شرح المدائح النبوية

صالح المغامسي

[أبيات من بائية شوقي]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من بائيَّة شوقي] هذه القصيدة من روائع شوقي أمير الشعراء، وقد مدح فيها سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه بأسلوب شائق ولفظ رائق، ولا عجب في ذلك فشوقي ممن يسّر له قيادة الشعر، وفتْق معانيه، واستخراج درره، فلله درّه!

المنهج العام في شرح هذه المدائح

المنهج العام في شرح هذه المدائح الحمد لله رب العالمين، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زلنا أيها المباركون والمباركات! نتفيأ ظلال طرق المدائح النبوية؛ تلكم القصائد التي قيلت في سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقبل أن نشرع في القصيدة التي اخترنا أبياتاً منها في لقاء هذا اليوم، يحسن بنا أن نستصحب أموراً: أننا في هذه اللقاءات لا نريد أن نبين المنهج العام والصناعة الأدبية لتلك القصائد، وإنما نريد أن نتخذ من تلكم القصائد مطايا نصل بها إلى الكثير من الخفايا من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما يمكن أن نستقيه وننهله من نعيم سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه، فما هذه القصائد إلا مدخل للنظر في السيرة، وبيان كيف وفق أولئك الشعراء إلى صياغة مناقبه وخصاله وأفضاله صلوات الله وسلامه عليه.

شيء من خبر شوقي

شيء من خبر شوقي والقصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم هي بائية شوقي والتي مبدأها: سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا وقد بويع شوقي بإمرة الشعر عام 1932م، وكان قرنه الأول حافظ إبراهيم أول المبايعين، وقال في قصيدته التي بايع فيها شوقي أميراً للشعراء: أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذي وفود الشرق قد بايعت معي وشوقي له أبيات حاد فيها عن المنهج الحق، كقوله: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ وغيرها من الأبيات التي حاد فيها عن منهج الحق إما خلقياً وإما عقدياً، لكن الرجل غفر الله له ورحمه له ثلاث قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم عز نظيرها، وقل مثيلها، منها ما عرفت بنهج البردة، والقصيدة التي عارض فيها شوقي بردة البوصيري رحمه الله تعالى، ومعلوم أن بردة البوصيري مطلعها: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضمِ ونحن لا نستطيع أن نعرج على ميمية شوقي حتى نعرج أولاً على ميمية البوصيري، لكننا في هذا اللقاء سنقف مع بائية شوقي رحمه الله تعالى. وبقيت له الهمزية والتي مطلعها: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء وسنخصص حلقات متتابعة لهمزية شوقي ولنونيته، لكننا بعد أن نعرض لميمية البوصيري رحمة الله تعالى عليهما.

المعنى العام لهذا المديح

المعنى العام لهذا المديح أما اليوم فإننا ننيخ المطايا ونقف أمام بائية شوقي، قال شوقي في هذه القصيدة: سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا كأن القلب بعدهم غريب إذا عادته ذكرى الأهل ذابا ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا أخا الدنيا أرى دنياك أفعى تبدل كل آونة إهابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا ولم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله بابا إلى أن قال في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا تجلى مولد الهادي وعمت بشائره البوادي والقصابا وأسدت للبرية بنت وهب يداً بيضاء طوقت الرقابا لقد وضعته وهاجاً منيراً كما تلد السماوات الشهابا أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا هذه بعض الأبيات من بائية شوقي رحمه الله رحمة واسعة. إن شوقي في هذه القصيدة حاول أن يبدأ أولاً بالحكم، ثم يبين عالمية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وعلمنا بناء المجد حتى ثم انتقل إلى يوم مولده صلى الله عليه وسلم، ثم حرر ذلكم الإسداء القدري الذي جعله الله على يد آمنة بنت وهب يوم أن وضعت رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم: (أبا الزهراء) معتمداً على ما في ذاكرتنا الإسلامية التاريخية من عظيم محبة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة، ثم بين جملة بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بعد ذلك أنه قدر له -أي: شوقي - أن يمدح كثراً من ملوك وسلاطين عصره، وأنه مدحهم على بينة وعلى علم فنال حظوة عندهم، ونال منزلة عند الناس بمدحه لهم، لكنه يقول: لما مدحتك أي: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدت السحابا بمعنى: أنني أصبحت أتحكم فيها، وهو يقصد أنه بلغ ذروة في المجد عالية جداً، ببركة مدحه لرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو الإلمام الشامل لقصيدة شوقي رحمة الله تعالى عليه.

فقد النبي للأحبة

فقد النبي للأحبة ذكر شوقي في الحكم أن الإنسان كلما فقد الكثير من الأحبة كان ذلك أكثر تجربة في نفسه في أن يحكم على الناس، ولذلك قال: ولا ينبيك عن خلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا فهل أراد شوقي أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جرب بفقد الأحبة؟ سواء قصده شوقي أو لم يقصده فإن السيرة تدل على ذلك، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان له ابنان القاسم وعبد الله، وأربع بنات: رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ثم ولد له بعد هؤلاء الستة إبراهيم فأضحوا سبعة، وكلهم توفوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة كما سيأتي الحديث عنها تفصيلاً. فالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من جرب فقد الأحبة، فهو عليه الصلاة والسلام لم تكتحل عيناه أصلاً برؤية أبيه عبد الله بن عبد المطلب، إذ على الصحيح أن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم توفي والنبي صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه، وأمه آمنة بنت وهب عاش معها صلى الله عليه وسلم ست سنين فأدرك من ذلك عاطفتها، فحق له بعد ذلك أن يقف على قبرها ويقول: (إنني استأذنت ربي بأن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزورها فأذن لي، فبكى صلى الله عليه وسلم، فبكى الصحابة لبكائه، فلم ير باكياً أعظم منه). قال شوقي رحمه الله تعالى: أبا الزهراء قد جاوزت قدري لمدحك بيد أن لي انتسابا يقصد الانتساب للملة. فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا

نسب آل البيت إلى النبي

نسب آل البيت إلى النبي الزهراء مؤنث أزهر وهو لقب غلب على فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وأرضاها، وفاطمة إحدى أربع أخوات كلهن بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الله يقول وقوله الحق: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فأراد الله جل وعلا أن النسب المتصل بنبينا صلى الله عليه وسلم ينقطع إلا من جهة فاطمة، فـ زينب تزوجت أبا العاص بن الربيع وأنجبت منه أمامة، ثم إن أمامة كبرت وماتت دون أن تلد، أي: لم يكن لها عقب، أما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فتزوج رقية ولم ينجب منها، وتزج أم كلثوم وأنجب منها ابناً يقال له عبد الله، ثم إن عبد الله هذا نشأ صغيراً حتى بلغ قرابة ست أو سبع سنين -كما قال أهل السير- ثم إنه مات، وإبراهيم الذي ولد للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة مارية القبطية مات وقد بلغ من العمر ثمانية عشر شهراً، وأما عبد الله والقاسم ابنا النبي صلى الله عليه وسلم هذان ماتا بعد البعثة بقليل، بهذا تصير السلالة الشريفة المتصلة به صلى الله عليه وسلم كلها مردها إلى فاطمة، وفاطمة زوجها النبي صلى الله عليه وسلم من ابن عمها علي بن أبي طالب، فأنجبت منه الحسن والحسين ومحسن، ولما ولدت الحسن دخل صلى الله عليه وسلم يقول: (أين ابني أين ابني؟ فأتوه به، قال: ما أسميتموه؟ قالوا: أسميناه حرباً، قال: بل هو الحسن)، ثم بعد طهر واحد حملت وولد الحسين، وكأن علياً رضي الله عنه لأمر ما في نفسه يحب اسم حرب، فقال صلى الله عليه وسلم كما قال في أخيه الحسين: (أين ابني أين ابني؟ قالوا: هاهو يا رسول الله! قال: ما أسميتموه؟ قالوا: أسميناه حرباً، قال: بل هو الحسين، ثم حملت فقال صلى الله عليه وسلم: أين ابني؟ ثم سماه محسناً وقال معقباً: أسميتهم بأسماء أبناء هارون: بشير وبشار ومبشر)، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على اقتفاء أثر الأنبياء من قبله؛ لأن الله قال له وقوله الحق: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، ففي هذا الأمر عمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يتخذ له إماماً من النبيين، فلما أخذ صلى الله عليه وسلم من كل نبي شيئاً من مناقبه وخصاله اجتمعت المناقب فيه، كما سيأتي تحريره في أمثلة شوقي. فقد اجتمعت كل مناقب الخير والفضل فيه صلوات الله وسلامه عليه. فأما محسن فقد مات صغيراً، فبقينا في الحسن والحسين، فأي نسب اليوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -لا إلى آل البيت؛ لأن كلمة آل البيت أعم، لكن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما هو إما من الحسن أو من الحسين، ولهذا قدر الله في أن الحسين بن علي رضي الله عنه شهيد كربلاء لما مات في كربلاء كان الناجي الوحيد من الرجال ابنه علي المعروف بـ زين العابدين، فكما أن الحسين يقال له: شهيد كربلاء فإنه يقال لابنه علي بن الحسين المعروف بـ زين العابدين يقال له: نجي كربلاء، فأبقى الله علي بن الحسين حياً ولم يتسلط عليه الأعداء ولم يقتلوه؛ حتى يبقي الله جل وعلا على عقب نبيه صلى الله عليه وسلم من ذرية الحسين الممتدة إلى فاطمة إلى ظهره صلوات الله وسلامه عليه. فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم قطعاً هو إما من ذرية الحسن أو من ذرية الحسين، ومن كان من ذرية الحسين فهو قطعاً من ذرية زين العابدين بن علي، وأكرر أن مسألة آل البيت أوسع وأعم، وسيأتي تفصيلها.

حب آل البيت وإجلالهم

حب آل البيت وإجلالهم فهذا زين العابدين هو الذي قال فيه الفرزدق أبياته الشهيرة لما حج هشام بن عبد الملك في خلافة أبيه، فلما حج رأى الناس عند الطواف إذا رأوا علي بن الحسين يفسحون له كي يستلم الحجر، ويطوف بالبيت على سعته وراحته، فقال مستنكراً: من هذا؟ يريد أن يتجاهله، والعظيم من الناس حتى لو تجاهلته لا يضره، وهو يريد أن يزهد أهل الشام يومئذ فيه، فقال الفرزدق الشاعر رغم أن الفرزدق معروف بفسقه، لكن يجتمع فيه كل أحد صفات خير وصفات شر، والمنصف ينظر إلى هذه وهذه، فقال الفرزدق مجيباً لـ هشام بعد أن استنكر واستفهم مستنكراً من هذا، فقال: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان حسن الخلق والشيم ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم عم البرية بالإحسان فانقشعت عنها الغياهب والإملاق والعدم مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله بجده أنبياء الله قد ختموا فهذه الأبيات قالها الفرزدق الشاعر الأموي المعروف في مدح زين العابدين بن علي، هذا يسوقنا إلى أن محبة آل بيت رسول صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، وقد قال الفرزدق في هذه القصيدة: من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتقد والإمام أحمد بن حنبل -إمام أهل السنة في زمانه- لقي ما لقي من العنت من المعتصم الخليفة العباسي، والمعتصم أبوه هارون الرشيد وهو عباسي، وهو ابن عم رسول صلى الله عليه وسلم، فكان الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه من تعظيمه لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما وجده من سياط المعتصم وعنته وجلده وسجنه له كان يقول: جعلتك في حل؛ لأنني أستحيي أن ألقى نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبيني وبين أحد أبناء عمومته خصومة، فهذا مثل ونموذج يحتذى في التعامل مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعود فنقول: إن فاطمة التي قال شوقي هنا فيها: أبا الزهراء قد جاوزت قدري كانت أشبه مشية برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قدوة في الخير كله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقد يتعذر على كل أحد أن يجمع كل ما في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا محال، لكن نأخذ منه صلى الله عليه وسلم بعض الأشياء قدر الإمكان، فيجتمع فيك بعض الخصائص والفضائل لرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهذه فاطمة ابنته من أشد الناس شبهاً بمشية أبيها صلوات الله وسلامه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يحبها حباً جماً، وقد دخلت عليه في يوم وفاته فبشرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأخبرها أنه سيموت في مرضه هذا، فلما أخبرها أنه سيموت في مرضه هذا بكت، فلما أخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة سرت رضي الله تعالى عنها وأرضاها. وفاطمة رضي الله عنها وأرضاها أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أنها أول أهله لحوقاً به، وهذا سيأتي بيانه في قضية الغيب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا نعجل في أمر لنا فيه أناة.

تكريم الله تعالى للمرأة في الإسلام

تكريم الله تعالى للمرأة في الإسلام إن إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ولسائر بناته من أعظم الدلائل على أن الله جل وعلا كرم المرأة، فقد كرمها زوجة، وكرمها أختاً وكرمها ابنة وكرمها جارة، وكرمها عمة، وكرمها خالة، وبكل ذلك وردت السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل ويقول له: (يا نبي الله إن لي غدرات وفجرات، فقال له: ألك والدة؟ قال: لا، قال: ألك خالة؟ قال: نعم، قال: برها)، فجعل صلى الله عليه وسلم بر الخالة كمنزلة بر الأم، وقال في الأم من قبل: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أمك)، فهو في البنات يرعى حقوق بناته صلى الله عليه وسلم، وإذا دخلت عليه ابنته فاطمة قام ومشى إليها صلوات الله وسلامه عليه. كما أكرمها صلى الله عليه وسلم جارة، فقد جاءته امرأة فقدم لها صلى الله عليه وسلم طيب القول ولينه فتعجبت عائشة عنها، قال: (إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهو صلى الله عليه وسلم يذكر أن هذه المرأة كانت جارة له ذات يوم من الدهر في زمن خديجة، ويكرمها. وأكرم صلى الله عليه وسلم هالة أخت خديجة رضي الله عنها وأرضاها، إكراماً لزوجته خديجة. والمقصود: أن الله جل وعلا كرم المرأة عموماً، ومن أعظم الدلائل أن سورة في القرآن عدد آيها ثمان وتسعون آية هي سورة مريم سميت باسم الصديقة مريم عليها السلام، وقد قال الله جل وعلا عنها: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]، وقال الله جل وعلا: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]، ولما أراد الله جل وعلا أن يقدم في القرآن الموحى إلى نبيه دينه الحق لم يبدأ به جل وعلا كمن يريد من الناس ألا يقبلوا دينه، كما يقع من أخطائنا نحن أحياناً في الدعوة، ولكن لما جاء وفد النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يدخلوا مسجده الشريف، وصلوا جهة الشرق؛ لأن النصارى تعظم الشرق، وهو صلى الله عليه وسلم مقر لهم، فلما أراد أن يثبت لهم أن عيسى ليس ابناً لله قال الله جل وعلا في أول الآيات التي أنزلت في هذا الشأن: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران:33]؛ لأن النصارى يعظمون آل عمران، ثم أثنى الله جل وعلا على مريم وبين جل وعلا مكانها ومقامها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43]، ثم بعد أن بين الله جل وعلا فضل مريم وفضل بيت آل عمران جملة قال الله جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60]. فبين لهم الصواب وبين لهم الحق، ودلهم على الجادة بعد أن مهد ووطأ لذلك تمهيداً وتوطئة تناسب أن يقبلوا قوله، فلما اعترضوا أنزل الله جل وعلا آيات المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، عمد صلى الله عليه وسلم هنا إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين وخرج وهم وراءه، فقال لوفد نجران يدعوهم إلى المباهلة، وقال لـ فاطمة وعلي والحسن والحسين: (إذا أنا دعوت فأمنوا)، فلما رأى وفد النصارى تلك الوجوه النيرة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصق الناس به نسباً، قالوا: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال لأزالها، فامتنعوا عن المباهلة، وهذا كله ناله هؤلاء الأربعة بقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإيمانهم من قبل، وشهادتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله.

تابع حب آل البيت وإجلالهم

تابع حب آل البيت وإجلالهم والمقصود أن إجلال آل رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، والمؤمن ومذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- ألا نغلو فيهم ولا ننزلهم منازل أعلى مما أعطاهم الله جل وعلا إياها؛ لأن هذا في الأصل سوء أدب مع الله، ولا نضيع حقهم، ونتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، قال عليه الصلاة والسلام: (الله الله في آل بيتي الله الله في آل بيتي)، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: والله لإسلام العباس أحب إلي من إسلام الخطاب لو كان قد أسلم، وكل ذلك من دلائل محبة عمر وفقهه معرفته بتوقير آل بيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم

فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم قال شوقي: مدحت المالكين أي: أهل السلطان والملك. فزدت قدراً وهذا من الواقع المشهود، فالإنسان إذا كان له حظوة عند الملوك فإن هذا مما يرفع قدره، ثم استدرك وهذا من أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق أن شوقي أوتي باعاً عظيماً وحظوة كبيرة في لين القول، وطيب الكلام. فلما مدحتك اقتدت السحابا وفي رواية كنت أحفظها من قبل: ازددت السحابا والمعنى واحد، أي: أنني بمدحي للناس ارتفعت، لكنني بلغت الذروة ووصلت إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه إنسان من جاه لما مدحتك يا سيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه. فلما مدحتك اقتدت السحابا قال قبلها: فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا وشوقي يأتي أحياناً بالمعنى الواحد ثم يغير في الطرائق في ذكره. فهذا البيت قاله شوقي في ميميته -كما سيأتي- يخبر فيه عن فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه يتعجب من فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له صلوات الله وسلامه عليه: (وأي غرابة في ذلك وأنا من قريش واسترضعت في بني سعد)، فالعرب كانت تعمد كثيراً إلى أن تسترضع أبناءها في البادية، حتى يشب المرء مع طيب الهواء ونقائه يشب فصيحاً بليغاً، والشافعي رحمة الله تعالى عليه مكث عشر سنوات في بني هذيل يطلب اللغة، ولهذا أصبح إماماً في اللغة يحتج بقوله، والوليد بن عبد الملك كان أسيراً عند أبيه عبد الملك بن مروان بخلاف إخوته، وبعث عبد الملك سليمان وغيره إلى البادية، ولم يبعث الوليد، فكان الوليد يلحن، أي: لا يقيم المسائل النحوية جيداً بينه وبين أبيه، فكان عبد الملك بعد ذلك يتحسر على أنه لم يبعث الوليد أيام صباه إلى البادية، ويقول: حبنا للوليد أضر به، أي: أنه لم يرسله إلى البادية ليقيم لسانه. نعود إلى أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، وهي كلمات معدودات تدخل فيها معان لا يمكن حصرها، وهذا من البلاغة، ولهذا ينبغي للخطيب الذي يرقى المنابر أن يحاول أن لا يكرر الكلام ولا أن يعيد نفس الفكرة، وإنما يحاول أن يأتي بجوامع الكلم، وأن يرقى بسامعيه إلى محل أعلى كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، وقد قال أهل الصناعة الأدبية إن هناك كلمات أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسبق إليها، أي: أن العرب لم تكن تعرفها، منها قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (الآن حمي الوطيس)، قالها صلى الله عليه وسلم لما اشتد رحى المعركة في يوم حنين، فهذه العبارة لم تكن تعرفها العرب من قبل، وإنما أول من قالها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا كلمات أو عبارات غير هذه كما بينهما أصحاب كتاب المفصل في الأدب العربي، والذي يعنينا أن الإنسان إذا أراد أن يقوِّم لسانه فعليه بقراءة القرآن، وتأمل أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، فسيجد فيها مرتقى عالياً، ومنازل رفيعة في البلاغة والفصاحة، وهذا شأن أنبياء الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق لغة الضاد، إلا أن أهل السير يقولون: إن شعيباً عليه السلام إذا ذكر يوسم بأنه خطيب الأنبياء، وشعيب أحد أربعة أنبياء من العرب وهم: شعيب وهود وصالح وختموا برسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا ما تمكنا إيراده وتهيأ إعداده حول بائية شوقي في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. وفي اللقاء القادم سنعرج على ميمية البوصيري، ثم نردف بعد ذلك قصائد شوقي التي عارض بها نونية البوصيري. نسأل الله لنا ولكم التوفيق. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من دالية الأعشى]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من داليَّة الأعشى] هذه القصيدة قالها الأعشى، وقد صنعها ليلقيها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه عزم على المجيء إلى المدينة كي يسلم، فتلقته قريش في الطريق تصده عن المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأغرته بالمال فرجع، فبينما هو راجع في الطريق وقع من على راحلته فوقصته فمات كافراً.

شيء من حياة الأعشى وذكر سبب موته على الكفر

شيء من حياة الأعشى وذكر سبب موته على الكفر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فقدَّر، وشرع فيسّر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون! والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء متجدد مع لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وهي قصائد قيلت في مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم، فنعلق عليها بما يتفق مع السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم. والقصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم لها نوع من الغرابة، وهو أن قائلها وهو الأعشى مات كافراً، فقد همّ أن يسلم وقدم إلى المدينة يريدها، فتعرضت له قريش وأغرته بالمال كما سيأتي، وقبل أن نعلق على القصيدة أقرأ بعض أبيات منها، ثم نستعين الله جل وعلا في التعليق عليها بما ينفع الناس. قال الأعشى: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمد وبت كما بات السليم المسهد ألا أي هذا السائلي أين يممت؟ فإن لها في أهل يثرب موعدا فأما إذا ما أدلجت فترى لها رقيبين جدلاً لا يغيب وفراقدا أجدت برجليها النجاء وراجعت يداها خنافاً ليناً غير أحردا فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تريحي وتلقيى من فواضله يدا نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حين أوصى وأشهد إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزود ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصد هذه هي أبيات الأعشى في داليته التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نعلق عليها أستحضر شيئاً مما قيل حوله، والتمديد هنا في الخطاب مهم جداً، والأعشى شاعر جاهلي وهو أحد أصحاب المعلقات، وهو صاحب المعلقة المشهورة: ودِّع هريرة إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل وهذا الشاعر كان له باع كثير وكبير في شعر العرب، وكان يعرف بثمادة العرب، وكان شعره يسير الركبان، ثم لما أظهر الله نبيه ونشر الله دينه بلغ الأعشى خبر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فعزم وقد كبرت سنة على أن يأتي من بوادي نجد حيث كان يسكن إلى يثرب -أي: إلى المدينة- فصنع هذه القصيدة وعزم على إنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتعرضت له قريش، فجاءه أبو سفيان، وقد أخبر أبو سفيان الناس أن هذا رجل شاعر وله مقامه عند العرب، فلو قدر له أن يسلم ويمدح النبي فإن أبا سفيان سيحذر قريش ويقول لن يبقى بيت إلا وسيدخله الإسلام، فقرر أبو سفيان مع من حوله من القرشيين أن يعطوا الأعشى مائة ناقة على أن يرجع من عامه هذا، فتعرضوا للأعشى في الطريق فأخبروه بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ثم لما وجدوا منه عزماً على الذهاب أغروه بالمال، وقالوا له: هل لك إلى أن نعطيك مائة ناقة فترجع من عامك هذا وبيننا وبينه هدنة، ثم ترى في العام القادم أمرك؟ فقبل رأيهم، وهذا كله يمضي بقدر الله، فرضي بالمائة ناقة وعاد أدراجه راجعاً إلى ديار قومه، وفي الطريق سقط من على ناقته فدقت عنقه ومات على الكفر. إن الهداية أيها المبارك بيد الله، كما قال الله لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، والله يقول: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، فالهداية تطلب من الرب تبارك وتعالى، والله وحده أعلم بقلوب الناس، وإلا فـ أبو سفيان الذي كان سبباً في غواية الأعشى ورده إلى ديار قومه ومانعه من يأتي المدينة قد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وعُد صحابياً، فانظر إلى أقدار الله فهي سر الله في الأرض فلا يتعرض لها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينبه أصحابه ويعزم عليهم ألا يخوضوا في القدر، فنقول كما قال الصالحون من قبلنا، وكما علمنا ربنا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

شؤم الطمع في الدنيا

شؤم الطمع في الدنيا ثم ننظر إلى أن الأعشى أغرته الأموال، وطمعه في الدنيا جعله يرجع بما ناله من حض ونصيب دنيوي، ويرجئ مسألة إسلامه؛ ولهذا قال الله لنبيه معلمنا والمؤدب: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وقال جل ذكره: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران:145]، فبيّن الله جل وعلا أن الناس تختلف مشاربهم وطرائقهم، فمن كان يريد الآخرة هذا يثبت على دينه وقيمه ويرزق ثباتاً، ومن كانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه فإنه غالباً ينتكس في طريقه ويرجع عن الجادة التي كان يسير عليها، وعلى هذا حري بالمؤمن أن يتحرر من المطامع الدنيوية، وأن يجعل الجنة بغيته، وينظر فيما وعد الله جل وعلا به عباده الصالحين من نعيم لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، فهذه هي التي يثبت الله بها الإيمان في القلوب. مر أبو حازم أحد أعيان السلف على سوق ممن يبيعون اللحم، فقالوا: يا أبا حازم! هلا اشتريت لحماً؟ قال: لا أملك دراهم ولا دنانير، قالوا: خذ اللحم الآن ونحن نصبر عليك حتى يرزقك الله دنانير ودراهم فنأخذها منك، فقال: إن كانت المسألة مسألة الصبر فأنا أصبر حتى أدخل الجنة. فكلما زاد يقين المرء بموعود الله جل وعلا لعباده الصالحين ازداد ثباتاً على دينه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وأيامه يبيّن لأصحابه مسألة التعلق بنعيم الجنة، فلما أهديت له مناديل من بلاد فارس وتعجّب الصحابة من لينها وأخذوا يلمسونها ويتعجّبون من لينها، قال صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا)، فانتقل بهم صلى الله عليه وسلم من هذا العالم الدنيوي الفاني إلى العالم الأخروي، والله لما ذكر نعيم الجنة قال: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16] أي: أن عباده الصالحين منذ آدم إلى أن تقوم الساعة يسألون الله جل وعلا نعيم الجنة؛ لأن نعيم الجنة خلود بلا موت، ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم. والمقصود أن الطمع الدنيوية عند الأعشى كان سبباً في بقاءه على الكفر وموته عليه، ولهذا حري بأهل العلم خاصة أن يكون تعلقهم بثواب الله قوياً جداً؛ حتى يقتدي الناس بهم، ولله الحمد والمنّة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة خير، وأنا أدركت ولله الحمد بعض مشائخي ممن ما زالوا أحياء إلى اليوم من ترفع عن المطامع الدنيوية وتعلق بالله ما لا يمكن أن يصدقه أحد في زماننا، حتى إن أحدهم يتردد كثير على المسجد النبوي الشريف حتى أصبح الناس يعرفون أوقات دخوله وخروجه، وله مكان خارج الحرم يضع فيه نعليه، وذات يوم أراد أحد الطلاب أن يُكرم الشيخ، فلما خرج الشيخ من الحرم قدم هذا الطالب البار وأخذ النعلين ووضعهما بين قدمي الشيخ ليلبسهما، فتغير وجه الشيخ؛ لأنه لا يريد أن يُخدم لأنه عالم، ثم نظر في الشاب وتأمل واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم إنه بعد أيام خرج الشاب من الحرم فإذا بالشيخ يعطيه نعليه، أي: أن الشيخ عرف أين يضع الشاب نعليه، ووضعهما بين قدميه، كأنه يقول له: لا أريد منك جزاء، فما قدمته لي من خدمة قد رددتها إليك؛ لأن هذا الشيخ الجليل كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحداً إنما يريد ما عند الله من الثواب، وهذه منازل عالية ينبغي على العلماء المنافسة فيها.

لا يعلم الغيب إلا الله تعالى

لا يعلم الغيب إلا الله تعالى وأما البيت الذي سنعلق عليه من القصيدة فهو بيت القصيد فيها، وهو قوله عن نبينا صلى الله عليه وسلم: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا والبيت يحتمل معنيين: المعنى الأول: أن النظرة المحمدية للعالم غير نظرة الناس في جاهليتهم، أي: أنه جاء بدين جديد، وهذا ظاهر بين، والمعنى الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه من الغيب، وهذا الذي سنتحدث عنه، فنقول: الأصل أن الغيب لا يعلمه إلا الله، قال الله جل وعلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]. ومفاتح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فينبغي أن تعلم أن أنبياء الله على رفيع منازلهم وجليل قدرهم لا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، وسأذكر أمثلة من القرآن تبين لك الفرق العظيم الشاسع الذي لا يمكن أن يكون فيه وجه مقارنة من أي وجه بين علم الله وعلم أنبياءه ورسله، ويكفينا أن نعلم أن الخضر عندما ركب مع موسى على السفينة جاء طائر فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى معلماً: ما بلغ علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر، لكننا سنذكر أمثلة في القرآن أشد وضوحاً من هذا، قال الله جل وعلا عن ضيف إبراهيم: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر:51]، وضيف إبراهيم هم الملائكة إسرافيل وميكال وجبريل عليهم السلام جميعاً، وقد قدموا على إبراهيم في صورة رجال، وخليل الله هو أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في زمانه أحد أقرب إلى الله منه ومع ذلك لم يعلم أن هؤلاء ملائكة؛ لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولو كان يعلم أنهم ملائكة ما تكلف لهم وذبح عجلاً، لكنه عمد إلى عجل من خيار عجله وذبحه وقدمه لهم وهو يقول: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]؛ لأنه لم يكن يعلم أنهم ملائكة حتى كشفوا اللثام عن أنفسهم عليهم السلام كما هو مبين في القرآن، فهنا يظهر بجلاء أن إبراهيم على علمه لم يكن يعلم أن هؤلاء ملائكة. وسليمان بعده صلوات الله وسلامه عليه أُعطي الريح: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]، ومع كونه في مكان عالٍ ومرتفع، ويطلع إلا أنه غابت عنه مملكة بأكملها، مما دفع الهدد إلى أن يقول بين يديه: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]. ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله كان يسكن المدينة، وفي المدينة منافقون آنذاك يتآمرون عليه ويدخلون معه مسجده ويخرجون معه دون أن يعلم عنهم شيئاً، يقول الله جل وعلا: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، فإذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أن يغيب عنه علم بعض من يسكن معه في مدينته فما بالك بمن دونه وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه.

أقسام الغيب التي علمها الله تعالى لنبيه

أقسام الغيب التي علمها الله تعالى لنبيه إذا تحرر هذا سننتقل إلى أقسام الغيب التي علمها الله نبيه، وأقسام الغيب التي علمها الله نبيه ثلاثة: فقد أخبره الله جل وعلا بما قد كان، وهذا ظاهر في القرآن، كإخباره صلى الله عليه وسلم في القرآن عن نبأ يوسف وإخوته، وعن أصحاب الكهف، وعن الأمم السابقة: قوم نوح وهود، قال الله جل وعلا: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، ويكثر في حديثه صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم، وهذا غيب قد مضى وانتهى. وغيب آخر أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع كما أخبر في حياته، مثل إخباره ودعائه صلى الله عليه وسلم على من لمزه وهمزه من قريش وهو في مكة، فيقول عبد الله بن مسعود وهو شاهد على الواقع أن الذين سمى النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتهم صرعى في قليب بدر، وهذا شيء أخبر به صلى الله عليه وسلم فقال قبل معركة بدر: (كأني أنظر إلى مصارع القوم)، وأخذ يسمي ويحدد الأماكن، فما جاز أحدهم الموقع الذي أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وقال لأم علي يوم أن حارب علي عمرو بن عبد ود في الخندق: (إن ابنك سيقتله)، فقتل علي عمرو بن عبد ود، فهذا من الغيب الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم ووقع في حياته، وهو كثير. الأمر الثالث: غيب أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع بعد وفاته أو لم يقع بعد، أي: أنه ينقسم إلى قسمين: قسم أخبر عنه ووقع بعد وفاته، وقسم أخبر أنه سيقع بعد وفاته ولم يقع إلى يومنا هذا، فمما أخبر عنه أنه سيقع بعد وفاته لما ارتقى جبل أحد قال: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وعنى بالشهيدين: عمر وعثمان، فكلاهما مات شهيداً، فهذا غيب أخبر به صلى الله عليه وسلم ووقع كما قال، ولما أتى صلى الله عليه وسلم بئر أريش استأذن عثمان -وكان قد استأذن أبو بكر وعمر قبله- فقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي موسى الأشعري: (ائذن لـ عثمان وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)، فأصابت عثمان البلوى ثم مات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه. وهذا غيب آخر أخبر به صلى الله عليه وسلم ووقع، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن القسطنطينية ستفتح وقال: (نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشها) يعني: الجيش الذي سيفتحها والأمير والذي سيكون على يديه الفتح، ووقع هذا الفتح متأخراً على يد محمد الفاتح أحد سلاطين آل عثمان رحمه الله، فهذا بعض من الغيب الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به. الجزء الثاني من القسم الثالث: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمور لم تقع إلى يومنا هذا، فنحن نعلم يقيناً أنها ستقع فقد أخبر بوقوعها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: خروج الدجال، فـ الدجال فتنة من أعظم الفتن، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذّر أمته منه وقال: (إن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيجكم دونه، وإن يخرج بعدي فكل امرئ حجيج نفسه) الدجال لم يخرج إلى الآن، وهو من الغيب الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن خروجه، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فواتح وخواتيم سورة الكهف، وأخبر أنها مما يقي من فتنة الدجال. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً: (هل سمعتم بمدينة نصفها في البحر ونصفها في البر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أما وإنه سيفتحها سبعون ألفاً من بني إسحاق، لا يفتحونها بسيوف ولا رماح ولا حراب، ولكنهم يقولون لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولونها مرة ثانية فيسقط الجانب الآخر)، فهذا الحدث لم يقع إلى الآن، وبنو إسحاق هم الروم، وهم سكان أوروبا حالياً، وهذا معناه أن كثيراً من الأوروبيين سيدخلون في الإسلام، فهذا وعد نبوي صادق وواقع لا محالة، ولهذا ينبغي على أبناء جلدتنا وبني قومنا أن يكون خطابهم الدعوي خطاباً متريثاً ولا يكون مجرد دعوة بالهلاك والثبور على الأقوام، وإنما ينظر إلى الأحاديث النبوية مجملة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذه المدينة ستفتح على يد بني إسحاق، وإسحاق هو ابن إبراهيم، وقد ترك يعقوب، ومن ذرية يعقوب كان بنو إسرائيل اليهود، وترك إسحاق غير يعقوب ترك ابناً يقال له العيص، من ذرية العيص أكثر سكان أوروبا حالياً، وهذه المدينة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في وصفها أن نصفها في البر ونصفها في البحر كان أكثر الناس يظنون أنها القسطنطينية، لكن ذهب الشيخ عمر سليمان الأشقر وفقه الله وحفظه إلى أنه يغلب على الظن أنها مدينة البندقية، والشيخ عمر زار مدينة البندقية وتحقق من أنها يتطابق أكثر وصفها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أميل إلى ما ذهب إليه الشيخ عمر وأراه أقرب إلى الصواب أن المقصود مدينة البندقية، وهي مدينة عامرة في روما اليوم والذي يعنينا أن هذا من الغيب الذي أخبر عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم ولم يقع بعد، وجميع أشراط الساعة والجنة والنار ودخولهما يندرج تحت الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقع بعد، وكذلك عيسى ابن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، فيأجوج ومأجوج أخبر الله أنهم قوم يفسدون في الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم في ردم، وأنهم يحفرون كل يوم، وأنهم يرد عليهم الردم كما كان حتى يقول القيم عليهم: سنعود غداً إن شاء الله، فيعودون فيجدونه كما تركوه بالأمس فيخرجون، قال الله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:96 - 97]، والذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول ويخبر به صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. فهذه أقسام الغيب الذي تندرج فيما أراده الأعشى بقوله: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

عدم الاغترار بالسحرة والمشعوذين

عدم الاغترار بالسحرة والمشعوذين إذا تحرر هذا كله ينبغي للمؤمن أن يكون حصيفاً عاقلاً، وأن يعلم أن من نراه من كثير ممن يدعي السحر والشعوذة والكهانة أنهم لا يملكون من الأمر شيئاً، وأنهم ولو قالوا: إنهم لهم اختلاط وصلة بالجن فلا يمكن أن يعلم الغيب أحد إلا الله، قال الله جل وعلا عن سليمان وموته: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]، فهذا نص قاطع على أن الغيب لا يعلمه أحد إلا الرب تبارك وتعالى، وإنما يعلم المرء بمقدار ما علمه الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، فعلى العاقل أن يزن الأمور بميزان صحيح وأن يتريث في قوله، وأن يعلم أن الله جل وعلا وحده من وسع كل شيء رحمة وعلماً، فربنا تبارك وتعالى يعلم ما قد كان، ويعلم ما يكون، ويعلم جل وعلا ما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا كله من قرائن عظمته ودلائل ملكه جل وعلا، أما نحن معشر البشر فلا نعلم إلا ما علمنا الله، قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، وقال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255]. علمني الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا. كان هذا تعليقاً وتحريراً على قول الأعشى: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من دالية حسان بن ثابت، وفاته صلى الله عليه وسلم] [1]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من دالية حسان بن ثابت، وفاته صلى الله عليه وسلم] [1] لقد كان موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كارثة على الأمة وأي كارثة! فقد أظلمت المدينة، واسودت الحياة في وجوه الصحابة، ونزل عليهم الكآبة والحزن، فصبر الصحابة على ذلك، وكان الصديق هو رأسهم في ذلك، فصبر وصبرهم، فكل نفس ذائقة الموت، فكل مصيبة تهون بجانب مصابنا برسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

مرثية حسان في النبي وما امتازت به

مرثية حسان في النبي وما امتازت به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا ولقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية التي نعرج فيها على ما قيل من أبيات فيمن ختم الله به النبوة، وأتم الله به الرسالات نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولقاء اليوم يأخذ طابعاً خاصاً وهو أننا في أول لقاءاتنا بدأنا بقصيدة حسان: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء وأما اليوم فسنختم هذين اللقاءين بقصيدة لـ حسان، لكن المناسبة تختلف فالدالية التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم تتحدث عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان من النقاد يقولون دوماً في الصناعة الأدبية: إن شعر الرثاء هو أصدق أغراض الشعر؛ لأن الغالب فيه أن القائل لا يرجو ثناء ولا مدحاً من الناس ولا عطايا، فكيف إذا كان الرثاء صادر من قلب صحابي جليل صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعرفه، وكان له مع النبي صلى الله عليه وسلم أيام وليال في خير المدائن مدينته صلوات الله وسلامه عليه، ثم رأى بعينيه وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم وشارك في الصلاة عليه، ثم تصدر الناس في رثائه عليه الصلاة والسلام، ذلكم هو حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنقف ونختار أبياتاً من دالية حسان في رثاء سيد الخلق ورسول الحق صلى الله عليه وسلم، ثم كما جرت العادة سنعرج ونعلق على الأبيات في لقاءين متتابعين بإذن الله نذكر منهما من معين السيرة، وننهل من تلك الأيام التي ختم الله بها أيام وليال عمر أطهر الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه. قال حسان رضي الله عنه وأرضاه: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد ولا تمتحي الآيات من دار حُرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد وواضح آيات وباقي معالم وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت عيون ومثلاها من الجفن تسعد تذكر آلاء الرسول وما أرى لها محصياً نفسي فنفسي تبلد مفجعة قد شفها فقد أحمد فظلت لآلاء الرسول تعدد وما بلغت من كل أمر عشيرة ولكن نفسي بعد ما فيه تحمد أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها على طلل القبر الذي فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ديار ثوى فيها الرشيد المسدد وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد وأمست بلاد الحرم وحشاً بقاعها لغيبة ما كانت من الوحي تعهد فبكّي رسول الله يا عين عبرة ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد وليس هوائي نازعاً عن هؤائه لعلي به في جنة الخلد أخلد مع المصطفى أرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد

استئثار الله تعالى بالبقاء والكمال

استئثار الله تعالى بالبقاء والكمال هذه بعض الأبيات قالها حسان رضي الله تعالى عنه في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث عن مصاب عظيم وخطب جلل، لكننا سنحاول قدر الإمكان أن نقدم لك أيها المبارك وأيها الأخت المباركة ما يمكن أن ننهله من زاخر المعاني في هذا المقطع من السيرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وبالله التوفيق: أولاها: أن الله جل وعلا استأثر بالكمال لنفسه وكتب النقص على عباده، فقال وهو أصدق القائلين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، وقال جل ذكره وتباركت أسماؤه: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال جل ذكره: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، فنبينا صلى الله عليه وسلم هو أشرف الخلق وأجلهم لكنه مع ذلك كتب الله عليه الموت كما كتب الله الموت على كل أحد، فالله جل وعلا هو الحي حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، كما أن علمه جل وعلا علم لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، وقال جل وعلا هو الحي لا إله إلا هو: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]، وقال تباركت أسماؤه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، فالله جل وعلا هو الحي، والحي حين لا حي، فالموت أذل الله جل وعلا به خلقه، وكتبه تبارك وتعالى على عباده، قال الله جل وعلا مستفتحاً سورة الملك: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]، قال بعض أجلاء المفسرين: قدم الله جل وعلا ذكر الموت على ذكر الحياة حتى يذل عباده ويخبر جل وعلا أنه المالك القهار الواحد الذي لا رب غيره ولا إله سواه، فهذا مما يشترك فيه الخلق أجمعون ومنهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

تخيير النبي عند الموت

تخيير النبي عند الموت الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم خير ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة، ولما كانت أنفس الأنبياء لا تتعلق بشيء كتعلقها بالله كان صلى الله عليه وسلم عظيم الشوق إلى لقاء ربه جل وعلا، جاء في الآثار أنه زار المقبرة كالمودع فاستغفر لأهل البقيع، وكان معه غلامه أبو مويهبة فقال يا أبو مويهبة: (إن الله خيرني بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وبين وقبل أن يكمل قاطعه أبو مويهبة قائلاً: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! إنني اخترت لقاء الله ثم الجنة).

