنما نزلت موافقة لرأيه واجتهاده.

مصلى}. وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} فنزلت كذلك. 6051 - وفي رواية لابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. متفق عليه. 6052 - وعن ابن مسعود، قال: فضل الناس عمر بن الخطاب بأربع: بذكر الأسارى يوم بدر، أمر بقتلهم، فأنزل الله تعالى {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيا أخذتم عذاب أليم} وبذكر الحجاب، أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجبن، فقالت له زينب: وإنك علينا يا بن الخطاب والوحي ينزل في بيوتنا؟ فأنزل الله تعالى {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أيد الإسلام بعمر)) وبرأيه في أبي بكر [رضي الله عنه] كان أول ناس بايعه. رواه أحمد. [6052] ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((في الغيرة)) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل والحلو، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له ... الحديث، فنزل: {لم تحرم ما أحل الله لك ...}. الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((لولا كتاب من الله سبق لمسكم)) أي لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان أخذهم الفدية يوم بدر من الكفار خطأ في الاجتهاد، وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. قوله: ((وبرأيه في أبي بكر)) أي باجتهاده حين قال أبو بكر للأنصار: الأئمة من قريش، ثم بايعه أول الناس.

6053 - وعن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة)) قال أبو سعيد: والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله. رواه ابن ماجه [6053]. 6054 - وعن أسلم، قال سألني ابن عمر بعض شأنه- يعني عمر- فأخبرته، فقال: ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجد وأجود حتى انتهى من عمر. رواه البخاري. 6055 - وعن المسور بن مخرمة، قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه: يا أمر المؤمنين! ولا كل ذلك؟! لقد حصبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقك وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقك وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((إلا عمر بن الخطاب)) فإن قلت فيلزم من هذا أنه أفضل من أبي بكر. قلت صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الرجل)) إشارة إلى مبهم والقصد فيه أن يجتهد ويتحرى كل واحد من أمته أن ينال تلك الدرجة، وإنما ينال بتوخي العمل وتحري الأصوب من الأخلاق الفاضلة والاجتهاد في الدين، والمواظبة على المبرات، ولم تشاهد هذه الخلال في أحد كما شوهدت منه رضي الله ليلة القدر في الليالي فلا يلزم من هذا أن يكون هو أفضل من أبي بكر، وأيضاً يجوز أن يحمل على الخصوص، ويؤيد التقرير الأول الحديث الذي يتلوه. الحديث الرابع عن أسلم رضي الله عنه: قوله: ((بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) يحتمل وجهين: أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الخلال وتعقيبه بقوله من حين قبض أي رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الأول لأن المراد بيان ابتداء استمراره على تلك الحالات وثباته عليها حتى مضى لسبيله، وتنازع في قوله: أجد وأجود. الحديث الخامس عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: قوله: ((وكان يجزعه)) أي ينسبه إلى الجزع ويلومه عليه، ويقول له ما يسليه، يدل عليه قوله: ((ولا كل ذلك)) أي لا تبالغ فيما أنت فيه من الجزع.

(5) باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

فإنما ذلك م ن من الله من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذلك من من الله من به علي. وأما ما ترى جزعي، فهو من أجل ومن أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه. رواه البخاري. (5) باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الفصل الأول 6056 - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((بينما رجل يسوق بقرة إذ أعيي، فركبها، فقال: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض. فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم!)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر)). ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فهو من أجلك ومن أجل أصحابك)) كأنه رضي الله عنه رجح جانب الخوف على الرجاء لم أشعر من فتن تقع بعده في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزع حزناً لهم وترحماً عليهم، ومن استغناء الله تعالى عن العالمين، كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} وكان جانب الخوف غالباً عليه فاستمر على ذلك هضماً لنفسه وانكساراً لذلك نسب ما حصل له من الفضيلة إلى منة الله تعالى وإفضاله. وفي الاستيعاب: أن عمر رضي الله عنه حين احتضر قال: ورأسه في حجر ابنه: ظلوم لنفسه غير أني مسلم أصلي الصلاة كلها وأصوم وطلاع الأرض ما يملأها حين تطلع وتسيل. باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الفصل الأول الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فإني أومن)) الفاء جزاء شرط محذوف، أي فإذا كان الناس يستغربونه ويتعجبون منه فإني لا أستغربه وأؤمن به. وقوله: ((أنا وأبو بكر وعمر)) فإن قلت: ما فائدة ذكر ((أنا)) وعطف ما بعده عليه، وهذا عطف على المستتر في ((أؤمن)) مستغنياً عنه بالجار والمجرور؟.

وما هما ثم وقال: ((بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها، فأخذها فأدركها صاحبها، فاستنقذها، فقال له الذئب: فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟!)). فقال: أومن به أنا وأبو بكر وعمر)) وما هما ثم. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: لو لم يذكر ((أنا)) لاحتمل أن يكون ((وأبو بكر)) عطفاً على محل ((إن)) واسمها والخبر محذوف فلا يدخل في معنى التأكيد، وتكون هذه الجملة واردة على التبعية ولا كذلك في هذه الصورة. تو: إنما أراد بذلك تخصيصها بالتصديق الذي بلغ عين اليقين وكوشف صاحبه بالحقيقة التي ليس وراءها للتعجب مجال. قوله: ((فقال له الذئب فمن لها؟)) وفي أصل المالكي: ((فقال الذئب: هذا استنقذتها مني فمن لها؟)). قال المالكي: في هذا ثلاثة أوجه: أن يكون منادي؛ أي يا هذا، أجازه الكوفيون خلافاً للبصريين، وقول المجيز أصح لثبوتها في الكلام الفصيح كفول ذي الرمة: إذا هملت عيني لها قال صاحبي: لمثلك هذا لوعة وغرام وأن يكون في موضع نصب على الظرفية مشاراً به إلى اليوم، والأصل هذا اليوم استنقذتها مني. وأن يكون في موضع نصب على المصدرية، والأصل: هذا الاستنفاذ استنقذتها مني. والأصل في السبع ضم الباء فسكنها على لغة بني تميم، ((نه)) فإنهم يسكنون العين المضمومة من الأسماء والأفعال. قوله: ((فمن لها يوم السبع)) نه: قال ابن الأعرابي: السبع بسكون الباء الموضع الذي يكون إليه المحشر يوم القيامة، أراد من لها يوم القيامة. والسبع أيضاً الذعر: يقال: سبعت فلاناً إذا ذعرته، وسبع الذئب الغنم إذا فرستها، أي من لها يوم الفزع. وقيل: هذا التأويل يفسد بقول الذئب في تمام الحديث: ((يوم لا راعي لها غيري)) والذئب لا يكون لها راعياً يوم القيامة. وقيل: أراد من لها عند الفتن حين يتركها الناس هملا لا راعي لها فتكون نهبة للذئاب والسباع، فجعل السبع لها راعياً إذ هو منفرد بها، ويكون حينئذ بضم الباء، وهذا إنذار بما يكون من الشدائد والفتن التي يهمل الناس فيها شياههم فيتمكن منها السباع بلا مانع.

6057 - وعن ابن عباس، قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول يرحمك الله، إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، ودخلت وأبو بكر وعمر، وخرجت وأبو بكر وعمر)). فالتفت فإذا علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو موسى بإسناده عن أبي عبيدة: يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون بعيدهم ولهوهم وليس بالسبع الذي يفترس الناس. قال: وأملاه أبو عامر العبدري الحافظ بضم الباء، وكان من العلم والإتقان بمكان. الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((وقد وضع على سريره)) جملة حالية من عمر. والخطاب في ((يرحمك الله)) له. والمراد ((بصاحبيه)) النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. واللام في ((لأني)) تعليل لقوله: ((أن يجعلك الله مع صاحبيك)) أي يجمعك معهما في عالم القدس. قوله: ((كنت وأبو بكر)) قال المالكي: تضمن الحديث صحة العطف على ضمير المرفوع المتصل غير مفصول بتوكيد أو غيره، وهو ما لا يجيزه النحويون في النثر إلا على ضعف ويزعمون أن بابه الشعر، والصحيح جوازه نثراً ونظماً فمن النثر ما تقدم من قل علي رضي الله عنه، وكذا قول عمر رضي الله عنه: ((كنت وجار لي من الأنصار)) ومنه قوله تعالى: {ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} فإن واو العطف فيه متصلة بضمير المتكلم ووجود ((لا)) بعدها لا اعتداد بها لأنها بعد العاطف ولأنها زائدة إذ المعنى تام بدونها. قوله: ((لأني كثيراً ما كانت)) كذا في صحيح البخاري و ((ما)) فيه إبهامية مؤكدة، وليس في جامع الأصول لفظ ((ما)) فقوله ((كنت)) خبر ((أن)) و ((كثيراً)) ظرف زمان وعامله ((كان)) قدم عليه، ونحوه قوله تعالى: {قليلاً ما تشكرون}.

الفصل الثاني 6058 - عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل عليين، كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)) رواه في ((شرح السنة)) وروى نحوه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه [6058]. 6059 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) رواه الترمذي [6059]. 6060 - ورواه ابن ماجه عن علي [رضي الله عنه] [6060]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي أكثر المصابيح وقع هكذا: ((لأني كثيراً مما كنت)) بزيادة ((من)) وليس له محمل صحيح، إلا أنه يتعسف ويقال: إني أجد كثيراً مما كنت. الفصل الثاني الحديث الأول عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((وأنعما)) أي زادا وفضلاً، يقال: أحسنت إلي وأنعمت، أي زدت على الإنعام، وقيل: معناه صار إلى النعيم وخلا فيه، كما يقال: أشمل إذا دخل في الشمال، ومعنى قولهم أنعمت على فلان أي أسديت إليه نعمة. تو: أي زاد على تلك الرتبة والمنزلة. وفي أكثر نسخ المصابيح: ((لمنهم)) واللام زائدة على الرواية، فإنهه نقل هذا الحديث من كتاب الترمذي وفيه: ((منهم وأنعما)) من غير لام. أقول: وكذا أيضاً في سنن أبي داود وابن ماجه وجامع الأصول بغير لام. الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سيدا كهول أهل الجنة)) اعتبر ما كانوا عليه في الدنيا وإلا لم يكن في الجنة كهل، كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم}.

6061 - وعن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أدري ما بقائي فيكم؟ فاقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) رواه الترمذي [6061] 6062 - وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد لم يرفع أحد رأسه غير أبي بكر وعمر، كان يتبسمان إليه ويتبسم إليهما. رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب [6062]. 6063 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم ودخل المسجد وأبو بكر وعمر، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما. فقال: ((هكذا نبعث يوم القيامة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6063]. 6064 - وعن عبد الله بن حنطب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال: ((هذان السمع والبصر)) رواه الترمذي مرسلا [6064]. 6065 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبي إلا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((ما بقائي فيكم؟)): ((ما)) هي استفهامية معناه: لا أدري كم مدة بقائي فيكم أقليل أو كثير؟ وفيه تعليق. الحديث الرابع إلى السادس عن عبد الله بن حنطب: قوله: ((هذان السمع والبصر)) قض: أي هما في المسلمين بمنزلة السمع والبصر في الأعضاء، أو منزلتهما في الدين منزلة السمع والبصر في الجسد، أو هما مني في العزة كالسمع والبصر. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم سماهما بذلك لشدة حرصهما على استماع الحق وإتباعه، وتهالكهما على النظر في الآيات المبينة في الآفاق والأنفس والتأمل فيها والاعتبار بها. الحديث السابع عن أبي سعيد رضي الله عنه:

وله وزيران من أهل السماء، وزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر)) رواه الترمذي [6065]. 6066 - وعن أبي بكرة، أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت؛ ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر؛ ثم رفع الميزان)) فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني فساءه ذلك. فقال: ((خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء)) رواه الترمذي، وأبو داود [6066]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل)) فيه دلالة ظاهرة على فضله صلوات الله وسلامه عليه على جبريل وميكائيل. والوزير من الوزر: الثقل؛ لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: {واجعل لي وزيراً من أهلي}. الحديث الثامن عن أبي بكرة رضي الله عنه: قوله: ((فاستاء لها)) نه: استاء بوزن افتعل من السوء وهو مطاوع ساء، يقال: استاء فلان، أي ساءه ذلك. ويروى: ((فاستأولها)) أي طلب تأويلها بالتأمل والنظر. تو: إنما ساءه- والله أعلم- من الرؤيا التي ذكرها ما عرفه من تأويل رفع الميزان، فإن فيه احتمالا لانحطاط رتبة الأمر في زمان القائم به بعد عمر رضي الله عنه عما كان عليه من النفاذ والاستعلاء والتمكن بالتأييد، ويحتمل أن يكون المراد من الوزن موازنة إياهم لما كان يطرأ فيها من رونق الإسلام وبهجته، ثم إن الموازنة إنما تراعي في الأشياء المتقاربة مع مناسبة ما، فيظهر الرجحان، فإذا تباعدت كل التباعد لم يوجد للموازنة معنى فلهذا رفع الميزان. قوله: ((خلافة نبوة)) قيل: أي انقضت خلافة نبوة، يعني أن هذه الرؤيا دالة على أن الخلافة بالحق تنقضي وتنتهي حقيقتها بانقضاء خلافة عمر رضي الله عنه.

(6) باب مناقب عثمان رضي الله عنه

الفصل الثالث 6067 - عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)). فاطلع أبو بكر، ثم قال: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) فاطلع عمر. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6067]. 6068 - وعن عائشة، قالت: بينا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري في ليلة ضاحية إذا قلت: يا رسول الله! هل يكون لأحد من الحسنات عدد نجوم السماء؟ قال: ((نعم، عمر)) قلت: فأين حسنات أبي بكر؟ قال: ((إنما جميع حسنات عمر كحسنة واحدة من حسنات أبي بكر)) رواه رزين [6068]. (6) باب مناقب عثمان رضي الله عنه الفصل الأول 6069 - عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته، كاشفاً عن فخذيه- أو ساقيه- فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: دل إضافة الخلافة إلى النبوة على أن لا تبوث فيها من طلب الملك والمنازعة فيه لأحد، وكانت خلافة الشيخين على هذا، وكون المرجوحية انتهت إلى عثمان رضي الله عنه دل على حصول المنازعة فيها، وأن الخلافة في زمن عثمان وعلي رضي الله عنما مشوبة بالملك، وأما بعدهما فكانت ملكاً عضوداً والله أعلم بالصواب. باب مناقب عثمان رضي الله عنه الفصل الأول الحديث الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أو كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه)) مح: احتج به المالكية وغيرهم ممن يقول: ليس الفخذ عورة، ولا حجة فيه لأن شك الراوي في المكشوف، هل هما الساقان أو الفخذان؟ فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ.

استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: ((ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة)). وفي رواية قال: ((إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة أن لا يبلغ إلي في حاجته)) رواه مسلم. الفصل الثاني 6070 - عن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي رفيق، ورفيقي- يعني في الجنة- عثمان)) رواه الترمذي [6070] ـــــــــــــــــــــــــــــ والهشاشة هي البشاشة وطلاقة الوجه وحسن الالتقاء وفيه فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه، وأن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة. مظ: وفيه دليل على توقير عثمان رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا يدخل على حظ منصب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما منه صلى الله عليه وسلم وقلة الالتفات إليهما، لأن قاعدة المحبة إذا كملت واشتدت ارتفع التكلف، كما قيل: إذا حصلت الألفة بطلت الكلفة. وقوله: ((أن لا يبلغ إلي في حاجته)) أي أخاف أن يرجع فلا يصل إلي حتى أقضي حاجته. الفصل الثاني الحديث الأول والثاني عن عبد الرحمن بن خباب رضي الله عنه: قوله: ((على جيش العسرة)) تو: يريد جيش غزوة تبوك، وسميت جيش العسرة لأنها كانت زمان شدة الحر وجدب البلاد، وكانت المناهضة إلى عدو جم العدد شديد البأس. و ((الحلس)) كساء رقيق يجعل تحت البرذعة.

6071 - ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة. وقال الترمذي هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي، وهو منقطع. 6072 - وعن عبد الرحمن بن خباب، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان، فقال: يا رسول الله! علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان، فقال: على مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض، فقام عثمان، فقال: علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض، فقام عثمان، فال: علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه)) رواه الترمذي [6072]. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((القتب)) للجمل كالإكاف لغيره. يريد: بجميع أسبابها وأدواتها. قوله: ((ما على عثمان ما عمل بعد هذه)) مظ: أي ما عليه أن لا يعمل بعد هذه من النوافل دون الفرائض، لأن تلك الحسنة تكفية عن جميع النوافل، كما ذكر في حديث أنس بن أبي مرثد الغنوي في آخر الفصل في المعراج. أقول: فرق بين هذا التركيب وبين ذاك، لأن المذكور هناك: ((فلا عليك أن لا تعمل بعدها)) واسم ((لا)) إن مع ما بعدها، وقد ذكر أن المراد فيه أنه لا يضره أن لا يعمل من النوافل، أو لا عليه أن لا يعمل الجهاد في ذلك اليوم المذكور هنا ((ما)) على عثمان ما عمل بعد هذه)) و ((ما)) بمعنى ليس يقتضي اسماً وخبراً، فاسمه ((ما عمل بعد اليوم)) و ((ما)) موصولة ولا يجوز أن تحمل على أنها نافية، يدل عليه في الحديث الذي يتلوه: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)) والمعنى: فلا على عثمان بأس الذي عمل بعد هذا اليوم من الذنوب فإنها مغفورة مكفرة، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حاطب بن أبي بلتعة: ((لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).

6073 - وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)) مرتين. رواه أحمد. [6073]. 6074 - وعن أنس، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان [رضي الله عنه] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فبايع الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله)) فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم. رواه الترمذي [6074]. 6075 - وعن ثمامة بن حزن القشيري، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال: ((من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟)). فاشتريتها من صلب مالي، وأنتم اليوم تمنعونني ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث والرابع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ببيعة الرضوان)) هي البيعة التي جرت تحت الشجرة عام الحديبية، سميت ببيعة الرضوان لما نزل في أهلها قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ...}. وقوله: ((حاجة الله وحاجة رسوله)) من باب قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة عند الله ومكانة، وأن حاجته حاجته وتعالى الله عن الاحتياج علواً كبيراً. الحديث الخامس عن ثمامة بن حزن القشيري: قوله: ((شهدت الدار)) أي حضرت دار عثمان التي حاصروه فيها. و ((بئر رومة)) بضم الراء اسم بئر بالمدينة اشتراه عثمان رضي الله عنه ثم سبلها. وقوله: ((مع دلاء المسلمين)) هو المفعول الثاني ليجعل، أي ليجعل دلوه مصاحباً وواحداً من دلاء المسلمين ولا يختص بها دون المسلمين، وهو كناية عن الوقف والتسبيل.

أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟! فقالوا: اللهم نعم. فقال: أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟)). فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنوعنني أن أصلي فيها ركعتين؟! فقالوا: اللهم نعم. قال أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركضه برجله قال: ((اسكن ثبير! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان))؛ قالوا: اللهم نعم. قال: الله أكبر! شهدوا ورب الكعبة أني شهيد، ثلاثا رواه الترمذي، والنسائي، والدارقطني [6075]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والباء في ((بخير)) باء البدل يتعلق بيشتري، وليست مثلها في قولهم: اشتريت هذا بدرهم ولا في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}. فالمعنى: من يشتريها بثمن معلوم ثم يبدلها بخير منها. و ((ماء البحر)) أي ما فيه ملوحة كماء البحر، والإضافة فيه للبيان، أي ما يشبه ماء البحر. قوله: ((اللهم نعم)) المطرزي: قد يؤتي [اللهم ما قبل إلا إذا كان المستثنى عزيزاً نادراً]، وكان قصدهم بذلك الاستظهار بمشيئة الله في إثبات كونه ووجوده إيماء إلى أنه بلغ من الندرة حد الشذوذ. وقيل: كلمتي الجحد والتصديق في جواب المستفهم كقولهم: اللهم لا ونعم. ((الحضيض)) قرار الأرض وأسفل الجبل. وقوله: ((الله أكبر)) كلمة يقولها المتعجب عند إلزام الخصم وتبكيته، وذلك أنه لما أراد أن يظهر لهم أنه على الحق وأم خصماءه على الباطل على طريق يلجئهم إلى الإقرار بذلك. أورد حديث ثبير مكة وأنه من أحد الشهيدين مستفهماً عنهم، فأقروا بذلك وأكدوا إقرارهم بقولهم: ((اللهم)) فقال: ((الله أكبر)) تعجباً وتعجيباً وتجهيلاً لهم، واستهجاناً لفعلهم، ونظيره قوله تعالى: {هل يستويان مثلا، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} كأنه لما ضرب مثل عابد الأصنام وعابد الله برجلين أحدهما له شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد منهم يدعى أنه عبده فهم يتجاذبونه

6076 - وعن مرة بن كعب، قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الفتن فقربها، فمر رجل مقنع في ثوب فقال ((هذا يومئذ على الهدى)) فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان. قال: فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: ((نعم)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 6077 - وعن عائشة [رضي الله عنه]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عثمان! إنه لعل الله يقمصك قميصاً، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم)) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: في الحديث قصة طويلة [6077] 6078 - وعن ابن عمر، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنة فقال: ((يقتل هذا فيها مظلوماً)) لعثمان. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن، غريب إسناداً [6078]. 6079 - وعن أبي سهلة، قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ـــــــــــــــــــــــــــــ فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته، والآخر قد سلم لمالك واحد وخلص له فهو يلتزم خدمته فهمه واحد وقلبه مجتمع، واستفهم منهم بقوله: {هل يستويان مثلاً؟} فلابد لهم أن يذعنوا ويقولوا: لا، فقال: إذن الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. الحديث السادس والسابع: عن عائشة [رضي الله عنها]. قوله: (يقمصك قميصا) استعار القميص للخلافة، ورشحها بقوله (على خلعه فلا تخلعه لهم) قال في أساس البلاغة: (ومن المجاز: قمصه الله وشي الخلافة، وتقمص لباس العز) ومن هذا الباب قوله: في الكبرياء: ردائي، والعظمة إزاري، وقولهم: المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه. الثامن والتاسع: أبو سهلة: قوله: (قد عهد إلي عهداً) أوصاني بقوله: (فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم).

