شرح القواعد السعدية

عبد المحسن الزامل

شَرْح القَواعِد السَّعدِيَّة

(ح) دَار أطلس للنشر والتوزيع، 1422 هـ فهرسة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر الزامل، عبد المحسن بن عبد الله شرح الْقَوَاعِد السعدية - الرياض 300 ص، 17؛ 24 سم ردمك: 5 - 7 - 9137 - 9960 1 - أصُول الْفِقْه ... أ - العنوان ديوي 251.6 ... 0285/ 22 رقم الْإِيدَاع: 0285/ 22 ردمك: 5 - 7 - 9137 - 9960 حُقوقُ الطَّبع محْفُوظَة للِنَّاشِر الطَّبَعة الأولى 1422 هـ - 2001 م دَارُ أَطْلَس لِلنَّشْرِ وَالتَّوزِيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض: 11362 ص. ب: 162 هَاتِف: 4266963 - 4266104 فاكس: 4257906 الْموقع الالكتروني: www.dar-atlas.com الْبَرِيد الالكتروني: [email protected]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قام الأخوان الكريمان كلّ من الشيخ/ عبد الرحمن ابن سليمان العُبيد والشيخ أيمن بن سعود العنقري بالعناية بكتاب "شرح القواعد السعدية" والذي أصله دروس أقيمت في مسجد شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - وذلك عام 1415 هـ، فكان من أخينا عبد الرحمن العبيد لاجتهاد في تفريغه من الأشرطة المسجلة من الإذن له في حذف ما يرى حذفه مناسباً فاجتهد في ذلك، جزاه الله خيراً. ثم كان من أخينا أيمن العنقري العناية به من جهة التخريج لأحاديثه، جزاه الله خيرًا. وقبل ذلك قرأه عليَّ أخونا عبد الرحمن بعد تفريغه، فكان مني النظر في بعض المواضع أثناء القراءة، فزدتُ فيه ونقصت ما يحتاج إلى ذلك. أسأل الله سبحانه أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، آمين، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتبه عبد المحسن بن عبد الله الزامل 15/ 11/ 1421 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد وفقنا الله تعالى ويسَّرَ لنا الاعتناء بدروس شيخنا الشيخ/ عبد المحسن بن عبد الله الزامل - حفظه الله -، وقمنا بإخراج شرح شيخنا على كتاب "القواعد والأصول الجامعة للشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - والذي كان بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بمدينة الرياض في الدورة العلمية في صيف عام 1415 هـ. وسيلي هذا الشرح - بإذن الله - ما تيسَّر من شروحات بعض المتون العلمية لفضيلة شيخنا - وفقه الله -. أعاننا الله تعالى على إخراجها وطبعها. هذا، ونسأله سبحانه أن يجزيه خير الجزاء وكلَّ من أسهم في إخراج هذا الكتاب المبارك، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه عبد الرحمن بن سليمان بن محمد العبيّد وأيمن بن سعود بن عبد العزيز العنقري ص. ب 74 ضرماء 11923 ... ص. ب 446 الرياض 11391

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. أما بعد: ففي هذا الكتاب نتناول علماً مهماً من العلوم التى اجتهد العلماء في سائر المذاهب بتحصيله وكتابته وتدوينه، وهو علمُ قواعد الفقه. وهذا العلمُ من أهم العلوم، ومن ضَبَطَ الأصول في قواعد الفقه وجملة مما يتفرع عنها فإن مسائل الفقه تنضبط عليه، ويَحسُن فهمُه، ويَحسُن إدراكه، ويكون سبباً في أن يحصل له مَلَكة في الفقه يستطيع أن يُلحق المسائل بنظائرها وأشباهها وأمثالها، وهذا يُعينَه على ضَبْطِ مسائل كثيرة، ويحفظ عليه وقتاً كثيراً في تتبع المسائل، فتكون لديه مَلَكَةٌ في معرفة المسائل إذا وردت عليه في سائر أبواب الفقه، فلا يحتاج إلى تتبع كل مسألة؛ بل إذا عرف الأصول في القواعد المبنية على الأدلة الصحيحة فإنه ينضبط قوله وتنضبط فتواه وهذا ليس معناه أن لا يوجد مسألة إلا وهى مُدْرَجَةٌ تحت قاعدة من القواعد التي ذكرها أهل العلم، بل هذه لها استثناءات، وقد تكون بعض القواعد خرج منها كثير من المسائل بأدلة، وقد تكون بعض القواعد مبنية على دليل ضعيف أو استنباط لا يَصحّ إلى غير ذلك. وكتابنا هذا هو شرح القواعد والأصول الجامعة، وهو لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - وهذا الكتاب مُبَسَّطٌ جداً ومُيَسَّرٌ، وعباراته واضحة.

أولا: تعريف القاعدة

وكتب القواعد كثيرة، وما من مذهب من المذاهب إلا وفيه جملة من كتب القواعد، منها البسيط، ومنها الوسيط، ومنها المختصر. فمنهم من يطيل في التخريج جداً، ومنهم من يختصر جداً، فإذا ذكر القاعدة لا يذكر تحتها شيئاً من الأمثلة أو يذكر مثالاً، ولا يوضح القاعدة ولا يبيّنها. وهذا الكتاب بناه مؤلفه - رحمه الله - على ستين قاعدة، فيذكر القاعدة مختصرة ثم يُتْبعُهَا بشرح مُيسَّر، ونحن نشرح هذه القواعد التى ذكرها فنأخذ القاعدة ثم نشير إليها بشيء مما يقتضيه المقام. وهذه القواعد التى جمعها - رحمه الله - غالبها مأخوذ من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - والعلاّمة ابن القيم، وكذلك من قواعد ابن رجب وغيرها من كتب القواعد. وسوف نشير في البداية إلى جملة مهمة ومختصرة تتعلق بعلم القواعد: * أولاً: تعريف القاعدة: القاعدة معناها لغة: الأساس، وهي أصل الشيء الذي يُبنى عليه، حسياً كان أم معنوياً. فالحسي: كقواعد البيت وهي أركانه التى يُبنى عليها. والمعنوي: كقواعد الدين، أي أسس الدين. واصطلاحاً: اختلف فيه كثيراً، في خصوص قواعد الفقه قيل: إنها حكم أغلبي

ثانيا: يذكر العلماء في باب القواعد ما يسمى الضابط، فهل هو ومسمى القاعدة واحد أو بينهما فرق؟

ينطبق على معظم جزئياتها. . هذا تعريف من تعريفات قواعد الفقه. ونحن نعرف أن غالب الحدود لا تنضبط تماماً بل يَرِدُ عليها أشياء ليست منها، ويخرج منها أشياء هي منها، فعلى هذا قولهم: إن القاعدة هي حكم أغلبي فهذا تعريف عام يشمل القواعد في الفقه وغير الفقه، ولأجل هذا عبَّر غيرهم مكان هذا التعريف فقال: هي حكم كلي يدخل فيه جميع جزئياته. . لكن التعريف الأول أقرب لأن كثيراً من القواعد يحصل لها استثناءات. * ثانياً: يذكر العلماء في باب القواعد ما يسمى الضابط، فهل هو ومسمى القاعدة واحد أو بينهما فرق؟ طريقة جمهور من يصنف في قواعد الفقه لا يفرقون بحسب التَّتَبع، فتجدهم يذكرون كتب القواعد ويقولون قاعدة، فيذكرون قاعدة كُليّة في أبواب الفقه كلها أو في أكثرها، أو يذكرون قاعدة في باب واحد، وهي إذا كانت في باب واحد فإنها تكون ضابطاً، ومع هذا هم يسمونه قاعدة، وهذا يقع كثيراً في قواعد الحافظ ابن رجب - رحمه الله -، وكذلك كتاب الفروق للقرافي، وغيرهم ممن كتب في قواعد الفقه، فتجدهم لا يفرقون بين القاعدة والضابط. بل بعضهم قد يذكر ضوابط كثيرة، وقلَّ أن يذكر قاعدة ويسميه كتاب القواعد، أو قواعد الفقه، أو عبارة نحو هذا، فلهذا تجدهم لا يفرقون، وكثير منهم فرّق من جهة الاصطلاح، لكن من جهة العمل والتطبيق لا يفرقون، فكثير منهم يقولون: إن القاعدة تكون في جميع أبواب الفقه أو في أكثرها، فمثلاً قاعدة

"اليقين لا يزول بالشك"، وقاعدة "العادة محكِّمة"، وقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسر"، وقاعدة "الأمور بمقاصدها"، هذه قواعد كُليّة في أبواب الفقه كلها أو في أغلبها، هذه هي التي تسمى قواعد، أما إذا كان في باب خاص من أبواب الفقه فإنه في الغالب يسمى ضابطاً، ويسمى ضابطاً لأننا قصدنا إلى مسائل هذا الباب فضبطناها بضابط معين، ثم رتبنا لها عبارات تضبطها، فمثلاً يقولون: كل كفارة سببها المعصية فهي على الفور، ككفارة الجماع في نهار رمضان عمداً، وكفارة الظهار، فهذه خاصة في باب الكفارات، فلذلك هذا لا يسمى قاعدة بل يسمى ضابطاً، وإن سُمّيَ قاعدة فلا حرج، لا مُشاحة في الاصطلاح كما يقولون. لكن تسميته ضابطاً أضبط عند كثير من أهل العلم في قواعد الفقه، ثم الضوابط تختلف بحسب الخلاف في المذاهب، مثلاً حينما نقول في باب سجود السهو: كل زيادة في الصلاة فمحل السجود بعد السلام، وكل نقص قبل السلام، فهذا ضابط في باب سجود السهو (¬1) وإن سمَّيته قاعدة فلا بأس، مثلاً في أبواب المياه: الماء طهور ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهذا ضابط في أبواب المياه، لكن التغير يختلف، بعضهم يجعله إذا تغيّر بشيء من الطهور يسلبه وصف الطهورية. إذن الضابط يختلف بحسب اختلاف المذاهب، وكذلك القاعدة كما سيأتي - إن شاء الله -، مثلاً فيما ذكرنا قَبْلُ في باب سجود السهو حينما قلنا كل زيادة في ¬

_ (¬1) عند بعض المذاهب، وبعضهم يقول كل سجود قبل السلام إلا في موضعين.

ثالثا: الأشباه والنظائر هل هي مختلفة، أو معناها واحد؟

الصلاة فإن سجودها بعد السلام، فهذا يختلف، فبعضهم لا يسلِّم بهذا الضابط في مسمى الزيادة. وهناك ضابط آخر في باب سجود السهو وهو أقرب من جهة الدليل وهو قولهم: كل سجود في الصلاة فهو قبل السلام إلا ما كان مبنياً على غلبة الظن، أو سلّم في صلب الصلاة، هذا فيما يتعلق في الفرق بين القاعدة والضابط الفقهي. * ثالثاً: الأشباه والنظائر هل هي مختلفة، أو معناها واحد؟: هناك كتاب اسمه الأشباه والنظائر للسبكي، وللسيوطى، ولابن نُجيم الحنفي، ففي هذا الباب عندنا ثلاث كلمات: الأشباه والنظائر والأمثال. الأمثال: هي المسائل المتشابهة من كل وجه، مثل ما نقول: هذا الكتاب مثل هذا الكتاب، هذا الثوب مثل هذا الثوب أي أنه مثله من جميع الوجوه. الأشباه: هى المسائل المتشابهة في أكثر الوجوه، فإذا كان عندنا مسألتان مشتبهتان من ثلاثة أوجه، وتختلفان من وجهين كانت من الأشباه؛ لأن وجوه الاتفاق أكثر من وجوه الاختلاف. ومن هذا ما يسمونه قياس الأشباه، أو قياس الشبه، على الخلاف في صحته وفساده ومدى حجّيته، ومعناه أن يختلف في الشيء هل يلحق بهذا الشيء أو يلحق بهذا الشيء، فإذا أشبه هذا الشيء في أكثر المسائل ألحق به، فمن الأمثلة التي ذكروها في هذا: المملوك هل يلحق بالمال أو بالحر؟ فهو من جهة أنه يباع

النظائر

ويشترى يُشبه الحيوان في مسائل، ومن جهة أنه مُتعبَّد ومكلّف يُشبه الحر. النظائر: هي المسائل التي يكون بينها شبه في أقل الوجوه، فهذا نظير هذا يعني أنه مثله في وجه من الوجوه. * رابعاً: القواعد الأصولية والقواعد الفقهية: أحكام الشرع مدارها على أصلين: قواعد الأصول، وقواعد الفقه. * قواعد الأصول: هي المسائل التي تحتها أنواع من الأدلة الفقهية، وهذه عبارات يختلف فيها ويختلف في بيانها، وهي وإن كانت واضحة، لكن يختلف في الفرق بينها وبين القواعد الفقهية، وكثير منهم لم يفرق بينها بفرق واضح، لكن هي من جهة التطبيق تختلف. * فالقواعد الأصولية: هي التي يندرج تحتها أنواع من الأدلة، مثل قولنا الأمر للوجوب، النهي للتحريم، المبَيَّن مقدم على المُجمل، الخاص يقضي على العام، النص مقدم على الظاهر، الظاهر مقدّم على المُؤوَّل، وما أشبه ذلك من قواعد الأصول التى هى أنواع من الأدلة يُحكم بها، فيقال هذا للوجوب، هذا للتحريم، هذا خاص، هذا عام، وما أشبه ذلك. * القواعد الفقهية: هي المسائل التي يندرج تحتها أحكام فقهية، فإذا نظرت مثلاً إلى قولنا "الأمور بمقاصدها" فرق بينه وبين قولك "الأمر للوجوب"، "الأمور بمقاصدها" يندرج تحتها أنواع من المسائل الفقهية، فمن أخرج مالاً وأعطاه

خامسا: كيف تصاغ القواعد الفقهية

رجلاً، إن كان أعطاه إياه بنية الزكاة أجزأ عنه، وإن كان أعطاه للهبة لم يكن للزكاة، وإن كان قضاء دين لم يكن للزكاة ولم يكن هبة. . وهكذا في الصلاة: فمن صلى الظهر بنية الظهر كانت ظهراً ومن صلى العصر بنية العصر كانت عصراً. . وهكذا في مسائل كثيرة، فهذه تدخل فيها جميع أبواب الفقه أو غالب أبواب الفقه. أما قواعد الأصول فيندرج تحتها الأدلة مثل ما نقول: "الأمر للوجوب" فهل نستفيد من قولنا الأمر للوجوب حكماً فقهياً عملياً؟، لا نستفيد من هذا حكماً فقهياً عملياً إلا بواسطة دليل خاص. أما قولنا "الأمور بمقاصدها"، أو "اليقين لا يزول بالشك"، فهذا نستفيد منه أحكاماً فقهية، فمن صلى ثم لما فرغ شك في صلاته فصلاته صحيحة، ومن توضأ ثم بعد ذلك شك هل انتقض وضوءه أم لم ينتقض؟ نقول: وضوءه صحيح. * خامساً: كيف تصاغ القواعد الفقهية: القواعد الفقهية تختلف، منها ما هو نص دليل، ومنها ما هو مستنبط من الدليل، وهذا أيضاً فيه تفصيل، لكن هذا من جهة القواعد الصحيحة التي تُقبَل ويُحتَج بها، مثلاً قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" هذه أصلها حديث ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)، وهذه أعلى أنواع ¬

_ (¬1) هذا الحديث له عدة طُرق منها: الطريق الأول: ما أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الأحكام (2340)، والإمام أحمد في=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مسنده (5/ 326 - 327) من طريق موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. . فذكره. فالحديث ضعيف؛ لأن في سنده انقطاعاً بين إسحاق وعبادة، ولذا قال البوصيري في الزوائد: في حديث عباده هذا إسناد رجاله ثقات، إلاَّ أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد، قال عنه الترمذي وابن عدى: "لم يُدرك عبادة بن الصامت"، وقال البخاري: "لم يلقَ عبادة". وقال الحافظ في الدراية ص 373: "وفيه انقطاع". وإسحاق بن يحيى بن الوليد، قال الحافظ في التقريب: "أرسل عن عبادة وهو مجهول الحال"، وقال في التهذيب (1/ 164): "روى عن عبادة ولم يدركه"، وقال الذهبي في الميزان (1/ 204): "قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. الطريق الثاني: وهو من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، ويرويه عنه عكرمة وله عنه طريقان: (1) عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - به فذكره. أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الأحكام (2/ 2340، 2341، واخرجه أحمد في مسنده (1/ 313) رقم (2867) وفيه: جابر الجعفي، وهو متروك الحديث، ذكره البخاري في الضعفاء الصغير (49) وقال: "تركه يحيى، وابن مهدى". وقال النسائى في الضعفاء والمتروكين: "جابر بن يزيد الجعفي متروك، كوفي". (2) عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "للجار أن يضع خشبته على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبعة أذرع، ولا ضرر ولا ضرار". وهذا الطريق عند الدارقطني في سننه (4/ 84)، وداود بن الحصين ثقة إلا في روايته عن عكرمة كما قاله الحافظ، وقال ابن معين: ثقة، وقال على بن المدينى: ما روى عن عكرمة فمنكر، قال: وقال ابن عيينة: كنا نتقي حديث داود، وقال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير". انظر: التهذيب (2/ 296)، الميزان (2/ 36). فيتلخَّص مما سبق من كلام الحفَّاظ: أن روايته عن عكرمة منكرة. الطريق الثالث: حديث أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه -. . . ".

القواعد وأقواها؛ لأنها من قوله - عليه الصلاة والسلام -، كذلك قاعدة "الخراج بالضمان"، وهذا نصّ حديث ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "الخراج بالضمان" (¬1)، هذا هو النوع الأول الذي هو نص دليل. ¬

_ = أخرجه الدارقطنى في سننه (522)، والحاكم (2/ 57 - 58)، والبيهقى (6/ 69) وقال: "تفرّد به عثمان بن محمد" وهو ضعيف، وهو من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن يحيى المازنى عن أبيه عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه، وزاد: "من ضارّ ضرَّهُ الله، ومن شاقّ شقَّ الله عليه"، مع أن الحاكم في مستدركه (3/ 65) قال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم"، ووافقه الذهبى، ولكن الحديث بهذا الطريق ضعيف لوجود هذا الرجل فيه وهو عثمان. الطريق الرابع: من حديث جابر رضي الله عنه عند الطبرانى في الأوسط (1/ 141) من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن عمه واسع بن حَبَّان عن جابر رضى الله عنه بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". قال الطبرانى بعد أن ساقه: "لم يروه عن محمد بن يحيى إلا ابن إسحاق " ومحمد بن إسحاق صدوق لكنه مدلس وقد عنعنه، وقال عنه المناوى فى فيض القدير: "حسّنه النووي في الأربعين قال: ورواه مالك مرسلاً وله طرق يقوي بعضها بعضاً". وقال العلائى: "للحديث شواهد ينتهى مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به". فالحديث يرتقى لدرجة الصحيح بمجموع طرقه وشواهده. (¬1) أخرجه أبو داود في سننه فى كتاب البيع من سننه (3508)، والنسائى (2/ 215)، والترمذي (1/ 242)، وابن ماجه (2242)، وأحمد (6/ 49 - 161)، والحاكم في المستدرك (2/ 15) كلهم من طريق ابن أبى ذئب عن مخلد بن خُفاف عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. قال الترمذى: "حديث حسن صحيح غريب". والحديث في سنده مخلد بن خفاف، لم يوثقه غير ابن حبان. قال الحافظ فى التهذيب (5/ 7609): مخلد بن خُفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، لأبيه وجده صحبةٌ روى عن عروة عن عائشة حديث: "الخراج بالضمان"، وعنه ابن أبى ذئب قال أبو حاتم: لم يرو عنه غيره، وليس هذا بإسناد تقوم بمثله الحجة"، وقال ابن عدى: لا يعرف له غير هذا الحديث، وذكره ابن حبان في=

النوع الثاني: القواعد المستنبطة: والاستنباط في هذه الباب واسع، قد يكون الاستنباط قوياً وقد يكون ضعيفاً، لكن الأصل أنها مستنبطة، مثلاً قاعدة "اليقين ¬

_ = الثقات، وقال فيه البخاري: "فيه نظر". قال الحافظ: وفي سماع ابن أبى ذئب منه عندي نظر، وقال عنه في التقريب: مقبول. وذكر الذهبى في الميزان (4/ 82) عن الترمذي قوله: "لا يعرف بغير هذا الحديث". فالحديث فيه علتان: 1) جهالة مخلد بن خُفاف لعدم توثيقه توثيقاً معتبراً. 2) عدم سماع ابن أبى ذئب من مخلد. ولكن قد تُوبع مخلد، فقد تابعه مسلم بن خالد الزنجى، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها به. . ". وهذه المتابعة عند أبى داود (3510)، وابن ماجه (2243)، والحاكم (2/ 15) في المستدرك وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبى، وفيه مسلم بن خالد الزنجى المكي الفقيه، قال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: لا يُحتج به وضعّفه أبو داود، وقال ابن المدينى: ليس بشيء، ونُقل عن ابن عون ثلاث روايات فيه: فمرة قال: ليس به بأس، ومرة قال: ثقة، ومرة قال: ضعيف". وقد ساق له الذهبى في الميزان (4/ 12) بعض الأحاديث التى استنكرت عليه، ثمَّ قال بعد ذلك: "فهذه الأحاديث وأمثالها تُرَدُّ بها قوة الرجل ويُضعَّف"، وذكره الذهبى في المغني في الضعفاء (2/ 6209). انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (3/ 1325)، تهذيب التهذيب (5/ 7708)، الميزان (4/ 102). ولكن تابع مسلماً هذا عمر بن على المقدَّمى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها به. . . "وهذه المتابعة عند البيهقى في السنن الكبرى (5/ 322) وهو ثقة كما قال الحافظ: "لكنه كان يُدلِّس تدليساً شديداً". وقال عنه الإمام أحمد: كان يدلِّس، وقد أثنى عليه خيراً كما نقل ذلك عنه ابنه عبد الله، وقال أبو حاتم: محله الصدق، ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة، غير أنَّا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة". فالحديث بهذه المتابعات يرتقى لدرجة الحسن، وقد حسّنه الألبانى في الإرواء (5/ 1315) وقال: يتقوى الحديث من الطريق الذي قبله" لاسيما وقد تلقاه العلماء بالقبول كما ذكر الطحاوي.

سادسا: كم عدد القواعد؟

لا يزول بالشك" هذه قاعدة مستنبطة من حديثين عن النبي - عليه الصلاة والسلام - من حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين، ومن حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، ففي حديث عبد الله بن زيد أنه قال: شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (¬1)، وجاء معناه - أيضاً - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، فصاغ أهل العلم من هذا الباب قاعدة وهي قولنا "اليقين لا يزول بالشك" وهو استنباط صحيح وواضح، وهي قاعدة متفق عليها. * سادسًا: كم عدد القواعد؟: اختلف أهل العلم في عددها، منهم من جعلها بالمئات، ومنهم من ردّها إلى قاعدة واحدة، وهذا الاختلاف في الحقيقة ليس اختلافاً معنوياً، مثلاً: العز بن عبد السلام - رحمه الله - ردّ الشريعة كلها إلى تحصيل المصالح، فهذه القاعدة عنده هي الأصل في هذا الباب وتجمع القواعد كلها، فالشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، ويقول: إن تحصيل المصالح لا يحصل إلا بدرء المفاسد، فإذا وجدت المفاسد لم تحصل المصالح فهو راجع إلى تحصيل المصالح، وبعضهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء (1/ 46)، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، ومسلم في صحيحه في كتاب الحيض (3/ 50)، كلاهما من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبَّاد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد رضى الله عنه به فذكره. . "، وله شاهد من حديث أبى هريرة في صحيح مسلم من طريق سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه به مرفوعاً: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أَخرَجَ منه شيء أم لا. . . الحديث".

جعلها أربعاً: (1) اليقين لا يزول بالشك. (2) العادة محكِّمة. (3) المشقّة تجلب التيسير. (4) لا ضرر ولا ضرار. وهذا اعتمده السُّبكى في كتابه الأشباه والنظائر، وبعضهم زاد قاعدة "الأمور بمقاصدها"، والذين يجعلونها أربعاً يقولون إن هذه القاعدة وهي الأمور بمقاصدها داخلة في واحدة من هذه القواعد، وكذلك من جعلها خمساً أو أربعاً أو واحدة لا ينكر تلك القواعد لكنه يقول إنها داخلة ضمن تلك القواعد وأنها مستخلصة منها، ولأجل هذا يذكرون هذه القواعد الكلية ويفرّعون عليها قواعد عظيمة وكثيرة كما هو مُدَوّن في كتبهم. وهذه القواعد الخمس التى سبق ذكرها وهي "اليقين لا يزول بالشك"، "المشقة تجلب التيسر"، "لا ضرر ولا ضرار"،"الأمور بمقاصدها، أو إنما الأعمال بالنيات"، "العادة محكَّمة"، هذه قواعد مقطوع بها ومتفق عليها، ويِلحق بها قواعد كلية متفق عليها، لكن يختلف في تفاريع بعض المسائل، هل تدخل في هذه القاعدة أو لا تدخل؟. أما أصل هذه القواعد فمتفق عليها، وهي الأصل في هذا الباب وهي هذه القواعد الخمس، ويلحق بها قواعد كثيرة متفق عليها مثل قولهم "الاجتهاد لا ينقض

باجتهاد" وما أشبه ذلك، ثم قد يكون دليلها نص حديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل قولهم "الخراج بالضمان" فهذا نص حديث عن النبى - عليه الصلاة والسلام - وما جاء في هذا المعنى من أدلة هى كالقواعد في هذا الباب، بل هي قواعد في بابها. وقد يكون دليلها عمل الصحابة - رضى الله عنهم - فمثلاً قولهم "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد" هذا ذكر أهل العلم أنه محل اتفاق من الصحابة - رضي الله عنهم -، وأن عمر - رضى الله عنه - قضى في المشركة بمشاركة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (¬1)، قال أهل العلم إنَّ فِعْلَ عمر - رضى الله عنه - وموافقة ¬

_ (¬1) أثر عمر - رضى الله عنه - في مسألة المشركة: أخرجه الدارقطنى في سننه (4/ 88) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن مسعود بن الحكم الثقفي قال: "أتى عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - في امرأة ماتت وتركت زوجها وأمها وإخواتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها فشرَّك بين الإخوة للأم وبين الإخوة للأم والأب بالثلث. . . " الحديث. قال في التعليق المغنى: وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وأخرجه البيهقى من طريق ابن المبارك عن معمر لكن قال: عن الحكم بن مسعود وصوَّبهُ النسائى". وأخرجه البيهقى في السنن الكبرى (6/ 255) من طريق ابن المبارك عن معمر به. والأثر من هذا الطريق صحيح الإسناد. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 337) من طريق أبى أمية بن يعلى الثقفي عن أبى الزناد عن عمرو بن وهب عن أبيه عن زيد بن ثابت في المشركة قال: "هبوا أنَّ أباهم كان حماراً ما زادهم الأب إلا قرباً، وأشرك بينهم في الثلث". قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبى. لكن تعقبه الحافظ في التلخيص (3/ 86) فقال: "فيه أبو أمية بن يعلى الثقفى، وهو ضعيف".

سابعا: القاعدة هل يحتج بها أو لا يحتج بها؟

الصحابة له يدل على اتفاق في هذه القاعدة، ولو تأملت لوجدت قواعد أخرى جاءت عن الصحابة - رضي الله عنهم - تشبهها في هذا الباب. النوع الثالث: قواعد موضع خلاف. النوع الرابع: قواعد ضعيفة لا دليل عليها. إذن تكون القواعد في هذا الباب على أربعة أقسام: القسم الأول: ما كان نص دليل، فهذا له الرتبة الأولى من القوة. القسم الثاني: ما كان مستنبطاً، أو كان عن اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم -. القسم الثالث: ما كان موضع خلاف، فهذه قد تُقبل أحياناً وقد لا تُقبل بحسب قوة الدليل وضعفه. القسم الرابع: قواعد فقهية مذهبية بُنيت على قول مذهبي، فهذه لا تُقبل لأنها قواعد مذهبية تخالف الدليل؛ لأنها تُصاغ وفق المسائل في المذهب دون النظر إلى الدليل. * سابعاً: القاعدة هل يُحتج بها أو لا يُحتج بها؟: أي هل هى دليل أم ليست دليلاً؟، إذا نظرنا إلى ما سبق تبين أنها تختلف، فمنها ما هو دليل ويحتج بها، ومنها ما هو مستنبط، فإذا كانت مستنبطة استنباطاً ¬

_ =وذكره الذهبي في الميزان (4/ 493) وقال: "ضعَّفه الدارقطنى، وقال ابن حبان: لا تحلُّ عنه إلاّ للخواص، روى عن هشام بن عروة وأبى الزناد وعنه الصلت بن مسعود وغيره". اهـ. وعليه فالأثر عن عمر صحيحٌ، أما عن زيد بن ثابت فيه أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف.

ثامنا: إذا خالف الحاكم أو القاضي القاعدة، هل يقبل حكمه أو لا يقبل؟

صحيحاً فهي حجة - أيضاً - أما إذا كانت القاعدة مبنية على قول مذهبي فإنها لا تُقبل. * ثامناً: إذا خالف الحاكم أو القاضي القاعدة، هل يقبل حكمه أو لا يُقبل؟ ذكر القَرَافي أن الحاكم والقاضي إذا خالف القاعدة فإنه لا يُقبل حكمه ويرد حكمه، قال: ما معناه: "إن المخالف للقاعدة الفقهية. مخالفة لما أتُّفق عليه، أو لما أجمع عليه، أو مخالفة للدليل فجعل القاعدة دليلاً"، وهذا فيه تفصيل حسب ما ذكر قبل. فإن كانت المخالفة للقاعدة لأجل دليل فإن هذا الحكم أو الفتيا لا تُرد، مثلاً: عندنا "اليقين لا يزول بالشك" هذه قاعدة وأصل في أن جميع مسائلها تندرج تحتها، والأصل بقاء ما كان على ما كان وما أشبه ذلك، فإذا جاءت مسألة من المسائل وقلنا بها على خلاف هذا الأصل، في هذه الحالة ننظر إن كانت مُخالفتنا لهذا الأصل وهو اليقين لأجل دليل آخر عَمِلنا به وإن لم يكن هنالك دليل فإن هذا القول يُردُّ ويعمل بالقاعدة المبنية على الدليل الصحيح، ويكون هذا الدليل مخرجاً لهذه المسألة من عموم القاعدة التى هى أصل في هذا الباب.

القاعدة الأولى الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة

القواعد الفقهية القاعدة الأولى الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة هذه القاعدة محل إجماع من أهل العلم قاطبة، بل هي كما قال كثير من أهل العلم إن الشريعة ترجع إليها وأن ما سواها من القواعد مأخوذ منها ومتفرع عليها وقال بعض أهل العلم إن الشريعة ترجع إلى جلب المصالح لأنه لا يمكن أن تُجلب المصالح إلا إذا دُرئت المفاسد. دلّ على هذه القاعدة أدلة كثيرة من القرآن والسنة والإجماع، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (¬1). فهذه الآية يدل أولها على تحصيل المصالح في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} وآخرها يدل على درء المفاسد في قوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}. أما الأحاديث النبوية فيمكن أن يستدل لذلك بحديث: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (¬2)، وفي لفظ: "لأتمم صالح الأخلاق". ¬

_ (¬1) سورة النحل، آية 90. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 323) من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بُعثت لأتِّمم صالح الأخلاق".=

وكذلك ثبت في الصحيحين أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما مَثَلي ومَثَل الأنبياء قبلي كمَثَلِ رجل بنى داراً إلا موضع لَبِنة، فجعل الناس يطوفون في هذه الدار فيقولون: ما أحسن هذا لولا موضع اللَّبِنة، فأنا تلك اللَبِنة" (¬1). ففى هذا الحديث إشارة إلى أنه أتى بجميع المصالح والأخلاق الحسنة التي جاء بها الرسل قبله - عليهم الصلاة والسلام -، وأنه كمّل هذا النقص كما جاء في الحديث "لأتمم مكارم الأخلاق"، وأنه جاء آمراً بما جاءت به تلك الرسالات من الخير والإحسان والعدل وجاء ليتم ذلك. وإذا تأمّلتَ هذه القاعدة وجدتها تشتمل على أربعة أقسام في صياغتها وهي: 1 - الأمر بالمصلحة الخالصة. ¬

_ = فالحديث فيه محمد بن عجلان وهو صدوق إلا أنه قد اختلطت عليه أحاديث أبى هريرة رضى الله عنه، كما نصَّ على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب (6136). وقال في التهذيب (5/ 219): "وقال يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبى هريرة وعن أبيه عن أبى هريرة وعن رجل عن أبى هريرة فاختلطت عليه فجعلها كلها عن أبى هريرة، ولما ذكر ابن حبان في كتاب الثقات هذه القصة قال: ليس هذا بوهن يوهن الإنسان به لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة". ورواه مالك في الموطأ بلاغاً عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عبد البر: هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، ومنها ما رواه أحمد والخرائطي في أول المكارم بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق "ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم القرشى وهو ضعيف، لكن معناه صحيح". انظر: كشف الخفاء (1/ 244). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في مناقب النبى - صلى الله عليه وسلم - (2/ 228)، باب خاتم النبيين، ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل النبى - صلى الله عليه وسلم - (7/ 64 - 65) كلاهما من طريق عبد الله بن دينار عن أبى صالح عن أبي هريرة رضى الله عنه به فذكره. . ".

2 - الأمر بالمصلحة الراجحة. 3 - النهي عن المفسدة الخالصة. 4 - النهي عن المفسدة الراجحة. فمثال المصالح الخالصة: الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاءه وتوحيده، والإخلاص له، هذه مصالح خالصة مقصودة بالذات أصالة، لم تقصد تبعاً. ومثال المصالح الراجحة: الجهاد في سبيل الله حيث إن فيه إعلاء الدين وتثبيته، ودحر الكفر وأهله؛ لأنه ليس مقصوداً أصالة، فقتل الكفار وسبيهم أمورٌ ليست مقصودة بالذات، إنما المقصود ما يترتب عليها من إعلاء دين الله، ولأجل هذا قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (¬1) فجعله مكروهاً للنفوس وغير محبب لها، لكن لما يترتب عليه من المصالح العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة كان مكتوباً وكان واجباً. ومثال المفاسد الخالصة: الشرك فهو أكبر الكبائر وأكبر الذنوب فهو مفسدة خالصة ليست فيه أي مصلحة أو منفعة فهو مفسدة خالصة من جهة حكم الشرع، وإن كان أصحابه من جهة العادة ومن جهة ما يكسبون ما يحصل لهم بالشرك قد يكون لهم شيء من المنافع لكنها من جهة الشرع مفاسد خالصة. كذلك السحر عند بعض أهل العلم هو مفسدة خالصة، وإن كان قد يحصل ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 216.

للساحر شيء من المنافع في الدنيا لكنها غير معتبرة من جهة الشرع. ومثال المفاسد الراجحة: شرب الخمر واللعب بالميسر، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬1). فأشار سبحانه إلى أن فيهما منافع لكنها إذا قيست مصالحها من التجارة بها وما يحصل من نشوة النفوس بشرب الخمر إلى جانب ما يتولد ويترتب عليها من المفاسد تكون تلك المصلحة مرجوحة ولا قيمة لها، فلا أثر، لكن هي من هذه الجهة ليست كمفسدة الشرك بل هى أقل. والمسألة الثانية في هذه القاعدة: هل هناك مفسدة خالصة ومصلحة خالصة؟. ظاهر كلام كثير من المصنفين في أبواب القواعد وظاهر كلام كثير من أهل العلم أن من المفاسد مفاسد خالصة وأن من المصالح مصالح خالصة. وذهب آخرون إلى أنه ليس في الوجود مفاسد خالصة، كما أنه ليست في الوجود مفاسد راجحة، وقالوا إن ما ذكر من كون الشرك مفسدة خالصة فإنه ليس بصحيح؛ لأنه لو كان مفسدة خالصة من كل وجه لم تمل إليه النفوس، ولم تشرك كثير من النفوس وتتبع الشرك. وكذلك السحر فلو كان مفسدة خالصة من كل وجه فإنه تنفر منه الطباع ولا تقبله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 219.

وكذلك قالوا في مسألة أعمال الإيمان من التوحيد والصلاة والصيام وأعمال البِّر من الذكر وما أشبه ذلك، التي ذكروا أنها مصالح خالصة وأنها لا مفسدة فيها بوجه من الوجوه. قال كثير من أهل العلم إنه ليست مصالح خالصة من كل وجه بل هى مصالح راجحة، وقالوا: إن ما يقترن بالعبادات وما يسبقها من الاستعداد لها من المشقة والتعب وإن كان يسيراً في التقدير فإنه نوع مشقة ونوع تعب يسلبها مسمى الخلوص في باب المصلحة، فإن هذا لا شك أن فيه تعباً ومشقةً، وإن كانت يسيرة، وإن كان الذي يأتي بالعبادة، وتتروض نفسه بالعبادة يحبها ويأنس بها لكن مع ذلك لابد أن يكون هناك شيء من المشقة، ولأجل هذا قال عليه الصلاة والسلام: "حُفّت الجنة بالمكاره" (¬1). فجعل الأعمال الصالحة جميعها مكاره، وقال في حديث أبي هريرة: "فذلكم الرباط" (¬2) عندما ذكر إسباغ الوضوء على المكاره أي في المكروهات في الأحوال ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وحُميد عن أنس بن مالك رضى الله عنه. . . فذكره". وأخرج له شاهداً آخر بعده من حديث أبي هريرة رضى الله عنه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بمثله. . . فدكره". وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقائق، باب حجبت النار بالشهوات (9/ 165) من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُجِبت النار بالشهوات، وحُجِبت الجنة بالمكاره" (4/ 2035). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الوضوء (1/ 151) من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره. . . ".

التي تكرهها النفس ويشق عليها كشدة البرد والحر، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬1) فجعل في الخير كما هو في الشر، وهذا لا يكون في المصلحة الخالصة. وتوسَّط آخرون كابن القيم في مفتاح دار السعادة فقال:" إنْ أريد بالمفسدة المشقة فإنه ليس في الوجود مصلحة خالصة، وإن أريد أن في نفس هذه المصالح وهي العبادة من صلاة وذكر وما أشبه ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة أريد أن في نفس العبادة مفسدة فليس بصحيح، وإن أريد أنه قد يقارنها ويسبقها شيء من المشاق فلا حرج أن تسمى، فإذا سميت مفاسد بهذا الاعتبار فلا بأس فهي مشاق". وقالوا: إن المصالح الخالصة لا تكون إلا في دار القرار في الجنة لأولياء الله، وإلا لو كانت مصالح خالصة في الدنيا لم يكن هناك فرق بين أهل الدنيا في نعيمهم بعبادتهم لله سبحانه وتعالى، وفي نعيمهم في دار الجنة والكرامة، فإن المصالح الخالصة لا تكون إلا في تلك الدار. وكذلك المفاسد الخالصة هي لمن وجب عليه الخلود من الكفار في النار لا تكون إلا في تلك الدار في جهنم. المسألة الثالثة في هذه القاعدة: هل هناك قسم خامس وهو ما تساوت مصلحته ومفسدته؟ ظاهر كلام كثير من أهل العلم أن القسمة رباعية كما سبق، وأنه ليس هناك ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، آية: 35.

مفاسد تقابلها مصالح مساوية، وأن المفسدة تقابل المصلحة من كل وجه من الوجوه، بل لابد إذا وجد مصلحة ومفسدة لابد أن تترجح إحداهما على الأخرى. ولا يليق بحكمته - سبحانه - أن يوجد في الكون شيء يتقابل تقابلاً تاماً مصلحته موافقة لمفسدته في كل شيء، أو مقابلة لها بل لابد أن يغلب أحدهما الآخر فهذا هو ظاهر الأدلة التى ذكرها أهل العلم في هذا الباب. المسألة الرابعة في هذه القاعدة: المصالح على ثلاث مراتب. 1 - مصالح في الدرجة العليا وهى الأفضل في المصالح. 2 - مصالح في الدرجة التى بعدها وهي مصالح فاضلة. 3 - مصالح متوسطة. فالشرع جاء بهذه الأنواع من المصالح كما جاء بما هو في الدرجة العليا من المصالح وهي المصالح الأفضل، وكذلك جاء بالمصالح التي بعدها وهي المصالح الفاضلة، وكذلك جاء بالمصالح التي تكون أدنى من ذلك فهى أفضل ومتوسط وفاضل. ودلَّ عليها حدث النبى - صلى الله عليه وسلم -: أنه سُئل أي العمل أفضل؟. قال: "إيمانٌ بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟. قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟. قال: "حجٌ مبرور" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الحج (1/ 384)، باب فضل الحج المبرور، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه به، فذكره. . .".

فرتّبها إلى ثلاث مراتب، فجعل الإيمان بالله أعظم المصالح وأفضلها وأعظمها لما يكون فيه من توحيد الله والإقرار له والعبودية له، وما يكون في القلب من الخوف والخشية والتوكل من أعمال القلوب العظيمة التي لا يَعْدِلُها شيء. ثم ذكر بعد ذلك الجهاد في سبيل الله الذي هو مقصود بالتتبع ليس مقصوداً بالذات، ولأنه يترتب عليه من إعلاء كلمة الله، وقمع الكفر وأهله فجعله بعد ذلك، ثم ذكر بعد ذلك الحج؛ لأن مصلحته تكون لنفس الحاج، ولمن وجب عليه الحج فليست مصلحته كمصلحة الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه المراتب رُتَبٌ كثيرة. فالأفضل من المصالح تحته رُتب كثيرة، والمتوسط والأفضل كذلك، فما كان في أدنى الرتب من الأفضل كان قريباً من المتوسط حتى يكون متوسطاً. وما كان الأعلى من المصالح المتوسطة يصل إلى رتبة الأدنى من المصالح الأفضل، كما أن ما كان في رتبةٍ أنزل في الفاضل قد يصل إلى درجة المستحب أو إلى درجةٍ أقل من ذلك، وما كان في الدرجة العليا يصل إلى درجة الأدنى من المتوسط منها، فهذه تختلف رتبها وتختلف بحسب اختلاف مصالحها وبحسب تعدِّيها. فإذا نظرت إلى العبادات وجدتها تختلف، فالصلاة هي أفضل الأعمال البدنية، والزكاة هى أفضل الأعمال المالية، وهكذا، إذا نظرت إلى هذه الأعمال فالمقصود أن تحتها رُتباً كثيرة. كذلك المفاسد مراتب، فيها الأكبر، وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو

أعظم المفاسد وأقبحها لأنه إبطال للتوحيد، وهذا ضد ما خلق الله له الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). وهو ضد ما أحبه سبحانه وتعالى من عباده، فعمد هذ المشرك إلى أقبح الأعمال وأكبر الكبائر فارتكبه فهو في أقبح الرتب من جهة المفاسد، ولهذا في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام سُئل أي الذنب أعظم؟. قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قيل: ثم أي؟. قال: "أن تقتُل ولدَك خشية أن يَطعَم معك". قيل: ثم أي؟. قال: "أن تُزَاني بحليلة جارك" (¬2). فرتَّب المفاسد - عليه الصلاة والسلام - إلى ثلاث مراتب، فجعل الشرك بالله أشد مفسدة، وهو أكبرها، ثم يتلوه بعد ذلك قتل الابن خشية أن يطعم معه؛ لأن فيه قتل للنفس بغير حق، ولأن فيه قطيعة للرحم، فجعله في الرتبة الثانية بعد الشرك بالله، ثم ذكر بعد ذلك الزنا، وذكر نوعاً خاصاً من الزنا وهو الزنا بحليلة الجار، فالجار له حقه من الاحترام والتوقير وحفظ فراشه وصيانته ومعاونته على الأعمال الصالحة وحفظ حقوقه الواجبة والمستحبة، فتعمد هذا إلى الزنا بحليلة جاره، فكان من أعظم أنواع الزنا. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: 56. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 163) في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، وأخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان (2/ 141) كلاهما من طريق أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه به فذكره. .".

المسألة الخامسة في هذه القاعدة: التعارض بين الحسنات: وهو بحثٌ عظيمٌ، متعلقٌ بتحقيق المصالح الخالصة، أو المصالح الراجحة على حسب تلك الحسنة، فالتعارض بين الحسنات يحصل كثيراً، فأيهما يقدم؟. إذا كان هناك حسنتان لا نستطيع أن نفعل إحداهما إلا بترك الأخرى، إما أن تفعل إحداهما، أو تتركهما جميعاً، ولا يستطيع الجمع بينهما، فماذا يُقدم؟. يقدم أكملهما وأعظمهما، وهذا هو الأصل في تعارض الحسنات. مثال ذلك: الواجب والمستحب. . وفرض العين مع فرض الكفاية. مثال الواجب والمستحب: إنسانٌ عليه دين حالّ، ومن المعلوم أن سداد الدين واجب إذا كان حالاً وطلبه صاحبه، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجب ولو لم يطلبه، وهذا هو الأصح إذا اتفقا على وقت محدد، وإذا طلبه تأكّد الوجوب. فالمقصود أنه إذا كان عليه هذا الدَّين الحالّ وهو يريد الصدقة ففى هذه الحالة عندنا حسنة واجبة وحسنة مستحبة، ولا يمكن الجمع بينهما، فإن تصدّق ضيع الواجب وهو سداد الدين، وإن سدد الدين لم يكن عنده شيء يتصدق به، فأيهما يقدّم؟. لا شك أنه يقدم الواجب خاصة أنه من حقوق العباد التي يجب العنابة بها وعدم التفريط بها، فيسدّد هذا الدين الذي عليه ولا يتصدق. وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لو تصدّقه فإن صدقته مردودة عليه، ولا

يجوز له ذلك. وذهب بعض أهل العلم إلى أعظم من ذلك، فلو كان عليه دَينٌ واجبٌ ووقف شيئاً من ماله، لا يصح وقفه؛ بل يجب إبطال هذا الوقف ولا يجب تضييع أموال الناس بحجة طلب هذا العمل الخيري من المصالح كوقف ونحوه، وهو اختيار تقي الدين ابن تيمية، وظاهر اختيار البخاري - رحمهما الله -. فالمقصود أنه يجب عليه أن يقدم هذا الواجب، ولا شك أن الواجب من حيث الأصل أنه أعظم أجراً من المستحب. مثال آخر: إنسان يريد الصدقة لكن لا يستطع الجمع بينها وبين النفقة على من تحت يده، فإذا تصدق فرَّطَ في نفقة أولاده وأهله، فيقدم النفقة الواجبة على صدقة التطوع. والرتبة الثانية: التعارض بين واجب وواجب: فيقدّم أشدهما وأقواهما يا الوجوب. مثال ذلك: إنسانٌ نذر حجة هذا العام، وعليه حجة الإسلام. ذهب بعض أهل العلم إلى أن حجة الإسلام آكد، فعلى هذا يحج، وإذا حج كانت عن حجة الإسلام، والعام الذي بعده يحج حجة النذر. وقال آخرون: النذر آكد، وهم الشافعية والمالكية، وقال آخرون: إنه يحج

حجة واحد تجزئه عن حجة الإسلام وحجة النذر، وعلى هذا القول الأخير لا تعارض. والرتبة الثالثة: التعارض بين فرض العين وفرض الكفاية: ومثاله: إذا أراد الجهاد في سبيل الله ولم يتعين عليه الجهاد، ووالداه يمنعانه منه، فيقدم برّ والديه على الجهاد لما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة في وقتها". قيل: ثم أي؟. قال: "بر الوالدين". قيل: ثم أي؟. قال: "الجهاد في سبيل الله" (¬1)، فقدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، وفي حديث أبى هريرة - رضى الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قدّم الجهاد على الحج (¬2). فتلخص أن بر الوالدين مقدم على الحج والجهاد جميعاً، فإذا كان مقدماً على الجهاد فإنه يُقدم على الحج من باب أولى، وإذا كانا يحتاجان إليه لخدمة أو نفقة تأكد الوجوب، فهذه الأمور يكون تحتها رتب كثيرة. مثال للتعارض بين الحسنات الواجبة: إنسان أراد أن يصلي العصر وتذكر أنه لم يصل الفجر، وقد حضرت صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: الصلاة لوقتها (527)، ومسلم في كتاب الإيمان 1/ 85) كلاهما من طريق الوليد بن العَيزار عن أبي عمرو الشيبانى قال: حدثنا صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. (¬2) سبق تخريجه ص: 29.

العصر، أيهما يقدّم؟. في هذه المسألة خلاف كثير، فإذا تضايق الوقت ولم يَبْقَ من وقت العصر إلا مقدار أربع ركعات يُقدم العصر لأنها في وقتها، ولأن تقديم الفجر يؤدي إلى تفويت صلاتين وحق الوقت لهذه الحاضرة التى ضاق وقتها، فكان آكد من جهة الوجوب فيقدم هذه الحسنة الواجبة على تلك لأنه لا يمكن الجمع بينهما. أما إذا كان في الوقت سعة ففيه خلاف، فمن قال: إنه يجب الترتيب فلا تعارض، ومن قال: إنه يجب تقديم الحاضرة، يأتى التعارض. فالمقصود أن هذه المسائل تُتأمل وتُنظر ويتبين في بعضها بحسب الخلاف، ثم يكون القول الأظهر ما يؤيده الدليل، وهذا فيما يتعلق في التعارض بين الحسنات. التعارض بين السيئات: وهو يأتي في دفع المفاسد الخالصة ودفع المفاسد الراجحة، إذا كان هناك مفسدتان لا يمكنه التخلص من إحداهما إلا بارتكاب الأخرى، فلابد من ارتكاب إحدى المفسدتين، في هذه الحال يرتكب أخفهما مفسدة عكس الحسنة، يقدم أعظمهما مصلحة ويترك أقلهما مصلحة. مثاله: قطع يد السارق وجلد الزاني، إقامة الحدّ عليهما فيه ضرر عليهما، لكن ترك إقامة الحدّ عليهما يترتب عليه مفاسد أعظم من الشر وفساد العقول وقتل النفوس وما أشبه ذلك ما يربو على مفسدة ذلك القطع والجلد، فتحتمل هذه المفاسد وترتكب لأجل دفع مفاسد هي أعظم منها.

مثال آخر: لو أن امرأة في بلاد الكفر أرادت الهجرة وليس لها محرم، فهجرتها بلا محرم مفسدة، فقد يحصل لها شر وفساد، ولكنْ بقاؤها في بلاد الكفر يفتنونها عن دينها مفسدة أعظم، ولأجل هذا نقول لها تهاجر بل يجب عليها الهجرة، وإن كانت بلا محرم، حتى ذكر بعضهم الاتفاق عليه، فترتكب هذه المفاسد الصغار في سبيل دفع تلك المفاسد الكبار، وهذا أصل عظيم من أصول الشرع. وقد أورد أهل العلم إشكالاً في هذه المسألة وقالوا: إنه ليس على كل حال، وممن أورده العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام) وقال ما معناه: إنه لو حاصر بلادَ المسلمين عدوٌّ من أعدائهم، وضايقوهم وقالوا: نحن لا نذهب ونترككم حتى تعطونا شخصاً فدية لأجل ترككم. قال أهل العلم في هذه المسألة: إنه لا يجوز ارتكاب هذه المفسدة، وإن كانت صغيرة في جنب تلك المفسدة الكبيرة. وأورد أيضاً مثالاً في قوم ركبوا البحر، وثقل حمل السفينة ولا تستقر على الماء إلا أن يرمى بعضهم في البحر لكي يخف وزنها ويسلم باقي الركاب، فهذه أجمع أهل العلم على أنه لا يُلقى أحد منهم وإن كان عدم الإلقاء يؤدي إلى غرق من في السفينة جميعهم. وأجاب العز بن عبد السلام ما معناه: إن من المصالح والمفاسد ما هو من الأمور التعبدية التى لا تُعقَل فهذه منها ما يجب الانقياد والتسليم لها، وإن لم تُعقل حكمتها.

وذكر ابن القيم - رحمه الله - جواباً آخر أوضحَ من هذا، وقال: إن النفوس مستوية في العصمة فلا يجوز إهدار عصمة أحد مقابل إبقاء واحد من الناس أو جماعة، لكن الأصل في هذا كما قلنا إن المفاسد الكبيرة تدفع في سبيل ارتكاب المفاسد الصغيرة، وما أورد على القاعدة لا يخرجها لوضوح الجواب عليه من كلام أهل العلم. ومن ذلك أيضاً: لو تترس العدو بالمسلمين، وقالوا هل يجوز قتل المسلمين الذين تترس بهم الكفار أم لا يجوز؟ والأظهر - والله أعلم - كما ذكر جمع من أهل العلم أن في هذا تفصيلاً فيقال: أولاً: إذا كان في عدم قتلهم ضررٌ على المسلمين يُخشَى أن يُغزَى المسلمون ويدخل عليهم العدو جاز قتلهم؛ لأنه دفع ضرر متحقق. ثانياً: إذا كان قتلهم لأجل تحصيل مصلحة الجهاد، وليس فيه ضرر على المسلمين، فإنه يقدم عصمة من تترس بهم الكفار. مسألة أخرى: التلازم بين الحسنات والسيئات: المعنى: أنه لا يمكن أن تفعل حسنة إلا بارتكاب السيئة ولا يمكن أن تترك السيئة إلا باجتناب الحسنة، إما أن تتركهما جميعاً أو تفعلهما جميعاً، وهذا البحث من أهم مباحث التعارض بين الحسنات والسيئات، ومن أهم المباحث المتعلقة بتعارض المصالح والمفاسد والترجيح بينهما.