إرهاصات قبل وفاته صلى الله عليه وسلم

إرهاصات قبل وفاته صلى الله عليه وسلم وهذه كان من إرهاصات مرضه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. وفي العام التاسع أُذّن في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم بحجة نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة حاجاً بالناس محرماً من ذي الحليفة، فلما وقف صلى الله عليه وسلم في عرفة في ذلك الثرى الطاهر أنزل الله جل وعلا عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، والأنبياء والرسل إنما كلفوا بمهام جليلة ورسائل عظيمة، فإذا تمت كان ذلك إيذاناً بأن أعمارهم لم يبق منها إلا القليل، فلما أنزلت عليه هذه الآية عرف صلى الله عليه وسلم بدنو أجله وقرب رحيله، فأخذ يودع الناس فكان كلما خطب وقال شيئاً وعظ الناس فيه وذكرهم قطع خطبته قائلاً: (اللهم هل بلغت اللهم فاشهد، ويقول: لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). فعرفت تلك الحجة بحجة الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، ثم عاد راجعاً صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان ذلك في أخريات شهر ذي الحجة، ثم كان شهر محرم وشهر صفر، وفي أوائل شهر ربيع دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها قد عصبت رأسها بعصابة وهي تقول: وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا وارأساه)، فبدأ يشتد عليه المرض ويعرف صلى الله عليه وسلم بدنو رحيله وقرب أجله، فأخذ يتقلل من الدنيا ولم تكن الدنيا يوماً في قلبه، فأعتق غلمانه، وتصدق بدنانير تسعة كانت عنده صلوات الله وسلامه عليه، وقد بدأ منه الوفاء لأصحابه صلى الله عليه وسلم، وقد كان وفياً معهم حياته كلها لكنه لما شعر بدنو الرحيل أراد أن يبلغ الذروة في الوفاء، فبدأ بالموتى فخرج صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم، وكأنه صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم ودعائه لهم واستغفاره لهم صلوات الله وسلامه عليه يرد لهم شيئاً من الجميل والصنيع الذي قدموه يوم أن قدموا فداء لله ورسوله وماتوا شهداء؛ يرجون الجنة ويبتغوا ما عند الفضل الواسع، فودعهم صلى الله عليه وسلم واستغفر لهم، وقفل راجعاً، وسن لأمته بعد ذلك أن تأتي إلى شهداء أحد كما فعل صلوات وسلامه عليه ويدعو الإنسان لهم.

وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل موته

وفاؤه صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل موته والنبي صلى الله عليه وسلم في غدوه ورواحه وخروجه وولوجه بركة على الناس، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لأهل القبور ويقول: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها على أهلها بصلاتي عليهم) صلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله القائل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وكما صنع صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد صنع بأهل بقيع الغرقد، فقد أتاهم وقال: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)، وهؤلاء هم أصحابه الذين ماتوا ودفنوا في البقيع، وغالب من دفن في البقيع لم يكن ممن مات في المعارك؛ لأن أهل المعارك القتلى منهم والشهداء منهم يدفنون في مواطنهم، فقد دفن أهل بدر في بدر والقتلى في أحد في أحد، وأما المقبورون من الصحابة في البقيع فغالبهم ممن مات بصورة عادية ولم يكن قتيلاً أو شهيداً في معركة. والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم دعا لهؤلاء ودعا لهؤلاء، فهو حتى قبل أن يرحل من الدنيا أراد أن يكون وفياً مع أصحابه صلوات الله وسلامه عليه. ثم أيها المباركون نتفيأ وإياكم ظلال قصيدة حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تجلى خصلة الوفاء فيه أكثر ما تجلت يوم قرب رحيله، خاصة عندما رأينا أنه صلى الله عليه وسلم أتى شهداء أحد، وأتى أهل بقيع الغرقد فاستغفر لهم كالمودع صلوات الله وسلامه عليه، ونجد أنفسنا لزاماً -حتى يستقيم العرض- أن نذكر تلك الأيام والليالي الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم سرداً، ثم إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم نعرج على قصيدة حسان ونربط كيف ننهل من نعيم السيرة العطرة والأيام النضرة، وما يمكن أن نستقيه من تلك الليالي والأيام التي كانت آخر ما عاشه صلى الله عليه وسلم من حياته المباركة.

موت النبي صلى الله عليه وسلم

موت النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: لما اشتد به المرض صلوات الله وسلامه عليه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فكأن عائشة رضي الله عنها كرهت أن يتشاءم الناس بأبيها، فاعتذرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: إن أبا بكر رجل أسيف، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف، أو تظهرن ما لا تخفين)، ثم بعد ذلك صلى أبو بكر بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم في حجرته حتى دنت ساعة الرحيل، وكان ذلك ضحى يوم الإثنين يوم الإثنين من شهر ربيع الأول في صلاة الفجر، وهي آخر صلاة صلاها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، فكان أبو بكر يصلي بالناس فإذا بهم يفاجئون أن الستارة التي ما بين الحجرة التي فيها نبينا صلى الله عليه وسلم وبين المسجد تكشف، ونبينا صلى الله عليه وسلم يطل على أصحابه يتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، ففرح الصحابة واستبشروا، فقرت عينه صلى الله عليه وسلم أن رآهم مجتمعين على الصلاة، ثم عاد إلى فراشه وبدأ المرض يتفاقم، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فطلب أسامة من رسول الله أن يدعو له، فرفع يديه يدعو، وخرج أسامة، فدخلت فاطمة ابنته فقربها منه وأخبرها أن جبريل كان يراجعه القرآن كل عام مرة، وأنه راجعه القرآن في هذا العام مرتين، وقال: (ولا أراه إلا قرب أجلي)، ثم أخبرها أنه سيموت في مرضه هذا، وأنها أول أهله لحوقاً به، فبكت، ثم أخبرها وسارها أنها سيدة أهل الجنة فرضيت وضحكت وخرجت من عنده، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة وفي يد عبد الرحمن سواك، فأخذ صلى الله عليه وسلم يحدق النظر إلى السواك، ففهمت عائشة مراده، فأخذت السواك من أخيها بعد أن أشارت إليه هل تريده فأشار برأسه أن نعم، وقضمت السواك وطيبته فاستاك به صلى الله عليه وسلم، ثم ضمته عائشة إلى سحرها ونحرها، وثقل صلى الله عليه وسلم عليها فسمعته وهو يردد: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال: بل الرفيق الأعلى قالها ثلاثاً)، ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.

تغسيله صلى الله عليه وسلم

تغسيله صلى الله عليه وسلم وتولى غسله أهل بيته، فباشر علي رضي الله عنه الغسل بنفسه، وكان قثم والفضل وأبوهما العباس يقلبون الجسد الشريف الطاهر، وأسامة وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكبان الماء، ولم تكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عورة، ثم كفن صلوات الله وسلامه عليه، ثم صلي عليه في نفس حجرة عائشة صلي عليه أرسالاً، أي: صلى الناس فراداً ليس لهم إمام، فصلى عليه أولاً عمه العباس، ثم صلى عليه بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس، ثم حفر له صلى الله عليه وسلم لحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، فنزل قبره علي وأسامة وقثم والفضل وشقران رضي الله عنهم جميعاً، وأودع جسد صلى الله عليه وسلم اللحد وضم على اللحد تسع لبنات، ثم بعد أن بنيت التسع اللبنات خرج من في القبر ثم حثي التراب على القبر، هذه وفاته صلى الله عليه وسلم وغسله ودفنه، قال حسان: وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد

عظم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة

عظم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة هذا على وجه الإجمال أيها المبارك خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم فارتجت المدينة، ويوم دخلها أنار منها كل شيء، ويوم مات أظلم منها كل شيء، وبعد ذلك ارتجت المدينة، ثم عقد الناس الخلافة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، تقول فاطمة وهي تسائل أنساً رضي الله عنه كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهي بهذا لا تعترض على قدر الله لكنها تخبر عن عظيم الفاجعة وهول المصيبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تعزوا بمصيبتي عن كل مصيبة)، فأهل الإسلام لم يصابوا بمصيبة أعظم من فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرناه بصورة خاصة يذكر فيه فضل فاطمة رضي الله عنها؛ لأن بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأبناءه الذين ماتوا قبله صلوات الله وسلامه عليه كلهم في ميزانه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم ماتوا قبله، وأما فاطمة رضي الله تعالى عنها فرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أبوها- في ميزانها رضي الله عنها وأرضاها، وأنت تعلم أن الإنسان إذا فقد عزيزاً وكلما كان ذلك العزيز عظيماً أو يعظم فقده كان ذلك في ميزان أهله الذين مات عنهم، فكيف بـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق ورسول الحق وأشرف من خلق الله وأعظمهم قدراً وأرفعهم ذكراً في ميزانها رضي الله عنها وأرضاها، وهذا مما رجح به العلماء فضل فاطمة على كثير من النساء، ويزيد الأمر جلاء ووضوحاً قوله صلى الله عليه وسلم عنها: (إنما فاطمة بضعة مني). إن هذه الأخبار الثابتة عن وفاة نبي الهدى ورسول الرحمة صلى الله عليه وسلم تزخر أيها اللبيب بمعان عظيمة بدءاً من توديعه للناس، وانتهاء بدفنه بعد الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، وحسان رضي الله تعالى عنه انفرد عن الشعراء بأنه رثى النبي صلى الله عليه وسلم كما رثاه بعض الصحابة، وأما من جاء بعد ذلك من الشعراء فإنهم كانوا في سياق المدح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرثاء غالباً يكون بعد الوفاة مباشرة، وهذا لا يتحقق في الشعراء الذين وجدوا بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه يتحقق كثيراً في حسان رضي الله عنه وأرضاه، وكانت دالية حسان معبرة كل التعبير عن عظيم الخطب وجليل الأمر يوم أن فقد الناس رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وقد حظيت مدينته صلوات الله وسلامه عليه بأن كان جسده الشريف مأواه فيها في ثراها، وذلك في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قد رأت -كما روى سعيد بن منصور في سننه- قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها، فذهبت إلى أبيها أبي بكر -وكان لـ أبي بكر باع في تأويل الرؤيا- فقصت الرؤيا عليه، فخنقته العبرة تأدباً؛ لأنه فقه المعنى، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وغسل ودفن في حجرة عائشة قال الصديق رضي الله عنه لابنته: هذا أول أقمارك يا عائشة! ثم دفن في نفس الحجرة أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بعد سنتين وبضعة أشهر، ثم دفن عمر رضي الله تعالى عنه بعد أن ولي الناس عشر سنين، فكان الصديق والفاروق هما القمران اللذان ثلث بهم من دفن في الحجرة الطاهرة الشريفة، تصدق بذلك رؤيا عائشة يوم أن رأت أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها. هذا خبر وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه على وجه الإجمال، والإنسان إذا علم أن الله تبارك وتعالى كتب الموت على كل حي هانت عليه كل مصيبة يراها، ويتعزى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنك يجب أن تعلم أن الله جل وعلا ما رضي بالبقاء والخلد إلا لأشقى خلقه عليه وهو إبليس، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36 - 38]. وأما أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم فإنهم يبلغون عن الله رسالاته، ويمسحون له في برياته، حتى إذا أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة خيروا بين الخلد في الدنيا أو الموت، وكلهم يختار لقاء الله ثم الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الأنبياء يخيرون عند الموت)، وعائشة رضي الله عنها لما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: (إن الأنبياء يخيرون عند الموت)، لم يتضح لها صورته، فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خبر وفاته: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويقول: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى، قالت رضي الله عنها وأرضاها: فعلمت أنه يخير)، وقد خير صلى الله عليه وسلم عند موته فاختار ما أعده الله جل وعلا له عنده، فروحه عليه الصلاة والسلام في أعلى عليين وجسده في حجرة عائشة، على أن الأرض قد حرم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام لما قال للصحابة من قبل: (إن صلاتهم عليه تبلغه حيث ما كانوا، قالوا: يا رسول الله! وكيف تبلغك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). ويجب أن تفطن أيها اللبيب! إلى أن هذا التحريم إنما هو تحريم منع لا تحريم شرع، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] أي: حرمنا على موسى تحريم منع لا تحريم شرع؛ لأن موسى يومها لم يكن في زمن التكليف، لكنه لا يجد نفسه -بقدر الله وأمره ومشيئته- يقبل أثداء النساء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره عن السجود أن النار حرم الله عليها أن تأكل أعضاء السجود من بني آدم، فهذا كله مندرج في تحريم المنع، وعدم أكل الأرض لأجساد الأنبياء وتخييرهم عند الموت هو إحدى الخصائص التي خص الله جل وعلا بها أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الخصائص لا تخرجهم عليهم الصلاة والسلام من كونهم بشر لا يملكون لأنفسهم ولا غيرهم ضراً ولا نفعاً، كما حكى الله ذلك عن رسله كلهم عليهم الصلاة والسلام. ومن هذا يتجلى للمؤمن أن يعلم عظيم القدرة وجليل الحكمة لربنا تبارك وتعالى يوم أن كتب الموت جل وعلا على عباده، ورسولنا صلى الله عليها وسلم عاش 63 عاماً، 40 منها قبل البعثة و 23 عاماً نبياً ورسولاً، وقد نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر، ومكث في مكة 13 عاماً، وفي المدينة 10 أعوام، وهو عليه الصلاة والسلام عمره كما قال في أعمار أمته قال: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، فهو عليه الصلاة والسلام عاش 63 سنة، ولذلك تلحظ إذا تدبرت السنة أنه في حجة الوداع صلى الله عليه وسلم كان قد ساق الهدي معه مائة واشترك هو وعلي رضي الله عنه في الهدي؛ لأن علياً رضي الله عنه أحرم من جهة اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه في مكة: (بماذا أحرمت؟ قال: يا رسول الله! أُحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولأن النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام كان قارناً فقد أشركه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، فلما جاء يوم النحر نحر صلى الله عليه وسلم من البدن 63 بيده وأوكل إلى علي نحر الباقي، فعدد ما نحره صلى الله عليه وسلم من النياق كان 63 على قدر عمره الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وكأن هذا نوع من الإرهاصات لدنو أجله وقرب رحيله، وأنه صلى الله عليه وسلم لن يزيد عمره على 63 سنة. أحياني الله وإياكم على سنته، ورزقنا الله وإياكم حبه واتباع ملته، وسقانا الله وإياكم من يده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. هذا هو الخبر النبوي من السيرة العطرة والأيام النضرة، وسنفصل فيما يمكن أن نستقي منه إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم على ضوء قول حسان: وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من دالية حسان بن ثابت - وفاته صلى الله عليه وسلم] [2]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من دالية حسان بن ثابت - وفاته صلى الله عليه وسلم] [2] إن الناظر في خبر وفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وقصة ذلك، فإنه يستنتج منها الفوائد والعبر التي تفيد المرء في حياته وسيره إلى الله تعالى، وفي كيفية العمل في مثل تلك المواقف. وكذلك يستفيد من فعل الصديق الأكبر وصبره وتحمله، فهو لم يجعل العاطفة تغلبه في مثل ذلك الموقف الرهيب.

مرض النبي وثقل ذلك عليه

مرض النبي وثقل ذلك عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فقدر، وشرع فيسر، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! كنا قد أشرنا في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث إجمالاً- عن خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في لقاءاتنا هذه الموسومة بالمدائح النبوية، إذ كنا نتفيأ ظلال قصيدة حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً بها واراه في الترب ملحد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد قلنا: إننا سنعرج في هذا اللقاء بإذن الله تعالى على المعاني الزاخرة من خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه المقطوعة الجليلة الأثر من نبأ وخبر حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا إجمالاً تسلسل الأحداث التاريخية في وفاته، وانتهينا إلى دفنه، والآن نحاول أن نذكر ما الذي نستقيه من ذلك، فالسيرة والسنة لا ينبغي للإنسان أن يقرأها فقط وإن كان في قراءتها أجر وثواب عظيم وبركة جليلة لمن أخلص النية، لكن ينبغي أن الإنسان يتعدى هذا الأمر إلى مرحلة أعلى ومنزلة أرفع، فيحاول أن يستقي من معين السنة، فنبينا صلى الله عليه وسلم قدوة وأي قدوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. فنستعين بالله تبارك وتعالى فيما ننهله من معين السنة ورياضها فنقول: إن الله جل وعلا خلق خلقه أطواراً، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه لا يستثني منها أحد، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان سيد البلغاء وإمام الفصحاء والله يقول له: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم:97]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)، وكان الصديق رضي الله عنه والصحابة يتعجبون من بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك إذا استصحبنا قول الله جل وعلا أن الله خلق خلقه أطواراً كما بين الله في سورة نوح، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته -وهو سيد الخلق وإمام الفصحاء- يدخل عليه أسامة حبه وابن حبه فيطلب منه أن يدعو، فيعجز صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بالدعاء؛ لأن المرض كان قد أثقل عليه، ويدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر كما مر معنا وفي يد عبد الرحمن سواك، فيعجز وهو إمام الأمة ورأس الملة وأعظم البلغاء وسيد الفصحاء أن يقول لـ عائشة: أعطوني السواك، وإنما حدق النظر في السواك ففهمت عائشة مراده صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبر أيها المؤمن! هذا حال سيد الخلق وأكرمهم على الله فما حالنا نحن وحال غيرنا! لقد خلق الله جل وعلا خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، والعاقل من يعلم ذلك من نفسه، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]. فسبحان من لا يمسه نفع ولا ضر، سبحان الله علام الغيوب، سبحان الرب تبارك وتعالى الذي لا يحول ولا يزول، سبحان من استوى على عرشه وفي كل مكان رحمته وعلمه وسلطانه! والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ننظر للسيرة العطرة بهذا التأمل وذلكم التدبر نلحظ أننا ضعفاء مهما بلغنا، كما أن سكرة الموت لا يمكن أن يحيد عنها أحد، فقد تكون لحظة وقد تكون لحظات، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدع يديه الطاهرتين الشريفتين في ركوة فيها ماء ويقول: (لا إله إلا الله، اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت)، وسكرات الموت حق لا يمكن دفعه، قال الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20].

الصديق وسكرة الموت

الصديق وسكرة الموت والصديق رضي الله عنه لما جاءته سكرة الموت كان مغطى، فكانت بجواره ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها فكانت عندما رأت اشتداد المرض على أبيها أبي بكر تتمثل ببيت قديم لـ حاتم طي يقول فيه: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر إذا حشرجت يوماً أي: الروح والنفس. فكشف رضي الله عنه وأرضاه عن وجهه وقال لها: يا بنية لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله كان يقول في تلك السكرات: (لا إله إلا الله، اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت)، وقد أعانه الله جل وعلا.

من أعظم المناقب الشوق إلى الله تعالى

من أعظم المناقب الشوق إلى الله تعالى الأمر الثالث: أن من أعظم المناقب الشوق إلى لقاء الله، والشوق إلى لقاء الله لا يلزم منه تمني الموت، ولا يلزم منه عدم كراهة الموت، لكن المؤمن يبقى في تعظيم لربه وشوق إلى خالقه جل وعلا، وأنبياء الله ورسله ما امتلأت قلوبهم بشيء أعظم من توحيدهم لخالقهم، وإجلالهم لربهم تبارك وتعالى. فهذا الإجلال العظيم الذي كان يسكن قلوبهم لربهم تبارك وتعالى جعلهم عندما يخيرون قبل أن يموتوا بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وبين لقاء الله ثم الجنة أن يختاروا لقاء الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم -على أنه لم يعش طويلاً فقد عاش ثلاثة وستين عاماً- لما خير اختار لقاء الله ثم الجنة؛ شوقاً إلى ربه. ويجب أن تعلم أيها الأخ المؤمن! أن الله تبارك وتعالى لا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته، والإنسان إنما يكون له ثقل ميزان وعظيم أجر في أي مكان يذكر الله جل وعلا فيه، والآخرة هولها شديد، والناجون هم من عفا الله عنهم، يقول صلى الله عليه وسلم للصديقة بنت الصديق: لما قالت له: أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها قال: (قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وفي صحيح مسلم من حديث صهيب: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا، ألم يجرنا من النار، ألم يدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى).

تشريف آل بيت النبوة بغسله

تشريف آل بيت النبوة بغسله ودل كذلك خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا منح أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواليه شرفاً لا يضاهى، وعزاً لا يبارى ألا وهو تولي غسل ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والميت أولى به قرابته وعصبته، والصديق رضي الله عنه له مكانته وكذلك عمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، لكن الميت أولى به القرابة والعصبة هذا الذي دل عليه الشرع، وهذا الذي وقع فعله من الصحابة، فقد تولى غسله علي ونال الشرف الأعظم؛ لأنه هو الذي باشر غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس عم رسول الله، وابناه: قثم والفضل، فكانا يقلبان الجسد الطاهر الشريف، ولم تكشف لرسول الله عورة، وكان شقران وأسامة يسكبان الماء، فهذا شرف لا يضاهى ومجد لا يبارى.

غسل الرجل للمرأة والعكس

غسل الرجل للمرأة والعكس وغسل الميت جاء في السنة أن يكون على مكان مرتفع، وأن يتولى غسل الميت وصيه في الأول ثم آل بيته، ولا يجوز للرجل أن يغسل امرأة ولا للمرأة أن تغسل الرجل إلا في حالتين: فيجوز للرجل أن يغسل المرأة إذا كانت زوجته، أو كانت طفلة رضيعة، ولا تسمى في هذه الحالة مرأة. والمرأة يجوز لها أن تغسل الذكر في حالتين: إذا كان الميت زوجها، أو كان طفلاً رضيعاً لا يعد له عورة، وأما غير ذلك فلا يغسل الذكر إلا الذكر ولا تغسل الأنثى إلا الأنثى. وأبو بكر رضي الله تعالى عنه لما مات أوصى قبل أن يموت أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رغم وجود أبنائه ووجود أبيه، فقد كان أبوه يوم ذاك كبيراً، وكذلك وجود كثير من الصحابة الذين لهم علاقة عظيمة بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن لأمر ماء أراده أبو بكر أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، وقد تولت رضي الله عنها وأرضاها الصديق. والذي يعنينا أن الله جل وعلا من على علي رضي الله عنه بأن باشر غسل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، ثم كفن صلوات الله وسلامه عليه، ثم قبر، والله جل وعلا جعل الأرض مأوى ومسكناً لنا {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]، وقال: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21].

من السنة وضع الميت على شق الأرض

من السنة وضع الميت على شق الأرض والسنة وضع الميت على شقه الأيمن مستقبل القبلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر المسجد الحرام قال: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، والنبي صلى الله عليه وسلم سجي ووضع في قبره، والقبر كان لحداً، فيوضع الميت على شقه الأيمن، ويقرب من جدار القبر، ويوضع خلف ظهره شيء من التراب؛ حتى لا ينقلب، ثم توضع اللبنات، فنبينا صلى الله عليه وسلم وضعت تسع لبنات على لحده، فإذا نزل التراب على القبر لم ينزل على جسده الشريف؛ لأن جسده الشريف في اللحد وهو الشق الذي في القبر وعليه اللبن، ثم ينزل التراب على القبر نفسه لا على الشق، والنبي صلى الله عليه وسلم داخل الشق مغطى باللبن، وهذا يفعل لكل ميت فيدفن في لحد محمي؛ حتى لا يصيبه أذى، وهذه من سنن الله جل وعلا وقد علم الناس كيف يقبرون منذ أن مات آدم عليه الصلاة والسلام فإن الملائكة تولت غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ثم قالت لبنيه: هذه سنتكم يا بني آدم!

أعظم ما قاساه الصحابة من وفاة النبي هو انقطاع الوحي

أعظم ما قاساه الصحابة من وفاة النبي هو انقطاع الوحي إن أعظم ما قاساه الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم من خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم انقطاع الوحي، ذلك أنه بموته عليه الصلاة والسلام انقطع نزول الوحي إلى الأرض؛ لأن الوحي خاص بالأنبياء، أي: وحي التبليغ، ولهذا لما مر أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مع عمر على أم أيمن وجداها تبكي، فقالت: إني لا أبكي على فقد رسول الله؛ لأني أعلم أن الله قد كتب الموت على نبيه، وأن ما عند الله لرسوله خير مما له عندنا، لكنني أبكي لانقطاع الوحي، وهذا قد ذكره حسان رضي الله تعالى عنه في داليته، أن فقد الوحي ليس بالأمر الهين، والله جل وعلا أخبر في كتابه لأمهات المؤمنين أن يذكرن ما أنزل الله عليهن من الكتاب والحكمة وكل ذلك وحي الله، يقول في تزكية نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

صبر الصديق بعد وفاة الرسول

صبر الصديق بعد وفاة الرسول وعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عندما جاءه خبر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه استثقل الأمر، ولا ضيم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى ربه كما ذهب موسى، فعظم هذا على بعض الصحابة. ولما قدم الصديق من بيته ودخل على بيت ابنته عائشة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، ودمعت عينا الصديق رضي الله عنه وقال: واصفياه! واخليلاه! ثم قال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! ثم خرج إلى الناس فرقى المنبر فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. نحن نؤمن وعلى يقين أنه لا أحد أعظم إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، ولا أحد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من أبي بكر، ولا أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم كحب أبي بكر، ولا أحد خليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر، ومع ذلك جميع الألقاب التي يستحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرف الألقاب به تجنبها الصديق، فقال: من كان يعبد محمداً، ولم يقل: من كان يعبد نبينا ولا رسولنا ولا شفيعنا ولا حبيبنا؛ لأنه رجل رشيد، فالناس وقتها آنذاك وهم يسمعون خطابه في هول الفاجعة يحتاجون إلى رجل ثابت الجنان رابط الجأش يعلم عظم المصيبة، ولا يحتاجون إلى رجل يزيدهم بكاء على ما هم عليه، فترك أبو بكر الألفاظ التي تزيد من عاطفة الناس ولجأ إلى ألفاظ تذكر الناس بجلال الموقف وكيف يتعاملون معه، فقال رضي الله عنه وعن أبويه قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. والصديق بهذه الكلمات غلب على عواطفه وجعلها جانباً؛ حتى يقود الأمة ويسوس الناس، وعندها من لم يكن مصدقاً أن النبي عليه السلام قد مات صدق وآمن، حتى قال عمر: كأني أسمع تلك الآية لأول مرة، ثم بعد أن تمكن أبو بكر من جمع الناس وتبليغ الحقائق لهم تفرغ لنفسه وبكائه، فقام في العام القابل بعدها وقف على المنبر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مقامي هذا عام أول وبكى رضي الله عنه وأرضاه، ثم أراد أن يبلغ الناس بعضاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقدر، وأخذ يقطع خطبته ثلاث مرات، وهذا بعد مرور عام يتذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويبكي رضي الله عنه. فهذا الموقف يجعلك تعرف أنه يقع على ذي العلم وعلى ذي الشرف وعلى الرائد وعلى القائد ما لا يقع على غيره، يقول المتنبي في ذلك أبياتاً تبين أن الإنسان الذي يوكل إليه عظائم الأمور ليس كغيره: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فالذين يريدون أن يكون لهم دور بارز وجهد ظاهر في قيادة أمتهم لابد أن يكون الإنسان منهم ثابت الشخصية، رابط الجأش، قوي الجنان، لا يغلب عواطفه، وإنما يحكم عقله وعلمه وينظر في سنن الله وسنن أبيائه ورسله وسيرة سلف الأمة الصالح، ويسير على خطاً ثابتة، فليس كل أمورنا تصنع وتقام وتؤدى بالعواطف ولكن: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني إن موت النبي صلى الله عليه وسلم وغسْله شرف لمن غسله، وبعض الناس من لطف الله به إن لم يقدر على الخير كله فإنه يقبل ببعضه، فـ أوس بن خولي رضي الله عنه وأرضاه أنصاري لما جاء آل بيت رسول الله علي ومن معه وهم يغسلون النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ينادي علياً من خارج الدار ويقول: يا علي أنشدك الله والرحم إلا أدخلتني، وهو لا يريد رضي الله عنه وأرضاه أن يفوته يوم كهذا، فأنشدك الله والرحم إلا أدخلتني، فرق له علي رضي الله عنه وأرضاه وأذن لـ أوس أن يدخل دون أن يشارك، فدخل أوس بن خولي رضي الله عنه وجلس في ناحية الدار ورآهم وأبصرهم وهم يتولون غسل نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

اختلاف عواطف الناس والتعبير عنها

اختلاف عواطف الناس والتعبير عنها فهذا يفيد أن عواطف الناس تختلف، والتعبير عن تلك العواطف يتباين، وبعض من الناس كتب الله لهم الفقه -وهذا من توفيق الله- كيف يصلون إلى حاجاتهم، وليس أن غيرهم أغبياء لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فمثلاً اشترى النبي صلى الله عليه وسلم جملاً من أعرابي، فاتفقا على القيمة، فزاده بعض الصحابة دون أن يدري أن النبي عليه السلام قد اشتراه، فطمع الأعرابي في مال الصحابة فأنكر أن يكون قد باع الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء خزيمة بن ثابت وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل بكذا وكذا، ولم يكن حاضراً، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم منه فقال: يا رسول الله! أصدق في خبر السماء أفلا أصدق بأنك بعت أو اشتريت جملاً بكذا وكذا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، رغم أننا نعلم أن الصحابة جميعاً يصدقون بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلهم مؤمنون به، بل فيهم من هو أشد إيماناً ويقيناً برسول الله من خزيمة بن ثابت، لكن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. ومثله تقريباً أبو أيوب الأنصاري عندما أخذ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله داره، وفاز بإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله). يقول أهل العلم: إن الإخلاص من أعظم أسباب التوفيق، فما رفع شيء إلى السماء كما حررنا سالفاً أعظم من الإخلاص، ولا نزل شيء من السماء أعظم من التوفيق، وقد قال الله حكاية عن العبد الصالح: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

بقاء القرآن معجزة خالدة

بقاء القرآن معجزة خالدة نعود فنقول: من المعاني الزاخرة في خبر وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى لما قبض نبينا صلى الله عليه وسلم أبقى على معجزته الخالدة وهي القرآن، ولهذا مر معنا أن شوقي يقول: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم فالنبي صلى الله عليه وسلم وإن مات إلا أنه تركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقال: (كتاب الله وسنتي)، فأوفى صلى الله عليه وسلم أمته من بعده، فتدبر القرآن وتدبر سنته، وهو صلى الله عليه وسلم أقام لنا مجداً عظيماً وديناً قيماً على ملة أبيه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. ثم بعد ذلك لما توفاه الله جل وعلا كان عليه الصلاة والسلام قد أدى ما عليه، وأكمل تبليغ الرسالة، ولذلك حرص عليه الصلاة والسلام أن يُشهد الناس فقال: (أما وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ فقالوا رضي الله عنهم -وهم أكرم جيل وأمثل رعيل-: نشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة)، ونحن نشهد أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد أدى الأمانة، ونصح الأمة، وبلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل والنحو الأتم صلوات الله وسلامه عليه.

