شرح القواعد السبع من التدمرية

يوسف الغفيص

شرح القواعد السبع من التدمرية [1]

شرح القواعد السبع من التدمرية [1] الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الرسائل المهمة في باب الاعتقاد، وقد كتبها جواباً لمن سأله من أهل تدمر، وقد تضمنت الكلام في أصلين شريفين من أخص أصول الديانة، وهما: توحيد الله تعالى وصفاته، ومقام الشرع والقدر. وقد تكلم رحمه الله عن هذين الأصلين لبيان المنهج الحق والعقيدة الصحيحة التي كان عليها سلف الأمة في هذين الأصلين، والتي يجب أن يعتقدها كل مسلم، ولأن كثيراً من الفرق الضالة قد ضلوا في هذين الأصلين، وخاضوا فيهما بغير علم، فضلوا وأضلوا، فقصد إلى الرد عليهم بالدلائل الواضحة البينة من الكتاب والسنة ومن كلام سلف الأمة، كما رد عليهم أيضاً بالدلائل العقلية البينة الواضحة.

مقدمة شرح القواعد السبع من التدمرية

مقدمة شرح القواعد السبع من التدمرية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه الرسالة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي المسماة بـ (الرسالة التدمرية)، وسبب هذه التسمية بيِّنٌ من جهة النسبة، فإنها رسالة كتبها جواباً لمن سأله من أهل تدمر -وهي بلدة في الشام-. وقد تضمن ما ذكره في هذه الرسالة كلاماً في أصلين شريفين من أخص أصول الديانة؛ بل هما أخص أصول الديانة، وهما: توحيد الله سبحانه وتعالى وصفاته، ومقام الشرع والقَدَر. كما تضمنت هذه الرسالة قواعد وأصولاً في مقام الصفات، وطرق الرد على المخالفين. وعندما تكلم عن الأصل الثاني ذكر القاعدة الشرعية في مقام الشرع ومقام القدر، والتحقيق الذي بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام في الجمع بين مقام الشرع والقَدَر. ولك أن تقول: إن الجمع بين الشرع والقَدَر هو بمعنى قولك: التحقيق لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فإن شهود مقام القدر هو شهود لمقام ربوبية الله سبحانه وتعالى، وشهود مقام الشرع هو شهود لمقام عبودية الله سبحانه وتعالى، فمن حقق الجمع بين الشرع والقدر فقد حقق توحيد الله سبحانه وتعالى في مقام ربوبيته، وفي مقام ألوهيته وعبوديته؛ لأن أخص أصول الشرع وأشرفها وأولاها هو أمره سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإن الشرع إذا ذكر قصد به الأمر والنهي، وأخص الأمر الذي أمر الله به سائر العباد هو أمره سبحانه وتعالى بإفراده بالعبادة، كما أن أخص النهي الذي نهى الله سبحانه وتعالى عنه العباد هو نهيهم عن الإشراك به. ولهذا إذا ذكر الشرع تضمن توحيد الألوهية، وإذا ذكر القدر فإن مقام القدر من أخص مقامات الربوبية.