مثاله: أكلُ الميتة في حال المخمصة لا بأس به؛ لأنه إذا اضطر الإنسان إلى [. . .] (*) الميتة، فالأكل منها في هذه الحال فيه مصلحة، ولأن فيه دفع هذه الحال [. . .] (*) وترك الأكل مفسدة، فلا يمكن التخلص من المخمصة إلا بالأكل من الميتة، وإذا أراد أن يتجنب تلك المفسدة فإنه لابد أن يتجنب الأكل فلابد أن يفعلها جميعاً أو يتركها جميعاً، وهذه لها أقسام: تارة يقدم فعل الحسنة، وتارة تفعل الحسنة، ولا ترتكب السيئة، وتارة ترتكب هذه السيئة، وإن تركنا تلك الحسنة حسب حالاتها، فالأكل من الميتة في حال المخمصة مصلحة أعظم من تلك المفسدة. عكسها: الدواء الخبيث، لو أن إنساناً أراد التداوي بالخمر، وإن كان في شربه مصلحة لكن تحقيق هذه المصلحة يجلب معه مفسدة عظيمة فتترك تلك الحسنة لأجل اجتناب تلك المفسدة. ومن الأمثلة - أيضاً -: لو أن إنساناً يعمل في مكان، وفي وجوده في هذا المكان مصالح من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويواجه أموراً يضيق صدره منها ويكرهها ولا يستطيع دفعها، فهذه - والله أعلم - لا يمكن أن يجاب عنه بجواب عام يكون قاعدة في هذا، بل هذا يختلف بحسب المكان الذي يوجد فيه، وبحسب الشخص نفسه، وبحسب ما يترتب على بقائه من الأعمال الصالحة، وما يحصل فيه من الأمور المنكرة، فقد يكون الجواب لشخص بالبقاء، وقد يكون لآخر عليه أن يترك ويهجر هذا المكان إلا للضرورة. والله أعلم.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بياض بالمطبوع

القاعدة الثانية الوسائل لها أحكام المقاصد، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ووسيلة المباح مباح، ويتفرع عليها الأعمال ومكملاتها تابعة لها

القاعدة الثانية الوسائل لها أحكام المقاصد، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ووسيلة المباح مباح، ويتفرع عليها الأعمال ومكملاتها تابعة لها هذه القاعدة أصل عظيم من أصول الشرع وهي عامة في جميع الأعمال فتشمل جميع أحكام الشرع التكليفية. المراد بالوسائل: الطرق التى يتوسل بها ويتوصل بها إلى أمور أخرى، هي مقصودة في نفسها، والوسائل ليست مقصودة إنما هي طرق إلى هذه المقاصد، فعندنا الوسيلة حسب القصد، فإن كان القصد واجباً كانت الوسيلة واجبة، وهكذا في المحرم والمستحب والمباح والمكروه، وقد جاء الشرع بإيجاب الطرق والوسائل إلى الأمور الواجبة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. مثاله: الصلاة في المساجد جماعة واجبة، ولا يتوصل إليها إلا بالسعي إليها، فيكون السعي إليها واجباً مهما كانت الوسيلة سواء كان ماشياً أو راكباً، وإذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة عليه أن يقوم إن كان قادراً ويصلي حتى يتحقق وجود هذا الواجب وهو الصلاة، وقِسْ على ذلك. وهكذا المستحب: فالوسيلة إلى المستحب مستحبة، فمن قصد المسجد لصلاة نافلة أو قراءة قرآن أو حضور حلقةِ علمٍ فالسعي إليها مستحب ومطلوب، وفي المباحات أيضاً في أمور الإنسان في معاشه، فمن خرج من بيته لأجل طلب العيش فخروجه من بيته يكون مباحاً في أصله لكن إذا ضم إليه نية أخرى فإنه يترقى إلى

درجة أعلى وهي درجة الاستحباب بحسب نيته فيما خرج له، فطلب الرزق أمر مشروع فيكون خروجه أمراً مشروعاً. وهكذا في المكروهات والمحرمات، فالوسائل لها أحكام المقاصد، والشرع جاء بسد الوسائل وبفتحها، فالوسائل المحرمة يجب سدها، والمكروهة يستحب سدها، والواجبة يجب فتحها، والمستحبة يستحب فتحها، والمباحة يباح الأخذ بها أو تركها، هذه هى المسألة الأولى في هذه القاعدة. المسألة الثانية: كلّما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، هذا هو الأصل، فمن لم يجب عليه الحج لا يجب عليه قصد مكة؛ لأن المقصود نفسه ليس واجباً، فالوسيلة ليست واجبة لكن يبقى اعتبار استحبابها، فإذا سقط اعتبار وجوب الوسيلة بقى استحباب السير إليها، لكن ليس بواجب، كذلك في سائر الأحكام الأخرى كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فمن لم يجب عليه هذا الشيء لم تجب عليه وسيلته، وكذلك إذا لم يستحب هذا الشيء لم تستحب وسيلته. مسألة: قالوا: إنه تعتبر الوسيلة والمقصود غير موجود، ذكروا في هذا حلق المحرِم لرأسه إذا كان أصلع الرأس، أو كان قد جزَّه فلم يَبْقَ فيه شيء ورمي الجمرة فإنه يحصل له التحلل الأول إلا النساء، فعلى هذا هل يشرع له إمرار الموسى على رأسه مع أن المقصود وهو الشعر غير موجود، قالوا: إنه يستحب إمرار الموسى، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعاً. لو نظرنا إلى هذه القاعدة وهي: الوسائل لها أحكام المقاصد فإمرار الموسى

على رأسه وسيلة إلى التحلل، والتحلل من حلق الرأس واجب، والحلق نسك على الصحيح والشعر غير موجود، فعلى قول الجمهور إذا رمى الجمرة وهو أصلع وفي نيته إزالة ما على رأسه فإنه يحصل له التحلل الأول، وقول مالك إنه يحصل برمى الجمرة، وقالوا: إنه يشرع له أن يمر الموسى على رأسه، وهذا مشكل على هذه القاعدة، لكن يمكن أن يقال إن كان في المسألة خلاف، وأن بعض أهل العلم قالوا إن إمرار الموسى وآلة الحلاق ليس له معنى، يمكن أن يكون هذا القول أقوى وإن كان في المسألة إجماع على الاستحباب كما حكاه بعضهم، يمكن أن يقال إن أمور الحج أمور تعبدية أو في كثير منها يغلب عليها التعبد، ويجب الانقياد وهذا منها. والله أعلم. المسألة الثالثة: وسيلة المحرم محرم: فإذا قلنا الوسيلة محرّمة لأن المقصود أمرٌ محرَّمٌ، مثل قطع الطريق، أو ذهب ليشرب الخمر، أو مشى بقصد النميمة، أو ما أشبه ذلك، فهذا محرم، والواجب واجب، والمستحب مستحب، فإذا كان هذا فإنه في حال الوجوب يثاب الإنسان على الوسيلة والقصد جميعاً. وكما قلنا في المحرم الوسيلة إليه محرمة، لكن في بعض الأحوال قد يستثنى منها مسائل، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة، وهذا إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، بل قد تكون الوسيلة إلى المحرم واجبة، وهذه قد تستثنى من القاعدة كما قلنا، لكن تستثنى بأدلة. مثاله: إنسان ظالم قصد أن يأخذ مال إنسان ظلماً فجاء آخر يريد الإصلاح ويريد دفع الظلم وقال: أنا أعطيك من مالي هذا مبلغاً معيناً ولا تأخذ من ماله شيئاً.

فتمكين الظالم من هذا المال محرم عليه، ولا يجوز للظالم أن يأخذه، لأن هذه الوسيلة القصد منها دفع بعض المال إليه لأجل أن يترك بقية المال والأصل أن تكون محرمة، لكن هذه الوسيلة ليست محرمة وقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة بحسب الحال التى يدفع بها هذا الظالم. مسألة: الشرع سدَّ الطرق المؤدية إلى المحرم، فما كان طريقاً إلى محرم فيجب سدّه، ولا يجوز فتحه، لأنه مناقض لمقصود الشرع في تحليل الحرام بفتح الطرق المؤدية إليه، وقد تؤدي إلى مسألة الذرائع إلى الأمور المحرمة، وقد تكون واضحة، وقد تكون خفية جداً، وقد يكون فيها اختلاف، فالذرائع وسائلها ثلاث: وسيلة هي حرام بالإجماع: ويجب سدها ولا يجوز فتحها مثل حفر الآبار في طرق المسلمين ووضع الأذى فيها. وسيلة أجمع أهل العلم على حلها وعدم تحريمها: مثل زراعة العنب، فلا يمنع لتوهم اتخاذه خمراً. ووسيلة مختلف فيها: وهي التي ظاهرها تفضي إلى مباح وتتخذ وسيلة إلى أمر محرم. مثاله: إنسانٌ عقد على امرأة لكي يحللها لزوجها الذي حَرُمت عليه بالطلاق ثلاثاً، فعقد عليها وأظهر عقداً في ظاهره ليس عقد تحليل ومن نيته أن يحللها، وقال بعض أهل العلم إن الذرائع إلى الأمور المباحة إذا كانت تفضى إلى أمر محرم واتخذت ذريعة مباحة وسيلة إليه فإنه لا يجوز وهو حرام فهناك أمور تفضى إلى المحرم مباشرة فهذه حرام، وهناك ذرائع إلى أمور محرمة ولا تفضى إليه مباشرة

وهي في الظاهر مباحة فهي أيضاً محرمة. مسألة أخرى: المقاصد أعلى من الوسائل وأعظم رتبة وأجراً، لأنه إذا سقط المقصود سقطت الوسيلة، وإذا سقط المتبوع سقط التابع. مثاله: قصد الصلاة واجب، والصلاة واجبة، لكن وجوب الصلاة آكد وأعظم أجراً، لأنها هي القصد وهذا وسيلة إليها. المسألة الأخيرة: يقول المصنف - رحمه الله -: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وهذه سبقت الإشارة إليها، لكن فيها مسألة أخرى: فالصلاة واجبة والسعي إليها واجب، والزكاة واجبة، لكن لا تجب إلا بشروط وأسباب، فالنصاب سبب والحول شرط، فهل يجب تحصيل السبب وتحصيل الشرط؟ كل هذ لا يجب، إذن هناك فرق بين أمر يجب على المكلف، وأمر لا يجب على المكلف، فيصاغ بقاعدة أخرى فيقال: [ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب].

القاعدة الثالثة المشقة تجلب التيسير

القاعدة الثالثة المشقة تجلب التيسير هذه قاعدة متفق عليها بين أهل العلم، وهى قاعدة عظيمة ولها فروع كثيرة، وجاءت الأدلة إلى مشروعية هذا الحكم، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2)، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (¬3)، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬5)، وقالت عائشة - رضى الله عنها -: "ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما" (¬6). فما كان خارج الاستطاعة فهو مشقة، وقد يكون في غير مقدور الشخص، فيكون غير مطلوب، وأخبر عليه - الصلاة والسلام - في عدة أخبار من حديث عائشة، ومن حديث ابن عباس - رضى الله عنهم -:"أن أحبَّ الدين ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 185. (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬4) سورة التغابن، الآية: 16. (¬5) اخرجه البخارى في صحيحه (4/ 2275)، ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - (7/ 91) كلاهما من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره". (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء (2/ 203)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل 7/ 80) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها.

الحنيفية السمحة" (¬1)، فهى حنيفية في التوحيد سمحة في العمل، وقاله - عليه الصلاة والسلام -: "إن خير دينكم أيسره" (¬2) إلى غير ذلك من الأدلة التى جاءت في تقرير هذا الأصل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في الأدب المفرد (287) من طريق محمد بن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأديان أحبُّ إلى الله عزَّ وجل؟ قال: "الحنيفية السمحة" وأخرجه أحمد في المسند برقم (2107). والحديث إسناده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وداود بن الحصين ثقة، قد وثقه أكثر الحفاظ كعلى ابن المديني وابن معين إلا في روايته عن عكرمة ففيها شيء من الضعف لأجل وجود أحاديث منكرة استنكرها الحفاظ من أهل الحديث على داود، ولذا قال فيه على بن المدينى: ما رواه عن عكرمة فمنكر، وقال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير، وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وقد ساق له ابن عدي في ترجمته في الكامل بعض الأحاديث التى استنكرت عليه لكنه لم يورد هذا الحديث منها، وبعض هذه الأحاديث ليس الغلط فيها من داود وإنما الغلط فيها أتى ممن بعده من الرواة، فالحديث في الجملة صالح للاحتجاج به. والله أعلم. وهذا الحديث المعلّق لم يُسنده المؤلف في هذا الكتاب الصحيح؛ لأنه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب الأدب المفرد وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن عكرمة وإسناده حسن، استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصراً عن شرطه وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر (1/ 117). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 56) من طريق حُميد بن هلال العدوي عن أبى قتادة عن الأعرابى الذى سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" وإسناده صحيح، فحُميد بن هلال العدوى ثقة عالم كما قال عنه الحافظ في التقريب وتوقف فيه ابن سيرين لأجل دخوله في عمل السلطان. وجاء له شاهد في المسند أيضاً من طريق عبد الله بن شقيق عن رجاء بن أبى رجاء عن بريدة رضى الله عنه وذكر في آخر الحديث قال: "إن خير دينكم أيسره إن خير دينكم أيسره" (3/ 338).

1) مشاق لا تنفك عنها العبادة

فالمشقة تجلب التيسر، ويُعبَّر عنها أيضاً بلفظ آخر: "إذا ضاق الأمر اتسع" فكلما وُجد حَرَجٌ ومشقةٌ جاء التيسير والترخيص والتسهيل في هذه الشريعة في سائر أحكامها، بل شرع الله سبحانه تعالى أموراً تعين على تحقيق هذه العبارة، بل إنه لا قوام للإنسان ولا حياة له إلا بهذه الشريعة فرخص ويسَّر فيها سبحانه وبحمده، فله الحمد والشكر على ذلك لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه سبحانه وتعالى. والعبادات والأحكام قد يكون فيها شيء من المشاق كما قلنا، والمشاق أنواع: 1) مشاق لا تنفك عنها العبادة وهي مشقة يسيرة جداً، بل لا يمكن تحصيل ما أمر به الشارع إلا بهذه الأمور، فالصلاة مثلاً قد يقترن بها أمور، وقد يكون فيها شيء من المشقة مثل الوضوء فلابد من القصد إليه، ولابد من إمرار الماء على أعضاء الوضوء، وقد يكون فيه شيء من الحرّ أو شيء من البرد، فهذه مشاق لا تنفك عنها العبادة. الصوم فيه شيء من المشقة من الانقطاع عن الطعام والشراب إلى غير ذلك فهذه مشاق لا تعتبر، ولا يجوز إسقاط التكاليف لأجل هذه المشاق. 2) مشاق تنفك عنها العبادات غالباً، وهذه على أقسام: أ) مشقة عظيمة جداً: مثل من أراد قصد الصلاة وكان في طريقه سبع وخشى أن يفترسه، أو خشي من إنسان أن يقتله فهذا لا شك أن القصد إليها ليس بواجب؛ لأنها مشقة عظيمة، فأسقط الشارع هذا الوجوب لأجل هذه المشقة. فهذه المشقة تنفك عنها العبادات، والإنسان يَسْلَم فيها في الغالب، لكن لو

ب) مشقة يسيرة جدا

وجدت اعتبرت هذه، ولا يجب هذا الحكم الذي كُلِّف به الإنسان؛ لأنه في هذه الحال غير واجب. ب) مشقة يسيرة جداً: تنفك عنه العبادات غالباً، مثل أدنى مرض، فإن هذه لا تمنع وجوب الصوم ولا تمنع وجوب الحج. ج) مشقة وسط: فهذه لا ترتفع وتصل إلى درجة تلك المشاق العظيمة فتلحق بها مثل: الوحل وشدة المطر، فإنه في هذه الحال يشرع الجمع بين الصلاتين في المسجد بين الظهرين على الأظهر والعشاءين أيضاً، وقد تكون مشقة يسيرة تلحق بأدنى المشاق. إذن القسم الأول المشقة العظيمة وتقابلها المشقة اليسيرة جداً. المشقة الوسط يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام: أ/ قسم قد يصل إلى الدرجة الدنيا من المشاق فيلحق بها فلا يعتبر. ب/ قسم قد يصل إلى الدرجة العليا من المشاق اليسيرة فيلحق بها فيعتبر. ج/ قسم اختلف العلماء فيه هل يلحق بالمشاق اليسيرة أو يلحق بالمشاق العظيمة. المقصود أن هذه هي أنواع المشاق التي تعرض للعبادات والتى لا تعرض لها. وخفف الله سبحانه وتعالى فيما شرع في مواضع كثيرة في الشرع. فأنواع التخفيف كثيرة لأجل المشقة: 1 - القصر للمسافر. 2 - تخفيف إبدال، مثل: إذا شق عليه الغسل أو الوضوء له أن يتيمم.

3 - تخفيف تغيير، مثل: صلاة الخوف، فإن تغيير هيئتها لأجل مراعاة حال - المقاتلين في سبيل الله. 4 - تخفيف إسقاط: كإسقاط الحج على غير القادر، وإسقاط الجمعة عن المريض والنساء والمسافر. 5 - تخفيف ترخيص، مثل: من غصّ ولم يكن عنده ماء، فخشي على نفسه من الهلاك جاز له شرب الخمر لدفع ذلك. 6 - تخفيف جمع: وهو جمع الصلاتين لأجل المطر وغيرها من الأعذار. 7 - تخفيف تقديم، مثل: جمع الصلاة "العصر مع الظهر" و"العشاء مع المغرب" لأجل ما يعرض للإنسان من مشقة كالمرض أو لحاجته إلى الجمع كالمسافر ونحوهم. 8 - تخفيف تأخير، مثل: تأخير صلاة المغرب مع العشاء للمسافر إذا كان أيسر له، والظهر مع العصر تأخيراً. مسألة: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل حتى تتفطّر قدماه (¬1)، وكان يقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة (¬2)، وفي رواية الأنعام، وثبت أنه قام ليلة كاملة (¬3)، فالأخبار عن السلف الصالح من الصيام والقيام أمر متواتر. قد اختلف أهل العلم في الجواب عن مثل هذا، منهم من قال إن هذه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 283) كتاب التهجد، باب قيام النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى ترم قدماه، من طريق مسعر عن زياد قال: سمعت المغيرة رضى الله عنه يقول:. . . . الحديث فذكره". (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة (2/ 168)، من حديث حذيفة رضى الله عنه. (¬3) أخرجه النسائى بإسناد صحيح.

الأخبار عن التابعين والصحابة لا تقابل بما جاء به - عليه الصلاة والسلام - بالأمر بالتيسير على النفس وعدم الشدة عليها، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أنكر على عبد الله بن عمرو - رضى الله عنهما - أن يصوم شيئاً من الأيام، والذي يظهر - والله أعلم - كما قال بعض أهل العلم أنه - عليه الصلاة والسلام - ارتاحت نفسه إلى العبادة، فكانت هى راحته واطمئنانه في الصلاة فيأنس بها، أما غيره من الناس فليس مثله، وليس شبيهاً له - عليه الصلاة والسلام - فإذا حمل نفسه على الشدة فلا يستطيع، ثم هو - عليه الصلاة والسلام - لم يكن يقطع الليل كله بالصوم في هذا الشيء، ولا يقطع الدهر كله بل قال عن إفطار يومين وصيام يوم أو إفطار يوم وصيام يومين، وجاء أنه قال: "لَوَدِدتُ أني طُوِّقتُ هذا". وهكذا ما جاء عن بعض السلف لعلهم ارتاحت نفوسهم إلى هذا فأحبوه، فإذا هذا يختلف بحسب اختلاف النفوس، فمن كانت نفسه قد تتأذى وتؤدي به إلى الملل فلا يشرع له مثل هذا، ثم إن كان يؤدي إلى مخالفة السنة في قطع الليل مثلاً بالصلاة، وقطع الدهر كله بالصوم، لاشك أنه منهي عنه، وما جاء من هذه الشدة عنه - عليه الصلاة والسلام - وعن بعض خواص الصحابة، فإنهم قد أنِسَتْ نفوسهم لهذا الشيء، ومن ذلك ما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - أنه ختم القرآن في ليلة، وقيل أنه قرأه في ركعة - رضي الله عنه -. اهـ.

القاعدة الرابعة الوجوب يتعلق بالاستطاعة، فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة

القاعدة الرابعة الوجوب يتعلق بالاستطاعة، فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة هذه القاعدة التى أشار إليها المصنف - رحمه الله - أنه لا يجب شيء على المكلّف إلا باستطاعته، محل إجماع من أهل العلم كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)، وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬3). فالاستطاعة لابد منها في جميع الأعمال، وذكر سبحانه وتعالى الاستطاعة الخاصة بالحج، لأنه ليس كغيره من العبادات؛ ولأن له استطاعة خاصة تتعلق به، بخلاف غيره من العبادات، أما الحج فله استطاعة خاصة على خلاف بين أهل العلم في تفسير الاستطاعة المذكورة في الآية جاء في عدة أخبار من حديث ابن عمر وأنس وغيرهما أنه فسرها عليه - الصلاة والسلام - بالزاد والراحلة (¬4)، من أجل هذا ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 16. (¬2) سبق تخريجه ص: 44. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 97. (¬4) هذا الحديث رُوي من طريق عدد من الصحابة، ومنهم عبد الله بن عمر، ومن حديث أنس بن مالك، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث جابر وعائشة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهم. أما الحديث الأول وهو حديث ابن عمر رضى الله عنهما، فأخرجه الترمذي في سننه (1/ 155) في=

نص عليها سبحانه وتعالى، فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة، وفي الاستطاعة بحث يتعلق بباب القدر يذكره أهل العلم، وأهل السنة على أن ¬

_ = كتاب الحج، وابن ماجه في سننه في كتاب الحج أيضًا رقم (2896 بسند ضعيف جدًا كلاهما من طريق إبراهيم بن يزيد المكي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومى عن ابن عمر رضى الله عنهما به. قال الترمذي: حديث حسن، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبل حفظه، وإبراهيم الخوزي هذا متهم بالكذب، قال فيه الإمام أحمد والنسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: سكتوا عنه، ذكر ذلك عنه الذهبي في الميزان (1/ 254)، والحافظ في تلخيص الحبير (2/ 235)، وضعفه البيهقى في السنن الكبرى (5/ 202). وأما حديث أنس بن مالك رضى الله عنه فأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب الحج (2/ 216)، والحاكم في مستدركه (1/ 442) كلاهما من طريق على بن عباس حدثنا علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا ابن أبى زائدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وتابع سعيدًا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بهذا الطريق. وقال الحاكم عن هذا الطريق: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ولكن تعقبه البيهقي بقوله: ولا أراده إلا وهمًا، وساق بسنده إلى جعفر بن عون أنبأنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن قال. . فذكره مرفوعًا مرسلًا، وقال: هذا هو المحفوظ عن قتادة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وكذلك رواه يونس بن عبيد عن الحسن. وقال الألبانى في "الإرواء" (4/ 160) نقلاً عن ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 70/ 1) والصواب عن قتادة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وأما رفعه عن أنس فهو وهم، هكذا قال شيخنا يعنى ابن تيمية. وقال الحافظ في التلخيص (2/ 2359 بعد أن ذكر كلام البيهقى في بيان كون الحديث مرسلًا وأن روايته بالوصل فيها وهم، إلا أن الراوي عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحرانى وقد قال أبو حاتم: هو منكر الحديث. وأما حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فأخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الحج، باب ما يوجب

الاستطاعة المصححة للأمر والنهى داخلة تحت قدرة المكلف، أما الاستطاعة، التي يكون معها الفعل فلا تكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى، على كلام مذكور لأهل العلم، في هذا الباب في الرد على الجبرية وعلى الأشاعرة في تفسيرهم للاستطاعة، فلا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة. فجميع الواجبات الشرعية لا تجب في حال العجز، والله سبحانه وتعالى من رحمته خفف وجوب ما أوجبه، وجعل المكلف غير مأمور به إذا كان غير مستطيع في حديث عمران بن حصين "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك" (¬1) وفي لفظ عند النسائي: "صل مستلقيًا"، والمراد بالاستطاعة ألا يكون عليه مشقة. ¬

_ = الحج (2897) وسنده ضعيف من طريق سويد بن سعيد حدثنا هشام بن سليمان القرشى عن ابن جريج قال: وأخبرنيه أيضًا عن ابن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه به فذكر مرفوعًا. وفي إسناده هشام بن سليمان المخزومى، قال عنه أبو حاتم: مضطرب الحديث ومحله الصدق، وما أرى = بحديثه بأسًا، وقال عنه الحافظ: "مقبول" كما في التقريب. وأخرجه الدارقطني في سننه (2/ 31) من طريق داود بن الزبرقان عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما به فذكره، وأخرجه أيضًا من طريق حصين بن المخارق عن محمَّد بن خالد عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله. . وفيه علة أخرى وهو عمر بن عطاء، قال ابن معين: عمر بن عطاء الذي يروي عنه ابن جريج يحدث عن عكرمة: ليس بشيء وه وابن وراز، وهم يضعفونه، وقال النسائي: ضعيف، قال ابن عدي في "الكامل" (2/ 242) ثم قال: ولا أعلم من يروى عنه غير ابن جريج. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: إذا لم يُطِق قائمًا فعلى جنب (1/ 280) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. =

فمن رحمته - سبحانه وتعالى - أن المصلي إذا كان لا يستطيع أن يصلى قائمًا صلى جالسًا. المعنى: أنه إذا كان في قيامه مشقة صلى قاعدًا، فإذا كان في قعوده مشقة صلى على جنبه، وإن كان على جنبه يشق عليه صلى مستلقيًا، وليس المراد بعدم الاستطاعة عدم القدرة البتة، فقد تكون له القدرة على الصلاة قائمًا لكن يشق عليه أو يتأخر البرء في الغالب من هذا المرض أو يزيد، فهذا غير مستطيع لأنه في هذه الحالة يشق عليه، فلهذا ينتقل من حال إلى حال، وهكذا في الحج كما أشرنا فهناك أشياء شرط للوجوب إذا استطاعها، وهناك ما يكون شرطًا للأداء، لا يكون واجبًا عليه أداءُ ذلك في هذه الحال بل يكون واجبًا باقيًا في ذمته، ففى حال الصوم إذا كان مريضًا أو مسافرًا لا يجب عليه الصوم في هذه الحال، بل إذا كان مسافرًا وشق عليه الصوم فإن له أن أن يفطر ويكون وجوب القضاء بعد ذلك، وكذلك الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، إلى غير ذلك من رخص الشرع إذا تتبعتها وجدتها مقرونة بالاستطاعة، فلا واجب مع العجز نفىٌ لجنس الوجوب مع حال العجز، ولا حرام مع الضرورة، وهذه القاعدة ستأتي إن شاء الله أيضًا، وهي أن الضرورات تبيح المحظورات، فإذا أضطُر الإنسان إلى شيء فإنه لا يكون حرامًا عليه فإن أضطُر إلى الميتة جاز أكلها على تفصيل في أحكام الأكل منها "فلا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة" فليس في هذه الحال أنه لا يوصف بالحرمة ¬

_ = وأما الزيادة في قوله: "فإلَّم تستطع فمستلقيًا، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" فقد أخرجها النسائي في سننه بسند صحيح (3/ 69) كتاب الصلاة، باب صلاة المريض.

ولا يكون محرمًا بل إذا احتاج إلى التّرخص قد يكون التّرخص واجبًا وقد يكون غيرِ واجب، وأهل العلم يقولون كما هو معروف ومشهور "الضرورات تبيح المحظورات" ويقيدونها بشرط أن يكون المحظور أنقص من الضرورة. هذا لابد منه يعني ليست الضرورات تبيح المحظورات على الإطلاق لكن بشرط أن يكون المحظور أنقص من الضرورة. مثاله: لو أنّ إنسانًا أُجبر وهُدّد أن يقتل إنسانًا، قيل: أُقتل هذا الرجل وإلا قتلناك، في هذا الحالة لا يجوز له أن يقتل ذلك الإنسان، فهذا المحظور ليس أنقص، إما أن يكون مساويًا، أو أكثر ضرورة من ضرورته، فكيف يجوز أن يستبقي نفسه، وأن يفدي نفسه بقتل أخيه المسلم؟ ولهذا اختلف فيما إذا كان المعصوم غير مسلم كذمى، لكن إذا كان مسلمًا فهو محل اتفاق لا يجوز له ذلك؛ لأنه لا يجوز له أن يستبقي نفسه وأن يفدي نفسه بقتل أخيه المسلم؛ لأن هذه الضرورة أقل من الضرورة التي أجبر عليها إما مساوية لما هُدد به أو أعظم أو هذا المحظور الذي سينتهك يكون أعظم فيشترط أن تكون أنقص منها, ولأجل هذا اختلف لو أجبر على الزنا هل يكون مضطرًا؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وهل يتصور الإكراه على الزنا؟ إلى غير ذلك، فلابد أن تكون الضرورة أنقص منها، لكن لو أجبر مثلًا على شرب الخمر، أو أجبر على كلمة الكفر، أو أجبر على أكل لحم محرم كلحم الخنزير هذا له أن يأكل من هذا المحرم، وله أن يشرب من هذا المحرم؛ لأن الضرر المترتب على ترك الإقدام على الأكل أو الشرب أعظم من الضرر

الحالة الأولى: أن يكون قادرا ببدنه قادرا على ما أمر به

المترتب على الأكل أو الشرب المحرم، فهذه القاعدة أصل عظيم أنه: لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة. وتحت هذه القاعدة قواعد أخرى ذكرها أهل العلم في هذا الباب. بقى أيضًا فيما يتعلق بكلمة الوجوب هذا فيه إشكال، ولا أدري عن قوله "الوجوب" لأن الوجوب لا يتعلق بالاستطاعة لأنه خارجٌ عن قدرة المكلف فإن له شروطًا وأسبابًا فلا يوصف هذا الشيء بأنه محل وجوب في حق المكلف. مثاله: وجوب الصلاة له سبب وهو زوال الشمس، فلا يدخل تحت قدرة المكلف أصلًا، فالعبارة موضع نظر في كلمة الوجوب، وسبق - أيضًا - في القاعدة التي تعرضنا لها في الوسائل وأنها تأخذ أحكام المقاصد، وأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، لكن المراد في مسألة الوجوب أنه لا يلزمه أن يؤدي هذا الفعل، وأن يكون واجبًا عليه إلا بقدرته واستطاعته ليس المراد بالوجوب الذي ليس إلى المكلف سبيل إليه. مثلًا: وجود النصاب في حال الزكاة، ووجود الحول في الزكاة الذي هو شرط لها أو النصاب الذي هو سبب لها، وما أشبه ذلك من ما يكون محل الوجوب وهو غير داخل تحت قدرة المكلف أصلًا، فيما يتعلق بالعجز والقدرة فالمكلف تجاه الأمر والنهي وتجاه ما أمر به له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون قادرًا ببدنه قادرًا على ما أمر به: مثل الصحيح الذي ليس بمريض، المستطيع للوضوء وللغسل، إنسانٌ سليمٌ

الحالة الثانية: قادر ببدنه عاجز عن الآلة المأمور بها

صحيح الجسم يستطيع أن يتوضأ هذا حكمه واضح يجب عليه أن يصلى كما أمر بالوضوء الشرعي أو الغسل لقدرته على امتثال ما أمر به. ومثله أيضًا: القادر على الصوم، والقادر على الحج، وما أشبه ذلك يقابله مريض عاجز عن الآلة التي يؤمر بها، مثل إنسان مريض عادم للماء فإنه ينتقل إلى البدل، وهذا والحمد لله محل إجماع لأنه عاجز بأمرين: 1 - ببدنه 2 - الآلة التي أمر بها. الحالة الثانية: قادر ببدنه عاجز عن الآلة المأمور بها: إنسان صحيح الجسم ليس مريضًا لكنه عادم للماء، هذا أيضًا كالحالة التي قبلها ولا يؤمر بتحصيله لأنه في هذه الحالة غير مكلف به؛ لأنه غير واجد لما أمر به، فله أن ينتقل إلى البدل كما قلنا في الحالة الأولى. الحالة الثالثة: عاجز ببدنه، قادر على الآلة التي أمر بها: هذه الحالة مثل إنسان ضعيف البدن لا يستطيع الركوب للحج مثلًا، أو مريض بمرض في الغالب لا يرجى برؤه، هذا إذا كان قادرًا بماله فإنه يلزمه الحج في ماله على الصحيح من قولي العلماء، كما هو قول جمهور أهل العلم؛ لأن الأدلة الواردة في هذا الباب صحيحة وصريحة، قال: "حج عن أبيك واعتمر" (¬1)، وحديث ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (10/ 4)، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب: الرجل يحجُّ مع غيره (2/ 402)، والترمذي في سننه كتاب الحج، باب: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت (3/ 269) وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه في كتاب الحج، باب: وجوب العمرة (5/ 83)، =

المرأة التي جاءت فقالت: إن أبي لا يستطيع الركوب ولا الظعن (¬1)، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب، وفي لفظ: "إن أمي"، وفي بعضها: "إن أختي" على خلاف هل هو حديث واحد أو أحاديث، المقصود أنه يلزمه أن يحج عن نفسه وأن يخرج شيئًا من المال ولو مات كان دَينًا في تركته يجب إخراجه. مثاله: الكبير الذي لا يستطيع الصوم لكن يستطيع إخراج الكفارة، هذا يلزمه أن يخرج الكفارة عن كل يوم مسكينًا على الخلاف في القدر المخرج، والقول الأظهر أنه يخرج نصف صاع، أو يطعم مسكينًا يغديه أو يعشيه، أو يملّكه هذا القدر من القوت، وإن كان طَبْخُهُ له وإعطاؤه له مطبوخًا أبلغ له في إكرامه، إلا أن يُؤثِرَ الفقيُر ذلك، لكن لا يلزم أن يجيبه إلى هذا، فالمقصود أنه في هذه الحالة يلزمه أن يُكفِّر. ¬

_ = وابن ماجه في المناسك من سننه، باب: الحج عن الحي إذا لم يستطع (2/ 970) كلُّهم من طريق النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العُقيلي رضي الله عنه. . . به فذكره". وسنده صحيح. قال البيهقي في سنته (4/ 35): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا علي بن حمشاذ حدثنا أحمد بن سلمة قال: سألت مسلم بن الحجاج عن هذا الحديث - يعني حديث أبى رزين هذا - فقال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا الحديث، ولا أصحِّ منه". اهـ. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج، باب: وجوب الحج وفضله (1/ 383)، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج (4/ 101) كلاهما من طريق سليمان بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما به. . . فذكره". وله عند البخاري أيضًا من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جُهينَة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفحُجُّ عنها؟. قال: نعم، حجّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دَينٌ أكنتِ قاضيته، اقضوا الله، فاللهُ أحقّ بالوفاء".

ومثاله: إنسانٌ لا يستطيع الجهاد كما ذكر أهل العلم أن جنس الجهاد واجب على الصحيح، لكن قد يكون واجبًا بالبدن بأن يباشر القتال بنفسه، وقد يكون الجهاد باللسان، وقد يكون الجهاد بالكتابة إلى غير ذلك على حسب أنواع الجهاد التي جاءت بها الأدلة، ذكر هذه الأنواع العلاّمة ابن القيم - رحمه الله - وهي واضحة من جهة الأدلة. بقي في هذه الأقسام الأربعة ما إذا كان قادرًا على بعض الواجب المأمور به، هل يكون مستطيعًا أو غير مستطيع، إنسان قادر على بعض الواجب المأمور به مثل إنسان عليه غسل جنابة وعنده من الماء شيء يكفيه لنصف بدنه وليس قادرًا على جميع الواجب المأمور به فهذا يمكن أن يكون قسمًا خامسًا، فهذا هل هو كالعادم للماء؟ أو كالواجد له؟ محل خلاف. ذهب بعض أهل العلم إلى أنه في حكم الواجد، فإذا كان عنده ما يكفيه لغسل بدنه أو بعضِهِ، أو عنده شيء يكفي لغسل بعض أعضائه، مثل من عنده ماء يكفيه للمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليد اليمنى، أي ليس عنده إلا هذا الماء والباقي ليس واجدًا له، أو يستبقيه لشربه وحاجته، فهذا هل يكون في حكم الواجد أم حكم العادم؟. قيل: هذا، وقيل: هذا، والأظهر في مسألة الجنب أنه في حكم الواجد، فإذا وجد بعض ما يكفيه فعليه أن يغسل بدنه بما يجده من الماء، وهذا والله أعلم لأن غسل بعض البدن في الجنابة عبادة، ويخفف الجنابة ولهذا أمر عليه - الصلاة والسلام -

الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ (¬1)، وإذا أراد أن يُعاودَ الجماع أو أن يأكل، أو أن يشرب، يشرع له أن يتوضأ تخفيفًا للجنابة؛ لأن هذا الجزء المفعول والمعمول هو عبادة، ويخفف الجنابة، ولهذا ثبت عن كثير من الصحابة أنهم أجازوا للجنب إذا توضأ أن يمكث في المسجد، ولم يجعلوه كالجنب من كل وجه، بل جعلوه كأنه مرتبة بين المرتبتين، فليس كالجنب الذي لم يغسل شيئًا، وليس كالمتطهر تمامًا، وهذا واضح من جهة الأدلة التي جاءت بالأمر للجنب أن يتوضأ، ولهذا لا تشترط الموالاة في الجنابة، فإذا غسل بعض بدنه زال منه حكم الجنابة فيما غسل، فهل الوضوء كالغسل في هذه المسألة؟. موضع خلاف. ذهب بعض أهل العلم إلى هذا العموم في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (¬2)؛ لأنها نكرة في سياق النفى، والنكرة في سياق النفي عامة، وهذا واجد للماء، وقال بعض أهل العلم: لا يشرع أن يتوضأ بل هو في حكم عادم الماء، وقالوا: إنه فرق بينما جزءه عبادة، وبين الذين ليس جزءه عبادة، فالذي جزءه عبادة فإنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثمّ ينام (1/ 287)، ومسلم في صحيحه في كتاب الحيض (3/ 216) كلاهما من حديث عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيرقد أحدُنا وهو جُنُب؟. قال: "نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جُنُب". وله شاهد في صحيح مسلم من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم أهله ثُمَّ أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءًا" (3/ 217). وجاء له شاهد أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وُضوءهُ للصلاة". وهو أيضًا في صحيح مسلم (3/ 216) وهذا من فعله عليه الصلاة والسلام. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6.

يستعمل الماء، والذي ليس جزءه عبادة فإنه لا يستعمل الماء، وقالوا: تخفيف الجنابة بالوضوء أو بغسل بعض الأعضاء عبادة، ولهذا أمر - عليه الصلاة والسلام - الجنب أن يتوضأ فكان عبادة، أما غسل بعض أعضاء الوضوء فليس جزء عبادة، ولم يأتِ في الشرع أنه جزء عبادة، لكن ورد في حديث علي رضي الله عنه أنه توضّأ وضوءًا خفيفًا لم يغسل جميع الأعضاء، ثم قال: هذا وضوء من لم يحدث (¬1)، فهو في بعض الأعضاء لكنه لمن لم يحدث فما ليس جزءه جزء عبادة لا يصح الإتيان به. مثاله: لو أن إنسانًا في رمضان عليه كفارة في الصيام فيقول أنا أستطيع أن أصوم نصف اليوم بدون أي مشقة ولا يحصل لي أي شيء فهل يلزمه الصوم؟. ¬

_ (¬1) هذا الأثر أخرجه ابن جرير رحمه الله في تفسيره "جامع البيان" عن اثنين من الصحابة هما: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. .} (6/ 113). أما أثر عمر رضي الله عنه فقد أخرجه من طريق حميد عن أنس قال: "توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجَوُّز خفيفًا فقال: "هذا وضوء من لم يحدث". وسنده صحيح. وأما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه عنه من طريقين: 1) من طريق شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: "رأيت عليًّا صلّى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه ورجليه وقال: "هذا وضوء من لم يحدث". 2) من طريق هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: "أن عليًا اكتال من حُب فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّز فقال: "هذا وضوء من لم يحدث". والإسناد في كلا الطريقين صحيح.

نقول: ليس صيام نصف يوم عبادة ولا جزء عبادة، فيكون في حكم غير القادر، وهكذا الذي يستطيع أن يغسل بعض أعضائه ليس عليه شيء، وهذا موضع خلاف كما قلنا في مسألة الجنب واضح، وفي مسألة الوضوء محل نظر - والله أعلم -. هذه المسائل التي هى موضع اجتهاد يخرج من خلاف أهل العلم بفعل ما أوجبه بعض العلماء واجتناب ما نهى عنه بعض العلماء، وهذا في المسائل الاجتهادية أو المسائل الخلافية التي يكون الخلاف فيها قويًا حيث لا تظهر السنة ظهورًا بيِّنًا، أما مع ظهور الدليل عند وجود الخلاف فإن الاحتياط هو الأخذ بالدليل، ولا يُحتاط للقول المخالف؛ لأن الاحتياط الصحيح يكون باتباع السنة، أما مع ضعف الخلاف ومخالفته للدليل فلا يلتفت إلى هذا الخلاف، ولا يقال يشرع الاحتياط له. وقد قرر الإِمام البخاري مسألة الخروج من الخلاف في صحيحه ذكر مسألة كشف الفخذ، وذكر حديث أنس رضي الله عنه لما أجرى في زقاق خيبر وحسر عن فخذه فقال: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط؛ ليخرج من اختلافهم (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري، باب ما يذكر في الفخذ (1/ 103).

القاعدة الخامسة الشريعة مبنية على أصلين

القاعدة الخامسة الشريعة مبنية على أصلين: 1 - الإخلاص لله. 2 - المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذان الأصلان محل إجماع من أهل العلم لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1)، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2)، وقال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3)، وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬4). {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} يعني صوابًا على السنة، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} أن يكون خالصًا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 110. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي (1/ 2)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإمارة (8/ 86)، كلاهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث مشهور، قال عنه النووي رحمه الله: وهو حديث جمع على عظمته وجلاله، وهو أحد قواعد الدين وأول دعائمه وأشد أركانه، وهو أعظم الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام". (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردودٌ، ومسلم في الأقضية رقم (1718) (1/ 597). كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها. واللفظ الآخر للحديث: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد": عند البخاري في صحيحه تعليقًا بصيغة الجزم في كتاب البيوع، باب: النجش (1/ 535)، ومسلم في صحيحه في كتاب الأقضية (1718). (¬4) سورة الزمر، الآية: 3.

وهذان الأصلان - والحمد لله - محل إجماع كما قلنا، ودلت عليهما الأدلة، والقاعدة واضحة، وأنه يجب الاتباع في الظاهر والباطن، فهذه القاعدة مبينة على أصلين: 1 - الاتباع في الظاهر. 2 - الاتباع في الباطن. ولا يصح أحد الأصلين دون الآخر، فمن اتبع باطنًا بأن أخلص عمله لله سبحانه وتعالى لكنه عمل على بدعة أو على طريقة منحرفة فعمله مردود عليه "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (¬1)، وقد بَيَّنَ - عليه الصلاة والسلام - كما قلنا في حديث "إنما الأعمال بالنيات" (¬2) الأعمال الباطنة المتعلقة باعتقادات القلوب وأعمالها، وأنه يجب أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، وحديث "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" الأعمال الظاهرة وأنه يجب أن تكون صوابًا، فاشتمل هذا الأصل الأعمال الباطنة بأن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى، والأعمال الظاهرة أن تكون صوابًا، والعمل مثلًا كالصلاة، فإنه يجب عليه أن يصلي لله سبحانه وتعالى، يعني أن يقصد بهذه الصلاة وجه الله سبحانه وتعالى، وأن يحج يقصد وجه الله سبحانه وتعالى، ويخرج زكاة ماله يقصد وجهه سبحانه وتعالى، ويصوم مخلصًا لله سبحانه وتعالى، والصوم في أصله لا رياء فيه لكن يكون الرياء فيما إذا أخبر أنه صائم على جهة الرياء، أما الصوم من جهة إيقاعه ونيته ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 62. (¬2) سبق تخريجه ص: 62.

فلا رياء فيه، قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا جزئ به" (¬1)، لا يكون الرياء في نفس نية الصوم؛ لأنه لا يُطَّلَع عليه لكن يكون الرياء بأن يخبر بأنه صائم على جهة المراءاة، أما إذا أخبر على غير جهة الرياء فلا بأس. فالمقصود أنه لا يصح العمل إلا بهذين الشرطين، فمن صلى صلاة على الوجه المطلوب ولم يبتدع فيها بدعة من جهة الظاهر، لكنه غير مخلص في الباطن فعمله باطل مردود عليه على تفصيل لأهل العلم في مسألة الرياء، إذا كان في أصل العمل أو حدث بعد ذلك، هذا هو الأصل في هذه القاعدة وأنه لا بد من المتابعة، وأن يكون العمل خالصًا لله سبحانه وتعالى وهذا في سائر أحكام الشرع، وعلى هذا تكون جميع الاعتقادات وجميع الأعمال التي جاء بها المبتدعون مردودة وباطلة، وجميع البدع المتعلقة بأعمال القلوب والبدع المتعلقة بأعمال الجوارح تكون باطلة مردودة، ومن هذه البدع التي جاءت به الفرق الضالة من جهمية ومعتزلة ومرجئة، وهكذا ما حدث من الفرق بعد ذلك التي هي: مخالفة للشرع ومصادمة له تكون أعمالها باطلة ومردودة لمناقضتها الشرع ظاهرًا وباطنًا، هذا هو الأصل فيما يتعلق بهذه، وهذا فيما يكون مأمورًا به منهيًا عنه؛ لأنه هو محل الأمر والنهي ومحل التحريم والإيجاب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، باب: هل يقول إنى صائم إذا شُتِمَ (1/ 478)، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام: (807/ 2) كلاهما من حديث أبى هريرة رضي الله عنه به فذكره. . . ".

القاعدة السادسة الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في العادات الإباحة، فلا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -

القاعدة السادسة الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في العادات الإباحة، فلا يحرّم إلا ما حرَمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه قاعدة عظيمة وواضحة - والحمد لله - وهو أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، وفيها شيء من القاعدة التي قبلها من جهة أن من تعبّد عبادة على غير ما جاء به الشرع فهي مردودة على صاحبها "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" (¬1) فهذا الأصل العظيم في العبادات محل إجماع أهل العلم، وأنه لا يجوز أن يشرع عبادة فيقال هذا واجب، أو هذا مستحب، والعبادات هي ما يكون محل وجوب، أو محل استحباب هذه هي العبادات كل ما أمر به وجوبًا أو استحبابًا فهو عبادة، وما لا فلا. المباحات في أصلها ليست عبادة، لكن تكون عبادة بالنية، فتنقلب المباحات إلى عبادات بالنية، فمن قصد وجه الله سبحانه وتعالى بهذه العبادات فإنه يكون متعبدًا له سبحانه وتعالى، ومأجورًا بنيته هذه، وهو واضح في عمل الإنسان في أمور كثيرة يمكن أن تنقلب فيها المباحات إلى عبادات، الإنسان قد يصل رحمه مثلًا على جهة العادة، خشية أن يقولوا ما زارنا فلان فيكون أمرًا مباحًا لا له ولا عليه لم يقصد وجه الله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان قد يقطع رحمه لو لم يخشَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 61.

ذلك قد يكون بهذه النية ارتكب أمرًا ممنوعًا، فالإنسان إذا وصل رحمه بمجرد هذه النية في أصلها لا له ولا عليه، فيقلبها إلى عبادة بأن ينوي وجه الله سبحانه وتعالى ببره لأقاربه وصلة الأرحام، ينوي بذلك تحصيل الأجر الذي جاء في بر الأقارب وصلة الأرحام، وكذلك زيارة صديقه وزميله إذا نوى بها مجرد المؤانسة والمداعبة معه مثلًا، وقد يخشى أن يجد عليه في نفسه، هذا يكون مباحًا إذا وصله؛ وإن زاره معتقدًا مشروعية زيارة إخوانه، وأنه يحتسب الأجر في ذلك كان مأجورًا بذلك، كذلك أمور كثيرة في مسألة تربية الإنسان لأولاده وأبنائه إذا نوى وجه الله سبحانه وتعالى وقصد أن يصلحهم، وأن يكونوا على طريقة مستقيمة كان مأجورًا في ذلك، والإنسان ينفق النفقة ويخرجها على أهله وهي واجبة عليه يؤجر على هذه النية، ويكون واجبًا عليه، ويؤجر أجر الواجب، لكن إذا نوى مع ذلك ما جاء من الأدلة في فضل النفقة على الأهل يُؤجر أجرين: أصل الوجوب من جهة الموجب، وزيادة عليه من جهة نيته التي نوى بها وجه الله سبحان وتعالى، بأن يحتسبها، كما جاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله عنه في الرجل ينفق على أهله يحتسبها له بها صدقة (¬1) إلى غير ذلك، فالمباحات ننقلب عبادات بالنية، الإنسان ينام وينوي بنومه التَقَوِّي على عبادة الله، فإذا نوى بهذه النية إجمام النفس على هذا الأمور المشروعة انقلبت المباحات إلى عبادات، فالوسائل لها أحكام المقاصد؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النفقات (7/ 82)، ومسلم في صحيحه في كتاب النفقات (3/ 81) كلاهما من حديث أبى مسعود البدرى الأنصارى رضي الله عنه.

لأنه نوى نية صالحة "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). فالأصل في العبادات الحظر بمعنى المنع، فجميع العبادات المتعلقة بالأقوال والأفعال لا يجوز أن يشرع شيء منها إلا بدليل، فلا يجوز أن يقول هذا واجب إلا بدليل، فإذا قال هذا واجب، هذا مستحب، نقول: ما الدليل عليه؟، ولو قال إنسان: يشرع صيام الاثنين، نقول: ما الدليل عليه؟، ولو قال: يشرع صلاة أربع ركعات قبل الظهر وبعدها، نقول: ما الدليل عليه؟، وهكذا. هذا هو الأصل في العبادات، ولهذا كان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدي بالنّبى - عليه الصلاة والسلام - في كل أعماله ويقول إنه يقتدي بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وأن هذا من باب التعبد لله سبحانه وتعالى، وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يصلي في الموضع الذي كان يصلي فيه النبي - عليه الصلاة والسلام -، وكان إذا سافر إلى مكة لحج أو لعمرة، أو إلى غير ذلك كان يبول تحت شجرة ويقول: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يبول تحتها، فهل هذا من الأمور التعبدية التي يشرع فعلها أم لا؟. هذا موضع خلاف، ذهب ابن عمر - رضي الله عنه - إلى هذا، وجمهور الصحابة إلى أن هذا ليس موضع عبادة، وأنه ليس محل اقتداء في مثل هذه الأمور، وليس المراد في مسألة الاقتداء؛ الاقتداء في أفعاله من حيث الجملة، هذه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 62.

مسألة أخرى ذكرها العلماء في الأصول في باب السنة في باب الاقتداء بأفعاله، فموضوع الاقتداء بأفعاله - عليه الصلاة والسلام - طويل، وإن كان الأظهر عند كثير من أهل العلم أن الفعل إذا ظهر فيه وجه القربة كان محلًا للاقتداء، وإن لم يظهر فيه وجه القربة فلا بأس بالتأسى به - عليه الصلاة والسلام - من حيث الجملة، لكن الكلام في أنه يتبعه في أفعاله التي هي محض جبلة، والتي لا يظهر فيها وجه القربة، فهذه جمهور الصحابة رضي الله عنهم كما قلنا يقولون إنه لا يُشرع الاقتداء به في هذه الحال، وقد خالف ابنَ عمرَ - رضي الله عنهما - أبوه وقد ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه كان في سفره فالتفت يومًا فرأى أناسًا يصلون تحت شجرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: أناس يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى تحتها، فقال: أتريدون أن تتخذوا أثر نبيكم مسجدًا؟، أو كما قال - رضي الله عنه -، فأمر بقطعها سندًا للباب، وسدًا للذريعة التي قد تفضي إلى الغلو، ثم تفضي إلى الابتداع والشرك، فلهذا يكون الصواب مع من خالف ابن عمر - رضي الله عنه -. فالسنة أن تفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، هذا هو محل الاقتداء، معنى هذا حينما تصلى في هذا المكان لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلى فيه, ننظر هل صلى - عليه الصلاة والسلام - في هذا المكان قصدًا أم اتفاقًا؟ نقول: إنما صلى اتفاقًا، أي أنه جلس في هذا المكان وصلى فيه، وهكذا فأنت عندما تذهب إلى هذه الشجرة تصلى تحتها صليت قصدًا، والنبى - عليه الصلاة

والسلام - لم يصل تحتها قصدًا، فأنت في الحقيقة فعلت الفعل. على غير الوجه الذي فعل، فلا تكون متّبعًا إذا صليت عندها، بل قد يكون وسيلة إلى شيء من الغلو يؤدي إلى الابتداع، ولهذا كان الصواب كما قلنا ما كان عليه جمهور الصحابة - رضي الله عنهم -، واتفق عليه العلماء بعد ذلك وأنه ليس محلًا للإتّساء في مثل هذه الأشياء. فالأمور التعبدية لا يعقل معناها على التفصيل، وإن عُقلت على الإجمال، ولأجل هذا سُمى ما أمر به على جهة الوجوب أو الاستحباب عبادة لأجل هذا المعنى، فصلاة الظهر مثلًا نفعلها من جهة الإجمال، لكن لماذا أربعًا؟ لماذا إذا زالت الشمس؟. . الله أعلم، ولماذا تكون الظهر سرية، والمغرب جهرية؟، لا نعقلها، وهناك أنواع من العبادات لا تُعقل إجمالًا ولا تفصيلًا، كتقبيل الحجر الأسود، ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - كما في الصحيحين عندما قبَّل الحجر: والله إني أعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبّلتك (¬1). وكذلك الطواف والسعى لماذا على هذه الصفة؟. . الله أعلم، وإن كان في الجملة يُعقل من جهة أن هذه الأمور لإقامة ذكر الله كما في سنن أبى داود بإسناد صحيح أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "إنما جعل الطواف بالبيت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود (1/ 46)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج (64/ 4) كلاهما من حديث عمر رضي الله عنه به. . . ".

والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" (¬1). والغالب في الحج أن باب التعبد فيها أظهر. وما معنى: الأمور التعبدية: أي إذا قيل هذا أمر تعبدّي؟ معناه: أننا لا نعقل حكمته، ليس المعنى أنه ليس في نفس الأمر حكمة، الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله، فما يأمر به لحكمة، وما ينهى عنه لحكمة، لكن المراد أنه ليس هناك حكمة تُعقل، أما في نفس الأمر هناك حكم عظيمة قد تظهر بعد ذلك لأهل الإيمان. يقول المصنف - رحمه الله -: "والأصل في العادات الإباحة، فلا يُحرّم منها إلا ما حرّمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ". هذا هو الأصل في العادات، فالأصل في المآكل والمشارب وأفعال الإنسان العادية كتنقله وما أشبه ذلك الأصل فيها الإباحة، فلا يقال هذا حرام إلا بدليل، عكس الأمور التعبدية، فما سوى الأمر التعبدية الأصل فيها الإباحة والحِلّ، ولا نقول لأي شيء أقدم عليه ما الدليل؟ لأن الأصل الإباحة، وألحَقَ كثير من أهل العلم في هذه مسألة الشروط والعقود في البيع والشراء، وقالوا: إن الأصل فيها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب: في الرمل (447/ 2)، وأحمد في مسنده (6/ 64) ضمن مسند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، والترمذي في سننه في كتاب المناسك، باب: كيف ترمى الجمار (2/ 193) كُلُّهم من طريق عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم بن محمَّد عن عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

الإباحة، وقال آخرون: إن الأصل فيها المنع، والصواب في مسألة الشروط والعقود والبيوع فها الحل لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1)، والصواب أن الآية عامة ليست مجملة كما قاله جمع من أهل العلم، فلذلك يجوز أن يشرط ما شاء إلا ما حرم الله ورسوله، وليس معنى ذلك أن يأتي إنسان جاهل بأمور البيع فيشترط ما شاء، هذا لا يجوز، المعنى أنه يقدم على شيء لا يعلم تحريمه، أما أنه يقدم على شيء لا يعلم حله ولا تحريمه فلا يجوز له ذلك؛ لأنه قد يقدم على شيء محرم، ولهذا نص أهل العلم أنه يجب على من أراد أن يعمل عملًا من الأمور أن يعلم أحكامه على الجملة، وليس على التفصيل، ومما يتعلق بهذا الأصل ما يذكره جمع من أهل العلم أن الأصل في الأعيان المنتفع بها يذكرون مبحثًا في باب الأصول، وكثير منهم يذكرونه في باب التحسين والتقبيح، والأصل في الأعيان قبل البعثة هل هو الإباحة أم التحريم؟ يعني أفعال الإنسان من ذهابه وإيابه وأكله وشربه قبل البعثة (¬2)، فكثير من أهل العلم يقولون ذكر هذه المسألة لا فائدة فيها؛ لأن الشرع قد جاء وبيَّنَ ما يحرم وما يباح، لكن يستفاد من هذه القاعدة في مسألة المأكولات والمشروبات، فلو كان هناك نوع من الطيور مثلًا، ولم يأت نص في تحريمه ولا تحليله هل نقول هذا الطير حلال أم حرام؟. فمن قال إن الأصل فيها التحريم قال: إنه لا يجوز أن يقال إن هذا الصيد حلال ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 275. (¬2) المراد قبل بعثة نبينا - عليه الصلاة والسلام -.

لأنه لم يأتِ دليل على حِلِّه، والصواب كما قلنا: أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - حرّم أشياء إما لخبثها، أو لكونها سامة، أو ضارة، أو لكونها ذات ناب، أو ذات مخلب، وكذلك في الأشربة، أحلّ منها ما أحلّ، وحرّم منها ما حرّم - عليه الصلاة والسلام - فالأصل فيما سواها الحِلّ، ولا يحُرّم إلا بدليل. وقال بعضهم: إن من فائدة هذه القاعدة أنه لو أن إنسانًا نشأ في بلاد غير المسلمين، ولم يتمكن من الاتصال بهم ومعرفة الأحكام، هل الأصل فيما عندهم من الأعيان الحل، وأنه يجوز له أن يُقدم على هذه الأشياء، أم لا يجوز حتى يسأل لأن الأصل فيها التحريم؟ فهذه أمور تُستفاد من هذه القاعدة. اهـ.