صلاة الصحابة على الرسول فرادا

صلاة الصحابة على الرسول فراداً ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يصل الصحابة عليه جماعة، أي: لم يتقدمهم أحد، وهذا من فقه الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجلّوا واستكبروا واستعظموا أن يتقدمهم أحد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً له، وفيها أمر نفسي وهو: أن كل فرد من الصحابة عندما يباشر الصلاة على رسول الله بنفسه من غير إمام فكأنه يبلغ عواطفه ودعاءه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فإذا انقلب إلى أهله ورجع إلى داره يشعر أنما فيه من عواطف جياشة قد أصابته يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يعبر عنها بأن صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصلاة إنما تكون تعبداً للرب تبارك وتعالى لا شك في ذلك ولا منة، فلا يشرك مع الله أحد، لكن عندما يباشر الإنسان الصلاة على الميت إماماً أو لوحده فإنه يشعر بأن الدعاء الذي يريد أن يبلغه للميت كأنه قد وصل، وإن كان هو يدعو الله جل وعلا والله تبارك وتعالى هو القائم بالأمر جل جلالة. فالمقصود: أن في هذا نوعاً من إطراح كثير من الحواجز النفسية التي تكون فيما لو صلى الإنسان إماماً، ولعل هذا قد تعرض له بعض العلماء في قضية لماذا صلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم أرسالاً. هذه بعض المعاني التي وقفنا عليها من خبر وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم من قول حسان: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد ونحن في هذه اللقاءات المتتابعة في مدائح النبي صلى الله عليه وسلم لم نرد أن نكون شخصية إنشادية، أو شخصية تقول شعراً، أو أن يُعنى بالشعر أكثر من اللازم، لكن أردنا أن نبلغ السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم. وسأختم إن شاء الله تعالى بلقاء نتكلم فيه عن الشعر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وموقف الإسلام من الشعر، ونظرات فيما قلناه إجمالاً. هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من رائية ابن دقيق العيد]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من رائِيّة ابن دقيق العيد] لقد كانت الهجرة النبوية حدثاً تاريخياً عظيماً، فقد غيرت مجرى التاريخ، ومكنت للمسلمين أن يقيموا دولة الإسلام، ويفروا من اضطهاد المشركين في مكة، وهكذا تكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ومن بلد الاستضعاف إلى بلد القوة.

علة ذكر ابن دقيق للحجاز في شعره

علة ذكر ابن دقيق للحجاز في شعره بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاءنا متجدد مع لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، هذه اللقاءات التي من خلالها نعرج على بعض القصائد التي قيلت في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، فنستعرض منها أبياتاً ثم نجعل من هذا البيت طريقاً لنا إلى الحديث عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نتكلم في برنامج إنشادي، ولا نحاول أن نقدم أنفسنا كقراء شعر من الطراز الأول، لكن المقصود من ذلك إلقاء الضوء على بعض الأبيات، من خلال هذه الأبيات نصل إلى معاني زاخرة من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فربنا جل شأنه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ولا سبيل إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأمل والنظر والتدبر في سيرته العطرة وأيامه النضرة، ويجب أن يكون ذلك مصحوباً بمحبة عظيمة، وإجلال كبير شرعي له، صلوات الله وسلامه عليه. مر معنا الكثير من القصائد منها ما وقفنا معه مرة، ومنها ما وقفنا معه أكثر من مرة، واليوم نقف مع قصيدة لـ ابن دقيق العيد، الفقيه الشافعي المعروف، والقصيدة رائية، قالها في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اخترنا منها بعض الأبيات، ثم نعلق على القصيدة كما جرت به العادة. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يا سائراً نحو الحجاز مشمرًا اجهد فديتك في المسير وفي السرى وتدرع الصبر الجميل ولا تكن في مطلب المجد الأثير مقصرا اقصد إلى حيث المكارم والندى يلقاك وجههما مضيئاً مقمرا وإذا سهرت الليل في طلب العلا فحذار ثم حذار من خدع الكرى إن كَلّت النجب الركائب تارة فأعد لها ذكر الحبيب مكررا وابعث لها سر المدام فإنها بالذكر لا تنفك حتى تسكرا فالقصد حيث النور يشرق ساطعاً والطرف حيث ترى الثرى متعطرا قف بالمنازل والمناهل من لدن وادي قباء إلى حمى أم القرى وإذا رأيت مهابط الوحي التي نشرت على الآفاق نورًا نورا فاعلم بأنك ما رأيت شبيهها مذ كنت في ماضي الزمان ولا يرى شرفا لأمكنة تنزل بينها جبريل عن رب السماء مخبّرا فتأثرت عنه بأحسن بهجة أفدي الجمال مؤثّرًا ومؤثرا فتردد المختار بين بعيدها وقريبها متبدياً متحذرا ومهابة ملأ القلوب بهاؤها واستنزلت كبر الملوك مصغرا نزلت على قدم الزمان لتبع ودنت على بعد المزار لقيصرا هذه بعض أبيات قالها ابن دقيق العيد رحمة الله تعالى عليه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قرأناها بعد أن اقتطفناها من ديوانه. فنعلق عليها ونقول: تلحظ أول الأمر أن ابن دقيق العيد تكلم على الحجاز، ثم ذكر قضية أن تلك الأمكنة دنا منها المختار، وتردد في أروقتها صلوات الله وسلامه عليه، ونص على قباء أي الشاعر. وسنذكر في هذا اللقاء قضية الحجاز وقضية قباء في السيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، إن شبه الجزيرة العربية كان أغلب أقسامها الجغرافية نجد وتهامة والحجاز، هذه هي الأقطاب الثلاثة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم ولد في مكة، وهاجر إلى المدينة وبها توفي، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغادر الحجاز كموطن، وإنما غادره عارضاً كخروجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ثم عاد. والذي يعنينا هنا أن الحجاز ورد كلفظة تغنى بها الشعراء وحتى الفقهاء، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم ورده عنه أنه نهى عن الشرب قائماً، وثبت عنه أنه شرب قائماً صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح (أنه شرب من زمزم وهو قائم) وهذه مسألة اختلف العلماء فيها، وعلاقتها بالموضوع أن الفقهاء عندما أرادوا أن ينظموا هذا الأمر الفقهي شعراً ذكروا أن السنة أن يشرب الإنسان قاعداً، وأن شربه صلى الله عليه وسلم وهو قائم لينقل الأمر من التحريم إلى الجواز، ونظموا في ذلك شعراً يقول قائلهم: إذا جئت تشرب فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز وقد صححوا شربه قائماً وإنما ذاك بيان الجواز فالفقهاء هنا لما نظروا إلى السنة النبوية وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، وثبت عنه أنه شرب قائماً، قالوا: إن النهي هنا ليس لكراهة التحريم، وإنما لكراهة التنزيه، واحتجوا بأن شربه قائماً صلوات الله وسلامه عليه ينقل الأمر من التحريم إلى الكراهة أو إلى بيان الجواز. وموضوع الشاهد أنهم قالوا: إذا جئت تشرب فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز. صلوات الله وسلامه عليه، وأنا أسوق هنا الأمر أو الشعر أو البيتين ليس لأمر شعري أو لأمر فقهي، بل لأمر يتعلق بحديثنا عن الحجاز، فهنا نتذكر السيرة في قضية الهجرة، فالحكم على الشيء فرع من تصوره، وإنما يكون ظلمنا للغير، أو ظلمنا على الأشياء ناتج من عدم حكمنا عليها حكماً صحيحاً، وذلك إذا كان الإنسان لا يتصور الموقف كاملاً.

علة مجيء إبليس في صورة شيخ نجدي

علة مجيء إبليس في صورة شيخ نجدي ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تآمر المشركون عليه في دار الندوة، فجاء إبليس وحضر الاجتماع في صورة شيخ نجدي، و Q لماذا حضر إبليس في صورة شيخ نجدي؟ A حضر إبليس في صورة شيخ نجدي لأن قلنا: إن الأقاليم كانت في شبه جزيرة العرب ثلاثة: الحجاز ونجد وتهامة، فالقرشيون قالوا قبل الاجتماع: لا يدخلن عليكم رجل من أهل تهامة، فإن هواهم مع محمد، فكان القرشيون يتخوفون من أي أحد في تهامة، ولو جاء وقال: أنا من تهامة ما قبلوه، ولا أخذوا عنه رأياً؛ لأنه كان يغلب على ظنهم أن أهل تهامة ينازعون في النبي صلى الله عليه وسلم ويعارضون قريشاً فيه، أي: أن هواهم مع هواه صلوات الله وسلامه عليه. فعزمت قريش على ألا تدخل رجلاً من تهامة في دار الندوة، فهذا هو الذي دفع إبليس أن يأتي في صورة رجل من أهل نجد، لعلهم يقبلونه؛ لأن أهل نجد آنذاك لم يكن لهم علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يعرف عنهم شيء لا قبول ولا رد ولا حياد، فجاء إبليس بهذه الصورة حتى يتمكن من الدخول، لا لعارض في قضية أن أهل نجد أو أهل تهامة أو أهل الحجاز أحدهم له فضل على الآخر، هذا كله ملغي غير موجود في السيرة، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فكان في الحجاز من نصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في الحجاز من عاداه، وكذلك في كل بلد، وإلى اليوم يوجد في أصقاع الأرض من هو مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، محب له، ويوجد في جزيرة العرب من لا يبلغ الإيمان في قلبه ما بلغ في قلب أخيه ذلك الذي بعدت دياره، ونأت مواطنه والعبرة عند الله جل وعلا بالتقوى، هذا حديثنا عن قضية الحجاز في الشعر العربي الذي مدح به النبي صلى الله عليه وسلم.

التعريف بقباء

التعريف بقباء وأما قباء التي ذكرها ابن دقيق العيد هاهنا اختلف في سبب التسمية، والأظهر أنه كان بئراً بهذا الاسم، وقباء يقع في الجهة الجنوبية الغربية قليلاً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الديار كانت لبني عمرو بن عوف، وتبعد الآن عن المسجد النبوي تقريباً سبعة كيلو مترات. والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في المدينة نزل إليها؛ لأن المهاجرين الأولين الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم إلى المدينة كانوا ينزلون إلى قباء، وأول من نزل فيها أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فهذا أول المهاجرين، وهو أول ما وصل إلى المدينة وصل إليها، وظاهر الطريق أنذاك أنه كان شبه لزام على من يأتي إلى المدينة أن يبدأ بقباء؛ لأننا نعلم أن دليل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله بن أريقط في آخر الأمر اخترق بهم وادي ريم، ووادي ريم اليوم خمسين كيلو على طريق الهجرة إلى المدينة، ثم اخترق بهم بطن وادي ريم، ثم أتى نازلاً على قباء. والطريق الآن كذلك فطريق الهجرة المعمول به حالياً يؤدي إلى مسجد قباء، فـ أبو سلمة بن عبد الأسد كان أول من نزل قباء، وأهل السير والتاريخ والعلم عند الله بصحة السند يقولون: إن أبا سلمة هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، كما أن أخاه الأسود بن عبد الأسد أول من يأخذ كتابه بشماله، وهذا الأسود بن عبد الأسد هو الذي أقسم في أول المعركة قبل أن يقتتل الفريقان، أقسم أن يأتي إلى البئر الذي عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويشرب دونه أو يهلك، فهلك قتله حمزة وبعض الصحابة قبل أن يصل إلى البئر، لكنه كان قد أقسم، وهذا يدلك على فرط شجاعته، وعلى فرط عناده وكفره وعدم إيمانه بالله ورسوله، فالمشهور أن هذا الرجل هو أول من يأخذ كتابه بشماله، وأخوه -وسبحان من قال: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]- هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وهو أول من وصل قباء من المهاجرين على المشهور، وقد يكون قبله واحد أو اثنان، لكن المشهور أن أول من وصل هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وقد كان زوجاً لـ أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، ثم مات عنها شهيداً، ثم تزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم. موضع الشاهد: أن النبي عليه الصلاة والسلام اختط ما كان عليه المهاجرون الأولون، فعندما بدءوا في قباء بدأ صلى الله عليه وسلم بقباء، ونزل عليه الصلاة والسلام في ديار بني عمرو بن عوف.

المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى

المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى وهناك أسس مسجده صلى الله عليه وسلم، مسجد قباء، - أي في ديار بني عمرو بن عوف- وليس المسجد النبوي، فمسجد قباء أسس قبل المسجد النبوي، وعلى هذا فإن الأظهر أنه المقصود بقول الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، هذا المسجد، النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لبنة فوضعها في قبلته، فجاء أبو بكر وأخذ لبنه، فجاء عمر وأخذ لبنة، ثم تتابع فعل الصحابة، وأخذوا يبنونه، وبناه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في ديار بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسس في الإسلام، {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]. ونخرج عن الدرس قليلاً فهنا فائدة في القرآن، يقول الله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة:108]، كلمة فيه هنا جاءت متتابعة من غير فاصل: فيه فيه، فهي في الأول خاتمة للجملة الأولى، وفي الثانية بداية لها، وهذا لم يتكرر في القرآن إلا مرتين، في هذه الآية، وفي قول الله جل وعلا: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فلفظ الجلالة هنا جاء مكرراً ليس بينهما فاصل لا من حرف ولا من غيره. ذكرنا أن مسجد قباء بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة في بني عمرو بن عوف.

فضل مسجد قباء

فضل مسجد قباء قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة)، فالصلاة فيه تعدل أجر عمرة بنص الخبر الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً أو راكباً، وقول الراوي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت) يحتمل معنيين: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل يوم سبت من كل أسبوع، وإما أن يكون الراوي قد قصد بكلمة السبت كلمة الأسبوع، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم له يوم في الأسبوع يأتي فيه إلى قباء، والقول أنه يأتيه في يوم السبت تحديداً أظهر في المعنى، وأقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن يبقى البحث عن العلة، لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخى يوم السبت في أن يأتي فيه إلى مسجد قباء؟ أحسن ما قيل في التعليل في هذه القضية أن تعرف أصل المسألة، ما أصل المسألة. إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن في زمنه مسجد يقام فيه الجمعة إلا مسجده، فالجمعة في المدينة لم تكن تقام إلا في المسجد النبوي، أي: أن هناك جمعة واحدة فقط، وهذا يلزم منه أن أهل قباء يأتون إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلون معه الجمعة، ومن هنا قال العلماء: إن تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء، وإتيانه المسجد كل سبت، المقصود منه: زيارة المسجد، وفي نفس الوقت أنه صلى الله عليه وسلم يتفقد من لم يصل الجمعة معه من أصحابه، وهذا هو الأظهر والأليق وهو حمل العلة عليه صلى الله عليه وسلم، وهو يتفق تماماً مع ما عرف عن نبينا صلى الله عليه وسلم من وفاء، وما كان يتحلى به صلوات الله وسلامه عليه، من الشفقة والحدب على أصحابه والسؤال عنهم، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهنا يأتينا Q قلنا: إن الجمعة لم تكن تقام إلا في مسجده صلى الله عليه وسلم، فهل كانت هناك جمعة أخرى على وجه الأرض؟ و A كانت هناك جمعة أخرى بعد الهجرة بسنتين تقريباً، وقد أقيمت في جوافا، وجوافا بالفتح أو جوافا بالضم هي الآن في إقليم الأحساء من المملكة العربية السعودية، أي: في الشرق من أقاليم المملكة العربية السعودية، وهي بجوار مدينة الهفوف، فالجمعة في جوافا هي ثاني جمعة أقيمت في الإسلام، ويوجد هناك مسجد شبه مهجور، وهو مهدوم، وقد مررت عليه في إحدى أسفاري، لكن لا تقام فيه صلاة الآن، ونحن نهيب بالمسئولين في وزارة الشئون الإسلامية أن يحاولوا إعادة بناء المسجد، وأن يحيى؛ لكونه ثاني مسجد في الإسلام أقيمت فيه صلاة الجمعة. ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في قباء أياماً، فالنبي عليه الصلاة والسلام ولد يوم الإثنين، ونبئ يوم الإثنين، وهاجر من مكة يوم الإثنين، ومكث في الطريق خمسة عشر يوماً، ودخل المدينة يوم الإثنين، دخلها صلى الله عليه وسلم في قباء، ومكث في قباء على الصحيح الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، خمسة أيام، والجمعة قبل الزوال خرج صلى الله عليه وسلم من قباء فأدركته الجمعة غير بعيد عن مسجد قباء، وليوم هناك مسجد موجود مقام مشيد وسعه الملك فهد رحمه الله، وتقام فيه الصلوات الخمس، وقد عرف بمسجد الجمعة، هذا المسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم أول جمعة في المدينة. ومن هذا يتحرر علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمساجد التي في المدينة، وبلا ريب أن أكثر علاقة له صلى الله عليه وسلم كانت بمسجده، وقد تكلمنا عن الروضة الشريفة، وذكرنا حدودها في حلقة مضت.

التعريف بمسجد القبلتين

التعريف بمسجد القبلتين أما ما تسمعه يا أخي عن مسجد القبلتين، فالمدينة كانت عامرة تغص بالأنصار: الأوس والخزرج، وكانت ديار بني سلمة إلى الشمال الغربي من مسجده صلى الله عليه وسلم، وكان لهم مسجد يصلون فيه، واستأذنوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يدنوا من المسجد النبوي، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة دياركم) أي: الزموا دياركم، (تكتب آثاركم)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول نزوله المدينة يصلي جهة الشام ستة عشر شهراً، حتى نزل قول الله جل وعلا: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فتغيرت القبلة من الشمال إلى الجنوب، فذهب رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بني سلمة بتغير القبلة، فجاءهم وهم يصلون الظهر أو العصر، والأظهر أنها كانت صلاة العصر، فجاءهم وهم يصلون إلى جهة الشمال؛ لأن بيت المقدس في الشام شمال المدينة، فأخبرهم وهم يصلون أن القبلة قد انتقلت إلى مكة، فلما قال لهم: إن القبلة توجهت إلى الكعبة عرفوا أنهم سيتجهون جنوباً، فتغيروا، فتقدم إمامهم وتأخر مأمومهم، وأصبحوا يصلون جهة الجنوب. إذاً في صلاة واحدة جمع الأخيار من الأنصار من بني سلمة الصلاة إلى قبلتين، فأول الصلاة كان إلى جهة الشام، وآخر الصلاة كان إلى جهة الكعبة؛ لهذا سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وإلا فقباء والمسجد النبوي ومسجد بني عبد الأشهل، كل هذه المساجد التي كانت موجودة قبل التحويل اتجهت قبلتها إلى القبلتين، فالمسجد النبوي كانت قبلته شمالاً وحولت جنوباً، ومسجد قباء كانت قبلته شمالاً وحولت جنوباً، وكذلك غيرهما من المساجد، لكن سمي مسجد بني سلمة مسجد القبلتين؛ لأن أهله في فريضة واحدة صلوا إلى القبلتين شمالاً إلى الشام، وجنوباً إلى الكعبة حيث استقر الأمر، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144].

مكانة الصلح بين الناس

مكانة الصلح بين الناس هذا كله أيها الأخ المبارك! يعطينا صورة عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالعبادات. وبنو عمرو بن عوف حصل بينهم في إحدى أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم شيء من النزاع، فخرج صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم فتأخر على أصحابه -أي: في مسجده- فجاء بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال: هل أقيم وتصلي؟، وانظر إلى أدب الصحابة، قال أبو بكر: نعم، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر يصلي كما في البخاري، فلما قام أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يصلي، وهم في الركعة الأولى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه عليه الصلاة والسلام رغب أن يصلي في الصف الأول، فحثى حتى وصل إلى الصف الأول، فأحدث الناس صوتاً؛ يشعرون أبا بكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قدم، فلما شعر أبو بكر بأن ثمة حدثاً يكون وراءه التفت، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن ابق مكانك، لكن أبا بكر رجع رضي الله عنه وأرضاه، ورفع يديه يدعو، فالآن هو في صلاة فرفع يديه يدعو، ثم وقف في الصف وقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأكمل بهم الصلاة، فلما سلم صلوات الله وسلامه عليه وانصرف إلى الناس بوجهه قال لـ أبي بكر: (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟) أي: أنا أشرت إليك بيدي أن ابق مكانك، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم)، ولم يقل: ما كان لـ أبي بكر، وإنما قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة، يختار اسماً أوضع، وكأنه تلميذ في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما رفعه يديه يدعو فإنه يحمد الله ويشكره أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يصلي به. ومن هذا الموقف الجزئي أخذ بعض الفقهاء جواز الدعاء في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر أنه رفع يديه يدعو في الصلاة، وهو دليل ظاهر لمن قال بدعاء ختم القرآن في رمضان، وفيه آثار كثيرة تدل عليه، لكن من أكثر الدلائل والقرائن فقهية على جواز الدعاء بختم القرآن هو قضية صنيع أبي بكر هنا، فقد رفع يديه يدعو ويحمد الله على ما آتاه الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقدمه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم رفعه ليديه بالدعاء، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يقر على باطل. وهذا الأمر برمته يبين لك أن الإصلاح بين الناس شأنه عظيم؛ ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء إلى بني عمرو بن عوف، وأخرت الصلاة، كل ذلك من أجل تحقيق الصلح، والله يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وإمام المسلمين وأهل الجاه والثراء والكلمة المسموعة في الأمة أولى الناس بالقيام بهذه الأمور على الوجه الأكمل والنحو الأتم، وكل ذلك مستقى من سيرة عطرة وأيام نضرة لسيد الخلق الداعي إلى الحق صلوات الله وسلامه عليه. جعلني الله وإياكم ممن يحيا على سنته، ويموت على سنته. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده من التعليق على رائية ابن دقيق العيد في مدح رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من لامية أبي طالب]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من لامية أبي طالب] هذه القصيدة هي لامية أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبو طالب يحوط النبي صلى الله عليه وسلم وينصره أمام قريش، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له يوم القيامة رغم كفره، فيكون في ضحضاح من النار. والقصيدة قالها أبو طالب عندما حاصرت قريش بني هاشم وبني المطلب في الشعب.

التفصيل في ذكر نسب أولاد عبد مناف

التفصيل في ذكر نسب أولاد عبد مناف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا لقاء من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، نعرج فيه كما جرت العادة على بعض الأبيات من بعض القصائد التي مدح فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نذكر قصيدة اليوم نزدلف إليها بحديث نبوي شريف، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجدبت المدينة في عهده فخرج صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى المصلى واستسقى ربه، فنزل الغيث سريعاً عاجلاً كثيراً، وتفرق الناس إلى منازلهم ودورهم يستكنون، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم نزول الغيث وإجابة الرب تبارك وتعالى لدعائه ومشهد الناس وهم ينتقلون إلى دورهم قال عليه الصلاة والسلام: (لو رأى أبو طالب ذلك لسره)، ففقه بعض الصحابة مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! كأنك تشير إلى قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقال صلى الله عليه وسلم: نعم. هذا البيت الذي استحضر أمام رسولنا صلى الله عليه وسلم وذكر هو من قصيدة لامية قالها أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حاصرت قريش بني هاشم في الشعب، ومعلوم أن بني هاشم حوصروا جميعاً في الشعب إلا اثنين: أبو لهب، وأبو سفيان بن الحارث وقد رفعناهما ها هنا؛ لأننا إنما ذكرناهما هنا من باب الحكاية. فالذي يعنينا أن أبا طالب قال هناك قصيدته اللامية، وسنختار منها أبيات موجزة جداً ثم نعرج عليها ونعلق على ما قام به أبو طالب مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، وما يمكن أن ننهل من معين السيرة في هذا الجانب. قال أبو طالب في لاميته: خليليّ ما أذني لأول عاذل بصغواء في حق ولا عند باطل ولما رأيت القوم لا ود عندهم وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجل غير آجل بميزان قسط لا يغيض شعيرة له شاهد من نفسه حق عادل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل صلوات الله وسلامه عليه، فهو المقصود من بيت الأخير من قول أبي طالب. سنتكلم الآن عن جانب السيرة فيها: لقد أيد الله جل وعلا نبيه بظهيرين أيام الدعوة في مرحلتها السرية، وبعد ذلك بقليل في أيام اشتداد أذى قريش عليها في مكة، نصير ظاهري كانت تمثله: خديجة رضي الله عنها وأرضاها، ونصير ظاهري وكان يمثله: أبو طالب الذي مات على الكفر. ونبدأ بالقضية من أولها: فالنبي عليه الصلاة والسلام اسمه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعبد مناف هذا ترك أربعة أبناء هم: عبد شمس، ونوفل، والمطلب -ليس عبد المطلب، فـ عبد المطلب هذا لقب وليس اسماً- وهاشم فهؤلاء الأربعة إخوة، وأبوهم هو عبد مناف. ومن هاشم كان نبينا صلى الله عليه وسلم، فعندما نقول: بنو هاشم فإنما نعني أحد هؤلاء الأربعة، فالله جل وعلا اختار قريشاً من العرب، واختار هاشماً من قريش، واختار نبينا صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، فهو عليه الصلاة والسلام خيار من خيار. إذاً فنبينا من بني هاشم، وبقي لـ هاشم من الإخوة؟ ثلاثة عبد شمس، ونوفل، والمطلب، فلما حصر بنو هاشم في شعب بني هاشم حاصرتهم قريش في الشعب كان بنو عبد شمس وبنو نوفل قد تآمروا مع قريش ضد بني هاشم، فأصبحوا غير موالين لأبناء أخيهم، وأما المطلب فقد انضموا إلى بني هاشم في الشعب، فأصبح الشعب يضم بني هاشم الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويضم أبناء عمومتهم من بني المطلب. وأما أبناء عمومتهم عبد شمس ونوفل فهؤلاء كانوا مع قريش ضدهم، لهذا قال أبو طالب في لاميته: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجل غير آجل لأنه كان يتوقع ويتمنى أن يكونوا معهم لكنهم انقلبوا عليهم وكانوا مع قريش، لذلك لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر يقسم الغنائم جعل الخمس بين بني هاشم وبني المطلب، فاعترض بنو عبد شمس وبنو نوفل مثل: عثمان بن عفان وغيره وجبير بن مطعم. فهؤلاء قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ويستفسرون كيف يعطي بني المطلب من الغنائم؟ وقالوا بلسان الحال والمقال: يا رسول الله! أما إنك أعطيت بني هاشم فهذا لا غضبة فيه؛ لأنك منهم، فنحن لا نعترض على أنك أعطيت بني هاشم؛ لأنك أنت هاشمي، لكن ما دمت قد أعطيت بني المطلب فكان ينبغي أن تعطينا؛ لأن المطلب أخ لـ نوفل وأخ لـ عبد شمس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)، فيذكر صلى الله عليه وسلم بموقف بني المطلب في الشعب، (فبنو المطلب وبنو هاشم كالشيء الواحد، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) فإذا قلنا: آل البيت فإنهم لا يدخل فيهم بنو المطلب على الصحيح، وأما عند قسمة الغنائم فإنه يعطون منها، هذا مذهب الشافعي رحمه الله وأكثر أهل العلم وهو الذي نختاره. نعود الآن إلى قضية أبي طالب.

نصرة أبي طالب لرسول الله

نصرة أبي طالب لرسول الله لقد نصر أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقد عمر أكثر من 80 عاماً، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم نصراً مؤزراً، ومن أعظم الدلائل على أن هذا الرجل أشرب حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في الشعب إذا جاء الليل واتخذ صلى الله عليه وسلم مكاناً ينام فيه ونام بقية من في الشعب، يقوم أبو طالب في الليل فيحمل النبي صلى الله عليه وسلم من مرقده ويأتي بأحد أبنائه فيضعه مكانه؛ حتى إذا بيت أحد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ويغدر به وهو نائم فإنه سيغدر بابن أبي طالب ولا يغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ينبئك عن عظيم المحبة التي كان يكنها أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا غروا بعد ذلك أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم له يوم القيامة في أن يكون أهون أهل النار عذاباً. نعود إلى أبي طالب ولاميته، فلما قال أبو طالب: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجل غير آجل إنما كان يقصد أنه كان يرغب ويتمنى من أبناء عمومته أن يقفوا نصراء يحمون ويدافعون معه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر لم يكن كما توقع، وأبو طالب كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، وله في ذلك نونية منها: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا لكن كتب الله جل وعلا له ذلك، فكان أبو طالب يمثل أعظم نصير وظهير للنبي صلى الله عليه وسلم من الخلق خارج البيت النبوي، في حين كانت خديجة كما بينا تمثل أعظم نصير داخلي له صلى الله عليه وسلم، فلما رأت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حمى عمه اشتد أذاها على أصحابه، وقل أذاها عليه صلوات الله وسلامه عليه، ثم فجع صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بموت أبي طالب.

ذكر أولاد عبد المطلب ومن آمن ومن كفر

ذكر أولاد عبد المطلب ومن آمن ومن كفر لقد ترك أبو طالب أربعة أبناء: طالباً وبه يكنى، وجعفراً، وعقيلاً، وعلياً، وابنتين هما: أم هاني، وجمانة. وأما علاقة هؤلاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فـ طالب على المشهور مات على الشرك، وليس فيما بين أيدينا في المصادر التاريخية أخبار عنه، وأما عقيل فقد أسلم تقريباً عند الحديبية وحسن إسلامه، وأما جعفر فهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (أشبهت خلقي وخلقي). وقد بينا في لقاء سابق أن هناك خمسة شديدوا الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: جعفر، وقاسم، والفضل، وأبو سفيان بن الحارث، والحسن بن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهؤلاء الخمسة الذي يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم منهم جعفر بن أبي طالب، وقد كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث الشهير، قال: (لا أدري بأيهما أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)، وعانقه وقبله بين عينيه. ثم قدر لهذا الصحابي الجليل أن يستشهد في غزوة مؤتة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه اللذين استشهدا معه وهما: زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وذلك لما أن خرج على الناس وأخبر صلى الله عليه وسلم بحال قادة الجيش وأمرائه في مؤتة.

ذكر مثال على ذكاء علي وقضائه

ذكر مثال على ذكاء علي وقضائه وأما علي رضي الله تعالى عنه فهو رابع الخلفاء، وحاكم الحنفاء، الصحابي الجليل المشهور، أحد العشرة المبشرين، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وكان من أذكى الناس، ومن دلائل ذكائه نأخذ هذه القصة التي تبين قضاء علي رضي الله عنه وفهمه وذكاؤه: ذلك أن رجلاً كان يمشي في الصحراء ثم التقى به صديق له، فمضى يمشيان سوياً فجاعا، فلما جاعا أناخا مطياهما تحت شجرة وأخرج كل منهما ما معه من زاد، فأحدهما أخرج خمسة أرغفة، والآخر أخرج ثلاثة أرغفة، فأصبحت ثمانية أرغفة بينهما، وقبل أن يبدآ الأكل مر بهما أعرابي ضيف فدعواه إلى الطعام، فقبل فأكل معهما، فلما أكل معهما وانتهى أعطاهم ثمانية دنانير أو ثمانية دراهم وخرج لما خرج أراد أن يقتسم الثمانية فقال الذي جاء بخمسة أرغفة أنا أتيت بخمسة أرغفة وأنت بثلاث فخمس دراهم لي وثلاث لك، فاعترض الثاني وقال: لا إنما هي بالقسمة نحن اثنان والدراهم ثمانية فأربعة لي وأربعة لك فلما اختصما ذهبا إلى علي رضي الله عنه وأرضاه يحتكما إليه، فلما ذهبا إلى علي رضي الله عنه وأرضاه يحتكما إليه وتيقن علي أنهما سيقبلان حكمه قال: 7 دراهم لصاحب الخمسة ودرهم 1 لصاحب 3. وهذا من دلائل فقه وذكاء علي رضي الله عنه وأرضاه، فـ علي رضي الله عنه نظر إلى أن الأرغفة الثمانية في كل رغيف ثلاثة أثلاث. إذاً فهذه الأرغفة تتكون من أربعة وعشرين ثلثاً، وقد أكملها ثلاثة رجال، أي: أن كل شخص من هؤلاء الثلاثة أكل ثمانية أثلاث، فصاحب الخمسة أرغفة قدم خمسة عشر ثلثاً؛ لأن ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، فقدم خمسة عشر ثلثاً، وقد أكل منها ثمانية وأبقى 7 أكلها الضيف، فاستحق سبعة دراهم، وأما صاحب الثلاثة أرغفة فإن الثلاثة أرغفة في مجموعها فيها تسعة أثلاث، وقد أكل هو منها ثمانية أثلاث وبقي ثلث استحق عليه الدرهم. الذي يعنينا هو أن هؤلاء الأربعة هم أبناء أبي طالب، وقلنا: إن ثلاثة منهم أسلموا: عقيل، وجعفر، وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، وأم هاني، وجمانة ابنتا أبي طالب. وأما طالب فقد حررنا القول: أنه مات بعد غزوة بدر على الأشهر، ولا يعرف كيف مات، ولا يدرى عنه كثير شيء؛ لأن المصادر شحيحة. لمثل هذا.

ذكر أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالهم

ذكر أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالهم إن أبا طالب واحد من عشرة من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام له عشرة أعمام، ستة من هؤلاء الأعمام لم يدركوا بعثته، فلا يتحرر في حقهم كفر ولا إيمان؛ لأنهم أقرب إلى أهل الفترة، وأما أربعة منهم فأدركوا البعثة، فآمن منهم اثنان، وكفر اثنان، فاللذان كفرا هما أبو لهب، وأبو طالب، إلا أن الفرق بينهما: أن أبا طالب كان أعظم نصير للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما أبو لهب فأخباره مشهورة ذائعة منتشرة في أنه ناصب النبي صلى الله عليه وسلم العداوة، وفيه نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]. {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، تكرر مرتين: في المرة الأولى دعاء، وفي المرة الثانية ليس تأكيداً كما يظنه بعض النحاة، وإنما تب الأولى دعاء، وتب الثانية بمعنى وقد فعل، أي: هذا الدعاء الذي كان عليه قد وقع وحصل بأمر من الله وقدره. وأبو لهب اسمه: عبد العزى، وسمي أبو لهب؛ لأنه كان وضيء الوجنتين، فكانتا متقدمتين كالجمرتين فعرف بذلك.

ذكر خبر حمزة رضي الله عنه

ذكر خبر حمزة رضي الله عنه وأسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم حمزة، والعباس، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه هو أخ للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقد أسلم قديماً قبل الهجرة. ثم هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان له مواقف مشهودة يوم بدر، فهو أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قتل شهيداً يوم أحد طعنه وحشي، ووحشي هذا كان غلاماً عند بعض بني أمية، ولم يكن له ناقة ولا جمل في نصر قريش أو هزيمتها لكنه كان ينشد حريته. فأعمامه وأسياده عرضوا عليه الحرية على أن يقتل حمزة، فاتخذ حربة ونزل ساحة القتال ولم يكن له هم إلا أن يقتل حمزة، فوقع منه أن رمى الحربة فأصابت حمزة في مقتل فقتل، ثم مرت سنون وأعوام حتى انتشر دين الله فآمن وحشي، وقدم المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أوحشي أنت؟ قال: نعم، قال: قص علي قتل حمزة، فقص وحشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حمزة، فإذا بعيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال له: غرب وجهك عني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب حمزة حباً جماً، ولم يكن يقدر -وهذا شيء بشري لا يعاتب فيه ولا يلام صلوات الله وسلامه عليه من ذا الذي يقدر على معاتبته ولو أنه قد زكاه الله من فوق سبع سموات واختاره واصطفاه على الخلق أجمعين. لم يكن يقدر على أن ينظر إلى قاتل حمزة وهو وحشي، لكن وحشي بقي على إيمانه وإسلامه وقدر له بنفس الحربة أن يقتل مسيلمة الكذاب ثم يموت بعدها بسنين، هذا حمزة.

ذكر خبر العباس وأولاده

ذكر خبر العباس وأولاده وأما العباس فهو من حيث السن أسن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم قبيل الفتح بقليل وقيل: أنه أسلم قبل ذلك لكنه كان يخفي إسلامه وكنيته: أبو الفضل، ومن أشهر أبنائه: عبد الله الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل). وإلى أحفاد العباس تنسب الدولة العباسية التي أسسها أبو العباس السفاح، وأسسها ثانياً: أبو جعفر المنصور، ومن خلفائها: هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم وغيرهم، فهؤلاء من جهة القرابة أبناء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويتحرر من هذا أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ينقسمون إلى قسمين: منهم من لم يدرك البعثة، ومنهم من أدرك البعثة، فأدرك البعثة منهم أربعة، آمن اثنان منهم وكفر اثنان، كفر أبو طالب وأبو لهب، وآمن العباس، وحمزة. نعود إلى أبي طالب، قلنا: إن أبا طالب عمّر حتى جاوز الثمانين، وكان فقير المال لكنه أسر الناس بأخلاقه، وكان له جاه عظيم على فقره في قريش، ولهذا لم تستطيع قريش أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل العلم يحمل قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] على أنها نزلت في أبي طالب، وهذا قول من أقوال المفسرين، ومفاده: أن أبا طالب ينهى الناس أن يقربوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويدافع عنه، وفي نفس الوقت ينأ بنفسه على أن يدخل في هذا الدين، قال الله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26]، فهذا قول لبعض أهل التفسير قد يكون قريباً من الصواب، لكن الآية لا تحتمل فصل الخطاب فالأمر فيها غير واضح جلي في هذا المعنى.