ظهور المدارس الفقهية

ظهور المدارس الفقهية قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أوحد عصره، وفريد دهره، ناصر السنة، وقامع البدعة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه]. هذه الرسالة معروفة بأنها لـ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وهو من علماء الحنابلة -من جهة الأصول الفقهية- هو وأهل بيته، فإنهم كانوا من شيوخ المذهب الحنبلي، وإن كان شيخ الإسلام عُرِف بعنايته بالتحقيق، وعدم التقيد بمسألة التقليد على المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب، ولذلك لا يعد حنبلياً على معنى التقليد. ومن هنا نقول: إن من انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة هم الغالب من أهل العلم بعد طبقة القرون الثلاثة الفاضلة، وقد ظهرت جملة من المدارس، وإن كان الذي استقر منها خمس مدارس، وهي: 1 - المدرسة الحنفية. 2 - المدرسة المالكية. 3 - المدرسة الشافعية. 4 - المدرسة الحنبلية. 5 - المدرسة الظاهرية. فهذه المدارس الخمس من المدارس الفقهية المعروفة هي التي استقرت وبقيت، إلا أن كان المذهب الظاهري كان ضعيفاً، ثم نشره وبسطه أبو محمد ابن حزم. وأصول هذه المدارس الخمس أصول سلفية، وأئمتها كلهم من الأئمة المعروفين بالتحقيق وصحة الاعتقاد، وإن كان قد أخذ على أبي حنيفة مسألة في الإيمان، وهي مسألة لا تعد من بدع العقائد الكبرى، وإنما هي -كما ذكر الإمام ابن تيمية وغيره- من بدع الأقوال، وكذلك داود بن علي الظاهري أخذت عليه مسائل يسيرة لفظية ليست من أصول الاعتقاد، وله كلمات تعقبه عليها جملة الإمام أحمد في بعض كلماته، لكن أصوله -أعني: داود بن علي الظاهري - هي أصول أهل السنة والجماعة. فهؤلاء الأئمة أصولهم واحدة من حيث الاعتقاد، ثم اختلفوا من حيث المذاهب، وثمة قدر من الوفاق فيما بينهم، ولاسيما بين الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، فهؤلاء أكثر توافقاً من جهة الأصول، ثم يليهم الإمام أبو حنيفة، ثم داود بن علي؛ فإن له أصولاً اختص بها في بعض المسائل، وإن كان يقال: إن داود بن علي رحمه الله لم يشرح سائر هذه الأصول شرحاً مستفيضاً، بمعنى أنه تكلم بجمل، ثم جاء أبو محمد ابن حزم وبسط هذه الجمل. فلا يلزم أن يكون سائر ما أضافه ابن حزم إلى المذهب الظاهري منضبطاً في كلام داود بن علي، فإنه متقدم عنه كثيراً، ولم يفصح بكثير من هذه التفصيلات. ولا يقال عن مذهب من هذه المذاهب الخمسة: إنه أصح المذاهب، فإن هذا لا يقوله إلا مقلد متعصب لمذهبه. وإنما الصواب أن يقال: إن هذه المذاهب الخمسة في كلام الفقهاء، أو حتى ما يضاف إلى أحد من الأئمة المتقدمين، وأخصهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعدهم من التابعين ومن بعدهم، فإن أي قول من الأقوال الفقهية يضاف لإمام متقدم -سواء كان هذا الإمام أحد هؤلاء الخمسة، أو من قبلهم، أو من عاصرهم- فإنه يكون قولاً له وجهه، وينظر في دليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع، وأصول الاستدلال المعروفة. إذاً: لا يصح الانتصار المطلق لمذهب من المذاهب الفقهية، وإن كان لا يُمنع من التأصيل على مذهب من هذه المذاهب الأربعة، وثمة فرق بين مسألة التأصيل على مذهب واحد، كما هو شأن المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة، وبين التقيد بسائر فروع المذهب وفتاواه ومحتملاته، وما إلى ذلك مما يفصله فقهاء المذاهب، فمن التزم بسائر الفروع فهذا لا ينبغي إلا أن يكون مقاماً لمقلد، سواء كان عامياً أو مبتدئاً في العلم، فهذا هو الذي قد يسعه هذا المقام، وأما من بان له الدليل على خلاف مذهب فقهي -وهو أهل للنظر في الدليل- فإنه يلزمه أن يكون متبعاً لصريح الدليل أو ظاهره، أو ما دل عليه الدليل بحسب درجات الاستدلال. فالمقصود: أن شيخ الإسلام ابن تيمية أصوله -في الجملة- حنبلية، مع أنه لم يتعصب أو يلتزم المذهب الحنبلي في جميع فروعه ومسائله. وقد ضمن شيخ الإسلام هذه الرسالة أصولاً من أصول أهل السنة والجماعة، كما ضمنها أصولاً من أصول الرد على المخالفين. وبالمناسبة: فإن ما كتبه علماء السنة والجماعة في الاعتقاد يقع على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون تقريراً للمعتقد. الوجه الثاني: أن يكون رداً على المخالف. وهذه الرسالة تضمنت هذا وهذا في مقام الشرع والقدر، وفي مقام التوحيد والصفات.

ظهور الفرق في الإسلام

ظهور الفرق في الإسلام قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فقد سألني من تعيَّنت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر]. لقد كان المصنف رحمه الله في عصر اختلطت فيه كثير من المقالات، فإنك إذا نظرت -مثلاً-: إلى الجيل الأول وهم جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ فإنك تجد أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه انتهت، ثم جاءت خلافة عمر رضي الله عنه، إلى أن قتل ولم يحدث في الإسلام بدعة. ثم لما جاءت خلافة عثمان رضي الله عنه لم تظهر البدع في أول خلافته، وإنما ظهرت جملة من الفتن، وكانت هذه الفتن التي ظهرت مقدمة لظهور شيء من البدع.