القاعدة السابعة التكليف وهو البلوغ، والعقل شرط لوجوب العبادات، والتمييز شرط لصحتها إلا الحج والعمرة، ويشترط لصحة التصرف التكليف والرشد، ولصحة التبرع التكليف والرشد والملك

القاعدة السابعة التكليف وهو البلوغ، والعقل شرط لوجوب العبادات، والتمييز شرط لصحتها إلا الحج والعمرة، ويشترط لصحة التصرف التكليف والرشد، ولصحة التبرع التكليف والرشد والملك هذه القاعدة كما قال المصنف - رحمه الله - التكليف وهو البلوغ، والعقل شرط لوجوب العبادات. أولًا: قال المصنف - رحمه الله - "التكليف هو البلوغ والعقل" كأنه يريد أن تعريف التكليف، وأن حد التكليف هو البلوغ والعقل، وهذا قد يكون تعريفًا للشيء بشرطه، أو بلازمه؛ لأن التكليف ليس هو البلوغ والعقل، وقد اختلف أهل العلم في معناه، قيل: هو إلزام خطاب الشرع، أو ما جاء من الشرع بالأمر والنهي، وقيل: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وهذا صححه جمع من علماء الأصول، وقالوا إنه أقرب التعاريف وأحسنها وأسلمها من الاعتراض، والانتقاض هو إلزام مقتضى خطاب الشرع وخطاب الشرع أمر ونهي وإباحة، فهذا التعريف يشمل جميع الأحكام الخمسة فهو يدخل فيه الأمر وهو الوجوب والاستحباب، فما كان واجبًا فهو مأمور به، وما كان مستحبًا فهو مأمور به، والنهى ما كان حرامًا فهو منهيٌ عنه، وما كان مكروهًا فهو منهي عنه، والمباح أيضًا هو أن يُخيّر المكلف بين الإقدام على الفعل والترك، والمعنى أنه يعتقد إباحة ذلك الشيء وهذا هو خطاب الشرع، وأنه ليس بحرام ترك الإقدام عليه فهذا هو

معنى التكليف. أما البلوغ والعقل فهما شرطان للتكليف، وهما ليسا التكليف، بل هما شرطان للتكليف. وقد يقول قائل: إن المباح ليس لازمًا، وإنما اللازم هما الأمر إن كان على جهة الوجوب أو الاستحباب، والنهى إن كان على جهة التحريم أو الكراهة، أما المباح فهو مخير بين الفعل والترك، فكيف نقول إن التكليف هو إلزام مقتضى خطاب الشرع والمباح ليس لازمًا؟ نقول كما قال كثير من أهل العلم: إن المراد هنا هو اعتقاد أنه مباح، وهذا الاعتقاد هو الإلزام المذكور في حد التكليف؛ لأنه لا يجوز أن تعتقد أن المباح يجب فعله، أو يجب تركه، فهذا هو المراد من إلزام مقتضى خطاب الشرع. فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يوجب التكاليف الشرعية على كل إنسان بل جعل لها علامات تدل عليها، وجعل لها وقتًا يكون المأمور قابلًا للفعل وقابلًا للترك، أي قابلًا لخطاب الشرع من جهة الفعل ومن جهة الترك، فيختلف حال الإنسان في حال الصغر بل يختلف حينما كان جَنينًا في بطن أمه، ثم بعد ذلك إذا وُلد وهو صغير، ثم إذا بلغ سن التمييز، ثم إذا بلغ الحُلم، فهذا له أحوال، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل التكليف له علامات محدّدة، بها يلزم التكليف، قبل ذلك لا حرج عليه لأنه غير ملزم بخطاب الشرع، هذا من حيث العموم،

ولهذا جَعَلَ البلوغ والعقلَ شرطين للتكليف، فلابد من هذين الشرطين: أن يكون له قدرة في بدنه وقدرة في عقله، البلوغ يتعلق بقدرة البدن، والعقل يتعلق بقدرة الفهم، فقبل هذين الشرطين هو غير مكلف، فلابد من هاتين القدرتين، أي لابد من اجتماعهما حتى يكون مكلفًا. والإنسان إذا كان صغيرًا ولم يكن مُتهيئًا لخطاب الشرع فإنه غير قابل للأمر والنهي؛ لأنه لا يفهم خطاب الشرع، ولو فرض أنه فهم فإنه لا يقدر لضعفه وعدم قدرة بدنه، لكنهما في الغالب متلازمان، وقد ينفك أحدهما عن الآخر في حق المعتوه مثلًا، فإنه قد يكون قوي البدن لكنه غير قادر على الفهم، وكذلك المجنون من باب أولى، والمراد بالخطاب هنا أن يكون مخاطبًا بالأحكام التكليفية لا الأحكام الوضعية، والأحكام التكليفة هي: الوجوب والتحريم والإباحة والاستحباب والكراهة. أما الأحكام الوضعية فهي: الأسباب والشروط والموانع وغيرها، فهذه أمور معلقة على أسباب وعلى شروط وعلى موانع، فمتى ما وُجدت ربط الشرع أحكامه على أسبابها، فمثلًا: الصبي إذا كان عنده مال فإنه تجب فيه الزكاة، وكذلك المجنون على الصحيح من قولي العلماء، كما هو قول جمهور أهل العلم. فإذا بلغ التكليف وكان عاقلًا غير معتوه ولا مجنون في هذه الحال يكون مكلفًا، ويكون لديه أهلية الأداء الكامل، فيعلق به حكم الشرع من جهة التكليف، فيكون مأمورًا منهيًا ولديه أهلية تامة للأداء، ولديه استعداد للإلزام

1 - الاحتلام

والالتزام، ويتعلق به جميع أحكام الشرع. هذه المسألة الأولى المتعلقة بأهلية المكلف حتى يبلغ الأهلية التامة. يقول المصنف - رحمه الله -: "البلوغ": البلوغ له علامات بها يكون مكلفًا مع الشرط الآخر، وهما متلازمان، وأول علامات البلوغ: 1 - الاحتلام: وهو محل إجماع من أهل العلم لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} (¬1)، وجاء في هذا عدة أخبار منها "لا يُتْمَ بعد احتلام" (¬2)، ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 59. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الوصايا برقم (2873)، والطبراني في المعجم الصغير (ص 53) كلاهما من طريق يحيى المدينى عن عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن ابن يزيد بن رُقيش أنه سمع شيوخًا من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي بن أبي طالب: "حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. . وفيه: "لا طلاق إلا من بعد نكاح، ولا عتاق إلا من بعد ملك، ولا يُتْم إلا بعد احتلام، ولا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا صمات يوم إلى الليل، ولا وصال في الصيام". . فالحديث بهذا السند ضعيف وفيه علتان: 1 - جهالة عبد الله بن خالد بن سعيد وأبيه فهما لا يعرفان، ولذا قال عنه الحافظ في التقريب (301): "مستور تكلّم فيه الأزدى"، وقال الذهبي في الميزان (2/ 412) بعد أن ذكر كلام الأزدى: قلت: روى عنه يحيى بن محمَّد البخاري وغيره" فهو وأبوه مجهولان. 2 - يحيى بن محمَّد المدينى الجاري قال عنه البخاري: يتكلمون فيه, وقال ابن عدى: الجاري ليس بحديثه بأس، وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، فالحديث جاء له طريق آخر عند الطبراني في المعجم الصغير (ص 198): من طريق محمَّد ابن عبيد بن ميمون التبان المديني: حدثني أبي عن محمَّد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبان بن تغلب عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن علي رضي الله عنه عن

وقالت عائشة رضي الله عنها: "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة" (¬1). ويثبت البلوغ بإقراره أو بالبينة بشرط أن يكون في وقت الإمكان، فلو ادعى ¬

_ =النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام"، وقد تفرد به محمَّد بن عبيد كما قال ذلك الخطيب في تاريخ بغداد (5/ 299) وأيضًا أبوه: عُبيد مجهول، وقد جَهِلَه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات. وقد جاء هذا الأثر عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما موقوفًا عليه، وله عنه من طريق الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن ابن عباس قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان، وعن الخمس لمن هو؟ وعن الصبي متى ينقطع عنه اليتم؟ قال:. . فكتب إليه ابن عباس: "وأما الصبي فينقطع عنه اليُتم إذا احتلم. . " وهذا الأثر أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (1/ 224) وفيه الحجاج بن أرطأة: قال عنه ابن معين: ليس بالقوي، وهو صدوق يدلِّس، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني وغيره: لا يُحتج به. وعيب عليه كثرة التدليس كما قال العجلى والذهبي حيث قال: وأكثر ما نْقِمَ عليه التدليس. وقال عنه الحافظ في التقريب (1529: صدوق كثير الخطأ والتدليس. الطريق الثاني: من حديث قيس بن سعد عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله, فذكره بنحوه بلفظ: "إذا احتلم أو أو نس منه خير". وهو عند أحمد في مسنده (1/ 294) وإسناده صحيح، وفي رواية له من طريق جعفر عن أبيه يزيد به ولفظه: "ولعمري إن الرجل تنبت لحيتُه وهو ضعيف الأخذ لنفسه، فإذا كان يأخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب اليُتم". الطريق الثالث: من حديث سفيان عن إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر الحرورى إلى ابن عباس يسأله فذكره بنحوه بلفظ: "لا ينقطع عنه اسم اليُتم حتى يبلغ ويُؤنس منه رشد" عند مسلم (3/ 1445). (¬1) هذا الأثر أخرجه الترمذي في سننه في أبواب الطهارة (1/ 207)، والبيهقي في الكبرى (1/ 320) تعليقًا بدون إسناد فقال: وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:. . . ثم ذكر هذا الأثر عنها، وقال: تعنى - والله أعلم - فحاضت فهي امرأة"، وهذا الأثر موقوف عليها رضي الله عنها.

2 - استكمال خمس عشرة سنة

البلوغ قبل وقت الإمكان لا يُقبل لأنه مخالف للواقع، ولا يكون البلوغ في حق الذكر والأنثى قبل تسع سنين، فلو ادعى البلوغ أحد منهما قبل تسع سنين لا يقبل. 2 - استكمال خمس عشرة سنة: وهذا موضع خلاف، ذهب جمهور أهل العلم إلى ذلك، وقال آخرون لا يكون بلوغًا، وبعضهم قال: يكون بلوغًا في حق الكافر فيآخذ بأحكام الشرع، وبعضهم حدّه بسبع عشرة سنة، وبعضهم بثمان عشرة سنة. لكن الصواب: أن البلوغ يكون باستكمال خمس عشرة سنة؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أراد الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد فلم يجزه فلما كان في غزوة الأحزاب أجازه، وكان عمره خمس عشرة سنة (¬1). وفي لفظ صحيح عند البيهقي وغيره أنه لما ردّه في غزوة أحد قال: ولم يرني بلغت. والمراد بالبلوغ في هذا السنن ما لم تأت علامة قبله، وإلا ولو أتت علامة قبله فإنه يحكم له بالبلوغ، ولو لم يبلغ سن الخامسة عشرة، وهذه العلامة وهي بلوغ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم (2/ 158)، ومسلم في كتاب السير (6/ 30) كلاهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه به فذكره. . . "، وزيادة "ولم يرنى بلغت" عند البيهقي في الكبري (5/ 302) وهي صحيحة.

3 - نبوت الشعر الحسين حول القبل

خمس عشرة سنة علامة مشتركة بين الذكر والأنثى. 3 - نبوت الشعر الحسين حول القُبُل: لما ثبت في حديث عطة القُرظي في قصة قتل بني قريظة أنه كان يكشف عن مآزرهم، فمن أثبت قُتل، ومن لم ينبت لم يُقتل (¬1)، وهذا العلامة - أيضًا - مشتركة بين الذكر والأنثى. هناك علامتان تختصان بالأنثى: الأولى: الحيض، فإذا رأت الدم في سن الإمكان وهو استكمال تسع سنين فإنها تكون بالغة، أما إذا رأته قبل ذلك فإنه يكون دم فساد، وحكى بعض العلماء الإجماع على هذا. الثانية: الحمل؛ لأنه لا يكون إلا بإنزال المنى. قال - رحمه الله -: "والعقل": فلو بلغ وهو معتوه أو مجنون لا يكون مكلفًا، وهذا هو قول جماهير أهل العلم فيما يتعلق بالبلوغ مع العقل، قال بعض أهل العلم إنه إذا فهم الخطاب وقد قارب البلوغ فإنه يكون مكلفًا وهو رواية عن الإِمام أحمد - رحمه الله -، وقال أنه إذا بلغ سن الثانية عشر وقد فهم الخطاب فإنه يكون مكلفًا، ويرى أنه لو لم ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (4/ 310)، وأبو داود في سننه في كتاب الحدود (4/ 561)، والنسائي في سننه في كتاب الطلاق (6/ 155)، والترمذي في جامعه في كتاب السير (3/ 72) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه في كتاب الحدود (2/ 849)، والحاكم في المستدرك في آخر كتاب الحدود (4/ 390) وقال: "على شرطهما ولم يخرجاه"، كلهم من حديث عطية القُرظي رضي الله عنه.

يصل يقتل لكن لا يقتل على أنه كافر، واستدل بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" (¬1)، وليس فوق الضرب إلا القتل. وقالوا: إنه يؤمر بالصوم ويكون مكلفًا إذا فَهِمَ الخطاب وعَقَلَهُ، وإن لم يبلُغ، والجمهور على أنه لابد من حقيقة البلوغ ولا يكتفي بمظنة البلوغ، ¬

_ (¬1) ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ومن حديث سبرة بن معبد الجهني، أمّا حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فهو من طريق سوار أبى حمزة عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مرو أولادكم بالصلاة لسبع. . . ". أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (2/ 491) واللفظ له، وأحمد في مسنده (2/ 187)، والحاكم في المستدرك (1/ 197)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 84) وإسناده حسن لأجل سوّار هذا، قال عنه الحافظ في التقريب (2682): "صدوق له أوهام". قال عنه الإمام أحمد: شيخ بصري لا بأس به، روى عنه وكيع فقلب اسمه وهو شيخ يوثق بالبصرة. وقال ابن معين: ثقة. انظر: التهذيب (2/ 453)، الميزان (2/ 245). وأما حديث سبرة بن معبد الجهني فهو من طريق حفيده عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ "مروا الصبى بالصلاة إذا بلغ سبع سنين". أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (2/ 490)، والترمذي في سننه في أبواب الصلاة (2/ 259) وقال: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم في المستدرك (1/ 201): صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. قال الألباني في الإرواء (1/ 267): وفيما قالاه نظر، فإنَّ عبد الملك هذا إنما أخرجه له مسلم (4/ 132 - 133) حديثًا واحدًا في المتعة متابعة، كما ذكر ذلك الحافظ وغيره، وقد قال فيه الذهبي: "صدوق إن شاء الله، ضعّفه ابن معين فقط" فهو حسن الحديث إذا لم يُخالِف، ويرتقي حديثه هذا إلى درجة الصحة بشاهده الذي قبله". اهـ.

وأنه في هذه الحال قريب من البلوغ، وهذا هو الصحيح للأدلة السابقة. قال - رحمه الله -: "والبلوغ شرط لوجوب العبادات": - هذان أيضًا شرط لوجوب العبادات، فمن لم يبلغ لا يجب عليه أداء الصلاة، ولا الصيام ولا الحج، أما وجوب الزكاة فهو من باب الأسباب، لا من باب خطاب التكليف، بل هو من باب خطاب الوضع، وخطاب الوضع كما قلنا متعلق بوجود بالأسباب والشروط وغيرها. وقال: "أو التمييز شرط لصحتها": - عندنا شرط وجوب وشرط صحة، فالعبادة قد تكون غير واجبة لكن تصح من المكلف، إذا كان الصبى غير مميز في سن الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ولم يميز فتوضأ وصلى وهو غير مميز لا يعرف الوضوء ولا يعرف ما هي الصلاة، فهذا لو صلى لا تصح صلاته، ولو صام لا يصح صومه لأنه فاقد لشرط الصحة، وهو التمييز؛ ولأن هذه العبادات لابد من القصد إليها ولو كان بنية فيها شيء من الضعف من جهة كونه صبيًا، ولا يتأتى القصد من غير المميز، فإذا كان مميزًا صحت منه الصلاة وصح منه الصوم، وصح منه الحج وسائر العبادات، وليس بواجب، وثوابه له على الصحيح، وقول من قال إنه لوالديه لا يصح، واستثنى - رحمه الله - الحج والعمرة، فالحج والعمرة يصحان من الصبى وإن لم يكن مميزًا، فهذه العبادة مستثناة، والأصل عندنا أنه لابد من التمييز لصحة العبادات لكن لما استثنى الحج والعمرة فلابد من دليل، وهو حديث ابن عباس

- رضي الله عنهما - أن امرأة رفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيًا فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"، والعمرة في معنى الحج (¬1). فأثبت - عليه الصلاة والسلام - له الحج بقوله: "نعم، ولك أجر"، فالصبي ولو كان لتوه وُلِد يصح منه الحج والعمرة إذا نوى عنه من يلي أمره، ولو فرض أنه تعمد بعض محظورات الإحرام فعمده في حكم الخطأ، فالمقصود أنه لا يشترط له التمييز لهذا الحديث، ولعله - والله أعلم - أن الحج ليس كغيره من العبادات، وقد يرغب الإنسان في أن يحج هو وأولاده والحج فيه كلفة ليس كغيره من العبادة تحتاج إلى شيء من الاستعداد، فكان من رحمة الله أن يسّر أمره وخففه، ولم يحرم منه هذا الصبي الذي لم يميز فيحصل على أجر الحج والعمرة. بقي أن نعرف ما هو التمييز؟ وبماذا يحصل؟. التمييز: اختلف أهل العلم بماذا يحصل التمييز؟. فجمهور أهل العلم على أن التمييز يحصل باستكمال سبع سنين، واستدلو بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" (¬2)، أي باستكمال سبع، استكمل سبعًا ودخل في الثامنة، وقالوا: إن هذا هو سن التمييز لهذا الحديث. وقال آخرون: إن التمييز ليس له سن معين؛ بل هو يختلف باختلاف الصبيان حسب ذكائهم وقدراتهم، وحسب نمو أجسامهم وقدرتهم وحسب البلاد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج (2/ 973) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. (¬2) سبق تخريجه ص: 79.

والأمكنة، وهذا هو الصحيح. لكن في الغالب أن التمييز يكون عند هذا السنن، وقد يحصل قبل السابعة، فقد يكون بعض الصبيان يميز إذا استكمل الخمس في قوة فهمه وذكائه. وقد جاءت روايات عن بعض السلف في مثل هذا، وأنه كان لهم صبيان لديهم قوة في الفهم، وقوة في الحفظ وهم لم يستكملوا خمس سنين. وذكر الخطيب البغدادي وغيره أشياء في مثل هذا في صبيان لديهم قوة فهم، فالأظهر - والله أعلم - أنه لا يُحكم به في سن معين، لكن لا شك أنه لا يمكن أن يكون في سن صغيرة جدًا بل لابد أن يكون في سن يقبل فيها ويمكنه فيها الفهم، فالصحيح أنه ليس محددًا بسنوات معينة، فقد يميز إذا استكمل الخمس، وقد يميز إذا استكمل الست، وقد يميز إذا استكمل السبع - والله أعلم -. قال المصنف - رحمه الله -: "ويشترط لصحة التصرف التكليف والرشد": ظاهر كلام المصنف أن التكليف والرشد شرط لصحة التصرف، وقد سبق أن شرط التكليف العقل والبلوغ، فإذن يكون شرط التصرف البلوغ والعقل والرشد، فهذه الأشياء الثلاثة شرط لصحة التصرف. والعبارة هنا فيها إجمال، فإن التصرف يختلف فإن كان التصرف لحظ الصبى، فالأظهر أنه لا يشترط فيه التكليف؛ لأن التصرفات قد تكون نفعًا محضًا للصبي، وظاهر عبارة المصنف أن جميع أنواع التصرفات لابد من التكليف فيها،

فلو أن رجلًا أهدى لصبى هدية بغير إذن وليه، أو أوصى له بشيء من المال، أو وقف عليه وقفًا مثلًا، أو تصدق عليه بصدقة، فإنه يصح القبول له في مثل هذا، ولا يشترط له التكليف؛ لأنه نفع محض إما في دنياه أو في آخرته أو فيهما جميعًا. والتصرفات على ثلاثة أنواع: تصرّفٌ هو نفعٌ محض في حق الصبي. وتصرّفٌ هو ضررٌ محض في حق الصبى. وتصرّفٌ هو مترددٌ بينهما وهو موضع الخلاف بين أهل العلم. أما التصرف الذي هو ضررٌ محض حق الصبى والذي هو متردد بينهما فلابد من التكليف مع الرشد فإنه لا يصح من الصبى، وهذا واضح وهما يدخلان في كلام المصنف. ويدخل في كلام المصنف - أيضًا - نوع من التصرف هو نفعٌ محض في حق الصبي، والأظهر في مثل هذا أنه تصرف صحيح، فلو أن صبيًا قبل هدية أو صدقة مثلًا، أو أوصى له إنسان بشيء، أو أوقف عليه وقفًا، فهذا نفع محض فيصح قبوله ويصح رده. لكن لو فرض أن له وليًا يقوم عليه فإن شاء قبل هذا وإن شاء رده، ولو قبله صحَّ لأنه نفع محض. ومثل ما يقع من بعض الناس أن يعطي صبيًا شيئًا من المال، أو هدية لنجاحه مثلًا، أو ما أشبه ذلك، ظاهر كلام المصنف أنه لا يصح، ويترتب عليه أحكام

من جهة ضمانه. المقصود أن مثل هذه الأشياء إذا كانت نفعًا محضًا فإنها تصح لأنه لا ضرر فيها، يقابله ما كان ضررًا محضًا وهو ما إذا كان لصبي شيء من المال، وأهدى هدية أو وهب هبة، أو أعطى عطية، أو ما أشبه ذلك فهذا لا يصح بلا شك؛ لأنه ضرر محض والصبي يجب النظر في ماله بالأحظ له، حتى لو نفذها الوصى، فلو أن صبيًا له وليّ يقوم على شؤونه فصار يتصدق من ماله أو يهدي لا يصح ولا يجوز له فعل ذلك، فمن باب أولى أن لا يصح ولا يجوز من الصبى أي إذا كان لا يصح من الوصي عليه والولي عليه فهو من الصبى لا يصح ولا يجوز من باب أولى. نوع ثالث من أنواع التصرف: تصرفٌ مترددٌ بينهما وهو البيع والشراء، صبي يميز يبيع ويشتري، هذا موضع خلاف، قيل: لا يصح مطلقًا، وقيل: يصح إذا كان بإذن وليّه، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1)، قال بعض أهل العلم إنه لا يمكن أن يعرف رشده إلا بأن يجرب قبل البلوغ؛ لأنه إذا بلغ انتهى الأمر، فلابد أن يجرب قبل البلوغ. فيجرب في البيع والشراء وكل بحسب ما يحسنه، فإذا كان هذا الصبى يحسن هذا الشيء فيجرب فيه ويبيع ويشتري، فإذا باع واشترى بإذن وليه في الأشياء ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 6.

التي لا يترتب عليها مضرة صح، وهذا أظهر؛ لأنه أمر بابتلائهم وهو اختبارهم، واختبارهم لا يكون إلا قبل البلوغ حتى إذا بلغ يكون محكمًا لهذه الأشياء عارفًا بها. ويشترط لصحة التصرف: التكليف والرشد، وبقي أن نعرف الرشد، ما هو الرشد؟، اختلف أهل العلم في الرشد. ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الرشد هو الصلاح في المال بمعنى أنه يعرف كيف يتصرف في المال، ويعرف البيع والشراء، فلا يُغبَن ولا يُغلَب، وهذا كل بحسب ما يعمله هذا الصبى، فقد يكون بعض الصبيان المميزين يحسنون أنواعًا من البيع، ولا يحسنون غيرها، فإذا أحسن هذا الشيء الذي يمارسه ويعالجه مثلًا يكون راشدًا. وقال الشافعية: إن الرشد هو الصلاح في الدِّين والمال، وليست العدالة شرطًا فيها فإذا صلح تصرفه في المال وأحسن التصرف فيه يكون راشدًا، ويُعطى ماله ويُسلّم إليه. فيما يتعلق بالرشد قلنا إنه يُجَرّب حتى يعرف إدراكه ومعرفته لهذه الأشياء، فإذا أحسن هذه الأشياء كان أهلًا، لكن أهليته حتى الآن ليست أهلية كاملة ولا تكون كاملة حتى يبلغ، فإذا بلغ يكون قد بلغ الأهلية الكاملة، والأهلية الكاملة هى الأهلية للإلزام والالتزام، وقد أشرنا إلى أن الإنسان له أحوال لأهليته، قد تكون أهلية كاملة، وقد تكون أهلية قاصرة، والشرع ربط الأحكام قبل أن يولد الصبى، فتتعلق به أحكام كثيرة، وإن كان في بطن أمه.

وقد ذكر أهل العلم أن الأهلية نوعان: 1 - أهلية وجوب. 2 - أهلية أداء. وأهلية الوجوب تسبق أهلية الأداء، والصبي له أهلية وجوب، وهي على نوعين: 1 - إذا كان في بطن أمه فله أهلية وجوب قاصرة فيرث بشرطه، وتصح الوصية للحمل، ويصح الوقف عليه عند جمع من أهل العلم، فهو أهل لهذه الأشياء. 2 - فإذا وُلد كملت أهلية الوجوب، وكان له ذمة صحيحة كاملة، فيجب عليه أمور مثل: وجوب الزكاة عليه إذا كان له نصاب بشروطه، أمور تتعلق بالنسب وغيرها. وهنالك أهلية أداء، وهي على نوعين - أيضًا -: 1 - أهلية أداء قاصرة. 2 - أهلية أداء كاملة. أهلية الأداء القاصرة: من سن التمييز وهي السن التي يُختبر فيها هل يحسن التصرف أو لا يحسن التصرف؟ فإذا علم منه شيء من الرشد في المال فله أهلية أداء قاصرة، ولهذا يصح منه أداء العبادات كالصلاة والصوم وغيرها، ويصح منه على الصحيح التصرف بإذن وليه لكنها ليست أهلية أداء كاملة بل هى أهلية أداء قاصرة. فإذا بلغ وعقل وكان أهلًا للتكليف كَمُلت فيه أهلية الأداء وكانت أهليته

أهلية أداء كاملة، فعلى هذا يعرف أن الأهلية على نوعين: أهلية وجوب، وأهلية أداء. أهلية الوجوب على نوعين، وأهلية الأداء على نوعين. 1 - أهلية وجوب قاصرة: وهو حمل في بطن أمه. 2 - أهلية وجوب كاملة: وهو بعد ولادته إلى سن التمييز. 1) وأهلية أداء قاصرة: وهو قبل التكليف. 2) وأهلية أداء كاملة: وهو بعد التكليف، فإذا كُلِّف كان أهلًا للإلزام والالتزام. ولصحة التبرع: التكليف والرشد والملك، والتبرع هو ما كان بلا عوض، والتكليف كما سبق هو البلوغ والعقل والملك، فنفهم من هذا أنه إذا لم يكن مكلفًا لم يصح تبرعه، وقد أشرنا إليه لأن هذا ضرر محض بحق الصبي في الحياة الدنيا؛ لأنه لا يدرك هذه الأشياء.

القاعدة الثامنة الأحكام الأصولية والفروعية لا تتم إلا بأمرين وجود الشروط وانتفاء الموانع

القاعدة الثامنة الأحكام الأصولية والفروعية لا تتم إلا بأمرين وجود الشروط وانتفاء الموانع هذه قاعدة عظيمة - أيضًا - وهي "الأحكام الأصولية والفروعية". فجميع أحكام الشرع سواء كانت أصولًا أم فروعًا لابد من وجود شروطها وانتفاء موانعها، فلو وجد شرط لكن هناك مانع لا يصح. من ذلك مثلًا: آيات الوعيد هى في حق من ارتكب أمورًا محرمة فهو أهل لما جاء في النصوص من الوعيد، لكن قد يكون هناك مانع من العقاب كالتوبة أو استغفار المؤمنين أو مصائب. مثاله: قد يوجد مثلًا شرط قد الإرث فيكون هناك مانع من رق أو قتل أو اختلاف دين، فإنه إن وجد شرطه قد يكون هناك مانع يمنع من الإرث، وهكذا في سائر الأحكام لابد من وجود الشروط، فالصلاة لابد لها من وجود شرطها وهو الوضوء، فمن أراد الصلاة بلا وضوء لا تصح لأنه لابد من وجود شرطها وهو الوضوء، فأحكام الشرع الأصولية والفروعية لابد من وجود شروطها وانتفاء موانعها، وهذا أصل عظيم في جميع الأمور. والشرع أصول وفروع، وهذا صحيح، وبعض الناس يشكل عليه مسألة الأصول والفروع، وقد يستنكر ويقول إنه ليس هناك أصول وفروع، وهذا ليس

بصحيح، بل ظاهر كلام أهل العلم ويكاد يكون إجماعًا منهم، وكلهم يحكون أن هناك أصولًا وفروعًا. واختلف في مسألة الأصول والفروع، وقد يقرأ بعضهم من كلام شيخ الإِسلام - رحمه الله - أن أصل هذا التقسيم من المعتزلة، ويسأل عنه مثلًا ويورد هذا الإشكال ويسمع جوابًا قد يكون فيه شيء من الغموض وليس واضحًا ويقرأ مثلًا كلامًا له ولغيره يقول: الشرع أصول وفروع فيشكل عليه هذا الأمر. فالشرع أصول وفروع لكن ما جاء من كلام أهل العلم في الأصول والفروع وأنه أصل من أصول المعتزلة الذي حكاه شيخ الإِسلام وغيره، هم أرادوا نفيها في مسائل التكفير فهذا لا شك أن أصله من الاعتزال وأصله من تقاسيم المعتزلة. فالمعتزلة يقولون الشرع أصول يُكفَّر بإنكارها، وفروع لا يُكفَّر بإنكارها، وهذا لا شك تقسيم باطل، أما نفس أحكام الشرع ففيها أصول وفروع، لكن المنكر هو أن نقسِّمها إلى أصول يكفر من أنكرها، وإلى فروع لا يكفر من أنكرها، وهذا كما قلنا تقسيم باطل ولا يصح. وإذا قيل لهم ما هي الأصول والفروع؟. قالوا: الأصول الأشياء العلمية، والفروع الأشياء العملية، فالصلاة والزكاة أشياء عملية، والأصول الأشياء العلمية الاعتقادية فيما يتعلق في أحكام التوحيد والعقيدة وأسماء الله وصفاته في مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى وكذلك أنواع القراءات، يقال لهم هذا منتقض طردًا وعكسًا.

إذن يعلم أن هذا التقسيم لا يصح، فمن قسَّمها إلى هذا التقسيم وقال إنها أصول يكفر منكرها وفروع لا يكفر منكرها نقول: هذا التقسيم باطل. فالصلاة بإجماع أهل العلم يكفر منكرها، وكذلك الزكاة والصوم وغيرها من الفرائض، وأنتم - أيها المعتزلة - تقولون إنها من الفروع ولا يكفر منكرها، كما تزعمون، وقد يقولون: إن هذه فيها شيء من الاعتقاد من جهة اعتقاد وجوبها، لكن القصد أن هذا التقسيم غير صحيح وغير منضبط. يقال لهم - أيضًا -: أنتم تقولون أن من أنكر أمرًا علميًا فهو كافر. نسألهم: رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ليلة الإسراء والمعراج، ماذا تقولون من باب العلم أم العمل؟. يقولون: من باب العلم الذي يجب اعتقاده. نقول: اختلف أهل العلم من الصحابة وغيرهم هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أم لم يره؟ وبإجماع أهل العلم أنه لا تكفير في هذا، وهي مسألة علمية والكلام أنه لا يكفر من خالف في مثل هذا الأصل. فهذا التقسيم الذي جاء به المعتزلة باطل، ومن أراد أن يقسم أصول الدين إلى أصول يكفر منكرها وفروع لا يكفر منكرها، فإن هذا التقسيم لا يصح، أما تقسيمها من هذه الجهة أن فيها أصولًا تختلف عن أحكام الأصول فهذا لا بأس به وهو صحيح.

فهناك أمور وأصول في باب الإيمان بالله وملائكته والكتب والنبيين وما أشبه ذلك وما سواها قد يكون شيء منه أصولًا، وشيء منه فروعًا، وكذلك الاعتقاد في أسماء الله وصفاته كلها أصول في هذا الباب، لكن لا نقسم ونقول هذا أصل وهذا فرع، هذا يكفر منكره، وهذا لا يكفر منكره، فهذا لا يصح، والمقصود أنه لابد من وجود الشروط وانتفاء الموانع في أحكام الشرع، وهذا عام حتى في اجتهادات أهل العلم. فقد يخالف رجل من أهل العلم في مسألة من السائل ويكون اجتهاده مخالفًا للدليل، ويبيح أمرًا محرمًا، أو يوجب أمرًا مباحًا، ومع هذا لا نقول أن هذا الرجل متوعد، وأنه آثم بهذا الفعل حتى وإن كان غيره يأثم. فابن عباس - رضي الله عنهما - يجيز ربا الفضل، يجيز الدرهم بدرهمين إذا كان يدًا بيد، كما هو مشهور عنه، وقيل إنه رجع عن ذلك، وكذلك جاء عن جع من التابعين أنه يجيزون بيع الطعام الصاع بصاعين، إذا كان يدًا بيد، ومع هذا أجمع أهل العلم بأنهم غير متوعدين. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه" (¬1) وهذا وعيد شديد لمن أكله، ومعلوم أن من أجازه يجيز أكله، ولا يمكن أن نقول إن هذا الوعيد لاحق بابن عباس وبطاوس أو غيره من التابعين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 50) من حديث جابر رضي الله عنه.

وهكذا غيره قد يخالف في مسألة فيجيزون بعض الأمور الممنوعة وبعض الأمور المحرمة، وكان طلحة بن عبيد الله يجيز أكل البَرَد وهو صائم، ومعلوم أن فطر يوم من رمضان أمر منكر ومحرم فهل يقال إنه يلحق به الوعيد في إجازته، وكان ابن عمر وابن عباس يمنعون التطيب للمُحْرِم بعد التحلل الأول، وهو سنة واضحة، فهل يقال في ذلك إنهم خالفوا؟ وقد قيل إنهم رجعوا عن ذلك. وكان بعضهم يُلزم الحائض بالبقاء حتى تطوف للوداع، ولم تبلغه السنة في هذا، وأن المرأة إذا طافت للإفاضة وحاضت لا وداع عليها. إذًا هذه الأمور في اجتهادات العلماء لا يمكن أن يقال إنه يلحقهم الوعيد؛ لأن من شرط الوعيد وجود الشروط وانتفاء الموانع. وهذا وُجد شرطه مثلًا وهو كونه قال بهذا الشيء لكن يمتنع لحوق الوعيد به لمانع، والموانع كثيرة تعرض لها شيخ الإِسلام - رحمه الله - في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وأنه يرتفع الوعيد بأشياء كثيرة عن من وقع في هذا الأمر وخالف النص، قد يكون لكونه لم يبلغه النص أو بلغه فتأوله. ابن عباس - رضي الله عنه - لما قيل له في ذلك وسئل احتج بحديث قال: إن أسامة بن زيد حدثني، قال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنما الربا في النسيئة" (¬1)، و (إنما) للحصر ففهم منه أنه لا ربا فضل، وجاء عنه أنه رجع كما أسلفنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيع، باب: بيع الدينار بالدينار نسأّ (1/ 541)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 5) كلاهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

المقصود أنه لابد من وجود الأسباب، ولابد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، فعلى هذا من أخطأ خطأً في أمور الشرع وهو من أهل النظر لا يجوز إلحاق الوعيد به، وأنه آثم لأنه خالف النصوص؛ ولأنه أفتى بهذا الشيء، فهذا لا يجوز والسبب أنه معذور بهذا الاعتقاد - والله أعلم -.

القاعدة التاسعة العرف والعادة يرجع إليه في كل حكم حكم الشارع به ولم يحده

القاعدة التاسعة العرف والعادة يرجع إليه في كل حُكمٍ حَكَم الشارع به ولم يَحدّه هذه القاعدة فروعها كثيرة ومنتشرة في باب الفقه، وقد أجمع العلماء عليها في الجملة، وأن العرف محكِّم، أو كما يقول كثير من الفقهاء إن العادة محكِّمة، وهي قاعدة من قواعد الفقه التي يعملون بها في الأحكام كلها فإذا اختلفوا في شيء رجعوا إلى العرف في هذا فيما يتعارفه الناس بينهم وهنا ذكر المصنف - رحمه الله - العرف والعادة. والعرف هو ما يتكرر بين الناس ويقبلونه من الأقوال والأفعال، فإذا تكرر شيء بين جماعة من الناس، أو أهل بلد واعتادوه بمنهم كان عرفًا معمولًا به بينهم. والعرف على نوعين: عرف صحيح، وعرف فاسد. فالعرف الصحيح هو العرف الذي يتعارفه الناس مما لا يخالف نصًا أو دليلًا من أدلة الشرع بحيث لا نقول إنه يجب أن يكون مطابقًا للشرع بل يكفي أن لا يكون مخالفًا له؛ لأن الغالب أن الأعراف ينشئها الناس بينهم وذلك أن الناس لابد أن يكون بينهم أعراف وعادات وأمور يعتادونها. وهناك عرف فاسد وهو ما خالف النصوص الشرعية مثل لو اعتاد الناس شرب الخمر أو الربا مثلًا، فإن هذا عرف فاسد لا يلتفت إليه ولا يجوز العمل به

لمخالفته النصوص وإن اعتاده الناس بينهم. والمصنف - رحمه الله - عطف العادة على العرف وظاهر كلامه أنهما شيء واحد، وقد اختلف هل العرف والعادة شيء واحد، أم هما شيئان؟. قيل: إن العرف والعادة شيء واحد، وذلك أن العادة هي العرف والعرف هى العادة. وقيل: العرف ما يختص بالأقوال، والعادة تختص بالأفعال. وقيل: إن العادة أعمّ من العرف، والعرف أخص من العادة. وعلى هذا يكون قول المصنف والعادة من باب عطف العام على الخاص، وهذا أظهر أن العادة أعم من العرف. فعلى هذا يكون كل عرف عادة، وليس كل عادة عرفًا؛ لأن العادة أعم من العرف، فكلما وجدتَ عرفًا فاحكم عليه بأنه عادة، وليست كل عادة عرفًا، فقد تكون العادة عرفًا وقد تكون العادة ليست عرفًا؛ لأن العرف هو ما يعتاده جاعة من الناس ويتعارفونه فيما بينهم في البيع والشراء والنكاح وما أشبه ذلك من الأمور التي يعتادونها. أما العادة فهي الأمر المتكرر سواء كان لجماعة أم لفرد، فيكون في هذه الحال مباينًا من هذا الوجه للعرف، فهو قد يكون عادة لجماعة، وقد يكون عادة لفرد، أما العرف فلا يكون عادة لفرد بل يكون عادة للجماعة فقط، وبين العرف والعادة كما يقول الأصوليون عموم وخصوص مطلق.

والعموم والخصوص المطلق يعني أن أحدهما أعَمُّ مطلقًا، والآخر أخص مطلقًا، فالعرف أخص مطلقًا، والعادة أعمّ مطلقًا، وتصوّر مثلًا في دائرتين دائرة كبيرة ودائرة صغيرة فالعادة هي الدائرة الكبيرة، والعرف هو الدائرة الصغيرة، فكل عرف عادة، وليس كل عادة عرفًا. وهذا مثل الإيمان والإِسلام، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا، وهكذا في مسائل كثيرة، هذا هو العموم والخصوص المطلق، بخلاف العموم والخصوص الوجهي بأن يكون كل منهما أخص من وجه، وأعم من وجه، فيوافق كل منهما الآخر في وجه من الوجوه، ويخالفه في وجه آخر. والعرف أيضًا على نوعين: عرف قولي وعرف فعلي: العرف القولي: كأن يعتاد الناس بينهم في بيعهم وشرائهم صيغة معينة يعتادونها في الإيجاب والقبول، وعليه يحمل عرف الناس، مثل أن يقول الله يربحك أو يقول: (نصيبك) أو ما أشبه ذلك. العرف الفعلي أو العملي: هو ما يعتاده الناس بينهم عن طريق العادة المتكررة أو عن طريق العمل، وهو في الغالب يكون أقل رتبة من العرف القولي؛ لأن العرف القولي صريح في إرادة هذا الشيء. فالعرف القولي تطابق النية مع القول، والعرف العملى تطابق النية مع العمل. ولاشك أن النية مع العمل أشبه بالقرينة بأنه يريد هذا الشيء، أما القول مع النية أشبه بالتصريح، فهذا يشبه النص، وذاك يشبه دليلًا من جهة الظاهر أو من

جهة القرينة وهو أقوى. فإذا تعارف الناس أمرًا من الأمور بينهم من جهة الأفعال يعمل بها، مثل أن الأصل أن الإنسان لا يدخل مكان غيره أو مسكن غيره إلا بإذن، لكن اعتاد الناس أن يدخلوا محلات البيع والشراء بدون إذن والمحلات العامة كمحلات القضاء والمكاتب وما أشبه ذلك، فهذه أمور لا يحتاجون فيها للإذن؛ لأنه معروف أنه ليس هناك موضع للإذن فيها فتعارفها الناس فيما بينهم. أوضح من هذا: إنسان يذهب للغسال يعطيه الثياب ويناوله إياها ويعرف أنه يريد غسلها، فبدون أن يكون بينهما عقد بصريح القول بل يكفي أن يعطيه إياها، وهكذا كل ما جرى معرفته من جهة الفعل يكفى فيه الفعل، وليس هنالك حاجة للتصريح بالقول؛ لأن العرف في هذه الحال يكفى. العرف - أيضًا - على نوعين من جهة عمومه وخصوصه، عام وخاص. عالم: يعمل به أهل البلاد كلهم. خاص: يعمل به مجموعة من الناس. العرف العام: أن يتوارثه الناس في البلاد كلها. والعرف الخاص: في بلد معين، والعرف العام بلا شك موضع اتفاق من الفقهاء أنه يعمل به، وأنه يحكم به بين الناس في سائر معاملاتهم، وأنه لو ادعى أحد من الناس أنه لا يريد العرف بعد عقد العقد فإنه لا يقبل قوله؛ لأن الأصل أن تحمل

معاملات الناس على العرف الجاري بينهم، وهذا هو العرف العام، وهو موضع اتفاق بين أهل العلم بالعمل به. عرف خاص لأهل بلد، مثلًا أن يعتاد أهل الرياض عرفًا، ويعتاد أهل القصيم عرفًا، ويعتاد أهل الغربية عرفًا، وأهل الشرقية عرفًا، وأهل مكة عرفًا دون غيرهم من أهل جدة، أو الدمام دون غيرهم من أهل الشرقية يعتادون عرفًا، إذا اعتادوا عرفًا يعمل به على الصحيح - أيضًا - ثم إن من قال إنه لا يعمل به لا يكاد يطبقه في الواقع بل كما قال العلاّمة ابن القيم - رحمه الله -: "إن من ينكر بعض أنواع الأعراف التي تجري بين الناس لا يعمل به في الواقع بل يتبعه ويعمل به، وإن خالفه قولًا فهو يوافق فعلًا, فهذا هو العرف الخاص"، فإذا جرى بين الناس عرف خاص فإنه يعمل به في هذه الحال. مثال للعرف العام: إذا اتفق رجل مع دلاّل في مسألة بيع أرض مثلًا، أو بيت، أو سيارة، فإن العرف بين الناس أن المشتري هو الذي يدفع السعي لذلك الوسيط، ولا يصح أن يمتنع عن الدفع، وإذا امتنع أُجبر بالدفع لأنه عرف عام بين الناس ما لم يكن هناك شرط بينهما يخالف ذلك العرف فيعمل به. مثال العرف الخاص: قد يكون لبعض الناس عرف بينهم يختلف عن غيرهم، مثلًا لأهل الرياض عرف يختلف عن أهل القصيم، قد يكون لهم عرف خاص بينهم في البيع والشراء مثلًا، يمكن أن يقال مثلًا من باب التوضيح في المسألة التي ذكرنا: لو كان بعض أهل البلاد عندهم أن السعى على البائع عرفٌ بينهم بخلاف

لعرف أهل البلاد هل يعمل به لأنه عرف خاص أم لا يعمل به؟ الصحيح أنه يعمل به ولو خالف العرف العام, لأنهم محمولون على الأعراف التي تجري بينهم. ننتقل إلى مسألة أخرى في العرف: العرف له شروط، فليس كل عرف مقبولًا، وقد أشرنا إليه في بداية البحث؛ بل إن منها ما هو مردود لفقد شرط من الشروط أو غير ملزم مثلًا. الشرط الأول: أن يكون العرف مُطَّرِدًا: أي معروفًا ومتكررًا وظاهرًا بين الناس، فليس أيُّ عادة تجري بين الناس تكون عرفًا، قد يكون هذا عادة ليس عرفًا، وقد يكون أمرًا خاصًا لأناس معينين، فلابد أن يكون أمرًا مطردًا متكررًا بين الناس معروفًا بينهم. الشرط الثاني: أن يكون عامًا: وهذا موضع خلاف كما أشرنا، لكن إذا فسر العموم بأنه لكل أهل بلد فلا بأس، أما إذا كان عرفًا بين بعض الناس في أهل هذا البلد دون غيرهم، أو معروفًا في حارة من الحارات دون غيرها من حارات هذا البلد، فهو لا يصح؛ لأنه لابد أن يكون عامًا وهو شرط من شروط العرف إلا إذا كان بين هؤلاء القوم جاريًا مجرى الشرط فيعمل به، وإدن لم يكن عامًا في البلد. والعرف دلت عليه أدلة في أنه يُحكَّم كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (¬1) وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2)، ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬2) سورة البقرة، الآية: 233.

وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (¬1) وهذه الآية احتج بها جمع من أهل العلم على أن العرف مُحَكَّم، وقال بعضهم إنها لا تدل، وظاهر كلام كثير من المفسرين أنها ليست دالة على العرف؛ لأن العرف المراد به المعروف، وهو ما أمر الله به من محاسن الأخلاق والأعمال، فلا تكون دليلًا على العرف المتعارف عليه، وكذلك ثبت في الصحيحين أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف" (¬2)، فأرجعها إلى الأمر المعروف، وهناك أدلة أخرى على حجية العرف ذكروها في هذا الباب. الشرط الثالث: أنه لا يخالف نصاً شرعياً: فلو خالف نصًا شرعيًا لِكون عرفًا فاسداً، فلو أن الناس تعارفوا بينهم أنواعًا من الأعراف الفاسدة، مثل الأمور المحرمة فإن هذا لا يجوز أن يكون محلًا للقبول، أو جواز هذا الشيء؛ لأن العرف كما قلنا ما يتعارفه الناس مما لا يخالف نصًا شرعيًا، فإذا خالف النصوص الشرعية فيكون باطلاً مردوداً. الشرط الرابع: أنا لا يكون طارئاً: لو أن إنسانًا عَقَد عَقْدَ مبايعة مع إنسان آخر وكان هناك عرف، ولكنه لم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل (9/ 507) مع الفتح. ومسلم في صحيحه في كتاب الأقضية (5/ 130) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت هند إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفينى ويكفي ابني. . . الحديث".

يحدث إلا منذ فترة يسيرة ولم يشتهر بعد، فقال المشتري: أنا أحاكمك على العرف، وقال البائع: أنا لم أسمع بهذا العرف، فقال المشتري: بل موجود عند أهل المكاتب يعملون به، وعند سؤال أهل المكاتب قالوا: هذا صحيح عند فلان عن فلان ولكن نحن لا نعمل به. نقول: هذا عرف طارئ، وننتظر حتى يشتهر وينتشر ويكون مستقراً تألفه النفوس ويقبلونه، فنعمل به، أما ما دام أنه طارئ لتوّه لم يشتهر ولم ينتشر فإنه لا يكون ملزمًا؛ لأن العرف ما تألفه النفوس، وهذا غير معروف، وفي هذه الحال لا يكون مقبولًا. الشرط الخامس: أنا لا يعارضه تصريح: مثاله: لو أن هناك عرفًا بين الناس في السعي للدلال (الوسيط بين البائع والمشتري) فلو قال المشتري: السعي عليك، أو قال له: أنا أشتري هذه السلعة صافي، في هذا الحال نقول: عارضَ العُرفَ صريحُ القَولِ، فلا يكون ملزمًا، وكذلك مسألة العرف في النكاح، لو أن إنسانًا لما تزوج قال: أنا سأدفع نصف المهر أو ربعه معجلًا والباقى مؤخراً، قالوا: لكن هذا العرف ليس عندنا، فهم لا يلزمون بهذا لأنه ليس عرفًا موجوداً لأهل هذه البلاد. فنقول في هذه المسألة: أن لا يعارضه تصريح فالعرف مثلًا في هذه البلاد أن المهر يكون معجلًا لا يؤجل منه شيء، وبهذا يعمل بالعرف وهو تعجيل المهر كله، لكن لو قال الزوج: سوف أعطيكم نصف المهر مثلًا، والباقى مؤجلًا.

فوافقوا فيكون خالف العرفُ صريحَ القولِ، فإنه في هذه الحال لا بأس به، ومما ينبغى أن يعلم أن العرف إذا استكمل هذه الشروط فإنه لا يشترط ذكره بل يكفي إطلاق القول، فإذا أطلق العقد حمل على عرف الناس بشروطه هذه. هناك مسألة أخرى تتعلق بمعارضة العرف للنص، نحن ذكرنا في الشروط بأن لا يخالف نصًا، لكن هنا إذا كان فيه معارضة، فالعرف يخالف النص، فهل يرد العرف مطلقًا؟ نقول: فيه تفصيل. العرف إذا خالف النص أو خالف دليلًا من أدلة الشرع ينظر، إن كان العرف خاصًا، والنص عامًا، فلا معارضة، فيعمل بالعرف في الخصوص، ويعمل بما سواه في العموم. مثاله: لو حلف أن لا يأكل اللحم، وهو يقصد لحم السمك، فأكل لحم الغنم، هل يحنث لأنه يسمي لحمًا في القرآن، ولغة يسمى لحمًا؟. نقول: لا يحنث؛ لأنه لا معارضة بين العرف والنص في هذه الحال، فيعمل بالعرف فيما سوى الخصوص، لكن بشرط أن لا يكون للنص حكم شرعى، أما إذا كان للنص حكم شرعى فلا يقبل العرف في هذه الحال، فيعمل بالعرف في الخصوص، وأنه يعمل على ما تعارفه الناس بينهم في اللحم. مثال آخر: قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} (¬1) أي أن جميع ما على ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 6.

الأرض دواب، لكن المتعارف بين الناس أن الدابة هى التى تكون لها أربع قوائم لتمشي عليها، فلو حلف إنسان أن لا يركب دابة، فهل يحنث إذا ركب فيما سوى ذوات الأربع. نقول: عرف الناس أنه خاص بذوات الأربع، فلا يحنث إلا إذا ركب ذوات الأربع، ولأنه ليس لهذا النص حكم في الشرع، أي في مسألة الدواب، أما إذا كان النص له حكم في الشرع فإنه لا يعمل بالعرف في هذه الحال، مثلًا الصلاة جاءت بمعنى الدعاء، ولو كان في عرف الناس أنه الدعاء فقال: والله لا أصلى، ولا شَكَّ أن الصلاة في عرف الشرع أنها هي ذات الركوع والسجود، لكن عندما حلف أن لا يصلي ثم سبح وذكر الله هل يحنث؟ نقول: لا يحنث حتى يصلى صلاة ذات ركوع وسجود. فإذا كان له حكم شرعي فإنه يعمل به كما قلنا. ومن مسائل العرف - أيضًا - معارضة اللغة للعرف، في هذه الحالة تقدم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، إلا إذا كانت الحقيقة اللغوية أعم أو مساوية، وإذا كانت الحقيقة العرفية هي العامة وهى المشتهرة فيعمل بها، أما إذا لم يكن هناك حقيقة عرفية فيعمل بالحقيقة اللغوية. مثاله: لو قال مثلًا: والله لا آكل شُواء - الشُّواء في اللغة كل ما شوي من لحم أو بيض، أو خبز خلط به شيء، أو بعض الخضروات التى تشوى فهى في اللغة تسمى شواء، لكن في العرف معلوم أن الشواء هو شواء اللحم خاصة، فبهذا

لا يحنث ويحمل على العرف، ونعلم أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة الشرعية إلا إذا كانت الحقيقة الشرعية فيها حكم من جهة الشرع فإنه يعمل بها، أو كانت الحقيقة اللغوية أعم والحقيقة العرفية غير واضحة.

القاعدة العاشرة البينة على المدعي، واليمين على من أنكر في جميع الدعاوي والحقوق وغيرها

القاعدة العاشرة البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر في جميع الدعاوي والحقوق وغيرها هذا الأصل محل إجماع من أهل العلم في جملة أحكامه، وبينهم خلاف في تفاصيله، وهذا الأصل الذي قرره المصنف رحمه الله تعالى دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"، وهذا اللفظ عند البيهقي وغيره، وهو في الصحيحين بلفظ: "لو يُعطى أناس بدعواهم، لادعى قوم دماء أُناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬1) وزاد البيهقى: "البينة على المدعي". وقوله: "البينة على المدعي": لها أيضاً في الصحيحين شواهد تلد عليها، منها حديث الأشعث بن قيس أنه - عليه الصلاة والسلام - قال له لما اختلف هو ورجل في خصومة قال:"شاهداك أو يمينه" (¬2)، وجاء معناه في صحيح مسلم من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (8/ 213) مع الفتح، ومسلم فى صحيحه في كتاب الأقضية (1/ 1711) كلاهما من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. زاد البيهقى: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر": أخرجها البيهقى في السنن الكبرى في كتاب الدعاوى والبيّنات (10/ 252) باب البينة على المدعى بسند صحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (2/ 218 - 213)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان (5/ 138)، كلاهما من حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه.

حديث وائل بن حجر أنه قال: "ألك بينة؟ "، ثم يحلف قال: إنه رجل فاجر لا يبالي بما حلف عليه، قال: "ليس لك إلا ذلك" (¬1)، وفي أحايث أخرى جاءت تقرر هذا الأصل. المسألة الأولى في هذه القاعدة: وهي قوله "البينة على المدعي": والبينة حصرها بعض أهل العلم في جملة أشياء تثبت الحق، فقالوا: البينة هى رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد مع يمين صاحب الحق، فإذا ادعى رجل على رجل حقًا من الحقوق في يده أو في ذمته فإن عليه البينة، يقال ما بينتك، فإذا كانت البينة رجلين أو رجلًا وامرأتين ثبت الحق، كذلك في المال وما يؤول إلى المال على خلاف لأهل العلم في هذا الأصل، أما الرجلان أو رجل وامرأتان هذا إجماع من أهل العلم، فإذا كانت البينة شاهداً واحدً في دعوى بيت أو أرض أو مال في يد غيره، أو ما أشبه ذلك من سائر الحقوق قال: ما عندي إلا شاهداً واحداً، نقول له احلف مع شاهدك هذا ويكون شاهدك دليلًا لك، واليمين تعضدها وتؤيدها، وذهب إلى هذا جمهور أهل العلم إلى أن المدعى يحلف مع شاهده لما في حديث ابن عباس أنه - عليه الصلاة والسلام - قضى باليمين والشاهد، وفي لفظ قضى باليمين لطالب الحق مع شاهده (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان (1/ 86 - 87) من حديث وائل بن حجر رضى الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب القضاء والشهادات (5/ 128) من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.

وهذا في صحيح مسلم وله شاهد من حديث جابر (¬1)، ومن حديث أبى هريرة وهما شاهدان جيدان، وله شواهد كثيرة تدل على أن الحق يثبت بالشاهد مع يمين ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية (3/ 1337) من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما. ولفظ "قضى باليمين لطالب الحق مع شاهده": أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الأحكام (2/ 2371)، والبيهقي في الكبرى (10/ 172) من طريق جويرة بن أسماء عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سُرق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب". وهذا الإسناد فيه جهالة. قال البوصيرى في "مصباح الزجاجة": التابعى مجهول. وللحديث شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 305)، والترمذي في سننه (4/ 573)، وابن ماجه في سننه (2/ 2369) كلهم من طريق عبد الوهاب الثقفى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما فذكره. . ". قال عبد الله بن الإمام أحمد: "كان أبي قد ضرب على هذا الحديث، وقال لم يوافق أحد الثقفي على جابر". وأخرجه الترمذى في سننه (4/ 573)، والبيهقى (1/ 1690)، وغيرهم من طرق عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً وفيه: وقضى به على فيكم "قال الترمذى: "وهذا أصح يعني المرسل". وقد نقل ابن أبي حاتم في "العلل" برقم (1402) عن أبيه وأبي زرعة قالا: "أخطأ عبد الوهاب في هذا الحديث إنما هو جعفر عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً". وقد تكلم عليه الترمذي في "العلل الكبير (544) ونقل عن البخاري تصحيح المرسل. =

صاحب الحق، هذه بينة عند جماهير أهل العلم. وقال آخرون: إن البيّنة كل ما يبيّن الحق ويوضحه سواء كانت هذه الإثباتات ¬

_ = وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في سننه برقم (3610، 3611) والترمذي في سننه (4/ 572) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة ابن أبى عبد الرحمن عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره. . ". قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وقال الألباني في الإرواء (8/ 301): "وإسنادهُ على شرط مسلم". وقال ابن أبي حاتم في "العلل": (1/ 469): سألت أبى وأبا زرعة عن حديث رواه ربيعة عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين؛ فقالا: صحيح. قلت: يعني أنه يروى عن ربيعة هكذا، قلت: فإن بعضهم يقول عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت؟ قالا: وهذا أيضاً صحيح، جميعاً صحيحين". قال الزيلعى في "نصب الراية (4/ 97) ناقلاً عن ابن عبد البر: "هذا حديث صحيح لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل العلم في صحته، وقد رُوي القضاء باليمين والشاهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وعمر وابن عمر وعلى وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو العاص والمغيرة بن شعبة وعمارة بن حزم وسرق بأسانيد حسان". وقد أفاض العلاّمة ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب سنن أبى داود (10/ 28 - 36) في الكلام على الحديث وبيان طرقها، والرد على من ضعّفها، ثم قال بعد ذلك: "وهذه العلل وأمثالها تعنت لا تترك لها الأحاديث الثابتة ولو تركت السنن بمثلها لوجد السبيل إلى ترك عامة الأحاديث الصحيحة الثابتة بمثل هذه الخيالات".