عهد إلي عهداً وأن صابر عليه رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح [6079]. الفصل الثالث 6080 - عن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت فرأى قوم جلوساً، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا بن عمر! إني سائلك عن شيء فحدثني: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم قال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعالى أبين لك.، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)). وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: ((هذه يد عثمان)) فضرب بها على يده، وقال: ((هذه لعثمان)). ثم قال ابن عمر: اذهب بها الآن معك. رواه البخاري. 6081 - وعن أبي سهلة مولى عثمان [رضي الله عنهما] قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث الحديث الأول: عن عثمان رضي الله عنه: قوله: (الله أكبر) بعدما عد من الأمور بمنزلة (الله أكبر) في الحديث السابق. فإنه أراد أن يلزم ابن عمر ويحط من منزلة عثمان [رضي الله عنه] عن الطريق المذكور، فلما قال ابن عمر: نعم، قال الله أكبر، تعجباً وتعجيباً وإظهاراً لإفحامه إياه، ثم إن ابن عمر رضي الله عنهما لما نقض كل واحد مما نبأه به، خلعه من سنخه. قال: فكأنه أذهب بها، أي إنما جئت به وتمسكت بعدما بينت لك الحق المحض الذي لاستران منه. [الحديث الثاني:] عن أبي سهلة رضي الله عنه: قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمراً) أي

(7) باب مناقب هؤلاء الثلاثة (رضي الله عنهم)

إلى عثمان، ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار قلنا: ألا نقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إلى أمراً، فأنا صابر نفسي عليه. [6081]. 6082 - وعن أبي حبيبة، أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام، فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافاً- أو قال: اختلافاً وفتنة- فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟! أوما تأمرنا به؟ قال: ((عيكم بالأمير وأصحابه)) وهو يشير إلى عثمان بذلك. رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) [6082]. (7) باب مناقب هؤلاء الثلاثة (رضي الله عنهم) الفصل الأول 6083 - عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف ـــــــــــــــــــــــــــــ أوصاني بأن أصبر ولا أقاتل، ولا يجوز أن يقال: الوصية هي قوله: ((فإن أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم)) فإن ذلك يوهم المقاتلة معهم للدفع، فعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث إلى الآخر من الفصل الثاني على هذا ليتفقا. الحديث الثالث: عن أبي حبيبة رضي الله عنه: قوله: (فمن لنا) هو متوجه إلى قوله ((اختلافاً)) أي ستلقون اختلافاً بين الأمير ومن خرج عليه، فمن تأمرنا أن نتبعه ونلزمه؟ فتكون لنا العاقبة لا علينا، فأجاب: عليكم بالأمير وأصحابه، والله أعلم. باب مناقب هؤلاء الثلاثة (رضي الله عنهم) الفصل الأول الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((نبي وصديق وشهيدان)) وفي رواية للبخاري: ((اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد))، قال المالكي: أو فيه بمعنى الواو، ومنه قول ابن عباس: (كل ما شئت، واشرب ما شئت، ما أخطأتك خلتان: سرف أو مخيلة) أي سرف ومخيلة، ونظائرها عند أمن اللبس كثيرة منها قول الحماسي:

بهم، فضربه برجله، فقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)) رواه البخاري. 6084 - وعن أبي موسى الأشعري: قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم جاء فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد اله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: ((افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)) فإذا عثمان، فأخبرته بما ل النبي صلى الله عليه وسلم. فحمد الله، ثم قال: الله المستعان. متفق عليه. الفصل الثاني 6085 - عن ابن عمر، قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم. رواه الترمذي [6085]. الفصل الثالث 6086 - عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرى الليلة رجل صالح كأن أبا بكر ـــــــــــــــــــــــــــــ فقالوا لنا ثنتان لابد منها صدور رماح أشرعت أو سلاسل الحديث الثاني: عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((على بلوى تصيبه)) ((شف)): على هاهنا بمعنى مع، أي بشره بالجنة مع بلوى تصيبه، أقول: إذا جعل على ((متعلقاً)) بقوله: بالجنة، يكون المبشر به مركباً، [وإذا جعل حالا من ضمير المفعول كانت البشارة مقارنة بالإنذار، ولا يكون المبشر به مركباً] وهو الظاهر، وعلى بمعناه، ويؤيده قوله: (الله المستعان) أي على ما أنذر به صلى الله عليه وسلم فإن ما أخبر به من البلاء يصيبني لا محالة، فبالله أستعين على مرارة الصبر عليه وشدة مقاساته. الفصل الثاني والثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((رجل صالح)) بيان للضمير المرفوع في أري على سبيل

(8) باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر))، قال ابر، فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله، وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة الأمر الذي بعثه الله به نبيه صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود [6086] (8) باب مناقب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) الفصل الأول 6087 - عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ التجريد، نظيره قول ابن جني: لئن لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقين منه رجلاً فياضاً بالخير، ورسولا جامعاً لسبل الفضل فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد، كان من الظاهر أن يقال: رأيت نفسي الليلة وأبو بكر نيط بي، أي علق، فجرد منه صلى الله عليه وسلم لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبه رجلاً صالحاً، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع ضمير (رجلا) تفخيماً غب تفخيم والله أعلم. باب مناقب علي (رضي الله عنه) الفصل الأول الحديث الأول: عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) ((تو)): كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم مخرجه إلى غزوة تبوك وقد خلف علياً رضي الله عنه على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه، فلما سمع به علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا رسول الله! زعم المنافقون كذا، فقال: ((كذبوا، إنما خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)) تأول قول الله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي}. ((مح)): قال القاضي عياض: هذا ما تعلقت به الروافض وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت مستحقة لعلي رضي الله عنه، وأنه وصلى له بها، فكفرت الروافض سائر الصحابة

6088 - وعن زر بن حبيش، قال: قال علي رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبراً النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى: أن ايحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق. رواه مسلم. 6089 - وعن سهل بن سعد، أن رسول الله: قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله عليه يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها فقال: ((أين علي بن أبي ـــــــــــــــــــــــــــــ كانت مستحقة لعلي رضي الله عنه، وأنه وصى له بها، فكفرت الروافض سائر الصحابة بتقديمهم غيره، وزاد بعضهم: فكفر علياً لأنه يقم في طلب حقه، وهؤلاء أسخف عقلاً وأفس مذهباً من أن يذكر قولهم، ولا شك في تكفير هؤلاء، لأن من كفر الأمة كلها، والصدر الأول خصوصاً، فقد أبطل الشريعة وهدم الإسلام، ولا حجة في الحديث لأحد منهم، بل فيه إثبات فضيلة لعلي، ولا تعرض فيه كلونه أفل من غيره، وليس فيه دلالة على استخلافه بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لأنه توفي قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة، وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة. أقول: وتحريره من جهة علم المعاني أن قوله: ((مني)) خبر للمبتدأ، ومن: اتصالية (وخبرا) ومتعلق الخبر خاص، والباء زائدة كما في قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أي فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم، يعني أنت منفصل بي ونازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه، ووجه الشبه فبهم لم يفهم أنه رضي الله عنه فيما شبهه به صلى الله عليه وسلم فبين بقوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) أن اتصاله به ليس من جهة النبوة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة لأنها تلي النبوة في المرتبة، ثم إما أن يكون في حياته أو بعد حماته، فخرج من أن يكون بعد مماته لأن هارون عليه السلام مات قبل موسى، فتعين أن يكون في حياته عند مسيره إلى غزوة تبوك. ((مح)): قال بعض العلماء في قوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) دليل على أن عيسى بن مريم إذا نزل ينزل حكماً من حكام هذه الأمة يدعو بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينزل نبياً. الحديث الثاني والثالث عن سهل رضي الله عنه: قوله: (يرجون أن يعطاها) عبر في الأول بمعنى كلة فجمع، والثاني لفظة فأفرد، أقول: أي أين علي؟ مالي لا أراه حاضراً؟

طالب؟)). فقالوا: هو يا رسول الله! يشتكي عينيه. قال: ((فأرسلوا إليه)) فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)). متفق عليه. وذكر حديث البراء قال لعلي: ((أنت مني وأنا منك)) في باب ((بلوغ الصغير)). الفصل الثاني 6090 - عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن)) رواه الترمذي [6090]. ـــــــــــــــــــــــــــــ فيستقيم جوابهم: هو يا رسول الله! يشتكي عينيه، ونحوه قوله تعالى: {مالي لا أرى الهدهد} كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل تلك المواطن، لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً)) إلى آخره، وقد حضر الناس كلهم طمعاً بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد، وتقديم القوم الضمير وبناء يتكي (عليه) اتعذار منهم على سبيل التأكيد. و ((انفذ على رسلك)) أي امض على رفق وسكون حتى تبلغ فناءهم، وكأنه صلى الله عليه وسلم استحسن قوله: ((أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، واستحمده على ما قصده من مقاتلته إياهم حتى يكونوا أمثالهم مهتدين إعلاء لدين الله، ومن ثم حثه صلى الله عليه وسلم على ما نراه حمر الإبل وهي أغرها وأنفسها، ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. ((مح)): تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب للأفهام، وإلا فقدر يسير من الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معه. الفصل الثاني: الحديث الأول عن عمران رضي الله عنه: قوله: ((وهو ولي كل مؤمن)) إشارة لقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} إلى قوله: {ويؤتون الزكاة وهم راكعون}

6091 - وعن زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)). رواه أحمد، والترمذي [6091]. 6902 - وعن حبشي بن جنادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)). رواه الترمذي، ورواه أحمد عن أبي جنادة [6092]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الكشاف: قيل: نزلت علي رضي الله عنه، فإن قلت: كيف يصح في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه، ولينبه علي أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان. الحديث الثاني عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((من كنت مولاه)) ((نه)): المولى يقع على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتباع (والجار) وابن العم والحيف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والممنعم عليه، وأ: ثرها قد جاء في [الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه] الحديث الوارد فيه، وقوله: ((من كنت مولاه)) يحمل على أكثر من الأسماء المذكورة. قال الشافعي رضي الله عنه: يعني بذلك ولاء الإسلام كقوله تعالى: {ذلك بأن الهل مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} وقول عمر لعلي: (أصبحت مولى كل مؤمن) [أي: ولي كل مؤمن]، وقيل سبب ذلك أن أسامة قال لعلي: لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: معنى الحديث أن علياً رضي الله عنه يستحق التصرف في كل ما يستحق الرسول صلى الله عليه وسلم التصرف فيه، ومن ذلك أمور المؤمنين فيكون إمامهم. أقول: لا يستقيم أن تحمل الولاية على الإقامة التي هي التصرف في أمور المؤمنين، لأن المتصرف المستقل في حياته صلى الله عليه وسلم هو هو صلى الله عليه وسلم لا غير، فيجب أن يحمل على المحبة وولاء الإسلام ونحوهما. الحديث الثالث عن حبشي رضي الله عنه: قوله: ((ولا يؤدى عني إلا أنا أو علي)) كان الظاهر أن يقال: لا يؤدي عني إلى علي، فأدخل أنا تأكيداً لمعنى الاتصال في قوله: ((علي مني وأنا منه)).

6093 - وعن ابن عمر، قال: آخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه، فقال: آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت أخي في الدنيا وفي الآخرة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [6093]. 6094 - وعن أنس، قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير، فقال: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير)) فجاءه علي، فأكل معه. رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب [6094]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((تو)): كان من دأب العرب إذا كان بينهم مقاولة في نقض وإبرام وصلح ونبذ عهد أن لا يؤدي ذلك إلا سيد القوم، أو من يليه من ذوي قرابته القريبة، ولا يقبلون فمن (سواهم)، ولما كان العام الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس رأي بعد خروجه أن يبعث علياً رضي الله عنه خلفه لينبذ إلى المشركين عهدهم، ويقرأ عليهم سورة براءة، وفيها: {إنما المشركون بحس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} إلى غير ذلك من الأحكام، فقال قوله هذا تكريماً له بذلك. الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((بأحب خلقك إليك)) ((تو)): نحن وإن كنا بحمد لله لا جهل فضل علي رضي الله عنه، وقدمه وسوابقه في الإسلام، واختصاصه برسول الله صلى الله عليه وسلم لقرابته القريبة، ومؤاخاته إياه في الدين ونتمسك من حبه بأقوى وأولى مما يدعيه الغالون فيه، فلسنا نرى أن يضرب عن تقرير أمثال هذه الأحاديث في نصابها لما يخشى فيها من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين. وهذا باب أمرنا بمحافظته وجيء أمرنا بالذب عنه، فحقيق علينا أن ننصر فيه الحق، ونقدم فيه الصدق، وهذا حديث يريش لبه المبتدع سهامه، ويوصل به [المتحل] جناحه ليتخذه ذريعة إليه العطن في خلافة أبي بكر رضي الله عنه التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول، وبالله التوفيق: هذا الحديث ولا يقاوم ما أوجب تقديم أبي بكر، والقول بخيربته من الأخبار الصحاح منضماً إليها

6095 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وإذا سكت ابتدأني. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ((حسن غريب)) [6095]. 9069 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا دار الحكمة، وعلي بابها)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وقال: روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك [6096]. ـــــــــــــــــــــــــــــ إجماع [الصحابة] لمكان سنده، فإن فيه لأهل النقل مقالاً، ولا يجوز حمل أمثاله على ما يخالف الإجماع، لاسيما الصحابي الذي يرويه منم ذخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدة عمره، ولم ينقل عنه خلافه، فلو ثبت عنه هذا الحديث؛ فالسبيل أن يؤول على وجه لا ينتقض عليه ما اعتقده، ولا يخالف ما هو أصح منه متناً وإسناداً، وهو أن يقال: يحمل قوله: بأحب خلقك علي، أن المراد منه ائتني بمن هو من أحب خلقك إليك، فيشاركه فيه غيره، وهم المفضلون بإجماع الأمة، وهذا مثل قولهم: لأن أعقل الناس وأفضلهم أي: من أعقلهم وأفضلهم، ومما يبن لك أن حمله على العموم غير جائز هو أن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون علي أحب إلى الله منه، فإن قيل: ذلك شيء عرف بأصل الشرع؛ قلن: والذي نحن فيه عرف أيضاً بالنصوص الصحيحة وإجماع الأمة، فيؤول هذا الحديث على الوجه الذي ذكرناه، أو على أنه أراد به أحب خلقه إليه من بني عم وذويه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق القول، وهو يريد تقييده، ويعم به، وهو يريد تخصيصه، فيعرفه ذوو الفهم بالنظر إلى الحال أو الوقت أو الأمر الذي هو فيه. أقول: والوجه الذي يقتضيه المقام هو الوجه الثاني، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يأكل وحده، لأنه ليس من سمت أهل المروءات، فطلب من الله تعالى أن (يوتي) زيادة من ((النهاية)) لابن الأثير وقد سقطت من (ك). له من يؤاكله، وكان ذلك براً وإحساناً منه إليه، وأبر المبرات بذوي الرحم وصلته، كأنه قال: بأحب خلقك إليك من ذوي القرابة والقريبة، ومن هو أولى بإحساني وبري إليه. الحديث السادس والسابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((وعلي بابها)) لعل الشيعة أرادوا بهذا

6097 - وعن جابر، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما انتجيته، ولكن الله انتجاه)) رواه الترمذي [6097]. 6098 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا علي! لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك)) قال علي بن المنذر: فقلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنباً غيري وغيرك. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب [6098]. ـــــــــــــــــــــــــــــ التمثيل أن أخذ العلم والحكمة منه محتص به لا يتجاوزه إلى غيره إلا بواسطته رضي الله عنه، لأن الدار إنما يدخل فيها من بابها، وقد قال تعالى: {وليس البر بأن تآتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها} ولا حجة لهم فيه، إذا ليس دار الجنة بأوسعه من دار الحكمة ولها ثمانية أبواب. الحديث الثامن عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((انتجاه)) ((نه)): يقال قد تناجينكا مناجاجة وانتجاء، أي أن الله أمري أن أناجيه أقول: كان ذلك أسراراً إلهية وأموراً غيبية جعله (من) خرانها، قال تعالى: {وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى}. الحديث التاسع عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((لا يحل لأحد يجنب)) [ظاهرة ((أن يجنب))] ليكون فاعلاً لوقله: ((لا يحل))، [وقوله: ((في هذا المسجد))]: ظرف ليجنب، وفيه أشكال، ولذلك أوله ضرار من صرد [صفة لأحد]. ((قض)): ذكر في شرحه: أنه لا يحل لأحد يستطرقه جنباً غيري وغيرك، وهذا إنما يستقيم إذا جعل يجنب صفة لأحد ومتعلق الجار محذوفاً، فيكون تقدير الكلام: لا يحل لأحد تصيبه الجنابة يمر في هذا المسجد غيري وغيرك، وكان ممر دراهما خاصة في المسجد. أقول: والإشارة بقوله: ((في هذا المسجد)) مشعرة بأن له اختصاصاً بهذا الحكم وليس لغيره من

6099 - وعن أم عطية، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم علي، قالت: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رافع يديه يقول: ((اللهم لا تمتني حتى تريني علياً)). رواه الترمذي [6099]. الفصل الثالث 6100 - عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب عليا منافق، ولا ببغضه مؤمن)). رواه أحمد. رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، غريب إسناداً [6100]. 6010 - وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من سب علياً فقد ((سبني)). رواه أحمد [6101]. 6102 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيك مثل عيسى، أبغضته اليهود حتى بهتواً أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له)). ثم قال: يهلك في رجلان: محب مفرط يقرظني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني. رواه أحمد [6102]. ـــــــــــــــــــــــــــــ المساجد، وليس ذلك إلا لأن باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح إلى المسجد، وكذا باب علي، ويؤيده حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الفصل الثالث: (أمر بسد الأبواب إلا باب علي). الفصل الثالث: الحديث الأول إلى الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((يقرظني)) بالقاف وبتشديد الراء المكسور والظاء المعجمة، ((مح)): التقريظ مدح الحي ووصفه.

6103 - وعن البراء بن عازب، وزيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بغدير خم أخذ بيد علي فقال: ((ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)). قالوا: بلى قال: ((ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟)). قالوا بلى، قال: ((اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)). فلقيه عمر بعد ذلك، فقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. رواه أحمد [6103]. 6104 - وعن بريدة، قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها صغيرة)) ثم خطبها علي فزوجها منه)) رواه النسائي [6104]. 6105 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6105]. 6106 - وعن علي، قال: كانت لي منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الخلائق، آتية بأعلى سحر، فأقول: السلام عليك يا نبي الله! فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي، وإلا دخلت عليه. رواه النسائي [6106]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((بغد يرخم)) ((مح)): هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم، اسم لغيطة على ثلاثة أيال من الجحفة، عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة. [قوله: ((ألستم تعلمون أني] أولى بالمؤمنين من أنفيهم)) يعي به قول الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} أطلق فلم يعرف لأي شيء هو أولى بهم من أنفسهم، ثم قيد بقوله: {وأءواجه أمهاتهم} ليؤذن بأنه بمزلة الأب وأواجه بمنزلة الأمهات، وتؤيده قراءة ابن مسعود: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم))، وقال مجاهد: كل نبي هو أبو أمته، ولذا صار المؤمنون إخوة، فإذن (وقع) النسبية في قوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) في كونه كالأب، فيجب على الأمة احترامه وتوقيره وبره، وعليه أن يشفق عليهم ويرأف بهم رأفة الوالد على الأولاد، ولذلك هنأة عمر بقوله: ((هنيئاً يا ابن أبي طالب! أصبحت وأسيت مولى ك مؤمن ومؤمنة)).

(9) باب مناقب العشرة

6107 - وعنه، قال كنت شاكياً، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر، فأرحني وإن كان متأخراً فارفعني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت)) فأعاد عليه ما قال، فضربه برجله وقال: ((اللهم عافه- أو اشفه)) شك الراوي قال: فما اشتكيت وجعي بعد. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح [6107]. (9) باب مناقب العشرة رضي الله عنهم الفصل الأول 6108 - عن عمر رضي الله عنه، قال: ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمي علياً، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعداً، وعبد الرحمن. رواه البخاري. 6109 - وعن قيس بن أبي حازم. قال: رأيت يد طلحة شلاء وقي بها النبي، يوم أحد. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس إلى آخر الفصل عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فارفغني)) هو بالغين المعجمة، أي وسع لي عيشي. [تو:] في حديث علي رضي الله عنه: أرفغ لكم المعاش، أي أوسع، وعيش رافغ أي واسع. باب مناقب العشرة المبشرة رضي الله عنهم الفصل الأول الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((بهذا الأمر)) أي بالخلافة، قال يوم الشورى عند وفاته، وعلل الأحقية بقوله: ((توفي

6110 - وعن جابر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب؟)) قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير)). متفق عليه. 6111 - وعن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟)) فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: ((فداك أبي وأمي)) متفق عليه. 6112 - وعن علي، قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلى لسعد بن مالك، فإن سمعته يقول يوم أحد: ((يا سعد! ارم فداك أبي وأمي)) متفق عليه. 6113 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض)) والحال أنه صلى الله عليه وسلم كان راضياً عن الصحابة كلهم، فيحمل رضاه عنهم على الزيادة لكونهم من العشرة المبشرة بالجنة، وكلهم من قريش، والأئمة منهم. الحديث الثاني والثالث عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وحواري)) مح: قال القاضي عياض: ضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء المشددة، وضبطه أكثرهم بكسرها، ((حس)) المراد منه الناصر، وحواري عيسى عليه الصلاة والسلام أنصاره سموا به لأنهم كانوا يغسلون الثياب فيحورونها أي يبيضونها. الحديث الرابع عن الزبير رضي الله عنه: قوله: ((جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه)): أي في الفداء تعظيماً لي وإعلاء لقدري وذلك أن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه له. [نه]: في الحديث: ((فاغفر فداء لك ما اقتفينا)) إطلاق هذا اللفظ مع الله تعالى محمول على المجاز والاستعارة، لأنه إنما يفدي من المكاره من يلحقه فيكون المراد بالفداء التعظيم والإكبار. الحديث الخامس والسادس عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قوله: ((العرب)) التعريف فهي للجنس. و ((رمى بسهم)) صفة له، فهو كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني

6114 - وعن عائشة، قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ((ليت رجلاً صالحاً يحرسني)) إذ سمعنا صوت سلاح فقال: ((من هذا)) قال: أنا سعد، قال: ((ما جاء بك؟)) قال: وقع في نفسي خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام. متفق عليه. 6115 - وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) متفق عليه. 6115 - وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) متفق عليه. 6116 - وعن ابن أبي مليكة، قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. رواه مسلم. 6117 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وزاد بعضهم: وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر علياً. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مقدمه)) مصدر ميمي ليس بظرف لعمله في المدينة، ونصبه على الظرف على تقدير المضاف وهو الوقت أو الزمان، و ((ليلة)) بدل البعض من المقدر، أي: سهر ليلة من الليالي وقت قدومه المدينة من بعض الغزوات. الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وأمين هذه الأمة)) أي هو الثقة المرضى، والأمانة المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بصفات غلبت عليه وكان بها أخص. الحديث التاسع والعاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اهدأ بالهمز. وقوله: ((أو شهيد)) يريد به الجنس لأن المذكورين في الحديث بعد الصديق كلهم شهداء. مح: في الحديث معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإخباره أن هؤلاء شهداء، فقتل عمر وعثمان وعلي مشهور، وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال، وكذلك طلحة اعتزل

الفصل الثاني 6118 - عن عبد الرحمن بن عوف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في لجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) رواه الترمذي [6118]. 6119 - ورواه ابن ماجه عن سعيد بن زيد. 6120 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن معمر عن قتادة مرسلاً وفيه: ((وأقضاهم علي)) [6120]. 6121 - وعن الزبير، قال: كان على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة)) رواها الترمذي [6121]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الناس تاركاً للقتال فأصابه سهم فقتله، وقد ثبت أن من قتل ظلماً فهو شهيد. وفيه بيان فضيلة هؤلاء. وفيه إثبات التمييز في الحجارة وجواز التزكية. الفصل الثاني الحديث الأول إلى الثالث عن الزبير رضي الله عنه: قوله: ((فنهض إلى الصخرة)) فقام منتهياً إلى الصخرة ليستوي عليها فلم يستطع لثقل درعبه. قوله: ((أوجب طلحة)) قض: معناه أوجب طلحة لنفسه الجنة بفعله هذا، أو بما فعل في ذلك