ظهور الخوارج

ظهور الخوارج في آخر خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين ظهر الخوارج الذين حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأنهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من نحو عشرة أوجه، وجاء أيضاً في صحيح البخاري، فالحديث متفق عليه من غير وجه، وهو مخرج في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد قال الإمام أحمد: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه". وقد ظهروا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان ابتداء إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بظهورهم لما جاءه ذهب من اليمن فقسمه عليه الصلاة والسلام بين أصحابه، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: فقام عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم، ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ولى الرجل، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئاً، ثم ينظر إلى قذذه فلا يجد فيه شيئاً، قد سبق الفرث والدم). وفيه إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم .. وما إلى ذلك. وقد ظهر هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب وكفروا المسلمين بالكبائر؛ بل بما يرونه من الكبائر، فقد زعموا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتى كبيرة فكفروه بها، وكلا المقدمتين باطلة؛ فإن علياً لم يأت كبيرة، ثم لو فرض أنه أتى كبيرة من الكبائر فإن الكبيرة في الشريعة لا توجب كفر صاحبها. ثم بعد ذلك حصل الاقتتال، وقاتلهم الصحابة بإمارة علي بن أبي طالب، وكان قتالهم -أعني: الخوارج- مشروعاً بالنص والإجماع، ليس لكفرهم، وإنما دفعاً لصولهم وعدوانهم على المسلمين بالدماء، فإنهم أهل سيف، وإلا فإن في أهل البدعة المخالفين للصحابة رضي الله تعالى عنهم من هو شر منهم من جهة البدع، ولكن الخوارج إنما شرع قتالهم وأجمع الصحابة على قتالهم لما عندهم من السيف والصول على المسلمين؛ فإن الذي عليه جمهور السلف- وهو ظاهر مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية وانتصر له انتصاراً واسعاً في منهاج السنة وغيره- أن الخوارج الأول الذين خرجوا على علي بن أبي طالب ليسوا كفاراً، وإنما هم من أهل البدع والبغي، وقتالهم من باب دفع صولهم وليس من باب كفرهم، وهذا هو ظاهر سنة علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة، فإنهم ما جروا في قتالهم على سنة قتال الكفار، فإنه من المعلوم أن قتال الكفار يشتمل على السبي، والإجهاز، وما إلى ذلك من الأمور المعروفة في الجهاد مع الكفار، فالصحابة لم يستعملوا هذه السنن عندما قاتلوهم، فدل ذلك على أن علياً وغيره من الصحابة وإن أجمعوا على قتالهم إلا أنهم لا يرون كفرهم؛ ولكنهم من أهل البدع والعدوان والضلال، وقد ذمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر مروقهم من الدين، وما يتعلق بذلك من انحرافهم عن أصول الحق والسنة والجماعة.

ظهور الشيعة والقدرية والجبرية

ظهور الشيعة والقدرية والجبرية ثم بعد ذلك ظهر التشيع، وكانت الشيعة على مقامات ثلاثة معروفة. ثم بعد خلافة الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية، ظهر القول بنفي القدر. ثم ظهرت مقالة الجبرية المقابلة لمقالة القدرية.

ظهور التعطيل والتشبيه في صفات الله عز وجل

ظهور التعطيل والتشبيه في صفات الله عز وجل ثم بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم -أي: بعد وفاة سائر الصحابة- ظهر القول بنفي الصفات. ثم ظهر القول بالتشبيه. وهكذا تسلسلت البدع على هذا النحو. والذي كان شائعاً زمن القرون الثلاثة الفاضلة أو من أدرك بقية عصر الصحابة، ثم القرن الذي بعده، والقرن الذي بعده -كان شائعاً امتياز السنة عن البدعة، بمعنى: أن أصحاب البدعة لم يكن أحد منهم ينتحل مذهب أهل السنة والجماعة؛ بل كان المعتزلة متحيزين ببدعتهم، لا ينتسبون إلى السنة والجماعة، وكانت الخوارج أيضاً لا تنتسب إلى طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم .. وهَلُمَّ جَرّا.