المذكورة، أو هذه البينات أو غيرها فكل ما يبين الحق فهو بيّنة. وقالوا:: إن ما ذكر في الآية: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬1) هذا ليس في القضاء بالحق إنما هو في إثبات الحق، وفرق بين القضاء في الحقوق وتمييز الحقوق وبيان أصحابها وبين إثبات الحقوق لأهلها. من أراد أن يعقد عقداً من بيع أو إجارة، أو أراد أن يسلف إنسانًا أو ما أشبه ذلك، فعليه أن يتوثق ويثبته بأعلى البينات برجلين أو رجل وامرأتين، ولكن في القضاء والحقوق، وفي الفصل في الحقوق والفصل في الخصومات قد تكون البينة أعم من هذه الأشياء، والله سبحانه وتعالى ذكرها في معرض إثبات الحقوق لا في معرض الفصل في الخصومات؛ لهذا ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن البينة التي تُبيِّن الحقَّ تكون بأشياء كثيرة غير هذه الأشياء؛ ولهذا قالوا إنه في أشياء كثيرة قررت الشريعة القرائن، فإذا وجدت قرائن؛ يحلف معها صاحبها. مثال ما في القسامة وهي إذا ما ادعى قوم أن رجلاً قتل رجلًا منهم وكان هنالك شيء من العداوة بينهم، أو وُجد القتيل في هذا الحي، ورُؤي رجلٌ هارباً وهو متلطخ بالدماء ومعه آلة قتل، وإن لم يُرَ أنه قتل فإن هذه قرينة تقوّي جانب المدعي، لأجل هذا يحلفون خمسين يمينًا مع هذه القرينة، وإن لم تكن شهادة بالعين أنهم رأوه حال قتله إنما هي قرينة تبيّن أن هذا قتل أو كان وجد القتيل في مكان ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 282.

أعداء له هذه قرينة فيحلف أولياء القتيل خمسين يميناً ويستحقون دم المتهم بالقتل، قالوا: هذا يبيّن أنّ البيّنة أعم من أن تكون بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين طالب الحق، فإذا قوي جانب المدعى كانت اليمين معه، فلأجل هذا قالوا: إن اليمين تكون في جانب من كانت حجته قوية، وهذا الأصل أقوى، فمن كان جانبه أقوى فاليمين معه، فيحلف ويستحق ما ادّعاه، قالوا هذا الأصل الذي تقرر. فإن قالوا: ماذا تقولون في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬1) ظاهر الحديث العموم في جعل اليمين في جانب المنكِر، فالجواب عن هذا الحديث: 1) أن هذا الحديث الذي أخذ منه هذه القاعدة أنها لا تصح على العموم؛ لأنها مستندة إلى حديث لا يثبت، وفي كثير من الأحاديث ثبت اليمين في جانب المدعى إذا كان هناك قرينة تقوي جانبه. 2) أن هذه القاعدة المأخوذة من الحديث تكون من باب العموم والخصوص، فالأصل أن البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا ما دل الدليل على خلاف ذلك. 3) أن هذا الحديث في الدعوى المجردة التى ليس فيها إلا مجرد الدعوى، وهذا الجواب أصح فكل من ادّعى دعوى باستحقاق شيء مثل لو قال: أنا أطلب فلاناً ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 105.

ألف ريال، أو أن هذا البيت الذي في يد فلان لي، نقول: عليك البينة، هذا إذا كانت مجرد دعوى، وليس هناك أي قرينة تعضدها، فإذا كان المدعي ادعى وليس هناك بينة، نقول: ائت ببينة لأن جانبك ضعيف، والدعوى كل يدّعيها، فلو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى أناس دماء أقوام وأموالهم لكن البينة على المدّعي، فلذلك هذه الدعوى ضعيفة، أي شيء يبطلها هذا إذا لم يكن هناك بينة، فنقول للمدَّعَى عليه: عليك اليمين. إذن نفهم أن هذا الحديث في الدّعاوى المجردة التي لا يقويها شيء، أما اٍ ذا عضد جانب المدّعِي قرينة من القرائن فإن دعواه تعضد بيمينه ويستحق ما ادّعاه، ولأجل هذا ذهب جمع من أهل العلم إلى القضاء بالنُّكول أو بالنُّكول والردّ، واكتفوا بمجرد نكول المدّعَي عليه، وبعضهم اشترط مع النكول رد اليمين ولم يقولوا لابد من البينة من جانب المدّعِي. ومعنى هذا لو أن إنساناً ادّعى على إنسان سيارة، وأنه يملكها، أو أنه يطلب إنساناً ديناً في ذمته وليس عنده شهادة تُبيِّن حقه، في هذه الحال كما قلنا إما البينة أو يحلف الخصم، فَنَكَلُ الخصم أن يحلف، والنُّكول بمعنى الامتناع، فلما رفض أن يحلف قَويَ جانب المدّعى، في هذه الحال ماذا نعمل؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يُجبر على الحلف ويُحبس حتى يحلف، اعتماداً على هذا الأصل وهذه القاعدة، وهو أن اليمين على المدّعى عليه، وهذا قول كثير من

أهل العلم. القول الثاني: أنه يقضى بالنُّكول، فبمجرد امتناع المدعى عليه فتقضي بهذا المال للمدعى وتكون هذه هي البينة، وهذا هو قول أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد - رحمهما الله -. القول الثالث: أنه يقضى بالنُّكول مع رد اليمين، فإذا رفض المدّعَى عليه أن يحلف نرد اليمين على المدّعِي، فلا نقول إن الأصل أن اليمين تكون في جانب المدعى عليه، بل في الجانب الأقوى، وهذه الحال قوي جانبك أيها المدعِي فاحلف على دعواك هذه ونسلمك هذا المال. ولقد جاءت قضايا عن الصحابة تؤيد هذا الأصل عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهم أنهم حكموا بمثل هذه القضايا، وبعض القضايا حكموا بمجرد النكول وهذا له حال وهذا له حال، المقصود أنهم جعلوا نكول الخصم وامتناعه عن الحلف بينة إضافة إلى رد اليمين على المدعِي، فلأجل هذا نقول أن البينة ما يبين الحق ويوضحه، فإذا ظهر وبان، فإن هذه هى البينة، سواءً في جانب المدعى أو المدَّعى عليه، فمن قوي جانبه حلف وهذا مثله، وهذا يؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام -:"أنه قضى باليمين والشاهد" (¬1) لم يجعل القضاء بالحق مجرد رجلين، أو رجلاً وامرأتين بل جعله شاهداً ويميناً لأنه قَوِيَ جَانِب طالبِ الحقِّ ومدّعيه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب القضاء والشهادات (5/ 128) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. انظر تخريجه ص: 106.

بشاهده، فنجعل الشهادة إثباتاً، ونضيف إليها اليمين فيقضى له بالحق، وهذا الأصل هو الذي تدل عليه الآثار المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم، بل والأخبار المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، وأن الجواب عن هذا الحديث هو ما سبق الإشارة إليه، وأن أحسن الأجوبة فيه أن هذا في الدعوى المجردة التي لا يسندها شيء، فنقول: إذا كانت مجرد دعوى لا يسندها شيء، ولا يؤيدها شيء فالبينة على المدّعى واليمين على من أنكر، كما في هذه القاعدة التى دلَّ عليها حديث ابن عباس رضي الله عنه. قوله: "في جميع الدعاوى والحقوق وغيرها": الدعاوى: هى طلب استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته. إنسان يدعى أنه يستحق هذا البيت في يد رجل، أو هذا البستان، أو هذه الأرض، أو حقاً من الحقوق، أو أنه يدّعي حقاً في وقف، أو أن له مالاً في ذمة الرجل، هذه هي الدعاوى. وظاهر عبارة المصنف: أن البينة على المدّعى واليمين على من أنكر في جميع الدعاوى والحقوق، وأن كل من ادّعى دعوى فعليه إثبات البينة، أو يحلف من ادعى عليه عند عدم البيّنة. وهذه المسألة فيها خلاف كثير لأهل العلم ليس هذا محل ذكرها، ولكن مجرد إشارة إلى هذه القاعدة نشير إلى شيء يسير يوضح كلام المصنف - رحمه الله - وذلك أن بعض أهل العلم قال: إن في بعض الدعاوى لا يُحلَّف المدَّعَى عليه،

واختلفوا في هذه الأشياء، مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - قالوا: إن كثيراً من الدعاوى لا يُحلّف فيها مثل النكاح والطلاق والإيلاء وذكروا أشياء كثيرة وقالوا: إنه لا يحلَّف فيها، فمن ادّعى نكاح امرأة وأنه تزوجها وأنكرت المرأة لا يقال أنها تحلف، وإذا ادّعت المرأة على زوجها أنه طلقها وأنكر قالوا: لا يمين عليه، وأن اليمين لا تجري في الطلاق والنكاح، وكذلك إذا ادعت المرأة أنه استرجعها وأنكر ذلك، قالوا: لا يدخلها اليمين، أو ادعت أنه آلى منها، وحلف ألاّ يجامعها فإنه لا يحلَّف إذا أنكر، وذكروا أشياء كثيرة نحو تسعة أشياء واختلفوا في بعضها، وبعضهم قال: إنه يحلَّف في مثل هذه الأشياء، وهذا محل خلاف بينهم. المقصود أن بعضهم قال يُحلَّف في جميع الدعاوى والبينات لعموم القاعدة في هذا الباب المستندة لهذا الحديث، وأن كل دعوى ينكرها المدَّعى عليه فعليه اليمين لعموم هذا الحديث. وبعضهم قال لا يحلَّف في هذه الأشياء، فهناك أشياء اتفق على أنه لا يحلَّف فيها، منها أمور العبادات، وهناك أشياء اختلف فيها وهناك أشياء محل اتفاق من أهل العلم في هذه المسألة. وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يُحلّف في جميع الدعاوى والحقوق لعموم هذا الحديث، وذكروا أدلة أخرى عليه، ولا شك أن هذا القول له قوته، وقد فصّله أهل العلم في أبواب الفقه.

المقصود أن هذه القاعدة ملَخّصها أنّ كلّ من ادّعى دعوى فعليه البيِّنة، حتى في العقود والفسوخ.

القاعدة الحادية عشر الأصل بقاء ما كان على ما كان، واليقين لا يزول بالشك

القاعدة الحادية عشر الأصل بقاء ما كان على ما كان، واليقين لا يزول بالشك هذه القاعدة أصل عظيم في أبواب الفقه، وهى من أعظم القواعد عند أهل الفقه، وتدخل في غالب أبواب العلم، أو ثلالة أرباعه، كما قال بعضهم، وأصلها ما في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: شكى إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً" (¬1)، وجاء في معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، وهذا أصل عظيم أن من استيقن شيئاً فإنه لا يزول عن هذا اليقين إلا بيقين مثله، واليقين لا يزيله الشك، بل اليقين لا يزيله إلا اليقين. فمن استيقن الطهارة فالأصل بقاء الطهارة وصحة الطهارة، حتى تزول بيقين الحدث، ومن تيقن طهارة الثوب فهو طاهر حتى يزول اليقين بوقوع النجاسة عليه وعكسه أيضاً، فمن تيقن الحدث فإنه لا يحكم له بالطهارة حتى يتيقن من الطهارة، فمن علم أنه أحدث فالأصل بقاء الحدث. فمن أحدث قبل الصلاة فشك هل هو توضأ أم لا؟ فالحدث قائم حتى يتيقن أن الحدث زال بالطهارة، كما قلت في المثال السابق لو أنه تطهر للصلاة أو غيرها ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: (ز) في المقدمة.

فهو تيقن الطهارة ثم بعد ذلك شك هل أحدث أم لم يحدث؟ نقول الأصل بقاء الطهارة، أو لم يشك حصل عنده غلبة ظن، قال: أنا متيقن للطهارة لكن يغلب علي ظنى أنى محدث، نقول لا يزول اليقين بغلبة الظن، ومسألة غلبة الظن مع اليقين فيها تفصيل - أيضاً -، في بعض الأحيان قد يترك اليقين إذا قوي الظن وضعف اليقين، وقد يقوى الظن ويزداد حتى يضعف الأصل، فإذا ضعف الأصل لم يكن يقيناً، لكن المقصود أنه ما دام يقينه موجوداً بوجود الطهارة أو موجوداً بوجود الحدث، فالأصل بقاءه في طهارة الثوب من النجس أو البقعة أو غيره، فلو أراد أن يصلي في هذه البقعة، وقال يمكن أنه بال عليها إنسان أو حيوان غير مأكول اللحم، وقال: سوف اجتنب هذا المكان، نقول له: بل صلِّ في هذا المكان، ولا تجتنبه بمجرد الشك، فالأصل بقاء طهارة هذه البقعة، وطهارة هذا المكان حتى تتيقن نجاسته إما برؤيتك، أو بإخبار من يُقبَل خبره بأن هذا نجس، المقصود أن هذا الأصل باقٍ واليقين لا يزول بالشك. كذلك لو أن شخصاً أصابه ماء في طريق أو وطئ بقدميه ماءً، فقال: يمكن أن هذا الماء فيه نجاسة، سوف أحكم بنجاسته وسوف أغسل قدمي، نقول له: لا تغسل قدميك؛ لأن الأصل الطهارة، إلا إذا قامت قرينة تدل على ضعف الأصل، مثل أن يكون هذا الماء فيه رائحة نجاسة، أو أن هذا الماء يجري من موضع نجاسة، أو عرف أن هذا المكان تجري معه النجاسات، فهذا الأصل يزول أو يضعف فيُعمَل بالدليل أو القرينة التى دلّت على ضعف هذا الأصل.

المقصود أن هذا أصل عظيم في بقاء ما كان على ما كان، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة ذكرها أهل العلم، ومن أهم فروعها: 1) إذا تعارض الأصل والظاهر فهو قسمان: الأول: إذا كان الظاهر حجة يجب قبولها وجب تقديمه على الأصل. مثال: الأصل براءة الإنسان من الدَّيْن، فلو قال إنسان: أنا أطلب فلاناً شيئًا من المال، نقول: الأصل براءته، وإذا أنكر يحلف، فإذا قال: عندي شاهدان وهذه بيّنة تزيل هذا الأصل، في هذه الحالة هل يُلتَفت إلى الأصل، أو يترك؟، نقول: لا يُلتَفت إليه، فإذا كان الظاهر حجة يجب قبولها فإنه مقدَّم على الأصل بالإجماع، فلا نقول الأصل بقاء ما كان. هذا الأصل الذي استصحبناه زال؛ فنقدم هذه الحجة عليه ونبطله فلا يعتبر؛ لوجود الدليل على ذهاب هذا الأصل الذى استصحبناه. الثاني: إذا لم يكن الظاهر حجة شرعية لا يجب قبولها فإننا في هذه الحال نقدم الأصل تارة، وتارة نقدم الظاهر، وتارة يُخَرّج في ذلك روايتان، مثاله فيما أشرنا إليه قبلُ في تقديم الأصل إذا تعارض الأصل والظاهر، فلو شك إنسان في طهارة ماء، هل هو نجس أم لا؟، الأصل الطهارة، ولا نلتفت إلى هذا الشك وإن كان هذا الماء قد يقع عندنا شك أنه ترده الكلاب، لكن لم نقطع بهذا، إنما عندنا شك فلا نلتفت إلى هذا الظاهر بل نلغيه؛ لأنه ظاهر ضعيف لا يعتمد عليه، فنلتفت إلى الأصل.

ويقدم الظاهر على الأصل، مثاله: إنسان لما فرغ من صلاته حصل عنده شك بعد السلام، هل صلى ثلاثاً أم أربعاً في الظهر؟، وقد يقوى الشك بالقرائن، أنه زاد فيها، نقول: الأصل في هذه الحالة بقاء الصلاة في ذمته، والأصل أن الصلاة لم تصح، أو أنها لم تتم، ولكن الأصل هذا لا يتلفت إليه بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن الظاهر من المصلى أنه أدى الصلاة على الوجه المطلوب، وما دام هذا الشك لم يعرض له إلا بعد الفراغ من الصلاة فلا يلتفت إليه. مثال آخر: إنسان صائم، وعنده قرائن تدل أن دخول وقت المغرب قد حان، فنقول اعمل بهذه الظواهر فأفطر، وإن كان الأصل أن الشمس لم تغرب، ولكن هذا الأصل تركناه لهذا الظاهر الذي قوته هذه القرائن، وإذا تعارض الأصل والظاهر يخرج فيها روايتان كما قال أهل العلم، فمنهم من قال يقدم الأصل، ومنهم من قال يقدم الظاهر. مثال: مثل ما ذكرنا في المثال السابق، المياه الجارية في الشوارع هل هى نجسة أم لا؟، قال بعضهم: أنه يخرّج فيه روايتان، وقال بعضهم: إن الأصل طهارته. ومثال آخر: ثياب وأواني الكفار هل هي نجسة أم طاهرة؟ فبعضهم قال إنها طاهرة؛ لأن الأصل الطهارة، وبعضهم قال: هى نجسة لأن الكافر لا يتورع عن النجاسات في بدنه وثيابه، وبعضهم فَصَّل فقال: يُفرّق بين الثياب التى تلى عوراتهم فيُحكَم بنجاستها لأنه يَقْوَى الظاهر، ويغلب على الظن بنجاستها،

وما لم تلِ عورأتهم فإنها طاهرة، فلذلك نقول إذا علم نجاسته كان نجساً، وإذا علم طهارته كان طاهراً، وإذا شك فإنه لا عبرة بالشك حتى يزول الشك باليقين، هذه تفاصيل قاعدة تعارض الأصل مع الظاهر.

القاعدة الثانية عشر لابد من التراضي في عقود المعاوضات والتبرعات والفسوخ الاختيارية

القاعدة الثانية عشر لابد من التراضي في عقود المعاوضات والتبرعات والفسوخ الاختيارية وهذا الأصل محل إجماع من أهل العلم في جملة أحكامه وأن التراضى لابد منه، وأنه لا تصح العقود والفسوخ إلا إذا كانت عن اختيار، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن تراض" (¬2)، وهذا محل إجماع كما سبق، لكن اختلفوا في بعض مسائله وهو ما يتعلق بالتراضى، فجمهور أهل العلم يقولون لابد من الرضا في جميع العقود، فالمكرَه الذي أكره على عقد من العقود لا يصح، فإن كان الإكراه في عقود مالية فهذا محل اتفاق، فمن أكره على ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 29. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب التجارات، باب: بيع الخيار رقم (2185) من طريق عبد العزيز بن محمد عن داود بن صالح المدني عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. . . ". قال البوصيرى في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه، وللحديث شاهد عند أبي داود (3454) "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار"، والترمذى (3/ 551) في كتاب البيوع رقم (1248) "لا يتفرقن عن بيع إلا عن تراض" وكلاهما عن أبي هريرة، والإمام أحمد في مسنده (2/ 536) من طريق يحيى بن أيوب البجلى الكوفي قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً خيّره قال: ثم يقول: خيرني ويقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفترقنّ اثنان إلا عن تراض" وسنده جيد، ويحيى بن أيوب البجلى لا بأس به كما قال الحافظ في التقريب (7510)، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرة: ضعيف. فالحديث شاهد للحديث الذي قبله. والله أعلم.

1) اللفظ

بيع شيء أو أُكره على إجارة شيء فلا يصح العقد وهو باطل؛ لأنه عن غير تراض، ولا يجوز أخذ المال بغير طيب نفس صاحبه، أو إخراج الحق من غير طيب نفس صاحبه، فهذا عقد يجب إبطاله، هذا ما يتعلق بالعقود المالية وهو محل اتفاق من أهل العلم. أما غير العقود المالية فقد ذهب الجمهور - أيضاً - إلى أنها لا تصح إلا بالتراضى، فمن أجبر على النكاح أو على الطلاق أو على ارتجاع زوجته أو أي مسألة لا يجري فيها المال، وكذلك لو أجبرت المرأة على نكاح رجل، فإنه على الصحيح لا يجوز إجبارها كما هو مذهب جمهور أهل العلم إلا إذا كانت ما صغيرة دون التسع فإنه لا إذن لها، فيجوز لأبيها أن يُنكِحها من هو كفؤٌ لها؛ لأنه لا يجوز له أن ينكحها من ليس كفؤاً لها، أما إذا بلغت التسع فالصحيح أنه لا يجوز إلا بإذنها. والأحناف يقولون في مسألة الطلاق أنه من أكره على طلاق أو رجعة أنه يصح أن يعامل بالظاهر، ولا يلتفت إلى إرادته ولا نيته، لكن الصواب هو قول الجمهور كما سبق، وهذه القاعدة عامة في جميع العقود والفسوخ الاختيارية. مسألة أخرى تتعلق بالرضا، الرضا يعرف بطرق منها: 1) اللفظ: فكيف نعرف رضا البائع والمشتري؟، نعرف رضاهما بالإيجاب والقبول، يقول البائع: بعتك، ويقول المشتري: اشتريت أو نحوها، فلا يُعلم الرضا إلا باللفظ؛ لأن الرضا أمر خفى لا يعلم، وهذا هو أعلى الطرق وأوضحها، واللفظ على الصحيح ليس محصوراً بلفظ معين، فكل ما اتفق عليه

2) الفعل

الناس وعَدُّوه بيعاً يكون بيعاً، فلا يشترط فيه صِيغٌ خاصة في الإيجاب والقبول، وهذا هو ظاهر مذهب جمهور السلف - رحمة الله عليهم - وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وهو مذهب الإمام مالك - رحمه الله - وهو أن العقود تكون بكل ما يدل على التراضى، لأن المقصود هو رضا المتعاقدين، ورضاهما لا ينحصر في شيء معين، وعقود الناس تختلف، فالعربي يكون بلغته، والأعجمى يكون بلغته، فدل على أنه لو كان هناك صيغة معينة لوجب على الأعجمي أن يتعلمها فيكون من باب التعبد، ولا شك في أن العقود ليست من باب التعبد بل هي معقولة المعنى، فإذا تعارف الناس على صيغ معينة صح العقد بها لأن المقصود هو الرضا، فإذا ظهر الرضا تم العقد. 2) الفعل: وهذا يبين ويؤيد ما أشرنا إليه وهو أنه لا يشترط أن يكون بالقول، وعلى هذا يصح البيع بالمعاطاة، وبه نعلم رضا المتبايعين، والمعاطاة هي مجرد فعل، واختلف أهل العلم فيها، ذهب بعضهم إلى أنه لا يصح البيع بالمعاطاة مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي - رحمه الله -، فمن أتى إلى الخبّاز مثلاً وأعطاه ريالًا فأعطاه خبزاً بدون أن يلفظا بالعقد، فقول كثير من أهل العلم أن هذا البيع لا يصح، وقالوا لأن هذا ليس فيه دلالة على الرضا، بل هو مجرد فعل ومعاطاة، هذا هو القول الأول. القول الثاني: أنه يصح إذا كان الفعل من أحدهما والقول من الآخر، مثل لو قال البائع: خذ هذه السلعة بكذا، فأخذها فسلّم المشتري المبلغ.

3) الكتابة

القول الثالث: أنه يصح مطلقًا، وهذا هو الصواب، فيصح بالمعاطاة منهما بدون أن يتلفظا بالعقد. القول الرابع: أن المعاطاة تصح في المحقَّرات، أي في الأشياء التى يكثر فيها التعامل، فقالوا هذه من الأشياء اليسيرة التى تكون دائمًا، فتصح فيها المعاطاة. لكن الصواب كما قلنا إن المعاطاة تصح في جميع العقود، سواء كانت من المحقَّرات أم من الأشياء الكبيرة، لأنه إذا علم الرضا بالقرائن الدالة عليه حصل المقصود من العقد، ولأجل هذا كان الصواب في مسألة النكاح أنه ليس خاصًا بلفظ أنكحتك، ويقول الزوج قبلت أو رضيت، أو ما أشبه ذلك، فبعض الناس قد يقول جوزتك بدل زوجتك، فهم يقولون لا يصح، لابد أن يقول زوجتك، وهذا لا شك أنه قول ضعيف، والصواب أنه يصح بكل لفظ يدل على الرضا، ويقولون أيضًا في مسألة الهبة لا يكفى فيها مجرد التسليم، فلو أن شخصًا أعطى شخصًا كتابًا وعَلِمَ الآخذ أنه يريد أن يهبه إياه، قالوا: لا تصح هذه الهبة ولا زال الكتاب على ملك الواهب، فلو أراد أن يستردّه له ذلك؛ لأن العقد لم يصح ولو أنه ضاع لضمنه؛ لأنه أشبه بالمغصوب فهو أمانة عنده، لكن المقصود كما قلنا أنه يُكتفى فيها بما يدل على الرضا في جميع أنواع القعود. 3) الكتابة: فإذا كتب العقد بيده برضاه فإنه يدل على الرضا. 4) الإشارة: يكتفى بها في حق الأخرس، أما غير الأخرس ففي مسألة

5) السكوت

النكاح لا يُكتفى بالإشارة بل لابد من شيء واضح، لأن الإشارة ليست من الدلالات التى تدل على الرضا، وفي البيع اختلفوا فيها، هل يكتفى بالإشارة أو لا يكتفي بالإشارة؟ محل خلاف 5) السكوت: مثل سكوت المرأة البِكر إذا زُوجت، كما ثبت في الصحيحين: "إذنها سكوتها"، وفي لفظ "إذنها صُماتها" (¬1)، لكن قد يقول قائل: أليس من القواعد الفقهية: "لا يُنسب إلى ساكت قول"، نقول صحيح لا ينسب إلى ساكت قول، لكن السكوت في معرض البيان حجة، فسكوتها في هذه الحال حجة لأنها لو لم ترض لم تسكت، لأننا نطلب منها أن تُبيّن، فإذا سكتت كان حجة كما سبق. المسألة الأخيرة في هذا الباب، وهي أن هناك أشياء لا يشترط رضا الإنسان فيها، وهي العقود التى يجبر عليها، مثل أن يجبر على سداد الدَّين الذي عليه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب النكاح، باب: لا يُنكِحُ الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (9/ 191) مع الفتح، وأخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب النكاح (2/ 1036) كلاهما من حديث أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت". زاد مسلم من حديث ابن عباس: "وإذنها سكوتها" في كتاب النكاح (2/ 1037)، وعند أبى داود في سننه في كتاب النكاح (2/ 758)، باب: في الاستئمار. والنسائى في سننه في كتاب النكاح، باب: استئذان البكر في نفسها (6/ 85): "واليتيمة تُستأمر وصمتها إقرارها".

وهو ملئ، وقد حَلَّ الدَّين، على تفصيل مذكور في كتب الفقه. ومنها أيضًا القسمة إذا كانت قسمة إجبار، مثل أن يكون هناك عقارٌ مشتركٌ بين رجلين، وقسمة الإجبار هي التى لا رد فيها ولا تعديل، مثل أن يقسم هذا البيت أو هذه الأرض يدون أن يكون هناك ضرر على أحدهما، لكن لو كان هناك ضرر فهي قسمة تراضٍ ليست قسمة إجبار، ولا يُجبر على القسمة بل لابد من رضاهما. أما إذا كان فيها تعديل مثل أن تكون الأرض غير مستوية، وبعضها أحسن من بعض، أو بستان، وفي جهة من جهاته بئر، فجعلنا ثلثي البستان من هنا، والثلث الذي فيه البئر من هنا، فجعلنا زيادة الثلث مقابل ما فيها من البئر، فهذه فيها تعديل، فلا يكون هذا إلا بالرضا لأنه قد يرضى وقد لا يرضى أو كان فيه رد، مثل أن تكون هذه الأرض جزءٌ منها يساوي مائة ألف، والجزء الآخر يساوي خمسين ألفًا فيدفع هذا الزيادة لعدم التكافؤ، فهذه أيضًا ليست قسمة إجبار بل هى تراض لأن فيها ردًّا. المقصود أنه إذا كانت قسمة إجبار فإنه لا يشترط رضاه في العقد بل يجبر على

القاعدة الثالثة عشر الإتلاف يستوي فيه المتعمد والجاهل والناسي

القاعدة الثالثة عشر الإتلاف يستوي فيه المتعمد والجاهل والناسي وهذا شامل لإتلاف النفوس المحترمة والأموال والحقوق، فمن أتلف شيئًا من ذلك من غير حق فهو مضمون سواء كان متعمداً أو جاهلًا أو ناسيًا. الإتلاف: هو التعدي على مال الغير بمباشرة أو تسبب، وقد يكون خطأ، وقد يكون عمداً. وهذا يكون بفعل الإنسان بخلاف التلف فإنه أعم كما سيأتي في القاعدة التى بعدها، فإن التلف قد يكون بفعل المكلف أي يفعله مباشرة، ويكون بفعل الله سبحانه وتعالى كآفة سماوية، والأصل في حكم الإتلاف التحريم وأنه لا يجوز إتلاف النفوس المحرّمة مسلمًا كان أم كافراً بخلاف الحربي، وهذا هو القسم الأول من أنواع الإتلاف. القسم الثاني: الأموال المحترمة، فإنها أيضاً لا يجوز إتلافها، ولكن حرمة دم المسلم وماله أعظم إلا ما أذن به الشارع، وقد يكون واجباً كإتلاف الخنزير، وكذلك العقوبة المالية، لكن ليست واجبة بل هي حسب المصلحة، ثم هو إتلاف مستحب وهو على الصحيح لم ينسخ خلافاً لقول الجمهور أن العقوبة المالية منسوخة، فمن تجاوز بعض الحدود الشرعية يجوز عقابه بإتلاف شيء من ماله،

والأدلة على ذلك كثيرة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهي نحو خمسة عشر دليلاً منها: ما جاء في حديث بهز بن حكيم: "إنَّا آخذوها وشطر ماله" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 4)، وأبو داود في سننه في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة (2/ 233 - 234)، والنسائى في كتاب الزكاة، باب: عقوبة مانع الزكاة (5/ 15 و 25) كلهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضى الله عنه. . . به فذكره". والحديث قال عنه الحافظ ابن عبد الهادى في تنقيح التحقيق (2/ 1491): "هذا حديث حسن بل صحيح"، ورواه الحاكم في مستدركه (1/ 397) وقال عنه: "هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وهذه السلسلة وهى سلسلة بهز بن حكيم ابن حكيم عن أبيه عن جده سلسلة حسنة، وقد اختلفت أقاويل الحفاظ من أهل الحديث فيها: فوثق بهزاً علي بن المدينى ويحيى بن معين والنسائى، واحتج بحديثه أحمد وإسحاق، وقال عنه ابن عدى: لم أرَ له حديثاً منكراً، ولم أرَ أحداً من الثقات يختلف في الرواية عنه. وقال الترمذى: وقد تكلم شعبة في بهز وهو ثقة عند أهل الحديث، ووثقه أبو داود وقال: هو حجة عندي. وممن تكلم فيه شعبة وأبو حاتم قال عنه: يُكتب حديثه ولا يُحتج به، وقال ايضًا: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أحب إليّ. وقال عنه ابن حبان: كان يخطئ كثيراً، فأما أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم رحمهما الله فهما يحتجان به ويرويان عنه، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث: "إنما آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا" لأدخلناه في الثقات وهو ممَّن استخير الله فيه. وقد تعقّب الحافظ ابن عبد الهادى ابن حبان فقال في التنقيح (2/ 1493): "كذا قال ابن حبان، وفي قوله نظر، وقد وثَّق بهزاً أكثر العلماء كيحيى بن معين وابن المدينى والترمذي والنسائى وأبى داود وابن الجارود وغيرهم". وقد ذكر هذا الحديث عند الإمام أحمد فقال: "ما أدري ما وجهه"، وسئل عن إسناده فقال: هو عندي صالح الإسناد". والحديث أيضًا صحّحه الحافظ ابن عبد الهادي في التنقيح وفي المحرر أيضاً حين تعقب ابن حبان على قوله=

ومنها - أيضًا - ما جاء في حديث عمر - رضى الله عنه - في إحراقه بيت رويشد الثقفى الذى كان يبيع فيه الخمر (¬1)، وما جاء عنه أيضًا - رضى الله عنه - أنه أمر بإحراق قصر الإمارة بالكوفة لسعد بن أبى وقاص (¬2)، وكذلك إحراق موسى ¬

_ = في بهز وقال: وفي قوله نظر، بل هذا الحديث صحيح" انظر التنقيح (2/ 1419) والمحرر (1/ 568) وقال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق". وانظر في الكلام على سلسلة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: الميزان للذهبي 1/ 353 - 354، والتهذيب للحافظ ابن حجر (1/ 498 - 499)، تهذيب الكمال للمزي (1/ 161)، وممن حسن هذه السلسلة الذهبى في كتابه "المغنى في الضعفاء" (1/ 1007) حيث قال عنه: "صدوق فيه لين وحديثه حسن". والله أعلم. (¬1) أثر عمر رضى الله عنه في إحراقه بيت رويشد الثقفى الذى كان يبيع الخمر: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9/ 230) من عدة طرق: الطريق الأول: من حديث أيوب عن نافع عن صفية ابنة أبي عبيد قالت: وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيت رويشد الثقفى خمراً وقد كان جُلد في الخمر فحرَّق بيته وقال: ما اسمه؟ قال: "رويشد". قال: "بل فويسق". . وإسناده صحيح. الطريق الثاني: وأخرجه أيضاً من طريق معمر عن أيوب عن نافع عن صفية مثله. . ". الطريق الثالث: وأخرجه أيضاً من طريق عبد القدوس عن نافع قال: "وجد رضى الله عنه في بيت رويشد الثقفى خمراً فحرق بيته، وقال: ما اسمك؟. قال: رويشد. قال: بل أنت فويسق. وقد ذكر هذا الأثر العلامة ابن القيم رحمه الله وعزاه إلى الإمام مالك حيث قال: "قال الإمام مالك: وحدثنى الليث أن عمر بن الخطاب. . . ثمَّ ذكره" كما في كتابه الطرق الحكمية (274)، وقد بحثت عنه في الموطأ فلم أجده فيه. والله أعلم. (¬2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 179) من طريق سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد عن أبيه عن عباية بن رفاعة بن رافع قال: "بلغ عمر بن الخطاب أن سعداً اتخذ قصراً وجعل عليه باباً وقال: "انقطع الصويت" فأرسل عمر محمد بن مسلمة وكان عمر إذا أحبّ أن يُوتى الأمر كما يريد بعثه فقال: إيت سعداً فأحرق عليه بابه، فقدم الكوفة، فلما أتى الباب أخرج زندهُ فاستورى ناراً ثم أحرق الباب، فأتى سعد=

- عليه الصلاة والسلام - لعجل السامري، إلى غير ذلك، المقصود أنه غير منسوخ بل هو مشروع. وكذلك إتلاف الخمر وآلات الملاهى عند جماهير أهل العلم وهو أنه يشرع إتلافها ويجب في بعض الأحيان، والصواب أن الخمر ليس فيها شيء محترم. ثالثاً: مما يتعلق بالإتلاف إتلاف في حال المخمصة: مثل إنسان حصلت له مخمصة وجوع شديد، ووجد مال مسلم ولم يستأذن صاحبه لأنه غير موجود، فإنه في هذه الحال له أن يأكل من هذا المال ولا يشترط إذنه، فله إتلافه بالأكل لأنها ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، فيجوز له أكله، ويجب عليه البدل وقيمة ما أتلف إن كان قيماً أو متَقَوَّماً، أو مثله إن كان مثلياً على قول الأئمة الأربعة، وفي قول المالكية أنه لا يجب عليه ضمانه بل أن يأكل؛ لأن الأكل واجب في هذه الحال لدفع الأذى والقاعدة: أنه لا يؤخذ للواجب أجرٌ. رابعاً: إتلاف مال العدو إذا غزا المسلمون الكفار فغنموا منهم أموالاً منقولة أو غير منقولة، ثم لم يستطيعوا نقلها إلى بلاد المسلمين لكثرتها أو خشية أن يلحق بهم العدو، فيجوز في هذه الحال أن يتلف المال أو يحرق حتى لا ينتفع به العدو فيتقوى به على المسلمين، فيجوز إتلافه بل قد يجب إذا علم أنهم يتقوون به على المسلمين ¬

_ = فأخبر ووصف له صفته فعرفه فخرج إليه سعد فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين أنك قلت: انقطع الصويت. فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد بن سلمة: "نفعل الذى أمرنا، ونؤدى عنك ما تقول".

ويعيدون الكَرَّة عليهم، فلو كان فيها شئٌ من المواشى جاز ذبحها ثم بعد ذلك إحراقها حتى لا ينتفعوا بأكلها، وإن كانت أموالاً غير ذلك مما لا روح فيه جاز تحريقه مباشرة، المقصود أنه يشرع إتلافها إذا لم يمكن نقلها. خامساً: الإتلاف قد يكون مباشرة، وقد يكون بالتسبب، الإتلاف بالمباشرة كالإحراق، فإذا أتلف مال غيره أي أحرقه، فلو أحرق ماله، أو أحرق بستانه، أو أحرق ملابسه وما أشبه ذلك، أو بالقتل، فلو قتل بهيمة له أو اعتدى على معصوم فقتله فهذا كله إتلاف بالمباشرة. وهناك نوع آخر من الإتلاف وهو الإتلاف بالتسبب، مثل أن يسلط سَبُعاً على بهيمة فيقتلها، أو يسلط على صبى سبعاً فيقتله، فإنه في هذه الحالة يكون قاتلاً بالتسبب لا بالمباشرة، ومثل ما لو حفر بئراً في طرق المسلمين فسقط فيها إنسان فإنه يكون ضامناً وعليه الدية لأنه قتل بالتسبب، ومثل ما لو كان له ماشية ففتح الباب فخرجت ثم هلكت وضلت ولم توجد فإنه ضامن، لأنه معتاد أنها لا تخرج، أو ما أشبه ذلك مما يكون فيه إتلاف بالتسبب، فهذا كله محل للضمان، لكن إذا اجتمعت المباشرة والسبب قُدِّمت المباشرة على السبب، مثل ما لو أن إنساناً حفر بئراً ومر به إنسان فدفعه آخر فيها فإنه يقدَّم المباشر على المتسبب. سادساً: الضمان في باب الإتلاف له شروط: 1 - أن يكون المتلَف مالاً: فلو أتلف ميتة أو دماً فلا ضمان عليه، فإذا كان لإنسان شاة ميتة، فأحرقها أو رمى بها في مكان فأتلفها فإنه لا ضمان فيها؛ لأنها

ليست مالاً، ولا قيمة لها في الشرع، أو أتلف خمراً فإنه لا ضمان فيه لأنه لا قيمة له. 2 - أن يكون متقوماً: أي يكون له قيمة في نظر الشرع؛ فلا يضمن الخمر والخنزير لأنه وإن كان متقوماً فهو مال وله قيمة عند بعض الناس، وقد يباع ويشترى فهو فيه نوع من المالية، لكن هذه المالية مهدرة في الشرع، ولا قيمة لها فلا يُلتفت إليها فلا يضمن. 3 - أن يكون المُتْلِفُ من أهل الوجوب: فلا ضمان على بهيمة فلو أن بهيمة لإنسان أتلفت مال إنسان، مثلاً أتلفت زرعه لا ضمان على البهيمة، ولا ضمان على صاحبها لأننا إذا قلنا لا ضمان على البهيمة فلا ضمان على صاحبها إلا أن يكون مفرِّطاً أو يكون معها، على تفصيل من إتلاف البهيمة، لكن الأصل كما قلنا أنه لا ضمان على البهيمة. 4 - أن يكون في الضمان، فائدة: وهو أن يكون المتلف تحت ولاية المسلمين وتحت حكمهم فلا ضمان على الحربي، ولا على الباغي إذا أتلف، فلو أن المسلمين قاتلوا الكفار فأتلفوا على المسلمين بعض النفوس وقتلوا منهم من قتلوا أو أفسدوا بعض الأموال، فلو استولى المسلمون على بلادهم وأسلموا فإنهم لا يضمنون بإجماع أهل العلم لأنهم في حال القتال لا ولاية عليهم، ثم إن هذا من محاسن الشرع أنه لا يضمن أهل الحرب ترغيباً لهم في الإسلام. كذلك الباغى، فلو أن فئة باغية أو معتدية وقاتلهم المسلمون فلا يُضمَنُ أهل

البغى، أي لو أنهم قتلوا بعض النفوس أو اعتدوا على بعض الأموال فأتلفوها فلا ضمان على البغاة؛ لأنهم ليسوا تحت ولاية المسلمين، وكذلك لا يضمن المبغي عليهم، وكذلك أيضًا في حال الحرب مع المسلمين لا يضمن أحد الطرفين الآخر أي مال وأي نفس، هذه جملة الأحكام المتعلقة بالإتلاف. وأشار المصنف - رحمه الله - إلى أنه يستوي فيه الجاهل والناسى، أي لا فرق في الإتلاف بين الناسى والجاهل، فلو أن إنساناً أتلف مال إنسان يظنه ماله، أو أتلف ما يظنه مالاً إنسان حربى، أو قتل إنساناً يظنه حربياً، فإنه في هذه الحال يضمن وعليه الدية لأنه في حكم قتل الخطأ، وكذلك الناسى، ولأجل هذا يضمن الصبي والمجنون من مالهما، أي لا يشترط فيه التكليف، فلو أن مجنوناً أتلف نفساً أو صبياً أتلف مال إنسان، فإنه يضمنه من ماله وعمده يكون من باب الخطأ، أي لا حكم لعمده، هذا هو الأصل في هذا. في باب الحج لو أن إنسانًا قص أظافره ناسياً أو قطع من شعره ناسياً، أو جاهلاً للحكم، جمهور الفقهاء يقولون عليه فدية الأذى لقوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1)، وفسَّرها في حديث كعب بن عجرة، فالصيام ثلاثة أيام، والطعام إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك ذبح شاة فهو مُخَيّرٌ بين هذه الثلاثة (¬2)، والجمهور على أن هذا إتلاف يستوي فيه الناسي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 196. (¬2) حديث تفسير قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب=

والجاهل، فعليه فدية الأذى، وهذا هو قول الأئمة الأربعة. والقول الثاني: أن هذا الإتلاف لا حكم له، واختاره العلامة ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين وهو أحد القولين لأهل العلم في هذه المسألة، وهذا أقرب للصواب لأن هذا ليس من الإتلاف لأن الإتلاف من شرطه أن يكون مالاً، وأن يكون ذا قيمة، وهذا الإتلاف في قص الأظافر لا قيمة له، وليس له مالية فيقوّم، كذلك قص الشعر فالصحيح أنه لا فدية عليه إذا كان ناسياً، أو جاهلاً للحكم. كذلك ذهب الجمهور إلى أن قتل الصيد يجب فيه الجزاء لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1)، فقالوا إنه يضمنه سواء كان متعمداً أم مخطئاً، ولهم في ذكر التعمد في الآية عدة تأويلات، وأن هذا لا مفهوم له إلى غير ذلك، هذا هو القول الأول. القول الثاني: أن من كان مخطئاً فلا ضمان عليه لظاهر الآية، وهذا أصح، وقد صحّ عن عمر - رضى الله عنه - بسند لا بأس به كما ذكره ابن جرير ¬

_ = المحصَر، باب الإطعام في الفدية نصف صاع (4/ 16) مع الفتح، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج (2/ 861) كلاهما من حديث عبد الله بن معقل بن يسار قال: جلست إلى كعب بن عُجرة فسألته عن الفدية؛ قال: "نزلت فيَّ خاصة وهى لكم عامة، حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهى، فقال: "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، تجدُ شاة؟ " فقلت: لا، قال: "فصُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع". وهذا لفظ البخارى. (¬1) سورة المائدة، الآية: 95.

الطبري، وأنه وافقه بعض الصحابة - رضي الله عنهم - (¬1). ¬

_ (¬1) أثر عمر رضى الله عنه في قتل الصيد وهو محرم أنه لا ضمان عليه: 1 - وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 396) من طريق قتادة عن أبى حزينة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: "ليس عليه في الخطأ شيء". وجاء هذا الحكم أيضاً عن بعض التابعين كطاووس، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه (4/ 392) من طريق معمر عن أيوب عن طاووس قال: "يُحكَم عليه في العمد، وليس عليه في الخطأ شيء". قال: والله ما قال الله إلا: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}. وجاء أيضاً هذا عن سالم والقاسم بن محمد وعطاء ومجاهد ذكر ذلك عنهم ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 396). 2 - وجاء عن عمر رضى الله عنه خلاف هذا الحكم حيث أوجب الجزاء في قتل الصيد في حال العمد والخطأ سواء. كما أخرج ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 396) من طريق سفيان الثوري وإبراهيم بن طهمان عن جابر عن الحكم أن عمر رضى الله عنه كتب إليه في الخطأ والعمد. وأيضاً أخرج عنه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 393) من طريق الثورى عن جابر عن الحكم أن عمر رضى الله عنه "قضى في الخطأ". والله أعلم.

القاعدة الرابعة عشر التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد أو يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقا أو يقال ما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون، والعكس بالعكس

القاعدة الرابعة عشر التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد أو يفرّط، وفي يد الظالم مضمون مطلقاً أو يقال ما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون، والعكس بالعكس التلف أعم من الإتلاف، فكل إتلاف تلف، وليس كل تلف إتلافاً، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فالتلف يكون بفعل الإنسان مباشرة، ويكون بفعل الله سبحانه وتعالى كآفة سماوية من مطر وغيره، ويتعلق بهذه القاعدة عدة مسائل: المسألة الأولى: عقود الأمانات كثيرة منها الوكالة، والشركة وعقود المضاربات، والوديعة والرهن، والأمانات المقبوضة على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما قبضه لمصلحة نفسه، كالعارية، مثل إنسان يستعير من إنسان سيارة أو كتابًا، فهذا قبض لمصلحة المستعير أما المعير فهو محسن في إعارته. النوع الثاني: ما قبضه لمصلحة مالكه، كالوديعة، مثل أن يكون لإنسان مالٌ فيعطيه إنساناً آخر لكى يحفظه له كالوديعة، فهذا قبض في مصلحة المودِع، أما المودَع فهو محسن في حفظه للأمانة. النوع الثالث: ما قبضه لمصلحتهما جميعاً، لمصلحة المعطى ولمصلحة الآخذ كالرهن، مثلاً إنسان اشترى من إنسان بيتاً وبقى شيء من المال أو لم يسلّمه شيئاً من المال فقال: أريد رهنًا، فأعطاه سيارة أو أرضاً أو بيتاً أو ما أشبه ذلك، فهذا

المسألة الثانية

قبض لمصلحتهما جميعاً، فكل منهما منتفع، الراهن انتفع بإعطاء الرهن ليتمكن من قبض المبيع، والمرتهِن انتفع من جهة أنه يريد حفظ ماله الباقي حتى يتمكن من استيفائه. المسألة الثانية: هل يقبل قول الأمين في الرد والتلف أو لا يقبل؛. هو منقسم حسب التقسيمات الثلاث في الأمناء التى ذكرنا قبل: النوع الأول: وهى الأمانات من قبض الشيء لمصلحة المعطي، وهذا هو أعلى الأمانات، لأن هذا ليس فيه مصلحة إلا التبرع بإمساكها والإحسان في قبضها، فهى أمانة محضة لا يشوبها شيء، وهى قبضه الشيء لمصلحة مالكه، وهي الوديعة، فإذا وضع إنسان عند آخر وديعة يحفظها، فهذا قوله مقبول في الرد والتلف، ومعنى الرد أي لو أن صاحب الوديعة طلبها فقال المودَع إننى أرجعتها إليك فإن قوله مقبول في الرد بيمينه. والقاعدة: أن كل من قيل إن قوله مقبول أي بيمينه، فيحلف أنه أرجعها ولا يحتاج أن نقول ائت ببيّنة، وكذلك لو قال إنها تلفت فإن قوله مقبول، هذا هو الأصل في الأمناء، إلا أن يتعدى وهذا واضح، فلو أودع عنده مثلاً بهيمة فضربها حتى هلكت، أو لم يحفظها في مكان آمن فإنه في هذه الحال يخرج عن الأمانة لأنه متعدٍ. النوع الثاني: من قبض الشيء لمصلحتهما، فهذا في الدرجة الثانية، كعقود الشركات والرهن والمضاربات، فهذا - أيضاً - على الصحيح أن قوله مقبول؛

المسألة الثالثة

لأنه أمين في الجملة وهذا هو المذهب، وهو قول كثير من أهل العلم، ما لم يتعدَّ كالنوع الأول. النوع الثالث: المستعير، المذهب أنه ضامن مطلقاً، ولو تلفت بغير تعدٍّ منه، فلو استعار كتاباً فتلف هذا الكتاب أو ضاع، أو تمزق في غير ما استعمل له، أما لو تمزق بسبب استعماله، ومثله قد يحصل له التمزق فهذا لا يُعتبر تعدّ، مثله أيضاً لو استعار سيارة فتلفت العجلات بسبب الاستعمال فإنه لا يضمنه؛ لأن الإذن في الشيء إذنٌ لما تولَّد عنه، وهو ما أشار إليه المصنف - رحمه الله - في قوله "ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون" في المذهب كما قلنا إنه يضمن مطلقاً، هذا هو القول الأول. والقول الثاني: وهو الصحيح أنها لا تُضمن. المسألة الثالثة: وهى الضمان مع التفريط من عدمه، فإذا فرّط الأمين فإنه يخرج عن الأمانة في هذه الحال فلا يكون أميناً فيكون ضامناً ويجب عليه الرد، وهذا سبقت الإشارة إليه. المسألة الرابعة: الظالم ضمامن في كل حال، ويشمل الغاصب والخائن، والذي طُلِب منه إرجاع المال فأبى أن يرجعه فإنه يكون ظالماً وضامنًا، ومسألة الضمان لها تفاصيل كثيرة يذكرونها في باب الغصب. المسألة الخامسة: عقود الأمانات وهي الأنواع الثلاثة هل تنفسخ بالتعدي أم لا تنفسخ؟.

مثل: إنسان استؤمن فأعطي مالاً أمانة، فتعدى عليه بأن فرّط في حفظه أو أستؤمن على سيارة لكى يحفظها فصار يستخدمها، هذا إذا استعمله بدون إذنه يكون خائنًا ولا يجوز له ذلك، لكن في هذه الحالة هل تنفسخ الأمانة بالتعدي فيها أو لا تنفسخ؟. هذا فيه تفصيل: إن كانت أمانة محضة فإنها تنفسخ كالوديعة، فهذه إذا تعدى فيها انفسخت، ويُعتبر خائناً، ويجب عليه الرد ولا يُمسكها إلا بإذن جديد، أي إنه يخبره بالوضع فإذا أذن له فإنه يكون عقداً جديداً فيكون أميناً. أما استدامة قبضها فلا يجوز، إذن إذا كانت أمانة محضة لحفظ الشيء فهذه تنفسخ بالتعدي، ويجب إرجاعها، ثم بعد ذلك لصاحبها الحق في إبقائها عنده فيكون عقدًا جديداً، هذا هو النوع الأول من أنواع الأمانات. النوع الثاني: أن تكون أمانة مشوبة ليست أمانة محضة، كالوكالة، مثل: إنسان وكيل لإنسان، فوكله على بيع عقاره أو بيع سيارته، فهذه أمانة وفيها إذن بالتصرف فتجمع أمرين: 1 - استئمانه. 2 - الإذن في التصرف. فهذه لا تنفسخ لأنه إذا بطل أحد الأمرين لا يبطل الآخر، يبطل كونه أميناً، ويبقى الإذن في التصرف فيجوز له التصرف لكن يكون ضامناً لو تلفت أو حصل فساد أو خراب في الشيء الذي أمر ببيعه، مثل أن يكون جهازاً أو آلة فإنه يكون ضامناً له ويجوز له أن يتصرف فيه بالشيء الذي أمر به بعد ضمانه ما أتلف منه،

المسألة السادسة

وسبق إن قلنا أن الوكيل والشريك ليسا ضامنين، مثل أن يكون شريكاً لآخر، فتعدّى أحدهما في مال الشركة فصار يأخذ منه بغير إذن صاحبه؛ فإنه في هذه الحال يخرج عن الأمانة، ولو تلف شيء من المال فإنه يكون ضامناً له، أما إذا باع سيارة الشركة أو باع شيئاً يملكونه في الشركة فإن البيع صحيح؛ لأننا نقول إنها لا تنفسخ الشركة، ولو قلنا إنها تنفسخ بالتعدّي لصار العقد باطلاً ولا يصح في نصيب صاحبه، لكن كما قلنا إنها لا تنفسخ لأنها تجمع إذناً بالتصرف والأمانة، فإذا بطل أحدهما لا بطل الآخر. المسألة السادسة: هل يضمن الأمين بالشرط أولا يضمن؟: إن كانت أمانة محضة فلا يضمن، شرط الضمان في الأمانة المحضة لا يصح، فلو أن إنسانًا استأمن إنساناً، وأعطاه مالاً وديعة وقال له بشرط أن تضمنه فلو ضاع أو تلف بغير تفريط، لا يضمن لأنها مبنية على عدم الضمان مطلقاً، أما إذا كانت ليست أمانة محضة كالعين المعارة فهذه تضمن مطلقاً على المذهب. وقيل: تضمن مع الشرط، وهذا أصح الأقوال، فلو أعاره سيارة مثلاً قال: بشرط أن تضمنها سواء تعديت أم لم تتعد، نقول: هذا الشرط صحيح، والمسلمون على شروطهم؛ لأن المُعير قد يريد نفع صاحبه بالإعارة ويخشى على العين المعارة، فله أن يشترط ضمانها، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - ليعلى بن أمية أنه قال: "عارية مضمونة أم عارية مؤداة؟ " قال: "بل

عارية مؤداة" (¬1)، وقال صفوان بن أمية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتغصبها غصباً؟. قال - عليه الصلاة والسلام -: "بل عارية مضمونة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 222)، وأبو داود في سننه في كتاب البيوع، باب: في تضمين العارية (3566)، والنسائى في سننه في الكبرى كما عزاه المزى له فى تحفة الأشراف (9/ 116) كلهم من طريق همام عن قتادة عن عطاء بن أبى رباح عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عنه به ولفظه مرفوعاً: "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً وثلاثين مغفراً" قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ قال: "بل عارية مؤداة"، وهذا لفظ أبى داود وإسناده صحيح. وللحديث شاهد من حديث أبى أمامة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم" أخرجه الإمام أحمد في منسده (26715) والسياق له. وأبو داود في كتاب البيوع (3565) كلاهما من طريق إسماعيل بن عياش حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولانى قال: سمعت أبا أمامة الباهلى رضى الله عنه يقول: "فذكره". قال ابن عدي في الكامل (2/ 9): "إسماعيل بن عياش حديثه عن الشاميين إذا روى عنه ثقة، فهو مستقيم الحديث، وفي الجملة هو ممن يُكتب حديثه ويُحتج به في حديث الشاميين خاصة". اهـ. وهذا من حديثه عنهم فإن شرحبيل بن مسلم شامى، وشرحبيل هذا قال عنه الإمام أحمد: من ثقات الشاميين. فالحديث يكون شاهداً لما قبله ومؤيداً له، ولذا قال الحافظ في التلخيص: "وفيه إسماعيل بن عياش، رواه عن شامى وهو شرحبيل بن مسلم سمع أبا أمامة". (¬2) أخرجه أبو داود فى سننه في كتاب البيوع (3562)، والحاكم في المستدرك (2/ 47)، والإمام أحمد في مسنده (3/ 401) كلهم من طريق شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه "صفوان" رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه أذراعاً يوم حنين فقال: أغصبٌ يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارية مضمونة. . "، والحديث فيه ضعف لعلتين:=

والذين قالوا إنها تُضمن مطلقاً احتجوا بحديث الحسن عن سمرة الذي رواه الأربعة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬1). ¬

_ = 1) جهالة أمية بن صفوان فلم يُوثَّق توثيقاً معتبراً ولذا قال عنه الحافظ في "التقريب": مقبول. 2) ضعف شريك بن عبد الله القاضى، فإنه سيئ الحفظ جداً، ولذا قال عنه ابن معين: شريك صدوق ثقة إلا أنه إذا خالف فغيرُه أحب إلينا منه، وقال يعقوب بن شيبة السدوسى: صدوق ثقة سيئ الحفظ جداً، وقال الجوزجانى: شريك سيئ الحفظ، مضطرب الحديث مائل، وساق له ابن عدي في ترجمته في الكامل بعض الأحاديث التى استنكرت عليه ثم قال: والغالب على حديثه الصحة والاستواء والذى يقع في حديثه من النكرة إنما أتى به من سوء حفظه لا أنه يتعمد شيئاً مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف. وللحديث شاهد آخر عند الحاكم في مستدركه (3/ 48 - 49) من طريق محمد بن إسحاق حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه رضى الله عنه به فذكره. قال الحاكم عقب سياقه: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبى على ذلك، والحديث حسن لأجل ابن إسحاق لأنه صدوق. وله شاهد آخر أيضاً عند البيهقى في السنن الكبرى (6/ 89 - 90) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه: "أن صفوان - بن أمية أعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاحاً. . . الحديث. وقال البيهقى بعد ما ذكره: وبعض هذه الأخبار وإن كان مرسلها فإنه يقوى بشاهده مع ما تقدَّم من الموصول. فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق الثلاث. والله أعلم. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 8) في مسند سمرة بن جندب رضى الله عنه وأبو داود في سننه في كتاب البيوع (3/ 822)، باب: في تضمين العارية، والنسائى في سننه الكبرى (4584) كما عزاه له المزي في تحفة الأشراف (4/ 66)، وابن ماجه في كتاب الصدقات، باب العارية (2/ 2400)، والترمذى في سننه في كتاب البيوع (2/ 368 - 369)، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة. كلهم من طريق الحسن عن سمرة رضى الله عنه به فذكره. قال الترمذى بعد سياقه: "هذا حديث حسن صحيح".