إلانة الله تعالى الصخر لإبراهيم عليه السلام

إلانة الله تعالى الصخر لإبراهيم عليه السلام والذي يعنينا هنا أن هذه اللامية قالها أبو طالب يبين فيها أنه باقي على مولاته ونصرته لنبينا صلى الله عليه وسلم، ونلحظ أن أبا طالب كان يقسم حينها بما كانت العرب تقسم به من الأمور المعظمة كالبيت، وقال في لاميته: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل فمقام إبراهيم كان موجوداً عند قريش يرونه، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام -وهو خليل الله المعروف- بنى البيت، فلما علا البنيان اتخذ صخراً فرقى عليه ليصل، وهنا ننيخ المطايا إيمانياً، فمن لان قلبه لله ألان الله له كل شيء، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أسلم قلبه لله ولان فلما وضع قدميه على الصخر لان الصخر، فأصبح أثر قدمي إبراهيم بيناً ظاهراً في الصخر يراه كل أحد، فانظر إلى حسن التعامل مع الرب تبارك وتعالى، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:131 - 132]. فهذا خليل الله لان قلبه لربه وأسلم قلبه لربه جل وعلا. فلما ارتقى على الصخر لان الصخر -على ما في الصخر من صلاته- لقدم خليل الله إبراهيم، فأصبح الناس جليلاً بعد جليل يرونه، فكانت قريش تعظم هذا، فجاء أبو طالب يقسم فيقول: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل وقد كانوا ما يعظمونه يقسمون به، فلما جاء الإسلام وجاء نبينا بالدين الحق نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن أن نحلف بأحد غير ربنا؛ لأن القسم بأي أحد تعظيم له، والتعظيم المقيد قد يطلق لأي أحد، وأما التعظيم المطلق والذي منه القسم فهذا لا يكون إلا لله الواحد القهار، فمن أراد أن يحلف فليحلف بالله وحده ولا يحلف بأحد غيره، وكلما عظمت ربك كان ذلك أرفع في درجاتك وأعلى في منزلتك. والله أمر نبيه أن يقسم في القرآن في ثلاثة مواضع: في سورة التغابن، وفي سورة سبأ، وفي سورة يوسف، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، وفي سورة يونس، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، في التغابن. ومقصودنا من هذا: أن ينبغي أن تكون قلوبنا طائعة لربها كما كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في التعليق على بعض أبيات لامية أبي طالب. وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى. وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من ميمية أحمد شوقي] [1]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية أحمد شوقي] [1] لقد أعجز الله بهذا القرآن وببلاغته الإنس والجن، فتحداهم أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يستطع الجن والإنس وأخرسوا، مع أن العرب كانوا أهل فصاحة وبلاغة إلا أن ألسنتهم جمدت لا تحرك ساكناً في ذلك. وبلاغة القرآن بحر لا ساحل له في ألفاظه ومعانيه، وفي كناياته وتشبيهاته وأمثلته.

تمكن شوقي من الشعر

تمكن شوقي من الشعر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل شيء صنعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب غيره، ولا شريك معه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاء متجدد معكم حول لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، هذه اللقاءات التي نجعل فيها من القصائد التي قيلت في مدح سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم سبيلاً وطريقاً وتوطئة لنا في الحديث عن سيرته العطرة وأيامه النضرة، وفي أيام سبقت ولقاءات خلت تحدثنا عن ميمية البوصيري رحمه الله التي فتح بها باباً واسعاً للشعراء في معارضتها، فيقول كل منهم ما يفتح الله به عليه في مدح سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ونبهنا حينها إلى أن أمير الشعراء في هذا العصر أحمد شوقي رحمه الله كان من أكثر من برع في معارضة ميمية البوصيري ميمية الشعرية: ريم على القاع بين البان والعلم وهذه ميمية التي سنختار أبياتاً منها هي إحدى قصائد ثلاث نبهنا سابقاً إلى أن شوقي قالها في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: البائية ومطلعها: سلوا قلبي غداة سلا وثابا والهمزية ومطلعها: ولد الهدى فالكائنات ضياء والميمية التي هي محور حديثنا في هذه الليلة. قال شوقي رحمه الله: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم وظللته فكانت تستظل به غمامة جذبتها خيرة الديم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن بهم دجى على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم شريعة لك فجرت العقول بها عن زاخر من صنوف العلم ملتطم يلوح حول سنا التوحيد جوهرها كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم هذه بضع أبيات اخترناها لكم من ميمية شوقي رحمه الله تعالى، وغني عن القول أن شوقي كان يملك مقوداً عظيماً في البيان، ولم يكن هناك غرابة أن يبايعه أهل عصره على إمرة الشعر، وحسن منه أن سخر بلاغته وبيانه كثيراً في بيان خصائص وصفات نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنت لو قلبت ديواناً للمتنبي مثلاً الذي يعده الكثير جزافاً شاعر العربية الأول لا تجد فيه قصيدة واحدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه وصمة عار عليه وعلى شعره، وأما شوقي رحمه الله فقد استغل قدرته الشعرية وما آتاه الله جل وعلا من مقود البيان، فجعل كثيراً من قصائده بل صاغ ثلاث درر كلهن في مدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

استغناء النبي عن المدح بمدح ربه له

استغناء النبي عن المدح بمدح ربه له وسنقف هنا وقفات متعددة مع هذه الميمية عبر لقاءين متتابعين، ونبدأ بالأيسر. يقول شوقي: وظللته فكانت تستظل به غمامة جذبتها خيرة الديم إن الشعر يا أخي صنعة، والمعاني -كما يقول الجاحظ - مطروحة في الطريق، لكن الإنسان إذا قدر على صياغة تلك المعاني الشهيرة بين الناس عبر ألفاظ ممزوجة بماء الشعر فإن من يسمعها يطرب لها لكنه يعجز أن يقولها، فهذه هي حقيقة الشعر، إلا أننا نرى أن شوقي ههنا وفق للمعنى ووفق للفظ، فأخذ الصناعة من بابها كله، فهو يقول: وظللته: يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، وكون أن الغمامة ظللته عليه الصلاة والسلام هذا مشهور معروف ذكره أهل السيرة ومن دونوا تاريخ نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن انظر كيف تعامل شوقي مع هذا الحديث التاريخي المكتوب الذي نقرأه جميعاً، فقال: وظللته، أي: النبي صلى الله عليه وسلم. ثم عكس الوضع، فقال: فكانت تستظل به غمامة جذبتها خيرة الديم فهو يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أشد عطاء وأكثر سخاء من عطاء السحاب، فهذه السحابة في الأصل بدأت مظللة، لكنها ما لبثت أن أصبحت هي تستظل به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا معنى ذا شأو بعيد يبين لك القدرة الشعرية، وهذا القول قد لا يكون مقبولاً في أطراف الناس وأحادهم، لكنه بلا مرية وبلا شك مقبول في سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وقد مضى معنا مراراً أن الله جل وعلا زكاه، ونحن نعلم أن الشعراء إذ يمدحون نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يكفيه ثناء الله عليه، لكن ثمة أفعال وثمة أقوال تزيدنا نحن القائلين بها شرفاً، وإلا فهي في ذاتها لا تزيد من قدمت له شيئاً، اللهم إلا أن يكون أمراً تعبدياً محضاً، فقد تعبدنا الله جل وعلا بالصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من فضل هو غني عن صلاتنا عليه؛ لأن الله يقول وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فما صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أجر يزيد عندنا وحسنات تتضاعف لنا، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم ليس في حاجة لأن يصلي أحد عليه؛ لأن الله جل وعلا قد أكرمه من قبل، لكن فيها من عظيم الذكر وجليل العطاء وكبير المنحة من ربه تبارك له، صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بما أخبر الله به وأخبر به رسوله

الإيمان بما أخبر الله به وأخبر به رسوله ثم قال شوقي رحمة الله تعالى عليه: أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن دجى على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم هذه الأمور يعجز العقل عن تقبلها، وإنما يقبلها إذا علم أنها من عند الله، فالذي يجعلنا نؤمن برحلة الإسراء والمعراج ونردد ما قاله الصديق رضي الله عنه وأرضاه: إن قالها فقد صدق، الذي يجعلنا نقبلها أن الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أخبر بذلك، لهذا استنبط شوقي هذا الأمر، وهنا تتجلى بدعة الشعراء وقدرتهم الفنية، فقال شوقي معقباً على تلك الأحداث التي مرت معنا في لقاء مضى، قال معقباً: مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم وقدرة الله فوق الشك والتهم وإلا إذا جعلنا الأمر على ما يقتضيه العقل فلا يمكن أن يصدق أو يقبل أن أحداً عرج به إلى السماء السابعة، وقبل ذلك سرى به إلى المسجد الأقصى وكل ذلك في برهة من الليل، لكن لما كان هذا تدبير وتقدير العزيز العليم آمنا به وصدقنا به، وعلمنا أن هذا من دلائل الله احتفاء الله برسوله صلى الله عليه وسلم.

معجزة القرآن الخالدة

معجزة القرآن الخالدة ثم تطرق شوقي لمسألة أخرى فقال: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم قبل أن أنيخ المطايا وأتحدث عن بلاغة القرآن سأتحدث عن قول شوقي: جاء النبيون بالآيات فانصرمت إن الله جل وعلا أعطى بعض الأنبياء معجزات، لكن تلك المعجزات ما إن انتهت حياتهم إلا وانتهت تلك المعجزات، فإن الله جل وعلا أخرج لصالح من صخرة ناقة عشراء، لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، فكانت حجة على قومه، لكن الناقة قد ماتت، فقد عقرها قومه. والله جل وعلا أعطى موسى عليه الصلاة والسلام تسع آيات، قال له: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12]، هذه التسع آيات ذكرها الله جل وعلا متفرقة في القرآن قال ربنا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] هاتان اثنتان، وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] وهذه خمس، فتصير مع الاثنتين سبعاً، وقبلها كانت العصا، وأنه يضع يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، فأصبحت تسعاً، لكن هذه الآيات غير موجودة اليوم، كما قال شوقي: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم وحتى التوراة التي كتبها الله جل وعلا لنبيه موسى والإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه عيسى قد دخلهما كثير من التحريف؛ لأن الله قال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] أي: أن الله جل وعلا أوكل إليهم حفظه فضيعوه إلا قليلاً، لكن القرآن -كما سيأتي الحديث عن بلاغته تفصيلاً- قد توكل جل وعلا بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] أي: القرآن، فالله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن، فالذي بين دفتي المصحف اليوم هو كلام الله تكلم به حقيقة على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، نزل به خير الملائكة جبريل، على خير الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، في خير ليلة وهي ليلة القدر، في خير شهر وهو شهر رمضان. فهذا كله يدل على أن شوقي قد وفق عندما قال: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا أي: يا محمد بحكيم: هذا نعت للقرآن. غير منصرم: أي: لا ينتهي، وإنما يرفع عند اقتراب الساعة، يرفع القرآن بين عشية وضحاها في ليلة فلا يبقى في الصدور منه شيء. آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم وهذا لا يكون إلا لكلام الله، وسنبين هنا -مع ضرب بعض الأمثلة- بلاغة القرآن، فالله جل وعلا ذكر في القرآن خبر موسى والخضر، وأخبر أن موسى ذهب يطلب العلم من لدن الخضر فاشترط الخضر على موسى ألا يسأله حتى ينبئه بما وقع له، فاتفقا على هذا، فلما مضيا في الطريق أخبر الله جل وعلا كما هو معلوم أن الخضر في أول الأمر خرق السفينة، وفي ثاني الأمر قتل الغلام، وفي ثالث الأمر بنى الجدار، فأراد موسى بعد ذلك أن يستفهم فقال له الخضر: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، فجاء بكلمة (تستطع) ثقيلة جداً؛ لأن وقتها موسى عليه السلام لم يكن يعلم لماذا صنع الخضر كل ذلك، فهو مازال في حيرة من أمره والأمر عنه مغيب، ثم أخذ الخضر يحل العقد واحدة واحدة، فقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] يحكي القصة، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، الآن بدأت الأمور تتضح لدى موسى، والمسائل التي كانت معقدة بدأت تحل، ثم قال له: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، الآن جميع العقد انحلت، ثم قال الخضر هنا: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] فخففها؛ لأن موسى الآن أصبحت الصورة أمامه واضحة وليست كالأول، والعرب أهل البلاغة يقولون: الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، فلهذا فاللفظ القرآني جاء في الأول ثقيل ليناسب الوضع: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، فلما نبأه وحل الأمر وانكشف الوضع قال له: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، وهذا من دلائل القرآن. وبعدها بآيات في نفس سورة الكهف ذكر الله جل وعلا خبر بناء السد على يأجوج من قبل ذي القرنين، وذو القرنين عبد صالح وملك صالح، وقد بنى الردم ما بين يأجوج ومأجوج في قصة معروفة ليس هذا وقت بيانها؛ لأنني أتكلم عن بلاغة القرآن ولا أتكلم عن غوص القرآن، ثم قال ربنا جل وعلا بعد ذلك يصف هذا الردم، قال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97]، وقال بعدها: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]، فهذا الردم يحول ما بين يأجوج ومأجوج والخروج إلى الناس للإفساد، فأيهما أشد صعوبة أن يرتقوا ويرقوا على الردم أو أن ينقبوه؟ لا ريب أن نقبه أشد، فلما تكلم عن الظهور والصعود عليه قال الله جل وعلا: ((فَمَا اسْطَاعُوا)) بالتخفيف، أي: لم يستطيعوا أن يعتلوه، ولما تكلم عن النقض -وهو أشد- أتى بلفظة تناسبها، قال ربنا: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))، وتلك منزلة عالية في البلاغة لا تكون إلا في القرآن. وقال الله جل وعلا في سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]، فاليتيم في بني آدم من فقد أباه قبل البلوغ، وفي الحيوانات من فقد أمه، وفي الطير من فقد أباه وأمه؛ لأن الطير يشترك فيه الأبوان في رعاية الطائر الصغير. فاليتيم لما كان دون البلوغ كنت أقدر على أن تنهره بقولك وأن تزجره بفعلك، فعبر جل وعلا بالقهر، فقال: ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)) أي: لا قولاً ولا فعلاً، ولما تكلم جل وعلا عن السائل قال: ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ))؛ لأن السائل قد يكون قوي البدن شديد العنف، فلا تقدر عليه من كل وجه، لكن قد تستطيع أن تقدر عليه بلسانك فقط، فلهذا قال الله: ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ))، وهذا من بلاغة القرآن. كذلك إذا تجاوزنا هذه المسائل اللفظية فإن الله جل وعلا ذكر في القرآن أفانين عدة، ولا أريد أن أصرف الحديث إلى شيء واحد، فالرب تبارك وتعالى استفتح سوراً معدودات بحمده، فقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، وقال تبارك وتعالى في الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، وقال جل وعلا في سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1]، وقال في فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، ولا يوجد في القرآن إلا هذه السور الخمس التي استفتحها الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى، ذكر الله في القرآن خمسة وعشرين نبياً صرح الله بأسمائهم، وثمة رجال في القرآن مختلف في نبوتهم، لكن المتفق على نبوتهم هم خمسة وعشرون، قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]، فهؤلاء ثمانية عشر، والسبعة الباقون ذكروا متفرقين، وقد جمعوا في بيتي شعر: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا صلوات الله وسلامه عليهم، فهؤلاء السبعة لم يذكروا في آية: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا))، فهؤلاء خمسة وعشرون نبياً صرح الله بأسمائهم في القرآن. ولم يذكر في القرآن من الصحابة إلا واحد وهو زيد رضي الله عنه في الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:37]، ولم يذكر من النساء في القرآن إلا مريم ابنة عمران ذكرها الله جل وعلا في عدة سور في آل عمران، وفي مريم، وسميت سورة باسمها. وأما الملائكة فقد مر معنا أنه ليس هناك مذكور منهم بأسمائهم الصريحة إلا خمسة: جبريل وميكال ذكرا في البقرة، وجبريل ذكر في التحريم، وهاروت وماروت ذكرا في البقرة: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]، ومالك عليه السلام ذكر في الزخرف: {وَنَاد

[أبيات من ميمية أحمد شوقي] [2]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية أحمد شوقي] [2] لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم صرح العدل والمساواة، وبث في هذه الأمة أواصر الأخوة والعطف والصفح والعفو، وطبق ذلك تطبيقاً علمياً أسر به القلوب، وملك به الأفئدة. وهو بذلك سابق للحضارات المعاصرة التي تزعم إقامة مؤسسات العدل وصروح المساواة حسب زعمهم.

بعض ما ورد من نبأ عيسى بن مريم

بعض ما ورد من نبأ عيسى بن مريم الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاء متجدد يأخذ طابع اللقاء الثاني في التعليق على ميمية شوقي رحمة الله تعالى عليه، وكنا قد علقنا على بعض أبيات منها في اللقاء السابق، وقلنا: إن ميمية شوقي من أفضل ما قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا أن يكون الحديث عنها في حلقتين، وقد مضت الحلقة الأولى، ونسأل الله التوفيق في هذه الحلقة. نذكر ببعض أبياتها: قال شوقي رحمه الله: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن دجى على منورة درية اللجم حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم تعلمت أمة بالفقر ناجية رعي القوافل بعد الشاء والنعم واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم هذه بعض أبيات كنا قد تحدثنا عنها سابقاً وذكرنا هذه الأبيات قبلها. نعود فنعلق في هذا اللقاء المبارك على بيتين من أيبات شوقي، فالأول هو قوله: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم عيسى عليه الصلاة والسلام هو عيسى ابن مريم كما هو معلوم، وهو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والناس فيه ثلاثة طوائف: النصارى زعمت كفراً أنه ابن الله، وأنه ثالث ثالث، واليهود زعموا أنهم قتلوه، والمسلمون -وهذا هو القول الحق بما علمهم الله- يقولون: إنه عبد الله ورسوله، وقد ائتمر على قتله لكن الله رفعه، قال الله جل وعلا: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:156 - 158]. فعيسى عليه الصلاة والسلام رفع إلى السماء الثانية، فلهذا لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج في السماء الثانية، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن عيسى سيعود وينزل، واضعاً يده على أجنحة ملك، وكأنه يقطر منه الماء وهو لم يتوضأ بعد، يعني: من يراه يظن أن وجه عيسى يقطر ماء وهو ليس بحقيقة يقطر ماء، يقول صلى الله عليه وسلم: (كأنه خارج من ديماس)، والديماس في اللغة هو الحمام، لكن قد يأتي إنسان فيظن أن معنى الحديث أن عيسى كأنه من توه خارج من قضاء حاجته، وليس هذا مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فالحمام في عصرنا هذا أصبح يطلق على مكان قضاء الحاجة، وأما فيما سلف في اللغة لا يطلق على مكان قضاء الحاجة، وإنما يطلق على المكان الذي يغتسل فيه الناس، وأما الذي يقضى فيه الحاجة فإنه يسمى كنيفاً، فعيسى عليه الصلاة والسلام من يراه يظنه أن عليه بقايا الماء وكأنه لتوه مغتسل، وهذه أنوار نبوية يضعها الله جل وعلا على من يشاء من عباده من أنبيائه ورسله. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم)؛ لأنه ليس بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم نبي، وعيسى أعطاه الله جل وعلا معجزات قبل أن يرفعه إليه، منها: أنه يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وكان يأخذ من الطين فيجعله كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لكن يأبى الله إلا أن يفرق بينه وبين خلقه، فهذا الطائر الذي ينفخ فيه عيسى فيكون طيراً بإذن الله ويطير لا يلبث إذا غاب أن يسقط ميتاً؛ حتى يعلم الناس أن هذه معجزة وليس عيسى بخالق، فالله يقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، أي: لا أحد يخلق إلا الله، لكن هذه معجزة ولا تسمى خلقاً، فالمعنى الحقيقي لم يؤته الله جل وعلا لعبده ونبيه عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت معجزة عيسى إحياء الموتى، فانظر كيف تعامل شوقي مع هذا المعنى، وهذا من الدلائل على أن شوقي أعطي باعاً عظيماً في الفهم. قال: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له، أي: كلمه.

تبشير الأنبياء السابقين برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

تبشير الأنبياء السابقين برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: وأنت -أي: يا محمد- أحييت أجيالاً من الرمم أي: أن الله جل وعلا منّ على أمة الإسلام بأن أحياهم من الموتة الحقيقة وهي موتة الجهل وما كانوا عليه من شرك وظلم وسوء أخلاق، فأحياهم الله جل وعلا بهذا الدين العظيم الذي بعث به رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن همه إلا أن يقيم أهله العبادة، فلما وضع هاجر وابنها في وادي مكة قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، ثم تمنى على الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فكان نبينا صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم. ثم قال في الحديث نفسه: (وبشارة أخي عيسى)، فعيسى كان يخبر أتباعه ويبشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فلهذا حاول شوقي في هذا المعنى الكبير أن يقارن مقارنة ذات أدب؛ لأن البعض من الشعراء أو المادحين قد يتطرق لمدح النبي صلى الله عليه وسلم لكنه يخطئ عندما يعقد مقارنة يحاول من غير فهم وإدراك أو بعاطفة تزيد عن الحد أن يقلل من شأن الأنبياء غيره، وهذا مسلك غير حميد، فحق لنا أن نمدح نبينا صلى الله عليه وسلم بما هو وفق ضوابط الشرع، لكن لا يحق لنا أن نسيء الأدب مع أنبياء الله ورسله الآخرين، ولا داعي لأن أضرب أمثلة فيمن أخطئوا فيه في هذا الباب، فالمهم أن الإنسان يتأدب مع أنبياء الله ورسله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أول من يفيق فأجد موسى آخذاً بقوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعة الطور)، ويتأدب مع أخيه يوسف فيقول: (رحم الله أخي يوسف لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي)، ويقول متأدباً مع أخيه لوط: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم أنا أفضل من يونس بن متى)، وهذا الحديث اختلف الناس في معناه، لكن الصواب عندي -والعلم عند الله- أنه لا يأتي أحد يقرأ أن الله جل وعلا قد أخبر بما أخبر عنه من نبأ يونس بن متى فقال جل وعلا عنه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فربما وقع من بعض الصالحين -ظناً منهم- أنهم أفضل من يونس، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر.

مجيء نبينا محمد بالعدل والمساواة الحقة

مجيء نبينا محمد بالعدل والمساواة الحقة وأما ما يتعلق ببيت شوقي: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم فهذا البيت ليس فرداً في القصيدة، وإنما مهد له شوقي وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومعلوم أن نبينا نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر، قال شوقي: ونودي اقرأ تعالى الله قائلها لم تتصل قبل من قيلت له بفم ثم أخذ يطنب في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، وما أفاءه الله عليه من هذا الدين العظيم، وكيف أن أتباعه نشروا الدين في أسقاع الأرض، ثم قال معقباً هذا البيت الذي بين أيدينا: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم وندرك جميعاً أن الذي تفتخر به الحضارة المصرية هو أهرام الجيزة، وإن كانت هذه تدل على ما كان عند الفراعنة القدماء من تشييد في البناء لكن شوقي أراد أن يقول: إن الحق والفخر لا يكون في البناء الحجري بقدر ما يكون في البناء الإنساني: أهرامنا شاد طه دعائمها وحي من الله لا طين ولا حجر فافتخار الحضارة المصرية بأهرام الجيزة يقول شوقي فيه: إن الأولى والأحرى بالناس أن يفتخروا بما قدمه الدين من مظاهر عظيمة ومناقب جليلة على لسان سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. واترك رعمسيس، أي: أي كل حضارة سبقت اتركها خلف ظهرك، ثم بين: إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم ونحن نعلم أن العالم المعاصر يفتخر كثيراً بالثورة الفرنسية المعاصرة، ويجعلون من تقويض سجن الباستيلا أمراً يتغنون به ليل نهار، وهذا نبه عليه شوقي رحمه الله في قصيدة أخرى: وما البستيل إلا بنت أمس وكم أكل الحديد بها صحينا أو كما قال، فالذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام العدل في النفس البشرية أولاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فلما أصلح الله رسوله فرداً كان حَريّاً بعد ذلك أن يكون المجتمع وأن تكون الأمة قائمة على العدل، وما يتغنى به الإنسان اليوم من الحضارات وحق لها من ظهور منظمات ومؤسسات تعنى بحقوق الإنسان لا حرج في ذلك ولا ضير، قال قائلهم: زمان الفرد يا فرعون ولى ودالت دولة المتجبرينا

بعض الأمثلة على العدل والإخاء عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

بعض الأمثلة على العدل والإخاء عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أننا ينبغي أن نعلم أن هذا الأمر لم يقم به أحد أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان شعار فرنسا اليوم ثلاثة شعارات وهي: المساواة والحرية والإخاء، فإن المساواة قالها نبينا صلى الله عليه وسلم في حديثه الشهير: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، وقوله صلى الله عليه وسلم لما أتت إليه قريش بقدها وقديدها تقدم أسامة بن زيد ليشفع في المرأة المخزومية، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، ولا يوجد في النساء أشرف من فاطمة، وهي البضعة النبوية والجهة المصطفوية رضي الله عنها، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: إن قربها مني وكونها بضعة مني لا يعفيها ذلك من إقامة الحد عليها لو أنها سرقت، وهذا مبدأ عظيم وموئل كريم جاء به رسول الهدى ونبي الرحمة ورسول الإنسانية جميعاً، وهو الذي تتغنى به الحضارة المعاصرة، لكننا ينبغي أن نكون منصفين نحكم بالعدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فنقول: إن الحضارة الإنسانية المعاصرة اليوم بلا شك أنها بعدت كثيراً -وهذا من فضل الله علينا- عن كثير من التجبر والظلم الذي كان سائماً في عصور سابقة وأيام غابرة، لكن الحضارة الغربية كفرت بالطاغوت إلى حد كبير لم تعظم الفرد، لكنها لم تؤمن بالله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء بدين نؤمن من خلاله بالله تبارك وتعالى رباً، فنعبده جل وعلا وحده لا شريك له، ونخلص له العمل، وننبذ كل طاغوت متجبر وراء ظهرنا. نعود فنقول: إن شوقي يتغنى بالحضارة الإسلامية: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم والنبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك في فاطمة ابنته بينه في نفسه، فقد وقف صلى الله عليه وسلم يوم بدر يسوي الصفوف، فإذا بأحد أصحابه -وأظنه عكاشة - يتقدم، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم من باب حيثيات عمله، حتى يرجع إلى الصف بشيء كان في يده، فقال ذلك الصحابي الجليل: أوجعتني يا رسول الله! فطلب القصاص، فقام نبي الرحمة ورسول الهدى -وهو أشرف من يمشي على الأرض- فكشف عن بطنه وقال اقتد يا عكاشة، لكن هذا الصحابي لم يكن يروم قصاصاً، وإنما كان يروم التصاقاً بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. فعرفنا من هذا الموقف وزدنا يقيناً بعدل نبينا، لكن ذلك الصحابي ضم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى - أي: الموت والطعن والرماح والسيوف والعدو وملاقاته- فأحببت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك يا رسول الله). هذا الموقف العاطفي هنا قد لا نستطيع أن نبحر فيه كثيراً، وإنما نتكلم عن موقف العدل، فهذا هو نبي الرحمة ورسول العدل صلى الله عليه وسلم يقيمه بينه وبين أصحابه. ويعدل بين نسائه وزوجاته في النفقة والمبيت والسكنى، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما أملك ولا أملك)، وكان صلى الله عليه وسلم في الآداب التي علمها الناس يعطى السقاء والإناء الذي عن يمينه، فجلس على شماله أبو بكر ومشيخة الصحابة، وعن يمينه غلام صغير، فلما جيء له بالقدح وشرب أعطاه الذي عن يمينه، وهذا من كمال عدله صلوات الله وسلامه عليه. ويعلم عليه الصلاة والسلام أن الأسرة مجموعة أفراد، فيقول: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، لأن الضغينة إذا تكونت في الأسرة فسد المجتمع، فالمجتمع أصلاً ليس إلا مجموعة أسر، فهو عليه الصلاة والسلام بدأ بالنفس الإنسانية يصلحها، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ثم ينشر العدل بين الرجل وأزواجه، ثم ينشر العدل بين الرجل وأولاده: (اتقوا واعدلوا بين أولادكم)، ثم ينشر العدل في المجتمع، فينزل القرآن: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فإذا كان الله يأمرنا بالعدل مع أعدائنا، فكيف مع أهلينا وموالينا وإخواننا وبني جلدتنا ومن يدين بدينا! ذلك أولى وأحرى، أي: ملك يقوم على الظلم فهو منتهي، وأي: ملك وأي حضارة بتعبير أوضح تقوم على العدل والإنصاف فإنها تبقى، وهذا سر بقاء كثير من الحضارات، وأما التي تقوم على الظلم فإنها لا تلبث أن تنتهي، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بالعدل فقط، وإنما أتى بكثير أو بكل ما يمكن أن يصلح الله به البشرية، لكن نحن مقيدون بالبيت الشعري. وقد بعث صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر؛ لأن النبي صالح يهود خيبر على النصف من الثمار والتمر، ومعلوم أن خيبر وإن كانت بلدة شديدة الحمى إلا أنها بلدة كثيرة التمر، يقول حسان: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا ومع ذلك لما ذهب عبد الله بن رواحة -وهو التلميذ النجيب في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم- وأراد أن يأخذ منهم نصف ثمارهم قال لهم: يا معشر يهود! والله إنكم أبغض خلق الله إلي. وهذه الطريقة مرضية في التعبير عما في نفسك، لكن لا تتجاوز إلى بخس الآخرين حقهم. وإني قادم إليكم من أحب الناس إلي، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولا يمنعني بغضي لكم وحبي لهم أن أجور بينكم، فقد أمرت بأن أعدل، فعدل في خرص النخل، فقالت اليهود -وهم أهل العلم بلا شك، لكنهم لا يعملون بعلمهم- قالوا: بالعدل قامت السموات والأرض. فالله جل وعلا يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. إذا تجاوزنا مسألة قول شوقي: إن الملك مظهره في نهضة العدل

تحريم الظلم وعواقبه

تحريم الظلم وعواقبه وانتقلنا إلى العدل بين الناس، أو بتعبير أوضح أن الإنسان لا يظلم من حوله، والإسلام حتى يسد هذا الباب حذر من الظلم، جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، ومن الطرائف في تأديب النفس البشرية حتى لا تظلم ولا تجور، جاءت الآثار تدل على أن الله يقبل دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وهم يومئذ أهل كفر، فقال له وهو يودعه على أبواب المدينة: (واتق دعوة المظلوم فأنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فمن أراد أن ينصف نفسه، أو أراد أن يرتقي بنفسه إلى الدرجات العلى والمنازل الرفيعة فيصنع في كل أحد إذا وقف بين يديه في شيء يخصه ما يحب أن يصنعه الله به إذا وقف بين يديه، وهذه المراتب عالية ودرجات رفيعة لا تعطى لكل أحد، لكن كما قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه ولاه عمر على الكوفة، فاشتكاه بعض أهلها ظلماً وزوراً، فبعث عمر -وهذا من العدل- أشبه ما تسمى بلجنة تحري تسأل الناس عن سعد، فكلما مروا على قوم وسألوا عن سعد أثنوا عليه خيراً، حتى دخلوا مسجداً أظنه كان لبني عبس هناك، فقام رجل فقال: إن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في القضية، وذكر أمور يذم بها سعداً، فقام سعد رضي الله عنه وأرضاه وكنيته أبو إسحاق فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وظلماً وسمعة فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن، يقول راوي الحديث: فإن هذا الرجل الذي ظلم سعداً عُمِّر حتى جاوز التسعين فسقط حاجباه على عينيه من شدة الشيب، وهو في السن هذا احدودب ظهره، وأخذ يمشي في طرقات الكوفة ويتعرض للنساء والفتيات يغمزهن ويلمزهن ويتعرض لهن في طريقهن، فإذا قال له الناس: يا رجل! اتق الله وأكثر من الحياء فلا يصنع من كان في سنك مثل هذا، فيقول مجيباً يبين واقع حاله: شيخ كبير أصابته دعوة سعد، فالإنسان أحياناً قد يؤتى قدرة على أن يظلم، لكنه إن كان لديه رقابة حقيقة مع ربه تذكر أن الله جل وعلا أقدر عليه من قدرته على من يريد ظلمه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. وعثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ظلمه الذين خرجوا عليه وطوقوا داره في يوم عرف بيوم الدار، وسمي بيوم الدار لأن الخوارج اقتحموا على عثمان داره، وموضع الشاهد الذي يعنيني هنا تحريره من هذه القضية أن هؤلاء دخلوا عليه وقتلوه، وهو أمير البررة وقتيل الفجرة رضي الله عنه وأرضاه، فلما قتلوه قامت زوجته نائلة بنت الفرافصة تدافع عنه زوجها، فلما أرادت أن تدافع عنه كانت امرأة بدينة نسبياً، فأحد الرجال ضربها من خلفها، فقالت غاضبة والموقف موقف دماء زوجها مضرج بالدماء، قالت: مه -كلمة استنكار- قطع الله يديك ورجليك وأدخلك النار، تدعو عليه مظلومة، فهذا الرجل شوهد بعد سنين في البصرة أو بالكوفة وهو مقطوع اليدين والرجلين ويقول: يا ويلاه من النار! فرآه رجل لا يعرفه فقال: أنت في النار؟ أنت من أهل الجنة أنت مبتلى؛ لأنك مقطوع اليدين والرجلين، فأظنك ستكرم يوم القيامة، فقال: إنك لا تدري لقد دخلت على عثمان يوم الدار وشاركت في قتله، وضربت زوجته فدعت علي قائلة: قطع الله يديك ورجليك وأدخلك النار، فأنا الآن أقول عن نفسي: مقطوع اليدين والرجلين وبقيت واحدة أن أدخل النار، فتجد أن الله أجاب دعوة نائلة؛ لأنها مظلومة، وهنا يتحرر لنا مع القيمة العظمية التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وهي العدل والإنصاف وعدم ظلم الناس، فهو وإن جاءت بها الحضارة المعاصرة وقامت بها مؤسساتها، إلا أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه كان أسبق إلى هذا كله، وبينه بياناً شافياً عن ربه تبارك وتعالى. هذا ما تيسر إيراده في التعلق الثاني لنا على ميمية شوقي والتي مطلعها: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم أسأل الله لي ولكم التوفيق. وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من ميمية البارودي]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية البارودي] هذه القصيدة قالها المجدد للشعر في العصر الحديث محمود سامي البارودي، وقد كان له باع كبير في الشعر وفي فن المعارضات. وقد مدح فيها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فأجاد وأفاد، وأنعم وأكرم بالممدوح

من خبر البارودي

من خبر البارودي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، فنحن في البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، هذا البرنامج الذي له أنشطته المتعددة في التعريف بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، والذب عنها، ونشر فضائله وذكر مناقبه، إنما يجعله من هذه اللقاءات الموسومة بالمدائح النبوية أحدى الطرائق للقيام بواجب أو بعض الواجب نحو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. وسنقف في هذا اليوم مع معارضة البارودي، والبارودي هو محمود سامي البارودي، وهو حامل لواء تجديد الشعر في العصر الحديث، ورغم أن البارودي كان رجلاً عسكرياً إلا أن الله جل وعلا منحه قدرة أدبيه فذة، وكان على يديه تجديد وبعث الشعر من جديد في العصر الحديث، وله في فن المعارضات باع طويل، ونظافة المحافظين كما يقول أهل الصناعة الأدبية، ثم حمل لواءها فيما بعد: شوقي وحافظ وسارا على نهج البارودي. والذي يعنينا هنا هو تلك النونية التي قالها البارودي وهو في منفاه في سيران يمدح فيها سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم، وقد قلت مراراً في هذا اللقاءات لمن يفقد سبب من يشرح الأبيات ويبين معاني الكلمات، ولكنني اتخذ من بعض أبيات القصيدة طريقاً للتعريف بالأيام النضرة والسيرة العطرة لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ورزقني الله وإياكم جواره في جنات النعيم. قال البارودي رحمه الله تعالى: يا رائد البرق يمم دارة العلمِ واحْدُ الغمام إلى حيّ بذي سَلَمَ وإن مررت على الروحاء فأمر لها أخلاف سارية هتانة الديم أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ أحق بالريّ لكني أخو كرم منازل لهواها بين جانحتي وديعة سِرها لم يتصل بفمي عهد تولى وأبقى في الفؤاد له شوقًا يفل شباه الرأي والهمم إذا تذكرته لاحت مخايله للعين حتى كأني منه في حلم فما على الدهر لو رقت شمائله فعاد بالوصل أو ألقى يد السلم صدرتها بنسيب شف باطنه عن عفة لم يشنها قول متهم لم أتخذه جزافاً بل سلكت به في القول مسلك أقوام ذوي قدم تابعت كعباً وحساناً ولي بهما في القول أسوة بر غير متهم والشعر معرض ألباب يروج به ما نمقته يد الآداب والحكم فلا يلمني على التشبيب ذو عنت فبلبل الروض مطبوع على النغم وليس لي روضة ألهو بزهرتها في معرض القول إلا روضة الحرم فهي التي تيمت قلبي وهمت بها وجداً وإن كنت عف النفس لم أهم محمد خاتم الرسل الذي خضعت له البرية من عرب ومن عجم قد أبلغ الوحي عنه قبل بعثته مسامع الرسل قولا غير منكتم فصل رب على المختار ما طلعت شمس النهار ولاحت أنجم الظلم والآل والصحب والأنصار من تبعوا هداه واعترفوا بالعهد والذمم وامنن على عبدك العاني بمغفرة تمحو خطاياه في بدء ومختتم هذه هي من ميمية البارودي رحمة الله تعالى عليه اقتطفنا لك أيها المبارك بعض أبيات منها ونحن الآن بصدد الحديث عنه.