ظهور متكلمة الصفاتية

ظهور متكلمة الصفاتية ثم لما جاء عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجماعة من المتكلمين وبعض المتصوفة؛ كـ الحارث بن أسد المحاسبي؛ صار هؤلاء ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، مع إظهارهم لشيء من البدع؛ إما في مقام الصفات، أو في مقام القدر، أو غير ذلك، فحصل من هذا التاريخ الذي توافق فيه عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو أخص من تكلم في مسائل الصفات الفعلية وهو ينتسب إلى السنة والجماعة- حصل من كلام عبد الله بن سعيد ومن شاركه في هذا الكلام من متكلم أو متصوف ظهور قوم ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويعظمون جُمَلَهُمُ العامة، ويعظمون أسماء أئمتهم؛ ولكنهم وقعوا في كثير من البدع المخالفة لإجماع أئمة السنة والجماعة المتقدمين من الصحابة ومن بعدهم. ولكن هؤلاء هم أقرب إلى السنة والجماعة من أهل البدع الذين لم يكن أحد منهم ينتسب إلى السنة والجماعة. ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: "أهل البدع المغلظة لا ينتحلون مذهب أهل السنة والجماعة". فالغالب؛ بل الأصل العام في هذه البدع المغلظة أن أصحابها لا ينتسبون إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة، بل هم متحيزون ببدعهم، وعندهم من الطعن في أئمة السنة والجماعة ما هو معروف. ولعله يُذْكَر ما شاع في التاريخ من موقف أئمة المعتزلة من الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة؛ حتى إنهم أفتوا بقتل أئمة السنة لما رأوا من السلطان ميلاً لهم إذ ذاك. وهذا يبين لنا عدل أهل السنة والجماعة: أنهم يقضون بين الناس بالحق، ولا يقابلون الأمر بالأمر؛ فضلاً عن أن يبغوا على أحد، فإن السلطان كان موافقاً لمذهب أئمة السنة والجماعة في جملة الدولة الأموية والدولة العباسية فضلاً عما قبل ذلك، ومع ذلك لم ينقل أن أحداً من أئمة السنة والجماعة قصد إلى قتل سائر المخالفين بالسيف، بخلاف المعتزلة عندما كان المأمون العباسي مائلاً إلى طريقتهم ومنتصراً لها، ثم جاء بعده المعتصم العباسي، وأفتى من أفتى من أئمة المعتزلة بقتل الأئمة الذين لا يقولون بخلق القرآن. أما عبد الله بن سعيد بن كلاب وبعض أفراد طبقته من متكلم أو متصوف، فقد انتسبوا لأهل السنة والجماعة، ولذلك فإن ابن كلاب إذا ذكر بعض المقالات يقول: وقول أهل السنة الذي نقول به. وأحياناً يذكر لأهل السنة قولين، وفي الحقيقة ليس لهم إلا قول واحد. إذاً: هؤلاء انتسبوا لأهل السنة والجماعة، وأيضاً وافقوا أهل السنة والجماعة في مسائل لم تكن المعتزلة أو غيرها يوافقونهم فيها، ولكنهم مع موافقتهم لهم في بعض المسائل، ومع انتسابهم للسنة والجماعة، إلا أنهم خالفوا السنة في مسائل كثيرة، إما في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك. ثم جاء بعد ذلك إمامان مشهوران، وهما: أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي الحنفي، وقد كانا في عصر واحد؛ لكن الأشعري كان في بلاد العراق وما إليها، والماتريدي كان في بلاد ما وراء النهر. وبعد رجوع الأشعري عن مذهب المعتزلة انتسب هذان الرجلان لأهل السنة والجماعة، وصارا من جنس عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاب. فتحصل من هذا: أن أقواماً يخالفون طريقة الأئمة المتقدمين في مسائل أصول الدين؛ في التوحيد، أو