وهذا محل بحث، ولا نريد الإطالة بذكره، لكن الصواب كما قلنا إنها تضمن بالشرط، ولهذا لم يضمنها لأبى يعلى لحُسن إسلامه ولتمكن الإسلام من قلبه، وضمنها - عليه الصلاة والسلام - لصفوان بن أمية لأنه لتوّه أسلم، فدل على أنها تضمن بالشرط. ¬

_ = وقال الحاكم في المستدرك (4712): "صحيح الإسناد على شرط البخارى"، وأعلَّه الحافظ في التلخيص الحبير (5313) بقوله: "فالحسن مختلف في سماعه من سمرة". قال الألبانى في الإرواء معقبًا على كلام الحاكم في المستدرك 34915): "وأقول: هو صحيح وعلى شرط البخارى لو أن الحسن صرح بالتحديث عن سمرة، فقد أخرج البخارى عنه به حديث العقيقة أما وهو لم يصرح به بل عنعنعه وهو مذكور في المدلسين، فليس الحديث إذن بصحيح الإسناد، وقد جرت عادة المحدثين إعلال هذا الإسناد بقولهم: "والحسن مختلف في سماعه من سمرة". كما أعلّه الحافظ في التلخيص بذلك (3/ 53)، وقد ضعفه الشيخ بناء على هذه العلة. والحقُّ أن الحسن سمع من سمرة جملة من الأحاديث غير حديث العقيقة، ومذهب على بن المديني والبخارى والترمذي أنه سمع منه مطلقاً، وخلاصة القول في الحديث: أنه متوقف على ثبوت سماع الحسن، من سمرة بن جندب رضى الله عنه.

القاعدة الخامسة عشر لا ضرر ولا ضرار

القاعدة الخامسة عشر لا ضرر ولا ضرار هذه القاعدة نص حديث عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)، وهذا الحديث بمجموع طرقه صحيح، أو صحيح لغيره لأنه رواه ابن ماجه، ورواه الدارقطني، وله طرق عن ابن عباس، وعن عبادة بن الصامت، وغيرهما، وجاء أيضًا من طرق مرسلة، ويشهد له عدة أدلة من القرآن منها قوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (¬2)، وقال تعالى: {وَلاَ يُضَار كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (¬3). فهذه القاعدة محل إجماع في الجملة، لكن في تفاصيلها خلاف، ولها فروع كثيرة منها ما سبق لنا: أن الضرورات تبيح المحظورات، وزاد بعض أهل العلم: بشرط عدم نقصانها، أي أن تكون الضرورة أشد مما أراد أن يستبيحه، ولأجل هذا لما كان أكل الميتة أيسر وأسهل من هلاك النفس جاز الأكل من الميتة، ولما كان العلاج بالخمر أو بالدواء الخبيث ضرره أشد لم يجز العلاج به لأنها ضرورة؛ من أجل أن ضرره أشد مما يستباح له الخمر. كذلك لا يجوز أن يقدِم على قتل إنسان أُمر بقتله لأجل استبقاء نفسه؛ لأن ما ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في المقدمة، ص: 13. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 6. (¬3) سورة البقرة، الآية: 282.

قدم عليه أشد مما أُجبر عليه، فلا يقتل نفسًا معصومة لأجل أن يستبقي نفسه. كذلك من فروعها أن ما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، فالذي يضطر للميتة فإنه يل بقدر ما يقيم النفس، وهذا محل تفصيل، فإذا كانت الضرورة دائمة فالصواب أنه يجوز الشبع لما روى أبو داود من حديث جابر بن سمرة أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل إن ناقة لي ضلّت فإن وجدتَها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى فنَفَقَت، فقالت: اسلخها حتى نقَدِّد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنى يغنيك؟ " قال: لا، قال: "فكُلُوها"، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك (¬1). وجاء أيضاً عند أبى داود من حديث عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبى يحدث عن الفُجَيع العامري أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحل لنا من الميتة، قال: "ما طعامكم؟ " قال: نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم: فسَّره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشيةٌ: قال ذلك وأبي الجوع فأحل لهم الميتة على هذه الحال (¬2)، أما إذا كانت عارضة وهي قريبة الزوال فإنه يأكل بقدر ما يسد جوعه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب: في المضطر إلى الميتة (3/ 358)، والحديث سكت عنه المنذرى، وقال العلامة الشوكانى: وليس في إسناده مطعن. (¬2) رواه أبو داود (3/ 358) قال المنذرى في إسناده عقبة بن وهب، قال ابن معين: صالح، =

ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، ويدل عليها ما ذكرنا في المثال السابق من الاعتداء على غيره لأجل استبقاء نفسه. ومنها: إذا تعارضت مفسدتان روعى أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، وهذا أشرنا إليه، لأنه نوع ضرورة، فإذا كان هناك مفسدتان فإنه يرتكب أخفهما في دفع أعظمهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. والحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أم خاصة، وذكروا لهذه من الأمثلة في مسألة السَّلَمِ ومسألة الإجارة، فقالوا إن هذه حاجات تنزل منزلة الضرورة، وقالوا: إن هذه في القياس عقد على معدوم، وهذا ردّه شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله - وقالوا: إن هذا ليس بصحيح، بل إن السَّلَمَ عقد على شيء في الذمة، وليس عقدًا على معدوم، لكن هذا جار في بعض أنواع البيوع، فيجوز بيع البيت مع الجهالة في بعض الأشياء مثل الأساسات والحيطان، وكذلك نشتري أنواعًا من الفرو والملابس ولا يرى داخلها فعفي عن المجهول التابع والجهالة يسيرة؛ لأنها محل حاجات لأن هذا يحتاجه العامة والخاصة، قالوا مثل لو أن عنده إناء فانكسر فاحتاج إلى جبره بشيء من الفضة مع أنه يجد شيئاً من النحاس، فإنه يجوز أن يلحم بالفضة وإن كان يجد غير الفضة، أي لا يشترط في جبره بالفضة عدم وجود غير الفضة لأنه إذا لم يجد غير الفضة فإنه يكون في هذه الحالة ضرورة، ¬

_ = وقال ابن المدينى: قلت لسفيان بن عيينة: عقبة بن وهب؟، فقال: ما كان ذاك فندرى ما هذا الأمر ولا كان من شأن يعنى الحديث، وأخرجه الطبراني 9/ 356، وأخرجه 5/ 104.

ولهذا لما انكسر إناء النبي - عليه الصلاة والسلام - اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة كما في البخاري (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه برقم (5638).

القاعدة السادسة عشر العدل واجب في كل شيء، والفضل مسنون

القاعدة السادسة عشر العدل واجب في كل شيء، والفضل مسنون وهذه - أيضاً - قاعدة صحيحة، بمعنى أنه يجب أداء ما كان واجباً، أما ما كان مستحباً فهو مسنون في كل أمور الشرع، مثل الوضوء فإنه يجب أداء الوضوء على الوجه الواجب، فيغسل كل عضو مرة شاملة لجميع العضو، لكن الفضل وهو الزيادة مسنونة، فيسن أن يزيد ثانية وثالثة، والتعدّي ممنوع، والنقص قد يكون محرماً. وقد يكون خلاف السنة، فيكون النقص محرماً إذا كان نقصاً عن الواجب، وإن كان نقصاً عن المسنون مع المداومة على النقص فهو خلاف السنة، أو خلاف الأولى. الصلاة المفروضة واجب أداؤها بشروطها، والزيادة عليها بالصلاة قبلها أو بعدها مسنونة، لكن المداومة على ترك الرواتب عند بعض أهل العلم ممنوعة لأنه لا يمكن أن يُصِرَّ على المداومة على تركها إلا مع الإخلال بشيء من الواجبات، لكن الأصل أن أداء الصلاة المفروضة واجب، وما سواها مسنون. كذلك الزكاة العدل فيها واجب، وهو أداء الواجب، وصدقة التطوع مسنونة ومرغّب فيها، الحج واجب بشرط الاستطاعة والزيادة عليه مسنونة،

وهكذا في سائر أوامر الشرع. ولهذا قال العلماء الغسل ينقسم إلى قسمين: غسل مجزئ وغسل كامل، الغسل المجزئ هو الواجب، فالغسل المجزئ بمعنى أن يعم البدن فهذا واجب، والزيادة عليه باتباع ما جاء في حديث عائشة وميمونة رضى الله عنهما من إزالة الأذى ثم الوضوء، ثم إفاضة الماء على سائر بدنه، هذا هو المسنون. كذلك إذا اعتدى إنسان على آخر بالسب والشتم فرَدُّ السيئة - ما لم يكن افتراء - في مقابلها عدلٌ لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1)، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2)، والأفضل والسنة هو الفضل لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (¬3). فالعدل هو الرد بالمثل، فلو قال إنسان لآخر: أخزاك الله، فردّ عليه بمثل ما قال له، أي قال: بل أنت أخزاك الله، فهذا هو العدل. والمحرم الزيادة، أي لو قال له: بل أنت أخزاك الله، بل أنت أخزاك الله، فهذا محرم، لأنهما اثنتان مقابل واحدة، والفضل هو العفو والمسامحة. فهى على مراتب الفضل هو المسنون، والعدل هو الواجب، والظلم هو التعدي. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 40. (¬2) سورة البقرة، الآية: 194. (¬3) سورة الشورى، الآية: 40.

القاعدة السابعة عشر من تعجل شيئا قبل أوانه، عوقب بحرمانه

القاعدة السابعة عشر من تعجَّل شيئاً قبل أوانه، عوقب بحرمانه هذه القاعدة ذكرها كثير من الأئمة في كتب القواعد، ونازع بعضهم في صحتها، وقالوا إنها قاعدة غير صحيحة، وإن كان يدخل تحتها مسائل، لكن الخارج منها أكثر من الداخل فيها، فهناك مسائل داخلة بلا إشكال، ومسائل خارجة بلا إشكال، ومسائل موضع خلاف بين أهل العلم، لكن لما كان الخارج منها كثيراً قالوا إن في صحتها نظر. فمن المسائل التى تدخل فيها ومن أشهرها إذا قتل مُوَرِّثه لكى يرثه فإنّ هذا يعاقب بنقيض قصده، ويمنع من الإرث، وكذلك لو قتل الموَصَى له الموصِي، لكى تحصل له الوصية فإنه يعاقب بنقيض قصده، وذكر تقى الدين ابن تيمية - رحمه الله - وغيره إذا قتل إنساناً ليتزوج زوجته فإنه يعاقب بنقيض قصده، فلا يُمَكَّن من الزواج منها، وقال بعضهم إنها لا تحل له أبداً. وهناك مسائل خرجت منها كما قلنا: فلو أن امرأة شربت دواءً لكى ينزل منها دم الحيض فإنه إذا نزل منها هذا الدم فإنها تعتبر حائضاً ولا يجوز لها أن تصلى، ولا يُقال إنها تعاقب بنقيض قصدها. ومنها - أيضاً - لو أنه رمى بنفسه من مكان مرتفع مثلاً حتى يتألم في رجله فلا يصلى قائماً، فإنه لا يعاقب بنقيض قصده، بل يصلي جالساً وصلاته

صحيحة، وإن كان فعله محرمًا. ومنها - أيضاً - لو تناول شيئاً ليمرض نفسه لكى لا يصوم رمضان فإنه - أيضاً - لا يعاقب بنقيض قصده، بل عليه أن يفطر ويقضى إذا شُفى، لكنه آثم بفعله هذا. . إلى غير ذلك. ولأجل هذا قال بعضهم: إنه لا يدخل فيها إلا مسألة قتل الوارث لمورثه، والباقي موضع خلاف، وقد تعرّض السبكى في الأشباه والنظائر لهذه القاعدة، وأشار إلى أن في صحتها نظراً، وتكلم على قيود تُصَحّحُها، وقال ما معناه: إذا كان الأمر الذي قصد المكلف إلى مخالفته، إن كان الأمر مطلوباً للشارع، وكان مُسبَّبه يحث على سببه مثل الصلاة فهى مطلوبة من الشارع وتحقيقها فيه أجر عظيم، فالسبب وهو الصلاة يحصل مسببُه وهو الأجر العظيم في الدار الآخرة، وهكذا مثل الصوم ما يترتب عليه من الأجر العظيم، فالمكلَّف يحرص على الصوم ويحرص على الصلاة، اللذين هما سبب من أسباب الأجر فإذا تعاطى المكلف أشياء قد تمنعه من القيام بما يجب أو يشترط للعبادة، أو مثل ما لو تعرض لأذى حتى لا يستطع القيام أو تسبب في إمراض نفسه حتى لا يصوم، فإنه لا يلتفت إلى قصده ويبقى الأجر على ما كان. وإن كان غير مطلوب للشارع قال ينظر إن كان هذا الأمر يهدم قاعدة من قواعد الشرع، فإنه لا يلتفت إلى قصده، ولا يعامل بنقيض قصده: مثل ما لو كان عنده سبب الزكاة وهو النصاب وشرطها، وهو الحول، فإيجاد النصاب

وإيجاد الحول، ليس تحت قدرة المكلف إنما المطلوب إذا وجد السبب والنصاب وجبت عليه الزكاة، فقال: لو تحايل في إسقاط الزكاة فإنه لا تجب عليه الزكاة. وإن كان الذي تسبب المكلف في إسقاطه لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فإنه يعامل بنقيض قصده، مثل ما لو قتل مُورِّثه لكي يرثه فإن هذا لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فيُحرَم من الميراث؛ لأن الميراث قد يسقط بين القريبين بسبب اختلاف دين أو بين الغرقى، إذا لم يعلم أولهما، المقصود أنه ذكر كلاماً نحو هذا، وكلامه هذا كله موضع نظر، وكثير من أمثلته التي أوردها ليقيّد بها هذه القاعدة لما يوافق مذهبه - عفا الله عنه -. وزاد بعضهم فيها قيداً، وهذا القيد يُدخِل كثيراً مما استثنى، قال: من تعجّل شيئاَ قبل أوانه ولم تكن المصلحة في وجوده، عوقب بحرمانه، فهذا قيد جيد، وقد يرد عليه أشياء، وبهذا تكون قاعدة أغلبية، فقد يخرج منها بعض المسائل ولا حرج لأن هذا هو شأن القواعد أو معظمها. فمثلًا المسائل التي أشرنا إليها: مسألة سقوط الركن من الصلاة، وعدم وجوب الصوم عليه وجواز الفطر، فهذه أمور لا يُقَال إنه يعاقب بنقيض قصده، لأن هذه الأشياء مطلوب وجودها والمصلحة في وجودها ومأمور العبد بتحقيقها، ولا يُقال كما أشار إليه السبكى - رحمه الله - وهو أن يُفرّق بين ما إذا كان يهدم قاعدة من قواعد الشرع، وبين ما لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع؛ لأن هذا فيه خلاف؛ لأن من تحايل في إسقاط الزكاة ذهب كثير من أهل العلم إلى وجوب الزكاة عليه،

فيعامل بنقيض قصده، لكن على القول بعدم وجوب الزكاة هو جار على قول كثير من أهل العلم، من الأحناف والشافعية، لأنه لم يوجد شرط الزكاة وهو الحول، وإن كان الصواب هو وجوب الزكاة ويدخل تحت هذه القاعدة. ومما يدخل فيها ما أشار إليه المصنف - رحمه الله - وذكرها أيضاً تقى الدين ابن تيمية وغيره: أن المكلف إذا تعجّل بعض الأمور في الدنيا قد يحصل له حرمان ومنع لها في الآخرة بحسب ما تعرض له، فالكفار بما هم عليه من كفرهم وضلالهم وتعجُّل طيباتهم في حياتهم الدنيا، مصيرهم إلى النار، فتعحلهم للطيبات هو مما يزيدهم الله به عذابًا في النار. وأهل الإسلام بحسب مراتبهم، فمن تعجّل كثيراً من الطيبات فإن هذا يكون نقصًا في نعيمه من حيث الجملة، وقد يكون ليس نقصاً بحسب قصده ونيته. المقصود أنه كلما كان أدخل في الشبهات والتوسع في المباحات، كلما كان تعرضًا للنقص في الدار الآخرة، فهذه القاعدة كما قلنا في بعض أمثلتها شيء صحيح وواضح، وإذا زيدَ هذا القيد في قوله: (ولم تكن المصلحة في وجوده) كانت قاعدة أغلبية.

القاعدة الثامنة عشر تضمن المثليات بمثلها، والمتقومات بقيمتها

القاعدة الثامنة عشر تضمن المثليات بمثلها، والمتقوِّمات بقيمتها هذه القاعدة قالها الفقهاء في سائر المذاهب، وهي تكاد تكون محل إجماع منهم، لكن خلافهم في المثلى والمتقوَّم، بعضهم قال: إن المثلى هو كل مكيل، أو موزون، فمن أتلف لإنسان شيئاً مكيلًا، أو موزوناً، أو ثبت في ذمته شيء مكيل، أو موزون بقرض، أو نحوه وجب عليه مثله، فمن استسلف من إنسان مائة صاع من البرّ مثلاً وجب عليه في ذمته مائة صاع من البرّ، ومن استسلف شيئاً موزوناً مثل لحم فإنه وجب في ذمته، ويجب ردُّ مثله، وهذا في القرض ما لم يتراضوا على شيء يوم التقابض، وإلا يجوز أن يعطيه غير ما استسلف إذا تراضوا على شيء وأن يجعله بدلاً عن قرضه، والمشهور في المذهب أن المثلي هو كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلَمُ فيه. فقولهم: "كل مكيل وموزون ": يخرج ما لم يكن مكيلاً أو موزونًا من المعدودات المذروعات. وقولهم: "لا صناعة فيه مباحة": يخرج الموزون إذا خرج عن الوزن بالصناعة، مثل أنواع الآنية من قدور وغيرها، مما أصلها الوزن لأنها من الحديد أو غيره مما يوزن من نحاس وغيره، فهذه وإن كان الأصل فيها الوزن لكن خرجت بالصناعة عن الوزن، فهذه تضمن لكن لا تضْمَنُ بمثلها لأنها خرجت من المثلية بالصناعة،

فلا مثل لها فتضمن بقيمتها، ومنه أيضاً الحلي وإن كان أصله الوزن لكنه خرج عن الوزن بالصناعة، فيضمن بقيمته. وقوله "مباحة": يخرج الصناعة المحرمة، فإذا أتلف على إنسان إبريق من الذهب أومن الفضة أو ملاعق من الذهب أو من الفضة فإنها لا تضمن بقيمتها، بل تضمن قيمتها بوزنها، أي كم يساوي هذا الإبريق وزناً، وكم تساوي هذه الملعقة وزناً؟ لأنها بالصناعة زادت قيمتها؟ ولأجل هذا الذهب إذا كان تبراً له قيمة وإذا كان مصنوعاً له قيمة، فلذلك قالوا إنها لا تضمن بقيمتها لأن الصنعة محرمة ولا قيمة لها في الشرع، وإن كان لها قيمة عند الناس لكنها في الشرع ليس لها قيمة، فتهدر ولا تُحسب، وتحسب قيمتها غير مصنوعة. وقولهم "يصح السَّلم فيه": يخرج الموزون الذي لا يصح السَّلم فيه كالجواهر واللؤلؤ وما أشبه ذلك من أنواع الجواهر، قالوا هذه وإن كانت موزونة فليست مثلية. فلو قال: أعطيك مائة ألف ريال في جوهرة تأتي بها إلى مدة شهر صفتها كذا، ولونها كذا، وحجمها كذا، فهذه قالوا لا تصح لأن هذا لا يمكن ضبطه، والجواهر تختلف اختلافاً عظيماً، فقالوا كما أنه لا يصح السلم فيِها لأنها لا تنضبط فكذلك لا تكون مثلية لعدم انضباطها، وهذا هو تعريف المثلي في المذهب وهو المشهور عندهم، ولا شك أن هذا لا يدخل فيه إلا أشياء يسيرة ويخرج منه أشياء كثيرة.

القول الآخر في هذه المسألة: أن المثلي ما له مثل يماثله أو يقاربه، وهذا هو أصح الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - ونصَره ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين، وقاله جمع من أهل العلم، وهذا القول هو الذي يدل عليه القرآن والسنة والآثار عن الصحابة - رضى الله عنهم -، والقياس والقضاء الصحيح. ولهذا يضمن الصيد إذا أتلفه بمثله أو ما يقاربه، فقضى الصحابة رضي الله عنهم في البعير بالنعامة، مع أن الفرق بينهما عظيم لكنها تشابهها في بعض الأشياء مثل طول الرقبة والجسم، وقضوا في الشاة بحمامة مع الفرق بينهما لكن لأنها تشبهها من جهة مص الماء - والله أعلم -، فالصحابة - رضي الله عنهم - هم أفقه الأمة وأعلمها، ومع هذا قضوا في مثل هذا بالمثل بما يشابهه من بعض الوجوه. وقد صحَّ عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه استلف بَكراً فقضى رباعياً (¬1)، فدل على أن الإبل مثلية، وإلا لرد القيمة، ولهذا يقولون في القرض يُردُّ مثله، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 54) وابو داود في البيوع برقم (3346) وكلاهما من حديث أبى رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فذكره وزاد: فجاءته إبلٌ من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي الرجل بكره فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا رباعياً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعطه إياه فإن خِيار الناس أحسنهم قضاء". وقال الترمذى عقب سياقه له في سننه: "حديث حسن صحيح".

واستثنى بعضهم القرض في مثل هذه الأشياء وهو قول الجمهور، والأحناف يقولون أن الإبل ليست مثليه فلو اقترض شيئًا من الإبل لا يرد شيئًا لأنه ليس له مثل بل يرد قيمته، واختلفوا ما هي القيمة الواجبة، هل هي قيمته يوم القبض أو يوم الرد. . إلى غير ذلك، المقصود أن الإبل مثليه كما قلنا. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن داود - عليه السلام - قال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (¬1) وهذه القصة ذكرها أهل العلم، فداود - عليه السلام - قضى بحكم وخالفه ابنه سليمان، فهؤلاء القوم لهم غنم وقوم لهم بستان فنفشت هذه الغنم، والنفش هو الإفساد ليلًا، فقضى سليمان لأهل الزرع بأن يقوم أهل الغنم بإصلاح البستان، والبستان فيه الأشجار والثمار والحيطان التى تبنى، وهو قضي بإرجاع البستان كما كان، وهذا لا شك عند جماهير أهل العلم ليس مثليًا، فلما قضى بهذا أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بالفهم، وأن الله فهَّمه، ومن عدله - عليه الصلاة والسلام - حكمه أن يأخذ أهل البستان الغنم فيستفيدوا منها في مدة إصلاح البستان، فجعل نماء هذه الغنم في هذه المدة مقابلًا للنماء الذي يستفيدونه من البستان لأنه فات عليهم في هذه المدة، وهذا بلا شك أقرب للعدل. . فعلى هذا كل شيء يماثل شيئًا فهو مثلي. والأواني على الصحيح نقول إنها مثلية لأنها تماثلها، والسيارات التى تتماثل ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآيتان 78، 79.

تكون مثلية، لكن هذا كما قلنا عند الجمهور ليست مثليه والثياب أيضًا عندهم ليست مثلية، بل قيمية لأنها ليست مكيلًا ولا موزونًا لأن الثياب خرجت عن الوزن بالصناعة، والصواب أنها مثلية، بل المشابهة في الأوانى قد تكون أعظم من المشابهة بين حبة بُر وحبة بُر، لأن الحب قد يكون بعضه صغيراً وبعضه كبيراً. فالقول المختار كل ما له مثيل فهو مثلى، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأخبار، وهو أيضًا ظاهر اختيار البخاري - رحمه الله - في صحيحه، وقد بوّب بابًا في صحيحه وقال: باب من هدم جداراً بنى مثله، وليس المراد بهذا أنه يلزمه المراد إذا اختلفوا، وإلا لو تراضوا على شيء جاز، فلو تراضوا على شيء في المثليات على القيمة جاز ذلك، لكن هذا يلزم إذا اختلفوا أو أرادوا أن يرجعوا إلى حكم الشرع الواجب عليهم، فعلى هذا إذا عُدم المثلى أو شق وجوده أو العثور عليه نرجع إلى القيمة. ومن الأدلة - أيضاً - التي تدل على القول الصحيح في مسألة المثلى القصة المشهورة التى جاءت في حديث عائشة وحديث أنس أنه - عليه الصلاة والسلام - كان عند إحدى أزواجه وكانتا تصلح طعاماً له ولأصحابه، فجاءت إحدى أمهات المؤمنين بطعام، وجاء في بعض الروايات أنها عائشة وأن التى صنعت الطعام هي زينب بنت جحش، فجاءت فكسرت تلك الصحفة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "غارت أُمكُم"، وجاء في صحيح البخاري أنه - عليه الصلاة والسلام - حبس الصحفة المكسورة في بيت الكاسرة وردّ الصحيحة إلى

بيت من كُسِرَت صحفتها. فهذا ظاهره أنه قضى، ففعله - عليه الصلاة والسلام - من تضمين الكاسرة من إبقاء الصحفة المكسورة في بيتها وأخذ الصحيحة وجعلها لمن كسرت صحفتها يدل على أن المثل ماله مثل، لأن الصحفة عند الجمهور ليست مثلية لأنها خرجت بالصنعة عن كونها مثلية. وأصرح منه ما رواه الترمذي بسند صحيح أنه بعد ما فعل هذا - عليه الصلاة والسلام - قال: "إناءٌ بإناءٍ، وطعامٌ بطعامٍ " (¬1)، وقد رواه الترمذي بسند على شرط الشيخين، وقد رواه - أيضاً - أبو داود والنسائي من طريق جسرة بنت ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في كتاب الأحكام (2/ 406)، باب ما جاء فيمن يُكسر له الشيء، وقال عنها الترمذي بعد سياقه لها: "حديث حسن صحيح ". وجاء من حديث عائشة رضى الله عنها، أخرجه أبو داود في كتاب البيوع (3097)، والنسائى في عِشرة النساء (3895)، والإمام أحمد في مسنده (4/ 93) من طريق سفيان قال: حدثنى فُلِيت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضى الله عنها: "ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله طعاماً فبعثت به، فأخذنى أفْكَل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت، قال: "إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام". والحديث فيه جسرة قال عنها البخاري: وجسرة عندها عجائب. وقال الحافظ في التقريب: "جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية مقبولة من الثالثة، ويقال إن لها إدراكاً". والقصة عند البخاري من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه (5/ 142) بلفظ آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فَضَمَّها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا" وحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة.

دجاجة عن عائشة رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "إناءٌ باناءٍ، وطعامٌ بطعامٍ"، فهذان شاهدان لما جاء في البخاري، ويرد على من قال إن هذا على سبيل المكارمة، وليس على سبيل القضاء، وأنه من باب العقوبة للكاسرة، وأن هذا من ماله - عليه الصلاة والسلام - ولا يخرج من بيته وهن أزواجه - عليه الصلاة والسلام -، لكن قوله إناء بإناء قاعدة عامة، وجاء في لفظ آخر ذكره الحافظ ابن حجر عند ابن أبي حاتم أنه قال من كسر شيئاً فهو له وعليه مثله، وهذا قانون عام في هذه المسائل. وقوله: "المتقوّمات بقيمتها": هذه واضحة تتضح من المثلي، وأن ما لم يكن مثلياً أو كان مثلياً وعُدم فيرجع إلى قيمته.

القاعدة التاسعة عشر إذا تعذر المسمى رجع إلى القيمة

القاعدة التاسعة عشر إذا تعذّر المسمّى رجِع إلى القيمة الأصل أنه يجبِ المسمى، فإذا تبايع رجلان بيتاً بمائة ألف ريال، أو تبايعا سيارة بخمسين ألف ريال أو ما أشبه ذلك، فالأصل أنه يجب المسمى أو نكح على شيء من المال، فإنه يجب المسمى الذي سمّي في العقد لأنه يجب الوفاء بالعقود والشروط. ومن أعظمها الثمن المسمى، فإذا تعذّر المسمى لسبب من الأسباب لفساد التسمية أو لفساد العقد قالوا يرجع إلى القيمة، بقى أن نعرف الفرق بين المسمى والقيمة. المسمّى: هو الثمن الذي اتفق عليه المتعاقدان، سواء كان قيمة للشئ أم أقل من قيمته، أم أكثر، فإذا اشترى إنسان بيتاً وقيمته مائة ألف فاشتراه بخمسين ألف أو العكس بأن يكون قيمته مائة ألف ريال فيشتريه بمائة وخمسين ألف ريال. القيمة: هي سعر العادة الغالبة في السوق، ولهذا قال المصنف: إذا تعذّر المسمى رُجع إلى القيمة. ولو قال: رُجع إلى عِوَض المثل لكانت أشمل وأكثر فائدة، حتى يدخل فيها أجرة المثل وقيمة المثل ومهر المثل، أما القيمة فإنها في الغالب تطلق على الشيء المبيع، والإجارة يُطلق عليها أجرة، والمهر يطلق عليه مهر، ولهذا لو قيل رُجع

إلى عوض المثل لكان أحسن لأنه يدخل فيه جميع أنواع العقود. وهذه القاعدة يستفاد منها في أشياء كثيرة، منها: مثلاً: إنسان أخذ من إنسان سلعة لكي يشاور أهله في ذلك فتلفت هذه السلعة بتفريطه وهم لم يتفقوا على ثمنها، فأردنا أن نرجع إلى ثمنها، كم تساوي في السوق، ومثله أيضًا المغصوب فلو أن إنسانًا غصب من إنسان سيارة أو شاة، أو أواني، فتلفت أو تصرف فيها بالبيع على القول بتصحيح تصرفات الغاصب، فأردنا إرجاع هذا المغصوب إلى صاحبه والمغصوب كما قلنا قد تلف فما الواجب على الغاصب؟، إن كان مثليًا رجعنا إلى مثله، وإن لم يكن له مثل فإننا نرجع إلى قيمته على الخلاف في تقدير قيمته، لكن على قول كثير من أهل العلم أن القيمة تكون بالغة ما بلغت، فإذا غصب أرضًا وحكم عليه القاضي بتسليم الثمن قال كثير من أهل العلم إنه يسلم أعلى ما بلغت قيمتها، فلو كانت قيمة هذه الأرض عندما غصبها مائة ألف ثم ارتفعت فصارت قيمتها مائتى ألف ريال ثم نزلت قيمتها فصارت تساوي خمسين ألف ريال، فإنه يدفع أعلى ما بلغت أي مائتى ألف ريال، وقيل إنه يدفع قيمتها يوم التلف، المقصود أنه يجب عليه القيمة، أما لو نكح امرأة وسمى لها مهراً مائة ألف ريال مثلًا، وعادة الناس أن المهر خمسون ألف ريال مثلًا، فإن الواجب لها المسمى، هذا هو الصواب كما هو قول الجمهور، وقال الشافعى وجماعة: يعطها مهر مثلها، لكن الصواب كما سبق أن لها المسمى.

القاعدة العشرون إذا تعذر معرفة من له الحق، جعل كالمعدوم

القاعدة العشرون إذا تعذر معرفة من له الحق، جُعِل كالمعدوم وهذه القاعدة أصلها حديث اللُّقطة، وأنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "إن جاء صاحبها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" (¬1)، وفي لفظ: "فشأنك بها". أي الزم شأنك فلك أن تتصرف فيها. ويقولون: المجهول كالمعدوم إذا يُئس من الوقوف عليه أو شق اعتباره، فلو أن إنساناً عنده أموال من غصب أو سرقة، ثم تاب منها ولا يعلم أصحابها فهذا عليه التوبة الصادقة، وأصحاب الأموال المغصوبة أو المسروقة يرضيهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، لكن هذه الأموال ماذا نعمل بها؟، من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل المجهول كالمعدوم أي كأن هذه الأموال لا مالك لها فتُصرف في أبواب الخير، فعليه أن يتصدق بها عن صاحبها ثم لو جاء صاحبها يوماً من الأيام ضمنها له، فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها يقول العلماء: إما أن تُحفظ دائماً ولا تصرف، أو يتصدق بها عن صاحبها، أو تُؤكل، ولا شك أن بقاءها يعرضها للخطر، فكان من المصلحة هو التصرف فيها، فلو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللُّقطة، باب: إذا لم يُوجد صاحب اللُّقطة بعد سنة فهى لمن وجدها (1/ 606)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب اللُّقطة (3/ 1346 - 1347) كلاهما من حديث زيد بن خالد الجهنى رضى الله عنه.

تصدق بها ثم جاء صاحبها يقول له: إننى تصدقت بها، هل تمضي الصدقة أو أضمن لك مقابلها؟.

القاعدة الحادية والعشرون الغرر والميسر محرم في المعاوضات والمغالبات

القاعدة الحادية والعشرون الغرر والميسر محرّم في المعاوضات والمغالبات الغرر يكون في البيع وغيره، وهو محرم، والرسول - عليه الصلاة والسلام - نهى عن بيع الغرر، وهو الذي لا تعلم عاقبته، فالمجهول فيه شيء من الغرر، وكذلك الميسر، والميسر كل شيء فيه قمار مثل النرد والشطرنج وما أشبه ذلك. وقوله: "في المعاوضات والمغالبات" أي كله محرم، ولا يجوز منها إلا ثلاثة كما جاء في الحديث "لا سبق إلا في نَصْل، أو خُف، أو حافر" (¬1)، أو ما ألحق بها على قول آخر لأهل العلم. والمعاوضات منها ما يحرم بالإجماع، كبذل المال في اللعب كالنرد والشطرنج، إذا كان بعِوَض، أو يصدّ عن ذكر الله، أو في شتم أو سباب، فهذا محرم بالإجماع وإن كان خالياً من هذه الأشياء فهو محرم عند جاهير أهل العلم بل حكى جمع من أهل العلم إجماع الصحابة على تحريمه وأنه لم يأتِ عن أحد ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 474)، وأبو داود في سننه في كتاب الجهاد، باب في السبق (3/ 63 - 64)، والنسائى في سننه في كتاب الخيل، باب في السبق (6/ 226)، والترمذي في سننه في كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرهان (3/ 122) كلهم من طريق ابن أبى ذئب عن نافع بن أبى نافع عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره. . " وقال الترمذي عقب سياقه له: "حديث حسن". وإسناده صحيح ورجالُه كلهم ثقات.

منهم حلّه، ومنها ما هو جائز بجُعل وبدون جُعل، وهي الأشياء الثلاثة التى ذكرت في الحديث السابق: "لا سبق إلا في نصل أو خُف، أو حافر"، والنصل: السهام، والخف: الإبل، والحافر: الخيل، على خلاف بين أهل العلم: هل يلحق بها شيء؟، فكثير من أهل العلم ألحق بها المسابقة في أبواب العلم لأنها نوع من أنواع الجهاد، وجاءت أدلة تدل على هذا المعنى في مراهنة أبي بكر الصديق رضى الله عنه، والصواب أنها ثابتة وغير منسوخة، وهذا القول رجَّحه صاحب الإنصاف وغيره، وهو قول في المذهب، واختاره - أيضًا - جمع من أهل العلم. ومنها ما يجوز بلا جُعل ولا يجوز بجُعل مثل أنواع السباقات التي تكون على الأقدام وعلى السفن، ما لم يترتب عليها مفسدة أو مضرة أو يقترن بها أمر محرم، أما لو اقترن بها أمر محرم أو ترتب عليها أمر محرم، أو أفضت غالبًا إلى أمر محرم حرمت وإن لم يكن فيها جعل.

القاعدة الثانية والعشرون الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا

القاعدة الثانية والعشرون الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً هذه القاعدة نص حديث جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة طرق من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود، ومن حديث عمرو بن عوف المزني من رواية حفيده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (¬1)، ولها أيضاً ¬

_ (¬1) حديث: "الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً. . " هذا الحديث روي من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ومن حديث عائشة ومن حديث عمرو بن عوف ومن حديث رافع بن خديج رضى الله عن الجميع. فأما حديث أبي هريرة رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع باب في الصلح (3594)، والحاكم في المستدرك (2/ 49)، والبيهقى في الكبرى (6/ 79) كلهم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً بلفظ "المسلمون على شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين. . . " الحديث. وفيه كثير بن زيد الأسلمى، وثقه ابن معين، وقال أبو زُرعة: صدوق فيه لين، وقال النسائى: ضعيف، وقال ابن عدي: لم أر بحديثه بأساً، وأرجو أنه لا بأس به. وقال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ" فحديثه حسن إن شاء الله، وقد صحّح حديثه هذا عبد الحق في أحكامه. وأما حديث عائشة رضى الله عنها فأخرجه الدارقطنى في سننه (3/ 99) من طريق عبد العزيز بن عبد الرحمن عن خصيف عن عروة عن عائشة رضى الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به فذكره وزاد فيه: "المسلمون على شروطهم ما وافق الحق" وإسناده ضعيف جدا لأجل عبد العزيز بن عبد الرحمن، قال عنه الإمام أحمد: إضرب على أحاديثه فإنها كذبٌ أو موضوعة، وقال النسائى وغيره: ليس بثقة، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 23): "وإسناده واهٍ".

شاهد آخر بلفظ قريب من هذا عن حديث رافع بن خديج، وجاء - أيضًا - عن عدة من الصحابة، وبعض طرق هذا الحديث من باب الحسن لغيره وبعضها ضعيف جداً مثل حديث عمرو بن عوف المُزني، وبعضها ضعفها يسير، ¬

_ =وأما حديث عمرو بن عوف المزنى رضى الله عنه فأخرجه الترمذي في سننه في كتاب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس (2/ 403) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ: "الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. . . ". وقال عنه الترمذى: "هذا حديث حسن صحيح". ولم يتابع الترمذي في تصحيحه لهذا الخبر أهل العلم رحمهم الله لأجل كثير هذا، قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وقال الشافعى وأبو داود: ركنٌ من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطنى: متروك، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. ولذا قال ابن عبد الهادي في المحرر بعد ذكره لتصحيح الترمذي (2/ 895): "ولم يُتابع على تصحيحه فإنّ كثيراً تكلَّم فيه الأئمة وضعّفوه وضرب الإمام أحمد على حديثه في المسند ولم يحدث به". وقال الذهبى في الميزان (3/ 407): "وأما الترمذي فروى من حديثه الصلح جائز بين المسلمين وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي"، ولذا قال الحافظ في التلخيص (3/ 27): "وهو ضعيف "، وقال عنه في الفتح (4/ 371): "وكثير ضعيف عند الأكثر، لكن البخارى ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره ". وأما حديث رافع بن خديج فأخرجه الطبرانى في المعجم الكبير (1/ 222) من طريق جبارة بن المغلّس حدثنا قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج رضي الله عنه به فذكره. . . " وفيه جبارة بن المغلِّس وهو ضعيف" والحديث جاء له شاهد مرسل ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 27): " من طريق يحيى بن أبى زائدة عن عبد الملك هو ابن أبى سليمان عن عطاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا". فالحديث بمجموع هذه الطرق يرتقى لدرجة الحسن أو الصحيح لغيره، وإن كان في بعض طيقه ضعف شديد، لكن بعضها مما يصلح للاستشهاد. والله أعلم.

فبمجموع طرقها تنجبر وتكون من باب الحسن لغيره، وقد ترتفع لدرجة الصحيح لغيره لكثرة طرقها، خاصة أن بعض طرقها مقارب ولا بأس بها كرواية أبى داود عن أبى هريرة، وهذا الحديث أصل في باب الصلح، وأن الصلح جائز بين المسلمين. وكان - عليه الصلاة والسلام - يشير بالصلح في بعض القضايا، وقد ثبت في البخاري وغيره أنه لما تخاصم ابن أبى حَدْرَد وأبى بن كعب في مال بينهما وارتفعت أصواتها جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُشير إلى صاحب المال أن ضع الشطر فرضى فوضع الشطر (¬1). وثبت - أيضًا - في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه كان على أبيه دين فطلب منهم أن يُنظِروه فأبوا، فطلب منهم أن يأخذوا ثمر حائطه فأبوا، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع له، لكنهم على عادتهم، وهم قوم من اليهود وهم قوم بُهتٍ وكذبٍ فلم يقبلوا، فجاء - عليه الصلاة والسلام - على التمر فأمر جابراً أن يضعه بيادر كل بيدر على حدة، أي أن يأخذ التمر ويضعه في أماكنه لحفظه، فجاء - عليه الصلاة والسلام - فدار على أعظمهم بَيدراً فجعل يقضيهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (1/ 603)، وأخرجه مسلم في صحيحه (5/ 30) في كتاب البيوع كلاهما من حديث كعب بن مالك رضى الله عنه أنه تقاضى ابن أبي حدْرَد دَيناً كان له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله ونادى كعبًا فقال: "يا كعب" فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه أن ضع الشطر من دَينِك. . ".

منه فقضاهم، وكأن البيدر لم ينقص (¬1) والبيادر الأخرى على حالها، وكان هذا ببركته - عليه الصلاة والسلام -. وجاء - أيضًا - عند أبى داود عن أم سلمة، أن رجلين اختصما في مواريث بينهما قد درست، فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يسقط كل منهما ماله على صاحبه، وأن يحلل كل منهما صاحبه، فأشار - عليه الصلاة والسلام - بالصلح (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في باب إذا قاضى أو جازفه في الدين تمراً بتمر أو غيره (1/ 598)، ومسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 32) كلاهما من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه: "أنه أخبره أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن يُنظِره، فكلّم جابر رسول الله وكلَّم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول الله النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: "جُدّ له فأوفِ له الذي له" فجدّ له بعدما رجع رسول الله فأوفاه ثلاثين وسقاً وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله ليُخبره بالذي كان فوجده يصلى العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب" فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال عمر: قد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركنّ فيها. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 320)، وأبو داود في سننه في كتاب القضاء، والحاكم في المستدرك (4/ 95) وقال: "صحيح على شرط مسلم " ووافقه الذهبى، كلهم من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة رضي الله عنها ولفظه مرفوعاً: "جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر ولعلّ بعضكم ألحن بحجته. . الحديث " وفيه: "فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقى لأخى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق، ثم استهِما، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه"، والحديث فيه أسامة بن زيد الليثى أبو زيد المدنى، واختلفت فيه آراء الحفاظ فتكلم فيه الإمام أحمد وقال عنه: ليس بشيء فراجعه ابنه عبد الله فيه فقال: إذا تدبرت حديثه تعرف فيه النكرة، وضعّفه النسائى ويحيى بن=

والصلح من الأبواب العظيمة في الشريعة التى جاء الشرع بالحث عليها، حتى جاءت الأدلة في جواز الإصلاح بين المتخاصمين من رجلين أو قبيلتين ولو بالكذب لأنه يرتب عليه مصالح عظيمة، أعظم وأكبر من هذه المفسدة التى هي الكذب، وهذا من باب المصالح والمفاسد التي تُقدَّم فيها المصالح العظيمة على المفاسد اليسيرة. فالأصل صحة الصلح لعموم الأدلة في هذا، إلا ما دلّ الدليل على استثنائه، أي على أن هذا الصلح لا يصح، ولهذا يصح الصلح مع الإقرار ومع الإنكار، فالصلح مع الإقرار جائز عند الجميع وذلك أن يدعى عليه مالاً أو عيناً فيُقر بها المدَّعى عليه لكن يصالحه على شيء لكونها ليست عنده، فلو كان عليه ألف ريال مثلاً فصالحه على خمسمائة ريال ويبرئه من الباقي لصحّ، ثم على الصحيح أنه سواء جرى بلفظ الصلح أو بغيره أي بلفظ الإبراء أو الهبة، أما إذا كان إسقاطه بالشرط فلا يجوز مثلاً أن يقول لا أسَلِّم لك إلا بشرط أن تسقط عنى خمسمائة ريال فهذا الصلح لا يصح؛ لأنه أكل للمال بالباطل؛ ولأنه إجبار لصاحب الحق على ترك حقه بدون رضاه، فله أن يأخذ ما أعطي من حقه، والصلح لا يلزمه في حكم الشرع، أي أنه لو أراد أن يطالبه بالباقي مرة أخرى فله ذلك. ¬

_ = سعيد القطان، ووثقه ابن معين، وقال ابن عدي: ليس به بأس، وقال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: "صدوق يهم". ولعلّ حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن. والله أعلم.

وكذلك الصلح على الدِّية أي لو ادعوا عليهم دية قتيل فاعترفوا به قالوا إنه لا يجوز الصلح على الدية بأكثر منها، فإذا كانت الدية مائة من الإبل فارادوا أن يصالحوهم على أكثر منها قالوا إنه لا يجوز؛ لأنه حق ثابت في الذمة فلا يجوز بأكثر منه هذا هو القول الأول. القول الثاني: الجواز سواء كان دية خطأ أم دية عمد، وهذا هو الصواب، ومنها - أيضًا - ما ذكروه في المتلفات المتقوّمة على الخلاف الذي ذكرناه، فإذا كان هذا الذي أتلف مُتَقَوَّمًا ليس مثليًا أي لو كان قيمة هذا الذي أتلف ألف ريال مثلًا وصالحه على ألف وخمسمائة ريال قالوا لا يجوز أن يصالح في المتقَوَّم على أكثر من قيمته لأنه هكذا ثبت في الذمة، هذا هو القول الأول. القول الثاني: الجواز إذا تراضوا على ذلك كما نقول في جوازه في البيع أي لو أنها كانت موجودة وأراد أن يبيعها جاز أن يبيعها بأكثر من قيمتها وهذا هو الصواب، هذا هو النوع الأول من الصلح وهو صلح الإقرار. والنوع الثاني من الصلح: هو صلح الإنكار: وهذا قال به الجمهور غير الشافعي، وهو أن يدّعي عليه مالًا أو عينًا، فأنكر المدعى عليه لكن قال لأجل قطع الدعوى والنزاع قال المدَّعَى عليه سوف أصالحك، فصالحه على شيء، جاز في هذه الحال، فالصلح جائز بنوعيه، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرّم حلالًا.

القاعدة الثالثة والعشرون المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا

القاعدة الثالثة والعشرون المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً هذه القاعدة في نفس الحديث الذي سبق ذكره، ففي نهاية الحديث قال: "والمسلمون على شروطهم " (¬1)، وجاءت الأدلة بوجوب الوفاء بالعقود والعهود، وكان - عليه الصلاة والسلام - يعاهد ويكتب شروطًا بينه وبين أعدائه، فَيَفِي بها - عليه الصلاة والسلام -، فالأصل في الشروط والصلح الصحة بين المسلمين، وبين المسلمين والكفار، والحديث الذي جاء فيه "الصلح جائز بين المسلمين " (¬2) للأعم الأغلب؛ لأنه في الغالب أن هذه الشروط وأنواع الصلح تجري بين المسلمين، مع إن الشروط وأنواع الصلح تجري بين المسلمين والكفار إما في الصلح المتعلق بوضع الحرب، أو تكون في معاملة بين مسلم وكافر، فالأصل هو وجوب الوفاء بالشروط، ثم الأصل في الشروط الصحة وهذا هو قول جاهير أهل العلم. وقال بعضهم: الأصل في الشروط البطلان، لكن الصواب القول الأول وهو أن الأصل في الشروط الصحة للحديث السابق، ولما جاء من سيرته - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يشترط ويُشترط عليه - عليه الصلاة والسلام -. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص:167. (¬2) سبق تخريجه ص:167.

وقال - عليه الصلاة والسلام - في حديث عائشة في قصة بَريرَة: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط " (¬1). وقال - عليه الصلاة والسلام -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2)، وهذا المراد به الشروط المخالفة لكتاب الله، فقول: "كل شرط ليس في كتاب الله" المراد به أي المخالف لكتاب الله، فكل شرط مخالف لكتاب الله فهو باطل. والشروط على ثلاثة أنواع: الأول: أن تكون موافقة للأدلة، فهذه محل اتفاق بجوازها ووجوب الالتزام بها. الثاني: شروطاً سكتت عنها النصوص، فهذه - أيضاً - الأصل فيها الصحة. الثالث: أن تكون شروطاً مخالفة للنصوص، وهذه لا تجوز. والشروط قد تكون من مقتضى العقود، فهذه جاء الكتاب بالأمر بالوفاء بها، فيجب الوفاء بها ولو لم تشترط، مثل لو باع بيته أو سيارته فمن مقتضى العقد صحة تصرفه بأنواع التصرفات، فلا يجوز أن يشترط عليه ألا يبيعه أو يوقفه أو يهبه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب البيوع، باب: إذا اشترط شرطاً في البيع لا تحل (1/ 539)، ومسلم في صحيحه في كتاب العتق (2/ 1422 - 1143) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها به فذكرته. وفيه: "ثم قام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". (¬2) سبق تخريجه ص: 62.

وفي بعض أنواع هذه الشروط خلاف، فقال بعض أهل العلم تجوز مثل هذه الشروط لعموم الأدلة في صحة الشروط خاصة مع ظهور المصلحة في اشتراط الشرط لأحدهما، هذا هو النوع الأول. النوع الثاني: ما كان من مصلحة العقد، فهذا إذا سُكِت عنه فالأصل عدَمُه وعدم وجوبه إلا أن يُشترط، كالرهن والضمين والكفيل، وكذلك اشتراط نفع في المبيع أو اشتراط نفع البائع فهذه الشروط من مصلحة المتعاقدين أو أحدهما، كالرهن من مصلحة المتعاقدين جميعاً، وشرط نفع المبيع مثل إنسان باع بيتاً واشترط أن يسكن فيه سنة مثلاً، وهذا الشرط الصواب جوازه خلافاً لمن منعه، وقد باع جابر - رضي الله عنه - النبى - عليه الصلاة والسلام - جملاً واشترط حِملانه عنه إلى المدينة (¬1)، وكذلك لو اشترط نفعاً في البائع مثل أن يشتري منه ما يحتاج إلى حمل، فيشترط أن يحمله إلى بيته فهذا لا بأس به. فالأصل في الشروط الصحة ووجوب الالتزام إلا ما دلّ الدليل على تحريمه، فلا واجب إلا ما أوجبه الله والرسول، ولا حرام إلا ما حرّمه الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما استحبه الله ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله، ولا مباح إلا ما أباحه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه مع الفتح (5/ 314) في كتاب الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابّة، ومسلم في في صحيحه في كتاب المساقاة (3/ 1221) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه به. . . فذكره".

فمن قال أن هذا لا يجوز فعليه الدليل؛ لأن الأصل الجواز، ومن قال إن هذا واجب، فعليه الدليل؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وهكذا في المستحبات والمكروهات والمباحات، فكل هذه الأشياء داخلة في ضمن هذه القاعدة وأنه يجوز اشتراط مثل هذه الشروط في جميع أنواع العقود، وكذلك الشروط في الأوقاف وما أشبهها، فالأصل فيها الصحة إلا أن تكون مخالفة لكتاب الله، سبحانه وتعالى.

القاعدة الرابعة والعشرون من سبق إلى المباحات فهو أحق بها من غيره

القاعدة الرابعة والعشرون من سبق إلى المباحات فهو أحق بها من غيره هذه جاء فيها حديث, أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" (¬1). رواه أبو داود، والحديث ضعيف، وهو من رواية أسمر بن مضرس رضي الله عنه، لكن الأصل في المباحات أن من سبق فهو أحق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الخراج والأمارة والفئ، باب في إقطاع الأرضين (3/ 3071) من طريق عبد الحميد بن عبد الواحد قال: حدثتنى أم جنوب بنت نميلة عن أمها سويدة بنت جابر عن أمها عقيلة بنت أسمر بن مضرس عن أبيها أسمر بن مضرس رضى الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته فقال: "من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له" قال: فخرج الناس يتعادَوْن ويتخاطبون. والحديث ضعيف لا يصح وإسناده مسلسل بالمجاهيل الذين لا يُعرفون، وهم: 1) عبد الحميد بن عبد الواحد الغنوي: بصري، قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول "، وقال الذهبى في الميزان (2/ 542): ما أعرف أحداً روى عنه سوى بندار سمع أم جنوب. 2) أم جنوب بنت نميلة: قال عنها الذهبى في الميزان (4/ 1101): "لا تعرف، عن أمها سويدة روى عنها عبد الحميد بن عبد الواحد الغنوي". 3) أمها سويدة بنت جابر: مجهولة لا تعرف، قال الذهبى: "سويدة بنت جابر عن أمها عقيلة بنت أسمر عن أبيها تفردت عنها أم جنوب". 4) عقيلة بنت أسمر بن مضرس عن أبيها لا تعرف قاله الذهبي. فالحديث ضعيف لا يصح، فجميع رجال الإسناد لا يُعرفون سوى بندار "محمد بن بشار" شيخ أبي داود، وقال الحافظ في التلخيص (3/ 72): "رواه أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال البغوي: لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث، وصححه الضياء في المختارة".

بها؛ لأنها مباحة في الأصل ولا يملكها أحد، فمن ادّعى ملكها أو أخذها لم تقبل دعواه، لأن الأصل في المباحات أن من سبق فهو أحق بها كما قلنا، وهذا الأصل مجمع عليه في الجملة، وهذا يشمل أشياء كثيرة، فمن سبق إلى إحياء أرض ميتة فهى له للأخبار الصحيحة التى جاءت في هذا من حديث جابر، ومن حديث عائشة، ومن حديث سمرة، على تفصيل مذكور في باب إحياء الموات الذي ذكره أهل العلم، وما هو الإحياء وكيفية الإحياء إلى غير ذلك، لكن الأصل هو ما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" (¬1)، ويشترط آخذ ¬

_ (¬1) جاء من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه وله عنه طرف: الطريق الأول: من طريق وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه به فذكره ". وهذا الطريق أخرجه الترمذى في جامعه (1/ 259) وقال بعد سياقه: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده (3/ 304). وذكره البخاري في صحيحه معلقاً في باب من أحيا أرضًا مواتاً (1/ 581). الطريق الثاني: عن أبى الزبير المكى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه. . . به " وهذا الطريق عند الإمام أحمد في مسنده (3/ 356) من طريق حماد بن سلمة عن أبى الزبير عن جابر رضى الله عنه. . . فذكره". ورجاله ثقات. الطريق الثالث: عن هشام بن عروة عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصارى عن جابر رضي الله عنه به، وزاد فيه: "وما أكلت العافية منها فهو صدقة". وهذا الطريق عند الإمام أحمد في المسند (3/ 313)، وعند الدارمي في سننه (2/ 267) وفيه عبيد الله ابن عبد الرحمن الأنصاري الراوى عن جابر وفيه جهالة، قال عنه الحافظ في "التقريب": "مستور". والحديث له شاهد من حديث عائشة رضى الله عنها مرفوعاً بلفظ: "من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق" قال عروة: "قضى به عمر في خلافته". أخرجه البخاري ما في صحيحه باب من أحيا أرضاً مواتاً (1/ 584).