تحديد فج الروحاء، وما جاء فيه في السنة النبوية

تحديد فج الروحاء، وما جاء فيه في السنة النبوية ذكر البارودي موضعين في قصيدته: الروحاء والروضة، فأما الروحاء ففج يقال له: فج الروحاء، وهو في الطريق ما بين المدينة ومكة، وهو إلى المدينة أقرب، ولا زال عامراً إلى اليوم، وهذا الفج مر به النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى معركة بدر؛ لأنه دون بدر تقريباً بسبعين كيلو متر، كما أنه يبعد عن المدينة سبعين كيلو، أي: أنه في المنتصف تقريباً بين بدر وبين المدينة، فهذا الفج وهو فج الروحاء ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دلت أحاديث عنه عليه الصلاة والسلام أن فج الروحاء سيبقى عامراً، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أخاه عيسى ابن مريم عليه السلام -ومعلوم أن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان- سيمر بفج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو مهلاً بهما، فهذا فيه إشارة إلى أمور لعل من أهمها أن عيسى قد يتخذ من المدينة موطناً؛ لأنه كونه يمر في فج الروحاء محرماً هذا يدل على أنه سيأتي من قِبَل المدينة وهذا الفج كما قلت مر به النبي صلى الله عليه وسلم.

تحديد مكان الروضة وذكر فضلها

تحديد مكان الروضة وذكر فضلها ثم قال البارودي: وليس لي روضة ألهو بزهرتها ثم قال: إلا روضة الحرم، الروضة: اسم مكان، وقد أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عندما قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وفي حديث آخر قال: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، فلا يمكن حمل كلمة روضة هنا على أنها مجالس الذكر فقط؛ لأن هذا ينطبق على كل مكان، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)، ويمكن حمل ذلك -وهو الذي عليه أكثر العلماء- على أن هذه القطعة من المسجد النبوي إنما هي تكون يوم القيامة في الجنة، أو أنها مأخوذة الآن من الجنة. وهنا قبل أن نشرع في تحديدها نذكر لطيفة قالها بعض أهل التفسير: الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا} [الكهف:107 - 108] أي: الجنة {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، فأهل الجنة -رزقنا الله وإياكم دخولها- لا يبغون حولاً عن الجنة؛ لأنه لا يوجد بديل أفضل من الجنة، ويرزقهم الله القناعة التامة لذلك الموطن، وأهل المدنية اليوم وكل من يأتيها، وهذا أمر شائع ذائع بين الناس فيمن صفت نيته وخلصت سريرته أنهم لا يرغبون في النقلى عن المدينة ويشق عليه أن يغادرها، قال بعض أهل العلم: إن سبب ذلك الشيء المتواتر بين الناس أن في المدينة قطعة من الجنة وهي الروضة، فهناك بعض القاسم المشترك ما بين حال أهل الجنة وحال من يسكن المدينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. والمنبر كان بينه وبين جدار الحرم مسافة مقدارها ممر شاة، ثم يوجد مكان كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه وهو المحراب النبوي، لكن المحراب النبوي لم يكن مبنياً كما هو اليوم، وإنما هو موضع وقوفه صلى الله عليه وسلم وهو يؤم الناس بالصلاة، فالمسجد النبوي اليوم فيه ثلاثة محاريب: المحراب الذي في جهة القبلة، وهو الذي يصلي فيه الأئمة المعاصرون اليوم، وهذا المحراب هو موضع إمامة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أي: أنه من التوسعة الجنوبية القبلية التي أحدثها عثمان رضي الله عنه ونعم ما فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ عثمان كانت توسعته للمسجد من جهة القبلة، واتخذ المحراب في وسط المسجد، فأقره الصحابة على فعله هذا وصلوا وراءه، وكون الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يصلون وراء عثمان هذا إقرار وإجماع منهم على حسن صنيع عثمان، ثم في الروضة نفسها اليوم محراب مبني وهو موضع محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جهة الغرب من الروضة خارج حدود الروضة الآن يوجد محراب، وهذا المحراب لا يتعلق به أمر تعبدي وإنما هو باق لأمور تاريخية، وهذا المحراب بناه أحد سلاطين آل عثمان في زمانه، ومكتوب على المحراب تاريخ بناءه. فهذا المحراب بناه أحد سلاطين آل عثمان أيام كان الحجاز تحت ولاية دولة آل عثمان، وأما الحراب النبوي فبدهي أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس إماماً فيه، فهذه هي المحاريب الثلاثة، وأما الروضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين بيتي ومنبري)، وكلمة بيت: عامة لكن رواية (قبري) خاصة، فنحتاج إلى التوفيق بين الروايتين وهذا أمر لا بد أن نعمد إليه؛ لأننا إذا جعلنا رواية (بيتي) هي الحاكمة فالأمر يختلف، وإن جعلنا رواية (قبري) خاصة معلمة لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري) فالأمر يختلف في تحديد الروضة، وتحديد الروضة إنما يفهم جلياً إذا استطعنا أن نحرر العام والخاص بين قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري) وقوله: (ما بين قبري ومنبري)، وهذا ما سيتضح إن شاء الله تعالى لنا بعد قليل في بيان تحديد الروضة، وإن كان الذي عليه العمل الآن عمل قول الجمهور، وهو الذي تعارف عليه الناس منذ قديم الزمان. لا خلاف أن المنبر حد، فإن جعلنا رواية (قبري) مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري) عرفنا بعد ذلك أن بيت عائشة هو المقصود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبره في بيت عائشة رضي الله تعالى عنه وأرضاها إذا جعلنا رواية قبري مخصصة لحديث بيتي فعرفنا أن الحدود من المنبر إلى القبر، وهذا قول مالك رحمه الله وعليه عمل الناس اليوم، فالحدود الموجودة الآن في المسجد النبوي الشريف الذي تحدد الروضة وتميز فرشها عن بقية المسجد هو المعمول به على هذه الرواية على أن المقصود: رواية (قبري) مخصصة لرواية (بيتي)، فيصبح المقصود بيت عائشة رضي الله تعالى عنه وأرضاها؛ لأن بيت عائشة هو الذي احتوى الجسد الشريف الطاهر. وإذا أطلقنا رواية (بيتي) فلا يخصص بيت عائشة دون غيرها من أمهات المؤمنين، فنجد أن لـ صفية رضي الله عنها وأرضاها بيتاً في الجهة الغربية من المسجد عند خوخة أبي بكر اليوم بجوار باب الرحمة، وهذا في الجهة الغربية من المسجد، لأن حجرة عائشة في الشرق من المسجد، وعلى هذا تصبح المسافة أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، فتصبح حجرة حفصة في الشمال الغربي وحجرة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها في الجنوب الغربي، والمنبر هذا المثلث يكون الروضة، وهو لا يمكن أن يكون مثلثاً بطريقة ظاهرة لكنه أشبه بالمعين في ما يقول أهل الرياضيات، والذي يعنينا الآن أن الروضة الشريفة صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفيها اسطوانات، ومكانها باقٍ إلى اليوم، فخلفاء المسلمين وملوكهم وسلاطينهم عبر الدهور إلى هذه الدولة المباركة -أيدها الله بنصره- يحافظون على الأسطوانة نفسها، فقد يتغير البناء لكن الموقع هو هو. ومكتون على كل اسطوانة: ما تعارف الناس عبر التاريخ عليه كاسطوانة التوبة التي تاب عندها الصحابي أبو لبابة رضي الله تعالى عنه، واسطوانة الوفود التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل عندها الوفود إلى غير ذلك من الاسطوانات. والذي يعنينا هنا: أنه كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يمكن الجمع بين فضيلتين: فضيلة الصلاة بالصف الأول، وفضيلة الصلاة في الروضة، وأما بعد ولاية عثمان رضي الله عنه وأرضاه وتوسعة المسجد إلى الجنوب فإنه لا يمكن للمرء أن يصلي بالصف الأول، وفي ذات الوقت يصلي في الروضة لبعد المسافة؛ لأن الصف الأول الآن ليس في الروضة، فعندما نصلي فرضاً نتقدم للصلاة في الصف الأول، ونحرص على فضيلة الصف الأول، وإما إذا جئنا نصلي نفلاً إذا دخلنا المسجد في أي ساعة من ليل أو نهار، فإننا نصلي في الروضة ما اسطعنا؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) هذا فيه بيان لفضل الروضة عن غيرها من المسجد، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد ذلك الفضل ولم يذكر الجزاء المعين عليه. وكان للمدينة إمام يصلي التراويح وهو شيخنا الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله تعالى، وقد ظل إماماً للمسجد النبوي خمسة وأربعين عاماً رحمة الله تعالى عليه، وهذا الرجل المبارك لم يكن يأخذ أجراً على إمامته فكان يقول: أنا إلى الأجر أحوج مني إلى الأجرة، والذي يناسب ذكره في الحديث عن الشيخ ابن صالح في هذه القضية أن الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله تعالى عليه كان يصلي في صلاة التهجد في رمضان في محراب النبي صلى الله عليه وسلم إماماً، فيمكن حينها لمن عاصر الشيخ أن يصلي بالصف الأول وبالروضة، فيجمع ما بين الفضيلتين: الصلاة في الصف الأول، والصلاة في الروضة. وقد من الله جل وعلا على كثير ممن عاصر الشيخ من تحقيق هذا الأمر، هذا الآن لا يعمل به لازدحام الناس فيما يبدو فيصلي الإمام التراويح والتهجد والفروض الخمس كلها في محراب عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وبقي أن نقول: إن هذه الروضة المباركة شهدت تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصل في مقام التعليم للعظات والوصايا المحمدية أنها كانت تنطلق من روضته صلى الله عليه وسلم في مسجده، والروضة على وجه الأخص هي مجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

تعظيم السنة النبوية والعمل بها

تعظيم السنة النبوية والعمل بها وهذا يسوقنا لحديث إلى مسألة بالغة الأهمية وهي تعظيم سنة صلى الله عليه وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالقرآن والسنة قرينان لا يتفرقان أبداً كلاهما يعضد الآخر، والصحابة رضي الله عنهم رقبوا هذا الأمر فكانوا يعظمون أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقديراته كما يعظمون القرآن، ولا يفرقون بينهما، وهذا هو فعل المؤمن الحق، فالله جلا وعلا يقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، فالإيمان بالرسل تعظيم أقواله وأخذها كأخذ الوحي تماماً صحيحاً أن السنة كلها مندرجة في آية واحدة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر:7]. وسنذكر نماذج لتعظيم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لسنة نبيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل النبي على علي رضي تعالى عنه وأرضاه وعلى فاطمة -وهي قصة شهيرة في قيام الليل-، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك جاءته فاطمة تطلبه خادماً فقال لها ولـ علي: (ألا أدلكما على خير من ذلك؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فهو خير لكم من خادم)، فـ علي رضي الله عنه أخذ بهذه الوصية النبوية والعظة المحمدية فكان لا يبيت الليل حتى يقولها، فقال له ذات مره بعض المعارضين له: ما نسيتها قط؟ قال: والله ما نسيتها، قال: ولا في ليلة صفين، وليلة صفين ليلة المعركة الشهيرة التي كانت بين معاوية وعلي رضي الله عنهما، فقال علي رضي الله عنه: (والله ما تركتها ولا في ليلة صفين). فهذا يبين لك الحفاوة التي تحلى بها الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم سنة نبينهم صلى الله عليه وسلم، بل إنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في باب كان في شرقي المسجد قال: لو تركنا هذا الباب للنساء، فسمعه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو يومئذ شاب في السادسة عشر تقريباً من عمره أو في الثامنة عشر، فـ ابن عمر عُمر حتى تجاوز الثمانين، وكان يسكن المدينة، أي: أنه عاش بعد هذه الوصية النبوية أكثر من ستين عاماً ومع ذلك لم يدخل ابن عمر من هذا الباب عملاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو تركنا هذا الباب للنساء)، ولو هنا تفيد الحث وليس أمراً قاطعاً صارماً، فإنه لم يقترن بوعيد ولم يقترن بلعن، وإنما هو أمنية نبوية، فأخذها ابن عمر على أعلى من محاملها مما يبين لك تعظيم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأقوال وأفعال نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. فنحن في زمن يجب فيه أن نحي سنة تعظيم أقوال نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن نأخذها مع القرآن، وأن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدي: كتاب الله وسنتي)، فالأخذ بالسنة مما يرفع الله جل وعلا بها قدر العبد، ويجعله في موطن شريف وموئل كريم، فمن أراد التوفيق في الدارين والسعادة في الحياتين فليعظم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترى حولك أحياناً في واقعك كثيراً من الناس الذين ترى عليهم أثر البركة والتوفيق والثبات، فإن قدر لك أن تعيش معهم أياماً وتخالطهم وجدت أنهم يعظمون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويعملون بها. وقد أدركنا أقواماً ولا حاجة للتسمية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشايخنا وغيرهم يعظمون سنة النبي تعظيماً جليلاً، ويأخذون بها ويتأسون بها، حتى إنني أذكر أنني ذات مرة قدر لي أن أسافر مع أحد أولئك الذين نحسبهم على كثير من الخير فقرأت عليه قصيدة فكان كلما قرأت عليه بيت يقول فيه: إيه، وهذا مأخوذ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلب من بعض الصحابة أن يسمعه شيئاً من أمية بن أبي الصلت، فكان كلما قال ذلك الصحابي بيتاً من الشعر كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إيه، أي: زدني، فهذا الرجل المبارك تلحظ منه إذا تبعت باقي حياته أن فيها توفيقاً وفيها السداد؛ لأنه يأخذ بالسنة. ويجب ألا يكون دراستنا للسنة إنما هو لحفظ المتون، أو لنطاول بها أقراننا، أو نبحث بها عن صدارة في مجالس الناس، لكن ينبغي أن تكون السنة النبوية هي الواقع المشهود والمنشود المطلوب، فنسعى في تحقيقها ونتأسى بفعله صلى الله عليه وسلم فنقدم ما قدمه الله، ونقدم ما قدمه رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفقه الكثير من المعاني الجميلة التي كانت في حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن فهم السيرة العطرة والأيام النضرة يساعد كثيراً في أن المرء يتحلى بحلية النبي صلى الله عليه وسلم، ويسير على طريقه وعلى هديه، فيوفق إلى كثير من الأعمال الصالحة.

تعظيم وإجلال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

تعظيم وإجلال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر البارودي رحمة الله تعالى عليه بعد ذلك في آخر ميمية الصلاة على الأصحاب والأنصار، والنبي صلى الله عليه وسلم كما نعظم سنته عليه الصلاة والسلام فإننا نعظم أولئك الرجال الذين حملوا إلينا سنته صلى الله عليه وسلم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شامه في جبين الأيام، وتاجاً على مفرق الأعوام، فحبهم دين وملة وقربة، فيجب أن ينظر إليهم المرء نظرة إجلال وإكبار وإعظام، وأن يعلم أنهم أدوا ما عليهم وبقي الذي لهم. جعلنا الله وإياكم ممن ملئ قلبه محبة وإجلالاً وتعظيماً لله، ثم ملئ قلبه محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ذلك الرعيل الأمثل والجيل الأول، من زكاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله. هذا ما تيسر إراده وتهيأ إعداده حول ميمية البارودي التي عارض فيها ميمية البوصيري قلناه. نسأل الله جلا وعلا التوفيق والقبول منه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.

[أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حادثة الإفك] [1]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حادثة الإفك] [1] لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد ربه خير عبادة، فيقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويصوم النهار. وقد حث النبي أمته على قيام الليل، وبين لهم أحسن الهدي في ذلك، فإن هديه صلى الله عليه وسلم هو أكمل الهدي في الصلاة والصيام وغيرهما. فمن أراد الفلاح والفوز فعليه باتباع سنته صلوات الله وسلامه عليه.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المشاهدون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وقد مرت معنا لقاءات تبين من خلالها المنهج الذي نسير عليه، فنعرض بعض القصائد التي قيلت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فنختار منها أبياتاً، ثم نزدلف من تلك الأبيات إلى بيان ما في الأيام النضرة والسيرة العطرة مما يمكن أن ننهل ونستقي منه. والقصيدة التي نختارها اليوم هي للدكتور ناصر الزهراني عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى، أي: أن القصيدة من الشعر العربي الحديث المعاصر. وهذه القصيدة نظمها قائلها في ثلاثة وستين بيتاً، وأراد أن تكون القصيدة بعمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخذت القافية الميمية، وهي من روائع ما قيل في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم. وسنختار في هذا اللقاء أبياتاً، ونختار في لقاءات أخر أبياتاً أخرى منها. قال الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: تعجب الخلق من دمعي ومن ألمي وما دروا أن حبي صغته بدمي أستغفر الله ما ليلى بفاتنتي ولا سعاد ولا الجيران في أضم لكن قلب بنار الشوق مضطرم أف لقلب جمود غير مضطرم منحت حبي خير الناس قاطبة برغم من أنفه لا زال في الرغم يكفيك عن كل مدح مدح خالقه واقرأ بربك مبدأ سورة القلم شهم تشيد به الدنيا برمتها على المنابر من عرب ومن عجم أحيا بك الله أرواحاً قد اندثرت في تربة الوهم بين الكأس والصنم نفضت عنها غبار الذل فاتقدت وأبدعت وروت ما قلت للأمم ربيت جيلاً أبياً مؤمناً يقظاً حثوا شريعتك الغراء في نهم محابر وسجلات وأندية وأحرف وقواف كن في صمم فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم من خالد من صلاح الدين قبلك من مالك ومن النعمان في القمم من البخاري ومن أهل الصحاح ومن سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم من ابن حنبل فينا وابن تيمية بل الملايين أهل الفضل والشمم من نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم ينام كسرى على الديباج ممتلئاً كبراً وطوِّق بالقينات والخدم لا هم يحمله لا دين يحكمه على كئوس الخنى في ليل منسجم أما العروبة أشلاء ممزقة من التسلط والأهواء والغشم فجئت يا منقذ الإنسان من خطر كالبدر لما يجلي حالك الظلم أقبلت بالحق يجتث الضلال فلا يلقى عدوك إلا علقم الندم أنت الشجاع إذا الأبطال ذاهلة والهندواني في الأعناق واللمم فكنت أثبتهم قلباً وأوضحهم درباً وأبعدهم عن ريبة التهم بيت من الطين بالقرآن تعمره تباً لقصر منيف بات في نغم طعامك التمر والخبز الشعير وما عيناك تعد إلى اللذات والنعم تبيت والجوع يلقى فيك بغيته إن بات غيرك عبد الشحم والتخم لما أتتك قم الليل استجبت لها العين تغفو وأما القلب لم ينم تمسي تناجي الذي أولاك نعمته حتى تغلغلت الأورام في القدم أزيز صدرك في جوف الظلام سرى ودمع عينك مثل الهاطل العمم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه. هذه بعض من أبيات الشيخ الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وسنقف عند بعض أبياتها. سنقف عند قوله: الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم وقبلها قال: لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم قيام الليل منقبة من أعظم مناقب الصالحين، قال الله جل وعلا: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]. وقال جل وعلا: {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أنزل عليه الملك أول الأمر وجاءه التكليف السماوي بهذه الرسالة العالمية السماوية؛ نزل يضطرب فؤاده وتتسابق رجلاه حتى وصل إلى بيت خديجة، والخائف دائماً يحتاج إلى شيء ثقيل عليه حتى يسكن، فلما دخل بيته قال: (دثروني دثروني)، والعرب تسمي الثياب الملاصقة للبدن شعاراً، وما زاد تسميه دثار، والنبي قطعاً عليه الصلاة والسلام لما قدم إلى خديجة كان عليه ثياب، لكنه كان يجد في نفسه رجفة لهول ما رأى، فأخذ ينادي: (دثروني دثروني) يريد شيئاً ثقيلاً على بدنه، لعله يسكن، فدثرته خديجة، فقال: (زملوني زملوني)، وهو نفس المعنى السابق، فزملته خديجة رضي الله عنها وأرضاه، فناداه ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وهذا قيام بالتكليف، وقد قال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ باقرأ وأرسل المدثر، وقال: (زملوني زملوني)، فأنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، وهذا ليس اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نداء له، بالصفة المتلبس بها، كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم علياً: أبا تراب؛ لأنه نام واضطجع على التراب رضي الله عنه.

قيام الليل زاد ومعين على تحمل التكاليف

قيام الليل زاد ومعين على تحمل التكاليف ولما أراد الله أن يكلف نبيه بين له ما يعينه على التكليف، فقال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6]. فأنت أيها النبي الكريم ستكلف تكليفاً عظيماً: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا))، وهذا القول الثقيل يحتاج منك إلى قيام في الليل، فإن أحسنت القيام بين يدينا في الليل رزقت التوفيق منا في النهار، فقام صلى الله عليه وسلم لربه في الليل حق قيام كما قال الدكتور ناصر وفقه الله: الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم آية هود هي: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (دب إليك الشيب، قال: شيبتني هود -أي سورة هود- وأخواتها)، مثل التكوير والنبأ والمرسلات التي ذكر الله جل وعلا فيهن حشر العباد وقيام الأشهاد، وذكر الله جل وعلا فيها ما يكون بعد نفخة الفزع من اضطراب السماء وغيرها.

هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل والذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناداه ربه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويحييه، إلا أنه من مجمل ما دل عليه قيامه في الليل أنه لم يقم صلى الله عليه وسلم ليلة بأكملها، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه في العشر الأواخر من رمضان كان يحيي الليل كله، فيجمع ما بين الصلاة، وتلاوة القرآن، والذكر والتسبيح، كما تقول عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فقيام العبد بين يدي ربه في الليل منقبة جليلة كان الصالحون قبلنا من لدن آدم وسيبقون إلى أن تقوم الساعة يحيون الليل بعضه أو كله، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى قيام داود، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود)، ثم فصل هذا الإجمال فقال: (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فهذا صيامه عليه الصلاة والسلام، أي: صيام داود، ثم قال في الصلاة: (كان ينام نصف الليل -أي داود-، ويقوم ثلثه، وينام سدسه). الصلاة إذا كانت بين منامين، يعني: نام الرجل في الليل ثم استيقظ فصلى، ثم عاد فاضطجع قبل الفجر، فهذه التي تسمى ناشئة الليل على أظهر أقوال أهل العلم، وهي المقصودة بقول الله جل وعلا في سورة المزمل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، فتحرر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل ويحييه لربه تبارك وتعالى. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيلاً ما ورد في كيفية صلاته صلوات الله وسلامه عليه وقيامه، مما يمكن للمرء أن يستن به بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فمن حيث الإجمال كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة، كما كان عليه الصلاة والسلام يقول في سجوده -لما سمعته عائشة -: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، جاء هذا في حديث صحيح، فهذا كله يندرج في إجمالنا لقيام ليل رسولنا صلى الله عليه وسلم.

تفصيل قيامه صلى الله عليه وسلم في الليل

تفصيل قيامه صلى الله عليه وسلم في الليل وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في روايات عدة صحيحة كيفية قيامه بالليل، فلما أرشد قال: (صلاة الليل مثنى مثنى)، فيتحرر من هذا ما يلي: أن يصلي الرجل ركعتين ركعتين، فإذا خشي الصبح وأراد أن يوتر أوتر بواحدة توتر له ما قد سلف، فهذه صورة من صور قيام الليل. الصورة الثانية: أن يوتر الإنسان بتسع، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ثمان ركعات متتابعات لا يجلس في واحدة منهن إلا في الثامنة، فيقول التشهد ويثني على الله ثم يقوم، فإذا قام قبل أن يسلم قام إلى الركعة التاسعة، فيصلي الركعة التاسعة ثم يجلس، فيتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يثني على ربه كثيراً ويدعو، ثم يسلم سلاماً يُسمع أهله، هذه صورة. الصورة الثالثة: نفس ما صنعه في الثمان والتسع يصنعه في الست والسبع، بمعنى أنه يصلي ست ركعات متتابعة ثم يجلس في السادسة، ثم يقوم قبل أن يسلم فيأتي بالسابعة، ثم يجلس فيسلم. الحالة الرابعة: أن يفعل ذلك أربع وخمس ركعات بنفس الطريقة الأولى، وقد كان أولاً يصلي الثمان والتسع، فلما ثقل وحمل اللحم كما تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها كان يصلي ست ويوتر بالسابعة، ثم نقل عنه نقلاً صحيحاً أنه كان يصلي ركعتين وهو جالس بعد الوتر، وهذه سنة اختلف الناس في فهمها أو في قبولها، والأظهر والعلم عند الله أنها سنة ثابتة صحيحة كما عند مسلم في الصحيح فلا يمكن دفعها، وهذه السنة لا تعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم وتراً)؛ لأن الذي قال: (اجعلوا آخر صلاتكم وتراً) هو الذي صنع هاتين الركعتين، وقد جاء بسند لا بأس به: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بالزلزلة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، ويقرأ في الركعة الثانية: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1])، فهذا حال صلاته وهو جالس صلاة ركعتين بعد وتره صلوات الله وسلامه عليه. ونقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ بسبح والكافرون وقل هو الله أحد عند ختم صلاته، يعني: عندما يصلي مثنى مثنى يأتي بركعتين في الأخير يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بسورة قل يا أيها الكافرون، ثم يأتي بركعة بواحدة منفصلة يقرأ فيها بقل هو الله أحد. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي أن يقول في قنوته في وتره: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، واصرف عني ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك)، إلى هنا تقريباً انتهى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن أن يقوله في قنوته، والإطالة التي يصنعها الأئمة الآن لا بأس بها إذا كانت إطالة قليلة، لكنه لا ينبغي أن تكون الإطالة زائدة عن الحد، أن أو تورث في الناس السآمة والملل، أو أن تكون دعاء مكرراً أو ما أشبه ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوخى جوامع الكلم في دعائه وفي حديثه للناس. فهذا بعض ما نقل إلينا من قيام الليل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عائشة تقول: (يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن)، فقولها: أربعاً فيه إجمال، فسره قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى)، فلعل أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها تقصد أنه كان يصلي ركعتين ثم يتبعها بركعتين، ثم يستريح، وهذا معنى قولها: (صلى أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن)، وذات مرة قام صلى الله عليه وسلم يصلي، فقرأ بالبقرة، ثم قرأ بالنساء، ثم قرأ بآل عمران، وهذا فيه دلالة ظاهرة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام جداً، والناس مأمورون جملة بقيام الليل، وكل بحسب طاقته وبدنه وصحته، لكن من المهم جداً أن يكون لك أيها المؤمن وأنت تكون لك أيتها المؤمنة حظ من قيام الليل بين يدي ربك جل وعلا. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الركوع والسجود فقال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، قال في أول الحديث: (أما وإني نهيت أن أقرأ القرآن ساجداً أو راكعاً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم)، ولا يوجد حالة للعبد هو أقرب فيها إلى الله من حال السجود، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ولهذا قدم الله السجود على القيام في كتابه، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9]، وجاء في الخبر الصحيح عن عصاة بني آدم من المؤمنين عندما يدخلون النار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار أن تأكل أعضاء السجود من بني آدم)، فعصاة المؤمنين من بني آدم وهم من كتب الله عليهم النار -نسأل الله لنا ولكم العافية- تحرق النار فيهم كل شيء إلا أعضاء السجود، وهذا ينبيك عن عظمة السجود لرب العالمين جل جلاله.

أنواع السجود

أنواع السجود والسجود يقع أيها المبارك -كما دلت عليه سنة أحمد التي نحن نتلمسها في هذه المدائح- على أحوال: يقع السجود كجزء من الصلاة فرضاً ونفلاً، وهذا ظاهر. ويقع السجود سجود تلاوة، وذلك في أن يقرأ الإنسان آية سجدة فيسجد، فهذه قد جاء في السنن والمسند: (أن الرجل المؤمن إذا قرأ القرآن فمر بآية سجدة فسجد يعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلاه أمر بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار) فهذه الحالة الثانية للسجود. الحالة الثالثة: سجود الشكر، وذلك أن يبشر الإنسان بدفع نقمة أو بحلول نعمة فيسجد، وسجود الشكر على الأظهر لا يلزم له طهارة؛ لأن الإنسان لا يدري على أية حالة يبشر، والقبلة يجتهد فيها قدر الإمكان، وغالباً أن الإنسان في بلده أو في موطنه يعرف اتجاه القبلة، لكن لو فرضنا أنه في سفر ولم يكن قد تبينت له قبلة فيسجد على أي حال كان: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]. فالمقصود أن سجود الشكر حالة وسجود التلاوة حالة، والسجود داخل الصلاة فرضاً ونفلاً حالة. ويبقى سجود يكون داخل الصلاة ويسمى سجود السهو، وهذا له أسبابه، من ترك ركن نسيان ركن أو نسيان واجب، وفي كل الأحوال يسبح الإنسان ربه، ويتوسل إلى خالقه ومولاه، ويسأله من خيري الدنيا والآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم كما بينا: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير وحري- أن يستجاب لكم).

خيرة الله للعبد خير من خيرته لنفسه

خيرة الله للعبد خير من خيرته لنفسه هناك مخاوف نحذرها لا يدفعها إلا الله، وهناك رغبات وأماني وآمال نطلبها لا يحققها إلا الله، فكلما خلصت نية العبد وصفت سريرته وازدلف إلى ربه وأظهر لله فقره في السجود وفي غيره نال ما عند الله جل وعلا من العطايا، والرب تبارك وتعالى أرحم بنا من أنفسنا، فقد لا يستجاب لنا في أمر أعظم في أنفسنا، وقد يعجل لنا الثواب، وقد يؤخر، لكن ينبغي عليك أن تكون حسن الظن بربك جل وعلا، وأن تعلم حقيقة علمها الله نبيه وهي: أن خيرة الرب لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وسأضرب لك مثلاً من القرآن يدل على هذا المعنى أختم به هذه اللقاء. فموسى عليه الصلاة والسلام خرج من أرض مصر يتبعه فرعون وجنده، فلما وصل موسى إلى شاطئ البحر قال بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فورد أنه قال: باسم الله، انفلق أبا خالد، وهي كنية البحر، فانفلق البحر، وأياً كان الأمر سواء قالها موسى أو لم يقل فقد انفلق البحر، ولما انفلق البحر أصبح البحر اثني عشر طريقاً يبساً، فمشى موسى والمؤمنون الذين معه وتجاوزوا إلى الشق الآخر، فلما وصل موسى إلى الشق الآخر كان فرعون داهية بمعنى الكلمة، فلم يأمر فرعون جنده أن يعبروا البحر، بل توقف ينتظر ماذا سيحل بموسى، لكن لا يمكن أن يرقى مكر فرعون إلى مكر الله؛ ففرعون منع جنده أن يعبروا البحر فوقف ينظر ما الذي سيحل بموسى، وموسى عليه السلام نجا هو المؤمنون جميعاً إلى الشق الآخر، فلما وصلوا إلى الشق الآخر أراد موسى ألا يصل إليه فرعون، فبدهي من موسى أن يضرب البحر بعصاه حتى يعود بحراً فيمتنع فرعون، فينجو موسى ويعود فرعون، فهذا اختيار العبد الكليم موسى بن عمران، لكن الله قال لموسى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، أي: اتركه ساكناً، أي: أنت لا علاقة لك بالموضوع، فلم يقدر موسى أن يضرب البحر؛ لأن الله نهاه، فبقي البحر يبساً كما هو، فاقتنع فرعون أن البحر سيبقى يبساً أبد الآبدين، فهنا اطمأن فرعون فعبر، فلما عبر واكتمل جنده في البحر أمر الله البحر أن يعود بحراً فعاد بحراً، فأغرق فرعون وجنده ونجا موسى، فكانت خيرة موسى أن ينجو وأن يعود فرعون، وكان قدر الله أن ينجو موسى ويغرق فرعون، فتعلم بذلك أن خيرة الرب لعبده خير من خيرة العبد لنفسه. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول الجزء الأول من ميمية الدكتور ناصر الزهراني في مدح سيد الخلق محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم. أسأل الله لي ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله. والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حادثة الإفك] [2]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حادثة الإفك] [2] لقد رمى المنافقون عرض النبي صلى الله عليه وسلم فصبر وصبرت زوجته عائشة رضي الله عنها، فأنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات في قرآن يتلى إلى يوم القيامة. وتوعد الله المنافقين بالعذاب الأليم، بعد أن وبخهم في القرآن الكريم.

اصطناع الله نبيه لنفسه

اصطناع الله نبيه لنفسه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدينن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وكنا قد تكلمنا في اللقاء الماضي عن ميمية الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنها ميمية حوت ثلاثة وستين بيتاً من الشعر على قدر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكلمنا وعلقنا على بعض أبيات منها، واليوم نستأنف الحديث عنها ونذكر الجزء الثاني من القصيدة، ثم نعلق عليه بعون الله وفضله ورحمته. قال الزهراني حفظه الله: فوضت أمرك للديان مصطبراً بصدق نفس وعزم غير منثلم ولى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لازلت في الرحم وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولت بالغ الحلم ومات جدك من بعد الولوع به فكنت من بعدهم في ذروة اليتم فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلى الجزور بكف المشرك القزم أما خديجة من أعطتك مهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم عادت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم والقلب أفعم من حب لعائشة ما أعظم الخطب فالعرض الشريف رمي وشج وجهك ثم الجيش في أُحد يعود بين مقتول ومنهزم لما رزقت بإبراهيم وامتلأت به حياتك بات الأمر كالعدم ورغم تلك الرزايا والخطوب وما رأيت من لوعة كبرى ومن ألم ما كنت تحمل إلا قلب محتسب في عزم متقد في وجه مبتسم بنيت بالصبر مجداً لا يماثله مجد وغيرك عن نهج الرشاد عمي يا أمة غفلت عن نهجه ومضت تهيم من غير هدي ولا علم يوماً مشرقة ويوماً مغربة تسعى لنيل دواء من ذوي سقم لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم هذا الجزء الثاني من القصيدة التي قالها الدكتور الزهراني في مدح سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسنقف وقفات مع هذه القصيدة، ووقفاتنا كالتالي: نلحظ في القصيدة أن الشاعر وفق في مسألة أن الله جل وعلا أراد أن يصطنع هذا النبي لنفسه، وإن كان الشاعر لم يقل ذلك صراحة، وإنما ذكرها من باب الصبر على الرزايا، لكن هناك من يقول: إن الله جل وعلا اختار محمد بن عبد الله واصطفاه من الخلق أجمعين، وحتى يكون هذا العبد الصالح والنبي الكريم لربه لا غيره فإنه قدر عليه أن لم ير والده قط، فمات والده وهو حمل في بطن أمه، فلما ولد لم يكن هناك شفقة من الوالد عرفها صلى الله عليه وسلم فيتعلق بها، ثم ما لبث أن تعلق بأمه، وما أن شب وتعلق بأمه وبلغ ست سنين إلا واختار الموت تلك الأم فماتت بالأبواء، فلما ماتت تعلق صلى الله عليه وسلم بجده عبد المطلب، فما أن بدأ قلبه يتعلق بجده حتى مات الجد، فلما بلغ مبلغ الرجال وبلغ أشده ونبئ صلوات الله وسلامه عليه نصره عمه، فلما رأى نصرة عمه تزداد يوماً بعد يوم ويقف عمه أمام كفار قريش؛ حماية لابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يموت أبو طالب فيصبح هذا القلب النبوي لا يعرف منة لأحد عليه، ويصبح معلقاً كل التعلق بربه تبارك وتعالى، وهذا من اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله عن كليمه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، فالأنبياء يصطفون لربهم جل وعلا، ولا ريب أن نبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة منهم صلوات الله وسلامه عليه، فالله جل وعلا اصطنعه لنفسه، ولذلك نشأ صلى الله عليه وسلم لا يتعلق إلا بربه، وحتى يزداد الأمر يقيناً عندك أيها المبارك تدبر غزوة بدر، ولا نريد من تدبرها أن نحفظ أرقاماً؛ قتل كذا من المؤمنين وقتل كذا من المشركين، لكن تأمل أولها، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه يريدون القافلة، فقال الرب تبارك وتعالى لهم قبل أن يحسم أمر القافلة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، فالله جل وعلا وعد نبيه وأصحابه إما أن يدركوا عير قريش، وإما أن ينتصروا، ومع ذلك فرت العير ونجا أبو سفيان، فلم يبق من موعود الله إلا الأمر الثاني؛ لأن الله جل وعلا وعد نبيه إما عير قريش وإما النصر، فقول ربنا: إحدى الطائفتين ليس المقصود منه النصر أو الشهادة فهذا محال، وإنما المقصود منه إما العير وإما النصر، ولهذا قال الله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فلما فرت العير أصبح واضحاً جلياً أن الفريقين سيلتقيان وأن النصر للمؤمنين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم بدراً وهو يعلم علم اليقين أن النصر له، ومع ذلك لأن قلبه معلق بالله أظهر هنا في ليلة بدر كمال العبودية، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويتوجه إليه ويسأله ويلح على ربه في السؤال ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً)، فالإلحاح هنا لإظهار عبوديته لربه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا ثمرة طبيعية لتربية الله له واصطفاء الله جل وعلا له دون سائر الخلق، فالأم تموت قبل أن يتعلق بها تعلقاً تاماً، ثم يتعلق بالجد فيموت الجد، ثم يتعلق بالعم فيموت العم، فلا يبقى في البيت إلا خديجة فتموت خديجة، حتى يصبح صلى الله عليه وسلم يمشي على الأرض وقلبه معلق بربه، ومن قبل ذلك فالإنسان يبقى معترفاً بوالديه بالتربية والحنان والعطف والتنشئة، فمات أبوه وأمه وهو صغير حتى يمشي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد من أهل الأرض عليه منة إلا منة ربه تبارك وتعالى، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله من اصطفاء الرب تبارك وتعالى له. لقد وفق الشاعر في قضية تسلسل الأمر، وجعل ثمرته الصبر، ولو أنه جعلها في كيفية بناء الله جل وعلا لشخصية نبيه لكان أولى وأحرى.