في الإلهيات .. في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك، ويوافقونهم في مسائل أخرى، وينتسبون إلى الأئمة؛ ولكنهم ليسوا على علم مفصل بكلام الأئمة، ولعل هذا أخص الأسباب في عدم تحقيقهم لأقوال السلف الأول، وهو أنهم لم يكونوا على علم مفصَّل بأقوالهم. أضف إلى ذلك: أن الأشعري والماتريدي جاءا في عصر استقرت فيه المدارس الفقهية، وكثر الانتساب لأحد هذه المدارس: إما الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، أو الحنبلية، أو ما إلى ذلك. فلأجل هذا الجامع الفقهي بين العلماء في أكثر موارد التاريخ بعد عصر الأئمة، ولكون هؤلاء ينتسبون إلى السنة والجماعة؛ لم يكن هناك في كثير من الأحوال قدر من التمييز لما كان من الأقوال صواباً، وما كان من الأقوال خطأً. بمعنى: أن الفقهاء الذين ينتسبون للأئمة الأربعة، أتباع الإمام مالك، وأتباع أبي حنيفة، وأتباع الشافعي، وأتباع أحمد، من هؤلاء من هو على عقيدة إمامه على التحقيق؛ كـ أبي عمر ابن عبد البر من أصحاب مالك مثلاً، ومنهم من اختلط عليه الأمر، بمعنى: أنه تأثر بجمل من جمل الأئمة، وتأثر بجمل من جمل هؤلاء المتأخرين الذين اختلطت عندهم السنة بالبدعة. فلهذا السبب صار عند هؤلاء -أتباع الأشعري، والماتريدي، فضلاً عن أتباع ابن كلاب، ومن يشارك هؤلاء من متكلم، أو متصوف، أو فقيه، أو مستعمل لطريقة أهل الحديث؛ كـ البيهقي مثلاً- صار عندهم أخطاء في مسائل، وصواب في مسائل، وتعظيم لطريقة أهل السنة والأئمة من جهة الانتساب والانتصار، والرد على أهل البدع المغلظة من أصول المخالفين المتقدمة. لقد جاء الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا العصر، وهو عصرٌ الشيوع والغلبة في كلام الفقهاء إذ ذاك لمثل هذا النوع؛ ولذلك حصل له مناظرات مع فقهاء وقضاة من الشافعية، والمالكية، والحنفية، ناظروه وتكلموا معه لأنهم كانوا على أصول أبي الحسن الأشعري، ولم يكونوا أيضاً محققين لأصول أبي الحسن الأشعري؛ بل كانوا مائلين إلى الطريقة المتأخرة التي ركَّبها أبو المعالي الجويني من أصحاب الأشعري، وطريقة الأشعري خير من طريقة متأخري أصحابه. ومما سبق نعلم أن العصر الذي أدركه الإمام ابن تيمية رحمه الله هو العصر الذي انتشرت وشاعت فيه المقالات التي ينتسب أصحابها للسنة والجماعة، وقد يصيبون في مقام، ولكنهم يخلطون ويخطئون ويخرجون عن السنة في مقامات كثيرة؛ سواء في مسائل الصفات، أو في مسائل القدر، أو غيرها. ولذلك إذا قرأنا في كلام شيخ الإسلام لا نجد له تفصيلاً واسعاً في تتبع بعض المقالات، مثل مقالة الجبرية الغالية؛ لأن هذه المقالة حتى من كان يخالفه من معاصريه كانوا مخالفين لها، وإنما عُنِي رحمه الله ببيان امتياز طريقة الأئمة المتقدمين عن بعض الطرق المتأخرة التي خلط أصحابها الحق بشيء من الباطل، فكان مقصوده هذا التمييز مع عنايته رحمه الله بمقام العدل؛ ولذلك لم يكن يكفر المخالفين المنتسبين للسنة والجماعة، وإن كان عندهم بدع شديدة في بعض المسائل؛ كالعلو مثلاً، فإنه ناظر بعض المتكلمين في مسألة العلو، ومعلوم كلام السلف في هذه المسألة؛ ولكنه كان يلتزم بالأصل المعروف وهو: أن ثمة فرقاً بين المقالة وبين قائلها، وأنه لا يلزم من الحكم على المقالة أن يكون الحكم مطرداً على جهة التسلسل واللزوم فيمن قال هذه المقالة؛ بل لا بد من مقدمات، ومن قيام حجة .. إلى غير ذلك.