الأرض أن يكون قادراً على إحيائها كما فعل عمر - رضى الله عنه - حينما أخذ من أحد الصحابة ما لم يستطع إحياءه، ومنعه منه ومكَّن المسلمين من إحيائه. ومنها - أيضاً - السبق إلى الأماكن العامة والبيع والشراء فيها. ومنها - أيضاً - السبق إلى حلق العلم للجلوس فيها، فمن سبق لما مكان فهو أحق به ما لم يقم منه، إلا إن كان يريد الرجوع فهو أحق به، وكذلك الأماكن في الصلاة من سبق فهو أحق بها. وكذلك لو كان هناك نهر صغير ولا يتأتى إلى أن يكون لأحدهما فمن سبق فهو أحق به، فإذا فرغ منه وشرب وروى لنفسه أو لبهيمته أو لبستانه فعليه أن يجريه إلى جاره، هذا هو الأصل في المباحات. ومنها أشياء لا اختصاص فيها، فالناس شركاء فيها: "الماء والنار والكلأ" (¬1)، ¬

_ =وله شاهد أيضًا من حديث سعيد بن زيد رضى الله عنه مرفوعاً ولفظه: "من أحيا أرضاً ميتةً فهي له وليس لعرق ظالم حق". أخرجه أبو داود في سننه (3073) في كتاب الخراج، باب في إحياء الموات، من طريق عبد الوهاب الثقفى أخبرنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد رضى الله عنه به فذكره ". وإسناده صحيح. وله شاهد رابع عند أبى داود في سننه (3077) من حديث سمرة رضى الله عنه ولفظه "من أحاط حائطاً على أرض فهي له من طريق قتادة عن الحسن البصرى عن سمرة - رضي الله عنه - به فذكره. . .". قال الحافظ في التلخيص (3/ 71): "من حديث الحسن عنه وفي صحة سماعه منه خلف. . ". والله أعلم. (¬1) أخرجه ابن ماجه فى سننه في كتاب الرهون (2/ 2472) من طريق عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما به فذكره بلفظ: "المسلمون شركاء فى ثلاثة. . " وهذا=

لأنها يخرج عامة وتوجد في كل مكان، وهذا الحديث قال بعض أهل العلم إنه ورد في الماء الذي يكون في الأرض المملوكة أو في الأرض المحياة، وكذلك النار والكلأ، وهذا أظهر، لأن هذه الأشياء إذا كانت ليست مملوكة لأحد، أي إذا كانت فى الصحارى والبراري فالناس شركاء فيهما وهذا ليس فيه إشكال، لكن في هذا الحديث أرادوا نوعاً خاصاً وهو ما إذا ملك أرضاً بالإحياء أي أحياها بنوع خاص بأن أحاطها بحائط، وأجرى فيها شيئاً من الماء وفيها أماكن نبت فيها شيء من النبات فهذا يجوز رعيه ولا يجوز منحه إذا كان مستغنياً عنه. فإذا كان ليس عليه ضرر في الدخول عليه مثل أن لا يكون بستاناً ولا نخلاً ولا ¬

_ = إسناد ضعيف جداً من أجل ابن خراش هذا. قال البوصيرى في "الزوائد" (1/ 153): "هذا إسناد ضعيف، عبد الله بن خراش، ضعّفه أبو زرعة والبخارى والنسائي وابن حبان وغيرهم ". قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 74): "وفيه عبد الله بن خراش وهو متروك ". ولكن صحَّ في هذا الباب حديثان: 1 - ما أخرجه ابن ماجه فى سننه في كتاب الرهون (2/ 2473) من حديث أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً: " ثلاث لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار". قال البوصيري (1/ 153): "هذا إسناد صحيح، رجاله موثقون؛ لأن محمد بن عبد الله بن يزيد أبا يحيى المكى وثقه النسائى وابن أبى حاتم وغيرهما، وباقى رجال الإسناد على شرط الشيخين". وممن صحح إسناده الحافظ ابن حجر في "التخليص " (3/ 75). 2 - ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 364)، وأبو داود في سننه في كتاب البيع (3477) عن حريز بن عثمان حدثنا أبو خداش عن رجل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: غزوت مع رسول الله ثلاثاً، أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاثة:. . . الحديث". وإسناده صحيح. والله أعلم.

زراعةً فلا يجوز منع من أراد رعيها والشرب من مائها أو أراد أن يوقد ناراً، أما إذا كان في الدخول مَضرّة ولم يكن فاضلًا عن حاجته فهذا لا يجب بذل شيء منه، ولا شك أن ما كان مُضراً في بذله من الماء أو النبات فإنه لا يجب بذله ويجب إزالة الضرر، لكن إن كان يفضل عن حاجته والدخول مؤذٍ فهذا أيضًا لا يجوز بذله؛ بل يجب تمكين المحتاج إليه بلا ضرر.

القاعدة الخامسة والعشرون تستعمل القرعة عند التزاحم ولا مميز لأحدهما أو إذا علمنا أنا الشيء لأحدهما وجهلناه

القاعدة الخامسة والعشرون تُستعمل القُرعة عند التزاحم ولا مُميز لأحدهما أو إذا علمنا أنا الشيء لأحدهما وجهلناه القرعة جاءت الأدلة بمشروعيتها، وجمهور العلماء على مشروعيتها، وحُكي عن الأحناف أنهم لا يرون مشروعيتها وأنها نوع من القمار، ويمكن أنهم أنكروا نوعاً خاصاً من القرعة؛ لكنْ هناك نوعٌ من القرعة من البعيد إنكاره، وقد جاءت الأدلة بمشروعيتها، وقد صحت الأخبار الكثيرة عنه - عليه الصلاة والسلام - بمشروعيتها، وفي قوله تعالى في قصة يونس - عليه السلام -: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬1)، وفي قوله تعالى في قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} (¬2) وهذه القصص ساقها الله مساق الثناء، وشَرْعُ من قَبلنا إذا ساقه الله لنا مساق الثناء فإنه يكون شرعًا لنا كما هو قول الجمهور خلافاً للشافعى - رحمه الله -. وقد جاء عنه - عليه الصلاة والسلام -: "أنه إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه" (¬3)، وهذا في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 141. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 44. (¬3) أخرجه البخاري فى صحيحه في كتاب فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2/ 404)، باب حديث الإفك، ومسلم فى صحيحه فى كتاب الفضائل (7/ 138) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها. . فذكرته".

ومنها قصة أم العلاء فى صحيح البخاري قالت: طار لنا عثمان بن مظعون (¬1)، وجاء أيضاً في صحيح البخاري أن قوماً أسرعوا في اليمين فأمر - عليه الصلاة والسلام - أن يقرع بينهم (¬2). ومنها - أيضاً - في صحيح مسلم أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند وفاته، فأمر - عليه الصلاة والسلام - أن يقرع بينهم فَأرَقَّ اثنين وأعتق أربعة (¬3). ومنها - أيضاً - حديث أم سلمة في قصة الرجلين الذين اختصما في مواريث درست بينهما فأمرهما - عليه الصلاة والسلام - أن يقترعا وأن يتوخيا الحق، وأن يحلل كل منهما صاحبه (¬4). وجاء - أيضاً - أن رجلين اختصما في عين فأقرع بينهما - عليه الصلاة والسلام - (¬5)، وجاءت عدة أخبار في هذا ومن قال إنها نوع من القمار قول باطل، ولا يصح؛ بل هي من أعظم ما يُطيَّبُ به النفوس، ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في الجنائز (6/ 2575) (1234). (¬2) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الشهادات (5/ 285) مع الفتح، باب إذا تسارع قوم في اليمين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأيمان (3/ 1288) من حديث عمران بن حصين رضى الله عنه. (¬4) سبق تخريجه ص: 170. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه في باب الشهادات (10/ 4599) مع "العون" من طريق خِلاس عن أبى رافع عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلاً اختصما في متاع إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ليس لواحدٍ منهما بيّنة، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها". وإسناده صحيح. وجاء من طريق آخر عن أبى داود في سننه (10/ 3600) من طريق معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعاً بلفظ: "إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليه".

وهذا من محاسن الشرع. والقرعة كما قال أهل العلم تكون في الحقوق المتساوية، وتكون في تعيين الملك، أو تمييز المستحق للملك، أي الذي يملك هذا الشيء. وقولهم: في الحقوق المتساوية مثل لو تسابق اثنان إلى إمامة واتفقا في جميع الصفات ولم يكن لأحدهما ميزة على الآخر، في هذه الحال إذا لم يتنازل أحدهما للآخر فإننا نقرع بينهما ويقدم من قرَع، كذلك إذا تسابقا إلى فرجة في الصف فإنه يقرع بينهما ويقدم من قرع، وهذه تنبنى على مسألة الإيثار في القُرب، جماهير أهل العلم على أنه لا إيثار في القُرب، إنما فيها الاستئثار والمسابقة، وذكر بعض أهل العلم قاعدة في هذا وهي لا إيثار في القُرب (¬1)، وقد نازع بعضهم فيها وذكر آثاراً تدل على خلاف عمومها، وقد ذكر العلاّمة ابن القيم شيئاً منه، وذكر في المسألة تفصيلاً حسناً - رحمه الله تعالى -. وقولهم: وتكون في تعيين الملك مثل لو ادعى رجلان مالاً وليس هناك بيّنة، فهذه محل خلاف، وجاء في الحديث أنه يُقرع بينهما، وجاء في حديث آخر أنه - عليه الصلاة والسلام - جعلها بينهما نصفين. كذلك مسألة اللُّقَطة لو ادعاها اثنان وكل منهما ذكر أوصافها فإنه في هذه الحال يقرع بينهما. ¬

_ (¬1) راجع المسألة فى كتاب "طريق الهجرتين" و "زاد المعاد" لابن القيم - رحمه الله -.

القاعدة السادسة والعشرون يقبل قول الأمناء فى التصرف أو التلف ما لم يخالف العادة

القاعدة السادسة والعشرون يُقبَل قول الأُمناء فى التصرف أو التلف ما لم يخالف العادة هذه أشرنا إليها في مسألة الأمناء، فالأصل أن الأمناء يقبل قولهم كما سبق، مثل لو ادّعى الأمين أنه ردّ الأمانة قُيل قوله، وكذلك لو ادعى الوكيل أنه باع أو اشترى أو سلّم المال فإنه يُقبل قوله؛ لأنه أمين، ولأنه لو لم يقبل قوله ما أمكن عقد مثل هذه العقود، ولا تصلح أحوال الناس إلا بأن يقبل قوله فهذا هو الأصل ما لم تظهر خيانته، وهذا في جميع الأمناء. وقوله: "أوالتلف": أي لو ادّعى هذا الأمين أن المال تَلِف. وقوله: "ما لم يخالف العادة": هذه المسألة فيها خلاف، أي إذا ادعى الأمين أن الأمانة تلفت أو سرقت أو ضاعت فهذه فيها تفصيل، إن هلكت أو ضاعت مع ماله أو حصل نهب وسرقة عامة فهذا يقبل قوله بلا إشكال، لكن إن ادعى التلف أو السرقة من بين ماله، فهذه بعض أهل العلم على أنه لا يقبل قوله؛ لأن تلف الأمانة - دون سائر المال قرينة على أن تلفها بتفريط منه أو بغير ذلك مما يكون موضع تهمة؛ فلهذا يضمن هذه الأمانة.

القاعدة السابعة والعشرون من ترك المأمور لم يبرأ إلا بفعله، ومن فعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيان فهو معذور ولا يلزمه شيء

القاعدة السابعة والعشرون من ترك المأمور لم يبرأ إلا بفعله، ومن فعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيان فهو معذور ولا يلزمه شيء هذه القاعدة قال بها أهل العلم في الجملة لكن اختلفوا في تفريعاتها، والذي أشار إليه المصنف - رحمه الله - هو الذي ذهب إليه جمع من أهل العلم. فلو ترك ركناً من أركان الصلاة جاهلاً أو ناسياً فإنه يجب عليه أن يأتي به، وكذلك من ترك شرطاً من شروط الصلاة فإنه يجب عليه أن يأتى به، ولا يجوز له أن يؤدىِ الصلاة بغير شرطها، ولو وقعت بغير شرطها جهلاً أو نسياناً لم يخرج من عهدة المأمور إلا بفعله، فمن صلى بغير وضوء لا تصح صلاته لأنه مأمور بإيجاد الطهارة فيجب عليه أن يأتي بالمأمور، فلا يبرأ إلا بفعله، فإذا كان هذا من العذر ففى غير العذر من باب أولى، فيكون آثماً ولا تبرأ ذمته إلا بأن يأتى به، وهذا في جميع المأمورات في الشريعة. وقوله: "ومن فعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيان فهو معذور لا يلزمه شيء": لأن المطلوب هو ترك المحظور وعدم فعله، فإذا فعله فإنه يكون مخالفاً للنهي، وتبرأ ذمته إذا كان جاهلاً أو ناسياً فلا يكون آثماً، ومن كان غير آثم فإنه لا يُلزم بشيء ولا يُنسب إلى ذم لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬1). ويدخل تحت هذه القاعدة أشياء كثيرة دلت عليها الأدلة بمجموعها يتبين أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 286.

فعل المحظور جهلاً أو نسياناً لا شيء فيه ولا عتب عليه. ومن ذلك لو صلى وعليه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الانتهاء من الصلاة، فإن صلاته صحيحة ولا شيء عليه. كذلك في الحج لو تطيب ناسياً أو جاهلاً فإنه لا شيء عليه، كما هو قول جماهير أهل العلم، وكذلك لو قص شعره أو قلّم أظفاره ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه ولا إثم عليه، هذا هو الصحيح؛ لأن هذا الإتلاف لا قيمة له خلافاً لجماهير أهل العلم، واختاره ابن القيم - رحمه الله -، لكن لو قتل صيداً فإنه لا يعذر وعليه مثله إن كان له مثل؛ لأنه في حال قتل الصيد من باب ضمان المتلفات فلا يُشذّ عن القاعدة، هذا عن جمهور العلماء، وقال بعضهم: إن كان خطأ فلا شيء عليه؛ لظاهر الآية في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬1)، وجاء هذا عن عمر رضي الله عنه (¬2). وكذلك لو حلف أن لا يفعل هذا الشيء ففعله ناسياً فإنه لا شيء عليه، وكذلك على الصحيح لو حلف بالطلاق أو بالعتاق أن لا يفعل هذا الشيء ففعله ناسياً فإنه لا يقع هذا الطلاق، خلافاً لمن قال بوقوع الطلاق فيهما أو فرّق بين العتق والطلاق. . فالصواب كما قلنا أن من حلف بأن لا يفعل هذا الشيء ففعله ناسياً أو جاهلاً فإنه لا شيء. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية 95. (¬2) سبق تخريجه ص: 136.

القاعدة الثامنة والعشرون يقوم البدل مكان المبدل إذا تعذر المبدل منه

القاعدة الثامنة والعشرون يقوم البدل مكان المبْدَل إذا تعذر المُبدل منه هذا له أدلة منها قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬1) فأمر بالتيمم عند فقد الماء، فإذا تعذّر الأصل فإنه يجب القيام بالبدل في جميع الأشياء، كذلك في أنواع الكفارات من كفارات الظهار وكفارة الوطء في رمضان، فإذا لم يجد رقبة فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع يطعم ستين مسكيناً، كذلك في كفارة اليمين إذا لم يستطع العتق أو الإطعام أو الكسوة فإنه ينتقل إلى الصيام فيصوم ثلاثة أيام، لكن هل يقوم البدل مقام المبدل في كل شيء؟ من جهة براءة الذمّة لا شك أنه تبرأ ذمته، أما من جهة الأجر هل يستويان؟. هذا محل نظر، ذهب بعض أهل العلم إلى أنهما لا يستويان، وقالوا إن البدل ليس كالمبدل منه، ولو كان البدل مثل المبدل منه في الأجر وأنهما سواء لم يكن هنالك فرق بين فعل البدل والمبدل منه، ولم يكن شرط فعل البدل فَقْدُ المبدل منه، فيفهم منه أنهما لا يستويان، لكن بحسب مصلحتهما فلا تجعل التيمم كالوضوء، فالوضوء أفضل، ولا يُجعل الصوم كالعتق، فالعتق أفضل لأن نفعه متعدٍ ويترتب عليه تحرير رقبة مسلمة، وكذلك في أنواع المبدلات، وهذا ذكره الزركشى عن العز بن عبد السلام في قواعده، لكن يمكن أن يقال إن في هذا تفصيلاً: وأنه في بعض المواضع يكون كما سبق، وفي بعض المواضع قد يكون ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 43.

البدل مثل المبدل، فمثلاً في مسألة الكفارة إذا لم يجد رقبة فصام فلا شك أن الرقبة أفضل إذا لم يستطع، واستطاع غيره الذي عليه كفارة فالأصل أن من أتى بالكفارة أفضل لأن هذا وجدها والآخر لم يجدها، وهذا برأت ذمته بالصوم والعتق أفضل. وفي بعض الأشياء يقوم البدل مقام المبدل منه، وهو في حال العذر وعدم الاستطاعة أي إذا كان ليس من فعله وهو معذور من كل وجه، مثل عدم القدرة على الوضوء لمرضه أو لفقد الماء، فهذا جاء في السنة ما يدل على أن العبد إذا لم يستطع يكتب له أجر المستطيع، فمن لم يستطع فإنه يكتب له أجر من توضأ؛ لأنه ما منعه من الوضوء إلا عدم الاستطاعة، وإلا فإن نيته قائمة، وقد جاءت أدلة في إلحاق غير المستطيع بالمستطيع منها قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" (¬1)، وجاء في لفظ عند أحمد: "أنا حبست عبدي وأنا أُطْلِقُه"، وجاء عند البخاري من حديث أنس رضى الله عنه - أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير (2/ 2774) من حديث أبى موسى الأشعري رضى الله عنه. وعند أحمد: "أنا حبست عبدي وأنا أُطْلِقُه"وهذه الزيادة جاءت في مسند الإمام أحمد (5/ 6601) من طريق عاصم بن أبى النجود عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للمَلَك الوكّل به: اكتب مثل عمله إذ كان طليقاً حتى أُطْلِقه أو أكفته إليّ". وفيه عاصم بن أبى النجود وهو صدوق حسن الحديث لكنه سيء الحفظ، قال النسائى: ليس بحافظ، وقال الدارقطني: في حفظ عاصم شيء، وقال أحمد وأبو زرعة: ثقة، وقال عنه الذهبى في الميزان (2/ 357) قلت: هو حسن الحديث.

النبى - صلى الله عليه وسلم - كان في غزاة فقال: "إن أقواماً بالمدينة خَلْفَنَا، ما سَلَكْنَا شِعْبَاً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حَبَسَهُم العُذر" (¬1)، ففي هذه الحال جاء من السنة ما يدل على أن أجره كامل لأن نيته قائمة، ولا ينسب إلى تفريط بوجه من الوجوه، ثم هذه فيما يتعلق بأبواب العبادات، فالنية فيها تقوم مقام العمل وتلحق غير العامل بالعامل فلهذا يكون كمن أدى المبدل من كل وجه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الجهاد (2/ 33)، باب: من حبسه العُذر عن الغزو، من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه. وله شاهد بمعناه من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه عند مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد (6/ 49) ولفظه مرفوعاً: "كنا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: "إن بالمدينة رجالاً ما سِرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا وكانوا معكم، حبسهم العُذر".

القاعدة التاسعة والعشرون يجب تقييد اللفظ بملحقاته من وصف أو شرط أو استثناء أو غيرها من القيود

القاعدة التاسعة والعشرون يجب تقييد اللفظ بملحقاته من وصف أو شرط أو استثناء أو غيرها من القيود هذه واضحة في لغة العرب كما أشار المصنف - رحمه الله -، كبدل أو توكيد أو ما أشبه ذلك مما هو لاحق باللفظ، وهذا جار في مخاطبات الناس ومعاملاتهم، كما هو جار في سائر العقود وفي الوقوف والوصايا. في مسألة الوقف يقول المصنف "يجب تقيد اللفظ بملحقاته من وصف": فإذا وقف الإنسان وقفاً قال: هذه الدار أو هذا البيت وقف على الفقهاء، هذا وصف يشمل أهل الفقه وأهل العلم بالكتاب والسنة، فلا يدخل فيه من ليس فقيهاً، أو وقفته على الفقراء يكون خاصاً بالفقراء كل من كان فقيراً قريباً للموقف أم بعيداً يدخل فيه، أو قال وقفته على المحتاجين أو ما أشبه ذلك، فهذا وصف يجب تقييد اللفظ به، وكذلك أيضاً في الصفة يجب الالتزام بها سواء كانت صفة متقدمة أم متأخرة، فلو قال: هذا البيت وقفٌ على محتاجي أولادي وأولاد أولادي. هذه صفة متقدمة يجب أن يكون الوقف خاصاً بالمحتاج من أولاده وأولاد أولاده، ومن لم يكن محتاجاً فلا يدخل في الوقف، ولو كانت الصفة متأخرة فقال: وقفته على أولادي وأولاد أولادي المحتاج منهم، أو كانت متوسطة، فلو قال: وقفته على أولادي المحتاجين وأولاد أولادي، فالتقييد بصفة الحاجة لأولاده من صلبه، ثم يجب التساوي في الوقف واشتراكهم جميعاً؛ لأن الواو تقتضي المشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا قاله: أولادي وأولاد أولادي

اقتضت المشاركة لا الترتيب، أما إذا أتى بثم فقال: وقفته على أولادي ثم أولاد أولادي، هذه تقتضي الترتيب، ويجب تقييد اللفظ بما دل عليه كلام المُوقِف فلا يكون لأولاد البطن الثاني شيء حتى ينقرض أولاد البطن الأول، وهذه المسألة فيها خلاف، ومذهب كثير من أهل العلم يقولون إنه لا يستحق أولاد البطن الثاني حتى ينقرض أولاد البطن الأول، وقالوا إنه ترتيب بطن على بطن، أو ترتيب جملة على جملة. فإذا وقف إنسان هذا البيت أو هذا البستان على أولاده وهم أربعة ذكور وإناث أو ذكور أو إناث، فلا يستحق أولاد البطن الثانى شيئاً أي أولاد الأولاد حتى ينقرض أبناء البطن الأول، ولو لم يبقَ إلا واحد، فإذا كان له أربعة أولاد فتوفوا إلاّ واحداً ولهم أولاد فإن أولادهم لا يستحقون شيئًا حتى ينقرض البطن الأول أي حتى يتوفى الرابع، وذهب تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - إلى أنه ترتيب فرد على فرد، فإذا توفى مثلا رجل من البطن الأول فإن نصيبه يكون وقفا على أولاده. وهذا فيه خلاف: هل هم يتلقون الوقف عن الواقف؟ أم يتلقونه عن الموقوف عليهم؟: المذهب وقول الكثيرين: أنهم يتلقون الوقف عن الموقوف عليهم، وقال آخرون: إنهم يتلقون الوقف عن الواقف. وكل هذه المسائل خلافية، وكذلك مسألة أولاد البنات هل يدخلون عند الإطلاق أم لا يدخلون؟، إلى غير ذلك. أما مسألة الوقف على الأولاد فإن بعض أهل العلم يرى عدم صحته، وقالوا:

إن هذا وقف جَنَف ووقف إثم ويجب إبطاله. وجماهير أهل العلم على صحة مثل هذا الوقف، وأن الإنسان يجوز له أن يقف على أولاده وأولاد أولاده، واختار إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عدم صحة مثل هذا الوقف وسماه وقف الجنف والإثم، وتبعه بعض أحفاده من أئمة الدعوة - رحمهم الله - وأبطلوا كثيراً من الوقوف التي فيها وقف على الأولاد، وقالوا: إن هذا وقف جنف وإثم، وهو وصية لوارث وفيه حرمان لغير الاولاد إذا كان له أب أو جد أو أم أو جدة أو كان له زوجة فإن في هذا حرمان لهؤلاء، ثم فيه - أيضاً - منع لهم من التصرف في هذا الوقف والله سبحانه وتعالى جعله لهم يتصرفون فيه بالبيع والشراء فقد يكون حيلة على حرمان بعض الورثة؛ فلأجل هذه العلل أبطلوا مثل هذا الوقف، المقصود أنه يجب تقييده بما دل عليه من وصف أو شرط. وقوله: "أو شرط": أي لو وقف هذه الدار فقال هي وقف على زيد وعمرو، لزيد الثلث، ولعمرو الثلثان، فإنه يجب التقيد بما دلّ عليه لفظ الموقف. وقولع: "أو استثناء": فلو قال وقفت على أولاد فلان إلا فلاناً، أوقفت على أولاد فلان إلا الفاسق منهم، أوقفت على أولاد فلان إلا من استغنى منهم. . إلى غير ذلك. ومنها أيضاً التوكيد، فلو قال: أوقفت على أولاد فلان، فهذا يحتمل أنه أراد أولاده من صلبه، وأولاد أولاده، ويحتمل أنه أراد أولاده من صلبه دون أولاد أولاده؛ فإذا قال: أوقفت على أولاد زيد نفسه فإن الوقف يكون لأولاد زيد من

صلبه دون أولاد أولاده، لأن التوكيد يُخرِج ما أوهم دخوله فيه، وكذلك - أيضاً - في البدل لو قال: أوقفت على أولاد محمد: عبد الله، وصالح، وأحمد، وكان له أربعة أولاد وله ولد آخر اسمه زيد، العبارة الأولى على أولاد فلان يعم أولاده جميعهم، ولكن لما ذكر عبد الله وصالح وأحمد هذا بدل بعض من كل فلا يكون أراد زيداً إنما أراد بعض أولاده، فإذا قال مثلاً: وأولادهم يكون عطفاً على الأول فيدخل في الوقف أولاده الثلاثة وأولاد أولاد الأربعة، يعنى يدخل فيه عبد الله وصالح وأحمد ولا يدخل فيه زيد، أما أولادهم فيدخل فيه أولاد الأربعة لأنه في أولادهم لم يقيّدها كما قيّده في أولاده من صلبه. وهكذا مثلاً في العطف: في عطف البيان، لو قال وقفت على ولد زيد أبي محمد وله ولدان كلاهما يقال له أبو محمد لو وقفنا على هذا قلنا إنه يريد الاثنين جميعاً، لكن لو قال ولد أبى محمد عبد الله يكون عطف بيان أنه أراد واحداً منهم وهو من يسمى عبد الله، أما الآخر فلم يدخل في الوقف، فالمقصود أنه يقيد اللفظ بما يلحقه مما يبين مراد الموقِف وهذا كله واضح عند تجرد اللفظ عن القرائن، أما إذا دلت القرائن على أنه أراد العموم أو أراد إدخال إنسان آخر ولم يُذكر صراحة لكن دلت القرائن والعرف والعادة، أو لأن هذا لفظهم وهو منطقهم فإنه يدخل لأن العبرة في مثل هذا بما يقصده الموقف وما يريده، وما دلت عليه القرائن وكل هذا عند التجرد وإلا فإن الموقف قد لا يكون له غرض ولا يكون له معرفة بهذه الدلالات من جهة الاستثناء والبدل والتوكيد وما أشبه ذلك، فإذا دلّت القرائن على ذلك أو ظهر من عادة أهل البلد أو الموقفين أنه لا يريد مثل هذه الأشياء فلا يلتفت إلى هذه التقييدات اللفظية التي تخالف قصود الموقفين، بل قد يقول بعض

الموقفين أوقفت على أولاد فلان ويكون كما هو جار أنهم يريدون بالأولاد الذكور مع أنه في كتاب الله وفي اللغة يشمل الذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1)، لكن إذا ظهرت دلالات على إرادة شيءٍ خاصٍ عمل به، فهذا شرط لابد منه في عقود المتعاقدين. وهنالك - أيضاً - شرط آخر وهو ألاّ يكون هذا العقد مخالفاً لكتاب الله، فلو شرط بعض الشروط وقيد بعض القيود التي هي تخالف كتاب الله لا يلتفت إليها، فلو أنه وقف وقفاً لمن يصلي عند المقبرة، أو لمن يختم القرآن كل شهر عند القبر الفلاني، أو وقف هذا الوقف لمن هو على مذهب أحمد، أما من كان على مذهب الشافعي وأبي حنيفة فلا يعطى من الوقف، فهذه الأوقاف وإن صححها بعض العلماء لكنها أوقاف تخالف النصوص؛ لأن مثل هذه لا اعتبار لها، ولا يُلتزم بها، فإذا لابد من الانتباه إلى مثل هذا، وأن يشترط ألا يكون مخالفاً لكتاب الله بل هو موافق أو غير مخالف، وكذلك في ألفاظ الموقفين أن يكون قصد إلى هذا التقييد فلو جهلنا الأمر أو لم يكن هناك عُرف ولا عادة في هذه الحالة نحمل اللفظ على ظاهره من كلام الموقف لأن هذا هو اليقين. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 11.

القاعدة الثلاثون الشركاء في الأملاك يشتركون في زيادتها ونقصانها، ويشتركون في التعمير اللازم، وتقسط المصاريف بحسب ملكهم، ومع الجهل بمقدار ما لكل منهم يتساوون

القاعدة الثلاثون الشركاء في الأملاك يشتركون في زيادتها ونقصانها، ويشتركون في التعمير اللازم، وتُقسَّط المصاريف بحسب مِلكِهم، ومع الجهل بمقدار ما لكل منهم يتساوون هذه القاعدة واضحة، وهي في الذين يشتركون في الأملاك في البيوت وفي البساتين، هؤلاء يشتركون في الزيادة والنقصان، وكذلك الذين يشتركون في شركة بينهم في بيع وشراء فهم شركاء في الزيادة والنقص، فإذا حصل زيادة في هذا البستان، ولأحدهم الثلث وللآخر الثلثان فالزيادة لكل واحد من المشتركين بحسب نصيبه من الشركة، أو شركاء في بيت وصار هذا البيت لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان أو الربع، فلكل منهم من الزيادة بحسب نصيبه في الملك، وكذلك بالتعمير اللازم لو أنهم اشتركوا في بيت فاحتاج إلى التعمير وخشي من سقوطه وسقوط جدرانه، فأراد أحدهما أن يعيد بناء جدرانه، وأن يبنيه لزم الآخر المشاركة في التكاليف المترتبة على البناء، فإذا أراد إعادة بناء هذا الجدار الذي يُخشى عليه من السقوط مثلاً أو سقط بالفعل فإنه يشاركه فيه، أو كان هنالك جاران مشتركان في الجدار الذي بينهم وليسا مشتركين في نفس الملك إنما الاشتراك في الجدار هم بَنَوْهُ جميعاً واشتركا، فيه فسقط الجدار مثلًا فإنه يلزمه أن يشترك معه وأن يقوم بنصيبه من التكاليف لإعادة إعمار هذا الجدار، وقال بعضهم إن المباناة في الجدار لا تلزم؛ لأن هذا ضرر والضرر لا يزاله بالضرر، لكن عدم المباناة يترتب عليه ضرر أكبر من كشف أحدهم الآخر والتطلع إلى محارم الآخر، لكن إذا كان هذا الجدار لا تأثير له ولا مضرة له إنما هو زيادة والاستتار حاصل بدونه

ولا يحصل مضرة لأحدهما على الآخر، فهذا يمكن أن يقال إنه لا يلزمهم فمن أراد أن يعيد البناء له ذلك ولا يجبر الآخر على مشاركته في البناء، وليس له أن يمنعه إذا أراد أن يعيده، وكذلك إذا كان بينهم جدار مشتركون فيه فأراد أن يضع له سقفاً على هذا الجدار ويضع عليه العمد والخشب فلا يمنع الآخر، لكن بشرط أن لا يكون فيه ضرر، وأن يكون عن طريق الاستئذان. وقوله: "وتسقط المصاريف عليهم بحسب ملكهم": فإذا كان عندهم هذا البستان وله تكاليف من عمال وغيره ولأحدهما الثلث وللآخر الثلثان فهم مشتركون في التكاليف بحسب ملكهم، ومن امتنع أجبر على ذلك، ولا يجوز له أن يمتنع من ذلك. وقوله: "ومع الجهل بمقدار ما لكل منهم يتساوون": لأن مع الجهل بنصيب كل منهم، فالأصل أن الشركة تقتضي المساواة، هذا هو العدل إذا جهلنا، ولا فرق بين الأملاك الحرة والموقوفة، فإذا كان هذا البستان موقوفاً عليهم واحتاج هذا البستان إلى عمارة فإنه يلزم الموقوف عليهم بإصلاحه، وذلك لانتفاعهم جميعاً به.

القاعدة الحادية والثلاثون قد تتبعض الأحكام بحسب تفاوت أسبابها

القاعدة الحادية والثلاثون قد تتبعّض الأحكام بحسب تفاوت أسبابها هذه القاعدة لها مسائل كثيرة في أبواب الفقه، ومما يدل عليها ما جاء في حديث عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت: اختصم سعد وابن زمعة فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجي منه يا سودة (¬1) ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد. فأعمل - عليه الصلاة والسلام - بعض الأحكام من جهة النسب وجعله أخاها، وأنه يرثها وترثه، لكن لم يجعله أخاها في المحرمية، ولم يجعله لعتبة أخى سعد لأنه عَاهَرَهَا، ولأن الأمةَ أمة زمعة فالولد للفراش وإن كانت عاهرة مع عتبة وزنت، وهذا الابن يشبه عتبة، ومع هذا لم يلتفت - عليه الصلاة والسلام - إلى هذا الشبه وأعمل الفراش وقال: " الولد للفراش "، فأخذ من هذا الحديث تبعض الأحكام، ومنه - أيضاً - البنت من الرضاع تتبعض أحكامها فليست ترث ولا تجب لها النفقة لكنها بنت في التحريم والمحرمية فتحرم على أبيها، وفي المحرمية فهو محرم لها. وهذا - أيضاً - على قول الجمهور في البنت من الزنا فإنها تحرم على الزاني ولا يجوز أن يتزوجها فتتبعض أحكامها، ومنه - أيضاً - ما جاء في السرقة، فالسرقة لا تثبت إلا بالإقرار على الخلاف، هل هو بالإقرار مرة أم مرتين؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحدود، باب العاهر بالحجر (3/ 817)، وأخرجه مسلم في صحيحه فى كتاب الرضاع برقم (1457) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها به. . . فذكرته".

وكذلك ثبوتها بشاهدين، فلو أن إنساناً ادّعى أن فلاناً سرق منه وليس عنده إلا شاهدٌ واحدٌ وحلف مع هذا الشاهد، نقول إن ادّعاء السرقة على إنسان ولم يكتمل نصاب الشهادة يثبت المال، وعلى من اتهم بالسرقة تسليم المال لثبوته بالبينة لأن المال يثبت بالشاهد واليمين كما قضى - عليه الصلاة والسلام - بالشاهد واليمين، أما قطع اليد فلا يثبت إلا بشاهدين، فتتبعض الأحكام. وكذلك لو ادّعى رجل على امرأة أنه خالعها بشيء من المال، وأتى بشاهد وحلف مع الشاهد - والخلع لا يثبت إلا بشاهدين - نقول في هذه الحال يثبت المال وعليها أن تسلم المال وتَبينُ منه امرأته لإقراره. لكن لو ادّعته المرأة أي ادّعت الخلع على الرجل وليس عندها إلا شاهد وقالت أحلف مع هذا الشاهد، نقول لا يثبت الخلع في هذه الحال؛ لأنها لا تدعي مالاً بل تدعي خلعاً، والخلع لا يثبت إلا بشاهدين، فوجوده كعدمه فلا تَبينُ منه امرأته. كذلك ما أشار إليه الشارح - رحمه الله - أن الولد يتبع أباه في النسب ويتبع أمه في الحرية والرق، فلو أن رجلاً تزوج أمة مملوكة فإن أولادها يكونون مملوكين لسيدها هي فيتبعون أمهم في الرق والحرية، ويتبع في الدين خير أبويه، فلو أن مسلماً تزوج امرأة من أهل الكتاب فإن الولد يتبع أباه فيكون مسلماً، وكذلك في النجاسة وتحريم الأكل، فالمولود بين حيوانين أحدهما طاهر والآخر نجس نحكم بنجاسته، أو أحدهما محرم الأكل والآخر حلال فنحكم بتحريم الأكل، فالبغل المولود بين الحمار والفرس نحكم بتحريم أكله أي يتبع شرهما

وأخبثهما في النجاسة والتحريم، فإذا كان أحد أبويه نجسًا كان نجسًا، أو كان أحد أبويه محرمًا الأكل كان محرم الأكل.

القاعدة الثانية والثلاثون من أدى عن غيره واجبا بنية الرجوع عليه؛ رجع وإلا فلا

القاعدة الثانية والثلاثون من أدّى عن غيره واجبًا بنية الرجوع عليه؛ رجع وإلا فلا هذه القاعدة ترجع إلى مسألة النية، وأن العبرة بهذا في النية، فمن أدى عن غيره واجبًا ونوى عدم الرجوع فإنه لا يرجع. مثاله: لو كان لإنسان على إنسان دين فتبرع إنسان بقضاء الدين ولم ينو الرجوع، وبعد السداد نوى الرجوع فجاء لمن سدد عنه وقال أريد أن تقضي لي هذا الدين الذي قضيتُه عنك، فإذا ادّعى نية الرجوع صُدّق، وإذا لم ينو الرجوع عند السداد أو اعترف أنه حال السداد ما نوى، لكنه نوى بعد ذلك، فنقول لا شيء لك، لأن هذا أشبه بالتبرع عن الغير، ولا يجوز لك في هذه الحال الرجوع فيها لأنك أخرجته لله، فلا تأخذ عليه بعد ذلك عوضًا، هذا كله عند رضاء المدين، ولو لم يرض المدين بأن يسدد عنه الدين فإذا لم يرض فإنه يجبر على قبول ذلك، هذه هي الحالة الأولى. الحالة الثانية: إذا كان قضى الدين وقد ضمن الدين عنه قال أنا أضمن عنك قضاء الدين للدائن فضمن بإذنه وقضى الدين بإذنه، وفيها أحوال: الحالة الأولى: أن يضمن الدين بإذن المدين، وأن يقضي بإذن المدين يعنى هو ضمن بإذنه، وقضى بإذنه، لما قضى قال: أنا سوف أقضى عنك وأريد أن تأذن لي في القضاء، إذا ضمن بإذنه وقضى بإذنه فإنه يرجع بلا خلاف وعلى المدين

الوفاء بما قضاه عنه الضامن. الحالة الثانية: أن يضمن بغير إذنه ويقضي الدين بغير إذنه، في هذه الحال لا يرجع إلا أن ينوي. الحالة الثالثة: أن يضمن بإذنه ويقضي بدون إذنه فيضمن المدين إن كان نوى الرجوع. الحالة الرابعة: أن يضمن بغير إذنه ويقضي بإذنه فيرجع إن نوى. فالمدار في هذه الأحوال على النية، فإذا ادّعاه صُدِّق في هذا، هذا في من أدى عن غيره واجبًا، ويشترط في هذا الواجب أن لا يحتاج إلى نية، أما إذا كان الواجب يحتاج إلى نية، كالزكاة مثلاً أو الكفارات، فلو أدى إنسان عن غيره زكاة ماله وهو يعلم قدر زكاته ثم جاء إليه وقال له إننى أدّيتُ عنك زكاة مالك وهو لم يستأذنه، في هذه الحال لا يصح أداء الزكاة عنه ولا يجزئ؛ لأن هذا الدين دين لله وحق للفقراء فهذا يحتاج إلى نية. وكذلك لو أدّى إنسان عن غيره كفارة اليمين أو كفارة الوطء في رمضان أو كفارة الظهار أو كفار القتل خطأً، فإنه في هذه الحالة لا يصح؛ لأنه يحتاج إلى نية، فعليه أن يؤدي الكفارة والزكاة مرة ثانية إذا كان لم يأذن له.

القاعدة الثالثة والثلاثون إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى منها، فيقدم الواجب على المستحب، والراجح من الأمرين على المرجوح، وإذا تزاحمت المفاسد واضطر إلى واحد منها قدم الأخف منها

القاعدة الثالثة والثلاثون إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى منها، فيقدم الواجب على المستحب، والراجح من الأمرين على المرجوح، وإذا تزاحمت المفاسد واضطر إلى واحد منها قدّم الأخف منها هذه القاعدة سبق الكلام عليها في قاعدة سبقت، فيقدّم الواجب على المستحب في مسألة إذا حضرت الصلاة المكتوبة فإنه يجب عليه أن يبدأ بها ولا يصلي الراتبة أو تحية المسجد كما سبق. والراجح من الأمرين على المرجوح: وهذا له أمثلة كثيرة سبق الكلام عليها - أيضًا -. وإذا تزاحمت المفاسد واضطر إلى واحد منها قدّم الأخف منها: كما سبق - أيضًا - فترتكب أخف المفسدتين وتترك أعلى المفسدتين، كما في مسألة المصالح إذا تزاحمت فإنه يقدم أعلى المصلحتين عكس المفاسد، وهذا كله إذا لم يمكن الجمع بينهما في باب المصالح أو واجباتها في باب المفاسد وحيث أمكن ذلك كان العمل عليه.

القاعدة الرابعة والثلاثون إذا خير العبد بين شيئين فأكثر فإن كان التخيير لمصلحته فهو تخيير يرجع إلى شهوته واختياره، وإن كان لمصلحة الغير فهو تغيير يلزمه فيه الاجتهاد

القاعدة الرابعة والثلاثون إذا خُيِّر العبد بين شيئين فأكثر فإن كان التخيير لمصلحته فهو تخيير يرجع إلى شهوته واختياره، وإن كان لمصلحة الغير فهو تغيير يلزمه فيه الاجتهاد هذه القاعدة تجري في مسائل، التخيير قد يرجع لمصلحة الإنسان، وقد يرجع إلى مصلحة غيره، إن كان يرجع إلى مصلحته هو فالأولى له اختيار الأفضل والأعلى لكن لا يلزمه ذلك، فإذا اختار أحد الأمرين فله ذلك؛ لأنه يرجع إلى شهوته هو، ولا يُلزم بأن يختار شيئًا معينًا، لكن إذا كان الذي خُيّر فيه في اختيار بعضه مصالح أعلى فاختار الأعلى كان أفضل، وهذا يكون في المسائل التي فيها التخيير، مثل كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، في هذه الحال يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة حسب ما يشتهى باختيار الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، فإذا اختار مثلًا العتق وتيسر له ذلك وكان قادرًا عليه لا شك أن نفعه وأجره أعظم، فهذا تخيير في كفارة اليمين، فإن لم يجد فيصوم ثلاثة أيام فجمعت التخيير والترتيب، لكن البحث في الشق الأول وهو التخيير المتعلق بالقاعدة، وكذلك في كفارة الأذى في الحج فدية من صيام أو صدقة أو نسك، جاء في الحديث (¬1) تفسيرها، فالصيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، فيخير بين هذه الأشياء الثلاثة، فإذا أراق الدم كان أفضل وأولى، لما فيه من التقرب؛ لأنه من جهة كونه عبادة مالية أفضل من إطعام ستة مساكين، وفيه أيضًا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى بنحر هذا القربان وإراقة الدم فهو أفضل لكن هو ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 136.

يرجع إلى اختياره وشهوته، فله أن يختار هذا أو يختار هذا أو يختار هذا، حتى ولو كان قادرًا على الأعلى، وهكذا في مسائل أخرى أشار إليها المصنف - رحمه الله - في كلامه، وهذا هو الأصل كما قلنا أنه تخيير يرجع إلى شهوته واختياره لأنه لمصلحته هو. أما إذا كان لمصلحة غيره فيجب عليه أن يختار الأصلح، ومن هذا قول العلماء: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة فيجب عليه أن يختار الأصلح في هذا؛ لأنه تصرف يتعلق بالغير، فما كان تصرفًا متعلقًا بالغير فيجب أن يختار الأولى والأصلح، فإذا كان هناك أمران أحدهما أنفع وأصلح وجب عليه أن يختار الأصلح، فإذا كان إنسان وليًا ليتيمٍ وأراد أن يبيع له أو أن يتصرف له في ماله بأن يشتري له أرضًا مثلًا حتى يتكسب من ورائها فيشتري بماله فإنه ينظر فى الأصلح، هل الأصلح شراء الأرض له وحفظها له؟ أم الأصلح إبقاء ماله؟؛ لأنه إذا اشْتُرِيَت الأرض ينقص ماله ويضر عليه في نفقته، ويحتاج إلى نفقة أو شراء أرض قد لا يكون فيها مصلحة، أو أن شراء هذه الأرض ليس مناسبًا لهذا اليتيم، أو أنها في مكان لا يناسب، أو أراد أن يشتري له بيتًا مثلًا وليس من الأصلح شراء البيت له، فالأولى له إذا كان الأصلح شراء الأرض فإنه يشتري الأرض، وإذا كان الأصلح شراء البيت اشترى له البيت، وإذا كان الأصلح عدم الشراء فإنه لا يشتري، وإن كان في كليهما مصلحة لكن إبقاء المال أعلى مصلحة ليجعله في مشروع آخر فإنه يقدِّم المصلحة الأعلى، وهذا يتبين بالتأمل والنظر في الأمثلة.

أيضًا في المسألة الأولى إذا كان التخيير لمصلحته هو ما أشار إليه المصنف - رحمه الله - في كلامه في مسألة الدية، قال: إنه مخير أن يخرج مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، أو ألفى شاة، أو ألف دينار، أو اثنى عشر ألف درهم، أو ألفي حُلَّة، هذا التخيير مثل ما أشار إليه الشارح - رحمه الله - إن قيل إن هذه كلها أصول في باب الديات أي الإبل والبقر والدراهم والحلي فهو مخير، وإن كانت ليست أصولًا بل هي أبدال من الإبل وهذا هو الصحيح أي أنها ليست أصولًا بل هي قِيَمٌ لها إذا لم توجد أو لسبب من الأسباب وإلا فالأصل هو وجوب الإبل، فإذا جُعِلَت أبدالًا لها لأي سبب من الأسباب فإنه في هذه الحال يقضي الدية من مبدلاتها، فإن قيل إنها أصول فإنها تدخل في هذه القاعدة، وإن لم يقل إنها أصول فإنها لا تدخل في هذه القاعدة.

القاعدة الخامسة والثلاثون من سقطت عنه العقوبة لموجب ضعف عليه الضمان

القاعدة الخامسة والثلاثون من سقطت عنه العقوبة لموجِب ضُعِّفَ عليه الضمان هذه القاعدة مأخوذة من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عند أبي داود والترمذي وله شاهد آخر، وهو أنه - عليه الصلاة والسلام - قال في مسألة سرقة الثمار: "من أكل بغيه من ذي حاجة غير متخذ خُبنَة فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة" (¬1)، أي إذا مرَّ بالبستان وهو محتاج فأكل منه فلا بأس بذلك، وهذا على شروط ذكرها أهل العلم في مسألة جواز الأخذ من عدمه، فإذا أخذ من رؤوس النخل شيئًا قبل أن يُحرَز وقبل أن يوضع في البيدر فإن عليه غرامة مثليه أي قيمته مرتين والعقوبة أن يُجلد لأجل سرقته، وإن أخذ منه بعد أن وُضع الحِزر فعليه القطع. وكذلك لو أخذ منه والنخل في البيت لأنه في هذه الحال مُحرز وإن كان في رؤوس النخل فإنه في هذه الحال تقطع يده أيضًا لأنه محرز. أما إذا كان غير محرز أي في بستان مفتوح أو في البرية مثلًا فهذا لا يكون حرزه رؤوس النخل، إنما حرزه في البيدر في المكان الذي يجمع فيه ويحفظ فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الحدود برقم (4390)، والنسائي في سننه (2/ 260)، والترمذي في سننه (1/ 242 - 243) وقال عقب سياقه: "هذا حديث حسن" من طريق محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله عنهما به فذكره" وسنده حسن.

وهذه المسائل فيها خلاف، هل يلحق بالنخل سائر أنواع الثمار؟، وهل يلحق به مثلًا من سرق من الحرز ولم يبلغ المسروق نصابًا؟. ومنه - أيضًا - في غير باب السرقة، من سقط عنه وجوب القَوَد لكونه قتل نفسًا، فإذا قتل المسلم ذمِّياً وسقط عنه القَوَد لكونهما لا يتكافآن فإنه يغرّم العقوبة مثليه، فنقول في هذه الحال يجب عليه ديتان من دية أهل الذمة، ودية الذمي نصف دية المسلم والدِّيتان تعادل دية المسلم، لأن عقل أهل الكتاب مثل نصف عقل المسلمين، ومسألة مضاعفة العقوبة هذا على مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - أما على قول الجمهور فلا تضعيف.

القاعدة السادسة والثلاثون من أتلف شيئا لينتفع به ضمنه، وإن كان لمضرته فلا ضمان عليه

القاعدة السادسة والثلاثون من أتلف شيئًا لينتفع به ضمنه، وإن كان لمضرته فلا ضمان عليه هذه القاعدة دلت عليها أدلة من قواعد الشرع الأخرى، ولها أدلة عامة، وهذا من العدل أن من أتلف شيئًا لينتفع به فعليه الضمان، وإن كان لمضرته فلا ضمان عليه، وهو حينما ينتفع به قد يحصل له دفع أذى وانتفاع جميعًا، أي ليس المراد أن يحصل له نفع بدون دفع أذى فقد يتلازمان. ومن أمثلة هذا الباب: لو صال عليه صيد في الحرم، والصيد في الحرم مضمون بمثله أو بقيمته، أو يقدر بصيام، فالمقصود أنه مضمون بمثله، فيشترى بقيمته طعامًا لكل مسكين نصف صاع بقدر قيمته، أو يصوم أيامًا بعدد المساكين الذين يطعمهم، وإذا لم يطعم فهو مخير بين هذه الأشياء على خلاف في تفاصيل هذه المسألة، فالصيد في الحرم مضمون لكن إذا صال عليه حيوان لا يجوز قتله ولو كان مضمونًا في أصله، فإن كان الاعتداء من جانب هذا الحيوان فقتله فلا ضمان عليه؛ لأنه لدفع الأذى، ولأن المؤذيات تقتل ولا ضمان فيها. وإن كان قتل هذا الحيوان ليأكله لمخمصة ولم يعتدِ عليه فإنه يضمن. ومنها - أيضًا - المُحرِم إذا أصابه أذى في رأسه فأراد أن يحلق رأسه لدفع الأذى في هذه الحال حلق الشعر هل هو لدفع الأذى أم لتحصيل المنفعة؟، أي لَمَّا

حلق رأسه هل هو حلقه لينتفع بحلق الشعر أو لدفع أذى الشعر؟ فهل الاذى من الشعر أم من غير الشعر؟ الأذى من غير الشعر، والقاعدة عندنا أنه إذا كان للانتفاع ففيه الكفارة، وإن كان لدفع الأذى فلا كفارة، في هذه الحالة إذا حلق المحرم رأسه هل عليه كفارة؟ أم ليس عليه كفارة؟. عليه كفارة؛ لأنه في حلق الشعر يكون منتفعًا من جهة دفع الأذى الذي حصل من غير الشعر، وهذا مثل ما جاء في قصة كعب بن عُجرة لما قال له - عليه الصلاة والسلام -: "أيوذيك هوام رأسك؟ "، قال: قلت: نعم، قال - عليه الصلاة والسلام -: "احلق رأسك". في هذه القصة هل الأذى من القمل أم من الشعر؟ الأذى من القمل، لكن لا يمكن إزالة القمل إلا بحلق الشعر، فكأنَّ القمل جعل الشعر محلًا لدفع الأذى فلذلك حُلِق وفُدِي لأنه ليس منه أذى (¬1). ولهذا إذا كان القمل يسيرًا فأزاله بدون حلق الشعر فلا فدية عليه، ولا يجوز له أن يحلق رأسه في هذه الحال؛ لأنه يستطيع أن يزيل القمل بدون الحلق فلا يحلق، لكن إذا كان لا يمكن إزالة الأذى إلا بالحلق فإنه يحلق ويكفِّر، والكفارة صيام ثلالة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 134 - 135.