فضل عائشة

فضل عائشة ثم ذكر الشاعر مسألة أن عائشة رضي الله عنها رميت، فقال: ما أعظم الخطب فالعرض الشريف رمي هذا بعد أن أفعم قلبه صلى الله عليه وسلم بحب عائشة، وعائشة هي البكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فكل أزواجه قبلها وبعدها كانت كل واحدة منهن سيدة، ونبينا صلى الله عليه وسلم منّ الله جل وعلا عليه بتعدد النساء، وقد كان هذا سنة في الأنبياء من قبله، ولهذا قال الرب تبارك وتعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:38] أي: من أنبياء الله ورسله، وقال الله جل وعلا عن بعض أنبيائه ورسله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، فهو صلى الله عليه وسلم قد منّ الله جل وعلا على بعض النساء أن اختارهن الله زوجات لنبيه وأشرف خلقه عليه الصلاة والسلام ومنهن عائشة بنت الصديق، والأربعة الراشدون الذين حول النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لو تأملناهم لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت أبي بكر وبنت عمر، وزوج عثمان وعلياً، فتزوج صلى الله عليه وسلم بنت أبي بكر وهي عائشة، وتزوج بنت عمر وهي حفصة، وزوج عثمان: رقية ثم أم كلثوم، وزوج علياً: فاطمة، فالأربعة الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم معهم نسب واتصال غير اتصال الصحبة مع رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. فكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها أحظى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الشاعر هنا يذكر أن القلب أفعم حباً لـ عائشة بعد موت خديجة، لكن هناك مرحلة زمنية ما بين خديجة وعائشة، نعم خديجة لا يرقى إليها أحد من النساء، قال صلى الله عليه وسلم: وقد قالت له عائشة وقد غضبت وأصابها ما يصيب النساء، قالت: وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان قد أبدلك الله خيراً منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله ما أبدلني الله خيراً منها؛ لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، وكان لي منها الولد، ثم قال: ورزقت حبها)، فكان صلى الله عليه وسلم قد رزقه الله حب خديجة، فيجب أيها المؤمن! أن تلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج امرأة على خديجة، فـ خديجة كانت واحدة في بيت النبوة، ثم ماتت، وبعد أن ماتت تزوج النبي صلى الله عليه وسلم النساء مثنى وثلاث كما أباح الله تبارك وتعالى له.

حادثة الإفك

حادثة الإفك ومسألة رمي عائشة رضي الله تعلى عنها تسمى في عرف أهل السيرة بحادثة الإفك؛ لأن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وقبل أن أزدلف إلى القصة كاملة ثم أحرر ما فيها من معان زاهرة، أنبه إلى أن كلمة الإفك معناها الكذب، وتقال عندما يريد أحد أن يجعل من الباطل حقاً، ويريد أن يغير الواقع، فيسمى ذلك إفكاً، قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]، والمؤتفكة هم قوم لوط لما قلبوا الفطرة وأتوا الذكران من العالمين، فعاملهم الله بالمثل، فقلب عليهم الأرض وجعل عاليها سافلها، قال الله جل وعلا: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82]، هذا الأمر سماه الله إفكاً؛ لأن الأمر انقلب عليهم، فسمى قوم لوط بالمؤتفكة. وحديث الإفك سمي بحديث الإفك لأن عبد الله بن أبي المنافق المعروف ومن معه من مرضى القلوب أرادوا أن يجعلوا من عائشة الطاهرة المبرأة ومن الفراش النبوي الطاهر الكريم أن يجعلوه عرضة ومقاماً ومكاناً للفواحش، فأرادوا من أن يجعلوا عين الحقيقة باطلاً، وهذا محال، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]. وعلى عجل أسرد الخبر، ثم أذكر ما فيه من معان زاخرة. خرجت عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع لما أجريت القرعة، وكانت يوم ذاك صغيرة خفيفة اللحم لم تتجاوز على الكثير أربعة عشر عاماً؛ لأن غزوة المريسيع كانت تقريباً في السنة الخامسة، وعائشة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمانية عشر عاماً، وكانت خفيفة البدن قليلة اللحم، فلما كان الجيش عائد وقبل أن يصلوا إلى المدينة كانوا في مكان يسمى اليوم بالعشيرة، وهو إلى الآن موجود قبل المدينة بحوالي ثلاثين كيلو، فأناخ الجيش مطاياه كالعادة في نحر الظهيرة، وذهب كل لشأنه، فخرجت عائشة لبعض حاجتها، وكانت عليها قلادة أهدتها إياها أمها، فلما عادت إلى مكانها لم تجد القلادة، فبدهي أن ترجع إلى المكان الذي ذهبت إليه، فخرجت تبحث عن القلادة، وفي هذه الفترة التي تبحث عنها -والله جل وعلا يحكم ما يشاء فوق عرشه ويقدر ما يريد- قام الجيش ورحل، فعادت عائشة فلم تجد الجيش، فكان كل ما كانت تحمله من هم وما تفكر فيه أن الجيش لا يلبث أن يفقدها فيعود، والذين حملوا الهودج ظنوا أن أم المؤمنين فيه ولم يشعروا بأنها ليست فيه؛ لأنها كانت خفيفة اللحم، ثم عادت عائشة رضي الله عنها وأرضاها إلى المكان الذي فيه الجيش واتكأت على جذع شجرة تنتظر أن يعود إليها أحد، وبقدر الله غلبها النوم، فجاء صفوان بن المعطل، وهو صحابي اشتهر أنه كان كثير النوم، ولأمر ما بقدر الله تأخر عن الجيش، فلما وصل إلى المكان الذي كان الجيش منيخاً فيه رأى أم المؤمنين، والإنسان إذا نام يتكشف فرأى وجهها وعرفها؛ لأنه كان يعرفها قبل أن تنزل آية الحجاب، فلما رآها ماذا قال؟ وفق، والإنسان إذا وفق عند اللحظة الأولى فما بعدها تبع لها، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه كيف يتعامل مع الأحداث إذا وقعت، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأفاقت أم المؤمنين على استرجاعه فاسترجعت، وقالت كلمة سأقولها في آخر الكلام، ثم أدنى منها ناقته وركبت الناقة وهو يقودها ومضوا، وكان الجيش منيخاً والناس في عز الظهيرة ماكثون، وإذا بالناقة يقودها صفوان وعليها أم المؤمنين، فرآها عبد الله بن أبي فقال عليه من الله ما يستحق: امرأة نبيكم مع رجل؟ والله ما سلمت منه ولا سلم منها، ثم أخذ يفرق الكلام ويجمع ويزيد فيه وينقص منه، وعائشة رضي الله عنها لا تدري عن ذلك شيئاً، فشاع الخبر حتى وصل إلى أم مسطح ومسطح فقير من قرابة أبي بكر وكان أبو بكر ينفق عليه، وكانت أمه تتضجر من كون مسطح خاض في الحديث، فأرادت أن تخبر عائشة الخبر، فذات يوم خرجت عائشة مع أم مسطح فعمداً عثرت أم مسطح؛ تريد أن تفتح الباب للكلام، فقالت بعدما عثرت -والإنسان جبلة يا أخي إذا عثر وسقط يردد كلمة فيقول: باسم الله، خير إن شاء الله، فهذا بدهي في الإنسان-: تعس مسطح، فسكتت عائشة، وبعد قليل سقطت مرة أخرى فقالت: تعس مسطح، فتعجبت عائشة كيف تدعين على رجل شهد بدراً هذا وهو ولدك، فأخبرتها الخبر، ففجعت أم المؤمنين وفوجئت، فعادت وقد شعرت من قبل أنها تفقد اللطف الذي تراه في النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استأذنت النبي عليه السلام أن تذهب إلى أبويها حتى تستفتح الخبر، فعادت إلى أبويها، وكان الصديق أكمل الناس أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على سطح البيت يقرأ القرآن ويبكي، وزوجته أم رومان تبكي وعائشة كذلك، ومع ذلك كان يستحيي أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله عن الخبر، وسكت النبي لأن الوحي سكت، فلما سكت نبي الله سكت أبو بكر، وهذا من كمال الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الناس فاستشار علياً، فغلبت على علي عصبته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه، فقال: تلميحاً لا تصريحاً النساء غيرها كثير، وأما أسامة فنصح النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقي على عهده، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استشار إحدى أمهات المؤمنين وهي التي كانت تسامي عائشة وتنازعها في المنزلة، فقالت: أهلك ولا نعلم إلا خيراً، فأثنت على عائشة، وهذا من حفظ الله لتلك المرأة العظيمة. وموضع الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة أتى إلى عائشة في بيت أبويها وسألها إن كان وقع منها ذنب أن تستغفر أو أن تعترف، فقالت: لا أجد إلا ما قال أبو يوسف -نسيت اسم يعقوب-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، وهنا نزل الوحي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، فبرأ الله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولما برأها الله قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! أما الله فقد برأك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله، فاتكأت على محبة رسول الله لها، وعلى أنها بريئة وقالت: والله لا أقوم إليه، ولكن أحمد الله)، فهي لم تفعل هذا من باب أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لا تعرف قدر رسول الله لا، فهي أم المؤمنين الصادقة الصديقة بنت الصديق، لكنها قالت ذلك مدلة بعظم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.

الذين اتهموا وبرأهم القرآن

الذين اتهموا وبرأهم القرآن وهنا نقف قبل أن أسترسل في مسألة ما الذي تستفيده أنتَ وأنتِ أيتها المباركة عندما نتكلم عن قضية الاستنباط من الآيات، نحن لم نأت هنا لنذكر تاريخاً نقرؤه قرأه عشرات والمئات قبلنا، لكن نأتي هنا لنذكر استنباطات نقدمها للناس؛ حتى يعرف الناس بأي طريقة يقرءون القرآن، ويستنبطونه، ويعرفون ما فيه من مناهل، ففي كتاب الله جل وعلا وفي السنة أيضاً ذكْر أربعة اتهموا، والأربعة هؤلاء الذين اتهموا برأهم الله، فنأخذهم تاريخياً: فيوسف عليه السلام اتهم بامرأة العزيز، فبرأه الله، قال الله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26]، فجعل البراءة على يد رجل أو طفل كان موجوداً في الدار، وأما موسى عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث القدسي أن الحجر شهد له لما أخذ ثيابه، فأصبح يتبعه فرآه بنو إسرائيل عرايناً، فعرفوا أنه بريء مما رموه به من عاهة في جسده. ومريم الصديقة اتهمها قومها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27]، فبرأها الله بأن أنطق الله نبيه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]. والرابعة: عائشة فقد اتهمت في عرضها، فبرأها الله بآيات أنزلت من فوق سبع سماوات تتلى إلى يوم القيامة: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]، فهذا كلام رب العزة فيه البراءة العظيمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها. فهذا أول ما يمكن أن نأخذه من معان زاخرة من حديث الإفك.

أرجى آية في القرآن

أرجى آية في القرآن الأمر الثاني: كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ينفق على مسطح؛ لأن مسطحاً كان فقيراً، فلما ثبت لدى أبي بكر براءة ابنته وأن مسطحاً كان ممن خاض في حديث الإفك أقسم ألا ينفق على مسطح، وذنب مسطح أنه وقع في عرض النبوة، وهو ذنب يحط النجم من قدره كما يقول العلماء، ومع ذلك عاتب الله أبا بكر لأنه حرم مسطحاً مما كان يعطيه، قال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:22]، فذكر الله جل وعلا ذووا القربى، فهذه الآية قال بعض العلماء: إنها أرجى آية في كتاب الله، لماذا أرجى آية في كتاب الله؟ إن الله جل وعلا سمى مسطحاً مؤمناً ومهاجراً ولم يحبط الله جهاد مسطح وهجرته، مع أن مسطحاً وقع في كبيرة من أعظم الكبائر وهو الخوض في بيت النبوة، ومع ذلك لم يحبط الله جل وعلا عمله، وأمر أبا بكر أن يبقى على صلته له، فإذا كان هذا ذنب مسطح ومع ذلك لم يحبط الله عنه عمله السابق إذاً فهذا الآية من أعظم آيات الرجاء. وبعض العلماء يقول: إن أرجى آية في كتاب الله هي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] آية المداينة، وهي أطول آية في كلام الله، قال الفقهاء والعلماء والمفسرون: إن هذه الآية فيها دلالة واضحة على عناية الله جل وعلا بمال المؤمن في الدنيا فكيف بعناية الله جل وعلا بالمؤمن في يوم القيامة يوم يكون أحوج ما يكون إلى رحمة ربه. وذهب فريق آخر إلى أن أرجى آية في كلام الله هي قول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:32 - 33]، قالوا: إن واو الجماعة في قول الله جل وعلا: ((يَدْخُلُونَهَا)) تعود إلى الظالم نفسه وإلى المقتصد وإلى المحسن السابق في الخيرات، حتى قال بعض العلماء: إن هذه الواو ينبغي أن تكتب بماء العينين لا بماء الحبر. هذا ما تيسر إيراده في هذا اللقاء المبارك حول قول الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعظم الخطب فالعرض الشريف رمي والقصيدة زاخرة بكثير من المعاني، وسنعلق ونواصل التعليق عليها في اللقاء القادم إن شاء الله. وصلى الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حسبنا الله ونعم الوكيل] [3]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من ميمية الشيخ ناصر الزهراني - حسبنا الله ونعم الوكيل] [3] لقد برأ الله تعالى في القرآن الكريم بعضاً ممن اتهم كيوسف وعيسى عليهما السلام، ومريم وعائشة رضي الله عنهما وغيرهم، وكانت تبرئة عائشة أعظم التبرئات، فقد برأها في أعظم كتاب، وجعل ذلك يتلى إلى يوم الدين.

براءة عائشة مما رميت به

براءة عائشة مما رميت به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد كنا قد تكلمنا في اللقاء الماضي في لقاءاتنا هذه الموسومة بالمدائح النبوية عن ميمية الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. واليوم -أيها المباركون والمباركات! - نستأنف ذلك الحديث الذي كنا قد انتهينا فيه إلى ما ذكره الشاعر في قصيدته عن رمي عرض النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحديث عن حادثة الإفك. سنعيد قراءة بعض الأبيات ونكمل ما لم نقرأه في اللقاء الماضي، ثم نعرج على التعليق عليها كما هو حالنا في كل لقاء. قال المادح: فوضت أمرك للديان مصطبراً بصدق نفس وعزم غير منهرم ولى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لازلت في الرحم وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولت بالغ الحلم ومات جدك من بعد الولوع به فكنت من بعدهم في ذروة اليتم فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلى الجزور بكف المشرك القزم أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك ثياب العطف والكرم عادت إلى جنة الباري ورحمته وأسلمتك لجرح غير ملتئم والقلب أفعم من حب لعائشة ما أعظم الخطب فالعرض الشريف رمي وشج وجهك ثم الجيش في أحد يعود بين مقتول ومنهزم لما رزقت بإبراهيم وامتلأت به حياتك بات الأمر كالعدم إلى أن قال: إن أبصرت بيدة من نور سنته فطائر السعد لم يهوِ ولم يحم غنى فؤادي وذابت أحرفي خجلاً ممن تألق في تبجيله كلمي يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم تجود بالدمع عيني حين أذكره أما الفؤاد فللحوض العظيم ظمي يا رب لا تحرمنّي من شفاعته في موقف مفزع بالهول متسم هذه بعض الأبيات التي قالها الدكتور ناصر الزهراني في ميميته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نبهنا قبل لقاءات إلى أن القصيدة ثلاثة وستون بيتاً على قدر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبدأ هنا من حيث انتهيت في اللقاء الماضي من خبر عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحررنا هنالك معنيين مهمين: الأول منهما: أن الله جل وعلا برأ عائشة بكلامه، أي: بقرآن أنزل من فوق سبع سماوات، وقلنا وقتها: إن الله جل وعلا برأ عيسى وبرأ موسى وبرأ يوسف، وكل كانت في البراءة، إلا أن تبرئة الطاهرة عائشة كان أعظم؛ ذلك أنه أنزل في خير كتاب، وهذا حرره كثير من العلماء كما تراه عند القرطبي في الجامع وعند غيره.

أرجى آية في القرآن

أرجى آية في القرآن ونأتي إلى مسألة أخرى حررناها في اللقاء الماضي، وهي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما أقسم ألا ينفق على مسطح -وكان ينفق عليه من قبل- فإن الله جل وعلا عاتبه وندبه إلى الإنفاق وقال: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، وقلنا: إن العلماء يقولون في هذا: إن هذه أرجى آية في كلام الله.

تفويض عائشة أمرها إلى الله تعالى

تفويض عائشة أمرها إلى الله تعالى وذكرنا وقتها أن عائشة رضي الله تعالى عنه وأرضاها لما رأت صفوان بن المعطل قالت كلمة، ولم نفصح عن تلك الكلمة حينها من باب التشويق، والآن نذكرها. عائشة رضي الله عنها جلست مع إحدى أمهات المؤمنين وهي حفصة بعد حادثة الإفك بأشهر، وأخذا يتحادثان ويتبادلان الحديث، فقالت حفصة لـ عائشة رضي الله عنهما وعن أبويهما قالت لها: عندما رأيت صفوان بن المعطل ماذا قلت؟ قالت: قلت: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكلمة حسبنا الله ونعم الوكيل من أعظم ما يتحصن به المسلم، قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وقال الله بعدها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174]، ونحن في هذه الحياة الدنيا نرى من الخطوب ونسمع من الفواجع، وهذا لا يسلم منه أحد، والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، والدنيا طبعت على هذا ولا انفكاك، لكن حري بالمؤمن أن يتعلم كلمات يقولوها؛ حتى تكون عوناً له من الرب تبارك وتعالى، ومن أعظم هذه الكلمات: حسبنا الله ونعم الوكيل، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه أن صاحب القرن -وهو إسرافيل- قد حنى وأصغى أذنه ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، ثم قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: (قالوا: كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، فالمؤمن يتدبر المعاني العظيمة في هذه الكلمات، اطمأن قلبه وسكنت نفسه، وهذا مندرج في قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ولا ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى أحد غير ربه، فمن خاف من شيء فر منه إلا من خاف من الله فر إليه، ولا أحد يكفي ويمنع ويعطي ويرفع إلا الله جل وعلا. قالوا عن رجل من السلف يقال له: أبو حاتم أراد الحج فكان كلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده، ولم يكن له إلا إناث، فقالت له ابنته الكبرى ذات يوم: يا أبتاه! حج وأوكل أمرنا إلى الله، فأخذ برأي ابنته الكبرى وتوجه إلى الحج، فحين توجه إلى الحج ما أمسوا إلا والفتاة الكبرى ترى صغار إخوتها يتضاغون عند قدميها، ولم يكن عندهم إلا الماء من شدة الفقر، وبيتهم في أطراف البلدة، فأخذت تلجأ إلى ربها وتسأله ألا يفضحها أمام إخوتها، فقدر أن يدخل القرية أحد الأثرياء الأمراء ومعه حاشيته وخدمه عطَّش، فأراد الخدم أن يتقربوا إلى سيدهم فطرقوا أول بيت يقابلونه فكان بيت أبي حاتم، فسألوهم ماء، والماء يا أخي يوجد في بيوت الفقراء وبيوت الأغنياء، فقالوا: هل عندكم من ماء؟ قالوا: نعم، فأعطوهم ماء، فقدر للأمير أن يشرب الماء على حدة الباب، فأخذ يجول بطرفه في البيت فعرف فقرهم، فشرب الماء وأراد أن يكرمهم وهو غاد في سفره، فرمى لهم بصرة فيها مئات الدنانير، فقالت تلك المرأة الفتاة العارفة بربها لما قلبت الصرة، قالت: هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا! فالله جل وعلا علمنا على لسان نبيه وفي كتابه أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذه أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ابتليت ذلك الابتلاء، بقيت وحيدة فجاءها رجل غريب، صحيح أنه من أصحاب نبيها صلى الله عليه وسلم، لكن ليس له نسب ولا حرمة، وليس بينهم إلا ما يكون بين الرجل والمرأة، فلما رأته اعتصمت بربها، فقالت: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحياة يا أخي! دوائر، فالإنسان قد يبتلى فإن نجح زادت دائرة الابتلاء، فإن نجح زادت دائرة الابتلاء؛ حتى يمحص من الذنوب، فترفع درجاته وتكفر سيئاته. فـ مريم عليها السلام كانت زاهدة عابدة، لكن كانت زاهدة عابدة في المحراب لا ترى الرجال ولا يرونها، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، وفي هذه المواقف كانت مريم زاهدة عبادة وهذا حق من ثناء الله عليها، فقدر لها أن تخرج، فالآن انفكت من المحراب، والدائرة بدأت تتسع، وبدأت تتسع العطايا وتأتي بعد التمحيص والابتلاء. قيل للشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى؟ قال: سبحان الله! وهل يمكَّن حتى يبتلى، فهذه مريم خرجت، فلما خرجت في البرية غاب عنها عين الرقيب، وجاءها جبريل في صورة شاب جميل وسيم تام الخلقة وهي امرأة، لكنها بقيت على دينها وتقواها التي كانت في المحراب، فقالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] ألتجئ إلى الله، ((إِنْ كُنتَ تَقِيًّا)) والذي يظهر لي أن جواب الشرط محذوف، والمعنى: إن كنت تقياً فاتركني، فنجحت في الابتلاء، فلما نجحت في الابتلاء وكانت في البرية كما كانت في المحراب من الله عليها بالعطايا، وسماها صديقة {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، فبين لها مقامها ورفيع مكانتها عند الله، بعد ذلك نادتها الملائكة: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43]. والذي يعنينا هنا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها لما وجدت نفسها عرضة للابتلاء لجأت إلى رب الأرض والسماء، فلا أحد يعصم إلا الله، ولا يكفيك إلا الله كما أنه لا يمنعك ولا يعطيك إلا الله، وهذا الحجاج بن يوسف نقم ذات مرة على الحسن البصري أبي سعيد زاهد عصره، فبعث جنده وحرسه أن يأتوا بـ الحسن البصري، وأعد السيف والنطع ليقتله، فلما دخل الحسن حرك شفتيه، فالحاجب الذي على الباب لاحظ أن الحسن حرك شفتيه، فلما دخل تغير الحجاج، فأجلسه بجواره وأخذ يسأله، ويقول: يا أبا سعيد! أنت سيد العلماء، فلما خرج الحسن بعد أن طيبه الحجاج وأعطاه هدية تبعه الحاجب، قال: يا أبا سعيد! والله إنك لتعلم أن الحجاج ما طلبك ليكرمك، وإنما أتى بك ليقتلك، فتغير عليك، لكني رأيتك عندما دخلت من الباب حركت شفتيك فأسألك بالله ماذا كنت تقول؟ فقال الحسن: كنت أقول: اللهم يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم. فتحرر من هذا، بل من القرآن والسنة أن الله وحده من يكفيك، فلا تلجأ إلى زيد ولا عمرو، لا صاحب قبر ولا صاحب أرض، والجأ إلى الواحد الديان يعصمك.

رحمة النبي وعطفه على صحابته الكرام

رحمة النبي وعطفه على صحابته الكرام والآن نأخذ بيتاً مليئاً بالعاطفة التي بدأت بحرف ليت الذي يفيد التمني، والعرب تقول: ليت للتمني وتقول لعل للترجي، فليت عندهم في الشيء الذي يغلب على الظن استحالة وقوعه، ولعل في الشيء الذي يرجى وقوعه. قال الدكتور المادح الزهراني: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم

صورة من رحمة النبي بصحابته

صورة من رحمة النبي بصحابته سنعرج هنا على بعض ما كان ينال الصحابة من عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيف تعرف كيفية التعامل النبوي مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، ففي حجة الوداع أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة، ففي يوم عرفة كان الناس مجتمعين ينتظرون الإمام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتقل إلى مزدلفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على بغلته لكنه كأنه ينتظر شيئاً، والناس يلتفتون ميمنة وميسرة ماذا ينتظر رسول الله؟ فإذا بـ أسامة بن زيد يأتي وهو غلام أسمر نحيل جداً، فجاء وفي القوم بنو هاشم، فركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم على نفس البغلة، فكان كل الانتظار من أجل أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ذكر الذهبي في السير: أن أسامة رضي الله عنه وأرضاه ذات مرة كاد ينزل مخاطه، فأراد النبي أن يمسحه، فقامت عائشة تسبق النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة من أتراب عائشة فهما بسن واحد، وهذا قبل الحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم لها: (يا عائشة! إني أحبه فأحبيه). وفي صباح يوم العيد -بالنسبة للحجاج لا يوجد عندهم صلاة عيد هذا يكون في مزدلفة- في صبيحة يوم عشر ذي الحجة أراد النبي أن ينتقل من مزدلفة إلى منى فغير صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يقع في نفوس بني هاشم شيء، فأنزل أسامة فخرج يجري، يمشي متجهاً إلى الجمرة إلى منى، وأردف والفضل بن عباس صلوات الله وسلامه عليه، الفضل بن عباس ابن عمه، وكان وضيئاً جميلاً، وهم في الطريق مر ركب نساء، والفضل باعتبار كونه شاباً أخذ ينظر إلى النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمال بوجهه. وإذا أردت أن تنجح في الحياة وتنجو مع السنة فانظر بعين القدر وعين الشرع، فالذي ينظر بعين القدر فقط لا يقيم معروفاً ولا ينهى عن منكر، والذي ينظر بعين الشرع ويهمل عين القدر سيتعب كثيراً ولن يؤدي ثمرة، وعلاقة هذا بالحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن الفضل شاب وضيء، وبدهي أن تعلق به النساء، وبدهي أن ينظر إلى النساء، فهو عليه الصلاة والسلام بعين الشرع لوى عنق الفضل ونهاه أن ينظر، وبعين القدر صبر على الفضل ولم ينزله من بغلته ولم يزجره أمام الناس؛ لأنه شاب واكتفى صلى الله عليه وسلم بتأديبه.

صورة ثانية من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته

صورة ثانية من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته هذا بعض أحواله صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ حالاً أخرى مع أصحابه فنذكر خبره مع جابر بن عبد الله: جابر رضي الله عنه وأرضاه مات أبوه شهيداً في أحد، وقد أوصاه بأخواته من بعده، فبقي جابر يحمل هم أخواته، وكان قليل ذات اليد، وذات يوم كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهو على جمل له والجمل به داء، فتأخر عن الركب، وهو عليه الصلاة والسلام يسير في آخر الركب شفقة بهم، ولهذا قال الدكتور المادح هنا: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل جابراً عما يعيقه في الطريق، فأخبره بالجمل وبما عليه من عيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتبيعني إياه، فقبل جابر لكنه اشترط أن يمضي به إلى المدينة، فوخز النبي صلى الله عليه وسلم الجمل بعصاً كانت معه فأصبح الجمل يسرع وينافس غيره من الجمال، ولما وصل المدينة عليه الصلاة والسلام جاء جابر بالجمل، فقال صلى الله عليه وسلم لخازنه المالي أظنه قال لـ بلال: زده في السعر، يعني: إذا كنا نحن اتفقنا مثلاً معه على أوقيتين أو درهمين فزده، فبعد أن قبض جابر المال قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: خذ جملك)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي جابراً، لكن لم يرد أن يعطيه المال بطرية مباشرة، وحفظاً وعلى كرامته وعلى شخصيته جاء له بطريقة البيع والشراء. وجابر نفسه رضي الله عنه وأرضاه سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الزواج، فقال: (تزوجت، قال: أبكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً، قال: هلا بكر تلاعبها وتلاعبك فقال عذره رضي الله عنه وأرضاه، قال: إن أبي ترك لي أخوات فأنا لو جئت بصغيرة بكر لأصبحت ترباً لهن تنافسهن وينافسنها، لكن أتى بثيب حتى يحقق وصية أبيه)، وهذا العمل من جابر يسمى وسطية، وقد أخذه جابر من النبي صلى الله عليه وسلم وأما لو جاء أحد غير جابر وأوصاه أبوه بأخواته فإنه سيقول: أنا لست في حاجة لأن أتزوج، وصية أبي أهم، فأبقى على أخواتي، فيحرم نفسه مما أباحه الله، وقد يأتي شخص آخر ويقول: أنا لست مسئولاً عن أخواتي، وأنا مكلف بنفسي سأتزوج بكراً، فـ جابر رضي الله عنه وأرضاه جمع بين الأمرين ما بين الزواج واختار ثيباً؛ حتى تكون الثيب أقدر على رعاية أخواته. قلت: إن جابراً استقى هذا من السنة، ففي غزوة أحد استشهد من الصحابة سبعون، فالله جل وعلا يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]، يعني: إن قتل منكم سبعون في أحد فقد قتل منهم سبعون في بدر، فالذي يعنينا أن الصحابة رضي الله تعالى عليهم شق عليهم قتل السبعين، وأرادوا أن يحملوا قتلاهم ويدفنوهم في المدينة؛ لأن هناك في المدينة الغلمان والخدم والعبيد يعملون معهم فيدفنون، وأما في أحد فلا يستطيعون أن يحرفوا سبعين قبراً؛ لأنهم منهزمين منكسرين قد أصابهم الجرح والقرح، وهم كلمى من الجراح، فأرادوا أن يحملوا قتلاهم إلى المدينة ليكون أيسر في عملية الحفر والدفن، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الأرض التي قتلوا فيها تشهد لهم، فجاء صلى الله عليه وسلم بحل وسط فقال صلى الله عليه وسلم: احفروا -أي: في أحد- وعمقوا القبر وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فالسبعون عندما يدفنون اثنين وثلاثة في قبر لا نصبح في حاجة إلى سبعين قبراً، بل نحتاج إلى أقل، نحتاج إلى عشرين أو إلى أربعين بالأكثر، فهذا فيه نوع من الشفقة على الصحابة وفيه نفس الوقت تحقيق لمقصد شرعي، وهو أن الأرض تشهد لهم، فيكون صلى الله عليه وسلم قد جمع بين الأمرين لأصحابه، فهذا استنبطه جابر معنىً، فلما أراد أن يتزوج تزوج ثيباً، لتكون زوجة له، وفي نفس الوقت تقوم برعاية إخوته.

صورة ثانية من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته

صورة ثانية من رحمته صلى الله عليه وسلم بصحابته وهذا موقف آخر له صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فـ ربيعة بن كعب الأسلمي أحد الذين خدموا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلح للنبي عليه الصلاة والسلام وضوءه، فأراد النبي أن يكافئه فقال له: (يا ربيعة! سلني حاجتك، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك يا ربيعة؟! قال: هو ذاك يا رسول الله!)، فتأمل إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة، وتأمل كيف أن ربيعة وجد في النبي صلى الله عليه وسلم من جميل الصحبة وحسن العشرة ما جعله يتمنى أن يكون رفيقاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة)، ومرافقة الأنبياء في الجنة من أعظم المطالب، فالإنسان ينبغي أن تكون همته عالية. فقد مر صلى الله عليه وسلم على أعرابي في الطريق في إحدى أسفاره فأكرمه الأعرابي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ائتنا أي: تعاهدنا حتى يكافئه على صنيعه، فمرت الأيام بالأعرابي فقدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي أن يكافئه؛ لأنه أكرمه في سفره، فقال: يا أعرابي! سلني حاجتك؟ فقال الأعرابي: أعنز يحلبها أهلي، فتعجب صلى الله عليه وسلم؛ لأن الطلب قليل، وقال: عجز هذا الأعرابي أن يكون كعجوز بني إسرائيل -هنا نوع من التشويق-، فقال الصحابة: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن موسى لما أراد أن يرحل من أرض مصر أخبره علماء بني إسرائيل أن يوسف أخذ عليهم العهد والميثاق إذا خرجوا من أرض مصر أن يأخذوا جسده معهم، قال: ومن يدلني على قبر يوسف؟ قالوا: لا يعرف قبر يوسف إلا عجوز في بني إسرائيل -أي: امرأة-، فذهبوا إليها، فسألها موسى: أين قبر يوسف؟ قالت: لا أدلك حتى تعطيني سؤلي، قال: وما سؤلك؟ قالت: أن أكون مرافقتك في الجنة)، فهذه المرأة طلبت من موسى عليه الصلاة والسلام أن تكون مرافقته في الجنة. ومن أعظم ما يجعل المرء رفيقاً للأنبياء في الجنة كثرة الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ربيعة بن كعب الأسلمي لما قال له: (أسألك أن أكون رفيقك في الجنة، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فهذا سبب خاص وسبب عام، وقد ذكره الله في القرآن، وهو عموم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. إذاً يتحرر من هذا كله أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم عاشوا في غبطة عيش مع سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، ونحن لم تكتحل أعيننا برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكننا نسأل الله العزيز الجليل أن يمن علينا برفقته وصحبته عليه الصلاة والسلام في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، لكن إذا كان هناك إيمان وعمل صالح فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله على قول معقبين فيه في حلقات ثلاث على قصيدة الدكتور ناصر الزهراني في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. وأختم أنه ليس المقصود من هذه اللقاءات حسن الإلقاء وطريقته، وإنما المقصود أن ننهل جميعاً من معين السنة ورياضها، وأن نتقرب إلى الله جل وعلا بحب رسولنا صلى الله عليه وسلم والتأسي به. نسأل الله أن يحشرنا جميعاً تحت لوائه، وأن يسقينا من حوضه، والله أعلم. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من همزية شوقي - الإسراء والمعراج]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من همزية شوقي - الإسراء والمعراج] لقد كانت حادثة الإسراء والمعراج منة عظيمة من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة، وقد كانت هذه الحادثة تكرمة لنبينا صلى الله عليه وسلم وتعويضاً له عما لاقاه من كفار قريش من الأذى، وما لاقاه في الطائف، فعوضه الله تعالى بهذه النعمة الجليلة والمنزلة العظيمة.