6122 - وعن جابر، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله قال: ((من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا)) وفي رواية: ((من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)) رواه الترمذي [6122]. 6123 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: سمعت أذني من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طلحة والزبير جاراي في الجنة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6123]. 6124 - وعن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ، يعني يوم أحد: ((اللهم اشدد رميته وأجب دعوته)) رواه في ((شرح السنة)) [6124]. ـــــــــــــــــــــــــــــ اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له، حتى طعن دونه وجرح جميع جسده وأصيب ببضع وثمانين جراحة. الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وقد قضى نحبه)) تو: ((النحب النذر، والنحب المدة والوقت، ومنه يقال: قضى فلان نحبه إذا مات، وعلى المعنيين يحمل قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبه} فعلى النذر، أي نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الموت أي مات في سبيل الله وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله، فأخبر أن طلحة ممن وفى بنذره، أو ممن ذاق الموت في سبيله وإن كان حياً، تدل عليه الرواية الأخرى: ((من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة)) وكان طلحة قد جعل نفسه وما به يوم أحد وقاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: ((قد عقرت يومئذ في سائر جسدي حتى عقرت في ذكري)) وكانت الصحابة رضوان الله عليهم إذا ذكروا يوم أحد قالوا: ((ذلك يوم كان كله لطلحة)) انتهى كلامه. وفي معنى قوله: ((من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه)) قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي: إن هذا ليس على سبيل المجاز معنياً به التعبير بالحال عن المآل بل هو ظاهر في معناه، جلي من حيث فحواه، إذ الموت عبارة عن الغيبوبة عن عالم الشهادة، وقد كان هذا حاله من الانجذاب بكليته إلى عالم الملكوت، وهذا إنما يحدث بعد إحكام المقدمات من كمال التقوى والزهد وفي الدنيا والخروج عن الارتهان بنظر الخلق،

6125 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم استجب لسعد إذا دعاك)) رواه الترمذي [6125]. 6126 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأمه إلا لسعد، قال له يوم أحد: ((ارم فداك أبي وأمي)) وقال له: ((ارم أيها الغلام الحزور)) رواه الترمذي [6126]. 6127 - وعن جابر، قال: أقبل سعد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا خالي فليرني امرؤ خاله)) رواه الترمذي. وقال: كان سعد من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا خالي)) وفي المصابيح)): ((فليكر من)) بدل ((فليرني)) [6127]. الفصل الثالث 6128 - عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: إني ـــــــــــــــــــــــــــــ وامتطاء صهوة الإخلاص، وكمال الشغل بالله عز وجل بتناوب أعمال القلب والقالب، وصدق العزيمة في العزلة، واغتنام الوحدة، والفرار من مساكنه الأنس بالجلساء والإخوان. الحديث الخامس إلى الثامن عن علي رضي الله عنه: قوله: ((الحزور)) ((نه)): هو الذي قارب البلوغ، والجمع الحزاورة. الحديث التاسع عن جابر رضي الله عنه قوله: ((وفي المصابيح ((فليكرمن)) الفاء فيه على تقدير الشرط في الكلام، فإن الإشارة بهذا لمزيد التمييز وكمال التعيين، فهو كالإكرام له أي: أنا أكرم خالي هذا، وإذا كان كذلك فليتبع كل سنتي وليكرمن كل أحد خاله. وعلى رواية المشكاة كما في الترمذي والجامع تقديره: أنا أميز خالي كمال تمييز وتعيين لأباهي به الناس، فليرني كل امرئ خاله مثل خالي، ونحوه في التعبير قول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع الفصل الثالث الحديث الأول عن قيس بن أبي حازم:

لأول رجل من العرب رمي بسهم في سبيل الله، ورأتينا نعزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا الحبلة وورق السمر، وإن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، لقد خبت إذاً وضل عملي، وكانوا وشوا به إلى عمر، وقالوا: لا يحسن يصلي. متفق عليه. 6129 - وعن سعد قال: رأيتني وأنا ثالث الإسلام، وما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثالث الإسلام. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((إلا الحبلة وورق السمر)) قال أبو عبيد: هما ضربان من الشجر. وقال ابن الأعرابي: الحبلة ثم السمر شبه اللوبيا. وقيل: الحبلة ثم العضاة. ومعنى قوله: ((كما تضع الشاة)) أن نجوهم يخرج بعراً ليبسه وعدم الغذاء المألوف. ((وماله خلط)) أي ما يختلط بعضه ببعض لجفافه ويبسه. و ((إن)) في ((إن كان)) هي المخففة، واللام هي الفارقة. قوله: ((تعزرني)) ((نه)): التعزيز الإعانة والتوقير والنصرة مرة بعد أخرى، وأصل التعزير المنع والرد، وكأن من نصرته قد رددت عنه أعداءه ومنعتهم من آذاه، ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون حد التعزير لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب فهو من الأضداد، ومنه حديث سعد: ((لقد أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام)) أي توفقني عليه، وقيل: توبخني على التقصير فيه. أقول: عبر عن الصلاة بالإسلام، كما عبر عنها بالإيمان في قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} إيذاناً بأنها عماد الدين ورأس الإسلام. وأراد بقوله: ((لقد خبت إذا وضل عملي)) أي مع سابقتي في الإسلام وقدمي في الدين [إذا لم أحسن الصلاة وأفتقر إلى تعليم بني أسد إياي أكن خاسراً صالاً. قوله: ((وشوا به)) يقال وشى به يشي وشاية إذا نم عليه وشى به فهو واش جمعه وشاة]. الحديث الثاني عن سعد: قوله: ((وأنا ثالث الإسلام وما أسلم أحد ولقد مكثت)) أحوال متداخلة، يعني يوم أسلمت كنت ثالث من أسلم، فأكون ثالث أهل الإسلام، وبقيت على ما كنت عليه سبعة أيام، ثم أسلم بعد ذلك من أسلم.

6130 - وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يقول لنسائه: ((إن أمركن مما يهمني من بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون الصديقون)) قالت عائشة: يعني المتصدقين، ثم قالت عائشة لأبي سلمة بن عبد الرحمن: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة، وكان ابن عوف قد تصدق على أمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعين ألفاً. رواه الترمذي [6130]. 6131 - وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: ((إن الذي يحثو عليكن بعدي هو الصادق البار، اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((إلا الصابرون)) جعل الصابر فاعلا ليصبر، وعداه بعلى ليؤذن بأن الأمر صعب وفيه مشقة ومخالفة لهوى النفس فلا يتمكن منه إلا الصابر الصديق، وأنه لن يصبر عليكن إلا من له كمال الصبر والثبات فيه، ومن له قدم صدق في الصدق، ولعلها إنما فسرت هذا بالمتصدق نظراً إلى قوله: ((ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم} فإن الصديق إنما يتصدق ابتغاء مرضات الله، وإن الصابر الذي راض نفسه يبذل المال الذي هو شقيق الروح وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقة ومن الإيمان وإنما يتحامل عليها تثبيتاً لها على الإيمان واليقين وتحقيقاً للجزاء من أصل نفسه، فإن قلت: فمن أين أول قوله: ((ولن يصبر عليكن إلا الصابرون)) على المتصدق؟ وما وجه دلالته عليه؟ فإن هذا مجاز لابد له من العلاقة؟. قلت: وروده عقيب قوله: ((ما يهمني)) لأن جل همه صلى الله عليه وسلم كان مصروفاً إلى نفقاتهن، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يترك ميراثاً ولا هن آثرن الحياة الدنيا على الآخرة حين خيرن. وأما وجه دلالته فإن تعديته ((يصبر)) بعلى يشعر بلحوق المضرة والمشقة بالصابر، ولم يك يلحق الأمة منهن المضرة إلا لكونهن معسرات يجب عليهم إزالة إعسارهن بالتصدق، وفي الكلام إيجاز، أي: ما يهمني من بعدي وهو أمر صعب، ولن يصبر عليه إلا الصابر فوضع موضع الأمر ضمير ((هن)) مبالغة، وأن الصبر على الإنفاق عليهن كالصبر عليهن. وقوله: ((وكان ابن عوف)) من كلام الراوي حال من عائشة، والعامل ((قالت)) وفيه دلالة بينة على فضل التصديق لاسيما الإحساس والبر إلى أهل البيت، وعلى فضل عبد الرحمن رضي الله عنه. الحديث الرابع عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((يحثو عليكن)) أي يجود وينثر عليكن ما تنفقن.

سلسبيل الجنة)). رواه أحمد [6131]. 6132 - وعن حذيفة، قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلاً أميناً. فقال ((لأبعثن إليكم رجلاً حق أمين)) فاستشرف لها لناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ فا: في حديث عمر رضي الله عنه قال ابن عباس: دعاني عمر رضي الله عنه فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثور نثر الحثا، فأمرني بقسمه وهو دقاق العين لأن الريح تحثوه. انتهى كلامه. وفيه مبالغة في الجود والإنفاق عليهن. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث حثيات من حثيات ربي سبحانه وتعالى)) وهو كناية عن المبالغة في الكثرة، ولعمري إن من بغض إنفاقه عليهن حديقة بيعت بأربعين ألفاً. قوله: ((من سلسبيل الجنة)) هي عين سميت به لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة. وقوله: ((اللهم اسق)) دعا له قبل أن يصدر عنه ما صدر من الحثى كأنه صنع الصنيعة فشكره ودعا له، ومن هنا دعت الصديقة رضي الله عنها له بهذا الدعاء حين تصدق على أمهات المؤمنين بالحديقة. وفيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث الخامس عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((حق أمين)) فيه توكيد، والإضافة نحوها: إن زيداً العالم حق عالم وجد عالم، أي عالم حقاً وجداً يعني عالم لم يبالغ في العلم جداً ولم يترك من الجد المستطاع منه شيئاً، ومنه قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} أي جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه، فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة. وقوله: ((فاستشرف لها)) الضمير للإمارة، أي طمعوا فيها وتوقعوا نيلها. نه: وفي الحديث وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه)) يقال: أشرفت الشيء علوته وأشرفت عليه اطلعت عليه من فوقه، أراد ما جاءك منه وأنت غير متطلع إليه ولا طامع فيه.

6133 - وعن علي، قال: قيل لرسول الله: من نؤمر بعدك؟ قال: ((إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا علياً- ولاأراكم فاعلين- تجدوه هادياً مهدياً. يأخذ بكم الطريق المستقيم)) رواه أحمد. [6133]. 6134 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وصحبني في الغار، وأعتق بلالاً من ماله، رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مراً، تركه الحق وماله من صديق. رحم الله عثمان تستحييه الملائكة، رحم الله عليا، الله أدر الحق معه حيث دار)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6134]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أن تؤمروا أبا بكر)) يعني الأمر مفوض إليكم أيتها الأمة لأنكم أمناء مجتهدون مصيبون في الاجتهاد، ولا تجمعون إلا على الحق الصرف، وهؤلاء المذكورون كالحلقة المفرغة لا يدري أيهم أكمل فيما بدلي إليه مما يستحق به الإمارة، وفي تقديم أبي بكر رضي الله عنه بالذكر إيماء إلى تقديمه، ولم يذكر عثمان رضي الله عنه صريحاً، ولكن في قوله في حق علي رضي الله عنه: ((ولا أراكم فاعلين)) أي فاعلين بعد عمر رضي الله عنه إشارة إلى أنه المتقدم عليه، أو ذكره صلى الله عليه وسلم وسقط من قلم الكاتب. قوله: ((لا يخاف في الله لومة لائم)) أي أنه صلب في الدين إذا شرع في أمر من أموره، لا يخاف إنكار منكر، ومضى فيه كالمسمار المحمي لا يرعه قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم يشق عليه جده. واللومة المرة من اللوم. وفيها في التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخاف شيئاً قط من لوم أحد من اللوم. الحديث السابع عن علي رضي الله عنه: قوله: ((تركه الحق وماله من صديق)) الجملة مبينة لقوله: ((يقول الحق وإن كان مراً)) لأن تمثيل الحق بالمرارة يؤذن باستبشاع الناس من سماع الحق استشباع من يذوق العلقم فيقل لذلك صديقه. وقوله: ((وماله من صديق)) حال من المفعول، هذا إذا جعل ((ترك)) بمعنى خلى، وإذا ضمن معنى صير كان هذا مفعولاً ثانياً، والواو فيه كما في قول الحماسي: عدا والليث غضبان

(10) باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

(10) باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم الفصل الأول 6135 - عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما نزلت هذه الآية {ندع أبناءنا وأبناءكم} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) رواه مسلم. 6136 - وعن عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ((غب)) أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل بيت الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن، ثم تجوز فيه وقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته مطلقاً إذا قيل: ((أهل البيت)) لقوله عز وجل: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وعبر بأهل الرجل عن امرأته، وأهل الإسلام الذين يجمعهم دين محمد صلى الله عليه وسلم. الفصل الأول الحديث الأول والثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((مرط مرحل)) المرط واحد المروط، وهي أكسية من خز وصوف له علم. والمرحل: بالحاء المهملة الذي قد نقش فيه تصاوير الرحال. قوله: ((عنكم الرجس)) استعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر، لأن المقترف للمقبحات ملوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالغرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه اله لعباده وينهاهم عنه ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به.

6137 - وعن البراء، قال: لما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن له مرضعاً في الجنة)) رواه البخاري. 6138 - وعن عائشة: قالت: كنا- أزواج النبي صلى الله عليه وسلم- عنده، فأقبلت فاطمة ما تخفي مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها قال: ((مرحباً بابنتي)) ثم أجلسها، ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((أهل البيت)) نصب على النداء أو على المدح، وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته أيضاً لأنه مسبوق بقوله: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن}. الحديث الثالث عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((مرضعاً في الجنة)) خط: هذا يروى على وجهين، أحدهما: مرضعاً بفتح الميم أي رضاعاً والآخر: مضمومة الميم أي من يتم رضاعة في الجنة، يقال: امرأة موضع بلاهاء وأرضعت المرأة فهي مرضعة إذا نيب الاسم من الفعل. تو: وأصوب الروايتين الفتح لأن العرب إذا أرادوا الفعل ألحقوا به هاء التأنيث، وإذا أرادوا أنها ذات رضيع أسقطوا الهاء فقالوا: امرأة مرضع بلا هاء، ولما كان المراد من هذا اللفظ أن الله يقسم له من لذات الجنة وروحها ما يقع منه موقع الرضاع فإنه كان رضيعاً لم يستكمل مدة الرضاع كان المصدر فيه أقوم وأصوب، ولو كان على ما ذكره من الرواية لكان من حقه أن يلحق به هاء التأنيث. أقول: هذا إذا أريد تصوير حالة الإرضاع وإلقام المرضعة الثدي في في الصبي في مشاهدة السامع كأنه ينظر إليها وإلا فلا. الكشاف في قوله تعالى: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت} فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟. قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة عما أرضعت، أي عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. ووجهه القاضي في شرحه مجيباً عنه بقول: أو أن له من يقوم مقام المرضعة في المحافظة والأنس. الحديث الرابع عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((عنده)) خبر ((كان)).

ثم سارها، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي قلت: عزمت عليك بمالي من الحق لما أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم؛ أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني. ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنالك)) فبكيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية قال: ((يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين)). وفي رواية: فسارني فأخبرني أنه يقبض في وجعه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه، فضحكت. متفق عليه. 6139 - وعن المسور بن مخرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني)). وفي رواية: ((يريني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)) نصب على النداء أو على الاختصاص، أو تفسير للضمير المبهم على تقدير أعني. قوله: ((لما أخبرتني)) ((لما)) فيه بمعنى إلا، يعني ما أطلب منك إلا إخبارك إياي بما سارك، ونحوه: أنشدك بالله إلا فعلت. قوله: ((يعارضني القرآن)) ((نه)) أي يدارسني جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة والمقابلة ومنه: عارضت الكتاب بالكتاب أي قابلته به. قوله: ((أنالك)) أنا مخصوص بالمدح، ولك بيان، كأنه لما قيل: نعم السلف أنا، قيل: لمن قيل لك. الحديث الخامس عن المسور رضي الله عنه: قوله: ((بضعة مني)) ((نه)) البضعة بالفتح القطعة من اللحم، وقد تكسر، أي أنها جزء مني كما أن القطعة من اللحم. قوله: ((يريبني ما أرابها)) ((حس)): رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني وأوهمني، فإذا استيقنته قلت بغير ألف، معناه: يسوؤني ما يسوؤها، ويزعجني ما أزعجها، وأول الحديث قال المسور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: إن بني [هاشم] بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا علي بن أبي طالب ولا آذن ثم آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني يريبني ... الحديث.

6140 - وعن زيد بن أرقم، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى: خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأنثى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد ألا أيها الناس! إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، وفيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) وفي رواية ((كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة)). رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ ((مح)): قالوا في الحديث: تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه، وإن توليد الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو من خواصه صلى الله عليه وسلم وهو لوجهين: أحدهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك علي رضي الله عنه من أذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي رضي الله عنه. وثانيهما: خاف الفتنة عليها بسبب الغيرة. وقيل: ليس المراد بقوله: ((لا آذن ثم لا آذن)) النهي عن جمعها، بل معناه أنه صلى الله عليه وسلم علم أن من فضل الله تعالى أنهما لا يجتمعان، كما قال أنس: والله لا تكسر ثنيتها. الحديث السادس عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((الثقلين)) ((فا)) الثقل المتاع المحمول على الدابة، وإنما قيل للجن والإنس والثقلان لأنهما [قطان] الأرض فكأنهما ثقلان. وقد شبه بهما الكتاب، والعبرة في أن الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين. ((حس)): سماهما ثقلين لأن الأخذ والعمل بهما ثقيل. وقيل في تفسير قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}: أي أوامر الله ونواهيه لأنه لا يؤدي إلا بتكليف ما يثقل. وقيل قوله: ((قولا ثقيلا))، أي له وزن وسمي الجن والإنس ثقلين لأنهما فضلاً بالتميز على سائر الحيوان، فكل شيء له وزن وقدر يتنافس فهي فهو ثقل. قوله: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) أي أحذركم الله في شأن أهل بيتي وأقول لكم: اتقوا الله ولا تؤذوهم فاحفظوهم، فالتذكير بمعنى الوعظ، يدل عليه قوله: ((ووعظ وذكر)).

6141 - وعن ابن عمر، أنه كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا بن ذي الجناحين! رواه البخاري. 6142 - وعن البراء، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي على عاتقه يقول: ((اللهم إني أحبه فأحبه)) متفق عليه. 6143 - وعن أبي هريرة، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار حتى أتى خباء فاطمة فقال: ((أثم لكع؟ أثم لكع؟)) يعني حسناً، فلم يلبث أن جاء يسعى، حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يا بن ذي الجناحين)) ((قض)): لما رأى جعفراً رضي الله عنه يطير في الجنة مع الملائكة لقبه بذي الجناحين، ولذلك سمي طياراً أيضاً. الحديث الثامن والتاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((في طائفة من النهار)) ((مح)): المراد به قطعة منه. و ((خباء فاطمة رضي الله عنها)) بكسر الخاء المعجمة والمد، أي بيتها. أقول: هو من المجاز على نحو استعمال المشفر والجحفلة على الشفة، والمرسن على الأنف. وفي رواية ((المخبأ)) وهو المخدع. وفي بعض نسخ المصابيح: ((خباب فاطمة)) والظاهر أنه مغير. قوله: ((أثم لكع؟)) ((نه)) اللكع عند العرب العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل: لكع، وللمرأة: لكاع، وقد لكع الرجل يلكع لكعاً فهو لكع، وأكثر ما يقع في النداء، وهو اللئيم، وقيل: الوسخ، وقد نطلق على الصغير، ومنه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم جاء يطلب الحسن بن علي فقال: ((أثم لكع؟)) فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل. ((قض)): المراد بهذا الاستصغار الرحمة والشفقة كالتصغير في ((يا حميراء)). ((مح)): فيه استحباب ملاطفة الصبي ومداعبته ومعانقته رحمة ولطفاً، واستحباب التواضع مع الأطفال وغيرهم.

6144 - وعن أبي بكرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)). رواه البخاري. 6145 - وعن عبد الرحمن بن أبي نعم، قال: سمعت عبد الله بن عمر وسأله رجل عن المحرم، قال شعبة أحسبه، يقتل الذباب؟ قال: أهل العراق يسألوني عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هما ريحاني من الدنيا)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن أبي بكرة رضي الله عنه: قوله: ((إن ابني هذا سيد)) تو: كفى به شرفاً وفضلاً فلا أسود ممن سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيداً. وقوله: ((ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين)) إنما وصفهم بالعظيمتين لأن المسلمين كانوا يومئذ فرقتين فرقة معه وفرقة مع معاوية، وكان الحسن رضي الله عنه أحق الناس يومئذ بهذا الأمر فدعاء ورعه وشفقته على أمة جده صلى الله عليه وسلم إلى ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله، ولم يكن ذلك لقلة ولا ذلة فقد بايعه على الموت أربعون ألفاً، وقال: والله ما أحببت منذ علمت ما ينفعني ويضرني أن لي أمر محمد صلى الله عليه وسلم على أن يراق في ذلك محجمة دم، وشق ذلك على بعض شيعته حتى حملته العصيبة على أن قال عند الدخول عليه: السلام عليك يا عار المؤمنين، فقال: ((العار خير من النار)). حس: في الحديث دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان فيه في تلك الفتة من قول أو فعل عن ملة الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم كلهم مسلمين مع كون إحدى الطائفتين مصيبة والأخرى مخطئة، وهكذا سبيل كل متأول فيما يتعاطاه من رأي ومذهب إذا كان له فيما يتأوله شبهة وإن كان مخطئاً في ذلك، ومن هذا اتفقوا على قبول شهادة أهل البغي ونفوذ قضاء قاضيهم، واختار السلف ترك الكلام في الفتنة الأولى، وقالوا: ((تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا)). والله أعلم. الحديث الحادي عشر عن عبد الرحمن بن أبي نعم رضي الله عنه: قوله: ((قال أهل العراق)) حال من سمعت، وقد مقدرة، والأصل: سمعت قول عبد الله. قوله: ((وسأله رجل عن المحرم)) أيضاً حال. قوله: ((قال شبعة: أحسبه يقتل الذباب)) قول بعض الرواة يفسر سؤال الرجل واستفتاؤه، أي: ما تقول في شأن المحرم يقتل الذباب. قوله: ((هما ريحاني من الدنيا)) ((فا)): أي من رزق الله الذي رزقنيه، يقال: سبحان الله وريحانه، أي أسبح الله أسترزقه، وهو مخفف من ((ريحان)) مشدد فيعلان من الروح؛ لأن انتعاشه بالزرق. ويجوز أن يراد بالريحان المشموم لأن الشمامات تسمى ريحاناً.

6146 - وعن أنس، قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي، وقال في الحسين أيضاً: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. 6147 - وعن ابن عباس، قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره فقال: ((اللهم علمه الحكمة)). وفي رواية: ((علمه الكتاب)). رواه البخاري. 6148 - وعنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءاً، فلما خرج قال: ((من وضع هذا)) فأخبر فقال: ((اللهم فقهه في الدين)). متفق عليه. [6148] 6149 - وعن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن، فيقول: ((اللهم أحبهما فإني أحبهما)). وفي رواية: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن ابن علي على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: ((اللهم ارحمهما فإني أرحمهما)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ ويقال: حباه بطاقة نرجس وبطاقة ريحان، فيكون المعنى: وإنهما مما أكرمني الله به وحباني أو لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين التي أنبتها الله تعالى. أقول: موقع ((من الدنيا)) هاهنا كموقعها في قوله صلى الله عليه وسلم ((حبب إلي من الدنيا: الطيب والنساء ...)) أي نصيبي منها، ونصيب ريحاني على المدح. الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((علمه الحكمة)) الظاهر أن يراد بها السنة لأنها إذا قرنت بالكتاب يراد بها السنة، قال الله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. ((نه)): الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، والحكيم الذي [يعلم] الأشياء ويتيقنها. الحديث الرابع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((فقهه في الدين)) ((مح)): فيه فضيلة الفقه، واستحباب الدعاء لمن عمل خيراً، وقد أجاب الله تعالى دعاءه في حقه، وكان من الفقه بالمحل الأعلى.