شرح القواعد السبع من التدمرية [2]

شرح القواعد السبع من التدمرية [2] توحيد الله سبحانه وتعالى هو اعتقاد وحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة عن توحيد الصفات، وتوحيد الشرع والقدر، وذكر الأسباب الداعية إلى الكلام عن هذين الأصلين.

الكلام على التوحيد وتقسيمه

الكلام على التوحيد وتقسيمه قال المصنف رحمه الله: [أما بعد: فقد سألني من تعيَّنتْ إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر]. قوله رحمه الله: (من الكلام في التوحيد والصفات): توحيد الله سبحانه وتعالى هو اعتقاد وحدانيته سبحانه وتعالى من جهة ربوبيته، ومن جهة ألوهيته وعبوديته. ومن المعلوم أن المتقدمين من الأئمة -وأخصهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم- لم يستعملوا التقاسيم في زمنهم، وإنما ظهرت كثير من التقاسيم والتراتيب فيما بعد، وقد ظهر ترتيبان في تقسيم التوحيد: فمنهم من يقول: إن التوحيد يتنوع إلى ثلاثة مقامات، ومنهم من يقول: ينقسم إلى ثلاثة أقسام. والحقيقة: أن الأولى أن لا يعبر بلفظ (الانقسام)؛ لأن التوحيد واحد، بمعنى: أن من حقق توحيد الألوهية لزم أن يكون محققاً لتوحيد الربوبية، وكذلك من حقق توحيد الربوبية فإن تحقيقه إياه يستلزم أن يكون منقاداً للإيمان والإقرار بتوحيد الألوهية. فإن قال قائل: المشركون الذين بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قد ذكر الله في كتابه كثيراً في مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [العنكبوت:61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف:87] فتجد أن الجواب أنهم يقولون: (الله)، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وذكر الإمام ابن تيمية أن إنكار الربوبية مطلقاً لم تذهب إليه أمة من الأمم. هذا هو الذي يرد في كلام أهل العلم، وقبل ذلك هذا هو ظاهر كتاب الله سبحانه وتعالى في ذكر المشركين وما يقرون به من مسألة خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم ولكن هل يلزم من ذلك أن هؤلاء المشركين كانوا محققين لتوحيد الربوبية؟ الجواب: لا؛ بل هناك فرق بين أن يقال: إن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين ببعض أصول الربوبية، وبين أن يقال: إنهم كانوا مقرين بالربوبية في الجملة. إذاً: مشركو العرب وغيرهم من المشركين كانوا غير محققين للإيمان الصحيح بتوحيد الربوبية؛ فإن من المعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها من المعبودات كانوا يسألونها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولا شك أن تعلق العبد بغير الله في مسألة قضاء الحاجات وتفريج الكربات هو جمع بين شركين: الأول: الشرك في الربوبية. والثاني: الشرك في الألوهية. أما الشرك في الألوهية فلأنه دعا غير الله، وصرف عبادة الدعاء لغير الله. وأما الشرك في الربوبية فلأنه اعتقد أن هذا المعبود من الصنم أو غيره قادر على قضاء الحاجات، وكشف الضر، وتفريج الكربات؛ ومعلوم أن هذا هو مقام رب العالمين، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام في براءته من عبودية المعبودات: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أيضاً: استقسامهم بالأزلام، فإنهم كانوا يستقسمون بالأزلام ويمضون على إمضائها ويردون على ردها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت: فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (قاتلهم الله! أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط) رواه البخاري عن ابن عباس. فالاستقسام بالأزلام على معنى الإمضاء والرد هو وجه من الشرك في ربوبية الله تعالى. فالمقصود: أن ما ذكره الله في كتابه عن مشركي العرب أنهم يقرون بأن الله هو الخالق؛ هذا صحيح؛ لكن هذا الإقرار ليس على التحقيق التام والإيمان الصحيح بربوبية الباري جل وعلا، وإلا فإن من آمن على التحقيق بربوبية الباري سبحانه وتعالى انقاد لعبوديته وحده لا شريك له. ومعلوم أن مشركي العرب كان يعرض لهم في بعض الصور أنهم يقرون بتوحيد الألوهية، فهل يصح أن نقول: إنهم مقرون بتوحيد الألوهية؟ الجواب: لا؛ فقد ذكر الله عنهم هذا الإقرار في مثل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] فهذه حالة عارضة، ولكن الأصل في شأنهم هو أنهم مشركون. إذاً: لا شك أن ثمة فرقاً في حال مشركي العرب وغيرهم بين مقام الربوبية، ومقام الألوهية، فإنهم ينكرون مقام الألوهية ويعجبون من شأنه {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] وأما مقام الربوبية فإن الأصل أنهم يقرون به في الجملة. وهناك فرق بين قولنا: إنهم يقرون به في الجملة، وبين قولنا: إنهم محققون له، ومؤمنون به إيماناً شرعياً صحيحاً؛ فإن هذا لا يقع لمشرك، وإنما يقع للمسلمين من أتباع المرسلين عليهم الصلاة والسلام. إذاً: التوحيد شيء واحد، وعندما يذكر أهل العلم أن التوحيد ينقسم إلى: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فإن هذا من باب التراتيب العلمية، وليس من باب البدع. ومن أهل العلم من قال: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التوحيد العلمي: ويقصد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات. القسم الثاني: التوحيد الطلبي: ويقصد به توحيد الألوهية. وهذا الاصطلاح يستعمله ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. فهذا الترتيب من باب التراتيب العلمية، وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يفقهها، حتى لا يُخْلَط عليه ما كان من البدعة وما كان من باب التراتيب العلمية. فإذا قلنا: إنه ترتيب علمي، فمعنى ذلك: أن من تكلم به من أهل العلم قصدوا به الإيضاح والبيان، ولا يلزم أن يكون هذا الاصطلاح لازماً لكل أحد، وإنما الذي يلزم سائر المكلفين هو العلم بحقيقة هذا التوحيد، سواء علمها على أن التوحيد يتنوع إلى: علمي، وإرادي، أو علمها على أن التوحيد: ألوهية، وربوبية، وأسماء وصفات، أو علمها على أن التوحيد هو: وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً، ومعبوداً، ومعظَّماً، ومنزَّهاً، ومفرَداً بالعبادة .. إلى غير ذلك من سلسلة المعاني الشرعية. فالذي يلزم سائر المكلفين أن يعلموه ويعملوا به: أن يتبعوا المعنى الشرعي، سواء عُبر عنه بهذا الاصطلاح أو بغيره، ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم على فقه في هذا المقام، فلا يتعصب لتقسيم أو اصطلاح معين من اصطلاحات أهل العلم، وينفي غيره من الاصطلاحات الصحيحة، ولا يطعن في هذا الاصطلاح بدعوى البدعة وما إلى ذلك، فإن هذا ليس من باب البدع؛ بل هو من باب التراتيب العلمية والإيضاح والبيان، وقد كثرت هذه التراتيب في العصور العلمية المتأخرة، وإلا فإننا إذا نظرنا إلى عصر الصحابة لا نجد أن عندهم حاجة إلى هذه التراتيب. ولو قال قائل: لِمَ لَمْ يستعمل الصحابة هذه التراتيب؟ فالجواب: لقوة فقههم، وشرف علمهم، وسلامة فطرتهم، وقلة الشُّبَهِ في زمنهم، لم تظهر مثل هذه التقاسيم والتراتيب التي تبين الحقائق وتفصل الأمور، حتى لا يقع ضعف، أو اختلاط، أو تقصير في تحقيق المعاني الشرعية.