سرد حادثتي الإسراء والمعراج إجمالا

سرد حادثتي الإسراء والمعراج إجمالاً بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي الأميين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: أيها الإخوة جميعاً! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاء من اللقاءات المباركة الموسومة بالمدائح المرضية التي جرت العادة أننا نستقي فيها أبياتاً شعرية لشعراء مسلمين أثنوا فيها ومدحوا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهي قصائد غرر، فنختار منها أبياتاً، وقد مضى -ولله الحمد- الكثير من الأبيات التي من خلالها نهلنا من معين السيرة، وارتوينا من منهج رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من خلال تعرضنا لتلك الأبيات وما تضمنته من الإشارة للحياة النضرة والسيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم. وحادثة الإسراء والمعراج حادثة جليلة مبنىً ومعنىً، وقد كانت ميزاناً خصباً لكثيرٍ من المادحين الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأحدهم يقول: سريت من حرمٍ ليلاً إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظلم وآخر يقول: أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم وشوقي رحمه الله يقول: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وروحانية وبهاء تغشى العيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء وهمزية شوقي قد مضت معنا من قبل لكننا الآن نعاود الحديث عنها؛ لأننا سنتحدث عن حادثة الإسراء والمعراج، وتناول الشعراء المسلمين لها. فسنسرد الآن على وجه الإجمال مسألة الإسراء والمعراج، ومضامين ما فيها من قبسات، ومن تضمنته من آيات وعظات، نزدلف إليه إن شاء الله تعالى بعد عرضها كاملة. كان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بثلاث سنين على الأرجح، وأكثر العلماء على أنه في شهر رجب والعلم عند الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم جاءه الملك ليشق صدره، ويخرج قلبه، وغسل القلب الطاهر الشريف في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، وقدم له البراق ينتهي حافره حيث ينتهي طرفه، وكان معه جبريل، وقد ارتحل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وكل ذلك كان في برهة من الليل. ثم ربط صلى الله عليه وسلم دابته في المربط الذي يربط فيه الأنبياء دوابهم في حلقة بيت المقدس، ودخل صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بالنبيين إماماً، ثم عرج به إلى السماوات السبع ومعه جبريل، فاستفتح جبريل السماء الدنيا، فسأله خازنها: من أنت؟ قال: أنا جبريل. فسئل: أو معك أحد؟ قال: معي محمد، قال الخازن: أو قد بعث إليه؟ قال جبريل: نعم. ورأى صلى الله عليه وسلم رجلاً عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر جهة اليمين ضحك، وإذا رأى جهة الشمال بكى، فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم؟ وهذه أرواح بنيه، فإذا رأى جهة اليمين رأى أهل الجنة فضحك، وإذا رأى جهة الشمال رأى أهل النار فبكى، فسلم عليه قائلاً: أهلاً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم أتى السماء الثانية فوجد فيها ابني الخالة: يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فرحبا به قائلين: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال: ثم أتيت السماء الثالثة فإذا فيها نبي الله يوسف، وقد أعطي شطر الحسن، فرحب به قائلاً: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم أتى السماء الرابعة فوجد فيها أخاه إدريس، فرحب به قائلاً: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم أتى السماء الخامسة فوجد فيها رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، فقال: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا المحبب في قوم هارون بن عمران، ثم رحب به قائلاً: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم أتى السماء السادسة فإذا فيها أخاه موسى، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي. ثم أتى السماء السابعة فإذا برجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قال صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم ورحب قائلاً: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم تجاوز صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام، وهناك كلمه ربه وناجاه، وقربه وأدناه، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وأوتي خواتيم سورة البقرة. فعاد صلى الله عليه وسلم فسأله موسى فأخبره بما فرض الله عليه، وقال: إني قد بلغت الناس قبلك، وإن أمتك لن تطيق ذلك، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف، وما زال صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى قال: استحييت من ربي -أي: اعتذر من موسى- فنادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وأبقيت أجري، فبقيت خمس صلوات بأجر خمسين صلاة. ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكانه ومرقده، فلما أصبح اتخذ ناحيةً عند البيت فاجتمع عليه كفار قريش، فأول من قدم إليه أبو جهل، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف في السيرة، فقال: يا ابن أخي! هل من أمر؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى وبما كان له البارحة، فقال: يا ابن أخي! أرأيت إن جمعت لك قومك أكنت محدثنا بما أنت محدث به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم. فناداهم أبو جهل؛ يستثمرها فرصة للسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. فأخذ ينادي بأعلى صوته: يا بني لؤي بن غالب يا بني فهر يا بني كذا! هلموا إلي، فاجتمعوا إليه، قال: اسمعوا من محمد بن عبد الله ماذا يقول، وقص عليهم صلى الله عليه وسلم خبر الإسراء والمعراج، فبين مشبك عشره على رأسه لا يصدق ما يسمع، وما بين فاغر فاه، فلما أكثر عليهم قالوا: صف لنا بيت المقدس، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه جيداً؛ لأنه دخله ليلاً، فنحى جبريل ما بينه وبين بيت المقدس، فرأى صلى الله عليه وسلم بيت المقدس قريباً منه، وأخذ يصفه لقريش فقال بعضهم لبعض: أما المسجد فكما قال، وهذا قاله من ذهب إلى الشام منهم قبل ذلك. هذه حادثة الإسراء والمعراج كما هي مدونة، ونحن لم نقل شيئاً جديداً؛ لأن السيرة لا يملك أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها، لكن تتفاوت أقدار العلماء وميدانهم الرحب الذي يجرون فيه، هو كيف يستنبطون من حادثة الإسراء والمعراج. وهنا شوقي يقول: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء. أي: ثمة خلاف هل كان الإسراء والمعراج بالروح والجسد أو بالروح فقط، فالحق الذي لا مرية فيه كما قال شوقي: بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري وعرج به روحاً وجسداً؛ لأننا لو قلنا: إن الإسراء والمعراج لم يكن إلا روحاً لم يكن في ذلك معجزة، وليس بكثيرٍ على قريش أن تكذبه، ولا يمكن لقريش أن تكذب رجلاً يقول: إنني رأيت البارحة كذا وكذا. فهذه لو كانت مجرد رؤيا لما أصبح في ذلك معجزة، ولا عظم احتفاء من الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، لكن القضية كلها قضية إسراء ومعراج بالروح والجسد، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:1 - 10]، ثم قال الله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] صلوات الله وسلامه عليه.

العبر والفوائد المستنبطة من حادثتي الإسراء والمعراج

العبر والفوائد المستنبطة من حادثتي الإسراء والمعراج هذه هي رحلة الإسراء والمعراج التي كانت محل احتفاء كثير من شعراء المسلمين، لكن ما الذي يمكن أن نستنبطه منها؟

تعويض الله لنبيه عن صدود الناس عنه ومنعه من دخول المسجد الحرام

تعويض الله لنبيه عن صدود الناس عنه ومنعه من دخول المسجد الحرام سنبدأ من مبدأ المقاربة، النبي صلى الله عليه وسلم قبل رحلة الإسراء والمعراج كان قد ذهب إلى الطائف فصده أهلها، فالصدود الذي حصل من أهل الطائف عوض الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم عنه بالصعود إلى السماوات السبع؛ لأن الطائف عالية مرتفعة عن مكة، فالله جل وعلا عوضه عن الطائف بالسماوات السبع، وعوضه عن أهل الطائف الذين صدوه بأن فتح له أبواب السماوات السبع، فلما رده أهل مكة ومنعوه من دخول البيت والطواف به، ولم يدخله صلى الله عليه وسلم إلا في جوار مطعم بن عدي، عوضه الله عنه بذلك الاحتفاء الذي ناله صلى الله عليه وسلم بالمسجد الأقصى يوم أن أم النبيين وصلى بهم عليه الصلاة والسلام. وقد جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم التفت فإذا فيه مشيخة الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وكبار أنبياء الله ورسله، فقال: إن الله قد أمرني أن أسألكم: هل أمركم الله أن تدعوا إلى عبادة أحدٍ غيره؟ قالوا: لا. قال الله في الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وفي قراءة: (يَعبُدون) والمعنى واحد. والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم روي أنه سأل الأنبياء والرسل هذا السؤال، فانظر إلى عظيم الاحتفاء بدلاً من ذلكم الصدود الذي كان يمثل حزناً في قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وكيف انتقل من ارتفاع الطائف إلى السماوات السبع الطباق، ومن صدود أهل الطائف إلى احتفاء الملائكة، ومن صدود قريش إلى دخول المسجد الأقصى، والوصول إلى البيت المعمور. هذا أعظم ما يمكن أن يستنبط من رحلة الإسراء والمعراج، لكن رحلة الإسراء والمعراج كانت احتفاء عظيماً من الله، فهي زاخرة بالمعاني التي يمكن لأي موفق أن ينهل منها ويستنبط منها ما يعينه في أمر دينه ودنياه. جاء في التاريخ أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله جل وعلا جعل بدلاً من زيد -على علو شأن زيد في الدين- جعل بدلاً منه جبريل، فكان جبريل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته المباركة إلى السماوات السبع العلى.

لقاؤه صلى الله عليه وسلم للأنبياء

لقاؤه صلى الله عليه وسلم للأنبياء وأما قضية مقابلته صلى الله عليه وسلم للأنبياء: فآدم هو أبو البشر وإليه ينسبون، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد رأى آدم من قبل، قال: رأيت رجلاً عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، وآدم أعطاه الله جل وعلا خصائص لم تعط لأحد غيره، منها: أن الله تبارك وتعالى خلقه بيده، وأن الله تبارك وتعالى نفخ فيه من روحه، وأن الله تبارك وتعالى أسجد له ملائكته، فهذه عطايا لم يعطها الله أحداً من خلقه، لكن قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهو نبي مكلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر سئل: (عن أبينا آدم أكان نبياً؟ قال: نعم نبي مكلم). فلما هو نبي في ذلك الوقت منّ الله عليه بأن كلمه، هذا هو أبونا الذي نسبنا الله إليه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] إلى غير ذلك من الآيات التي جاء القرآن فيها يخاطبنا بنسبتنا إلى أبينا آدم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج أنه رأى ابني الخالة: يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فـ مريم عليها السلام هي أم عيسى، وكانت لها أخت، هذه الأخت تزوجها زكريا ثم بعد ذلك كفل مريم، وجاء من زكريا يحيى عليه السلام، ويحيى له خصيصة على الأنبياء جميعاً ليست لغيره، وهي أن الله سماه، وهذه خصيصة له لم يعطاها أحد غيره، قال الله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]. وعيسى ابن مريم مر معنا خبره في لقاء سابق عند حديثنا عن قول الأعشى: نبي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا وفي السماء الثالثة وجد صلى الله عليه وسلم أخاه يوسف، قال: فإذا أنا برجل أعطي شطر الحسن، والألف واللام في الحسن إما أن تعود إلى معهود لفظي، أو تكون لاستغراق الحسن، ويبعد أن تكون لاستغراق الجنس، ولم يأت معهود لفظي، ولم يبقى إلا المعهود الذهني، والمعهود الذهني هنا هو أن الله جل وعلا خلق آدم على أكمل صورة؛ لأن الله خلق آدم بيده، فكان المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم أن يوسف أعطي شطر الحسن، أي: أن جمال يوسف عليه السلام على الشطر والنصف من جمال أبينا آدم عليهما السلام. وفي السماء الرابعة لقي صلى الله عليه وسلم أخاه أدريس، وقد أشار الله إلى رفعة إدريس في قوله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]. في السماء الخامسة لقي صلى الله عليه وسلم شقيق موسى هارون بن عمران المحبب في قومه. وفي السماء السادسة لقي أخاه موسى، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، وأولوا العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم ومحمد وعيسى وموسى عليهما جميعاً أفضل الصلاة والسلام. ولما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم موسى بكى، فقيل لموسى -والله أعلم بمن قال له-: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي، وهذا المقصود منه الغبطة والتنافس المحمود بين الأنبياء، وإلا محال أن يكون في قلب موسى شيء من الحسد، فموسى عليه الصلاة والسلام نبي مكلم وهو بمنزلة عالية، والله جل وعلا قال في حقه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله أخي موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) يبين علو منزلة موسى. وفي السماء السابعة لقي النبي صلى الله عليه وسلم أباه إبراهيم، فلما أن لقيه تعجب من شدة الشبه بينهما، قال: ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، ونلحظ أن آدم وإبراهيم فقط هم اللذان قالا: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، أما بقية الأنبياء فكلهم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ففهم العلماء من هذا أن أدريس ويحيى وعيسى ويوسف وهارون وموسى هؤلاء الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج ليس أحدٍ منهم في عمود نسبه النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء إبراهيم وآدم. فإبراهيم قطعاً في عمود نسبه النبي صلى الله عليه وسلم، وآدم أبو البشرية جميعاً، هذه فائدة.

التأدب والاستئذان عند طرق أماكن الناس

التأدب والاستئذان عند طرق أماكن الناس الفائدة الثانية: كون جبريل عليه السلام يستأذن ومعه أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فهم منه العلماء أنه يجب وينبغي على من يأتي إلى مكان أن يتأدب مع أهله، ولو كان هو أفضل من أصحاب ذلك المكان، فالله تعالى أعطى لأصحاب المكان سلطاناً، فيجب أن نستأذن ونتأدب في دخولنا على غيرنا، فإذا كان جبريل -وهو خير الملائكة- ومعه محمد صلى الله عليه وسلم -وهو خير الخلق- يطرقان ويستأذنان على خازنٍ من خزنة السماوات، وهو لا شك أنه ملك كريم، لكنه ليس أفضل من جبريل، ولا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم.

تأدب النبي مع ربه

تأدب النبي مع ربه والمراجعة بين النبي صلى الله عليه وسلم ورده مع موسى، في علم يسمى علم التجريب، وهو لا يؤخذ من كتب، ولا يقرأ في دواوين، ولا يأتي من حفظ المتون، ولكن يأتي من الدخول في معترك الحياة، فستخرج لك التجارب أشياء لا تعرفها، ومن ذلك علم الدعوة إلى الله جل وعلا. فموسى عليه الصلاة والسلام ابتلى الناس وخبرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا عشر سنوات فقط في الدعوة، فلما فرض الله عليه خمسين صلاة قال له موسى -متكئاً ومعتمداً على علمٍ تجريبي عنده-: إن أمتك لن يطيقوا هذا، فأخذ صلى الله عليه وسلم يراجع ربه، ثم ازدحم عند النبي صلى الله عليه وسلم أمران هما: أدبه مع ربه، وشفقته على أمته، فأدبه مع ربه يمنعه أن يراجع ربه مرة أخرى استحياء، وشفقته على أمته بوده لو أنها كانت خمس صلوات ولا تكن خمسين، فقرر أن يبقي على الأدب فيعتذر من أمته، فقال لموسى: إنني استحييت من ربي، فلما قدم عليه الصلاة والسلام حق ربه أكرمه الله جل وعلا وأعطاه ما لم يطلبه، فنادى منادٍ: أن أمضيت أمري فجعلها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة. وهكذا الإنسان يتأدب مع ربه تبارك وتعالى، ويعظم حق ربه جل وعلا، ولا يقدم على حق الله تبارك وتعالى حق أحد، وكلما كان الإنسان عظيم الصلة بربه، مقدماً حق الله جل وعلا على كل مطالبه نال أرفع الدرجات وعالي المنازل، وكما قلت في دروس ولقاءات عديدة إن هذا ميدان يتسابق فيه الصالحون والمقربون، ومن يريد المنازل العالية من أهل الإيمان.

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل واستنبط العلماء كذلك من حادثة الإسراء والمعراج أن الله جل وعلا -وقد مر معنا هذا إجمالاً- يكافئ على النضير، أي: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فـ جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة قطعت يداه، فكافأه الله جل وعلا بجناحين يطير بهما في الجنة، وإبراهيم بنى لله البيت -الكعبة- فجعله الله جل وعلا يتكئ على البيت المعمور، والله يقول كما مر معنا في لقاء ماضي: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، والله كما قال: {لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]. وفي رحلة الإسراء والمعراج وجد الارتباط التاريخي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات والمسجد الأقصى لم يدخل في ديار المسلمين، والله يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، ونحن لا نقول أقصى إلا إذا كان بيننا وبينه مسجد آخر، وهما طرفان: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلا بد أن يكون هناك وسط حتى يعرف أن هذا أقصى، فلو كانا اثنين لا يتحرر معنى كلمة أقصى إلا بوجود وسط، فهذا فيه إشارة إلى أن هناك مسجداً سيبنى ما بين مكة والمسجد الأقصى؛ لأن حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة، ولم يكن بناء المسجد النبوي إلا بعد الهجرة، فلما بني المسجد النبوي اتضح لنا لماذا سمي بيت المقدس بالمسجد الأقصى، فأصبح المركزي -الوسط- المسجد الحرام، وبعده في جهة الشام شمالاً المسجد النبوي؛ لأن قبلة أهل المدينة جنوب، ثم بعد ذلك المسجد الأقصى.

الفرق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

الفرق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى والفرق بينهما أن المسجد الأقصى مكان مبارك ومقدس، لكن مكة والمدينة حرم، ولا يقال للمسجد الأقصى إنه حرم إلا من باب التغليب، وإنما ورد في الشرع أن الحرمين اثنان: مكة والمدينة، وأما بيت المقدس فهي أرض مباركة، قال الله: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وهناك فرق بين كونها مباركة وبين كونها حرماً، فلا يمنع الصيد بالمسجد الأقصى ولا في قاعة بيت المقدس، أي: في مدينة القدس اليوم، بخلاف مكة والمدينة فإنهما حرم، لكن يجوز من باب التغليب عندما نشركها سوياً كأن نقول: المسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، فباب التغليب باب واسع. ومن باب التغليب أن العرب تقول للشمس والقمر: القمران، ويقصدون الشمس والقمر، لكن غلبوا القمر على الشمس بالذكورية؛ لأن لفظ القمر مذكر، كما يقال الحسنان عن الحسن والحسين، فنغلب الحسن؛ لأنه أكبر من الحسين، ويقال: العمران لـ أبي بكر وعمر؛ لأن أبا بكر اسم مركب تركيب إضافي، وأما عمر فهو اسم مفرد، والمفرد يقدم على الاسم المركب. وهكذا يقال عن مكة ومدينة: المكتان؛ على أن مكة أفضل عند جمهور العلماء خلافاً لـ مالك ومن يرى رأيه أن المدينة أفضل. فالذي يعنينا أنه يمكن أن يقال عن المسجد الأقصى حرم من باب التغليب، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وكذلك مكث بعد الهجرة ستة عشر شهراً وهو يصلي جهة بيت المقدس، حتى أنزل الله جل وعلا قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. نعود إلى همزية شوقي التي هي المنطلق في الحديث، قال شوقي: تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء وهذا منزلة عالية في الفصاحة والبلاعة. قوله: قلدتك سماء، أي: أنه صلى الله عليه وسلم هو الزينة للسماء، وهو الفخار لها، فكان بمروره عليها تزدان السماء به، وهذا من التوفيق، وقد سبق الشعراء شوقي إلى هذا المعنى، لكن شوقي في صياغته كان أسبق من الشعراء في علو منزلته

الغيوب التي أطلع الله تعالى عليها نبيه في المعراج

الغيوب التي أطلع الله تعالى عليها نبيه في المعراج قوله: تغشى الغيوب. أي: أن الله جل وعلا أطلعك على كثير من الغيوب، ومن الغيوب التي أطلعها الله جل وعلا عليها نبيه في الإسراء والمعراج أنه صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، ورأى أن أكثر أهلها الفقراء، ورأى النار واطلع عليها، ورأى مالكاً خازنها، ومالك خازن النار الأول، كما أن الله جل وعلا أخبر أن مالكاً في القرآن هو القيم على هذا الأمر، قال الله تعالى في الزخرف: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. ومن تلك الغيوب أنه رأى صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأمور التي لم يكن ليعلمها، لكن الله جل وعلا منّ عليه بذلك تثبيتاً له.

الحكمة من عروجه صلى الله عليه وسلم

الحكمة من عروجه صلى الله عليه وسلم ويبقى سؤال واحد ننهي به الحلقة: لماذا عرج به صلى الله عليه وسلم؟ نعلم أن من الأجوبة: أنه احتفاء به، لكن الجواب الأهم أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله رسالاته، وناصح له في ذرياته، وهو آخر الأنبياء، فلا بد أن يكون هذا النبي الذي سيبلغ على يقين بما يقول، فرحلة الإسراء والمعراج أطلعت نبينا صلى الله عليه وسلم عما يخبر عنه، فكان عليه الصلاة والسلام عندما يتحدث عن الجنة يتحدث عنها وقد رآها عياناً، وعندما يحذر من النار يتحدث عنها وقد رآها عياناً، وبهذا يعظم حديثه وأثره في الناس؛ لأنه خارج من قلب شاهد ورأى، ولهذا قال الله في النجم: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، فأسند الرؤية إلى فؤاده صلوات الله وسلامه عليه، وهذه خصيصة، وكأن الله أشار في القرآن أنه قد أعطاها إبراهيم، قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]. أحيانا الله وإياكم على سنة محمد وإبراهيم، ورزقنا الله وإياكم التوفيق، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول همزية شوقي: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من همزية شوقي] [1]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من همزية شوقي] [1] هذه هي القصيدة البائية لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقد نظمها يمدح فيها سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تعرض فيها لذكر الإرهاصات والمقدمات التي كانت قبل البعثة؛ تمهيداً لهذا الحدث العظيم الذي غير مجرى التاريخ.

الإرهاصات التي كانت قبل البعثة

الإرهاصات التي كانت قبل البعثة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المباركون والأخوات المباركات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا لقاء متجدد من لقاءات عنوانها: المدائح النبوية، وهي قصائد قيلت في مدح خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فننتقي من بعضها أبياتاً وأفانين، ثم نعلق عليها تعليقاً نحاول من خلاله أن نقرب أيام نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لنقتدي وننهل من معين سيرته، ونقتبس من ثناء نبوته. كنا قد تكلمنا عن شوقي رحمه الله وذكرنا أن له ثلاث قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: البائية والنونية والهمزية. وقد مضى القول عن بائيته، ومطلعها: سلوا قلبي، وعن نونيته ومطعلها: ريم على القاع. واليوم نقف مع همزيته، وكما جرت العادة نقرأ الأبيات ثم نعرج ونعلق عليها بما يفتحه الله علينا. قال شوقي رحمه الله: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناءُ الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاء خير الأبوة حازهم لك آدم دون الأنام وأحرزت حواء هم أدركوا عز النبوة وانتهت فيها إليك العزة القعساءُ خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكاً بك الغبراء وبدا محياك الذي قسماته حق وغرته هدىً وحياء ليل يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضاء ذعرت عروش الظالمين فزلزلت وعلت على تيجانهم أصداء والنار خاوية الجوانب حولهم خمدت ذوائبها وغاب الماء والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء نعم اليتيم بدت مخايل فضله واليتم رزق بعضه وذكاء في المهد استسقى الحمام برجائه وبقصده تستدفع البأساء يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء لو لم تقم ديناً لقامت وحدها ديناً تضيء بنوره الآناء زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء أما الجمال فأنت شمس سمائه ما لاح في الصديق منك إياء والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القواد والزعماء فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا بغضاء وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضى الكثير تحلم ورياءُ وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء وإذا أجرت فأنت بيت الله لم يدخل عليه المستجير عداء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا بنيت فخير زوج عشرةً وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا صحبت رأى الوفاء مجسماً في بردك الأصحاب والخلطاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا مشيت إلى العدا فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء في كل نفس من سطاك مهابة ولكل نفس في نداك رجاء والرأي لم ينض المهند دونه كالسيف لم تضرب به الآراء يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء صدرُ البيان له إذا التقت اللغى يتقدم البلغاء والفصحاء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء هذا بعض ما قاله شوقي في همزيته في مدح رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وقد عرج شوقي في قصيدته على معانٍ عديدة، وأظهر فيها قدرة شعرية بالغة الذروة زانها أنها قيلت في سيد الخلق وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسنقف هنا مع بعض ما ذكره شوقي في قصيدته. ذكر شوقي قضية إرهاصات النبوة، وعبر عنها بعد أن ذكر أن عروش الظالمين زلزلت فقال: والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء

الضابط في تقديم الجن على الإنس في القرآن والعكس

الضابط في تقديم الجن على الإنس في القرآن والعكس وشوقي أغفل هنا مسألة منع الله جل وعلا للجن أن يسترقوا السمع قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حماية للقرآن، فالجن ما علاقتهم بنبينا صلى الله عليه وسلم؟ نحاول في هذا اللقاء أن نتكلم عن السيرة من هذا الوجه. إن الجن أحد عقلاء ثلاثة خلقهم الله: الملائكة، والجن، والإنس. وقد ذكرهم الله جل وعلا في القرآن، فتارة يقدم الإنس وتارة يقدم الجن، والتقديم بحسب السياق، فعندما يذكر الله القوة فإنه يقدم الجن، قال الله جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، وذكر جل وعلا جند نبي الله سليمان فقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]، لكن لما تكلم الله جل وعلا عن البلاغة والفصاحة وهي في الإنس أكثر قدم الإنس، قال الله جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، ولما أراد الله أن يتكلم عن بداية الخلق قدم الجن، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أو أن التقديم والتأخير له ضوابطه في القرآن، الجن بالنسبة لنا بني آدم عالم غيبي؛ ولهذا اشتق من الجن، من الفعل جن الذي يعني الاستتار، ولهذا تسمى الجنة جنة؛ لأنها لم تر، ويسمى الحمل في بطن أمه جنيناً لأنه لا يرى، والله يقول عن خليله إبراهيم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] أي: أظلم وأصبح لا يُرى. وهؤلاء الجن كتب الله قدراً أنهم يروننا ولا نراهم، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]. وهم أسبق منا خلقاً، قال الله: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، فهذا كله إلى الآن كلام عام لا علاقة له بالسيرة.

استراق الجن للسمع قبل البعثة ومنعهم من ذلك بعد البعثة

استراق الجن للسمع قبل البعثة ومنعهم من ذلك بعد البعثة وأما السيرة فإن الجن كانوا يسترقون السمع، قال الله جل وعلا عنهم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، وكانت الجن لا يحول بينها وبين خبر السماء شيء، فلما أراد الله بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد علم الله أزلاً وأراد ذلك قدراً أن ينزل خير كتبه على خير خلقه، حمى الله جل وعلا وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من استراق الجن له، فالذي وقع أن الله جل وعلا منع الجن من استراق السمع، وهذا كان كبيراً جداً على الجن، فخرجوا يبحثون عن السبب، فطائفة منهم جاءت إلى وادي النخلة، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في منقلبه من الطائف إلى مكة قائماً به في الليل، فجاءوا وسمعوا أعظم كلام وهو كلام الله، من أعذب وأعظم من تكلم به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوه رطباً من شفتيه، الجن وقلوبهم مخلوقة من نار لما رأت القرآن يتلي من لدن محمد صلى الله عليه وسلم ركب بعضها بعضاً، وقد صور الله هذا الموقف فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] وعبد الله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ((كَادُوا)) أي: الجن، {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] تقول: تلبد الشيء يعني: ركب بعضه بعضاً، فركب بعضهم بعضاً يستمعون القرآن رغم أنهم كانوا تقريباً تسعة، فهؤلاء بعثهم إبليس لينظروا في سبب عدم قدرتهم على استراق السمع، فأضحوا مؤمنين، فرقت قلوبهم ولانت طباعهم، وأسلموا أمرهم لله وقبلوا الدين، قال الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29 - 31]، فانقلبوا من كفرة مردة أعوان لإبليس إلى مؤمنين صالحين يدعون إلى الله جل وعلا، فظاهر الأمر أنهم كانوا يهوداً؛ لأنهم قالوا: (أنزل من بعد موسى) ولم يذكروا عيسى بشيء. والمقصود: أن الله جل وعلا خيرته لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وهؤلاء خرجوا لأمر وعادوا بشيء آخر عادوا مؤمنين، وكما أخبر الله جل وعلا أنهم عادوا ليسوا فقط مؤمنين، بل مؤمنين يدعون إلى دين ربهم، (يا قومنا أجيبوا داعي الله)، وهكذا المؤمن إذا تلقى العلم بلغه غيره؛ حتى يكون ممن يدعو إلى دين الله جل وعلا.

لا يعلم الغيب إلا الله تعالى

لا يعلم الغيب إلا الله تعالى وهذا الأمر يؤكد ما كنا قد حررناه سابقاً من أن الغيب لا يعلمه إلا الله، فإن أولئك النفر من الجن استمعوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عنه القرآن، وخرجوا يبلغون الدين، وكل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم، قال الله عنهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، فتأمل وتدبر قول الله: (أوحي إلي)، أي: أنا لا أعلم ولا أدري؛ لأني لا أراهم، لكن الله أبلغني أنه استمع نفر من الجن فقالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد)، فهذا موقف حصل للجن مع نبينا صلى الله عليه وسلم.

أدب الجن مع ربهم

أدب الجن مع ربهم لقد ذكر الله جل وعلا الجن في آيتين وأثنى عليهم بهما ضمناً، الآية الأولى: أنهم تأدبوا مع ربهم لما قال الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10]، فنسبوا الشر إلى ما لم يسم فاعله، -يعني: كما يقول النحاة: مبني للمجهول-، فهؤلاء الجن -تأدباً مع ربهم- نسبوا الرشد إلى ربهم ولم ينسبوا إليه الشر مع أن الله خالق كل الشيء. الموقف الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم سورة الرحمن، وقد ورد فيها كثيراً قول الله جل وعلا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، فكانوا كلما تليت عليهم هذه الآية يجيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: لا نكذب بأي من آيات ربنا، لا نكذب بأي من آيات ربنا، فهذا من أدب الجن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومع ربهم جل وعلا.

سكنى بعض مؤمني الجن في المدينة

سكنى بعض مؤمني الجن في المدينة وفي غزوة الخندق حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شاب من الأنصار يستأذنه في أنه لا يستطيع أن يرابط مع الجيش؛ لأنه حديث عهد بعرس، فأذن له، وقبل أن أذكر حكاية هذا الشاب نذكر أصل الحديث: كان أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ذات يوم يصلي، فجاءه أحد أصحابه من التابعين يستأذن عليه فوجده يصلي، فهذا الرجل مكث في البيت ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فإذا بحية في عراجين البيت في الشجر في السقف، فقام الشاب ليقتلها، فإذا بـ أبي سعيد وهو في صلاته يشير إليه أن امكث مكانك، فمكث الرجل، فلما فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد الشاب وأخرجه من البيت وأشار إلى بيت غير بعيد من بيت أبي سعيد، وقال: انظر أترى ذلك البيت؟ قال: نعم، قال: إن ذلك البيت كان لفتىً منا معشر الأنصار، هذا الفتى هو الشاب الذي تكلمنا عنه آنفاً، فقد كان حديث عهد بعرس، فكان في يوم الخندق يحفر معهم، ثم إذا حل المساء يستأذن، فذات مرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ سيفك معك فإني أخشى عليك بنو قريظة) أي: اليهود من بني قريظة، فأخذ السيف وعاد إلى بيته ومعه سلاحه وسيفه ورمحه، فوجد زوجته وهو حديث عرس بها خارج الدار، فأخذته الغيرة فسل سيفه غاضباً، فأشارت إليه زوجته وعروسه إلى داخل الدار، فدخل الدار فوجد حية ملتوية على سريره، فضربها، قال أبو سعيد: فلا يدرى أيهما أسبق موتاً الفتى الأنصاري أم الحية، أي: ماتا سوياً، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن في المدينة إخواناً لكم من الجن، فإذا رأيتم مثل هذا فحرجوا عليه ثلاثاً) أي: لا تقتلوه مباشرة. فهذا خبر عن الجن وعلى أنه كان بعضهم يسكنون المدينة، وأنهم مؤمنين برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.

هل يدخل مؤمنو الجن الجنة أولا؟

هل يدخل مؤمنو الجن الجنة أولاً؟ ومن باب الاستطراد في الحديث فقد العلماء في مسألة: هل يدخل مؤمنو الجن الجنة أم لا؟ فبعض العلماء يقول: إنهم يدخلونها لكن لا يسكنون في بحبوحتها، وإنما على أطرافها، وبعضهم يقول: إنهم لا يدخلون الجنة، وإنما جزاؤهم: أنهم لا يعذبون في النار. وبعضهم يقول: إنهم يدخلونها، لكن يعاقبون بأن يراهم بنو آدم وهم لا يرون بني آدم، أي: عكس ما حاصل في الدنيا، وهذه كلها اجتهادات علماء، لكن الذي عليه أكثر المفسرين وهو الحق إن شاء الله أنهم يعاملون مثل غيرهم من المؤمنين؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، فهذا وعد من الله، والله جل وعلا أجل من أن يخلف وعده، والخطاب للجن والإنس، وهذا القول حرره ابن كثير رحمة الله تعالى عليه ودافع عنه وهو الحق إن شاء الله: أنهم يعاملون يوم القيامة معاملة غيرهم من الناس، وهذا ظاهر القرآن والسنة، والعلم عند الله. وهؤلاء الجن كما قلنا منهم مؤمنين ومنهم كفار، منهم من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم ولهم ذراري وأتباع، ومنهم -وهذا الكثير- من هو كافر مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإرهاصات قبل مولد النبي

الإرهاصات قبل مولد النبي والذي يعنينا في الخطاب هنا قضية أن الله جل وعلا جعل إرهاصات عظيمة قبل مولده صلى الله عليه وسلم. خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يولد في التاريخ أحد أجل ولا أعظم منه عليه الصلاة والسلام، وكان بدهياً أن يسبق ولادته أمور عظيمة، كما حدث أن الله جل وعلا منع الفيل من أن يصل إلى بيته الحرام، وكان ذلك في عام مولده، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2] الآيات الشهيرة. وحدثت خوارق يذكرها أهل السير والتاريخ بعضها يمكن إثباته وبعضها لا يمكن إثباته، لكن الذي يعنينا جملة أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، وقد حف التاريخ قبل ولادته بعظائم تمهد لظهوره، وقبل ذلك كان عيسى يبشر به، وإبراهيم يدعو بأن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم من ولده، وكان عليه الصلاة والسلام مفتخراً يقول: (أن دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام). ومن الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمي رأت حين وضعتني نوراً يخرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام)، فأول ديار الشام التي فتحت على أيدي المسلمين كانت بصرى، وهي البلدة التي رأت آمنة بنت وهب أن نوراً يخرج منها تضيء له بصرى من أرض الشام. وإذا عدنا إلى مسألة ما يكون بين يدي ولادته صلى الله عليه وسلم فهذا قد يسوقنا بعد ذلك إلى أن الله جل وعلا أكرمه، فببركته تعددت مرضعاته عليه الصلاة والسلام، فقد أرضعته حليمة، وقبل ذلك أرضعته أم أيمن، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، ومولاة أبي لهب هذه قدر لها أنها لما أنجبت آمنة طفلها المبارك محمد بن عبد الله ذهبت إلى سيدها أبي لهب ولم يكن يوم ذاك هناك بعثة أو دين، ولم يكن هناك كافر، فأتت إليه تخبره وتبشره أن زوجة أخيك عبد الله -وكان عبد الله قد مات- قد أنجبت غلاماً فأعتقها، ثم إنه بعد أن مات أبو لهب رآه أخوه العباس في المنام، فسأله عن حاله، فقال: أنا بشرِّ حال، إلا أنني في يوم الإثنين أسقى من نقرة في إبهامي؛ لأنه أعتق ثويبة عندما بشرته بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا حال رجل كافر بالله وبرسوله ويصنع به هكذا لأنه أعتق ثويبة، فكيف بمن يموت على التوحيد، ويموت محباً لله، ويموت وهو محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ريب أن فضل الله واسع، وأجر الرب تبارك وتعالى كبير، وفيها دلالة على أن الله جل وعلا لا يبخس أحداً حقه، وأبو لهب ينقر له في إبهامه ويسقى في قبره حتى لا يكون له عند الله شيء يوم القيامة، وهذا الصنيع الذي صنعه والمعروف الذي قام به نال ثوابه وهو في القبر، فليس له عند الله يوم القيامة مطلب، وأما من أراد الله بهم الحسنى ورفيع المقامات وعالي الدرجات فإن الله يدخر لهم الثواب والعطايا في الآخرة يوم يلقونه؛ لأن الأصل أن الثواب في الآخرة، لكن قد يعجل أو يعطى إنسان من ثواب الدنيا شيئاً كثيراً، ولا يمنع ذلك من أن يكون له مقام عظيم وأجر كريم في الآخرة. قال الله عن خليله إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:27]، وسليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله ملكاً عظيماً، وله أجره يوم القيامة كما أخبر الله جل وعلا في سورة (ص). والذي يعنينا أن هذا وقع لـ أبي لهب من جراء عتقه لـ ثويبة مولاته عندما بشرته بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فصاحة القرآن وبلاغته

فصاحة القرآن وبلاغته وذكر شوقي كذلك في همزيته التي بين يدينا قضايا أخر من أشهرها أنه قال: الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء وكنا قد أفردنا حديثاً خاصاً عن القرآن العظيم، لكن تبقى قضية وهي: أن القرآن من أعظم الطرائق لأن ينال الإنسان بها مرتبة عليا في الفصاحة، وكثير ممن يتصدر للعلم قد تخونه بعض الألفاظ البلاغية والقدرة البيانية، وهذا كله لقلة تدبره وقراءته للقرآن، فالقرآن تحدى الله به فصاحة البلاغاء، وبلاغة الفصحاء، وهو المعجزة الكبرى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم. وكان النقاد قديماً يبحثون في قضية: لماذا عجزت العرب عن الإتيان بمثل القرآن؟ وبعضهم يرده إلى مسألة الصرفة، وهو قول إبراهيم النظام من المعتزلة، وهو أن الله صرفهم وإلا فالعرب قادرون، وهذا قول باطل، فبلاغة القرآن لا يمكن أن يرتقي إليها بلاغة أحد من الخلق، قال الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. يكون في هذا اللقاء قد تحدثنا عن بيتين لـ شوقي، وهما قوله: والآي تترى والخوارق جمة جبريل رواح بها غداء وقوله: الذكر آية ربك الكبرى التي فيها لباقي المعجزات غناء وفي اللقاء القادم إن شاء الله تعالى سنتحدث عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الشاملة التي ذكرها شوقي في أبيات متتابعة والتي أولها: زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباس العافية والتقوى. هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[أبيات من همزية شوقي] [2]

سلسلة المدائح النبوية [أبيات من همزية شوقي] [2] لقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الذروة في الكرم والجود والعفو، فكان صلى الله عليه وسلم كريماً جواداً أجود من الريح المرسلة، وكان أكرم ما يكون في رمضان. وكان عفواً يصفح ويغفر عمن أساء إليه، ومن درس سيرته رأى ذلك يقيناً.