6150 - وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة ابن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كنتم تطعنون في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: قوله: ((ثم يضمهما)) كذا في المصابيح وفي جامع الأصول، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة. الحديث السادس عشر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وايم الله إن كان لخليقاً)) أي والله إن الشأن. وفي أصل المالكي: ((وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة وإن كان من أحب الناس إلي)) قال: استعمل ((إن)) المخففة المتروكة العلم عارياً ما بعدها من اللام الفارقة لعدم الحاجة إليها، وذلك لأنه إذا خففت ((إن)) صار لفظها كلفظ، ((إن)) النافية، فيخاف التباس الإثبات بالنفي عند ترك العمل فألزموا اللام المؤكدة مميزة لها، ولا يثبت ذلك إلا في موضع صالح للإثبات والنفي، نحو: (إن علمتك لفاضلا)) فاللام هنا لازمة إذ لو حذفت مع كون العمل متروكاً، وصلاحية الموضع للنفي لم يتيقن، فلو لم يصلح الموضع للنفي جاز ثبوت اللام وحذفها، فمن الحذف قول عبد الله بن بشير: ((إن كنا فرغنا في هذه المسألة الساعة)) وقول عائشة رضي الله عنها: ((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثنا ومالنا طعام إلا السلف من التمر)) ومنه قول الشاعر: أخي إن علمت الجود للحمد مبقياً وللود مثبتاً وللمال مفنياً وشواهده كثيرة وهاهنا نكتة وهي أن اللام الفارقة إن كان بعد ما ولى ((إن)) نفي واللبس مأمون فحذفها واجب كقول الشاعر: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة وإن هو لم يعدم خلاف معاند ولما غفل النحويون عن هذه الشواهد وأن حذف اللام عند الاستغناء عنها جائز بل واجب ألزموا ثبوت اللام. قوله: ((فقد كنتم طعنتم)) هذا الجزاء إنما يترتب على الشرط بتأويل التنبيه والترشيح، أي طعنكم الآن فيه سبب لأن أخبركم أن ذلك من عادة الجاهلية وهجيراهم، ومن ذلك طعنكم في أبيه من قبل، نحوه قوله تعالى: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}. تو: ((إنما طعن من طعن في إمارتهما لأنهما كانا من الموالي وكانت العرب لا ترى تولية الموالي وتستنكف من إتباعهم كل الاستنكاف، فلما جاء الله بالإسلام ورفع قدر من لم يكن له

وفي رواية لمسلم نحوه وفي آخره: ((أوصيكم به، فإنه من صالحيكم)). 6151 - وعنه قال: إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد ابن محمد، حتى نزل القرآن (ادعوهم لآبائهم}. متفق عليه. وذكر حديث البراء قال علي: ((أنت مني)) في ((باب بلوغ الصغير وحضانته)). الفصل الثاني 6152 - عن جابر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو علي ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: ((يأيها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل البيت)) رواه الترمذي [6152]. ـــــــــــــــــــــــــــــ عندهم قدر بالسابقة والهجرة والعلم والتقى عرف حقهم المحفوظون من أهل الدين، وأما المرتهنون بالعادة والممتحنون بحب الرئاسة من الأعراب ورؤساء القبائل فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك لاسيما أهل النفاق فإنهم كانوا يسارعون إلى الطعن وشدة التكبر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث زيد بن حارثة رضي الله عنه أميراً على عدة سرايا، وأعظمها جيش مؤتة، وسار تحت رايته في تلك الغزوة نجباء الصحابة، منهم: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان خليقاً بذلك لسوابقه وفضله وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعث أسامة وقد أمره في مرضه على جيش فيهم جماعة من مشيخة الصحابة وفضلائهم رضي الله عنهم، وكأنه رأى في ذلك سوى ما توسم فيه من النجابة أن يمهد الأمر ويعطيه لمن يلي الأمر ويعطيه لمن يلي الأمر بعد لئلا ينزع أحد من طاعة، وليعلم كل منهم أن العادات الجاهلية قد عميت مسالكها وخفيت معالمها. الحديث السابع عشر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ادعوهم لآبائهم)) أي انسبوهم إلى آبائهم. مح: كان صلى الله عليه وسلم تبنى زيداً ودعاه ابنه، وكان العربي يتبنى مولاه أو غيره فيصير ابناً له يوارثه وينسب إليه، حتى نزلت الآية فرجع كل إنسان إلى نسبه. الفصل الثاني الحديث الأول عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قوله: ((وعترتي أهل بيتي)) تو: عترة الرجل أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أهل بيتي)) ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه.

6153 - وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) رواه الترمذي. [6153]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: قوله: ((ما إن تمسكتم به)) ما موصولة، والجملة الشرطية صلتها، وإمساك الشيء التعلق به وحفظه، قال الله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض}. واستمسك بالشيء إذا تحرى الإمساك به، ولهذا لما ذكر التمسك عقبه بالمتمسك به صريحاً وهو الحبل في قوله: ((كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض)) وفيه تلويح إلى قوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} كأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم مشتغلون بشهواتها، وأن الله يريد بلطفه رفعهم فيدلي حبل القرآن إليهم ليخلصهم من تلك الورطة، فمن تمسك به نجا، ومن أخلد إلى الأرض هلك. ومعنى التمسك بالقرآن العمل بما فيه، وهو الائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه. والتمسك بالعترة محبتهم والاهتداء بهديتهم وسيرتهم. وفي قوله: ((إني تارك فيكم)) إشارة إلى أنهما بمنزلة التوأمين الخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يوصي الأمة بحسن المخالفة معهما وإيثار حقهما، كما يوصي الأب المشفق الناس في حق أولاده، ويعضده الحديث السابق في الفصل الأول: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) كما يقول الأب المشفق: ((الله الله في حق أولادي)). ومعنى كون أحدهما أعظم من الآخر أن القرآن هو أسوة للعترة وعليهم الاقتداء به، وهم أولى الناس بالعمل بما فيه. ولعل السر في هذه التوصية، واقتران العترة بالقرآن، أن إيجاب محبتهم لا تخلو من معنى قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فإنه تعالى جعل شكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطاً بمحبتهم على سبيل الحصر، فكأنه صلوات الله عليه يوصي الأمة بقيام الشكر وقيد تلك النعمة به، ويحذرهم عن الكفران، فمن أقام بالوصية وشكر تلك الصنيعة

6154 - وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: ((أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم)) رواه الترمذي [6154] 6155 - وعن جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمتي على عائشة، فسألت أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها إن كان ما علمت صواماً قوماً. رواه الترمذي. [6155]. 6456 - وعن عبد المطلب بن ربيعة، أن العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً وأنا عنده، فقال: ((ما أغضبك؟)) قال: يا رسول الله! ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة. وإذا لقونا لقونا بغير ذلك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال: ((والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ـــــــــــــــــــــــــــــ بحس الخلافة فيهما لن يفترقا، فلا يفارقانه في مواطن القيامة ومشاهدها حتى يردا الحوض، فيشكرا صنيعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحينئذ هو بنفسه يكافئه والله تعالى يجازيه بالجزاء الأوفى، ومن أضاع الوصية وكفر النعمة فحكمه على العكس، وعلى هذا التأويل حسن موقع قوله: ((فانظروا كيف تخلفوني فيهما)) والنظر بمعنى التأمل والتفكر، أي تأملوا واستعملوا الروية في استخلافي إياكم هل تكونون خلف صدق أو خلف سوء؟ وإن استغربت قولي: لا يفارقانه في مواقف الحشر حتى يردا على الحوض، تمسكت بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرءوا الزهراوين ...)) إلى قوله ((يحاجان عن صاحبهما وإن استبعدت قولي: هما توأمان خلفان، أنشدت لك قول الأعشى: نشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي أم تحالفا بأسحم داج عوض لا نتفرق أغرب الأعشى حيث جعل الممدوح يعني ((المحلق)) أحد نوعي الجود لكثرة صدوره عنه، كما أضيف حاتم إليه في قولك: حاتم الجود، ثم جعلهما أخوى أم واحدة راضعين ثديها، وما اكتفى بذلك بل ذكر أنهما تحالفا على أن لا يتفرقا. الحديث الثالث عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: قوله: ((أنا حرب)) أي محارب، جعل نفسه صلى الله عليه وسلم نفس الحرب مبالغة كقولك: رجل عدل. الحديث الرابع والخامس عن عبد المطلب بن ربيعة. قوله: ((بوجوه مبشرة)) كذا هو في جامع الترمذي، وفي جامع الأصول: ((مسفرة)).

ولرسوله، ثم قال ((أيها الناس! من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه)). رواه الترمذي. وفي ((المصابيح)) عن المطلب [6156]. 6157 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العباس مني وأنا منه)). رواه الترمذي. [6157]. 6158 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ((إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدك)) فغدا وغدونا معه، وألبسنا كساءه ثم قال: ((اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً، اللهم احفظه في ولده)). رواه الترمذي. وزاد رزين: ((واجعل الخلافة باقية في عقبه)) وقال الترمذي: هذا حديث غريب [6158]. ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: هو بضم الميم وسكون الباء وفتح الشين، يريد بوجوه عليها البشر، من قولهم: فلان مؤدم مبشر، إذا كانت له أدمة وبشرة محمودتان. قوله: ((صنو أبيه)): تو: الصنو المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد، يريد أن أصل عباس وأصل أبي واحد، وهو مثل أبي، أو مثلي، وجمعه صنوان. الحديث السادس والسابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((حتى أدعو لهم)) كذا في الترمذي، وفي جامع الأصول وبعض نسخ المصابيح: ((لكم)). قوله: ((وألبسناه كساءه)) تو: أشار بذلك إلى أنهم خاصته وأنهم بمثابة النفس الواحدة منه التي يشملها كساء واحد، وأنه سأل الله تعالى أن يبسط عليهم رحمته بسط الكساء عليهم، وأن يجمعهم في الآخرة تحت لوائه، وفي هذه الدار تحت رايته لإعلاء كلمة الله ونصرة دعوته ورسوله. قوله: ((اللهم احفظه في ولده)) أي أكرمه وراع أمره كيلا يضيع في شأن ولده، وهذا معنى رواية رزين: ((واجعل الخلافة باقية في عقبه)). قال في المغرب: يقال: فلان يحفظ نفسه ولسانه، أي لا يبتذله فيما لا يعنيه، وعليه قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} في أحد الأوجه، أي صونوها ولا تبتذلوها، والغرض صون المقسم به عن الابتذال لأنه أمر مذموم، وعليه قول كثير:

6159 - وعنه، أنه رأى جبريل مرتين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين رواه الترمذي. [6159] 6160 - وعنه، أنه قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكمة مرتين. رواه الترمذي [6160]. 6161 - وعن أبي هريرة، قال: كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين. رواه الترمذي. 6162 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب [6162]. 6163 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)). رواه الترمذي [6163]. 6164 - وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحسن والحسين هما ريحاني من الدنيا)). رواه الترمذي وقد سبق في الفصل الأول [6164]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قليل الإلاء حافظ ليمينه. أي لا يولئ أصلا بل يتحفظ ويتصون، والقلة بمعنى العدم. الحديث الثامن إلى الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يطير في الجنة)) تو: كان جعفر قد أصيب بمؤتة من أرض الشام وهو أمير بيده راية الإسلام بعد زيد بن حارثة رضي الله عنهما، فقاتل في سبيل الله حتى قطعت يداه ورجلاه، فأرى النبي صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به أن له جناحين مضرجين بالدم يطير بهما في الجنة مع الملائكة. الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((سيدا شباب أهل الجنة)) مظ: يعني هما أفضل ممن مات شابا في سبيل الله من أصحاب الجنة، ولم يرد به سن الشباب- لأنهما ماتا وقد كهلا- بل ما يفعله الشباب من المروءة كما تقول: فلان فتى وإن كان شيخاً تشير إلى مروءته وفتوته.

6165 - وعن أسامة بن زيد قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو، فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه، فإذا الحسن والحسين على وركيه. فقال: ((هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما)). رواه الترمذي. [6165]. 6166 - وعن سلمى، قالت: دخلت علي أم سلمة وهي تبكي فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم- تعني في المنام- وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: ((شهدت قتل الحسين آنفاً)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. 6167 - وعن أنس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: ((الحسن والحسين)) وكان يقول لفاطمة: ((ادعي لي ابني)) فيشمهما ويضمهما إليه رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. 6168 - وعن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)). رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [6168]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أو: أنهما سيدا أهل الجنة سوى الأنبياء والخلفاء الراشدين، وذلك لأن أهل الجنة كلهم في سن واحد وهو الشباب، وليس فيهم شيخ ولا كهل. أقول: يمكن أن يراد: هما الآن سيدا شباب هم من أهل الجنة من شبان هذا الزمان.

6169 - وعن يعلي بن مرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط)) رواه الترمذي [6169]. 6170 - وعن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك. رواه الترمذي. [6170] 6171 - وعن حذيفة، قال: قلت لأمي: دعيني آتى النبي صلى الله عليه وسلم فأصلي معه المغرب وأسأله أن يستغفر لي ولك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فصليت معه المغرب، فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته، فسمع صوتي، فقال: ((من هذا؟ حذيفة)) قلت: نعم. قال: ((ما حاجتك؟ غفر الله لك ولأمك، إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم على ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6171]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عشر إلى الثامن عشر عن يعلى بن مرة رضي الله عنه: قوله: ((حسين مني وأنا من حسين)) قض: كأنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم فخصه بالذكر وبين أنهما كالشيء الواحد في وجوب المحبة وحرمة التعرض والمحاربة، وأكد ذلك بقوله: ((أحب الله من أحب حسيناً)) فإن محبته محبة الرسول، ومحبة الرسول محبة الله. والسبط: ولد الولد، أي هو من أولاد أولادي، أكد به البعضية وقررها، وتقال للقبيلة: قال الله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} أي قبائل. ويحتمل أن يكون المراد هاهنا على أنه يتشعب منه قبيلة ويكون من نسله خلق كثير، فيكون إشارة إلى نسله أكثر وأبقى، وكان الأمر كذلك. الحديث التاسع عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((ما بين الصدر إلى الرأس)) بدل من الفاعل المضمر في أشبه، أو من المفعول بدل البعض، وكذا قوله: ((ما كان أسفل)). الحديث العشرون عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((آتي النبي صلى الله عليه وسلم)) استئناف، أي أنا آت.

6172 - وعن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً الحسن بن علي على عاتقه، فقال: نعم المركب ركبت يا غلام! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ونعم الراكب هو)). رواه الترمذي. [6172] 6173 - وعن عمر [رضي الله عنه] أنه فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف. فقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد. قال: لأن زيداً كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي. رواه الترمذي. [6173] 6174 - وعن جبلة بن حارثة، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابعث معي أخي زيداً. قال: ((هو ذا، فإن انطلق معك لم أمنعه)) قال زيد: يا رسول الله! والله لا أختار عليك أحداً. قال: فرأيت رأي أخي أفضل من رأيي. رواه الترمذي [6174]. 6175 - وعن أسامة بن زيد قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس المدينة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلم يتكلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فرض لأسامة)) أي قدر ذلك المقدار من بيت المال رزقاً له. وأراد بالمشهد: مشهد القتال ومعركة الكفار. الحديث الثالث والعشرون عن جبلة بن حارثة رضي الله عنه: قوله: ((لا أختار عليك أحداً)) قصته ستذكر في أسماء الرجال. الحديث الرابع والعشرون عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: قوله: ((هبطت)) قض: المدينة في غائط من الأرض وأطرافها ونواحيها من الجوانب كلها مستعلية عليها فمن أي جانب توجهت إليها كنت منحدراً إليها. و ((أصمت)) أي اعتقل لسانه.

يضع يديه على ويرفعهما، فأعرف أنه يدعو لي. رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب [6175]. 6176 - وعن عائشة، قالت: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحي مخاط أسامة. قالت عائشة: دعني حتى أكون أنا الذي أفعل. قال: ((يا عائشة! أحبيه فإني أحبه)). رواه الترمذي [6176]. 6177 - وعن أسامة قال: كنت جالساً، إذ جاء علي والعباس يستأذنان، فقالا لأسامة: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! علي والعباس يستأذنان. فقال: ((أتدري ما جاء بهما؟)) قلت: لا، قال: ((لكني أدري، ائذن لهما)) فدخلا، فقالا: يا رسول الله! جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: ((فاطمة بنت محمد)) قال: ما جئناك نسألك عن أهلك قال: ((أحب أهلي إلى من قد أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أسامة بن زيد)) قالا: ثم قال؟ قال: ((ثم علي بن أبي طالب)) فقال ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس والعشرون والسادس والعشرون عن أسامة رضي الله عنه: قوله: ((أي أهلك أحب إليك)) مطلق ويراد به المقيد، أي من الرجال، وبينه ما بعده وهو قوله: ((أحب أهلي إلى من قد أنعم الله عليه)). وفي نسخ المصابيح قوله: ((ما جئناك نسألك عن أهلك)) مقيد بقوله: ((من النساء)) وليس في جامع الترمذي وجامع الأصول هذه الزيادة. ولم يكن أحد من الصحابة إلا وقد أنعم الله عليه، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المراد المنصوص عليه في الكتاب وهو قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} وهو زيد، ولا خلاف في ذلك، ولا شك، وهو إن نزل في حق زيد لكنه لا يبعد أن يجعل تابعاً لأبيه في هاتين النعمتين.

العباس، يا رسول الله! جعلت عمك آخرهم؟ قال: ((إن عليا سبقك بالهجرة)). رواه الترمذي. وذكر أن عم الرجال صنو أبيه في ((كتاب الزكاة)) [6177] الفصل الثالث 6178 - عن عقبة بن الحارث، قال: صلى أبو بكر العصر ثم خرج يمشي ومعه علي، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله على عاتقه، وقال: بأبي شيبه بالنبي، ليس شبيهاً بعلي، وعلى يضحك. رواه البخاري. 6179 - وعن أنس، قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجعل في طست، فجعل ينكت وقال في حسنه شيئاً، قال أنس: فقلت: والله إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفي الجملة: المراد بنعمة الله عليه وعلى أبيه نعمة الهداية والكرامة وبنعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمة الإعتاق والتبني والتربية. وجل ما من الله تعالى به في التنزيل على بني إسرائيل نحو {أنعمت عليكم} نعم أسداها إلى آبائهم. الفصل الثالث الحديث الأول عن عقبة بن الحارث: قوله: ((بأبي شبيه)) يحتمل أن يكون التقدير: هو مفدي بأبي شبيه، فيكون خبراً بعد خبر، أو: أفديه بأبي فعلى هذا شبيه خبر مبتدأ محذوف، وفي تنكيره لطف، وفيه إشعار بعلية الشبه للفدية. قوله: ((ليس شبيهاً)) وفي أصل المالكي: ((شبيه)) بالرفع وقال: الأصل ((ليس شبيه)) نحوه ما مر في خطبة يوم النحر من قوله: ((أليس ذو الحجة)) من حذف الضمير المتصل خبرا. لكان وأخواتها.

وفي رواية الترمذي قال: كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسن، فجعل يضرب بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسناً. فقلت: أما إنه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب. [6179] 6180 - وعن أم الفضل بنت الحارث، أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني رأيت حلماً منكراً الليلة قال: ((وما هو؟)) قالت: إنه شديد قال: ((وما هو؟)) قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً يكون في حجرك)). فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فدخلت يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، ثم كانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تهريقان الدموع، قالت: فقلت: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، مالك؟ قال: ((أتاني جبريل عليه السلام، فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟ قال: نعم، وأتاني بتربة من ترتبه الحمراء)) [6180]. 6181 - وعن ابن عباس، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه، ولم أزل ألتقطه منذ اليوم)) فأحصى ذلك الوقت فأجد ذلك الوقت. رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) وأحمد الأخير [6181]. 6182 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، فأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)). رواه الترمذي [6182]. 6183 - وعن أبي ذر، أنه قال وهو آخذ بباب الكعبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني إلى الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لم أزل ألتقطه ((من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: ((هذا))، ويجوز أن يكون خبراً ودم الحسين بدل من هذا. قوله: ((فأحصى ذلك الوقت)) من كلام ابن عباس رضي الله عنهما: الحديث الخامس والسادس عن أبي ذر رضي الله عنه:

(11) باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

يقول: ((ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك)). رواه أحمد [6183]. (11) باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الفصل الأول 6184 - عن علي [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خير ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((وهو آخذ بباب الكعبة)) أراد الراوي بهذا مزيد توكيد لإثبات هذا الحديث، وكذا أبو ذر اهتم بشأن روايته فأورده في هذا المقام على رءوس الأنام ليتمسكوا به. وفي رواية أخرى له يقول: ((من عرفني فأنا من قد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إن مثل أهل بيتي ....)) الحديث. أراد بقوله: ((فأنا من قد عرفني)) وبقوله: ((فأنا أبو ذر)) أنا المشهور بصدق اللهجة وثقة الرواية وأن هذا الحديث صحيح لا مجال للرد فيه، تلميح إلى ما روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)) وفي رواية أبي ذر: من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم)) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كالحاسد له: ((يا رسول الله أفتعرف ذلك له؟)) قال: ((أعرف ذلك فاعرفوه)) أخرجه الترمذي وحسنه الصاغاني في كشف الحجاب. شبه الدنيا وما فيها من الكفر والضلالات والبدع والأهواء الزائغة ببحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، وقد أحاط بأكنافه وأطرافه الأرض كلها وليس من خلاص ولا مناص إلا تلك السفينة وهي محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحسن انضمامه مع قوله: ((مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشيء اهتدى به)) ونعم ما قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: نحن معاشر أهل السنة بحمد الله ركبنا سفينة محبة أهل البيت واهتدينا بنجم هدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنرجوه النجاة من أهوال يوم القيامة ودركات الجحيم، والهداية إلى ما يزلفنا لدرجات الجنان والنعيم المقيم. باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الفصل الأول الحديث الأول عن علي رضي الله عنه:

نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)). متفق عليه. وفي رواية قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض. 6185 - وعن أبي هريرة، قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((خير نسائها)) تو: الضمير في الأولى عائد إلى الأمة التي كانت فيهم مريم، وفي الثانية إلى هذه الأمة، ولهذا كرر القول ((من)) أولها تنبيها على أن حكم كل واحد منهما غير حكم الآخر، وكلا الفصلين كلام مستأنف. وإشارة وكيع- الذي هو من جملة رواة هذا الحديث- إلى السماء والأرض منبئة عن كونها خيراً ممن هو فوق الأرض وتحت أديم السماء، وهو نوع من الزيادة في البيان، ولا يستقيم أن يكون تفسيراً لقوله: ((خير نسائها)) لأن إعادة الضمير إلى السماء غير مستقيمة فيه، ثم إنهما شيئان مختلفان والضمير راجع إلى شيء واحد. قض: إنما وحد الضمير لأنه أراد جملة طبقات السماء وأقطار الأرض، وأن مريم خير من صعد بروحهن إلى السماء، وخديجة خير نسائهن على وجه الأرض، والحديث ورد في أيام حياتها. أقول: يجوز أن يرجع الضمير إلى السماء والأرض وإن اختلفا باعتبار الدنيا مجازاً كما عبر بها عن العالم في قوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}. الكشاف: أي لا يخفى عليه شيء في العالم المعبر عنه بالسماء والأرض ونحوه قوله تعالى: {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة} على معنى له الحمد في الدنيا والآخرة فعبر بهما عن الدنيا، ويؤيد هذا التأويل حديث أنس في الفصل الثاني: ((حسبك من نساء العالمين)). وتفسير وكيع إنما يستقيم تفسيراً إذا بين ما أبهم في الحديث، والمبهم فيه كل واحد من الضميرين. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من قصب)) حس: القصب في هذا الحديث لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف.