توحيد الصفات

توحيد الصفات وقوله رحمه الله: (والصفات)، أي: صفات الله تعالى، وصفات الله تعالى من توحيده؛ حتى قال بعض أهل العلم: إن توحيد الربوبية هو توحيد الأسماء والصفات، ومن المعلوم أن أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته هي من مقام ربوبيته، وإنما ذكرها من ذكرها من أهل العلم على سبيل الاختصاص لأن قوماً ممن ينتسبون إلى الديانة والإسلام والقبلة حصل عندهم أغلاط وأخطاء في مقام صفات الله سبحانه وتعالى؛ إما بتعطيلها، أو تشبيهها بصفات المخلوقين، فلما ظهر هذا الغلط في تاريخ المسلمين بعد عصر الصحابة عني أئمة السنة وأئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين بذكر مسألة الصفات وتخصيصها؛ لما وقع فيها من الغلط بسبب تلك البدع التي ظهرت على يد المتكلمين والمتفلسفة.

توحيد الشرع والقدر

توحيد الشرع والقدر وقوله: (وفي الشرع والقدر): المقصود بالشرع: الأمر والنهي. وأخص الأمر: هو أمره سبحانه وتعالى لعباده بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا شك أن هذا متضمنٌ لمقام ربوبيته سبحانه وتعالى. وأخص النهي: هو النهي عن الشرك به، عن أن يكفروا أو يشركوا بربهم سبحانه وتعالى. والقدر: هو قدر الله في خلقه. وقولنا: (في خلقه) الخلق اسم عام، وليس خاصاً بالعباد من بني آدم؛ بل هو قدره سبحانه المطرد، فإن الله هو الخالق وما سواه مخلوق، والله سبحانه وتعالى هو الباري وما سواه عالم مخلوق، وهو رب العالمين أجمعين من بني آدم، ومن الملائكة، والجن، والأحياء والأموات والجماد، وما إلى ذلك. فقدره سبحانه وتعالى مطرد في سائر خلقه، وهذا القدر له أصول ومعانٍ سيأتي -إن شاء الله تعالى- التعليق عليها فيما بعد. وقد ذكر المصنف هذه المسألة لأن مقاماً في هذا الأصل -وهو القدر- حصل فيه غلط عند قوم من أهل القبلة، وهو ما يتعلق بأفعال العباد، وصلتها بقدر الله سبحانه وتعالى. والقدر: هو قضاء الرب سبحانه وتعالى على خلقه فيما يتعلق بحركاتهم وسكناتهم وأفعالهم ومآلهم .. وما إلى ذلك.