بلوغ النبي الذروة في السماحة والكرم والجود

بلوغ النبي الذروة في السماحة والكرم والجود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا لقاء متجدد من لقاءاتنا الموسومة بالمدائح النبوية، وكنا أيها المباركون قد تكلمنا في اللقاء الماضي عن همزية شوقي (ولد الهدى). وحررنا بعض أبياتها وعلقنا عليها، فمنها ما كان يتعلق بعالم الجن، ومنها ما كان يتعلق بمعجزة القرآن، وذكرنا حينها أننا سنتعرض لمجمل ما قاله شوقي من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم الخلقية. نكرر هنا بعض الأبيات التي قالها شوقي؛ لأن هذه سنة متبعة في هذه اللقاءات، ثم نعرج إن شاء الله تعالى على الأبيات التي نريد التعليق عليها. ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناءُ الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء يا خير من جاء الوجود تحية من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاء خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنات عدن آلك السمحاء وقبل أن أعلق على القصيدة أمهد بالتالي: كلنا نسمع عن كرم حاتم وشجاعة عمرو بن معد يكرب، ونسمع عن ذكاء إياس، وتعلم فنعلم من حيث الإجمال أن العرب كان فيها مشاهير في كل خلق، لكن لا يوجد فيها أحد بلغ الذروة في كل شيء، فمثلاً يقولون: إن أبا تمام -الشاعر العباسي المعروف، وكان ذكياً جداً- وقف بين يدي أحد الأمراء يمدحه، فقال في القصيدة وهو يمدح صاحبه: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياسِ فأحد حساد أبي تمام قال: إن الأمير -أي الممدوح- أعظم من أجلاف العرب الذين ذكرتهم، فقال أبو تمام يعتذر لنفسه: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباسِ فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراسِ أي: أنني وإن شبهته بهؤلاء إلا أن ذلك من باب الطريقة القرآنية في أن الله شبه نوره بنور المشكاة، ونور الله أعظم من نور المشكاة، وهذا تصرف ذكي من أبي تمام، لكن أنى لذلك الممدوح أن يصل إلى كرم حاتم أو ذكاء إياس. والذي جعلنا نمهد لهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم في الذروة في السخاء، والذروة في الكرم، والذروة في الشجاعة، والذروة في الجمال، والذروة في العفو، والذروة في العدل، فكل مكارم الأخلاق تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه، وهنا نسجل لـ شوقي قدرته على هذه النظرة في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، فالذين سبقوا شوقي ممن مدحه صلى الله عليه وسلم لم يصلوا إلى أن يجمعوا كل الخصال وينبهوا عليها ويشيروا إليها في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، إلا أن شوقي تنبه لذلك.

حسن تعامله صلى الله عليه وسلم مع الآخرين ومراعاة مشاعرهم

حسن تعامله صلى الله عليه وسلم مع الآخرين ومراعاة مشاعرهم وأما التعريج على القصيدة وربطه بالسيرة: فإن نبينا صلى الله عليه وسلم سبق أن تحدثنا عن عفوه وعن عدله، ونتحدث الآن عن مواقف يظهر فيها كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من حوله مراعاة لمشاعر الناس، وأيضاً نقل فقه المسألة التكيف مع واقعه الذي يعشيه عليه الصلاة والسلام، وهذه بلغ فيها صلى الله عليه وسلم كما في غيرها منازل عظمى، وأذكر مثلاً الآن هذه المقارنة: ففي الهجرة تبع سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أخرج سراقة هو المال، وذلك لما علم أن قريشاً جعلت مائة ناقة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم ويرده، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم ذاك مشرك، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقامت فرسه مرة مرتين، فآمن سراقة أن هذا الرجل صادق، ولم يؤمن به كنبي، لكن آمن أن هذا الرجل صادق فيما يقول، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا سراقة! كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟). فهذا موقف سنعلق عليه بعد التالي. وعمر رضي الله عنه في المدينة بعد الهجرة لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخل عليه عمر وليس في البيت شيء يرد الطرف، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أنت فيما أنت فيه وكسرى وقيصر فيما هم فيه؟! قال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك أقوام عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لهم الدنيا ولنا الآخرة). فانظر الآن بديع فهمه صلى الله عليه وسلم للنفسيات، فـ سراقة أخرجه المال، وحتى لو قلنا وقتها: إنه مؤمن فهو حديث عهد بإيمان، فالنبي عليه الصلاة والسلام يشبع الحاجة النفسية التي عند سراقة، فقال له: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى)، فعلى الأقل إذا دعا سراقة إلى قومه وقالوا له وعنفوه: كيف تركته وقد كانت فرصة لك أن تحمل النياق وأن تنال الجائزة؟ فإنه يتذكر أن الرسول وعده بسواري كسرى، فلا يبقى فيه ندم على أنه ترك النبي صلى الله عليه وسلم. وأما عمر فشخصية أخروية لا تعرف الدنيا ولا تنظر إليها، وثاني رجل في الإسلام بعد أبي بكر ليس رجلاً دنيوياً ترده بالدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسرى وقيصر قال: لهم الدنيا ولنا الآخرة، مع أن سواري كسرى اللذين بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهما سراقة لم يصلا إلى سراقة إلا عن طريق عمر؛ لأن مدن كسرى فتحت في عهد عمر، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين لـ عمر مسألة سواري كسرى؛ لأن عمر شخصية أخروية، فانظر وأنت مطمئن إلى عظيم ما منّ الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يعطي كل نفس ما تحتاجه، ويتعامل معها من منظور فقهي وعلمي صلى الله عليه وسلم بواقع حاله وأصحابه. وفي خبره صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال عليه الصلاة والسلام في مجمع من أصحابه، لما سأله عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في علم الله وقدره أن عكاشة منهم، فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام رجل آخر -وحق له أن يقوم- فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم)، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: لست منهم، ولم يقل: أنت منهم؛ وقد علم بطريق الوحي أنه ليس منهم، لكنه اختار لفظاً يناسب الحال فقال: (سبقك بها عكاشة). تقرأ بالتشديد والتخفيف، فهذا من مراعاة المشاعر منه صلى الله عليه وسلم. فهنا يأتي الرجل العاقل فيترجم هذه المواقف النبوية إلى أفعال، فعندما نتكلم مع الناس نراعي نفسياتهم، ونختار أعذب الألفاظ. فذات مرة رأى الرجل أظنه أبا جعفر المنصور أن جميع أسنانه قد سقطت، فقام وجلاً خائفاً، وقال: ادعوا لي معبراً، فأتوه بمعبر، وهذا المعبر جيد في التعبير لكنه لا يحسن الوصف، ولا يحسن كيف يقدم الجواب، فقال: ستفقد جميع أهلك، أي: سيموت أبناؤك وبناتك والأسرة كاملة، فاغتاظ أبو جعفر وقال: ابحثوا عن معبر آخر، فجاءوا بمعبر آخر فقال: ماذا رأيت يا أمير المؤمنين! قال: رأيت أن جميع أسناني قد سقطت، قال: هذه بشرى لك يا أمير المؤمنين! فأنت آخر أهلك موتاً، أنت طويل العمر فالمعنى واحد، فمعنى أنه طويل العمر أن أهله سيموتون قبله، فما أراد الأول أن يقوله قاله الثاني، لكن قاله بصياغة تختلف عن الأول، فتعجب أبو جعفر من فصاحته وحسن أدبه وجمال لفظه. فمن قدر له أن يقرأ سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويتبصر كيف كان عليه الصلاة والسلام ينتقي الألفاظ ويقولها لغيره سواء من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، علم عظيم خصاله صلى الله عليه وسلم، وعلو دأبه في كل شأن عظيم صلوات الله وسلامه عليه. ومقصودنا قبل أن ننتقل إلى بيت آخر من أبيات همزية شوقي أن نبين أنه يجب أن ننهل ونستقي من معين سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما هذه المدائح التي قيلت فيه بالنسبة لنا إلا طريق نعرج من خلال التعليق عليها إلى أن نصل إلى ما كان عليه الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلوات الله وسلامه عليه من عظيم الخصال، وجليل المناقب.

تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته

تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته قال شوقي في همزيته: يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء نعلم جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الملك أول ما رآه: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ) أي: لا أجيد القراءة، فهذا الأمي عليه الصلاة والسلام الذي لا يجيد القراءة علم الله جل وعلا به الأمة كلها، وهذا معنى قول شوقي: يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء فهو صلى الله عليه وسلم أفضل معلم للبشرية، وفي دعوة أبيه إبراهيم: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. وإذا أردنا أن نتكلم عن العلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا باب مستفيض، لكني أذكر أحداثاً وأعلق عليها، ولعل في هذا طريقاً جيداً للوصول إلى الغاية. قال عمر رضي الله عنه كما في حديث جبريل المشهور في صحيح مسلم: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، ولا يعرفه منا أحد). فلماذا قال عمر: (شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب ولا يعرفه منا أحد)؟ إن المجتمع النبوي في المدينة مجتمع صغير، فلا يوجد رجل في الحلقة لا يعرفه كل الناس؛ لأنه لو كان غريباً لا يعرفه الناس الجميع لا يعرفونه فمعناه أنه من الأعراب، فإذا كان من الأعراب الذين قدموا فسيظهر عليه أثر السفر، لكن الذي استوقف عمر هنا أن هذا الرجل رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، ومع ذلك ليس قادماً من الأعراب، وليس من أهل المدينة، فهذان الوصفان في العادة لا يجتمعان. قال: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، وقد قال العلماء: إن هذه من طرائق طلب العلم، فأخذ جبريل يسأل وهو يعلم الإجابة، قال: أخبرني عن الإيمان، أخبرني عن الإسلام، ويسأله عن أشراط الساعة، فهذه الأسئلة تسمى عند العلماء سؤالات جبريل. ما معنى سؤالات جبريل؟ أحياناً يكون هناك عالم في المجلس وأنت تعرف الإجابة، لكنك تسأل حتى يستفيد الحاضرون، فجبريل عليه السلام يعرف ما هي أركان الإيمان، ويعلم ما هي أركان الإسلام، ويعلم ما هي أشراط الساعة، ولما قال: (أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: علمي وعلمك سواء، لكنه أراد جبريل بهذه الطريقة أن يعلم الصحابة، والموقف في جملته لنا طلبة العلم طريق في قضية كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه.

اهتمام العلماء بأخذ ميراث النبوة

اهتمام العلماء بأخذ ميراث النبوة وقد أخذ العلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلق كثير، وسنعرج هنا على بعض علماء الأمة الكبار الذين قد يصدق فيهم كثيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، وأنا أريد بإيضاحي لهذه المسألة أن يعني العالم بمسألة مهمة وهي قضية كيف يربى الطلاب؟ فإن تربية الطلاب مسألة جليلة الأهمية، فكل من طار قبل أن يريش فإنه يقع، يذكرون عن أبي حنيفة النعمان رحمة الله تعالى عليه أنه كان ذات يوم في مجلسه، وكان من تلاميذه أبو يوسف الذي أصبح بعد ذلك قاضي القضاة، وقد نشأ أبو يوسف يتيماً، فأمه كانت تطلب منه أن يعمل عند رجل آخر، يعني: يعمل في مهنة أو صنعة ويأتيها بمال بدانق أو دانقين، فكانت المرأة إذا رأت ابنها في حلقة أبي حنيفة تعاقبه، فكان أبو يوسف يوم أن كان يتيماً صغيراً يحتار يتردد ما بين العمل والمهنة التي تطلبها أمة وبين الجلوس بين يدي أبي حنيفة، وهذا العالم الرباني أبو حنيفة كان ممن آتاه الله نوراً يستشرف به المستقبل، فذات يوم جاءت أم أبي يوسف وضربت ابنها، فمنعها أبو حنيفة، وقالت له المرأة محتجة: إن ابني يكسب من صنعته كل يوم دانق أو دانقين، فقال لها أبو حنيفة: والله إن ابنك سيأكل الفالوذج بزيت الفستق. والفلوذج نوع من الحلوى لم يكن يومئذ يوجد إلا في بيوت الأثرياء، وزيت الفستق أو دهن الفستق لا يوجد إلا في بيت الخليفة، فاغتاظت المرأة منه وقالت: والله إنك رجل مجنون، ضعيت ابني اليتيم وحرمته من كسبه، فمرت الأيام ولزم أبو يوسف حلقة أبي حنيفة حتى مات أبو حنيفة، وأصبح أبو يوسف بعد ذلك يتصدر مكانه، ودانت له العلماء، وهو أحد من غرفوا علم نبينا صلى الله عليه وسلم، فلما دانت له العلماء وأصبح ذائع الصيت كان قريباً من هارون الرشيد، فكان يدخل على هارون الرشيد في قصره، وذات يوم قدر لـ أبي يوسف أن يتعشى عند هارون الرشيد، فقدم له هارون قطعة من الحلوى، وقال: يا أبا يوسف! كل فهذا فالوذج بدهن الفستق، فتبسم أبو يوسف، فتعجب هارون من تبسمه، وقال: ما الذي يدفعك إلى هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، وحكى له القصة. فتحققت فراسة أبي حنيفة في أبي يوسف أنه أصبح وارثاً للعلم، قائماً به بين الناس، حتى أصبح الخلفاء يجلونه ويقدرونه ويقدمون له الطعام، فقال هارون معلقاً: لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقله ما لا يراه الناس بعيني رءوسهم. فهذا مثل نضربه على واحد ممن ورثوا علم نبينا صلى الله عليه وسلم في قضية أنه يصبّر طلابه على العلم، ويقال لهم ما يمنيهم ويجعلهم يصونوا العلم، فبه تعلو منازل الدرجات، وإن كنا نجزم أنه لم يكن مقصود أبي حنيفة أن يكون أبا يوسف دنيوياً، ولم يكن أبو يوسف كذلك، لكنها في قضية مفهوم كلمة الطلب. وكذلك مما يعين على أن يصل الإنسان إلى منزلة عليا في العلم أن يخدم الإنسان من هو أعلم منه، وقد قدر لـ يحيى بن يحيى أن يصحب الليث بن سعد، وكان الليث بن سعد يوماً على بغلته في المدينة فجاء يحيى بن يحيى والليث لا يعرفه وهو يومئذ غلام، فأخذ يسوق البغلة لليث، فرق له الليث وأعجب بصنيعه هذا، وقال: يا غلام خدمك العلم، دعوة من عالم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قالها مضت الدنيا بقدر الله بـ يحيى بن يحيى رحمه الله حتى عاد إلى الأندلس وأصبح إماماً ومفتياً بها، ويدخل على الخليفة والأمير متى شاء، فتحققت فيه دعوة الليث بن سعد رحمة الله تعالى عليهما، فصحبة العلماء تعطي نوعاً من البركة على الإنسان ينالها ويشعر من إقبال التوفيق ما يناله.

الحكمة من عدم كون النبي يقرأ ويكتب

الحكمة من عدم كون النبي يقرأ ويكتب نعود للفظ شوقي: (يا أيها الأمي) وكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب هذه منقبة في حقه، ومذمة في غيره، فلا يأتي أحد يمتنع عن القراءة والكتابة بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ، لكن هذه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم منقبة؛ حتى يقطع الله جل وعلا على أهل الإشراك ذمهم لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49] فعلماؤها الأمة كلهم في ميزان حسناته صلوات الله وسلامه عليه.

النبي هو المصدر الأول والمنهل الأعذب للعلم

النبي هو المصدر الأول والمنهل الأعذب للعلم (ومن نهلك العذب يا خير الورى اغترفوا)، فكل أخذوا عنه صلوات الله وسلامه عليه من الصديق والفاروق وعثمان وعلي وغيرهم من الأصحاب إلى يومنا هذا، فالناس تنهل، فالعلماء ينهلون من معين علمه، وجميل سنته صلوات الله وسلامه عليه، على أن السنة تحتاج إلى رجل يحسن التدبر، وأن يعلم أن الدين لا يجمع بين متناقضين ولا يفرق بين متماثلين، فالنظرة إلى السنة والتأمل والتدبر إذا قام بها الإنسان قل إنكاره، فمن كثر علمه قل إنكاره؛ لأنه يعرف للمسألة أكثر من وجه، وسآتي بمثال حي من حياة الناس الآن، فلو قدر أنك زرت أخاً لك في بيته، ثم إن الذي استقبلك في المطار أخذك بسيارته وأوصلك إلى بيت أخيك، فأنت من خلال تتبعك لهذا الذي معك عرفت الطريق إلى بيت أخيك في هذه البلدة التي أنت غريب عنها، لكنك لا تعرف طريقاً غيرها، فلو قدر أنك أتيت مرة أخرى إلى نفس البلدة وأخذك شخص آخر غير الأول وهو يعرف طريقاً أقرب من طريق الذي كان قد أوصلك سابقاً، فعندما تراه يحيد عن الطريق الأول تجد نفسك جبلة تنكر عليه؛ لأنك لا تعلم طريقاً غيره، وأما هو فكان واثقاً من نفسه وعلى بينة من أمره، فهو يعرف طريقاً أو أكثر تدل على بيت أخيه، فكثر إنكارك لأن علمك قليل، لكن لو كنت تعلم طرائق متعددة توصل إلى بيت أخيك ما كان لك ولا عليك أن تنكر على من أوصلك، ولهذا من يعرف السنة حقاً ويستطيع الجمع بين الأحاديث وأوتي علماً وحفظاً تجده ذا سكينة ووقار لا يبادر إلى أي شيء ينكره اللهم إلا المنكرات المعروفة التي لا خلاف بين المسلمين فيها، لكن في أصله العام يبقى الرجل ذا تؤده؛ لأنه أبصر بالسنة وأعلم بالهدى، ويملك نظرة واسعة في الجمع بين الأحاديث، وتلك منزلة ينال بها الإنسان رفيع الدرجات، وأعالي ما وصل إليه العلماء، وكلنا في جملة الأمر نسير بهدى الله نغترف من عذب وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم. هذا ما تهيأ إيراده معلقين به على قول شوقي: يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

[حداء الهجرة النبوية لعبد الرحمن العشماوي]

سلسلة المدائح النبوية [حُداء الهجرة النبوية لعبد الرحمن العشماوي] لم يأت أحد من الأنبياء والمرسلين بما جاءوا به إلا عاداهم بعض أقوامهم، ورموهم عن قوس واحدة، لذلك جاءت الهجرة كحل لهذا الصد من هؤلاء الأقوام، فقد هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لما آذته قريش، فأقام دولة الإسلام في المدينة. وهاجر أصحابه بسبب الأذى قبل ذلك إلى الحبشة، فلما سمعوا بهجرة النبي وأصحابه إلى المدينة رجعوا من الحبشة إلى المدينة.

الهجرة والبعثة مقرونتان

الهجرة والبعثة مقرونتان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السماوات والأرض ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار السلام. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لقاء نتابع فيه المدائح النبوية؛ تلك القصائد التي قيلت في خير البرية صلى الله عليه وسلم، واليوم سنقف مع قصيدة للدكتور عبد الرحمن العشماوي الشاعر الإسلامي السعودي المعاصر، في قصيدة جعل عنوانها: حداء الهجرة. وهي قصيدة تعنى بالنبي صلى الله عليه وسلم جملة، وبحادثة الهجرة على وجه الخصوص من سيرته صلوات الله وسلامه عليه. وكما جرت العادة فسنقرأ شيئاً من الأبيات، ثم نعلق عليها تعليقاً يغلب على الظن أننا نحاول أن نجلو فيه شيئاً من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم. قال الدكتور عبد الرحمن العشماوي في ذكرى هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم: تسري فيرتاح الظلام من السرى ويفر من أجفان أنجمه الكرى ويفيض وجه هلاله بسعادة فيصير حين يراك بدراً نيراً ويراك مصدر ما صفى من نوره أعظم بنور كنت فيه المصدرا تسري فيلتهم الطريق خطاك في شوق ويضحك تحت نعليك الثرى يلقي إليك الرمل ألف تحية ولو استطاع لصار حقلاً أخضرا والغار يصبح واحة من فرحة لما يرى في ليل وجهك مسفرا ما ضمك الغار المحب وإنما ضم الندى والغيث حتى أزهرا ظن النبوة منبعاً يجري على أرض الكرامة والأمانة كوثرا تسري فيورق كل غصن ذابل ويصير من بعد الجفاف الأنضرا ويدر ضرع الشاة وهي هزيلة لبناً ألذ لشاربيه وأوفرا أسرجت خيل الحق في غسق الدجى وخرجت والتاريخ يبصر ما يرى فمررت من بين الرجال كأنهم خشب وسلمت الأمانة حيدرا احثوا التراب على الرءوس ولا تخف فعيون من وصدوا طريقك لا ترى تسري فيهتف من قباء هاتف شغفاً ويلقاك العقيق مكبرا هذه ثنيات الوداع تألقت لما رأت ليل المدينة مقمرا ماذا أقول إذا كتبت مدائحي إني أراك من المدائح أكبرا فأقول ما يرضي عقيدتك التي أجريت منها في المشاعر أنهرا فلأنت عبد الله أنت رسوله يرضيك أن تدعى بذاك وتذكرا صلوات الله وسلامه عليه، وحقاً كما قال الدكتور العشماوي؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم لا يرضيه شيء أعظم من أن يقال: إنه عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. وأما التعليق على الأبيات أيها المباركون! فإن الشاعر ذكر أن القصيدة تعنى بقضية الهجرة، وأحرر القول هنا حول الهجرة فيما يلي: يجب أن نعلم أن الهجرة بدأت مع البعثة، فالبعثة والهجرة في أيام ولدتا واحدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم من سيرته أنه لما نزل خائفاً وجلاً من الجبل قال: (دثروني دثروني)، ودثرته خديجة، وناداه ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وزملته خديجة وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] وأخذته خديجة إلى ابن عم لها يقال له: ورقة بن نوفل، وورقة هذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومه سيخرجوه، فقال صلى الله عليه وسلم في أيام البعثة الأولى مستفهماً: (أومخرجي هم؟ قال: نعم)، وهذا يدل على أن الهجرة والبعثة وجدتا في أيام واحدة، فهذا إرهاص عن طريق ورقة بن نوفل يسوقه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كي يوطئه بأن يقبل الهجرة. وكانت قبل الهجرة إلى المدينة الهجرة -كما هو معلوم- إلى الحبشة لبعض الصحابة، ولم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أي ديار قبل المدينة، لكن ما الفرق ما بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة؟ قبل أن نبين الفرق نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما هاجر إلى المدينة إلا والإسلام قد دخل أكثر بيوتها، فالهجرة إلى الحبشة هجرة إلى دار أمن، وأما الهجرة إلى المدينة فهي هجرة إلى دار أمن وإيمان بخلاف الهجرة إلى الحبشة، والآن بعض المسلمين في بعض البلدان مضطرون للهجرة لأي سبب سياسي أو اقتصادي أو شخصي وهذا ظاهر عياناً واقع مشهود نعيشه، فالحمد الله هنا على نعمة الأمن والإيمان. فالمقصود: أن هجرتهم إلى السكنى في الغرب، منهم من يذهب إلى استراليا، كمثال، فالهجرة إلى استراليا ليست هجرة إلى دار إيمان، لكنها هجرة إلى دار أمن، فكذلك المهاجرون الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة هاجروا إليها باعتبار أنها إلى دار أمن. إذاً: فهذا يسوغ شرعاً للمؤمن إذا خاف على دينه أن يهاجر إلى دار أمن، وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، فالدار المدينة، والإيمان ذلك الذي كان يملأ القلوب، وأكثر أهل المدينة من الأنصار من أهل الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا تفريق ما بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة، وبينا أن الهجرة ولدت مع أيام البعثة، فقد قال لـ ورقة بن نوفل: (أومخرجي هم؟).

صحبة الصديق لرسول الله في الهجرة

صحبة الصديق لرسول الله في الهجرة وقد منَّ الله جل وعلا على الصديق بأن يكون صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم في هجرته، وقد ذكر المؤرخون أن عمر رضي الله تعالى عنه هاجر جهاراً، وفعل ذلك بعض الصحابة غير عمر، فلماذا هاجر عمر جهاراً وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم خفية؟ هناك جملة أسباب عديدة لكن من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم موضع قدوة، فهو يقول: (الضعيف أمير الركب)، فالأحكام الشرعية تأتي على حال الإنسان الأضعف، ولا تأتي على حال الإنسان الأقوى، فنبينا صلى الله عليه وسلم قدوة بخلاف عمر، وعمر قدوة في أفعاله التي وافق فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما اجتهد فيه فيبقى مثله مثل سائر الأصحاب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، لا تكلف ما لا تطيق؛ لأن الله جل وعلا رفع عنا العسر ووضعه عنها ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهذا من أعظم الأسباب في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى هجرته بخلاف بعض الصحابة كـ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فيما ذكره المؤرخون عنه.

تبيين أن الضمير في قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته) يعود إلى الصديق

تبيين أن الضمير في قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته) يعود إلى الصديق والنبي عليه الصلاة والسلام مكث مع أبي بكر في الغار، وهذا أمر مستفيض، لكنني سأقف عند نقطة يغفل عنها البعض، وإن كان قولنا فيها قد يخالف قول جماهير أهل العلم من المفسرين، الله جل وعلا يقول: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40]، فجمهور أهل العلم من المفسرين على أن قول الله جل وعلا: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) أي: بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من نصرة في الغار، وأقول والعلم عند الله: إن هذا خلاف الصواب أو خلاف ظاهر الآية فيما يبدو لنا، وتفسير معنى الآية كالآتي: لقد نزلت هذه الآية تتحدث عما كان من حال بعض المنافقين من عدم نصرتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا أراد أن يبين لمن يقرأ كلامه أن النبي صلى الله عليه وسلم في غنى عن نصرة العباد له؛ لأن الله ينصره، ثم ذكر الله جل وعلا -فيما نحسب- موضعين نصر فيهما نبيه، فقال: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ)) أي: إن لم تنصروه، ((فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)) في موضعين، الأول: ((إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ))، فالموقف الأول عندما أخرجه الذين كفروا، أي: ألجئوه إلى الخروج من مكة إلى المدينة، ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ)) أي: النبي صلى الله عليه وسلم والصديق: ((إِذْ هُمَا)) النبي والصديق، ((فِي الْغَارِ)) المعروف. هذا كله لا خلاف فيه، ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ)) أي: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر، وهذا إلى الآن متفق عليه، ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) وهذا خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو بكر: (إن أحدهم لو نظر أسفل قدميه لرآنا، قال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فهذا الحدث بينه الله قولاً فقال الله جل وعلا: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))، وهذه منزلة شريفة لـ أبي بكر، إذ أن الله قال على لسان نبيه في القرآن: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) أي: معك، في حين أن الله قال على لسان كليمه موسى لما أتبعه فرعون وجنوده بغياً وعدواً، قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، ولم يشرك في تلك المعية، في حين أن الله جل وعلا أشرك الصديق في هذه المعية مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كنا نعلم أن نصرة الله لنبيه تختلف عن نصرته لـ أبي بكر، لكن في جملة الخطاب جاء الخطاب واحداً، ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ))، أي: على أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الغار مطمئناً، تغشاه السكينة، وأما أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فحزنه وشفقته وخوفه على رسوله صلى الله عليه وسلم جعله خائفاً؛ لأنه يعلم أن في هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهاباً للدين، وهلاكاً للأمة، فدخل خائفاً وجلاً، وأخذ يقول: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر أسفل قدميه لرآنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الصديق: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))، وبهذا اللفظ النبوي نزلت السكينة على أبي بكر: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ))، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم من بادئ الأمر والسكينة عليه، وأما الصديق فبعد هذا الطمأنينة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم غشيته السكينة، وأما قول الله: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) عقلاً -يا أخي- ونقلاً لا يمكن أن يستقيم الخطاب إذا كان الحديث عن الهجرة، لكن ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) الواو هذه واو استئناف، والله يتكلم الآن عن موقف ثان غير موقف الهجرة، يتكلم على أنه نصر نبيه يوم بدر، فيوم بدر حاربت الملائكة، والصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا حاضرين بدراً، يعني: النفر الذين شهدوا بدراً كانوا حاضرين، ومع ذلك لم يروا الملائكة، ولم يروا أولئك الجند الذين أيد الله بهم نبيه، فهذا معنى قول الله: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ)) أي: يوم بدر ((لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى))، هذا كله في بدر. إذاً: القرآن يتحدث عن موقفين نصر الله فيهما نبيه: الموقف الأول يوم الغار، والموقف الثاني: يوم بدر، ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا))، لكن لو جعلنا كما قال -جمهور أهل التفسير- لو جعلنا الخطاب: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) خاص بيوم الهجرة فلا يستقيم المعنى؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم المخاطبون الأولون بالقرآن لم يكونوا حاضرين يوم الغار، فبدهي جداً أنهم لم يروا النبي ولم يروا الجنود؛ لأنهم لم يكونوا حاضرين، والإنسان لا يطلب منه ولا يكلف أن يقع شاهد إثبات يعمر فيه، لا يمكن أن يقع هذا، ولا يمكن أن يستقيم نقلاً ولا عقلاً، لكنهم يوم بدر كانوا حاضرين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فشهدوا المعركة لكنهم لم يشهدوا أولئك الملائكة وهم ينصرون نبينا صلى الله عليه وسلم. فيستقيم المعنى: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) وكنتم حاضرين، لكن في يوم الغار لم يكن أحد من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر، وكان موجوداً مع النبي في الغار، فلا يستقيم أن يكون الخطاب عن يوم الغار: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)). ومن ذهب إلى أن المقصود نسج العنكبوت وبيض الحمامة، فهذا يرده العقل، ولو سلمنا بصحة الرواية التي تقول: إن العنكبوت نسجت بيتاً، وسلمنا بصحة الرواية التي تقول: إن الحمامة باضت، فهذه من جنود الله ونحن متفقون، لكنها ترى بالعين، فالله يقول: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا))، فإذا كان القرشيون رأوا الحمامة ورأوا العنكبوت لم يستقم معنى الآية: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا))، لكن يستقيم إذا جعلنا الموقف موقفين: يوم بدر وموقف قبله يوم الغار، فالله يريد أن يقول للناس: إنني نصرت نبيي بموقفين حالكين: موقف الغار لم يكن معه إلا أصحابه، وموقف يوم بدر يوم كانوا أذلة، وهذا يعضده قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]. بعض الطوائف ممن ينتسب إلى الإسلام ((لا تَحْزَنْ)) فيها قدح لـ أبي بكر، أين القدح؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصديق، وفعل الصديق هذا واحد من اثنين -حسب نظرتهم- إما أن يكون طاعة وإما أن يكون معصية، فلو كان حزنه طاعة، فالنبي لا يمكن أن ينهاه عن طاعة ويقول له لا تحزن وهي طاعة، قالوا: لم يبق إلا أن يكون معصية، فيقولون: إن الصديق عصى الله ورسوله يوم الغار، وهذا باطل؛ لأن هذا الموقف ليس موقف طاعة ولا موقف معصية، بدليل أن الله قال لنبيه: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس:76] فإذا كان قول الله جل وعلا: ((لا تَحْزَنْ)) قدح للصديق فيلزم من قولكم أن قول الله: ((فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)) قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول فيه كفر. إذاً فـ الصديق لم يكن عليه تثريب، بل إنني أقول: إن قول الله جل وعلا: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ)) أن المقصود إنزاله على الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهي من أعظم مناقبه وخصاله، فما آتاه الله إياه رضي الله عنه وعن أبويه وعن أبنائه وبناته، فلا يعرف في الصحابة أحد أسلم أبواه وزوجته وأبناؤه وبناته جميعاً إلا الصديق، فهذه خصيصة ومنقبة أكرم الله بها صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أرجو أن يكون قد تحرر الخطاب حول الهجرة.

من بركات رسول الله

من بركات رسول الله نعود إلى قول الدكتور العشماوي في قصيدته: ويدر ضرع الشاة وهي هزيلة لبناً ألذ لشاربيه وأوفرا هذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طريقه من شاة أم معبد، وقصة الشاة مشهورة، وأنا لا أحب أن أتكلم في شيء مشهور، لكن سأقف وقفة خفية في الموضوع: نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ومعه أصحابه أبو بكر وعامر بن فهيرة كخادم وعبد الله بن أريقط كدليل، فأصبحوا أربعة، فدخلوا على أم معبد في القصة المشهورة وما كان عندها حليب في الخيمة إلا شاة أخبرت أنها عازب وحيال وأنها أجهدها ضعفها أن تذهب مع الغنم، فمسح صلى الله عليه وسلم على ضرع الشاه وسمى الله ودرت، فهذا كله نقرؤه ما في السيرة، والموقف الخفي: أن النبي أشرف هو الخلق وعامر بن فهيرة إنما جاء خادماً، والعظيم من الناس تنطلق عظمته من نفسه ولا يحتاج إلى أن تسلط عليه الأضواء، فإذا غابت عنه الأضواء ذهبت عظمته، هذا يقال في عظماء الدنيا، وأما من ملك العظمة الأولى أعطاه الله جل وعلا عظمة من عنده هبة ربانية مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يحتاج أن يلفت أنظار الناس إليه؛ لأنه مكتف ذاتياً بما جعله الله في قلبه من العظمة، وتحرير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد هذا الركب، بل هو سيد الناس، بل هو سيد ولد آدم، ومع ذلك هو الذي حلب، وسقى المرأة، وسقى أبا بكر، وسقى عامراً، وسقى عبد الله بن أريقط، ثم شرب، ولو كان غيره ممن يبحث عن العظمة فإنه يحاول سيقول: يا عامر! تعال اسقنا؛ حتى يبين أنه هو الآمر والناهي، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا؛ لأنه عظيم في نفسه ولو لم يدرك بعض من حوله عظمته، فسقى لهم وشرب آخر القوم صلى الله عليه وسلم؛ حتى يبين لكل أحد من أين تنطلق عظمة الإنسان، فالذي يبني عظمته على مدح الناس سيشعر بالإهانة والذل إذا تخلى الناس عنه، لكن العظيم عظيم أينما وضعته، مثل نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، ومع ذلك بيع بثمن بخس، فيوسف في بيت أبيه هو يوسف عندما بيع، وهو يوسف عندما كان في قصر امرأة العزيز، وهو يوسف عندما كان في السجن، وهو يوسف على كرسي الوزارة، فلم يتغير حاله؛ لأن عظمته تنبعث من نفسه، وهذا حال أنبياء الله العظماء، وفي مقدمتهم سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم. إن المرء إذا كان عظيم الصلة بالله فإنه يعلم أن الله وحده هو المعطي، والله وحده هو المانع، ويعزل نفسه عن مدح الناس أو ذمهم، ويكون همه وغايته رضوان الله، فهذا يشعر بطمأنينة وسكينة مهما تبدل الناس عليه وتغيروا حوله فإنه يبقى واثقاً في خطوته، فيمشي نحو طريقه إلى ربه بخطى ثاتبة يتذكر قول الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، وقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، فيخشى أنه بذنوبه يذله الله، فإذا أحسن الصلة مع ربه أعزه الله جل وعلا بطاعته، فقد قيل: يأبى الله إلا أن يذل من عصاه، فمن أراد السؤدد والفوز في الدارين والسعادة في الحياتين فليحسن الصلة بربه جل وعلا، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم خلق الله صلة بربه تبارك وتعالى، فهذه الصلة العظيمة والاستغفار في فلق الأسحار، والقيام لله تبارك وتعالى، والقيام بواجبه والعبودية على أكمل وجه، هي التي جعلته صلى الله عليه وسلم بما آفاءه الله عليه عزيزاً لا يبلغ عزته أحد من العباد بما وهبه ربه، وبما منحه خالقه. وهذا فيه درس لكل أحد أن يجعل أمره ويفوضه إلى الله كما قال العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. جعلني الله وإياكم ممن توكل عليه فكفاه، وسأله فأعطاه، واستغنى به فأغناه. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله من تحرير التعليق حول قصيدة الدكتور عبد الرحمن العشماوي في حداء الهجرة النبوية. نسأل من الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

§1/1