6186 - وعن عائشة، قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم تكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: ((إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد)). متفق عليه. 6187 - وعن أبي سلمة أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام)). قالت: وعلي السلام، ورحمة الله قالت: وهو يرى ما لا أرى. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ و ((الصخب)) اختلاط الأصوات. و ((النصب)) التعب. فنفي عن البيت النصب والصخب لأنه ما من بيت في الدنيا يسكنه قوم إلا كان بين أهله صخب وجلبة، وإلا كان في بنائه وإصلاحه نصب وتعب، فأخبر أن قصور الجنة خالية عن هذه الآفات. أقول: يريد بالوجه الثاني أن بناء بيت الجنة حاصل بقوله كن، ليس كأبنية الدنيا فإنها يتسبب بناؤها بصخب ونصب، وكذا السكون فيها لا يخلو عنهما، وليس حكم بيت الجنة كذلك بل أصحاب الجنة {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ...} إلى قوله تعالى: {... سلام قولا من رب رحيم} والله أعلم. الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما غرت على خديجة)) ((ما)) فيه يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة أي: ما غرت مثل غيرتي، أو مثل التي غرتها. الغيرة: الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور وامرأة غيرو بلا هاء لأن فعول يشترك فيه الذكر والأنثى. قوله: ((كانت وكانت)) كرر ولم يرد به التثنية، ولكن للتكرير ليعلق به في كل مرة من خصائلها ما يدل على فضلها كقوله تعالى: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً} ولم يذكر هنا متعلقة للشهرة تفخيماً.

6188 - وعن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريتك في المنام ثلاث ليال، يجيء بك الملك في سرقة من حرير، فقال لي هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه)). متفق عليه. 6189 - وعنها، قالت: إن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع والخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((في سرقة)) أي في قطعة من جيد الحرير، والجمع سرق. قوله: ((إن يكن هذا عند الله يمضه)) هذا الشرط مما يقوله المتحقق لثبوت الأمر المدل بصحته تقريراً لوقوع الجزاء وتحققه، ونحوه قول السلطان لمن تحت قهره: إن كنت سلطاناً انتقمت منك، أي السلطنة مقتضية للانتقام. مح: قال: القاضي عياض: إن كانت هذه الرؤيا قبل النبوة، وقبل تخليص أحلامه صلى الله عليه وسلم من الأضغاث فمعناه: إن كانت رؤيا حق، وإن كانت بعد النبوة فلها ثلاثة معان: أحدها: المراد إن تكن الرؤيا على وجهها وظاهرها لا تحتاج إلى تعبير وتفسير يمضه الله وينجزه، فالشك عائد إلى أنها رؤيا على ظاهرها أم تحتاج إلى تعبير وصرف عن ظاهرها. وثانيها: أن المراد إن كانت هذه الزوجية في الدنيا يمضها الله تعالى فالشك أنها زوجه في الدنيا أم في الجنة. وثالثها: أنه لم يشك ولكن أخبر على التحقيق وأتى بصورة الشك، وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف، وسماه بعضهم مزج الشك باليقين. أقول: هذا هو الذي حققناه فيما سبق وكان من توارد الخواطر. قوله: ((فكشفت عن وجهك)) يحتمل وجهين: أحدهما: كشفت عن وجه صورتك فإذا أنت الآن تلك الصورة. ثانيهما: كشفت عن وجهك عند ما شاهدتك فإذا أنت مثل الصورة التي رأيتها في المنام، وهو تشبيه بليغ حيث حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وحملها عليها، كقوله تعالى: {هذا الذي رزقنا من قبل} ومنه مسألة الكتاب: (كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي) أي فإذا الزنبور مثل العقرب، فحذف الأداة مبالغة فحصل التشابه، وإليه يلمح في الآية: {وأتوا بها متشابها} ومعنى المفاجأة في إذا يساعد هذا الوجه. الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((يتحرون)) هو الرواية وفي بعض نسخ المصابيح: ((يتحينون)) وما وجدناه في الأصول.

بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم حزب أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليهده إليه حيث كان. فكلمته، فقال لها: ((لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلى عائشة)). قالت: أتوب إلى الله من ذاك يا رسول الله! ثم إنهن دعون فاطمة فأرسلن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: ((يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟)). قالت: بلى قال: ((فأحبي هذه)). متفق عليه. وذكر حديث أنس ((فضل عائشة على النساء)) في باب ((بدء الخلق)) برواية أبي موسى. الفصل الثاني 6190 - عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بين محمد، وآسية امرأة فرعون)). رواه الترمذي [6190]. 6191 - وعن عائشة، أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((هذه زوجتك في الدنيا والآخرة)). رواه الترمذي [6191]. ـــــــــــــــــــــــــــــ نه: التحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي الحديث: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر)) أي تعمدوا طلبها فيه. قوله: ((إلا عائشة)) إلا بمعنى غير، أي امرأة غير عائشة والله أعلم. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حسبك)) مبتدأ. و ((من نساء)) متعلق به. و ((مريم)) خبره.

6192 - وعن أنس، قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ((ما يبكيك؟)) فقالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟)). ثم قال: ((اتقي الله يا حفصة!)). رواه الترمذي، والنسائي [6192]. 6193 - وعن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة عام الفتح فناجاها، فبكت، ثم حدثها فضحكت، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها. قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران، فضحكت. رواه الترمذي. الفصل الثالث 6194 - عن أبي موسى، قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب [6194]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والخطاب إما عام أو لأنس، أي كافيك معرفتك فضلهن من معرفة سائر النساء. الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إنك لابنة نبي)) ((مظ)): أي إسحاق النبي عليه الصلاة والسلام. ((وإن عمك لنبي)) هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام. أقول: الأظهر هارون وموسى، قال في جامع الأصول: هي بنت حيي بن أخطب بن ربيعة من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام. الحديث الرابع عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((دعا فاطمة)) هذا الحديث غير مناسب لهذا الباب إنما يناسب باب مناقب أهل البيت لكن ذكر مستطرداً للحديث الأول من هذا الفصل لما ضم فيه من ذكر خديجة ذكر مريم وفاطمة. الفصل الثالث عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)) بالنصب على الاختصاص.

(12) باب جامع المناقب

6195 - وعن موسى بن طلحة، قال: ما رأيت أحداً أفصح من عائشة. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب [6195]. (12) باب جامع المناقب الفصل الأول 6196 - عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت في المنام كأن في يدي سرقة من حرير، لا أهوي بها إلى مكان في الجنة إلا طارت به إليه، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أخاك رجل صالح- أو إن عبد الله رجل صالح)). متفق عليه. 6197 - وعن حذيفة قال: إن أشبه الناس دلا وسمتاً وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أم عبد من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، لا ندري ما يصنع في أهله إذا خلا. رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ باب جامع المناقب الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لا أهوي بها إلى مكان)) أي لا أريد الميل بها إلى مكان في الجنة إلا كانت مطيرة بي ومبلغة إياي إلى تلك المنزلة، فكأنها لي مثل جناح الطير للطائر. الحديث الثاني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قوله: ((دلاً وسمتاً وهدياً)) ((قض)): الدل قريب من الهدي، والمراد به السكينة والوقار، وما يدل على كمال صاحبه من ظواهر أحواله، وحسن مقاله. وبالسمت: القصد في الأمور. وبالهدي: حسن السيرة وسلوك الطريقة المرضية. وابن أم عبد: عبد الله بن مسعود. قوله: ((من حين يخرج)) متعلق بأشبه. وقوله: ((لا ندري)) جملة مستأنفة، يريد بها أنا نشهد له بما يستبين لنا من ظاهر أمره، ولا ندري ما بطن منه.

6198 - وعن أبي موسى الأشعري، قال قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. 6199 - وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل)). متفق عليه. 6200 - وعن علقمة، قال: قدمت الشام، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيت قوماً، فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جانبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك لي فقال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة قال: أوليس ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((ما نرى)) حال من فاعل ((فمكثنا)) ويجوز أن يكون صفة ((حيناً)) أي زماناً غير ظانين فيه شيئاً إلا كون عبد الله بن مسعود كذا. ((مح)): ما نرى بضم النون أي ما نظن. الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((استقرئوا القرآن)) أي خذوا من هؤلاء الأربعة. ((مح)): قالوا: هؤلاء الأربعة تفرغوا لأخذ القرآن منه صلى الله عليه وسلم مشافهة، وغيرهم اقتصروا على أخذ بعضهم من بعض. أو: لأن هؤلاء تفرغوا لأن يؤخذ عنهم. أو: أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من تقدم هؤلاء الأربعة وأنهم أقرأ من غيرهم. الحديث الخامس عن علقمة. قوله: ((من أهل الكوفة)) أي رجل من أهل الكوفة، ليطابق السؤال، أو تقدير السؤال: من أين أنت؟ ليطابقه الجواب، وقوله: ((أو ليس عندكم .... ؟ الخ)).

عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة والمطهرة، وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه؟ يعني عماراً، أو ليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة. رواه البخاري. 6201 - وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت الجنة فرأيت امرأة أبى طلحة، وسمعت خشخشة [أمامي] فإذا بلال)). رواه مسلم. 6202 - وعن سعد، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}. رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((صاحب النعلين)) ((قض)): يريد أنه كان يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ويلازمه في الحالات كلها، فيصاحبه في المجالس، ويأخذ نعله، ويضعها إذا جلس، وحين ينهض، ويكون معه في الخلوات، فيسوي مضجعه، ويضع وسادته إذا أراد أن ينام، ويهيئ طهوره، ويحمل معه المطهرة إذا قام إلى الوضوء. قوله: ((صاحب السر)) قيل: من تلك الأسرار أسماء المنافقين وأنسابهم، أسر بهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه قوله: ((خشخشة)) ((قض)): الخشخشة صوت يحدث من تحرك الأشياء اليابسة واصطكاكها كالسلاح والثوب والنعل. الحديث السابع عن سعد رضي الله عنه: قوله: ((ما شاء الله أن يقع)) ورد في تفسير الآية أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء جالسناك وحادثناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بطارد المؤمنين)) فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، قال ((نعم)) طمعاً في إيمانهم.

6203 - وعن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى! لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود)). متفق عليه. 6204 - وعن أنس، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: أبي ابن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قيل لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثامن عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((مزماراً)) ((قض)): المزمار هاهنا مستعار للصوت الحسن والنغمة الطيبة، أي أعطيت حسن صوت يشبه بعض الحسن الذي كان لصوت داود عليه الصلاة والسلام. والمراد بآل داود: نفسه، والآل [مفخم] إذا لم يكن له آل مشهور بحسن الصوت، بل المشهود له به هو نفسه. الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((جمع القرآن)) أي حفظوه أجمع. ((مح)): قال المازري: هذا الحديث مما تعلق به بعض الملاحدة في تواتر القرآن، وجوابه من وجهين. أحدهما: بأنه ليس فيه تصريح بأن غير الأربعة لم يجمعه، فيكون المراد: الذين أعلمهم من الأنصار أربعة، والمراد نفي علمه لا نفي غيره من القراء، وقد روي عن مسلم: حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر المازري منهم خمسة عشر صحابياً، وثبت في الصحيح أنه قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن، وكانت اليمامة قريبة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ فكيف الظن بمن لم يقتل ممن حضرها ومن لم يحضرها؟ ولم يذكر في هؤلاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ونحوهم من كبار الصحابة الذين يبعد كل البعد أنهم لم يجمعوه مع كثرة رغبتهم في الخير وحرصهم على ما هو دون ذلك من الطاعات، وكيف يظن هذا بهم ونحن نرى أهل عصرنا يحفظه منهم في كل بلدة ألوف. وثانيهما: أنه لو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة لم يقدح في تواتره، إذ ليس من شرط التواتر أن ينقل جميعهم جميعه، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك. وقال التوربشتي: المراد من الأربعة أربعة من رهط أنس وهم الخزرجيون.

6205 - وعن خباب بن الأرت، قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم: مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر)). ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. متفق عليه. 6206 - وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اهتز العرش لموت سعد ابن معاذ)). ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أنه أراد به أربعة من الأنصار أوسهم وخزرجهم وهو أشبه، وقد كان بين الحيين مناوأة قبل الإسلام بقيت منها بقية من العصبية بعد الإسلام، فلعله ذكر ذلك على سبيل المفاخرة، لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: افتخرت الأوس والخزرج، فقال الأوس: منها غسيل الملائكة (حنظلة بن [الراهب]، ومنا من حمته الدبر (عاصم بن ثابت بن الأقلح)، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين (خزيمة بن ثابت)، ومنا من اهتز العرش لموته (سعد بن معاذ). وقالت الخزرج: منا أربعة قرأوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأه غيرهم: (زيد بن ثابت) (أبو زيد) و (معاذ بن جبل) و (أبي بن كعب). فقوله: ((لم يقرأه غيرهم)) أي لم يقرأه كله أحد منكم يا معشر الأوس. الحديث العاشر عن خباب بن الأرت رضي الله عنه: قوله: ((من أينعت له ثمرته)) ((نه)). أينع الثمر يونع وينع [يينع]، فهو مونع ويانع إذا أدرك ونضج، وأينع أكثر استعمالاً. وهدب الشيء- بالدال المهملة- إذا قطعه، وهدب الثمرة إذا اجتناها يهدبها هدباً. أقول: هذه الفقرة قرينة لقوله: ((فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً)) كأنه قيل: منهم من لم يعجل شيئاً من ثوابه، ومنهم من عجل بعض ثوابه. وقوله: ((يهدبها)) على صيغة المضارع لاستمرار الحال الماضية والآتية استحضاراً له في مشاهدة السامع، وفي الحديث: ((ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا بثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث)).

وفي رواية: ((اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)). متفق عليه. 6207 - وعن البراء، قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويتعجبون من لينها، فقال ((أتعجبون من لين هذه؟)) لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ وفيه بيان فضيلة (مصعب بن عمير)) وأنه ممن لم ينقص له من ثواب الآخرة شيء. الحديث الحادي عشر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قوله: ((اهتز العرش)) ((مح)): اختلفوا في تأويله، فقال طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحاً بقدوم روح سعد، وجعل الله في العرش تمييزاً ولا مانع منه، كما قال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله}. وهذا القول هو المختار. وقال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته لا ينكر هذا من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا يبعد أن يحمل ذلك على حصول فضيلة سعد، إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته. وقيل: المراد اهتزاز أهل العرش- وهم حملته وغيرهم من الملائكة- فحذف المضاف. والمراد بالاهتزاز الاستبشار، ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها وإقباله عليها. وقال الحربي: هو كناية عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت الأرض لموت فلان، وقامت له القيامة. وقالت الجماعة: المراد بالاهتزاز اهتزاز سرير الجنازة، وهو النعش، وهذا القول باطل يرده الرواية الأخرى، وإنما أولوا هذا التأويل لأنه لم تبلغهم الرواية الأخرى. الحديث الثاني عشر عن البراء رضي الله عنه: قوله: ((لمناديل)) ((مح)): جمع مناديل وهو هذا الذي يحمل في اليد، قال ابن الأعرابي وغيره: هو مشتق من الندل، وهو النقل؛ لأنه ينقل من واحد إلى واحد. وقيل: من الندل وهو الوسخ؛ لأنه يندل به. ((خط)): إنما ضرب المثل بالمناديل لأنها ليست من علية الثياب بل هي تبتذل في أنواع من المرافق، فتمسح بها الأيدي، وينفض بها الغبار عن البدن، ويغطى بها ما يهدي في الأطباق،

6208 - وعن أم سليم، أنها قالت: يا رسول الله! أنس خادمك، ادع الله له قال: ((اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)) قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن والدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة يوم. متفق عليه. 6209 - وعن سعد بن أبي وقاص، قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: ((إنه من أهل الجنة)) إلا لعبد الله بن سلام. متفق عليه. 6210 - وعن قيس بن عباد، قال: كنت جالساً في مسجد المدينة، فدخل ـــــــــــــــــــــــــــــ وتتخذ لفافاً للثياب، فصار سبيلها سبيل الخادم وسبيل سائر الثياب سبيل المخدوم، فإن كان أدناها هكذا فما ظنك بعليتها؟. الحديث الثالث عشر عن أم سليم رضي الله عنها: قوله: ((ليتعادون على نحو المائة)) ((قض)): ي يتجاوز عددهم هذا المبلغ، يقال: أنهم ليتعادون على عشرة آلاف، أي يزيدون عليها في العدد. ((مح)): هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل لمن يفضل الغني على الفقر. وأجيب: بأنه مختص بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد بارك فيه، ومتى بارك فيه لم يكن فيه فتنة، فلم يحصل بسببه ضرر ولا تقصير في أداء حق الله تعالى. وفيه استحباب أنه إذا دعا بشيء يتعلق بالدنيا ينبغي أن يضم إلى دعائه طلب البركة فيه والصيانة. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس أنه دفن من أولاده قبل مقدم الحجاج مائة وعشرين. الحديث الرابع عشر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: قوله: ((يمشي على وجه الأرض)) صفة مؤكدة لأحد، كما في قوله تعالى: {وما في دابة في الأرض} لمزيد التعميم والإحاطة. ((مح)): ليس هذا مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة ...)) إلى آخر العشرة وغيرهم من المبشرين بالجنة، فإن سعداً قال: ما سمعت، ونفي سماعه ذلك لا يدل على نفي البشارة للغير، فإذا اجتمع النفي والإثبات فالإثبات مقدم عليه.

رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة. قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، فسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة- ذكر من سعتها وخضرتها- وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة فقيل لي: ارقه. قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاه، فأخذت بالعروة، فقيل: استمسك، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((تلك الروضة الإسلام وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة؛ العروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت، وذلك الرجل عبد الله بن سلام)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الخامس عشر عن قيس بن عباد: قوله: ((تجوز فيهما)) أي خففهما. ((نه)): في الحديث: ((فأتجوز في صلاتي)) أي أخففها وأقللها. قوله: ((ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم)) ((مح)): هذا إنكار من عبد الله بن سلام عليهم حيث قطعوا له بالجنة، فيحتمل أن هؤلاء بلغهم خبر سعد بن أبي وقاص أن ابن سلام من أهل الجنة ولم يسمع هو ذلك، ويحتمل أنه كره الثناء عليه بذلك تواضعاً وإيثاراً للخمول وكراهية للشهرة. أقول: فعلى هذا الإشارة بقوله ((ذاك)) إلى إنكاره أياهم، يعني: إني أحدثك بسبب إنكاري عليهم، وهو أني رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره، وهذا لا يدل على النص بقطع النبي صلى الله عليه وسلم على أني من أهل الجنة كما نص على غيري. ويمكن أن تكون الإشارة بذاك إلى قولهم: هذا رجل من أهل الجنة، يعني لا ينبغي لأحد ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يقول بما لا يعلم، فإنهم علموا بذلك وقالوا، وأنا أيضاً أقول: رأيت رؤيا ... الخ. ويحقق هذا قوله: فاستيقظت وإنها لفي يدي، وكانت رؤياه هذه كشفاً كشفه الله تعالى عليه كرامة له. قوله: ((منصف)) ((مح)): هو- بكسر الميم وفتح الصاد-. قال القاضي عياض: هو- بفتح الميم- وهو الخادم، وقالوا: هو الوصيف الصغير المدرك للخدمة. قوله: ((العروة الوثقى)) الوثقى من الحبل الوثيق المحكم المأمون انقطاعه.

6211 - عن أنس، قال: كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار، فلما نزلت: {يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى آخر الآية جلس ثابت في بيته، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: ((ما شأن ثابت؟ أيشتكي؟)) فاتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل هو من أهل الجنة)) رواه مسلم. 6212 - وعن أبي هريرة، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت سورة الجمعة، فلما نزلت {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قالوا: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: ((لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء)). متفق عليه. 6213 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم حبب عبيدك هذا)). يعني أبا هريرة ((وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين)). رواه مسلم. 6214 - وعن عائذ بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس عشر والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وآخرين منهم)) هذا يدل على أن يكون ((آخرين)) عطفاً على ((الأميين)) يعني أن الله تعالى بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضوان الله عليهم. قوله: ((من هؤلاء)) جمع اسمك الإشارة والمشار إليه ((سلمان)) وحده إرادة للجنس، ويحتمل أن يراد بهم العجم كلهم لوقوعه مقابلا للأميين وهم العرب، وأن يراد به أهل فارس. ولو هاهنا بمعنى أن لمجرد الفرض والتقدير على سبيل المبالغة. الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن عائذ بن عمرو:

في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)) فأتاهم، فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي. رواه مسلم. 6215 - وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)). متفق عليه. 6216 - وعن البراء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)). متفق عليه. 6217 - وعن أنس، قال: إن ناساً من الأنصار قالوا حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((ما أخذت سيوف الله)) ما فيه نافية، وأما ((مأخذها)) فقيل: مفعول به، وقيل: مفعول فيه، يجوز أن يكون مصدراً، والكلام إخبار فيه معنى الاستفهام المتضمن للاستبطاء، استعار الأخذ للسيف تشبيها له بمن له حق على صاحبه وهو يلزمه ويطالبه، والغريم يمتنع عن إيفاء حقه ويماطله. قوله: ((لا)) يجب أن يوقف عليه، ويستأنف من قوله: ((يغفر الله لك)) ولو زاد ((واو)) كما في جاب اليزيدي عن سؤال المأمون: ((لا وجعلني الله فداءك)) لحسن موقعه. قوله: ((يا أخي)) الظاهر أن يقال: ((يا أخانا)) ولعله حكاية عن قول كل واحد. ((مح)): ضبطوه بضم الهمزة على التصغير، وهو تصغير تحبيب، وفي بعض النسخ بفتحها. الحديث العشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((آية الإيمان حب الأنصار)) وإنما كان كذلك لأنهم تبوءوا الدار والإيمان، وجعلوه مستقراً ومستوطناً لهم، لتمكينهم منه استقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك، فمن أحبهم فذلك من كمال إيمانه، ومن بغضهم فذلك من علامة نفاقه. الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون عن أنس رضي الله عنه:

يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحداً غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)). فقال فقهاؤهم: أما ذووا رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويدع الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا. متفق عليه. 6218 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا الهجرة لكنت امرءاً ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((يغفر الله لرسول الله)) توطئة وتمهيد لما يرد بعده من العتاب، كقوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم}. قوله: ((وسيوفنا تقطر من دمائهم)) حال مقررة لجهة الإشكال، وهو من باب قولهم: عرضت الناقة على الحوض، وأنشد: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما الحديث الثالث والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار)) ((حس)): ليسن المراد منه الانتقال عن النسب الولادي لأنه حرام، مع أن نسبه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنساب وأكرمها، وإنما أراد به النسب البلادي، ومعناه: لولا الهجرة من الدين ونسبتها دينية، لا يسعني تركها لأنها عبادة كنت مأموراً بها لانتسبت إلى داركم، ولانتقلت عن هذا الاسم إليكم. قيل: أراد صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام إكرام الأنصار، والتعريض بأن لا رتبة بعد الهجرة أعلى من النصرة، وبيان أنهم بلغوا من الكرامة مبلغاً لولا أنه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين إلى المدينة لعد نفسه من الأنصار لكرامتهم عند الله تعالى. تلخيصه لولا فضلي على الأنصار بسبب الهجرة لكنت واحداً منهم، وهذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم، وحث للناس على إكرامهم واحترامهم، ولكن لا يبلغون رتبة المهاجرين السابقين الذين أخرجوا من ديارهم، وقطعوا عن أحبابهم وأقاربهم، وحرموا أوطانهم وأموالهم، وهم رضوان

من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)). رواه البخاري. 6219 - وعنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن)). فقالت الأنصار: أما الرجل فقد ـــــــــــــــــــــــــــــ الله عليهم ما نالوا بذلك [بآلة] لأجل رضى الله ورضى رسوله، وإعلاء دين الله وسنة رسوله. والأنصار وإن اتصفوا بصفة: النصرة والإيثار والمحبة والإيواء، لكنهم مقيمون في مواطنهم ساكنون بين أقاربهم وأحبابهم، وحسبك شاهداً في فضل المهاجرين قوله هذا؛ لأن فيه إشارة إلى جلالة رتبة الهجرة فلا يتركها، فهو نبي مهاجري لا أنصاري. قوله: ((ولو سلك الناس وادياً)) ((خط)): أراد أن أرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا ضاق الطريق عن الجميع فسلك رئيس شعباً اتبعه قومه حتى يفضوا إلى الجادة. وفيه وجه آخر: أراد بالوادي الرأي والمذهب، كما يقال: فلان في واد وأنا في واد. وقيل: أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حسن موافقته إياهم، وترجيحهم في ذلك على غيرهم، لما شاهد فيهم من حسن الوفاء بالعهد، وحسن الجوار، وما أراد بذلك وجوب متابعته أياهم، فإن متابعته حق على كل مؤمن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المتبرع المطاع، لا التابع المطيع. والشعار: الثوب الذي يلي شعر البدن. والدثار: الذي فوقه. شبه الأنصار بالشعار لرسوخ صداقتهم، وخلوص مودتهم. والأثرة: - بفتح الهمزة والثاء- من آثر يؤثر إيثاراً، إذا أعطى، واستأثر صاحبه بالشيء على غيره يعني يستأثر عليكم فيفضل غيركم نفسه عليكم فاصبروا على ذلك حتى تلقوني. الحديث الرابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)) إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك حين أسلم أبو سفيان، وقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا رجل حب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: ((نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)). قوله: ((أما الرجل فقد أخذته رأفة)) فإن قلت: كيف قالوا ذلك مع قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}؟.

أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]: ((قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته؛ كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)) قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله. قال: ((فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)) رواه مسلم. 6220 - وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياناً ونساء مقبلين من عرس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أنتم من أحبا الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي)) يعني: الأنصار. متفق عليه. 6221 - وعنه، قال: مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقالا: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل أحدهما على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعد بعد ذلك اليوم. فحمد الله تعالى وأثنى عليه. ثم قال: ((أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قلت: قالوا ذلك ليهيجوه ويحركوا منه، كما قالوا: ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله، يعني أن أولاد آدم مجبولون على الميل إلى العشيرة والأقارب، وعلى حب الأوطان، ولذلك ردهم صلى الله عليه وسلم: إني عبد الله ورسوله أي لست كأحد من الرجال كما زعمتم، بل إني عبد الله ورسوله، ثم علل كونه عبد الله ورسوله بقوله: ((هاجرت إلى الله وإليكم)) على سبيل الاستئناف، أي العبودية والرسالة تقتضيان أن لا أفارقكم أبداً، ولا أميل إلى ما تقتضيه البشرية من الميل إلى الأقارب والأوطان، لأن القصد في الهجرة كان إلى الله تعالى، وأن التهاجر كان من دار قومي إلى داركم. قوله: ((المحيا محياكم)) ((تو)): يريد ما حييت أحيا في بلدكم كما تحيون فيه، وإذا توفيت توفيت في بلدكم كما تتوفون فيه، لا أفارقكم حياً ولا ميتاً. وقوله: ((إلا ضنا بالله ورسوله)) يريدون ما قلنا قولنا ذلك إلا [ضنة] بما آتانا الله من كرامة خشية أن يفوتنا فيناله غيرنا، وشحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتقل من بلدتنا إلى بلدته. الحديث الخامس والعشرون والسادس والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فإنهم كرشي وعيبتي)) ((تو)): الكرش لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان، والعرب تستعمل الكرش في كلامهم موضع البطن، والبطن مستودع مكتوم السر، [والجبة مستودع مكتون المتاع].

6222 - وعن ابن عباس، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً وينفع فيه آخرين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم)). رواه البخاري. 6223 - وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)). رواه مسلم. 6224 - وعن أبي أسيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)). متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فيحتمل أنه ضرب المثل بهما إرادة اختصاصهم به في أمورهم الظاهرة، والباطنة. حس: عيبتي أي خاصتي وموضع سري، وفي الحديث: نبينا عيبة مكفوفة، أي صدر نقي من الغل، والعرب تكني عن الصدر والقلب بالعيبة، لأنهما مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع الثياب. الحديث السابع والعشرون عن ابن عباس رضي الله عنهما: قولن: ((ويقل الأنصار)) تو: يريد أن أهل الإسلام يكثرون، ويقل الأنصار، لأن الأنصار هم الذين أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، وهذا أمر قد انقضى زمانه لا يلحقهم اللاحق، ولا يدرك شأوهم السابق، فكلما مضى منهم واحد مضى من غير بدل، فيكثر غيرهم ويقلون. أقول: هذا المعنى أيضاً قائم في حق المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، ولعل الحمل على الحقيقة أظهر، لأن المهاجرين وأولادهم كثروا وانبسطوا وانتشروا في البلاد وملكوها بخلاف الأنصار. قوله: ((شيئاً)) يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون في موضع مصدر، أي قليلا من الولاية. وقوله: ((يضر فيه قوماً)) صفة كاشفة له. الحديث الثامن والعشرون والتاسع والعشرون عن أبي أسيد رضي الله عنه: قوله: ((خير دور الأنصار بنو النجار)) مح: خير دور الأنصار خير قبائلهم، وكانت كل قبيلة منهم تسكن محلة، فتسمي تلك المحلة دار بن فلان، ولهذا جاء في كثير من الروايات: بنو فلان، من غير ذكر الدار.

6225 - وعن علي [رضي الله عنه] قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد- وفي رواية: وأبا مرثد بدل المقداد- فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي من كتاب فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حاطب! ما هذا؟!)). فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً، ـــــــــــــــــــــــــــــ وقالوا: وسبقهم على قدر سبقهم إلى الإسلام ومآثرهم فيه، وفي هذا دليل على جواز تفضيل القبائل والأشخاص من غير مجازفة ولا هوى، ولا يكون هذا غيبة. قض: إن أراد بها ظاهرها فقلوه: ((بنو النجار)) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وتكون خيرتها بسبب خيرية أهلها، وما يوجد فيها من الطاعات والعبادات. الحديث الثلاثون عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أبا مرثد بدل المقداد)) لم يرد بذلك أن المبدل منحي، بل المراد أنه ذكر في رواية هذا، وفي أخرى ذلك، لأن الأربعة قد بعثوا لهذا الأمر. مح: وعن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام، وفي الرواية السابقة: والمقداد بدل أبي مرثد، ولا منافاة بل بعث الأربعة: عليا والزبير والمقداد وأبا مرثد. وخاخ: بخائين معجمتين هو الصواب، وهي موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة. والظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، ثم سميت زوجة الرجل ظعينة توسعاً والمراد بها هاهنا أم سارة مولاة لقريش. والعقاص: بكسر العين، الشعر المضفور. قوله: ((ملصقاً)) قال سفيان بن عيينة: كان حليفاً لهم ولم يكن من نفس قريش. قوله: ((إلى ناس من المشركين)) ليس هذا حكاية المكتوب بل هو من كلام الراوي، وضع موضع قوله: إلى فلان وفلان. وقوله: ((إذ فاتني ذلك)) تعليل وقع بين الفعل ومفعوله، وهو قوله: ((أن أتخذ فيهم يداً)). وقوله: ((يحمون بها قرابتي)) هي صفة ((يداً)) وأراد باليد يد إنعام أو قدرة.

ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضي بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه قد صدقكم)) فقال عمر: دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)). وفي رواية: ((فقد غفرت لكم)) فأنزل الله تعالى {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدي وعدوكم أولياء}. متفق عليه. 6226 - وعن رفاعة بن رافع، قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تعدون أهل بدر فيكم)). قال: ((من أفضل المسلمين)) أو كلمة نحوها قال: ((وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((لعل الله اطلع)) معنى الترجي فيه راجع إلى عمر رضي الله عنه، لأن وقوع هذا الأمر محقق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوثر على التحقيق بعثاً له على التفكير والتأمل فلا يقطع الأمر في كل شيء. قوله: ((قد غفرت لكم)) مح: هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فلو وجد على أحد منهم حداً أو غيره أقيم عليه، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسطح حد الفرية وكان بدرياً. وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواز هتك أستار الجواسيس وقراءة كتبهم، وفيه هتك ستر المفسد إذا كان فيه مصلحة أو كان في الستر مفسدة، وما فعله حاطب كان كبيرة قطعاً لأنه تتضمن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله} ولا يجوز قتله لأنه لا يكفر به- انتهى كلامه. قوله تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم} خطاب لحاطب ورداً لقوله: أن أتخذ فيهم يداً، وإنما عم ليدخل فيه أمثاله. الحديث الحادي والثلاثون عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: قوله: ((ما تعدون؟)) أي ممن تعدون؟ ليطابقه الجواب، وهو: ((من أفضل المسلمين وإنما أتى بـ ((ما)) بدل ((من)) تعظيماً لشأنهم، نحو قولهم: سبحان ما سخركن لنا. قوله: ((وكذلك من شهد بدراً)) أي كذلك من شهد بدراً من الملائكة فإنهم من أفضل الملائكة.

6227 - وعن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية)) قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} قال: ((فلم تسمعيه يقول: {ثم ننجي الذين اتقوا})). وفي رواية: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة- أحد- الذين بايعوا تحتها)). رواه مسلم. 3228 - وعن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة. قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتم اليوم خير أهل الأرض)). متفق عليه. 6229 - وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل)). وكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني والثلاثون عن حفصة رضي الله عنها: قوله: ((فلم تسمعيه يقول)) يعني أردت بقولي: أن لا يدخل النار دخولاً يعذب فيها، ولا نجاة له منها. مح: الصحيح أن المراد بالورود المرور على الصراط، وهو منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون. أقول: والأول هو الوجه على ما يظهر بأدنى تأمل. وفيه: جواز المناظرة والاعتراض، والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث والثلاثون عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((ثنية المرار)) نه: المشهور فيها ضم الميم وبعضهم يكسرها، وهو موضع بين مكة والمدينة من طريق الحديبية. وبعضهم يقول بالفتح. وإنما حثهم على صعودها لأنها عقبة شاقة، وصلوا إليها ليلاً حين أرادوا مكة سنة الحديبية فرغبهم في صعودها. قوله: ((ما حط عن بني إسرائيل)) يريد قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} أي حط عنا ذنوبنا ((ثم تتام الناس)) أي جاءوا كلهم، وفي الحديث: ((فتتامت إليه قريش)) أي جاءته متتابعة متواترة.

ثم تتام الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم مغفور له، إلا صاحب الجمل الأحمر)). فأتيناه، فقلنا: تعالى يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. رواه مسلم. وذكر حديث أنس قال لأبي بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك)) في ((باب)) بعد فضائل القرآن. الفصل الثاني 6230 - عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد)). رواه الترمذي [6230]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وتمسكوا بعهد ابن أم عبد)) تو: يريد عهد عبد الله بن مسعود، وهو ما يعهد إليهم فيوصيهم به، وأرى أشبه الأشياء بما يراد من عهده أمر الخلافة، فإنه أول من شهد بصحتها، وأشار إلى استقامتها من أفاضل الصحابة، وأقام الدليل عليها، فقال: لا يؤخر من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نرضى لدنيانا من ارتضاه لديننا، وما يؤيد هذا المعنى المناسبة الواقعة بين أول الحديث وآخره، ففي أوله: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) وفي آخره: ((تمسكوا بعهد ابن أم عبد)) ومما يل على صحة ما ذهبنا إليه قوله في حديث حذيفة أيضاً: ((لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه)) وهذه إشارة إلى ما أسر إليه من أمر الخلافة في الحديث الذي نحن فيه، ويشهد لذلك الاستدراك الذي أوصله بحديث الخلافة، فقال: ((لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه)) وحذيفة هو الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللين من بعدي)) ولم أر في التعريض بالخلافة في سنن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح من هذين الحديثين، ولا أصبح من حديث أبي سعيد: ((سدوا عني كل خوخة)).

6231 - وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت مؤمراً من غير مشورة، لأمرت عليهم ابن أم عبد)). رواه الترمذي، وابن ماجه [6231]. 6232 - وعن خيثمة بن أبي سبرة، قال: أتيت المدينة فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسر لي أبا هريرة، فجلست إليه فقلت: إني سألت الله أن ييسر لي جلساً صالحاً، فوفقت لي. فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة؟ وابن مسعود صاحب طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعليه؟ وحذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؟ وسلمان صاحب الكتابين؟ يعني الإنجيل والقرآن. رواه الترمذي [6232]. 6233 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [6233]. 6234 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان)). رواه الترمذي [6234]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه: قوله: ((لأمرت عليهم ابن أم عبد)) تو: ومن أي وجه روى هذا الحديث فلابد أن يتأول على أنه صلى الله عليه وسلم أراد به تأميره على جيش بعينه، أو استخلافه في أمر من أموره في حال حياته، ولا يجوز أن يحمل على غير ذلك، فإنه وإن كان من العلم والعمل بمكان، وله الفضائل الجمة والسوابق الجلية، فإنه لم يكن من قريش؛ وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن هذا الأمر في قريش، فلا يصح حمله إلا على هذا الوجه الذي ذكرناه. الحديث الثالث إلى الحديث الخامس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة)) سبيل اشتياق الجنة إلى هؤلاء الثلاثة سبيل اهتزاز العرش لموت سعد رضي الله عنه.

6235 - وعن علي [رضي الله عنه] قال استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ائذنوا له، مرحباً بالطيب المطيب)). رواه الترمذي [6235]. 6236 - وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما)). رواه الترمذي [6236]. 6237 - وعن أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته! وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن الملائكة كانت تحمله)). رواه الترمذي [6238]. 6238 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)). رواه الترمذي [6238]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث السادس إلى الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وذلك لحكمه)) يريدون قول سعد بن معاذ رضي الله عنه لما نزلت بنو قريظة على حكمه، معتمدين على حسن رأيه فيهم، حكمه فيهم، بأنه تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، فنسبوه- أعني المنافقين- إلى الجور والعدوان، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإصابة في حكمه. قوله: ((إن الملائكة كانت تحمله)) جواب عن قولهم: ((ما أخف جنازته)) يريدون بذلك حقارته وازدراءه، فأجاب صلى الله عليه وسلم بما يلزم من تلك الخفة تعظيم شأنه وتفخيم أمره، وهو قريب من القول [يالموجب من حكم مقالتهم: ((ما أخف جنازته)) ثم إلى إبطال قصدهم] من العيب فقال: ((إن الملائكة كانت تحمله)) نحوه قوله تعالى: {ويقولون هو أذن، قل أذن خير لكم}. الحديث التاسع والعاشر عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((ما أظلت الخضراء)) الخضراء السماء.

6239 - وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم)) يعني في الزهد. [فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله! أفتعرف ذلك له؟ قال: ((نعم فاعرفوه له)). رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب [[6239]. ـــــــــــــــــــــــــــــ والغبراء: الأرض. وأقلت: حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً. و ((من)) في قوله: ((من ذي لهجة)) معمول أقلت، وقد تنازع فيها العاملان فأعمل الثاني- وهو مذهب البصريين- وهذا دليل ظاهر لهم، كقوله تعالى: {يستغفر لكم رسول الله} إذ لو أعمل الأول لنصب: ((رسول الله)) فعلى هذا: ((أصدق)) في الحديث الأول صفة موصوف محذوف، أي: ولا أقلت الغبراء ذا لهجة صدق. تو: قوله: ((أصدق من أبي ذر)) مبالغة في صدقة، لا أنه أصدق من كل على الإطلاق، لأنه لا يكون أصدق من [أبي بكر] بالإجماع، فيكون عاماً قد خص: أقول: يمكن أن يراد أنه لا يذهب إلى التورية والمعاريض في الكلام، فلا يرخى عنان كلامه، ولا يواري مع الاس، ولا يسامحهم، ويظهر الحق البحث، والصدق المحض، ومن ثمة عقبه بقوله: ((ولا أوفى)) أي يوفى حق الكلام إيفاء لا يغادر شيئاً منه، ووصفه بقوله: ((ذي لهجة)). فا: قيل: لهجة اللسان ما ينطق به من الكلام، وإنها من لهج بالشيء إذا أغرى به، ونظيرها قول بعضهم في اللغة: إنها من لغى بالشيء. روى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ذر أنه استأذن على عثمان رضي الله عنه، فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان: يا كعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالا، فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس عليه، فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني، أذر خلفي منه ست أواق)) أنشدك بالله يا عثمان أسمعته؟ (ثلاث مرات)) قال: نعم.

6240 - وعن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال: التمسوا العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان، وعند ابن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه عاشر عشرة في الجنة)). رواه الترمذي [6240]. 6241 - وعن حذيفة، قالوا: قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: ((إن استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه، وما أقرأكم عبد الله فاقرءوه)). رواه الترمذي. [6241]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وروى ابن عبد البر: أن عثمان رضي الله عنه استقدمه من الشام لشكوى معاوية منه، وأسكنه الربذة فمات بها. وقال علي رضي الله عنه في حقه: ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس ثم أوكئ عليه فلم يخرج منه شيء. قوله: ((يعني الزهد)) تفسير الراوي وليس في الحديث. وفي الاستيعاب من الحديث: ((من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر)). الحديث الحادي عشر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: قوله: ((كان يهودياً فأسلم)) ليس بصفة مميزة لعبد الله لأنه يشاركه في اسمه غيره، بل هو مدح له في التوصية بالتماس العلم منه، لأنه جمع بين الكتابين. ((إنه عاشر عشرة)) أي مثل عاشر عشرة، إذ ليس هو من العشرة المبشرة، نحوه أبو يوسف أبو حنيفة. الحديث الثاني عشر عن حذيفة رضي الله عنه: قوله: ((لو استخلفت)) لو هذه التمني بمعنى ((ليت))، أو الامتناعية وجوابها محذوف، أي لكان خيراً. وقوله: ((عذبتم)) جواب الشرط، ويجوز أن يكون مستأنفاً، والجواب: ((فعصيتموه)) والأول أوجه، لما يلزم من الثاني أن يكون الاستخلاف سبباً للعصيان، والمعنى أن الاستخلاف المستعقب للعصيان سبب للعذاب. وقوله: ((ولكن ما حدثكم حذيفة)) من الأسلوب الحكيم لأنه زيادة على الجواب، كأنه قيل: لا يهمكم استخلافي فدعوه، ولكن يهمكم العمل بالكتاب والسنة فتمسكوا بهما.

6242 - وعنه، قال: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه، إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تضرك الفتنة)). رواه [أبو داود] [6242]. 6243 - وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيت الزبير مصباحاً فقال: ((يا عائشة! ما أرى أسماء إلا قد نفست، ولا تسموه حتى أسميه)) فسماه عبد الله وحنكه بتمرة بيده. رواه الترمذي [6243]. 6244 - وعن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: ((اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به)) رواه الترمذي [6344]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وخص حذيفة بالذكر لأنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنذرهم من الفتن الدنيوية، وعبد الله بن مسعود لأنه كان منذرهم من الأمور الأخروية. الحديث الثالث عشر إلى الحديث الخامس عشر عن عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه: قوله: ((هادياً مهدياً)) اعلم أن الهداية إما مجرد الدلالة، أو هي الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: فهديناهم دللناهم على الخير والشر، كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} والهدى الذي للإرشاد بمعنى الإسعاد، من ذلك قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. وقال غيره: معنى الهداية في اللغة الدلالة، يقال: هداه في الدين يهديه هداية إذا دله على الطريق، والهدى يذكر لحقيقة الإرشاد أيضاً، ولهذا جاز النفي والإثبات، قال الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحبب} وقال الله تعالى: {إنك لهدي إلى صراط مستقيم}. أقول: لو حمل قوله: ((هادياً)) على المعنى الأول، كان قوله: ((مهدياً)) تكميلاً له لأن رب هاد لا يكون مهدياً.

6245 - عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي [6345]. 6246 - وعن جابر، قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا جابر! ما لي أراك منكسراً؟)) قلت: استشهد أبي وترك عيالا وديناً. قال: ((أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟)) قلت: بلى يا رسول الله! قال: ((ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً. قال: يا عبدي! تمن علي أعطك قال: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون)) فنزلت: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ....} الآية. رواه الترمذي [6246]. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقوله: ((واهد به)) تتميماً لأن الذي فاز بمدلوله قد لا يتبعه أحد، فكمل ثم تمم، وإذا ذهب إلى المعنى الثاني كان مهدياً تأكيداً، وقوله: ((اهد به)) تكميلاً، ولا ارتياب أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، فمن كان حاله هذا كيف يرتاب في حقه، ومن أراد زيادة بيان في معنى الهداية فعليه بفتوح الغيب، فإن فيه ما يكفيه. الحديث السادس عشر عن عقبة رضي الله عنه: قوله: ((أسلم الناس)) التعريف فيه للعهد، والمعهود مسلمة الفتح من أهل مكة، وأسلم عمرو قبل الفتح طائعاً راغباً مهاجراً إلى المدينة، فقوله صلى الله عليه وسلم هذا تنبيه على أنهم أسلموا رهبة، وآمن عمرو رغبة، فإن الإسلام يحتمل أن يشوبه كراهة، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة وطواعية. الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((وأحيا أباك)) فإن قلت، كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} لأن التقدير هم أحياء، فكيف يحيى الحي؟. قيل: جعل الله تعالى تلك الروح في جوف طير خضر فأحيا ذلك الطير بتلك الروح، فصح الإحياء، أو أراد بالإحياء زيادة قوة روحه، فشاهد الحق بتلك القوة وكلمة كفاحاً، أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.

6247 - وعنه، قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين مرة. رواه الترمذي. [6247] 6248 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك)) رواه الترمذي، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) [6248]. 6249 - وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن عيبتي التي آوى إليها أهل بيتي، وإن كرشي الأنصار، فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. [6249] 6250 - وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله واليوم الآخر)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح [6250]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: وهذا الجواب أيضاً من الأسلوب الحكيم، أي لا تهتم بشأن أمر دنياه من هم عياله وقضاء دينه فإن الله تعالى يقضي عنه دينه ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبشرك بما هو فيه من القرب عند الله تعالى وما لقيه من الكرامة والمنحة. الحديث الثامن عشر والتاسع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يؤبه له)) نه: أي لا يبالي به ولا يلتفت إليه لحقارته، يقال: ما وبهت به بفتح الباء وكسرها، وبهاء بالسكون والفتح، وأصل الواو الهمزة، يقال: أبهت به. والطمر: الثوب الخلق. الحديث العشرون إلى الحديث الثاني والعشرون عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أقرئ)) بفتح الهمزة، وفي نسخ المصابيح بكسرها. نه: يقال: أقرئ فلاناً السلام، وأقرأ عليه السلام، كأنه حين يبلغه السلام يحمله على أن يقرأ السلام.