القاعدة السابعة والثلاثون إذا اختلف المتعاملان في شيء من متعلقات المعاملة يرجع أقواهما دليلا

القاعدة السابعة والثلاثون إذا اختلف المتعاملان في شيء من متعلقات المعاملة يرجع أقواهما دليلًا في هذه القاعدة أنه إذا تبايعا سلعة واختلفا في شرط من الشروط، فإنه في هذه الحال يختلف الترجيح، منها ما يرجَّح به قول البائع، ومنها ما يرجّح به قول المشتري بحسب القرائن والأصول، فإذا قال المشتري إن الثمن مؤجل فإننا نقول: القول قول النافي؛ لأن الأصل هو الحلول وعدم التأجيل، أو اشترط البائع الرهن بالثمن، فإن القول قول النافي؛ لأن العقود في الغالب تكون مع هذه الشروط وتكون بعدمها وهي صحيحة بدونها، فإذا ادّعى زيادة على أصل العقد الذي تم البيع به بالتفرق أو إسقاط الخيار على القول بسقوطه، ولو كان في المجلس فإنه قي هذه الحال من ادّعى زيادة عليه فعليه البينة التى تثبت ذلك. وهذه المسائل فيها خلاف، فبعض أهل العلم قال إن القول قول النافي كما سبق، وبعضهم قال إن القول قول المشتري، لكن في المسألة التى أشرنا إليها أن القول قول النافي هذا هو الأصح، هذه هي المسألة الأولى في هذه القاعدة. المسألة الثانية: إذا تبايعا وتم العقد وادّعى أحد المتبايعين شرطًا فاسدًا، أو ادّعى فساد العقد بشرط من الشروط بجهالة في الثمن أو ادعى فساده بوجه من الوجوه التى لا تثبت أن قوله لا يقبل، وبهذا قال جماهير أهل العلم بعدم صحته، فإذا ادعى أحدهما فساد العقد بسبب من الأسباب فالقول قول مدّعى الصحة، فإذا قال المشتري مثلًا إن العقد غير صحيح لأن الخيار مجهول أو ما أشبه ذلك، مما

يفسد العقد وقال البائع ليس عندنا خيار مجهول، بل العقد تام وصحيح، وليس فيه من الشروط الفاسدة، نقول القول قول البائع. أو بالعكس إذا ادعى البائع فساد العقد وقال المشتري بل العقد صحيح وتام، وليس فيه أي مفسد، نقول القول قول المشتري لأنه مدعي الصحة وليس لأنه المشتري؛ لأن الأصل في عقود المسلمين الصحة، فمن ادعى خلاف ذلك نقول عليك بالبينة التي تثبت ذلك. المسألة الثالثة: إذا اختلف المتعاملان في النقد، فقال بعضهم نحن تبايعنا بالريالات المتعامل بها، وقال الثاني: تبايعنا بالدنانير، في هذه الحالة نقول القول قول مدعي نقد البلد المتعامل به لأنه هو الجاري التعامل به وإن كانا قد يتعاملان بغيره، لكن الأغلب أن التعامل يكون بنقد البلد، والحكم في هذا يكون للأغلب ما لم يكن هنالك شيء يبين خلاف ذلك. المسألة الرابعة: إذا اختلفا في قدر الثمن واتفقا على جنسه وصفته فقال المشتري: اشتريت منك هذه السيارة بخمسين ألف ريال، وقال البائع: اشتريتَها بواحد وخمسين ألف ريال، في هذه المسألة خلاف كبير بين أهل العلم، ولا يوجد ما يرجح أحد القولين من البائع أو المشتري، فكلاهما مُدَّعٍ ومُدَّعَى عليه، فقال بعضهم إن من ادعى الزيادة فإنه يؤخذ قول المنكِر، وقيل القول قول البائع لما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "القول قول البائع" (¬1) ¬

_ (¬1) هذا الحديث من رواية عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وله عنه عدة طرق: الطريق الأولى: من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه مرفوعًا ولفظه: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيّنة فالقول ما يقول ربُّ السلعة أو يترادان". =

لكن حديث ابن مسعود الذي روي في هذا الباب اختلفت ألفاظه، وفيه أنه. ¬

_ = أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 466)، والبيهقى في السنن الكبرى (5/ 333)، والترمذى (1/ 240) معلقًا وقال: "وهو مرسل". وقال الحافظ في التلخيص (3/ 35): "وأما رواية التراد فرواها مالك بلاغًا عن ابن مسعود، ورواها أحمد والترمذى وابن ماجه بإسناد منقطع". وكأنه يشير إلى الانقطاع بين القاسم بن عبد الرحمن وبين جدّه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، لكن الحديث قد جاء موصولًا عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضى الله عنه، أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع برقم (3512)، والبيهقى في السنن الكبرى (5/ 250) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أعلّه البيهقى بقوله: "خالف ابن أبي ليلى الجماعة في رواية هذا الحديث في إسناده حيث قال: "عن أبيه" وفي متنه حيث زاد: "والمبيع قائم بعينه"، ورواه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى وقال فيه: "والسلعة كما هي بعينها"، وإسماعيل إذا روى عن أهل الحجاز لم يُحتج به، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى وإن كان في الفقه كبيرًا، فهو ضعيف في الرواية لسوء حفظه وكثرة خطئه في الأسانيد والمتون ومخالفته الحفاظ فيها، وقد تابعه في هذه الرواية عن القاسم الحسن بن عمارة وهو متروك لا يُحتج به". اهـ. ولكن جاء للحديث متابعة جيدة عند الدارقطنى في سننه في كتاب البيوع (3/ 65)، فقد تابع ابن أبى ليلى عمر بن قيس الماصر عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: "باع عبد الله بن مسعود سبيًا من سبى الإمارة بعشرين ألفًا من الأشعث بن قيس فجاء بعشرة آلاف فقال: إنما بعتك بعشرين ألفًا. قال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، وإنى أرضى في ذلك برأيك، فقال ابن مسعود: إن شئت حدثتك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أجل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تبايع المتبايعان بيعًا ليس بينهما شهود فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع"، قال الأشعث: قد رددت عليك. وعمر بن قيس الماصر الكوفي قال عنه الذهبى في الميزان (3/ 220): فوثقه أبو حاتم وجماعة"، ووثقه ابن معين وأبو داود، وهذه متابعة جيدة. وقال الحافظ في التلخيص (3/ 35): "ورجاله ثقات إلا أنَّ عبد الرحمن اختُلف في سماعه من أبيه" وقد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رجَّح البخاريُّ أنه سمع من أبيه. الطريق الثاني: من طريق عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود ولفظه مرفوعًا: "إذا اختلف البيعان - وفي لفظ المتبايعان -، زاد في رواية: "والسلعة كما هي فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار". أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 466)، والترمذى (1/ 240)، والبيهقى في السنن الكبرى (5/ 332) وقال: "عون بن عبد الله لم يدرك عبد الله بن مسعود" وقال الشافعي في رواية المزنى عنه: هذا حديث منقطع، لا أعلم أحدًا يصلهُ عن ابن مسعود وقد جاء من غير وجه". الطريق الثالث: من طريق أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بنحو اللفظ السابق. . أخرجه الإمام أحمد في المسند، والنسائى في سننه (2/ 230)، والبيهقى في سننه (5/ 332 - 333)، وقال البيهقى: "وهذا مرسل أيضًا، أبو عبيدة لم يدرك أباه" وهو كما قال، فقد نقل ابن أبى حاتم في المراسيل ص 196 عن أبيه أنه قال: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وقال الحافظ في "التقريب": "والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه". الطريق الرابع: من حديث عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده قال: "اشترى الأشعث رقيقًا من رقيق الخمس من عبد الله بعشرين ألفًا، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاختر رجلًا يكون بينى وبينك، قال الأشعث: أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله: فإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيّنة فهو ما يقول ربُّ السلعة أو يتتاركان". أخرجه أبو داود في سننه (3511)، والنسائى (2/ 229)، والحاكم في مستدركه (2/ 45) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، والبيهقى في السنن الكبرى (5/ 332) وقال: "هذا إسناد حسن موصول، وقد رُوي من أوجهٍ بأسانيد مراسيل إذا جُمع بينهما صار الحديث قويًا". وهو كما قال، فالحديث بمجموع طرقه قوي. ولكن هذا الطريق أعلّه ابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه وجده، وتابعه عبد الحق، كما نقل ذلك عنهم الحافظ في "التلخيص" (3/ 36). فالحديث بمجموع طرقه يصل لدرجة الصحيح لغيره. والله أعلم.

- عليه الصلاة والسلام - قال: "إذا اختلف البيِّعان"، وفي بعضها: "والسلعة قائمة تحالفا وترادى البيع" (¬1)، وفي لفظ: "القول قول البائع"، والحديث فيه خلاف كثير، لكن الأحسن أن يقال إنهما يتحالفان، فيحلف البائع ويقول والله ما بعتها بخمسين إنما بعتها بواحد وخمسين، ويحلف المشتري فيقول: والله ما اشتريتها بواحد وخمسين وإنما اشتريتها بخمسين، لأن القاعدة عندنا أننا إذا قلنا القول قوله المراد مع يمينه، ثم إذا تحالفا ننظر من رضي بقول الثاني فإذا رضى البائع بقول المشتري أي أنها خمسون تم البيع على أنها خمسون، أو رضي المشتري على أنها واحد وخمسون تم البيع على أنها واحد وخمسون. والرواية التي فيها "القول قول البائع" تحمل على أنها إذا رضى المشتري؛ لأن البائع هو الذي يحلف أولًا فإذا حلف ورضي المشتري تم البيع فيكون القول قول البائع، أي لا يلزم المشتري أن يحلف، أما إذا لم يرضَ المشتري بحلف البائع نقول للمشتري احلف، فإذا حلف انفسخ البيع في نفس التحالف، وقيل: لا ينفسخ إلا عند القاضى على خلاف بين أهل العلم، لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن البيع ينفسخ بمجرد التحالف لظاهر الحديث. المسألة الخامسة: إذا ادعى المشتري وجود عيب في المبيع فإن القول قول البائع على قول كثير من أهل العلم، فلو اشترى سيارة وبعد أيام رجع إلى البائع فقال: إن بالسيارة عيبًا، فإنه في هذه الحال إذا لم يتبين الأمر، هل هذا العيب قبل البيع أم بعده؟ فإن القول قول البائع، لأن الأصل في المبيع أن يكون سالمًا من العيوب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 213 - 214.

القاعدة الثامنة والثلاثون إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة، أو إلى شرطها فسدت، وإذا عاد إلى أمر خارج لم تفسد، وكذلك المعاوضات، فرجوع التحريم إلى نفس العبادة أو إلى شرطها: إما إلى ذاتها أو ماهيتها أو ركن من أركانها

القاعدة الثامنة والثلاثون إذا عاد التحريم إلى نفس العبادة، أو إلى شرطها فسدت، وإذا عاد إلى أمر خارج لم تفسد، وكذلك المعاوضات، فرجوع التحريم إلى نفس العبادة أو إلى شرطها: إما إلى ذاتها أو ماهيتها أو ركن من أركانها مثاله: صوم يوم العيد: لو أن إنسانًا صام يوم العيد، وقد صحت الأخبار في النهي عن صيام أيام العيد نقول هذا الصوم باطل؛ لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه، وهو صوم يوم العيد. فصومه هو عين المخالفة لنهيه - عليه الصلاة والسلام - (¬1) فهو باطل، لأنه راجع إلى ذات الصوم فلم يَنْهَ عن الصوم في يوم العيد لأجل شيء تعلق به لكن ينهى عنه في يوم العيد خصوصًا فلا يصح الصوم، والصوم باطل هذا قول جماهير أهل العلم. ومنه - أيضًا - النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فالصلاة بلا سبب باطلة لأن النهى يعود إلى نفس الصلاة، وأن هذا الوقت ليس محلًا للصلاة أصلًا بمعنى أنه لا يجوز ابتداء النافلة فيها بغير سبب في هذه الحالة نقول الصلاة باطلة، هذا إذا عاد إلى ذات العبادة أو إلى ركن من أركانها، هذا هو القسم الأول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم (2/ 951)، باب: صوم يوم الفطر، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام (2/ 80) كلاهما من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه. . فذكره".

القسم الثاني: إذا عاد إلى شرط في العبادة على وجه يختص بها كاجتناب النجاسة وترك السترة (¬1) في الصلاة هذا النهي عن الصلاة بالنجاسة جاء بخصوص الصلاة والأمر بالسترة جاء بخصوص الصلاة فهو عائد إلى شرط العبادة على وجه يختص بها، وذهب إلى هذا كثير من أهل العلم إلى أنها لا تصح، وفصّل بعضهم في مسألة النجاسة بين الذُّكر والنسيان، قالوا في حال الذُّكر تبطل، وفي حال النسيان لا تبطل، وبعضهم عمّم، والمسألة فيها خلاف فإذا كان ذاكرًا قادرًا على إزالتها فلا شك أنها باطلة، أما إذا كان جاهلًا أو ناسيًا فالصحيح أنها لا تبطل. أما السترة إن كان ذاكرًا فالصلاة باطلة، وإن كان عادمًا لها فالصلاة صحيحة، أما على المذهب فالصلاة باطلة في كل حال، وإن كان لعدمها فالصلاة صحيحة. وهنالك أشياء من الشروط تكون الصلاة باطلة بلا خلاف سواء كان ذاكرًا أو ناسيًا كفقد شرطها وهو الوضوء، فإن الصلاة باطلة كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬2)، فهذه التقاسيم ¬

_ (¬1) المقصود ستر العورة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء (1/ 87)، باب: لا تُقبَل صلاة بغير وضوء، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه في باب صفة الوضوء وكماله (1/ 204) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة (1/ 224) عن ابن عمر "لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول".

تختلف حسب أقوال أهل العلم، وفيها ما يكون باطلًا بلا خلاف، وفيها ما يكون صحيحًا على قول الجماهير وفيها ما يختلف به الترجيح. من المسائل المشهورة في هذا الباب: إذا عاد النهي إلى شرطها على وجه لا يختص بالصلاة لأن اجتناب هذا الشرط منهي عنه في الصلاة وفي غير الصلاة، كالصلاة في الثوب المغصوب والأرض المغصوبة، فهذا الشرط لا يختص بالصلاة؛ لأن الغصب منهي عنه سواءً كان متلبسًا بالصلاة أم لم يكن متلبسًا بها فيجب عليه رد المغصوب إلى صاحبه فيحرم عليه إمساكه كذلك السترة المغصوبة، وألحق به - أيضًا - الماء المغصوب والإناء المغصوب على الفرق في الإناء إذا كان الوضوء من إناء مغصوب والماء غير مغصوب، أو الوضوء من ماء مغصوب والإناء غير المغصوب، أو الوضوء من إناء ذهب أو فضة، فهذه المسائل كلها فيها خلاف بين أهل العلم وفيها تفاصيل طويلة ذكروها. وكثير من أهل العلم رجح صحة الصلاة مطلقًا في جميع هذه المسائل وقالوا: إن النهى لا يعود إلى خصوص الصلاة فالغصب منهي عنه في الصلاة وغير الصلاة، والجهة إذا انفكت كان مأمورًا بها من جهة، ومنهيًا عنها من جهة فلا يكون النهي عائدًا إلى ذات المنهى عنه ولا إلى شرطه، ففى هذه الحال هو مأمور بالصلاة منهي عن الغصب، فمن صلى في الأرض المغصوبة فنفس الوجود في الأرض منهي عنه والصلاة نفسها مأمورٌ بها، فهو مأمورٌ من وجه بالصلاة منهي عن الغصب، فإذا كان ليس منهيًا من كل وجه فالصلاة صحيحة بخلاف الصلاة في وقت النهي فهو

منهي عن الصلاة من كل وجه، أما الصلاة في الأرض المغصوبة ونفس الصلاة مأمور بها أما شغل البقعة فإنه منهي عنه ومنهى عن لبس الثوب المغصوب، فلأجل هذا قال أهل العلم: إن الجهة إذا انفكت فكان مأمورًا من وجه منهيًا من وجه صحت الصلاة؛ لأن النهي لا يعود إلى شرط العبادة ولا إلى ركنها، وهو لا شك عاصٍ بفعله هذا ولا يجوز له، فهو مثل من صلى وهو يلبس الحرير، فلبس الحرير منهى عنه في الصلاة وخارج الصلاة، ومن صلى وهو لابس لخاتم ذهب قالوا: إن الصلاة ليست باطلة؟ لأن نفس لبس الخاتم من ذهب منهي عنه سواء كان داخل الصلاة أو خارج الصلاة فقالوا إن الصلاة صحيحة.

القاعدة التاسعة والثلاثون لا يجوز تقديم العبادة على سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد وجود السبب وقبل شرط الوجوب وتحققه

القاعدة التاسعة والثلاثون لا يجوز تقديم العبادة على سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد وجود السبب وقبل شرط الوجوب وتحققه هذا في جميع أنواع العبادات، سواء كانت مالية أم بدنية أم مركبة منهما. فالبدنية: كالصلاة، والمالية: كالزكاة، والمركبة منهما: كالحج، فلا تجوز الصلاة قبل دخول الوقت، لأن سبب الوجوب هو زوال الشمس لصلاة الظهر مثلًا، أما بعد السبب وقبل الشرط فإنه يجوز فعل العبادة بعد سببها وقبل وجود شرطها. مثاله: الطهارة سببها وجود الحدث، فإذا أحدث فإنه لا يجوز له أن يصلي إلا بالطهارة، وشرط وجوبها فعل الصلاة، فإذا أحدث جاز له أن يتطهر ولا نقول أنه لا يجوز له أن يتطهر حتى تجب عليه الصلاة، بل يشرع له تقديم الطهارة، فيجوز تقديم العبادة قبل شرطها وبعد سبب وجوبها، ومما يوضحه أيضًا الزكاة لها سبب وشرط، فسببها وجود النصاب، وشرط وجوبها تمام الحول، لو أنه أدى الزكاة في أول الحول وشرط الوجوب لم ينعقد بعد إنما وجد سبب الوجوب وهو النصاب، في هذه الحال نقول إن الزكاة مجزئة على القول الصحيح كما عند أحمد - رحمه الله - وجماعة من أهل العلم، لحديث العباس (¬1) - رضي الله عنه -، ¬

_ (¬1) حديث: أن العبّاس بن عبد المطلب سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ، فرخّص =

وجاء في معناه حديث علي - رضى الله عنه -. ¬

_ = له في ذلك". أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الزكاة (1624)، والترمذي في سننه (1/ 131)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 104)، والحاكم في المستدرك (3/ 332) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبى. من طريق الحَكم عن حُجَيّة بن عدي عن على: "أن العباس بن عبد المطلب سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك" وتابع الحكم بن عتيبة في روايته لهذا الخبر الحكم بن جحل عن حجر العدوي عن على قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "إنا قد أخذنا من العباس زكاة العام عام أول" وهذه المتابعة عند الدراقطنى في سننه (2/ 124)، قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 1496): "هذا الحديث أقوى من الأول لأن في الحديث الأول حُجية قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج بحديثه هو شبه المجهول" ذكره في الجرح والتعديل (3/ 314) فالخبر من طريق الحكم بن جحل عن حجر العدوي عن على رضى الله عنه إسناده جيد، وهذا الحديث اختُلف فيه على الحكم من وجوه كثيرة أحدها ما ذكر سابقًا. الثاني: عن حجّاج بن أرطأة عن الحكم بن عتيبة قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله، فقال: قد عجلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة سنتين فرفعه عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَدَق عمي، قد تعجَّلنا منه صدقة سنتين". أخرجه الدارقطنى في سننه (2/ 124)، وابن أبى شيبة في مصنفه (4/ 24) وفيه الحجّاج بن أرطأة وهو ضعيف ومدلس، والحديث أيضًا معضل. والوجه الثالث: عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن موسى بن طلحة عن طلحة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عمر، أما علمت أن عمَّ الرجل صِنو أبيه؟ إنَّا احتجنا إلى مالٍ فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين". أخرجه الدارقطنى في سننه (2/ 124)، وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث، وقال الدارقطني بعد سياقه له: "اختلفوا عن الحكم في إسناده، والصحيح عن الحسن بن مسلم مرسل". وهذا هو الوجه الرابع: "من طريق هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن الحسن بن مسلم عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا". وهذا الوجه هو الأصحُّ من الروايات كما نصَّ على ذلك أبو داود في سننه والدارقطنى في السنن =

أيضًا في مسألة الكفارات فإنها تجوز بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب. مثاله: إنسان حلف يمينًا أن لا يزور فلانًا، أو أن لا يبر رحمه، نقول هذه يمين آثمة ولا يجوز الوفاء بها، فإذا كانت اليمين على ترك واجب فإنه يلزمه الحنث وعليه الكفارة، فلو قال: هل يجوز أن أخرج الكفارة قبل أن أزور قريبى أو بعد أن أزوره؟، نقول: يجوز أن تخرجها قبل أن تزوره، لهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "والله إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفّرت عن يمينى وأتيت الذي هو خير" (¬1)، فأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه يكفِّر عن يمينه أولًا، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الكفارات لا تجزئ قبل شرط الوجوب وهو قول مرجوح، لكن لو أنه أراد أن يكفّر قبل سبب الوجوب فإنها لا تصح، وهي على ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون قبل السبب وقبل الشرط، في هذه الحال الكفارة لا تصح عند الجميع. ¬

_ = (2/ 124) وفي العلل - أيضًا - حيث قال: "والصواب ما رواه منصور عن الحكم عن الحسن بن مسلم مرسلًا عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ". ونقل البيهقى في السنن الكبرى (4/ 111) عن الشافعى قوله "يروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا أدري أثبت أم لا "أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تسلَّف صدقة مال العباس قبل أن تحلّ". والله أعلم. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (3/ 154)، ومسلم في صحيحه في كتاب الأيمان (5/ 82) كلاهما من حديث أبى موسى الأشعري رضى الله عنه به. . . فذكره".

مثاله: إنسان قال سأكفِّر كفّارة. قلنا: لماذا؟، قال: يمكن أن أحلف في يوم من الأيام، فلو حلفت كانت كفارة لها، نقول: إنها لا تجزئ وتكون صدقة؛ لأن سبب الوجوب وهو الحلف لم يوجد. الحالة الثانية: أن يكون بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب، فهذا مجزئ عند جماهير أهل العلم لظاهر ما في الصحيحين، وجاء عند أبي داود - أيضًا - نص في هذا. الحالة الثالثة: أن يكون بعدهما جميعًا فهذا مجزئ بلا خلاف.

القاعدة الأربعون يجب فعل المأمور به كله، فإنه قدر على بعض وعجز عن باقيه فعل ما قدر عليه

القاعدة الأربعون يجب فعل المأمور به كله، فإنه قدر على بعض وعجز عن باقيه فعل ما قدر عليه هذه القاعدة فيها تفصيل من حيث المقدور عليه، والمراد بالمأمور به من جهة الشرع، فإذا كان الإنسان مأمورًا بعدة واجبات وقدر على بعضها ولم يقدر على الباقى فإنه يأتي بما قدر عليه ويسقط عنه ما لم يقدر عليه، وهذا له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون المقدور عليه ليس مقصودًا في نفسه إنما هو وسيلة إلى المقصود، مثاله: الإنسان مأمور بتحريك لسانه أثناء قراءة الفاتحة وهي واجبة ولا يكون إلا بتحريك اللسان وإلا كان إمرارًا في خاطره وليست قراءة، فإذا كان لا يقدر على الفاتحة أصلًا ولا يعرفها فهل نأمره بتحريك لسانه، فهذا إنسان أعجمي أو إنسان لا يحسن شيئًا والواجب القراءة والتحريك، فهل نأمره بتحريك لسانه لأنه غير قادر على الفاتحة أو لا نأمره؟ الصواب: أن هذا التحريك لا يكون واجبًا؛ لأن التحريك ليس مقصودًا في نفسه إنما هو وسيلة محضة للقراءة. مثاله: أيضًا إمرار الموسى على الرأس في الحج والعمرة إذا لم يكن عليه شعر هل هو واجب أم مستحب؟ ذهب بعضهم إلى أنه يجب إمرار الموسى، والصواب أنه لا يجب لأنه وسيلة وليس مقصورًا في نفسه، والذي ذهب إليه جماهير أهل العلم إلى أنه مستحب ومنهم من حكم على ذلك الإجماع، لأنه لما سقط المقصود سقط ما هو وسيلة له

ولأن الوسيلة غير مقصودة فإذا سقط الأصل سقط التبّع. الحالة الثانية: ما وجب تَبعًا لغيره، وهذا على قسمين: القسم الأول: ما كان وجوبه احتياطًا مثل غسل رأس المرفق، فإذا توضأ الإنسان وغسل يديه إلى المرفق فإنه لابد أن يكون الماء تجاوز رأس المرفق الذي في الذراع إلى رأس المرفق الذي في العضد أي تجاوز محاذاته، فلو قطعت يده من المرفق وبقى رأس العضد، هل يجب غسل رأس العضد لأنه وجب احتياطًا أو لا يجب؟، هذا فيه خلاف والصحيح أنه لا يجب؛ لأنه لما سقط وجوب غسل اليد سقط وجوب غسل العضد. القسم الثاني: ما وجب على جهة التكميل، مثل رمي الجمار والمبيت بمنى الليالي الثلاث، فلو أن إنسانًا فاته الوقوف بعرفة في هذه الحال هل نقول له إنه يلزمك أن تذهب إلى منى وترمى جمرة العقبة وتبيت بها ثلاث ليال، أو نقول إنه لا يجب لأنه لما فات الحج سقط ما هو من لواحقه، والصواب أنه لا يجب لأنه لما فات الحج لم يجب عليه ما هو من لواحقه. الحالة الثالثة: ما هو جزء من العبادة وليس بعبادة في نفسه. مثاله: إنسان لا يستطع الصوم من رمضان لكنه يستطيع أن يمسك إلى الظهر فهل يلزمه هذا؟ نقول: هذا لا يلزمه بلا خلاف. الحالة الرابعة: ما هو جزء عبادة وهو عبادة في نفسه، وهذا هو الذي يحمل عليه كلام المصنف في هذه القاعدة، أما الأنواع الثلاثة السابقة غير لازمة، إنما يُحمل ما جاء في القاعدة على ما كان من عبادة في نفسه.

مثاله: إنسان يستطيع القيام في الصلاة لكن لا يستطيع قراءة الفاتحة، نقول يجب عليه القيام لأن القيام ركن مقصود في نفسه، ومنه - أيضًا - من يستطيع قراءة بعض الفاتحة، في هذه الحال نقول إنه يلزمه أن يقرأ ما استطاع من الفاتحة، ومنه أيضًا غسل الجنابة، مثاله: إنسان لا يستطيع أن يغسل جميع بدنه أو عنده ماء قليل لا يكفى أن يغسل بدنه كله، فهل يلزمه أن يغسل بعض البدن أو لا يلزمه؟ سبق لنا أن قلنا إن غسل بعض البدن من الجنابة جزء عبادة فعلى هذا يلزمه أن يغسل بعض بدنه؛ لأن الوضوء يخفف الجنابة، ولأنه يشرع عند الأكل - أيضًا - وعند الشرب، فتبين أن غسل بعض البدن عبادة، وجاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتوضأون ويجلسون في المسجد مع وجود الجنابة، فهو عبادة في نفسه فكان مقصودًا وكذلك الوضوء فإذا وجد الماء لبعض أعضائه إنْ قلنا إنّ بعضه مأمورٌ به دخل في القاعدة، وإنْ قلنا إنه جزء عبادة وليس عبادة في نفسه فإنه غير داخل، وهذا سبق أن أشرنا إليه. ومنه - أيضًا - السجود فلو أن إنسانًا لا يستطيع السجود على الجبهة لكنه يستطع أن يسجد على أنفه، فقول كثير من أهل العلم وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - أنه يسقط عنه السجود على سائر الأعضاء. وقال بعضهم إن السجود على بقية الأعضاء مأمور به مقصودٌ في نفسه فيجب عليه وهذا أصح.

القاعدة الحادية والأربعون إذا اجمتعت عبادتان من جنس واحد تداخلت أفعالها واكتفى عنهما بفعل واحد إذا كان المقصود واحدا

القاعدة الحادية والأربعون إذا اجمتعت عبادتان من جنس واحد تداخلت أفعالها واكتفى عنهما بفعل واحد إذا كان المقصود واحدًا هذه القاعدة تجري في أبواب العبادات وفي غير أبواب العبادات كالحدود والجنايات، وهى قاعدة متفق على جملة من أحكامها في الغالب وفي بعض فروعها خلاف بين أهل العلم. مثاله: الطهارة: إذا تكررت أسبابها، وكانت متماثلة، فإذا جامع ثم جامع مرة ثانية قبل الغسل فإنه يكفي لهما غسل واحد. وكذلك لو أحدث ثم أحدث مرة ثانية فإنه يكفى لهما وضوءٌ واحدٌ، ولو تعددت الأحداث، وكذلك أيضًا لو كانت صورة الفعل لرفع الحدث غير واحدة وغير متماثلة كالجنابة والحيض فإنهما يرتفعان على الصحيح بغسل واحد. وتدخل هذه القاعدة - أيضًا - في الصلاة، فإذا دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإن صلاة الفرض تكفي عن تحية المسجد، وكذلك إذا دخل المسجد وصلى الراتبة فإنه لا تلزمه تحية المسجد، وهل يحصل له بصورة الفعل التحية والراتبة؟. هذا موضع خلاف بين أهل العلم، منهم من قال يشرع له أن يصلي تحية المسجد، وليس بواجب عليه ثم بعد ذلك يصلى الراتبة، وقال بعضهم إنه بمجرد الفعل يحصل المقصود وهو فضل التحية وتدخل ضمن صلاة الراتبة، وهذا

أظهر؛ لأن المقصود من التحية شغل البقعة بالصلاة، وقد حصل بصلاة الراتبة. ومنها سجود التلاوة فلو سمع سجدة تلاوة من شخصين يقرآن وكان يستمع لقراءتهما فإنه يكفيه سجدة واحدة، أو كرر قراءة آية فيها سجدة التلاوة في مجلس واحد فإنه يكفيه سجدة واحدة. ومن ذلك - أيضًا - تعدد السهو في الصلاة، فلو سها في الركعة الأولى ثم سها في الركعة الثانية وتكرر له السهو في الصلاة فإنه يكفيه سجود واحد على الصحيح، سواء كان السجود قبل السلام أو بعده فإنه يكفيه سجود واحد لكن يجعله قبل السلام. كذلك أيضًا التداخل في أبواب الكفارات، وهذا له أمثلة كثيرة: مثاله في الحج: لو قلّم ظفره في اليد ثم قلم ظفر رجله وتكرر التقليم فإنه على الصحيح يكفيه كفارة واحدة كفارة أذى، سواء تكرر هذا في مجالس أم لم يتكرر، كذلك ولو لبس مخيطًا ثم خلعه ثم لبسه مرة ثانية، فإنه يكفيه كفارة واحدة. كذلك في كفارات الأيمان إذا حلف على شيء أيمانًا متعددة ولو تفرقت في مجالس، فإذا قال: والله لا أزور فلانًا، والله لا أسافر هذا اليوم، ثم كرر هذا اليمين سواء كرره في مجلس واحد أو كرره في يوم آخر، ولم يكفِّر ثم أراد الحنث إذا كان الحنث مشروعًا فإنه يكفيه كفارة واحدة، أما لو كفَّر عن الأول فإنه يجب عليه أن يكفِّر عن الثانية بلا خلاف، وكذلك تجري هذه القاعدة في أبواب الحدود، وهو تداخل الحدود وهذا على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن تكون الحدود خالصة لله تعالى أي محض حق لله تعالى

القسم الأول: أن تكون الحدود خالصة لله تعالى أي محض حق لله تعالى: كالزنا وقطع اليد في السرقة والقتل للردة فهذه يجب إقامتها، وليست حقًا للآدمى إذا عفا عنها سقطت، لكن هى قد تسقط بأشياء كما هو معلوم، فتسقط بالتوبة على الصحيح، وإلا فالأصل أنها لا تسقط. فحدود الله على قسمين: الأول: أنا لا يكون فيها قتل: مثاله: إنسان شرب الخمر، والخمر حدّ عند جماهير أهل العلم، وذهب آخرون إلى أنه ليس حدًا مقدرًا، المقصود أنه لو شرب الخمر وزنى وسرق فكل هذه حدود ومحض حق لله تعالى، فهذه الحدود لا تتداخل بمعنى أننا لا نقول نقيم حدًا فيها ونسقط الباقى بل يجب إقامتها جميعًا، فيجلد لشرب الخمر، ثم يجلد للزنى إذا كان بكرًا، ثم تقطع يده للسرقة، وترتيبها يبدًا بالأخف على سبيل الاستحباب، وهذه الحدود يجب إقامتها بلا خلاف كما قاله صاحب المغنى - رحمه الله -. الثاني: أنا يكون فيها قتل: مثاله: إنسان شرب الخمر وزنى وهو محصن وسرق، أو ثبت عليه حد الردة مثلًا، فهذه فيها حدود حدها القتل، وفيها حدود حدها دون القتل، فهذه ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا كان قتلٌ فإن القتل يحيط بها ويسقط سائر الحدود، وذهب الشافعى - رحمه الله - إلى وجوب إقامة الجميع. لكن الجمهور احتجوا بآثار عن ابن مسعود وعن غيره وجاء عن التابعين في هذا آثار، وقالوا إن القصد من حدود الله هو الزجر والردع بخلاف الحدود التي هي حق للآدميين، فالقصد التشفّي والانتقام، وهذا لا يحصل إلا بإقامتها جميعًا، فقالوا

القسم الثاني: إذا كانت محض حق الآدميين

إن سائر الحدود تدخل في القتل فلا يقام غير القتل. هذا هو النوع الأول من حقوق الله على القسمين المذكورين. القسم الثاني: إذا كانت محض حق الآدميين: مثاله: إنسانٌ قذف إنسانًا، ثم اعتدى عليه وقطع أحد أطرافه، قطع يده أو رجله، ثم بعد ذلك اعتدى عليه وقتله، أو اعتدى على شخص آخر فقتله، فهذه يجب إقامتها جميعًا ولا يقوم شيء منها مقام الآخر، فهذه الحدود التي في المثال السابق مختلفة سواء كانت على إنسان معين أو لجماعة من الناس، فيُجلد للقذف ثمانين جلدة، ثم بعد ذلك يقطع طرفه يده أو رجله أو غير ذلك مما اعتدى فيه، وهذا بشروطه على خلاف في بعضها، ثم بعد ذلك يقتل، ولا يُقال إن القتل يحيط بها وليس هناك حاجة للجلد والقطع؛ بل تقام جميعها كما سبق؛ لأنها محض حق لآدمي والقصد منها التشفِّي والانتقام، وهذا لا يحصل إلا بإقامة الجميع. القسم الثالث: أن تجتمع حدود الله وحقوق الآدميين: وهذا على ثلاثة على أقسام: الأول: أن لا يكون فيها قتل فيُستَوفَى الجميع: مثاله: إنسان قذف إنسانًا وشرب الخمر، فالقذف حق آدمى كما هو قول كثير من أهل العلم، وبعضهم قال إنه ليس حق آدمى، لكن هو فيه شائبة حق الله سبحانه وتعالى وشائبة حق لآدمى، والمراد بحق الآدمي أنه الذي يجوز أن يتنازل عنه وإلا ما من حق إلا فيه حق لله سبحانه وتعالى؛ ولأجل هذا يُحرم مثل هذا، فإذا قذف إنسانًا وشرب الخمر فإنه يُجلد للقذف أولًا لأنه حق لآدمى وهو أولى؛ لأن الآدميين مبنى على المشاحة وعدم المسامحة، ثم بعد ذلك يُجلد

الثاني: أن تجتمع كالأول ولكن فيها قتل

لشرب الخمر؛ لأن ما هو حق لله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة والعفو ولا يُقال يُكتفَى بأحدهما أي يجلد للقذف ولا يجلد لشرب الخمر؛ بل يجلد للقذف ثم يجلد لشرب الخمر، كما هو قول جماهير أهل العلم خلافًا لمالك - رحمه الله -. الثاني: أن تجتمع كالأول ولكن فيها قتل: مثاله: إنسان زنى وشرب الخمر وثبت عليه الحد قصاصًا وقذف إنسانًا فما كان حقًا لله وهو غير القتل فإنه يدخل في القتل فلا يُقام، فحدُّ الزنى للبكر لا يقام وحدّ شرب الخمر لا يُقام، وهذه الحدود لا تُقام لأن فيها قصاصًا وقتلًا، فيقام القصاص والتى فيها غير القتل تدخل في القتل، أما الحدّ الذي ليس حق لله كالقطع فإنه يُقام. المقصود أن حدود الله التى غير القتل تسقط بالقتل سواء كان القتل حقًا لله أو حقًا لآدمي. الثالث: أن يتفق الحدّان في المحل ويكون تفويتًا كالقتل والقطع: مثاله: إنسان ثبت عليه حد القتل ردة، وثبت عليه القتل قصاصًا، فقد اتفقا في الحد وهو القتل ولكن أحدهما قصاصٌ والآخر ردة، والقصاص حق لآدمى، والردة حق لله تعالى، ففى هذه الحال نقدم حق الآدمى فيقتل قصاصًا، ويدخل الحد الذي لله سبحانه وتعالى في ذلك الحد وهو القتل قصاصًا، والحكمة في ذلك: أولًا: أن حدود الله سبحانه مبنية على العفو والمسامحة، وهى أيسر وأسهل. ثانيًا: أنه يمكن أن يعفو صاحب الحقّ فيأخذ الأجر ثم بعد ذلك قد يزول عنه

حد القتل لسبب من الأسباب بقبول توبته أو غير ذلك إذا لم يتحتم القتل في الردة، أما إذا تحتّم القتل في الردة فإنه يجب إقامته في بعض أنواع حد الردة، هذا هو النوع الأول. النوع الثاني: إذا كان غير قتل. مثاله: إنسانٌ سرق فوجب عليه القطع بشرطه، واعتدى على إنسان فقطع يده، فهذا عليه القطع حدًا وعليه قطع اليد قصاصًا، فهذا أيضًا يبدأ بحق الآدمي فتقطع يده قصاصًا.

القاعدة الثانية والأربعون استثناء المنافع المعلومة في العين المنتقلة بمعاوضة جائز، وفي التبرعات يجوز استثناء المدة المعلومة والمجهولة

القاعدة الثانية والأربعون استثناء المنافع المعلومة في العين المنتقلة بمعاوضة جائز، وفي التبرعات يجوز استثناء المدة المعلومة والمجهولة في هذه القاعدة استثناء المنافع وكذلك استثناء الأعيان جائز. مثاله: إنسان باع أرضًا واستثنى منها بقعة معينة، فهذه عين معينة، في هذه الحال البيع جائز وصحيح. كذلك لو باع بستانًا واستثنى نخلة معينة، أو بئرًا معينًا، أو ما أشبه ذلك، صح البيع؛ لأن المنهى عنه الجهالة، أما إذا كان المستثنى معلومًا فلا جهالة إذن، والرسول - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الثَّنيا ألا تعلم (¬1)، فهذه الرواية وضّحت المراد، وأن الثنيا المنهي عنها الثنيا المجهولة. وكذلك في المنافع، مثاله: إذا باع إنسان بيته واستثنى منفعته سنة صح البيع، وهذا كله على القول الصحيح، ولهذا جاء في سنن أبي داود من حديث سفينة أنها أعتقت مملوكًا لها واشترطت عليه أن يخدم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع برقم (2859) (5/ 18) ولفظه من حديث جابر رضى الله عنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُحَاقلة والمُزابنة والمعاومة والمخابرة وعن الثنيا، ورخّص في العرايا"، فلفظ مسلم بدون زيادة "إلا أن تُعلم"، وأما بلفظ "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثنيا إلا أن تُعلم" فأخرجه أبو داود فى سننه في كتاب البيوع (3/ 695)، باب فى المخابرة، وأخرجه النسائى في كتاب البيوع (7/ 296)، باب النهى عن بيع الثُّنيا حتى تُعلم، والترمذي في سننه (2/ 388) في كتاب البيوع، باب ما جاء في المخابرة والمعاومة وقال: "حديث حسن صحيح". والله أعلم.

النبى - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (¬1). ثم عموم الحديث السابق دال عليه، لأنه عام في المعاوضات وغيرها فهو أصرح من غيره؛ حديث سفينة في التبرعات، لكن لو أنه باع أرضًا مساحتها عشرة آلاف متر مثلًا واستثنى ألف متر منها، ولا يقصد ألفًا معينة إنما يريد ألف متر أي عشرها أي عُشر الأرض، فهذا لا يصح، أو باع بستانًا واستثنى الثلث أي المشاركة في هذا البستان بالثلث فهذا يصح لأنه مشاع فيكون نصيبه شائعًا في الكل. أما قوله: "وفي التبرعات يجوز استثناء المدة المعلومة والمجهولة": لأن باب التبرعات أوسع. مثاله: إنسان وقف أرضًا واستثنى منفعتها مدة حياته فإنه يصح وإن كانت مدة حياته مجهولة مثل ما ذكرنا في الحديث السابق، حديث سفينة. ومن المسائل التى في هذا الباب مسألة الإقرار، فإنه يصح الاستثناء ولو لم يبين مقدار المستثنى. مثاله: إنسانٌ قال: لهذا الإنسان ألف ريال إلا شيئًا، فهذا الإقرار صحيح ويكون قد اعترف بهذا المال الذي عليه، لكن في هذه الحال كيف نعرف المستثنى، نقول إنه يجب عليه أن يبينه ويجبر على تبيين المستثنى. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 221) في مسند سفينة، وأبو داود في سننه في كتاب العتق (4/ 250 - 251) باب في العتق على الشرط، وابن ماجه في سننه في كتاب العتق (2/ 844) باب من أعتق عبدًا واشترط خدمته، والنسائى في السنن الكبرى كما عزاه له المزي في تحفة الأشراف (4/ 22)، والحاكم في المستدرك في كتاب العتق، باب العتق على الشرط (2/ 213 - 214) وقال بعد سياقه له: "هذا حديث صحيح الإسناد".

القاعدة الثالثة والأربعون من قبض العين لحظ نفسه لم يقبل قوله في الرد إلا ببينة، فإنه قبضها لحظ مالكها قبل

القاعدة الثالثة والأربعون من قبض العين لحظ نفسه لم يقبل قوله في الرد إلا ببينة، فإنه قبضها لحظ مالكها قبل هذه القاعدة سبق الإشارة إليها، وذكرنا أن الأمناء ثلاثة أقسام، وأشرنا إلى من يُقبل ومن لا يُقبل قوله، وذكرنا - أيضًا - من يقبضها لحظ نفسه؟ ومن يقبضها لحظ غيره؟ ومن يقبضها لحظ مشترك بينهما؟، وقلنا الأظهر في الأمناء أنه يقبل قولهم مطلقًا، لكن قد يستثنى حالة منها إذا قبضها الأمين وأشهد عليه ففى الرد لا يقبل قوله إلا بالشهادة؛ لأنها دخلت في ملكه ببينة، ففي هذه الحال إذا ادعى الرد فإنه لابد من البيّنة لأنه فرّط إذ لم يثبتها ببيّنة، فهذه المسألة يمكن أن تستثنى، المقصود أنه سبق تقسيم الأمناء في قاعدة سبقت.

القاعدة الرابعة والأربعون إذا أدي ما عليه، وجب له ما جعل له عليه

القاعدة الرابعة والأربعون إذا أدّي ما عليه، وجب له ما جُعِلَ له عليه وهذا صحيح، مثاله: إنسان استأجر إنسانًا لعمل شيء ما، فإنه إذا أكمل العمل وجب عليه أن يُعطى الأجرة المتفق عليها، ومن استأجر بيتًا وجب عليه أجرة البيت، وهذا يختلف، فمثلًا في الإجارة إذا استأجر بيتًا أو سيارة فاستوفى نفعها وجب عليه أداء المتفق عليه من الأجرة، إلا إذا كان معذورًا فإنه لا يجب عليه شيء إذا لم يستوفِ المنفعة. لكن لو أنه لما استأجر هذه السيارة، ولما تم العقد أراد فسخه بلا عذر، نقول في هذه الحال يجب عليه أن يسلم الأجرة؛ لأن هذه عقود يجب الوفاء بها، وإن لم تُستوفِ المنفعة، لكن لا تثبت إلا بعد استيفاء المنفعة، وهذا فيه تفصيل، متى يكون التسليم؟، أما إذا كان عدم استيفاء المنفعة لعذر فهذا على أقسام: الأول: إذا استأجر إنسان أرضًا أو سيارة أو بيتًا، فتلفت العين المستأجرة قبل القبض، فإن هذا عذر ولا يجب عليه التسليم، ولا يجب على المستأجر تسليم الأجر؛ لأن المؤجر لم يؤدِ ما عليه؛ ولأن المستأجر ما تمكن من القبض. الثاني: أن يقبضها ثم تتلف قبل الانتفاع. مثاله: إنسان استأجر بيتًا واستلم مفاتيحه وتم القبض لكن لم يستوفِ منه شيئًا

حتى الآن ولم يمضِ من مدة الأجرة شيء، أو استأجر سيارة وقبضها ولم ينتفع بها حتى الآن ولم يمضِ من مدة الأجرة شيء ثم بعد القبض تلفت في هذه الحال - أيضًا - لا يلزمه شيء. الثالث: إذا تلفت بعد استيفاء بعض المنفعة. مثاله: إنسان استأجر سيارة لمدة عشرة أيام فانتفع بها خمسة أيام ثم تلفت بلا تفريط منه - وهذا القيد في كل ما سبق - ولا يمكن استعمالها فهذا عذر، في هذه الحال نقول للمؤجر مقدار النفع الذي مضى فقط لكن ما الذي يثبت للمؤجر هل هو القيمة أو قدر المسمى؟. هذا فيه خلاف، والصحيح أنه له نصف المسمى إذا كان قد انتفع بها نصف المدة، أما إذا كان قد انتفع بها ربع المدة فإن له ربع المسمى وهكذا، فلو استأجر هذه السيارة بألف ريال لمدة عشرة أيام، ثم تلفت بعد خمسة أيام فإنه يعطي المؤجر خمس مائة ريال.

القاعدة الخامسة والأربعون من لا يعتبر رضاه في عقد أو فسخ لا يعتبر علمه

القاعدة الخامسة والأربعون من لا يُعتبر رضاه في عقد أو فسخ لا يعتبر علمه هذه القاعدة تدخل فيها مسائل كثيرة: مثاله: إنسان اشترى سلعة وشرط الخيار ثلاثة أيام، في هذه الحال لو أنه في اليوم الثانى فسخ المشتري العقد وأشهد على ذلك، فهل يشترط أن يبلغ البائع بذلك، أو إذا انقطعت المدة أخبره بذلك؟. نقول العقد منفسخ ولا يشترط إبلاغ البائع بذلك. كذلك مسألة العيب: لو أن إنسانًا اشترى سيارة فوجد فيها عيبًا، فإن له الفسخ وإرجاع السيارة ولا يشترط رضاء البائع كذلك في مسألة الطلاق، وفي مسألة الرجعة، فإنه لا يعتبر رضا المرأة، فلا يشترط علمها بذلك. وهناك أشياء مختلف فيها كعيوب النكاح، مثل العيوب التي تكون في الزوج، فهذه أيضًا لا يعتبر رضا الزوج - لكن هل تفتقر إلى حكم حاكم أو لا تفتقر؟. جمهور أهل العلم يقولون: إن الأمور المجتهد فيها لابد من حكم الحاكم والقاضى، واختار تقي الدين أنه في سائر الفسوخ، وكذلك إذا كان الخلاف قويًا فإنه لا يشترط الرضا في العيوب.

كذلك مما أشار إليه المصنف - رحمه الله - في قوله كذلك من له حق شُفعة فله أن يأخذ بها، رضى المشتري وعلم أو لا. مثاله: إنسان شريك لإنسان في أرض، أو بيت فباع هذا الشريك هذه الأرض، أو هذا البيت فللشفيع أن يشفع، وليس عليه أن يبلغ المشتري بشفعته، فإذا شفع ثبت حقه بدون رضا المشتري.

القاعدة السادسة والأربعون من له الحق على الغير وكان سبب الحق ظاهرا فله الأخد من ماله بقدر حقه إذا امتنع أو تعذر استئذانه، وإن كان السبب خفيا فليس له ذلك

القاعدة السادسة والأربعون من له الحق على الغَير وكان سبب الحق ظاهرًا فله الأخد من ماله بقدر حقه إذا امتنع أو تعذر استئذانه، وإن كان السبب خفيًا فليس له ذلك هذه القاعدة فيها خلاف، وهو من كان له حق على إنسان فهل له أن يأخذ بغير علمه؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجوز له أنه يأخذ بغير علمه. القول الثاني: أنه لا يجوز له أن يأخد بغير علمه. القول الثالث: أنه يفصّل بين السبب الظاهر والسبب الخفي. فالسبب الظاهر يجوز أن يأخذ به حقه بلا إذنه لظهور سبب استحقاقه. والسبب الخفى لا يجوز الأخذ به، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف وذهب إليه جمع من أهل العلم، وقالوا: إنه وسط بين الأقوال، وهذا القول أقرب الأقوال. مثال ظهور سبب الاستحقاق: إنسان ضاف قومًا فمنعوه من ضيافته، فله أن يأخذ من أموالهم بغير علمهم لأنه إذا علم أن هذا هو الضيف وظهر منعه من حقه فله أن يأخذ من أموالهم بغير علمهم، وهذا كله على القول بوجوب الضيافة، أما من يقول بعدم الوجوب فيقول لا يجوز أن يأخذ من أموالهم، لكن المختار أنه واجب وهو قول الإمام أحمد، واختاره الليث، والدليل عليه حديث عقبة بن عامر

أنهم قالوا: إننا نمرّ بأقوام لا يُقْرُونَنَا فهل نأخذ من أموالهم؟ قال: إذا مررتم بأقوام لم يقروكم، ما ينبغى للضيف فخذوا منهم بقدر قِراكُم (¬1). وعن المقدام بن معدي كرب أنه قال: من أصبح بفناء قوم محرومًا فإنَّ نصره واجب على كل مسلم حتى يأخذ بقدر قِرَاه (¬2). فهذا صريح في أنه يجب أخذ الحق إذا كان السبب ظاهرًا، ومثله نفقة الزوجة لأنها ظاهرة وواضحة، فالنفقة واجبة على الزوج، فإذا كان يقصّر في النفقة الواجبة فإن لها أن تأخذ بغير علمه لحديث عائشة - رضى الله عنها - في قصة هند بنت عتبة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬3)، أما إذا كان السبب خفيًا فهذا موضع خلاف، ذهب الشافعي وجماعة وقول في مذهب أبي حنيفة ومالك إلى أنه يجوز أن يأخذ، فمن كان يطلب ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب المظالم، باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه (3/ 18)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب اللقطة، باب الضيافة ونحوها (5/ 138) كلاهما من حديث عقبة بن عامر رضى الله عنه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 91 - 92)، وأبو داود في سننه بألفاظ متعددة كلاهما من طريق منصور عن الشعبى عن المقدام بن معد يكرب أبى كريمة رضى الله عنه به فذكره. وإسناده صحيح. وجاء له طريق آخر عن المقدام من طريق ابن المهاجر عن المقدام بن معد رضي الله عنه ولفظه: "أيما مسلم أضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا فإنَّ حقًّا على كلِّ مسلم نصرُه حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله". وفي لفظ: "على كل مسلم لليلة الضيف حق واجبة فإن أصبح بفنائه فهو عليه دين، إن شاء اقتضى وإن شاء ترك". (¬3) سبق تخريجه ص: 101.

إنسانًا دينًا قال الشافعى أنه يجوز له أن يأخذ، وقال بعضهم أنه يجوز أن يأخذ إذا كان لا يمكن إثباته عند القاضي، أما إذا كان يمكن إثباته عند القاضي مثل أن يكون الذي عليه الدَّين مقرًا بهذا الدين، أو عنده بينة، فقالوا لا يجوز له في هذه الحال أن يأخذ. وهذا القول قال به كثير من أهل العلم وهو عند خفاء السبب، وقالوا إنه ينسب إلى الخيانة وإلى السرقة، والرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬1)؛ لأنه إن قيل بفتح هذا الباب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع (3/ 805) باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذي في سننه في كتاب البيوع (2/ 368) من طريق طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره. قال الترمذى عقب سياقه: "هذا حديث حسن غريب". وقال الحاكم في المستدرك "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبى، ولكن فيه شريك بن عبد الله القاضى وحالُه معروف من كونه سيئ الحفظ، وأيضًا فقد تفرد به طلق بن غنام عن شريك كما ذكر ذلك الحافظ في التلخيص (3/ 112). ولهذا قال ابن أبى حاتم في العلل (1/ 375) عن أبيه: "حديث منكر لم يروه غير طلق بن غنام، يقصد به تفرده بهذا الخبر عن شريك بن عبد الله القاضى. وجاء للحديث شاهد آخر من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه عند الدارقطنى في سننه (2/ 303 - 304)، والطبرانى في المعجم الصغير كلهم من طريق أيوب بن سُويد عن بن شوذب عن أبي التياح عن أنس رضى الله عنه به. وقال الطبرانى عقب سياقه: "تفرد به أيوب" وقال الحافظ في التلخيص (3/ 112): "وفيه أيوب بن سويد الرملي مختلف فيه، وذكر الطبرانى أنه تفرد به".

لأفضَى إلى النصب والاحتيال والسرقات، حتى وإن قيل لا يمكن نسبته إلى الخيانة أو إلى السرقة؛ لأن هذا لا ينضبط. ¬

_ = وأيوب بن سويد قد ضعّفه الإمام أحمد وابن معين والنسائى وأبو حاتم، وقال ابن عدي: يُكتب حديثه في جملة الضعفاء. وللحديث شاهدٌ من طريق حُميد الطويل عن يوسف بن ماهك المكي عن رجل سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - وذكر قصة وهى: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليُّهم فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم فأدركت له من مالهم مثليها قال: قلت: أقبض الألف الذى ذهبوا به منك؟ قال: لا، حدثنى أبى أن رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". وفي إسناده هذا الرجل الذي لم يُسم، ومع ذلك فقد صححه ابن السكن كما، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر عنه في التلخيص (3/ 112) مع أن الحافظ قال عنه: "وفيه هذا المجهول". ثم قال أيضًا: "ورواه البيهقى من طريق أبى أمامة بسند ضعيف، ومن طريق الحسن مرسلًا، قال الشافعى: هذا الحديث ليس بثابت، وقال ابن الجوزى: لا يصح من جميع طرقه، ونُقل عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح". اهـ. من كلام الحافظ في التلخيص (3/ 112). فالحديث بمجموع هذه الطرق يكون من باب الحسن لغيره.

القاعدة السابعة والأربعون الواجب بالنذر يلحق بالواجب بالشرع

القاعدة السابعة والأربعون الواجب بالنذر يلحق بالواجب بالشرع هذه القاعدة - والله أعلم - على الغالب ليست على الإطلاق، فلو نذر إنسانٌ صلاة وقال: لله علي أن أصلى، هل يجزئه أن يصلى ركعة أو لا يجزئه؟. الركعة الواحدة لا تشرع على الصحيح إلا في الوتر خلافًا لبعض أهل العلم، فلهذا من نذر أن يصلى لزمه أن يصلى ركعتين أي أقل ما يصلى ركعتين؛ لأن أقل واجب بالشرع هو صلاة ركعتين، فيُسلَك به مسلك واجب الشرع. وكذلك لو نذر أن يصلى فلا يجوز له أن يصلى قاعدًا ولا يصلى على الراحلة لأن الواجب في الشرع ألاّ يصلى قاعدًا ولا يصلى على الراحلة، وكل هذا مع القدرة. وكذلك لو نذر أن يصوم يجب عليه أن يبيت النية بالليل؛ لأن الواجب بالشرع تبييت النية بالليل. كذلك لو قال: لله على أن أصوم ولم يحدد القَدْر، فأقل واجب في الشرع مما يجب صومه ثلاثة أيام وهى كفارة اليمين إذا لم يستطع الإطعام ولا الكسوة ولا العتق. في هذه الحالة هل نقول يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام أو نقول يكفيه صيام

يوم؟ نقول: يكفيه يوم وهذا مما استثنى، ولم يقل أحد من أهل العلم أنه يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام. وكذلك لو نذر الصدقة فإنه يجزئه أن يتصدق بأقل ما يمكن، ولا يلزمه أن يتصدق بقدر الواجب في النصاب؛ بل يجزئه أقل ما يسمى مالًا، وهذا أيضًا مما استثنى.

القاعدة الثامنة والأربعون الفعل الواحد ينبني بعضه على بعض مع الاتصال المعتاد

القاعدة الثامنة والأربعون الفعل الواحد ينبني بعضه على بعض مع الاتصال المعتاد المعنى أنه لا يضر الفصل اليسير في الفعل الواحد الذي ينبني بعضه على بعض، وهذه القاعدة تدخل تحتها مسائل كثيرة، وكثير من أهل العلم يقول بها من حيث الجملة كغيرها من القواعد وربما خرج عنها بعض المسائل لخلاف بعض أهل العلم، فيرى أنه لا يجوز البناء في هذه المسألة المعينة أو للخلاف في أن الانقطاع هل هو يسير أو ليس يسيرًا؟ أو ما هو مردُّ الانقطاع هل هو العرف أو ضبطه بشيء معين؟. مثلًا: أعضاء الوضوء يجب الموالاة بينها فلا يضر الانقطاع اليسير، فلو أنه غسل وجهه، ثم جعل يتحدث مع إنسان ثم غسل يديه ثم جعل يتحدث مع إنسان، ثم مسح رأسه مع أذنيه، ثم غسل رجليه، فإن وضوءه صحيح، والموالاة لم تسقط لأن الفصل يسير. في هذه الحالة بما تقدر الموالاة؟، فتقديرها ينبنى على ضابط الانفصال، هل الانفصال نضبطه بشيء أو مردّه العرف؟، منهم من قال إن مردّه العرف في هذه المسألة أي في مسألة الوضوء، فما دام أن الانقطاع يسير فلا يضر. ومنهم من قال: إنه يسير ما دام لم ينشف العضو الذي قبله، فإذا غسل وجهه ثم جعل يتحدث لمدة عشر دقائق، ثم غسل يديه والعضو لا زال

أثر الماء - أي البلل - موجودًا فإنه يتم وضوءه. ومنهم من قال إنه يجب عليه أن يعيد وضوءه؛ لأن هذا الانفصال في العرف كثير فيما يتعلق بالوضوء؛ لأن جميع الوضوء لا يستغرق ولا ربع هذه المدة، فعليه أن يعيد الوضوء، لكن الأظهر أن العبرة بنشاف العضو الذي قبله. ومنها - أيضًا - الصلاة إذا سلّم من الرباعية ناسيًا ركعة ثم بعد ذلك تذكر، فهل نقول له يأتى بالركعة ثم يسجد للسهو بعد السلام؟ هذه فيها خلاف بين أهل العلم في مسألة الفصل ومقدار الفصل، كثير من أهل العلم يقول إن كان الفصل يسيرًا فإنه يأتى بركعة ثم يسجد للسهو بعد السلام، والانفصال اليسير يقولون ما دام في مصلاه أو في المسجد أو عند باب المسجد أو إذا كان عند باب بيته إذا كان بجوار المسجد، فعلى هذا يرجع إن كان هناك جماعة أو ليصلي في بيته فيصلى ركعة ثم يسجد للسهو بعد السلام، كما فعل - عليه الصلاة والسلام - في حديث عمران بن حصين في صلاة العصر كما في صحيح مسلم (¬1) لما سلَّم عن ثلاث ثم خرج من المسجد فلحق به الخرباق فأبلغه فرجع - عليه الصلاة والسلام - فصلى ركعة، لكن إذا لم يتذكر إلا بعد أن أحدث أو نام ثم تذكر فهذا عند جماهير أهل العلم أنه لا يصح البناء عليه، وعليه أن يعيد الصلاة كاملة، فهذه المسائل تنبني على خلاف أهل العلم في تحديد مقدار الفصل ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد (1/ 404 - 405) عن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

اليسير، والطواف أيضًا إذا تخللته صلاة مكتوبة. مثاله: إنسان يطوف طواف فرض أو طوف سنة ثم حضرت صلاة مكتوبة أو صلاة جنازة فإنه يصلي، وإن قلنا إنه يجب الموالاة بين الأشواط لأنه يجوز الفصل بين الأشواط إذا كان الفصل يسيرًا، فإذا صلى المكتوبة أو صلى الجنازة فهذا فصل يسير وعليه أن يتم طوافه، وكذلك لو وقف يسلم على إنسان ويتحدث معه فإن هذا الفصل يسير، وإنْ قلنا إنَّ الموالاة بين الأشواط مستحبة فإن الفصل لا يضر سواء كان الفصل يسيرًا أم طويلًا، أيضًا في العقود، بين إيجاب العقود وقبولها. مثاله: إنسان باع بيتًا لإنسان فقال: بعتك هذا البيت، والمشتري لم يقل قبلت أو رضيت بل سكت وجعل يتحدث مع صاحبه في حديث آخر أو انشغل بشيء، إن كان الانشغال يسيرًا ثم قال قبلت، فإن العقد صحيح، أما إذا كان الانفصال طويلًا فإن العقد لا يلزم، أو كان الانشغال بكلام أجنبى كما قاله بعض أهل العلم، لأن ظاهر حاله الرغبة عن البيع، فإذا تبين أنه لا يريد البيع كان في حكم الانفصال الكثير أو في حكم الانصراف عن البيع فلا يكون قبوله بعد ذلك مثبتًا للعقد فلابد من عقد ثان. كذلك مما يجب الوصل فيه والاتصال قراءة الفاتحة وغيرها في الصلاة إلا إذا كان الانفصال يسيرًا، فلو انشغل بعطاس أو بحة في الحق منعته من الوصل فإن هذا الانفصال لا يعتبر، لكن إذا كان الانفصال طويلًا فإنه يجب عليه أن يعيدها إلا إذا

كان الانفصال لعذر، مثل إنسان يقرأ الفاتحة فشرع الإمام بالقراءة، فإذا أراد أن يستمع إليه، ثم بعد ذلك يتم الفاتحة فلا بأس.