6251 - وعن أنس، عن أبي طلحة، قال: قال [لي] رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقرئ قومك السلام، فإنهم ما علمت أعفة صبر)). رواه الترمذي [6251]. 6252 - وعن جابر، أن عبداً لحاطب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً إليه، فقال: يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت، لا يدخلها فإنه قد شهد بدراً والحديبية)). رواه مسلم. 6253 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين ذكر الله، إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: ((هذا وقومه، ولو كان [الدين] عند الثريا، لتناوله رجال من الفرس)). رواه الترمذي [6253]. 6254 - وعنه، قال: ذكرت الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأنا بهم- أو ببعضهم- أوثق مني بكم- أو ببعضكم-)) رواه الترمذي [6254]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((أعفه)) جمع عفيف، مرفوع خبر إن، و ((ما عملت)) معترضة و ((ما)) موصولة، والخبر محذوف، أي الذي علمت منهم أنهم كذلك يتعففون عن السؤال، ويتحملون الصبر عند القتال، وهو مثل ما في الحديث يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع. الحديث الثالث والعشرون إلى الحديث الخامس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لأنا بهم أو ببعضهم)) ((أنا)) مبتدأ، و ((أوثق)) خبره، و ((مني)) صلة أوثق، والباء في ((بهم)) مفعول، و ((أو)) في ((أو ببعضكم)) عطف على ((بهم)) والباء في ((بكم)) مفعول فعل مقدر يدل عليه ((أوثق)) و ((أو)) في ((أو بضعكم)) عطف على بكم، أو متعلق أيضاً بأوثق إذ هو في قوة الوثوق وزيادة، فكأنه فعلان جاز يعمل في مفعولين، أو بآخر دل عليه الأول، والمعنى وثوقي واعتمادي بهم أو ببعضهم أكثر من وثوقي بكم أو ببعضكم- انتهى كلامه-. قيل: فيه تعظيم الأعاجم. أقول: الأول من باب العطف على الانسحاب، والثاني من باب العطف على التقدير، والمخاطبون بقوله: ((بكم أو ببعضكم)) قوم مخصوصون دعوا إلى الإنفاق في سبيل الله فتقاعسوا.

الفصل الثالث 6255 - عن علي [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي سبعة نجباء رقباء، وأعطيت أنا أربعة عشر، قلنا: من هم؟ قال: ((أنا وابناي، وجعفر، وحمزة، وأبو بكر، وعمر، ومصعب بن عمير، وبلال، وسلمان، وعمار، وعبد الله ابن مسعود، وأبو ذر، والمقداد)) رواه الترمذي. 6256 - وعن خالد بن الوليد، قال: كان بيني وبين عمار بن ياسر كلام فأغلظت له في القول: فانطلق عمار يشكوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد وهو يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل يغلظ له ولا يزيده إلا غلظة، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فبكى عمار وقال: يا رسول الله! ألا تراه؟ فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ـــــــــــــــــــــــــــــ عنه، فهو كالتأنيب والتعبير عليهم، يدل عليه قوله تعالى في الحديث السابق: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} فإنه جاء عقيب قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل}. يعني أنتم هؤلاء المشاهدون بعد ممارستكم الأحوال، وعلمكم بأن الإنفاق في سبيل الله خير لكم، تدعون إليه فتثبطون عنه وتتولون، فإن استمر توليكم يستبدل الله قوماً غيركم بذالون لأرواحكم وأموالكم في سبيل الله ولا يكونوا أمثالكم في الشح المبالغ، فهو تحريض على الإنفاق فلا يلزم منه التفضيل. الفصل الثالث الحديث الأول عن علي رضي الله عنه: قوله: ((إن لكل نبي سبعة نجباء)) النجباء جمع نجيب وهو الكريم من الرجال المختار. والرقباء: جمع رقيب وهو الحافظ. وقوله: ((قال: أنا)) ضمير الفاعل عائد إلى علي رضي الله عنه. الحديث الثاني عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: قوله: ((فجاء خالد)) هذا كلام الراوي، و ((قال) محذوف يدل عليه قوله بعده: ((قال خالد: فخرجت)).

وقال: ((من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله)). قال خالد: فخرجت فما كان شيء أحب إلي من رضى عمار، فلقيته بما رضى فرضي. [6256]. 6257 - وعن أبي عبيدة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خالد سيف من سيوف الله عز وجل، ونعم فتى العشيرة)). وراهما أحمد [6257]. 6258 - وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم)). قيل: يا رسول الله سمهم لنا. قال: ((على منهم)) – يقول ذلك ثلاثاً- ((وأبو ذر، والمقداد، وسلمان، أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم)). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب [6258]. 6259 - وعن جابر، قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالا. رواه البخاري. 6260 - وعن قيس بن أبي حازم: أن بلالا قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله. رواه البخاري. 6261 - وعن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود: فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، وقلن كلهم مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الثالث عن أبي عبيدة رضي الله عنه: قوله: ((سيف من سيوف الله عز وجل)) هو من باب قوله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم} جعل بالادعاء جنس السيوف نوعين: متعارف وغيره، وخالد من أحد نوعيه، ونحوه قول الفرزدق: إني أجمد العينين صعصعة الذي متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر و ((نعم فتى العشيرة)) أي فتى بني مخزوم، والمخصوص بالمدح محذوف. الحديث الرابع إلى الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه:

يضيفه؟ ويرحمه الله)) فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحلة فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني قال: فعلليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل، فإذا أهوى بيده ليأكل، فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، ففعلت، فقعدوا وأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد عجب الله- أو ضحك الله-[من] فلان وفلانة)). وفي رواية مثله، ولم يسم أبا طلحة. وفي آخرها فأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. متفق عليه. 6262 - وعنه، قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً، فجعل الناس يمرون، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هذا يا أبا هريرة؟)) فأقول: فلان. فيقول: ((نعم عبد الله هذا)) ويقول: ((من هذا؟)) فأقول: فلان. فيقول: ((بئس عبد الله هذا)) حتى مر خالد بن الوليد فقال: ((من هذا؟)) فقلت: خالد بن الوليد. فال: ((نعم عبد الله خالد بن الوليد! سيف من سيوف الله)). رواه الترمذي [6262]. ـــــــــــــــــــــــــــــ قوله: ((فعلليهم بشيء)) هو من تعلة الصبي، أي ما يعلل به الصبي ليسكت. وقوله: ((فلما أصبح)) هي هاهنا تامة. و ((غدا)) جواب ((لما)) وضمن فيه معنى الإقبال، أي لما دخل في الصباح أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: {ولو كان بهم خصاصة} أي خلة، وأصلها خصاص البيت وهي فروجة. والجملة في موضع الحال، و ((لو)) بمعنى الفرض، أي: ويؤثرون على أنفسهم مفروضة خصاصتهم. الحديث الثامن والحديث التاسع عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: قوله: ((فادع الله)) الفاء تستدعي محذوفاً، أي لكل نبي أتباع ونحن أتباعك لأنا اتبعناك، فادع الله أن يكون أتباعنا منا، أي متصلين بنا مقتفين آثارنا بإحسان كما قال الله تعالى: {والتابعين لهم بإحسان}.

6263 - وعن زيد بن أرقم قال: قالت الأنصار: يا نبي الله! لكل نبي أتباع إنا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منا، فدعا به. رواه البخاري. 6264 - وعن قتادة قال: ما نعمل حيا من أحياء العرب أكثر شهيداً أعز يوم القيامة من الأنصار. قال: وقال أنس: قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر سبعون. رواه البخاري. 6265 - وعن قيس بن أبي حازم، قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. رواه البخاري. تسمية من سمي من أهل بدر في ((الجامع للبخاري)) 1 - النبي محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم. 2 - عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق القرشي. 3 - عمر بن الخطاب العدوي. 4 - عثمان بن عفان القرشي خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته رقية وضرب له بسهمه. 5 - علي بن أبي طالب الهاشمي. 6 - إياس بن بكير. 7 - بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق. 8 - حمزة بن عبد المطلب الهاشمي. 9 - حاطب بن أبي بلتعة حليف لقريش. 10 - أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة القرشي. 11 - حارثة بن الربيع الأنصاري، قتل يوم بدر، وهو حارثة بن سراقة، كان في النظارة. 12 - خبيب بن عدي الأنصاري. 13 - خنيس بن حذافة السهمي. ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث العاشر عن قتادة: قوله: ((أكثر شهيداً)) صفة حياً بعد صفة، ويجوز أن يكون حالا، فإن العلم بمعنى المعرفة. وهي من الأفعال التي لا تقبل التقييد، نحو قولك: عرفت زيداً قائماً، فإن المعرفة الحاصلة حال القيام ليست مقيدة بحال القيام حتى إنها تزول بزواله، بل هي حاصلة بعد ذلك في جميع الأحوال، وإنما ذكرت ليعرف أنه كان كذلك عند المعرفة، والمعرفة مستمرة، وكذلك جميع أفعال العلم، وعلى هذا قوله: ((أعز)) على تقدير: أعز شهيداً يوم القيامة. الحديث الحادي عشر عن قيس بن أبي حازم: قوله: ((لأفضلنهم على من بعدهم)) أي في المرتبة، يعني كانت عطياتهم كاملة بخلاف غيرهم، وأنا أيضاً لأفضلنهم على غيرهم وإن زدت على هذا المقدار. والله أعلم.

(13) باب ذكر اليمن والشام

14 - رفعة بن رافع الأنصاري. 15 - رفاعة بن عبد المنذر أبو لبابة الأنصاري. 16 - الزبير بن العوام القرشي. 17 - زيد بن سهل أبو طلحة الأنصاري. 18 - أبو زيد الأنصاري. 19 - سعد بن مالك الزهري. 20 - سعد بن خولة القرشي. 21 - سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي، 22 - سهل بن حنيف الأنصاري. 23 - ظهير بن ارافع الأنصاري. 27 - عبيدة بن الحارث القرشي. 28 - عبادة بن الصامت الأنصاري. 29 - عمرو بن عوف حليف بني عامر بن لؤي. 30 - عقبة بن عمرو الأنصاري. 31 - عامر بن ربيعة العنزي. 32 - عاصم بن ثابت الأنصاري. 33 - عويمر بن ساعدة الأنصاري. 34 - عتبان بن مالك الأنصاري. 35 - قدامة بن مظعون. 36 - قتادة بن النعمان الأنصاري. 37 - معاذ بن عمرو بن الجموح. 38 - معوذ بن عفراء. 39 - وأخوه. 40 - مالك بن ربيعة أبو أسيد الأنصاري. 41 - مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. 42 - مرارة بن الربيع الأنصاري. 43 - معن بن عدي الأنصاري. 44 - مقداد بن عمرو الكندي حليف بني زهرة. 45 - هلال بن أمية الأنصاري، رضي الله عنهم أجمعين. (13) باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني الفصل الأول 6266 - عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس، لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه إلا موضع الدنيار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)). ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني قال في المغرب: اليمن مأخوذ من اليمين، لخلاف الشام، لأنها بلاد على يمين الكعبة، والنسبة إليها ((يمني)) بتشديد الياء، أو ((يماني)) بالتخفيف على تعويض الألف إحدى يائي النسبة. الفصل الأول الحديث الأول عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فليستغفر لكم)) ((مح)): هذه منقبة ظاهرة لأويس القرني، وفيه طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل منهم، والحديث دل على أنه خير التابعين.

وفي رواية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وإن به بياض، فمروه فليستغفر لكم)). رواه مسلم. 6267 - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أتاكم أهل اليمن، هم أرق ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال الإمام أحمد بن حنبل وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب: أن مرادهم سعيد أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه ونحوها، لا في كونه أكثر ثواباً عند الله تعالى. وفيه معجزة ظاهرة. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أرق أفئدة)) ((مظ)): وصف الأفئدة بالرقة، والقلوب باللين، وذلك أنه يقال: إن الفؤاد غشاء القلب، وإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراء، وإذا غلظ تعذر الوصول إلى داخله، فإذا صادف القلب ليناً علق به ونجع فيه. ((قض)): الرقة ضد الغلظة والصفاقة، واللين مقابل للقساوة، فاستعيرت في أحوال القلب، فإذا نبا عن الحق وأعرض عن قبوله ولم يتأثر عن الآيات والنذر يوصف بالغلظة، فكان شغافه صفيقاً لا ينفذ فيه الحق، وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ، وإذا كان بعكس ذلك يوصف بالرقة واللين، فكان حجابه رقيقاً لا يأبى نفوذ الحق، وجوهره لين يتأثر بالنصح. ويحتمل أن يكون المراد بالرقة جودة الفهم، وباللين قبول الحق، فإن رقة الفؤاد تعد لقبول الأشكال بسهولة، واللين يقتضي عدم الممانعة والانفعال عن المؤثر بيسر، ولعله لذلك أضاف الرقة إلى الفؤاد، واللين إلى القلب، فإنه وإن كان الفؤاد والقلب واحداً، لكن الفؤاد فيه معنى النفاذ وهو التوقد، يقال: فاءدت اللحم أي شويته، والقلب فيه معنى التقلب، يتقلب حاله حالا بسبب ما يعتريه. ثم لما وصفهم بذلك أتبعه ما هو كالنتيجة، فإن صفاء القلب ورقته ولين جوهره يؤدي إلى عرفان الحق والتصديق به، وهو الإيمان والانقياد لما يوجبه ويقتضيه، والتيقظ والإيقان فيما يذره ويأتيه، وهو الحكمة، فتكون قلوبهم معادن الإيمان وينابيع الحكمة، وهي قلوب منشؤها اليمن، نسب إليه الإيمان والحكمة معاً لانتسابهما إليه تنويهاً بذكرهما، وتعظيماً لشأنهما. أقول: يمكن أن يراد بالقلب والفؤاد ما عليه أهل اللغة في كونهما مترادفين فكرر ليناط به معنى غير المعنى السابق، فإن الرقة مقابلة للغلظة، واللين مقابل للشدة والقسوة، فوصفت أولاً بالرقة، ليشير إلى التخلق مع الناس وحسن المعاشرة مع الأهل والأخوان، قال الله

أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)). متفق عليه. 6268 - وعنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم)) متفق عليه. ـــــــــــــــــــــــــــــ تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وثانياً باللين ليؤذن بأن الآيات النازلة والدلائل المنصوبة ناجعة فيها، وصاحبها مقيم على التعظيم لأمر الله. وقوله: ((الإيمان يمان والحكمة يمانية)) يشمل حسن المعاملة مع الله تعالى، والمعاشرة مع الناس، فلشدة شكيمة اليهود وعنادهم قيل فيهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} وللين جانب المؤمنين وصفوا بقوله: {ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. قوله: ((والخيلاء في أصحاب الإبل)) ((قض)): تخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل، والوقار بأهل الغنم، يدل على أن مخالطة الحيوان مما يؤثر في النفس، وتعدي إليها هيئات وأخلاقاً تناسب طباعها، وتلائم أحوالها. الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((رأس الكفر نحو المشرق)) نحوه: ((رأس الأمر الإسلام)) أي ظهور الكفر من قبل المشرق. ((مح)): المراد باختصاص المشرق به مزيد تسلط الشيطان على أهل المشرق، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، فإنه منشأ الفتن العظيمة، ومثار الكفرة الترك. قوله: ((والخيلاء في أهل الخيل)) غب: الخيلاء التكبر عن تخيل فضيلة تراءات للإنسان من نفسه، ومنه يتأول لفظ الخيل، لما قيل: إنه لا يركب أحد فرساً إلا وجد في نفسه نخوة، والخيل في الأصل اسم للأفراس والفرسان جميعاً. قوله: ((والفدادين)) ((نه)): الفدادون بالتشديد الذين يعلون أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، واحدهم فداد، يقال: فد الرجال يفد فدداً إذا اشتد صوته. وقيل: هم المكثرون من الإبل.

6269 - وعن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من هاهنا جاءت الفتن- نحو المشرق- والجفاء، وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر، في ربيعة ومضر)). متفق عليه. 6270 - وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في الحجاز)). رواه مسلم. 6271 - وعن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)). قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ قال: ((اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)) قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: ((هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان)). رواه البخاري. ـــــــــــــــــــــــــــــ وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان. وقيل: إنما هو الفدادون مخففاً، واحد فداد مشددا، وهي البقرة التي يحرث بها، وأهلها أهل جفاء وغلظة. تو: إذا روي بالتخفيف تقديره: وهي أهل الفدادين، وأرى أن أصوب الروايتين بالتشديد، كما في حديث ابن مسعود الذي يتلو هذا الحديث: ((والجفاء والغلظة في الفدادين)) والتخفيف في هذه الرواية غير مستقيم، وتقدير الحذف فيه مستبعد رواية ومعنى، فرددنا المختلف فيه إلى المتفق عليه، هذا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى سكة وشيئاً من آلة الحرث فقال: ((ما دخل هذا دار قوم إلا أدخل عليهم الذل)) وأين إيقاع الفخر والخيلاء من موقع الذل؟ الحديث الرابع عن أبي مسعود رضي الله عنه: قوله: ((نحو المشرق)) حال متعلق بمحذوف، أي قال صلى الله عليه وسلم: ((من هنا جاءت الفتن)) مشيراً نحو المشرق. و ((أهل الوبر)) موضع الفدادين، ويراد بأهل الوبر الأعراب، فيكون قوله: ((في ربيعة ومضر)) بدلا من وله: ((في الفدادين)) بإعادة العامل، وقوله: ((عند)) ظرف لقوله الفدادين على تأويل: الذين بهم جلبة وصياح عند سوقهم لها، لأن سائق الدواب إنما يعلو صوته خلفها. الحديث الخامس والحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((اللهم بارك لنا في شامنا)) ((شف)): إنما دعا لها بالبركة لأن مولده بمكة وهي من اليمن، ومسكنه ومدفنه بالمدينة وهي من الشام، وناهيك من فضل الناحيتين أحدهما مولده والأخرى مدفنه، وأنه أضافهما إلى نفسه وأتى بضمير الجمع تعظيماً، وكرر الدعاء ثلاث مرات.

الفصل الثاني 6272 - عن أنس، عن زيد بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر قبل اليمن، فقال: ((اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا)). رواه الترمذي [6272]. 6273 - وعن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للشام)) قلنا: لأي ذلك يا رسول الله؟ قال: ((لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها)). رواه أحمد، والترمذي [6273]. 6274 - وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستخرج نار من نحو حضر موت، أو من حضر موت، تحشر الناس)) قلنا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: ((عليكم بالشام)). رواه الترمذي [6274]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((أقبل بقلوبهم)) ((تو)): وجه التناسب بين الفصلين أن أهل المدينة ما زالوا في شدة من العيش، وعوز من الزاد، لا تقوم أقواتهم بحاجتهم، فلما دعا الله بأن يقبل عليهم بقلوب أهل اليمن إلى دار الهجرة، وهم الجم الغفير دعا الله بالبركة في طعام أهل المدينة ليتسع على القاطن بها، والقادم عليها، فلا يسأم المقيم من القادم عليه، ولا تشق الإقامة على المهاجر إليها. الحديث الثاني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: قوله: ((طوبى للشام)) هو مصدر من طاب كبشرى وزلفى، ومعنى طوبى لك: أصبت خيراً وطيباً. وقوله: ((لأي ذلك؟ ((كذا في جامع الترمذي على حذف المضاف إليه، أي لأي سبب قلت ذلك؟ وقد أثبت في بعض نسخ المصابيح لفظ ((شيء)). الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((نار من حضر موت)) ((تو)): يحتمل أنها رأي عين وهو الأصل، ويحتمل أنها فتنة عبر عنها بالنار، وعلى التقديرين فالوجه فيه أنها قبل قيام الساعة، لأنهم قالوا: ((فما تأمرنا؟)) يعنون في التوقي عنها، فقال: ((عليكم بالشام)).

6275 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم)). وفي رواية: ((فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا ـــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الرابع عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قوله: ((هجرة بعد هجرة)) قال الشارحون: كان من حق الثانية أن يؤتى بها مع لام العهد، لأن المراد منها الهجرة الواجبة قبل الفتح، وإنما أتى بها منكرة لتساوق الأولى في الصيغة مع إضمار في الكلام، أي بعد هجرة حقت ووجبت، والمعنى: ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة. أقول ويمكن أن يراد التكرير، كما في قولك: لبيك وسعديك، أي ألبيك إلباباً بعد إلباب. و ((الفاء)) في قوله: ((فخيار الناس)) يلوح إليه لأنه تفصيل للمجمل، كأنه قيل: سيحدث للناس مفارقة من الأوطان، وكل إنسان يفارق وطنه إلى آخر ويهجره هجرة بعد هجرة، فخيارهم من يهاجر أو يرغب إلى ((مهاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام)) وهو الشام. وينصر هذا التأويل الحديث الذي يتوله. ((تو)): وذلك حين تكثر الفتن، ويقل القائمون بأمر الله في البلاد، ويستولى الكفرة الطغام على بلاد الإسلام، وتبقى الشام يسوسها العساكر الإسلامية منصورة على من ناوأهم، ظاهرين على الحق حتى يقاتلوا الدجال، فالمهاجر إليها حينئذ فاز بدينه، ملتجئ إليها لصلاح آخرته، يكثر سواد عباد الله الصالحين القائمين بأمر الله تعالى. ولعل الحديث إشارة إلى العصر الذي نحن فيه. قوله: ((تلفظهم أرضوهم)) ((قض)): أي ينتقل من الأراضي التي يستولى عليها الكفرة خيار أهلها، ويبقى خساس تخلفوا عن المهاجرين جبناً عن القتال، حرصاً وتهالكاً على ما كان لهم فيه امن ضياع ومواش ونحوهما من متاع الدنيا، فهم لخسة نفوسهم وضعف ينهم كالشيء المسترذل المستقذر عنه، فكأن الأرض تستنكف عنهم فتقذفهم، والله سبحانه يكرههم، فيبعدهم من مظان رحمته ومحل كرامته، إبعاد من يستقذر الشيء ويبعد عنه طبعه، فلذلك منعهم من الخروج وثبطهم قعوداً مع أعداء الدين، نحوه قوله تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم}. وقوله: ((تقذرهم نفس الله)) من التمثيلات المركبة التي لا يتطلب لمفرداته ممثلا وممثلا به، مثل: شابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق.

باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا)). رواه أبو داود [6275]. 6276 - وعن ابن حوالة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيصير الأمر أن تكونوا جنوداً مجندة، جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق)) فقال ابن حوالة: خرلي يا رسول الله! إن أدركت ذلك. فقال: ((عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم عليكم بيمنكم، واسقوا من غدركم، فإن ـــــــــــــــــــــــــــــ تو: نفس الله ذاته، وهو وإن كان من حيث حصل له مضاف ومضاف إليه يقتضي المغايرة وإثبات شيئين من حيث الغيار على سبيل الاتساع، وتعالى الله الملك عن الأثنوية ومشابهة المحدثات علواً كبيراً. قوله: ((تحشرهم النار مع القردة والخنازير)) مظ: النار هاهنا الفتنة، يعني تحشرهم نار الفتنة التي هي نتيجة أفعالهم القبيحة، وأقوالهم، مع القردة والخنازير لكونهم متخلقين بأخلاقهم، فيظنون أن الفتنة لا تكون إلا في بلدانهم فيختارون جلاء أوطانهم ويتركونها، والفتنة تكون لازمة لهم ولا تنفك عنهم حيث يكونون وينزلون. أقول: قوله: ((تلفظهم أرضوهم إلخ)) جمل مستأنفات مبنية لقوله: ((ويبقى في الأرض شرار أهلها)) كأنه سئل: فما حال الأشرار الباقية؟ فقيل: تلفظهم أرضوهم، أي ترميهم وتقذفهم من أرضيهم إلى أخرى، وليس لهم فيها قرار. ثم قيل: ومعاملة الله معهم؟ فقيل: يقذرهم فيبعدهم عن مظان رحمته ومحل كرامته. ثم قيل: ما مآل آمرهم حينئذ؟ فيقل: تحشرهم النار مع القردة والخنازير. وقوله: ((تبيت معهم)) إما جملة مؤكدة لما قبلها، أو حال منها. الحديث الخامس عن ابن حوالة رضي الله عنه: قوله: ((فإنها خيرة الله)) الخيرة بسكون الياء اسم من خار، فأما بالفتح فهي الاسم من قولك: اختاره الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرة الله من خلقه، يقال بالفتح والسكون. قوله: ((فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم)) تو: هذا كلام معترض أدخله بين قوله: ((عليكم بالشام)) وبين قوله: ((واسقوا من غدركم)) أي ألزموا الشام واسقوا من غدركم. ((فإن الله تكفل لي بالشام وأهلها)) رخص لهم في النزول بأرض اليمن، ثم عاد على ما بدأ منه، وإنما أضاف اليمن إليهم لأنه خاطب به العرب، واليمن من أرض العرب.

الله عز وجل توكل لي بالشام وأهله)) رواه أحمد، وأبو داود [6276]. ـــــــــــــــــــــــــــــ ومعنى قوله: ((واسقوا من غدركم)) أي ليسق كل واحد منكم من غديره الذي يختص به، والأجناد المجندة بالشام- لاسيما أهل الثغور والنازلين في المروج- من شأنهم أن تتخذ كل فرقة لنفسها غديراً تستنقع فيه الماء للشرب والتطهر وسقي الدواب، فوصاهم بالسقي مما يختص بهم وترك المزاحمة فيما سواه والتغلب لئلا يكون سبباً للاختلاف وتهيج الفتنة. أقول: كأن قوله: ((فأما إن أبيتم)) وارد على التأنيب والتعيير، يعني: أن الشام مختار الله من الأرض، فلا يختارها إلا خيرة الله من عباده، فإن أبيتم أيها العرب ما اختاره الله تعالى، واخترتم بلادكم ومسقط رأسكم من البوادي فالزموا يمنكم، واسقوا من غدرها لأنه أوفق لكم من البوادي، ألا ترى كيف جمع الضميرين في القرينتين بعد أن أفرده في قوله: ((عليكم بالشام)) فعلم من هذا أن الشام أولى بالاختيار واليمن عند الاضطرار. والغدر: جمع غدير وهي حفرة يستنقع فيها الماء، والعرب أكثر الناس اتخاذاً لها، ولذلك أضيف إليهم. وهاتان الإضافتان بعد نسبته أرض الشام إلى الله تعالى يرشدانك إلى أن الكلام ليس فيه اعتراض، وكذا ((أما)) التفصيلية، ثم إن قوله: ((فإن الله توكل لي بالشام)) مرتب على الكلامين، كأنه قيل: الشام هو الاختيار، واليمن عند الاضطرار، فإن الله تعالى توكل لي بالشام. ((تو)): في سائر نسخ المصابيح: ((فإن الله قد توكل لي بالشام)) والصواب: ((قد تكفل لي)) وهو سهو إما في أصل الكتاب أو من بعض رواة الحديث، فنقل [على ما وجد]. ((قض)): أراد بالتوكل التكفل، فإن من توكل بشيء فقد تكفل بالقيام به، والمعنى: أنه تعالى ضمن لي حفظها وحفظ أهلها من بأس الكفرة واستيلائهم، بحيث يتخطفهم ويدمرهم بالكلية. أقول: في مسند أحمد وجامع الأصول عن أبي الدرداء كما في المصابيح. وقوله: ((لي)) ليس بصلة توكل، وصلته: إما ((على)) أو ((الباء))، ولا يجوز الأول فتعين الثاني، أي: توكل بالشام لأجلي. ((نه)): يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به.

الفصل الثالث 6277 - عن شريح بن عبيد، قال: ذكر أهل الشام عند علي [رضي الله عنه] وقيل: العنهم يا أمير المؤمنين! قال: لا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب)) [6277]. 6278 - وعن رجل من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستفتح الشام، فإذا خيرتم المنازل فيها، فعليكم بمدينة يقال لها دمشق، فإنها معقل المسلمين من الملاحم وفسطاطها، منها أرض يقال لها: الغوطة)). رواهما أحمد [6278]. 6279 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلافة بالمدينة، والملك بالشام)) [6279]. 6280 - وعن عمر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت عموداً من نور، خرج من تحت رأسي ساطعاً حتى استقر بالشام)). رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) [6280]. ـــــــــــــــــــــــــــــ الفصل الثالث إلى آخره رجل: [] قوله: ((معقل المسلمين)) هو من معقل [الأروية]، أي يتحصن المسلمون ويلتجئون إلى دمشق، كما يلتجئ الوعل إلى رأس الجبل. و ((الملحمة)) الحرب والقتال. و ((الفسطاط)) أراد به البلدة الجامعة للناس، ومنه سميت مصر الفسطاط. و ((الغوطة)) اسم البساتين والمياه التي عند دمشق، وهي غوطة دمشق.

(14) باب ثواب هذه الأمة

6281 - وعن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام)). رواه أبو داود [6281]. 6282 - وعن عبد الرحمن بن سليمان، قال: سيأتي ملك من ملوك العجم، فيظهر على المدائن كلها إلا دمشق. رواه أبو داود [6282]. (14) باب ثواب هذه الأمة الفصل الأول 6283 - عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود ـــــــــــــــــــــــــــــ باب ثواب هذه الأمة الفصل الأول الحديث الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إنما أجلكم في أجل من خلا)) الأجل المدة المضروبة للشيء، قال تعالى: {لتبلغوني أجلا مسمى} ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان: أجل، فيقال: دنا أجله، عبارة عن دنو الموت، وأصله استيفاء الأجل، أي مدة الحياة، ومعناه: ما أجلكم في أجل من مضى من الأم السالفة في الطول والقصر إلا مقدار ما بين صلاة العصر إلى صلاة المغرب من الزمان. قوله: ((إنما مثلكم ومثل اليهود)) وفي أصل المالكي: ((إنما مثلكم واليهود)) قال: عطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وهو ممنوع عند البصرين إلا يونس وقطب والأخفش، والجواز أصح من المنع لضعف احتجاج المانعين، وصحة استعماله نظماً ونثراً، واحتجوا بأن الضمير المجرور شبيه بالتنوين [ومعاقب] فلم يجز العطف عليه كما لا يعطف على التنوين، وبأن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصح حلول كل منهما محل الآخر، وضمير الجر لا يصح حلوله محل ما يعطف عليه إلا بإعادة الجار نحو {فقال لها وللأرض} والحجتان ضعيفتان.

والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيرط؟، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟، فعملت النصارى من نصف النهار ـــــــــــــــــــــــــــــ أما الأولى: فإن شبه الضمير بالتنوين ضعيف فلا يترتب عليه إيجاب ولا منع، ولو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والإبدال منه، لأن التنوين لا يؤكد ولا يبدل منه بخلاف الضمير، فالعطف عليه أسوة بهما. وكذا الثانية: ضعيفة لجواز قوله: رب رجل وأخيه، وقوله: أي فتى هيجاء أنت وجارها، وقولك: زيد وأخوك منطلقان. ومن مؤيدات الجواز قراءة حمزة: {واتقوا الله الذي يتساءلون به والأرحام} بالخفض. وجعل الزمخشري ((أشد)) معطوفاً على الكاف والميم من: {فاذكروا الله كذكركم} ولم يجز عطفه على الذكر. والذي ذهب إليه هو الصحيح يعرف بالتأمل. ((حس)): قال الخطابي: يروى هذا الحديث على وجوه مختلفة في توقيت العمل من النهار، وتقدير الأجرة، ففي هذه الرواية قطع الأجرة لكل فريق قيراطاً قيراطاً، وتوقيت العمل عليهم زماناً زماناً، واستيفاؤه منهم، وإيفاؤهم الأجرة. وفيه قطع الخصومة، وزوال العنت عنهم، وإبراؤهم من الذنب. وهذا الحديث مختصر، وإنما اكتفى الراوي منه بذكر مآل العاقبة فيما أصاب كل واحدة من الفرق، وقد روى محمد بن إسماعيل هذا الحديث بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: ((أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر [ثم عجزوا] فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين)) الحديث. فهذه الرواية تدل على أن مبلغ الأجرة لليهود لعمل النهار كله قيرطان، وأجرة النصارى للنصف الثاني قيرطان، فلما عجزوا عن العمل قل تمامه لم يصيبوا إلا قدر عملهم وهو قيراط، ثم إنهم لما رأوا المسلمين قد استوفوا قدر أجرة الفريقين حاسدوهم فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل أجراً. قوله: ((فعملت اليهود إلى نصف النهار)) حالة من حالات المشبه أدخلها في المشبه به وجعلت من حالاته اختصاراً، إذ الأصل، قال الرجل: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعمل قوم إلى نصف النهار ... الخ.

إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقل عطاءً! قال الله تعالى: فهل ظلمتكم من حقكم شيئاً، قالوا: لا. قال الله تعالى: فإنه فضلي، أعطيه من شئت)). رواه البخاري. 6284 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)) رواه مسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك قال الله تعالى للأمم من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ... إلى آخره ونظيره قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ...} إلى قوله {... ذهب الله بنورهم} فقوله: ((ذهب الله بنورهم)) وصف للمنافقين وضع موضع وصف المستوقد اختصاراً- كذا عن الواحدي. قوله: ((ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار)) قال المالكي: تضمن هذا الحديث ((من)) في ابتداء غاية الزمان مراراً وهو مما خفي على أكثر النحويين، فمنعوه تقليداً لسيبويه في قوله: وأما ((من)) فتكون لابتداء الغاية في الأماكن، وأما ((مذ)) فتكون لابتداء غاية الأيام والأحيان، ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها. يعني أن ((مذ)) لا تدخل على الأمكنة ولا ((من)) على الأزمنة، فالأول مسلم بالإجماع، والثاني ممنوع لمخالفته النقل الصحيح والاستعمال الفصيح، ومن الشواهد قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}. قوله: ((فغضبت اليهود والنصارى)) لعل هذا تخييل وتصوير لا أن ثمة مقاولة ومكالمة حقيقة، اللهم إلا أن يحمل ذلك على حصولها عند أخراج الذر فتكون حقيقة. وقوله: ((فإنه)) الضمير واقع موقع اسم الإشارة، والمشار إليه قوله: ((الأجر مرتين)) إنما لم يكن ظلماً لأنه تعالى شرط معهم شرطاً وقبلوا أن يعملوا به، وكان فضله مع النصارى على اليهود شرطاً في زمان أقل من زمانهم مع أنهما في الأجرة متساويان، وأما المسلمون فمدة عملهم أقل مع ضعف الأجرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لو رآني بأهله وماله)) ((مظ)): الباء في ((بأهله)) باء التعدية، كما في قولهم: بأبي أنت وأمي، يعني يتمنى أحدهم أن يكون مفدياً بأهله وماله لو اتفق رؤيتهم إياي ووصلوهم إلي.

6285 - وعن معاوية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)). متفق عليه. وذكر حديث أنس ((إن من عباد الله)) في: ((كتاب القصاص)). الفصل الثاني 6286 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل أمتي مثل المطر، لا يدري أوله خير أم آخره)) رواه الترمذي [6286]. ـــــــــــــــــــــــــــــ أقول: ((لو)) هنا كما في قوله تعالى: {ربما يود الذين كفورا لو كانوا مسلمين} فلابد لقوله: ((يود)) من مفعول، فلو مع ما بعده نزل منزلته، كأنه قيل: يود أحدهم ويحب أحدهم ما يلازم قوله: لو رآني بأهله أن يفدي أهله وماله ليراني. الحديث الثالث عن معاوية رضي الله عنه: قوله: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة)) تو: الأمة القائمة بأمر الله وإن اختلف فيها فإن المعتد به من الأقاويل: أنها الفئة المرابطة بثغور الشام نضر الله بهم وجه الإسلام، لما في بعض طرق هذا الحديث: ((وهم بالشام)) وفي بعضها: ((حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) وفي بعضها: قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس)). فإن قيل: ما وجه هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث التي وردت في الشام، وقد عاثت الذئاب في القطيع، وعبرت الجنود العاتية على الفرات، واستباحت ما وراءه من البلاد كنبيح وسروج وحلب وما حولها؟ قلت: إنما أراد بقوله: لا يضرهم كل الضرر، وقد أضر الكفار يوم أحد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ولما كانت العاقبة للتقوى لم يعد ذلك ضرراً عليهم، مع أن الفئة الموعود لهم بالنصرة على عدوهم هم الجيوش الغازية بها، ولم يصبهم بحمد الله إلى اليوم غضاضة ولا هوان. الفصل الثاني الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لا يدري أوله خير)) ((تو)) لا يحمل هذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر، فإن القرن الأول هم المفضلون على سائر القرون من غير [مثنوية]، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

ـــــــــــــــــــــــــــــ يلونهم، وفي الرابع اشتباه من قبل الراوي، وإنما المراد منه نفعهم في بث الشريعة والذب عن الحققة. ((قض)): نفى تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية، وأراد نفي التفاوت، كما قال الله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} أي بما ليس فيهن، كأنه قيل: لو كان يعلم لأنه أمر لا يخفى، ولكن لا يعلم لاختصاص كل طبقة منهم بخاصية وفضيلة توجب خيرتها، كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة في النشوء والنماء، لا يمكنك إنكارها والحكم بعدم نفعها، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا من قبلهم بالإحسان. وكما أن الأولين اجتهدوا في التأسيس والتمهيد، فالمتأخرون بذلوا وسعهم في التفحيص والتجريد، وصرفوا عمرهم في التقرير والتأكيد، فكل مغفور وسعيهم مشكور، وأجرهم موفور. أقول: تمثيل الأمة بالمطر إنما يكون بالهدى والعلم، كما أن تمثيله صلى الله عليه وسلم بالغيث والهدى والعلم، فتختص هذه الأمة المشبهة بالمطر بالعلماء الكاملين منهم والمكملين لغيرهم، فيستدعي بهذا التفسير أن يراد بالخير النفع، فلا يلزم من هذا المساواة في الأفضلية، ولو ذهب إلى الخيرية، فالمراد وصف الأمة كلها سابقها ولاحقها، أولها وآخرها بالخيرية وأنها ملتحمة مع بعض، مرصوصة كالبنيان، مفرغة كالحلقة التي لا يدري أين طرفها، على منوال قوله تعالى: {آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق}. الكشاف: أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال: {والذي أنزل إليك} من القرآن كله {هو الحق} الذي لا مزيد عليه لا هذه السورة وحدها. وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها. تريد المكملة. ويلمح إلى هذا المعنى قول الشاعر: إن الخيار من القبائل واحد وبنو حنيفة كلهم أخيار. فالحاصل أن الأمة بأسرها مرتبطاً بعضها مع بعض في الخيرية، بحيث أبهم أمرها، وارتفع التمييز بينها، وإن كان بعضها أفضل من بعض وفي نفس الأمر، وهو قريب من باب سوق المعلوم مساق غيره، وفي معناه أنشد مروان بن أبي حفصة:

الفصل الثالث 6287 - عن جعفر، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبشروا وأبشروا، إنما مثل أمتي كمثل الغيث، لا يدري آخره خير أم أوله، أو كحديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً أن يكون أعرضها عرضاً وأعمقها ـــــــــــــــــــــــــــــ تشابه يوماه علينا فأشكلا فما نحن ندري أي يوميه أفضل؟ أيوم بداءة العمر أم يوم يأسه؟ وما منهما إلا أغر محجل ومعلوم أن يوم بداءة العمر أفضل من يوم يأسه، لكن البدء لما لم يكن يكمل ويستتب إلا باليأس أشكل عليه الأمر فقال ما قال، وكذلك أمر المطر والأمة. الفصل الثالث الحديث الأول عن جعفر الصادق: قوله: ((أو كحديقة)) ((أو)) هذه مثلها في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} في أنها مستعارة للتساوي في غير الشك، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، يريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا. معناه: إن كيفية صورة أمتي مشتبهة بكيفية المطر والحديقة، وأنهما سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك. فإن قلت: أي فرق بين التمثيلين؟ قلت: شبهت الأمة في التمثيل الأول بالمطر في نفع الناس بالهدى والعلم. وبالثاني بالاستنفاع من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وهداه، وإنباته الكلأ والعشب الكثير، وحصول [الإخاذات] ثم انتفاع الناس منهما بالرعي والسقي، وهو المعنى بالفوج الذي أطعم من الحديقة عاماً. والحديقة: كل ما أحاط به البناء من البساتين وغيرها. وقوله: ((أن يكون)) خبر لعل، وأدخل فيه ((أن)) تشبيها لـ ((لعل)) بـ ((عسى))، واسم ((يكون)) يحتمل أن يكون ضميراً عائداً إلى آخرها، وأعرضها خبره. ووصف الأمة بالطول والعرض والعمق باعتبار ملابستها بالحديقة، وأن يكون: ((أعرضها)) صفة موصوف محذوف واسم ((يكون)) والخبر مقدر، أي: تكون الحديقة أعرضها عرضاً له، إن روي مرفوعاً.

عمقاً، وأحسنها حسناً، كيف تهلك أمة أنا أولها والمهدي وسطها، والمسيح آخرها؟ ولكن بين ذلك فيج أعوج، ليسوا مني ولا أنا منهم)) رواه رزين. 6288 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟)) قالوا: الملائكة قال: ((ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟)). قالوا: فالنبيون. قال: ((وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟)) قالوا: فنحن. قال: ((ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟)) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدي يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها)). ـــــــــــــــــــــــــــــ وأعرض وأعمق وأحسن جيء بها مبالغة، أي أبلغها عرضاً وعمقاً وحسناً، نحو قولك: العسل أحلى من الخل، والصيف أحر من الشتاء. وقوله: ((أحسنها حسناً)) كقوله: جد جده، وجن جنونه. وعرضاً: يحتمل أن يكون اسم عين، بدليل قوله: وأعمقها عمقاً. وأن يكون اسم معنى بدليل: وأحسنها حسناً. والفوج والفيج: الجماعة من الناس، فأما الفوج فإنه مخفف من الفيج، تقول: فياج يفوج فهو فيج، كما يقال: هان يهون فهو هين، ثم تخففه فتقول: هين، هكذا قال الأزهري. وأما ((الفوج)) فهو على أصله من الواو بغير تخفيف، وإنما أحتاج إلى التقدير المذكور في الفيج لأجل الياء. وقوله: ((أعوج)) وصف للفيج باعتبار اللفظ. و ((ليسوا)) أيضاً وصف له باعتبار المعنى. الحديث الثاني عن عمرو بن شعيب. .. وقوله: ((أي الخلق أعجب إليكم إيماناً)) يحتمل أن يراد به: أعظم إيماناً على سبيل المجاز، لأن من تعجب من شيء عظمه، فجوابهم مبني على المجاز، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبني على إرادة الحقيقة. قوله: ((فالنبيون)) الفاء فيه وفي قوله: ((فنحن)) كما في قولك: الأمثل فالأمثل، والأفضل فالأفضل، وقوله تعالى: {والصافات صفا فالزاجرات زجرا} في وجه.

6289 - وعن عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي، قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقاتلون أهل الفتن)) رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) [6289]. 6290 - وعن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طوبى لمن رآني [وآمن بي]، وطوبى سبع مرات لمن لم يراني وآمن بي)) رواه أحمد [6290]. 6291 - وعن أبي محيريز، قال: قلت لأبي جمعة رجل من الصحابة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم أحدثكم حديثاً جيداً، تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله! أحد خير منا؟ أسلمنا، ـــــــــــــــــــــــــــــ ولا يلزم من هذا أفضلية الملائكة على الأنبياء لأن القول في كون إيمانهم متعجباً منه بحسب الشهود والغيبة. قيل في تفسير قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته، متلبسين بالغيب كقوله تعالى: {يخشون ربهم بالغيب} ويعضده ما روي أن أصحاب عبد الله بن مسعود ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً، والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: قوله: ((وطوبى سبع مرات)) جملة معطوفة على السابقة، أي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن لم يرني وآمن بي- سبع مرات)) فعلى هذا ((سبع مرات)) ظرف لقال مقدراً، تخلل بين ((طوبى)) وما يتعلق به. ويحتمل أن يكون ((سبع مرات)) مصدراً لطوبى ومقولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به التكثير لا التحديد. الحديث الخامس عن أبي محيريز: قوله: ((وجاهدنا معك)) كقوله تعالى: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله} وحرف الاستفهام محذوف.

وجاهدنا معك. قال: ((نعم، قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)) رواه أحمد، والدارمي [6291]. وروى رزين عن أبي عبيدة من قوله: قال: يا رسول الله! أحد خير منا إلى آخره. 6292 - وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم. ولا يزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)) قال ابن المديني. هم أصحاب الحديث. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح [6292]. 6293 - وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجه والبيهقي [6293]. 6294 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـــــــــــــــــــــــــــــ ويحتمل أن يكون لمجرد الاستفهام، وأسلمنا استئناف وجاهدنا حال، و ((نعم)) على هذا وقعت موقعها. وأن يكون الاستفهام للإنكار، وأسلمنا استئناف لبيان نفي خيرية الغير عنه، وعلى هذا وقعت ((نعم)) موقع ((بلى)) فالخيرية بحسب الغيبة والشهود، كما سبق بيانه آنفاً والله أعلم. الحديث السادس عن معاوية بن قرة رضي الله عنه: قوله: ((هم أصحاب الحديث)) لا منافاة بين هذا الحديث وبين قوله في الحديث السابق: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله)) على ما مر، فإن المراد منها الفئة المرابطة بثغور الشام، لأن اللفظ يحتمل كلا المعنيين. وأما قوله: ((لا يضرهم من خذلهم)) فيحمل الخذلان على ترك المعاونة لهم على المبتدعة، فيكون هنا مجازاً وهنالك حقيقة. الحديث السابع والثامن عن بهز بن حكيم: قوله: ((يقول في قوله تعالى)) أي في تفسير قوله تعالى.

في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: ((أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن [6294]. ـــــــــــــــــــــــــــــ فالمراد بالسبعين التكثير لا التحديد ليناسب إضافة الخير إلى المفرد والنكرة لأنه لاستغراق الأمم الفائتة للحصر باعتبار أفرادها، أي: إذا تقصيت أمة أمة من الأمم كنتم خيرها. وتتمون: علة للخيرية، لأن المراد به الختم، يعني كما أن نبيكم خاتم الأنبياء، أنتم خاتم الأمم، وكما أن نبيكم صلى الله عليه وسلم حاز ما تفرق في الأنبياء السالفة من الكمالات والخصال الفاضلة، كذلك حكمكم مع الأمم السالفة، قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه}. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب

§1/1