القاعدة التاسعة والأربعون الحوائح الأصلية للإنسان لا تعد مالا فاضلا

القاعدة التاسعة والأربعون الحوائح الأصلية للإنسان لا تُعَدّ مالاً فاضلاً وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى وإن كان يستغنى عنها بعض الوقت فلا يلزم بيعها وينفق على من تجب عليه نفقته. فجميع ما يكون عنده من فرش وأوانٍ أو مملوك أو كتب أو سيارة فإنه لا يلزم ببيعها ويصرفها فيما وجب عليه من دين، أو نفقة واجبة عليه؛ لأن هذه حوائج أصلية، وبعضها ضروري وبعضها حاجى، ففى هذه الحال لا تكون فاضلاً فلا يُلزم ببيعها، وهذا مثل ما ذكره أهل العلم في مسألة الغني، فإن الإنسان قد يكون غنياً في باب وفقيرًا في باب، فقد يكون الإنسان غنياً في باب دفع الزكاة، فقيراً في باب أخذها. مثاله: إنسان فقير وعنده نصاب من الدراهم أو أكثر، وحال عليه الحول، فإنه يجب عليه أن يدفع زكاة هذه الدراهم، ويجوز له أن يأخذ الزكاة. مثاله - أيضاً -: زكاة الفطر إذا وجد زائداً عن قوته وقوت من يعول يوم العيد وليلة العيد فإنه على قول جماهير أهل العلم يجب عليه أن يخرج الزائد. وهكذا - أيضاً - في مسألة السؤال، قد لا يجوز السؤال وإن كان فقيراً في باب إعطاء الزكاة، وفي باب أخذها إذا كان يجد قوت يومه وليلته، وكلما مضى يوم وجد قوته ولا يجد على الدوام فهذا لا يجوز له السؤال؛ لما جاء من

الأدلة في النهي عن السؤال في بعضها، إذا وجد ما يغدِّيه ويعشِّيه (¬1)، وهذا هو الصحيح في باب السؤال، لأن باب السؤال أشد من باب أخذ الزكاة لأجل شدة السؤال لأن الأصل في السؤال التحريم. المقصود أن الحوائج الأصلية للإنسان لا تعتبر مالاً فاضلاً، فالإنسان إذا كان عليه دين وعنده فُرُش لا نقول له بغ هذه الفرش وأبقِ فراشاً واحداً تجلس عليه، وإذا كان عنده أوانٍ لا نقول له بعْ هذه الأوانى وأبقِ الضروري منها، وكذلك لو كان عنده سيارة لا نقول له بع السيارة، ويمكنك أن تمشى على قدميك وسدِّد دَينك، لأن هذه حوائج أصلية، وعلى صاحب الدين أن ينظر المعسر لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬2)، ويجب الإنظار ولا يجوز حبسه ولا ملازمته. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 195) من طريق الوليد بن مسلم قال حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني ربيعة بن يزيد حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية الأنصاري رضى الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه من سأل وعندهُ ما يغنيه فإنما يستكثر من نار جهنم" قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: "ما يُغدّيه أو يُعشِّيه". فالحديث إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقد تكلم عبد الحق الإشبيلى في أبى كبشة السلولي هذا وقال: هو مجهول. وقد تعقبه الحافظ الذهبي في "الميزان" (4/ 564) بقوله: "وهذا خطأ، بل الرجل مشهور موثّق، روى أيضاً عن ثوبان وعن سهل بن الحنظلية وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، روى عنه أبو سلام ممطور، وربيعة القصير وحسان بن عطية وغيرهم، واحتج به البخاري ولا يعرف اسمه وهو شامى". اهـ. (¬2) سورة البقرة، الآية 280.

وكذلك إذا وجب عليه الحج وليس عنده مال وعنده هذه الأشياء التى سبق ذكرها فلا نقول له بعْ هذه الأشياء لأن وجود مثل هذه الأشياء لا يجعله مستطيعاً؛ لأن هذه حوائج أصلية فلا يلزمه بيعها، المقصود أن هذه الأشياء لا تؤخذ من الإنسان لأنها أمور حاجية، ومع كثرة الاحتياج إليها تنزل منزلة الضرورة، فلا يجوز مطالبته وإن كان عليه دين لله أو للآدميين.

القاعدة الخمسون يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا

القاعدة الخمسون يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً لأن التابع أيسر من المستقل، فهو داخل في ضمنه وفي حكمه، وقد تمنع أشياء على سبيل الاستقلال، وتجوز على سبيل التبع، مثل ما ذكره أهل العلم في أبواب البيع في الجهالة، فيجوز أن يبيع السيارة بجميع ما فيها وإن كان فيها أشياء لا تعلم، لكن لو أفرد شيئا من السيارة لا يرى ولا يعلم، ويقول بعتك هذا الشيء بالسعر الفلانى وهو لا يعلمه لم يصح البيع للجهالة، كذلك يجوز له أن يبيع البيت بجملته وإن كان يجهل أساساته، كذلك يبيع هذه الناقة بحملها لكن لا يجوز أن يبيع الحمل ويقول بعتك حمل هذه الناقة. كذلك مما ذكره أهل العلم شهادة النساء بالولادة فإنها تثبت بشهادتهن الولادة والنسب تبعا لا استقلالا؛ لأن النسب لا يثبت بشهادة النساء استقلالا، فلو أنه كان مجهول النسب فشهدت مجموعة من النساء امرأة أو امرأتان أو أكثر أن هذا الولد ولد فلان وأن النسب له وهو مجهول النسب مثلا فإنه لا يثبت النسب لأنه لابد من شهادة الرجال في هذا. كذلك مسألة الرضاع فإنها تثبت بشهادة المرأة على الصحيح، وينفسخ النكاح، وإن كان النكاح لا ينفسخ استقلالا بشهادة النساء وكذلك - أيضا - لو أخبرنا شخص بغروب الشمس جاز الفطر وإن كان هلال شوال لا يثبت بخبر

الواحد والفطر وإثبات يوم العيد ووجوب الفطر في ذلك اليوم لا يثبت بخبر الواحد لكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. كذلك مسألة الصلاة فإنها لا تجوز النيابة فيها أي من يصلى عن فلان، لكن لو حجّ عن إنسان حي أو ميت جاز له أن يصلى ركعتى الطواف وتدخل ركعتا الطواف تبعاً لا استقلالاً. كذلك ذكاة الجنين ذكاة أمه، فيحل بذكاة أمه إذا خرج ميتاً ولا يحتاج إلى ذكاة، أما لو خرج حياً فإنه لا يحل إلا بالذكاة.

القاعدة الحادية والخمسون الأسباب والدواعي للعقود والتبرعات معتبرة

القاعدة الحادية والخمسون الأسباب والدواعي للعقود والتبرعات معتبرة هذه القاعدة كثير من مسائلها داخل تحت قاعدة "إنما الأمور بمقاصدها"، لقوله: - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). فالمقصود في العقود معتبرة على الصحيح ويدخل تحت هذه القاعدة الحيل في باب العقود فإنه إذا قصد بيع ربا، بطل على الصحيح، فإذا عَقَدَ عَقْدِ عِينة وأظهره عقدًا صحيحاً - والقصد هو ثبوت دراهم بدراهم - فإنه يكون بيع عِينة، كذلك فيما يتعلق بالتبرعات مثل ما ذكره أهل العلم في الهدية وفي القرض. مثاله: إنسان أقرض إنساناً قرضاً فصار المقترض يهدي للمقرض، في هذه الحال ننظر في هذه الهدية، فنقول هل كنت تهدي له من قبل؟ قال: لا، لكنه أقرضني فأهدى له من باب الإحسان إليه، نقول له: هذا لا يجوز، لأن قصده بالهدية المكافأة على القرض؛ لأن القرض من المصالح العامة وجاءت النصوص بفضله فلا يجوز أن يسلك به مسلك المعاوضات فيتخذ تجارة فيبطل المقصود الشرعى من القرض الذي هو إحسان وطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى فتصرفه أنت بأن تثيبه على القرض فلا يجوز، لكن هل يجوز أن يهديه؟ وهل يجوز للمقرض أن يقبل الهدية بنية الإثابة؟ هذا موضع خلاف، فإذا كان مثلاً أهدى إليه بنية الهدية ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص: 62.

وكل منهم يعلم الحكم وذلك سوف يرد عليه ويعلم أنه سوف يرد عليه وأنه سوف يقبل فالأمر أيسر. أما إذا كان قصده الإحسان إليه بهديته سواء رد له أم لم يرد له فهذا لا يهدى له، ولو أهدى له وجب عليه أن يرد مقابل هديته وإلا يطرح عنه من القرض مقدار ما أخذ، فلو أنه أقرضه ألف ريال ثم دعاه إلى وليمة، قلنا له: لماذا دعوته إلى هذه الوليمة؟، قال: أكرمته لأنه أقرضني، نقول: هذا لا يجوز إلا بنية حسابه من القرض، فإذا جاء وقت السداد نقول لا تأخذ قرضك كاملاً، اخصم قيمة هذه الوليمة فإذا صارت قيمة هذه الوليمة ثلاث مائة ريال، نقول: عليك أن تأخذ سبع مائة ريال. ومن ضمن هذا - أيضاً - هدايا العمال الذين يُبعثون لقبض الصدقات، فهذه كما يروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "هدايا العمّال غلول" (¬1)، فلا يجوز لهم قبول الهدايا لأنهم عمال، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 425) من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبى حُميد الساعدي رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. . ". والحديث لا يصح لأجل رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين. فإن يحيى بن سعيد وهو ابن قيس أبو سعيد القاضى حجازي مدني فالسند ضعيف ولذا قال الحافظ في التلخيص (3/ 208): "أخرجه البيهقى وابن علي من حديث أبى حميد الساعدى وإسناده ضعيف. وأخرجه الطبرانى في الأوسط من حديث أبى هريرة وإسناده أشدّ ضعفاً، وفيه عن جابر أخرجه سُنيد ابن داود في تفسيره عن عبده بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف".

حديث ابن اللُّتبيَّة: "هلاّ جلس في بيت أبيه وأمه، ينظر أيُهدى إليه شيء؟ "، وفي لفظ: "أفلا قعد في بيت أبيه وأمه" (¬1). المقصود أن ما أهدي له إلا أنه عامل الصدقة، فيقصد بالهدية أموراً ممنوعة من تخفيف الأخذ عليهم أو مسامحتهم أو ما أشبه ذلك لأجل هذا لا يجوز. ومن ذلك أيضاً هبة المرأة لزوجها إذا وهبت زوجها شيئاً من المال، أو كان عليه بعض الصداق فأسقطت عنه بعضه، وكان قصدها بذلك إحسان العشرة والتحبب إلى زوجها خشية أن يفارقها، ولكن استمر في سوء العشرة فإنه لا يجوز الأخذ مقابل إحسان العشرة؛ لأنه يجب عليه إحسان العشرة، لكن لو فرض أن هذا وقع وقد أعطته مالًا مقداره عشرة آلاف لأجل أن تبقى معه، ثم بعد ذلك طلقها فإنه يجب عليه أن يرجع المال الذي أخذه؛ لأن قصدها في هذا أن تبقى معه. فالمقصود معتبرة وهكذا في العقود إذا أكره إنسان عليها فإن العقد لا يصح، وكذلك يدخل فيها مسألة عقود الأيمان، فإنها معتبرة، ومسألة الأيمان فيها مسائل كثيرة لكن القصد فيها معتبر، فإذا حلف بالطلاق أو العتاق أو بالظِّهار أو بالحرام وكان قصده المنع والحث فالصواب أن هذا يعتبر يمينًا؛ لأن النية معتبرة في ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبى - صلى الله عليه وسلم - رقم (6636)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإمارة (6/ 11 - 12) كلاهما من حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه.

مثل هذا، فلو قال: علىَّ الحرام أن لا أفعل هذا، وقصده منع نفسه من فعل هذا الشيء، أو قال: علىَّ الحرام أن لا أزور فلانًا، وقصد منع نفسه عن الزيارة، أو قال: عليَّ الطلاق إن لم أفعل هذا، أو عليّ الطلاق إن لم أزر فلانًا، أو حلف بالعتاق أو بالظهار، فالصواب في هذه المسائل كلها أنها كفارة يمين، وحكى إجماع الصحابة على هذا وجاءت أدلة في هذا معروفة ذكرها أهل العلم، لكن المقصود منه في هذه القاعدة أن القصد معتبر فيكون عليه كفارة يمين ولا يقع به شيء.

القاعدة الثانية والخمسون إذا قويت القرائن قدمت على الأصل

القاعدة الثانية والخمسون إذا قويت القرائن قُدّمت على الأصل بحثُ القرائن بحثٌ طويلٌ عند أهل العلم، وذكروا فيه مسائل كثيرة، وجاء ما يدل أن القرائن معتبرة، وقد تكون القرائن قوية، وقد تكون متوسطة، وقد تكون ضعيفة، فتارة يُعمل بها وتارة لا يُلتفت إليها، وتارة تتأيد ببعض القواعد فتقوى فيعمل بها، لأن الأقوال تختلف دلالاتها لأجل الحال، فالقرائن يعمل بها في مسائل كثيرة في أبواب الفقه. منه أيضاً في مسألة إقرار المكرَه أو المحبوس إذا أقر ثم بعد ذلك أنكر عند القاضى أو الحاكم، فإذا قيل له: أنت أقررت قبل ذلك، فقال: نعم أقررت، ولكنى أقررت مكرهاً، وفيه قرائن تدل على إكراهه من السجن أو آثار الضرب، فهذا إقرار باطل ولا يلتفت إليه، لأن الأحوال لها دلالاتها، فلهذا نبطل هذا الإقرار الذي هو أعظم أبواب الإثبات، لأن الإقرار هو الذي يثبت به الحق وهو أعظم من البينة من جهة ثبوت الحق، لأن البينة قد تكون شهادة زور، وقد يكونون شهدوا بأمر توهّموه وفي باطن الأمر ليس بصحيح، ويحكم بها لكن الإقرار لا يحتمل شيئاً من هذا. كذلك في مسألة الهدية، أهل العلم ذكروا الهدية التي تراد للثواب والأصل أن الغالب في الهدية أن يقصد بها التودّد والمحبة، ويؤجر الإنسان عليها بحسب نوع

الهدية، وبحسب القصد من الهدية، وبحسب المهدى إليه، فقد تكون الهدية من باب التقرب لإنسان لأجل أمر يتعلق بأمور الشرع، وقد تكون من أجل التحبب ولأجل صلة الرحم ولأجل القرابة، وقد تكون لأجل الأنس والصداقة، وقد يشوبها نوع من البر إذا كانت هدية لإنسان محتاج إليها فتقرب من باب الصدقة، ويكون القصد هو الإحسان إلى المهدى إليه، فقد تكون إحساناً، وقد تكون تودّداً، ثم بحسب ما يصحب الهدية من حسن البشر وطلاقة الوجه وتصغيرها وأنها لا شيء، فالهدية تعتريها أشياء كثيرة، فبحسب القرائن التي تصحبها تختلف أحكامها، فالغالب فيها أنه يقصد فيها الثواب، وأن صاحبها يريد الإحسان وقد يريد مع ذلك الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى. وقد يراد بالهدية الثواب، مثل إنسان فقير يهدي إلى إنسان غنى، وليس من عادته أن يهدي إلى عامة الناس، ولكن يهدي إلى خصوص أناس أغنياء عرف منهم البذل فهذا في الغالب يريد بهديته أكثر منها، فإذا علم ذلك فإنه لا يجوز أخذها إلا بنية الإثابة، فالمقصود في هذا معتبرة، ولأجل هذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن حكم مثل هذه الهدية حكم البيع، فتأخذ شروط البيع، لكن عند آخرين أنها هدية لابد أن يرد مثلها، ولهذا ثبت في سنن أبي داود والترمذي والنسائى بإسناد صحيح عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رجلاً أهدى النبى - عليه الصلاة والسلام - هدية، فرد عليه النبى - عليه الصلاة والسلام - شيئاً من الإبل، فكأن الرجل غضب ويريد أكثر، فخطب الناس - عليه الصلاة والسلام -

أو حدثهم فقال: "لقد هممت أن لا أقبل إلا هدية قرشي أو أنصاري" (¬1) فذكر أربعة أصناف؛ لأنهم هم الذين يقنعون ولا يغضبون، وهذا يبيّن أن الهدية للثواب لا بأس بها، ولهذا كان من سنته - عليه الصلاة والسلام - أنه يقبل الهدية ويثيب عليها. وكذلك في مسألة القرائن التي ذهب بعض أهل العلم إليها، مثاله: إذا اختلف اثنان في متاع أو شيء من الأملاك فإذا اختلف خياط ونجار وهم في محل واحد أو بيت واحد ففي الغالب أن الإبرة والمقص وما أشبه ذلك تكون للخياط، وآلات الضرب والمطرقة والمسامير والمنشار وما أشبه ذلك تكون للنجار، هذا هو الأقرب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع (3070)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 295)، والترمذي في سننه في المناقب برقم (3881) من طريق محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أهدى رجل من بنى فزارة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ناقةً من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة، فعوَّضه منها بعض العِوَض فتسخطه، فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا المنبر يقول: "إن رجالًا من العرب يُهدي أحدهم الهدية فأعوِّضه منها بقدر ما عندي ثمَّ يتسخطه فيظل يسخط عليَّ، وأيم الله لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل من العرب هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي". فالحديث إسناده صحيح إلا أنَّ فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، لكن له متابع عند البيهقي في السنن الكبرى (6/ 180) وسنده جيد، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد في مسنده (1/ 295)، وابن حبان في صحيحه (1146) كلاهما من طريق يونس بن محمد قال: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله عنهما: "أن أعرابياً وهب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هبة فأثابه عليها. قال: رضيت؟. قال: لا. قال: قزاده. قال: رضيت؟. قال: لا. قال: رضيت؟. قال: نعم. ثم قال - عليه السلام -: "لقد هممت إلاَّ أتهب هبة إلا من قرشى أو أنصارى أو ثقفى". وهذا إسناد صحيح.

وكذلك إذا اختلف الرجل وزوجته في متاع البيت فإننا نعطي المرأة ما يناسبها ويختص بها، ونعطي الرجل ما يناسبه من الأمور التى تكون له، فهذه قرائن يعمل بها. وقال بعض أهل العلم: إن هذه القرائن لا يُعمل بها ولا يُلتفت إليها، بل لا بد من شيء يبين ما يملك كل منهم، وأنه لا يحكم بطرق الحكم الأخرى من القرعة أو القسمة أو ما أشبه ذلك، لكن العمل بالقرائن أقرب وأقوى لأنها نوع من الأدلة، فيعمل بها، وهذا كله إذا لم يكن هنالك بيّنة، أما إذا كانت هناك بينة فإنه يؤخذ بها، والحمد لله.

القاعدة الثالثة والخمسون إذا تبين فساد العقد بطل ما بني عليه، وإن فسخ فسخا اختياريا لم تبطل العقود الطارئة قبل الفسخ

القاعدة الثالثة والخمسون إذا تبين فساد العقد بطل ما بُني عليه، وإن فسخ فسخاً اختيارياً لم تبطل العقود الطارئة قبل الفسخ بطلان العقد يكون بأشياء كثيرة، قد يكون ببطلان الثمن مثل أن يكون الثمن ميتة أو دماً أو في نفس العقد، مثل أن يقول: أبيعك سيارتي بشرط أن تبيعنى سيارتك، أو يقول: لا أبيعك سيارتي إلا بشرط أن تبيعنى بيتك، أو بشرط أن تأجرني سيارتك، فهذا عقد باطل عند أهل العلم، فلا يُستباح به الملك، ولا يثبت به شيء، في هذه الحال يجب إرجاع كل مال لصاحبه، لأن العقد باطل ولا يصحح، فلو قال نصححه ونبطل هذا الشرط، نقول: الشرط الباطل لا يصحح عند أهل العلم، وهناك بعض الشروط المنهى عنها قد يصح العقد معها بإبطالها وإلغائها لا إبطال أصل العقد عند بعض أهل العلم على خلف، لكن الذي في ركن العقد وصلبه يبطل العقد، فإذا أبطل العقد لهما أن يتبايعا بعد ذلك، لكن لو أنهما لم يتبايعا وأخذ المشتري الأرض ثم باعها أو وهبها أو وقفها فإن البيع الثاني باطل؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، ويجب إبطال جميع هذه العقود، ويعاد المبيع إلى البائع الأول ويلغى ما بعد ذلك، ثم بعد ذلك إذا أبطلت تلك العقود لهم أن يستأنفوه مرة ثانية. أما لو مضى العقد صحيحاً مثل: إنسان اشترى سيارة أو بيتاً أو متاعاً ثم باعه

لإنسان آخر، ثم بعد ذلك فسخ العقد لسبب من الأسباب فإننا في هذه الحال لا نبطل العقود التي بعدها، للبائع أن يرجع في السلعة وللمشتري أن يرجع في الثمن الأول، لكنه لما بيع وذهب، ليس هناك حاجة لأن نبطل العقد الثانى لذلك المشتري الثاني من المشتري الأول، ونرجع العقد حتى يعود إلى صاحبه، نقول نرجع في مثل المثلى وقيمة القيمي، فنقول للمشتري الأول إن كان له مثل عليك أن تشتري مثله وترجعه إلى صاحبك الأول وهو يرجع لك قيمة المبيع، وإن لم يكن مثلياً تقدّر قيمته ثم بعد ذلك ترجع أبها في الثمن الذي اشتريته به، وهذه تدخل فيها مسائل أخرى تتعلق في أبواب الغصب. ومسألة الغصب ذكرها أهل العلم وقالوا: هل تبطل جميع العقود التى بنيت على الغصب؟، فلو أن إنساناً غصب شيئاً ثم باعه لإنسان ثم باعه المشتري لإنسان آخر ثم انتقل من إنسان لإنسان، فهذه المسألة فيها خلف، وذكروا أنها تمضى العقود ولا يمكن إبطال تلك العقود لصعوبة ذلك، ولأنها يترتب عليها أمور قد لا يمكن تحصيلها لكن يصلح الأمر على وجه لا يكون في ظلم للمغصوب منه وذلك ببذل بدل المغصوب أو بغير ذلك مما يكون إصلاحاً للأمر، والله أعلم. أما في هذه العقود التى هى باطلة من أصلها إن كانت موجودة ولم تتلف وجب إرجاعها بخلاف المفسوخة وليست باطلة، وهى وإن كانت موجودة ومعروفة عند فلان واشتراها لا يجب إرجاعها بل يرجع في مثل المثلي وقيمة القيمى.

القاعدة الرابعة والخمسون العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر

القاعدة الرابعة والخمسون العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر مثاله: إنسان باع أرضاً يظنها أرضه أو باع بيتاً يظنه بيته، أو باع سيارة يظنها سيارته، فهل نقول إن العقد صحيح لأنه تم بشروطه في الظاهر؟. نقول: إن العبرة بما نفس الأمر، فهذه الأرض أو السيارة التى باعها، هل هي له أو ليست له؟ فإن كانت ليست له فإنه لا يصح. وبالعكس لو باع شيئاً وهو يظن أنه لا يملكه ثم بعد ذلك تبين أنه يملكه فإن العقد صحيح؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر، وهذا من يُسر المعاملات، حيث بُنيت على ما في نفس الأمر.

القاعدة الخامسة والخمسون لا عذر لمن أقر

القاعدة الخامسة والخمسون لا عذر لمن أقرّ هذه القاعدة رويت في حديث أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا عذر لمن أقرّ" (¬1)، لكن هذا الحديث لا يصح ولا أصل له كما قاله جمع من حفاظ الحديث، لكن هذه القاعدة دلت عليها أدلة كثيرة أجمع العلماء عليها في صحة الإقرار، وكلمة "لا عذر لمن أقر" قد ينازع في صحتها على التفصيل وذلك إن ظاهرها أن كل مقر بصرف النظر عن صفة إقراره أنه لا عذر له. وهذا فيه تفصيل في مسائله ليس على إطلاقه، بل بعض المقرين يعذر لسبب من الأسباب وظاهر هذه القاعدة العموم؛ لأنها نكرة في سياق النفى فتشمل كل مقر، فقد يقال إن في عمومها نظراً فلهذا لا تصح على إطلاقها، أما هي من حيث الجملة فثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد صحت الأخبار عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه أقام الحدود على المقرين، كما رجم ماعزاً والغامدية (¬2)، وكذلك قطع يد الذي سرق بعد ¬

_ (¬1) ذكر الشيخ حفظه الله في الشرح أن الحديث باطل ولا يصح ولا أصل له كما قاله جمعٌ من الحفَّاظ. (¬2) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الأحكام، باب من حكم في المسجد (13/ 156)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدرد (3/ 1318) كلاهما من حديث أبي هريرة رضى الله عنه. وأما إقامته الحد على الغامدية فقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود (5/ 120) من حديث بريدة رضى الله عنه.

إقراره (¬1)، لقوله تعالى: {وَلملِلْ الذِي عَلَيْهِ الحَقُّ} (¬2) إذ لا يملل إلا عن إقرار ولا يكتب للذي عليه من الحق إلا بعد إقراره، ولأجل هذا نسب الإملاء إليه فدل على أنه كان معترفاً مقراً وهذا محل إجماع. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 293)، وأبو داود في سننه في كتاب الحدود (4/ 4380) باب في التلقين في الحد، والنسائى في سننه (8/ 67) كتاب قطع السارق، باب تلقين السارق، وابن ماجه في سننه (2/ 866) كتاب الحدود، باب تلقين السارق كلهم من طريق أبى المنذر مولى أبي ذر عن أبى أمية المخزومي رضى الله عنه. . به فذكره. . ". وأبو المنذر قال عنه الذهبى في "الميزان" (4/ 577): "أبو المنذر عن مولاه أبى ذر لا يُعرف، وعنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة". فالذهبى هنا حكم عليه بأنه مجهول لا يعرف، فالحديث بهذا السند فيه ضعف، وقد جاء للحديث شاهد من حديث أبى هريرة رضى الله عنه بنحوه لكن بدون ذكر الاعتراف. وقد أخرج حديث أبي هريرة الدارقطنى في سننه (3/ 331)، والحاكم في المستدرك (4/ 381)، والبيهقى (8/ 275 - 276) من ثلاث طرق عن عبد العزيز محمد الدراوردي أخبرنى يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبى هريرة رضى الله عنه بلفظ: أن رسول الله أتى بسارق سرق شملة. فقالوا: يا رسول الله إن هذا قد سرق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتُونى به فقطع، فأتى به. فقال: تبْ إلى الله. فقال: تبتُ إلى الله. قال: تاب الله عليك". وقد أعله الدراقطنى بقوله: "ورواه الثوري عن يزيد بن خصيفة مرسلاً" وساق إسناده إليه بذلك. وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 96) من طريق ابن إسحاق وابن جريج كلاهما عن يزيد بن خصيفة به. . " وهذا يدل على أن رواية من أرسله كالثورى وابن إسحاق وابن جريج هى الصواب وهى أقوى من رواية الدراوردى حيث وَهِم في الحديث، قال عنه الذهبي في "الميزان". (2/ 634): "صدوق من علماء المدينة غيره أقوى منه، قال الإمام أحمد: إذا حدث من حفظه يهم ليس هو بشيء وإذا حدث من كتابه فنعم، وقال أحمد: إذا حدث من حفظه جاء ببواطيل ". (¬2) سورة البقرة، الآية 282.

وأيضاً من جهة المعقول أن الذي يقر بالشئ مع توافر شروط الإقرار لا يكون مقراً إلا بما هو حق عليه وواجب عليه، ولا يمكن أن يقر بشيء يضرُّ به ويجلب الضرر عليه وهذا الحق الذي يُطالب به غير ثابت عليه، فالإقرار هو أقوى البينات كما قال أهل العلم، لأن تلك البينات يعتريها ما يعتريها بخلاف الإقرار فإنه منْ نفس مَنْ عليه الحق أو من يطالب، ولهذا الحاكم والقاضى لا يطلب شيئاً قبله، فإذا ادعى إنسان على إنسان شيئاً فإن القاضي لا يقول للمدّعى أين الشهود؟ بل يقول للمدّعَى عليه أتقر بها؟، فإذا أقر ثبت الحق. والإقرار لغة: هو الاعتراف، واصطلاحاً: هو الإخبار عن ثبوت للغير على المخبر أى على المقِر. وقد ذكر العلماء شروطاً للإقرار منها ما هو محل خلاف، ومنها ما هو محل اتفاق. فمن شروط الإقرار، العقل، البلوغ، عدم التهمة، ومنها أن يكون الحق المقر به معلوماً، فلو أقر بشيء مبهم وجب عليه أن يبين الحق الذي عليه وثبت من حيث الجملة، لكن لا يصح حتى يبين ما عليه من الحق.

القاعدة السادسة والخمسون يقوم الوارث مقام مورثه في كل شيء

القاعدة السادسة والخمسون يقوم الوارث مقام مورّثه في كل شيء الحقوق التي تكون للمورث على أقسام، وقد اختلف العلماء في كثير من مسائلها كما هو الشاهد في كثير من القواعد التى سبقت، لكنْ كثيرٌ من أحكامها مما قال به أهل العلم قاطبة، واتفقوا عليها. والحقوق قد تكون أموالًا يورثها، وقد تكون ديونًا عليه، وقد تكون حقوقاً معنوية تتعلق بالميت كحد القذف فالوارث يقوم مقام مورثه في كل شيء، ولهذا هذه القاعدة ظاهرها يدخل فيها كل شيء؛ لأن العلماء اختلفوا في بعض الأشياء، والمصنف - رحمه الله - اختار ما اختاره جمع من أهل العلم في هذه القاعدة أنه يقوم مقامه في كل شيء لعموم الأدلة التى جاءت، منها قوله: "ومن ترك مالاً فهو لورثته" (¬1)، وهذا عام في كل حق، والحقوق أقسام: القسم الأول: ما ثبت لجميع الورثة، فإذا عفى بعض الورثة ثبت الحق للباقين، ولا يسقط بإسقاط أحدهم من ذلك حد القذف. مثاله: لو أن إنساناً قذف إنساناً ثم مات، فهل للورثة المطالبة بهذا الحد؟. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض (8/ 409)، ومسلم في صحيحه في كتاب الفرائض (5/ 62) كلاهما من حديث أبي هريرة رضى الله عنه بلفظ: "فمن توفي وعليه دين فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته".

هو ثابت من حيث الجملة لكن فيه تفصيل، هل تشترط المطالبة من المقذوف قبل وفاته أو لا تشترط؟ هذا سوف نشير إليه في نقطة آتية إن شاء الله. فحد القذف لو تنازل عنه بعض الورثة فإن للباقين أن يستوفوا، لأن هذه معرّة على الميت وقذف له فلا تذهب المعرّة فتلحق الورثة أو يصيبهم شيء من هذا، فإذا أراد أحدهم دفعها عن مورثهم فإن له ذلك ولا نقول إنه يتجزأ، فإذا كان الورثة اثنين فلا نقول إذا تنازل أحدهم أنه يجلد أربعين جلدة؛ لأنه تنازل شريكه في الإرث بل يقام الحد كله لأنه لا تزول المعرة إلا بإقامة جميع الحد. القسم الثاني: ما ثبت لجميع الورثة على سبيل الاشتراك ولأحدهم التنازل عن حقه وهو المال الذي يورثه فإن لبعض الورثة أن يتنازل عن حصته من المال. القسم الثالث: ما ثبت لجميع الورثة على الاشتراك، فإذا عفى بعضهم سقط حق الباقين، وهو القصاص على خلاف في تفاصيله، فإذا قُتل مثلاً ثم بعد ذلك ورثه الورثة فإذا عفى بعضهم سقط القصاص إن شاءوا إلى دية أو إلى عفو عام. القسم الرابع: ما ثبت على سبيل الاشتراك، فإذا عفى بعضهم يوفَّر للباقين نصيبهم كحق الشُّفعة، فإذا شفع في أرض أو عقار أو ما أشبه ذلك ثم مات فعفى بعضهم عن الشفعة فإن للباقين أن يشفعوا، هذه هى الحقوق التي تورث من الميت. وهذه الحقوق تنقسم إلى قسمين:

الأولى: حق في حياته فبقي بعد وفاته كالدين الذي كحد القذف وحد القصاص، فالحد الذي نوعان: النوع الأولى: الحقوق التى ليست مالية، أو أنها من حقوق المالكين كالقصاص والقذف والشفعة والشرط، فالقصاص والقذف ليست من الحقوق المالية. النوع الثاني: حقوق من حقوق المالكين، فهو يملك طلبها ويملك إثباتها وهي من نفسها ليست حقوقاً مالية كحق الشفعة، وحق الشرط، فحق الشفعة يملك به التنازل عن الشفعة أو إقامته، وحق الشرط يملك به إمضاء البيع من عدمه. فهذه الحقوق هل تثبت للورثة إذا مات مورثهم على الإطلاق أو لا تثبت حتى يطالب بها؟. مثاله: لو أن إنساناً توفي وله حد قذف، أو إنساناً قتل إنساناً آخر فمات، أو اشترى سلعة واشترط الخيار خمسة أيام فمات في مدة خيار الشرط، أو مات ولم يستوفِ حد القذف، أو له حق قصاص قتله إنسان عمداً فمات، فهل للورثة أن يقوموا مقام مورثهم في المطالبة بهذه الحقوق؛ أم يشترط أن يكون المورِّث قد طالب بها أو أوصى بالمطالبة بها؟. القول الأولى: وهو المشهور من المذهب أنه يشترط المطالبة بها من المورّث، فلو مات ولم يطالب بها فإنه لا تثبت لهم حق المطالبة، قالوا لأنها حقوق ليست مالية، ولا من حقوق المالكين فلا تثبت إلا بمطالبة المورث.

القول الثاني: وهو الأظهر أنها تثبت للورثة ولو لم يطالب المورث بها لعموم الأدلة في إثبات الحق كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "ومن ترك مالاً فهو لورثته". النوع الثاني: من الحقوق التي له، حقوق أمروك ثابتة متعلقة بالأملاك، وهي تتضمن مالًا، فهذه متعلقة بالمال، مثل أن يكون له دين على إنسان وفيه رهن ودين على إنسان، وفيه إنسان ضامن للدين ومات ولم يستوفِ الدين حتى الآن فهذه الحقوق متعلقة بالأموال التي ورثها وهي الديون التى له، فهل إذا مات يثبت الرهن ويبقى كما هو؟ أو نقول: يبطل الرهن بموته؟. وهل إذا مات يبقى ضمان الدين على الضامن؟ أو نقول إنه لا يثبت ويبطل بموته ولا يلزم الضامن الوفاء؟ وكذلك الكفيل إذا لم يأتِ فهل يلزم الكفيل إحضار المكفول؛ فنقول: هذه التوثقات تبقى كما هي ولا تبطل بموتِ من له الحق، ولو لم يطالب بها لأنها حقوق متعلقة بالمال الموروث عنه وهى تثبت مالاً، ففى هذه الحالة نقول: هى ثابتة لهم ويبقى الدين الذي له بالرهن ويبقى الدين الذي له بالكفيل، وكذلك الدين الذي بالضمان، فلا تبطل هذه الحقوق ولو لم يُطالب بها. القسم الثاني: من الحقوق حق عليه، فإذا مات وعليه حقوق هذا ليس فيه إشكال؛ لأنه يجب على الورثة تنفيذ وإحضار تلك الحقوق، فمن مات وعليه دين وجب وفاء هذا الدين سواء كان هذا الدين ديناً لله أو ديناً للآدميين، فمن مات وقد وجب عليه الحج ولم يحج وجب على الورثة أن يخرجوا من التركة إن كان منها

شيء يكفى ويُحَج عنه، أو أوصى بوصية فإنه يجب تنفيذها من الثلث بعد قضاء الدين إن كان عليه، أو عليه كفارة مالية فإنه يجب تنفيذها.

القاعدة السابعة والخمسون يجب حمل كلام الناطقين على مرادهم كما أمكن في العقود والفسوخ والإقرارات وغيرها

القاعدة السابعة والخمسون يجب حمل كلام الناطقين على مرادهم كما أمكن في العقود والفسوخ والإقرارات وغيرها كلام الناطقين لا شك أنه يكون أحياناً صريحاً في المراد، وأحياناً صريحاً في غيره، وأحياناً محتمل، وكلام الناطقين يختلف بحسب النية وبحسب القرائن، وهذا سبقت الإشارة إلى شيء منه، لكن حمله على مراده هو الواجب، وكذلك كلام الله سبحانه وتعالى فإنه يجب حمله على مراده، فلا يجوز حمله على ظاهر ظهر لنا أن الناطق لا يريده، أو أنه يريد خلافه فيجب حمل كلام الناطقين في العقود والإقرارات، وكذلك الواقفين والموصين، وما أشبه ذلك، كلها يجب حملها على مراده، فمن حملها على الظاهر المطلق الذي يظهر أن الناطق لم يرده اضطرب عليه كلام الناس ولم ينضبط، فهذا جار في كلام الناس، وكلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله - عليه الصلاة والسلام -. وكلام الناطقين ومرادهم ونياتهم على أقسام: القسم الأول: أن تظهر مطابقة القصد للفظ مطابقة تامة، وأن يعرف أن الظاهر مطابق للقصد تماماً، وهذا يختلف، وقد يكون درجات يصل في بعض الأحيان إلى درجة القطع واليقين أنه أراد ذلك الشيء، وهذا هو الأصل في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله - عليه الصلاة والسلام -.

وكلما كانت الأمور أعظم التى يتكلم بها الشارع كلما كان وضوح القصد أظهر وأبين، ولهذا تجد أن النصوص في أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى فيها من الوضوح والبيان في الدلالة على معانيها الغاية من ذلك والبيان التام الذي لا فوقه بيان في إثبات أسمائه تعالى وصفاته، ولهذا تجد من ضل عن هذه لا يضل إلا عن بدعة أو مرض أو ضلال والعياذ بالله؛ لوضوح النصوص وأنها غاية في تمام البيان والفصاحة والبلاغة في المراد منها. من ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضامون في رؤيته. . . " (¬1) هذا من أوضح المراد في رؤيته سبحانه وتعالى وأنه يراه أهل الجنة في الجنة، فلو أراد إنسان أن يثبت الرؤية بطريق لم يستطيع أن يثبتها بطريق أوضح من هذا الطريق فليس فوق هذا اللفظ شيء يوضح مراده في إثبات المعنى الذي قصد إليه. القسم الثاني: ما يظهر أن المتكلم لم يرد معناه ولم يقصد إليه، عكس القسم الذي قبله، وهذا على ثلاثة أنواع: النوع الأولى: أن لا يكون مريداً لمقتضاه مطلقاً: ككلام المكره. مثاله: إنسان أكره على إقرار أو على عقد من العقود فباع بيته مكرهاً بالتهديد أو بالضرب، أو إنسان نائم فتكلم بكلام فصار يبيع ويشتري ويعقد العقود وهو ¬

_ (¬1) رواه البخارى في كتاب التوحيد برقم (7436)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (1002) كلاهما من حديث جرير بن عبد اللة البجلى رضي الله عنه ولفظه مرفوعاً: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته".

نائم، أو السكران، فهذا نقطع أنّه لم يرد ما نطق به، بل نطق لكونه مكرهاً أو مغلوباً على عقله لكونه سكراناً أو مغمى عليه، أو لكونه مسلوب العقل، فهو إما مسلوب العقل كالمجنون أو محجوب العقل كالنائم، أو مغلوب العقل كالمغمى عليه، فهؤلاء كلهم تصرفاتهم غير معتبرة. النوع الثاني: أن يكون مريداً لخلافه كالمورّي الملغِز الذي يأتي بألغار ولها ظاهر لكنه في باطن الأمر يريد خلافه. مثال: إنسان سُئل: هل عندك فلان؟ قال: لا، فهذا ظاهره أنه ليس موجودًا عنده في البيت، لكنه لم يقصد ذلك بل قصد أنه ليس موجودًا أمامه، أو ليس موجودًا بجانبه، أو ليس موجودًا في المجلس، فهذا يريد خلف ظاهر الأمر. النوع الثالث: ما هو ظاهر في المراد ويحتمل غيره، وهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف، فهل يعتبر الظاهر أم يعتبر القصد؟. والصحيح أنه يعتبر القصد، وعلى هذا أدلة الشرع وهذا جار في أشياء كثيرة، مثاله: في عقد العينة من باع سيارة بمائة ألف ريال إلى أجل على إنسان، ثم اشتراها منه بثمانين ألف ريال، ثم دفعها إليه، فهذا ظاهره أنه بيع لكنه في الباطن قصدوا دراهم بدراهم، وإلا فإن السيارة مستعارة، وكما قيل حرف معناه في غيره وليس مقصوداً، كما قال ابن عباس: دراهم بدراهم بينهما حريرة، فبعض أهل العلم قال: إن هذا الظاهر معتبر، وإن كان محتملاً لغيره فهو

ظاهر في المراد، وأنه بيع صحيح كما هو مذهب الشافعي - رحمه الله -، وإن كان يقول إن كانوا قاصدين للربا فهم يأثمون، لكن يصحح العقد بمقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر من عقود المسلمين السلامة والصحة. لكن الصواب أنه يجب إبطاله، ولهذا نهى عنه - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (¬1)، وهو داخل في عموم النصوص في كونه ربا. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 28) من طريق الأعمش عن عطاء بن أبى رباح وهو إسناد صحيح كما أشار إلى ذلك المحقق في الحاشية على المسند الشيخ شاكر. وأخرجه أبو داود في سننه مع عون المعبود (9/ 3445) في كتاب البيوع باب في النهي عن العينة من طريق أبى عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضى الله عنهما به فذكره. . ". وهذا السند قال فيه المنذري في تهذيب السنن (3317): "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني لا يحتج بحديثه، وفيه أيضاً: عطاء الخراساني، وفيه مقالٌ". اهـ. وإسحاق بن أسيد هذا قال عنه أبو حاتم: لا يُشتغل به. قال الذهبى في الميزان (1/ 184): "قلت حدث عنه يحيى بن أيوب والليث وهو جائز الحديث". وأما عطاء الخراساني قال عنه النسائى: ليس به بأس. وقال أحمد ويحيى والعجليّ وغيرهم: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره البخارى في الضعفاء". وأما الرواية التى عند أحمد في المسند من طريق الأعمش عن عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما فهذه الرواية تكلَّم عليها الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 21) بقوله: "وعندي أن إسناد الحديث الذى صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مدلس ولم ينكر سماعه عن عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور". اهـ. وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب السنن (9/ 335) مع العون، للحديث بعض الشواهد فقال رحمه الله في ذلك: "وفي الباب حديث أبى إسحاق السبيعى عن امرأته: أنها دخلت على عائشة فدخلت =

ومثله أيضاً المحلل الذي تزوج امرأة ليحلّها، وجرى العقد في الظاهر أنه نكاح صحيح، ولم يشترطوا في العقد أن يحلها بل اتفقوا قبل ذلك، فهل يعتبر الظاهر وهو أن العقد تم بشروطه في الظاهر؟ والصحيح أنه يعتبر القصد، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، ويكاد يقطع به، ولذلك أبطل الصحابة نكاح المحلل للأدلة في هذا منها حديث ابن مسعود أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لعنَ الله المحلّل والمحلل له" (¬2). ¬

_ = معها ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين، إنى بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم وإني ابتعتهُ منه بستمائة نقداً فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أخبرنى زيداً أن جهاده مع رسول الله قد بطل إلا أن يتوب". هذا الحديث رواه البيهقى والدارقطني وذكره الشافعى وأعله بالجهالة بحال امرأة أبى إسحاق وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعاً إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم، ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالاً. قال البيهقي: ورواه يونس بن أبى إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع "أنها دخلت على عائشة مع أم محمد". وقال غيره: هذا الحديث حسن ويحتج بمثله، لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها ويونس ابنها ولم يعلم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة ومن دخل معها على عائشة، وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما، فالحديث محفوظ". اهـ. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 450 - 451)، والنسائى في سننه في كتاب الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثاً وما فيه من التغليظ (6/ 149)، والترمذى في جامعه في كتاب النكاح، باب ما جاء في المحلِّل والمحلل له (2/ 294) كلهم من طريق سفيان عن أبى قيس عن هُزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه به. . فذكره. وقال الترمذي عقِب سياقه: "هذا حديث حسن صحيح".

فلذلك يجب حمله على القصد، وهكذا في سائر العقود التي لها قصود خاصة، وهذا جار في أشياء كثيرة، وقد فصّل هذا العلاّمة ابن القيم رحمه الله، وذكر هذا التقسيم وبسطه بسطاً حسناً، وقد ذكر أمثلة مهمة ينبغى لطالب العلم مراجعتها، وذكر هذا في إعلام الموقعين - المجلد الثالث.

القاعدة الثامنة والخمسون الحكم يدور مع علته وجودا وعدما

القاعدة الثامنة والخمسون الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً هذه القاعدة وما يتلوها هى قواعد أصولية، وذكرها المؤلف هنا استطراداً، فكأنه أراد - رحمه الله - أن يختم هذه القواعد بقواعد أصولية، وهذه القاعدة يذكرها أهل العلم في مسالك العلة لكن يعبرون عنها بالدوران، فالعلة لها مسالك منها الإجماع والنص والمناسبة، ومنها أيضاً الدوران ويسمونها الطرد والعكس. العلّة: هي ما ترتب الحكم على وصف وجوداً وعدماً. فكلما وُجدت العلة وُجد الحكم، وكلما انتفت العلة انتفى الحكم، وقد تكون العلة واضحة، وقد تكون غير واضحة، أو قد لا تظهر المناسبة فيها، ولأجل هذا يعللونها بالدوران؛ لأنه قد تظهر المناسبة وقد لا تظهر، أما إذا كانت المناسبة ظاهرة فهو تعليل بالعلة مع زيادة الوصف المناسب فهو أقوى، فإذا كانت العلة مناسبة للحكم كان ربط الحكم بها أقوى وأتم، أما إذا لم تظهر العلة تماماً لكن عقلناها من جهة الانتفاء والثبوت، أي ثبوتها مع الحكم وانتفائها مع انتفاء الحكم، فكلما دار الحكم مع علته عقلنا أنه مقصود للشرع، وكان هذا تعليلاً للحكم من جهة وجودها مع وجوده، وانتفائه مع انتفائها، وإن لم تظهر المناسبة. وقد ذكر العلماء ضوابط كثيرة لأجل أن يصح التعليل بها: منها أن تكون العلة وصفاً ظاهرًا منضبطاً، فلو كانت العلة غير منضبطة لا

نعلل بها، من ذلك مثلاً قصر الصلاة علّته السفر، فكلما وجد السفر كما شرع القصر، وكلما انتفى السفر كما انتفى القصر، كذلك الفطر في رمضان فإنه يشرع لعلل منها السفر، فكلما وجد السفر كما شرع الفطر، وإذا وجد المرض شرع الفطر، لكن يختلف هل هذا سفر وهل هذا مرض، لكن الأصل أنه كما وجد سفر كان الفطر جائزًا، فالسفر علته منضبطة لا تختلف وليست خفية، بل هو وصف ظاهر وواضح، فهذه القاعدة ذكرها أهل العلم، لكن يختلفون في بعض مسائلها لانتفاء الحكم أحياناً، فقد توجد العلة ولا يوجد الحكم فيحتاج للنظر في سبب الانخرام، فهذه مسائل أخرى ذكرها أهل العلم، وبعضهم أثبت الحكم مطلقاً إذا كان سبب عدم وجود الحكم لمانع أو شرط إلى غير ذلك. أما إذا كان لغير سبب فإن هذا يدل على بطلانها؛ لأن تَخَلُّف الحكم عن العلّة وعن الوصف بدون سبب مما يدل على بطلانها وعدم صحتها. وذكر المصنف - رحمه الله - في الشرح قال: "وهي قاعدة عظيمة واسعة تحيط أو تكاد تحيط بالأحكام الشرعية، وعلة الحكم هي الحكمة الشرعية في سبب الأمر أو النهي عنه أو الإباحة، والله سبحانه حكيم، له الحكمة سبحانه وتعالى. وهذه الحكمة التي ذكرها علماء الأصول أنها غير العلة، فالحكمة هي الأمر الذي من أجله شرع الحكم، وقد تُعقل وقد لا تُعقل، أما العلة فهي الوصف الظاهر المنضبط الذي كلما وُجِدَ وُجِدَ عنده الحكم، فالأحكام تعلق على عللها لا على أحكامها؛ لأن الحِكَم قد تظهر لنا وقد لا تظهر، فإن ظهرت لنا فالحمد لله،

وإن لم تظهر سلمنا بالأمر، وهذا سبق أن أشرنا إليه، وذلك أن العلة قد تكون ظاهرة وقد تكون أمراً لا تظهر مناسبته فلأجل هذا نسلّم للحُكْم، وإن لم تظهر لنا الحكمة، فالعلة قد تتفق هى والحكمة، وقد تكون الحكمة شيئاً آخر غير العلة، ولأجل هذا اختلف العلماء هل يعلّل بالحكمة أو لا يعلل؟. منهم من قال إنه لا يعلل بالحكمة، ومنه من قال إنه يعلل بها، ومنهم من قال إنها إذا كانت منضبطة غير خفية وغير منتشرة علل بها، وهذا هو الأصح من أقوال الأصوليين، ولهذا تجد الفقيه قد يختار بعض الأقوال في المسائل بناءً على ظهور العلة ووضوحها. ومما يذكره أهل العلم - أيضاً - في هذا الباب: هل العلة تكون قطعية أم ظنية؟. أكثر العلماء على أن دلالة العلة على الحكم ظنية، لكن كلما كان الحكم مناسباً للعلة كما كانت أكثر رجحاناً حتى ينتهي إلى القطع، فإذا كانت العلة مناسبة نقطع بأن العلة مقطوع بها، فمثلاً تحريم الخمر كل ما خامر العقل فهو مسكر. فتعليق التحريم بما خامر العقل وغطّاه فهو مناسبة ظاهرة في تحريم كل مسكر.

القاعدة التاسعة والخمسون الفكرة إذا كانت بعد النفي أو الاستفهام أو الشرط تفيد العموم

القاعدة التاسعة والخمسون الفكرة إذا كانت بعد النفي أو الاستفهام أو الشرط تفيد العموم فكل نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فنسأل: هل يوجد أحد؟ فنقول: لا أحد موجودًا، أو ما أحد قائماً، فإنه في هذه الحال يفيد العموم، عموم كل من كان سئل عنه، وأنه ليس موجودًا أو قائماً، سواءً باشرت الأداة نفس النكرة أو باشرت معمولها، "ما أحد قام": هذه باشرت النكرة، "ما قام أحد": هذه باشرت معمولها، لأن العامل من خبر لا النافية هو "قام". وكذلك النكرة بعد النهي، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الْتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬1) والفعل في معنى النكرة، فلا يجوز قتل أي نفس إلا بالحق، وكذلك النهي عن قربان الزنا. وكذلك النكرة إذا كانت في سياق الاستفهام فإنها - أيضاً - للعموم كما قال تعالى: {هلْ تعلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬2)، وكذلك قولك: هل رأيت أحداً؟ وما أشبه ذلك فإنه يفيد العموم. كذلك النكرة في سياق الشرط كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِنَفْسِهِ} (¬3)، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 33. (¬2) سورة مريم، الآية 65. (¬3) سورة فصلت، الآية 46.

وقول القائل: من فاز فأعطه جائزة، فهذه أدلة كلها تفيد العموم. وقد اختلف العلماء في دلالتها على العموم، فتختلف قوتها في العموم ودلالتها على القطع بالعموم، أو أنها ظاهرة في العموم.

القاعدة الستون (من)، و (ما) و (أي)، و (متى)، و (أل)، والمفرد المضاف يدل كل واحد منها على العموم

القاعدة الستون (من)، و (ما) و (أي)، و (متى)، و (أل)، والمفرد المضاف يدل كل واحد منها على العموم فـ (من) إن كانت شرطية فهى عامة، ومنهم من يحكي الإجماع على عمومها، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬2) فهذه عامة، فكل متوكل فالله حسيبه، وكل متق فإن الله سبحانه وتعالى يجعل له مخرجاً. وكذلك إذا كانت استفهامية فإنها عامة كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون} (¬3). كذلك إذا كانت موصولة فإنها عامة كما قال تعالى: {وَمِنْهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬4). كذلك في ما إذا كانت شرطية فإنها تكون للعموم كقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُم مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} (¬5)، فهذه تفيد العموم، فإن كل خير يقدم فإن الله سبحانه وتعالى يجازي عبده عليه. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 2. (¬3) سورة الحجر، الآية: 56. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 25. (¬5) سورة البقرة، الآية: 110.

وكذلك إذا كانت استفهامية مثل قوله تعالى: {وَمَا تلْكَ بِيمِينكَ يَا مُوسَى} (¬1). وكذلك إذا كانت موصولة فإنها تفيد العموم كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (¬2)، وفي قوله - عليه الصلاة والسلام -: "على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه" (¬3) يعنى الذي أخذت، فالأدلة من الكتاب والسنة تدل على أنها تفيد العموم، لكن لا شك أنها تختلف درجاتها، فإذا كانت شرطية فهي أقوى في العموم من كونها استفهامية، أو إذا كانت موصولة، وكذلك إذا كانت شرطية فإنه تفيد العموم كقوله تعالى: {أيَّمَا تَدْعُو} (¬4). وكذلك إذا كانت استفهامية كما في قوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} (¬5)، كذلك (متى) لزمان مبهم، فنقول مثلاً لإنسان: متى تذهب اذهب، أو متى تقم أقم فإنها تفيد العموم. وكذلك (ال) إذا كانت غير عهدية سواء كانت دخلت على جمع أم مفرد فإنها تفيد العموم. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 17. (¬2) سورة طه، الآية: 17. (¬3) سبق تخريجه ص: 143 - 144. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 110. (¬5) سورة النمل، الآية 38.

وكذلك المفرد المضاف كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1) فيشمل أي نعمة من نعمه سبحانه وتعالى. وسواء كانت مضافة إلى اسم ظاهر أو إلى ضمير فنقول مثلاً: أدِّبْ ولدك، فإنه يشمل جميع أولاده بإضافتها إلى الضمير. هذه جملة ما أشار إليه من القواعد - رحمه الله -، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 34.

§1/1