معنى قول المصنف: (أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة)

معنى قول المصنف: (أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة) قال المصنف رحمه الله: [لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال].

المقصود بأهل النظر

المقصود بأهل النظر قوله: (ومع أن أهل النظر). المقصود بأهل النظر: هم أصحاب النظر العقلي، وهذا هو الغالب على مصطلح النُّظَّار إذا ذكر، فإنه مصطلح متأخر، والغالب على هؤلاء الذين اختصوا بمسألة النظر أنهم من علماء الكلام، ولا يلزم من مصطلح النظر أن يكون نظراً عقلياً على طريقة المتكلمين؛ بل يمكن أن يكون نظراً شرعياً صحيحاً على طريقة المرسلين، فإن النظر العقلي ليس هو النظر بعلم الكلام، ومعلوم أن دليل العقل ليس هو دليل علم الكلام فقط، فإن الله تعالى أمر عباده بالنظر، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ولكن هل أمر الله سبحانه وتعالى سائر المكلفين بالنظر من جهة معرفة وجوده ومعرفة ربوبيته؟ الجواب: لم يأمر الله سبحانه وتعالى سائر العباد أن ينظروا إلى معرفة وجوده؛ لأن وجوده سبحانه وتعالى وربوبيته فطرة فطر الله سبحانه الخلق عليها، ولكن من اختلطت فطرته بشيء من الضلال والشك فإن هذا يكون النظر في حقه مشروعاً؛ لدرء هذا الإشكال، وهذه الشبهة والظلمة التي طرأت عليه. وأما إذا قصد بالنظر: التفكر في خلق السماوات والأرض على جهة التحقيق والتأمل والتدبر، فإن هذا لا شك أنه مشروع لسائر المكلفين، يقول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "إن الله لم يأمر سائر المكلفين بالنظر"، ومقصوده بهذا النظر أي: من جهة معرفة الرب رباً موجوداً، فإن هذا فطرة في قلوب بني آدم، ولهذا لم يأمر به الباري سائر المكلفين.

المقصود بأهل العلم

المقصود بأهل العلم وأما (أهل العلم) فإن هذا الاسم إذا ذكر يراد به أهل علم الشريعة، وقد عُنِي طائفة من أهل العلم بتمييز هذا عن هذا؛ لأن علم الكلام الذي يستعمله جمهور النظار علم مبتدَع، وقد ظهر بعد عصر الصحابة.

تعريف علم الكلام وذم الأئمة له

تعريف علم الكلام وذم الأئمة له لقد تكلم جماعة في تعريف علم الكلام وحدِّه، ومِن أخصِّ مَن تكلم في ذلك وشاع كلامه عند المعاصرين ابن خلدون صاحب المقدمة، فضلاً عن علماء الكلام أنفسهم؛ فإنهم يعرفون في مقدمة كتبهم هذا العلم، ويقولون: "هو معرفة العقائد الإيمانية بالحجج العقلية". هذا هو التعريف الشائع في كلام النظار وبعض الأصوليين وغيرهم، وهذا التعريف غير صحيح؛ لأن هذا العلم لو كان من هذا الوجه فلا يمكن أن يكون معارضاً للشرع ومذموماً هذا الذم الذي ذُكِرَ في كلام الأئمة المتقدمين الذين أدركوه، فإنه قد تواتر عن أئمة السنة والجماعة كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين -تواتر عنهم أنهم ذموا علم الكلام وذموا أصحابه. ومعلوم أن الدليل العقلي لم يشتهر في كلام الأئمة ذمه، وكذا نجد أن الله تعالى في كتابه ذم مسألة العقل؛ بل ذكر في كتابه أن العقل موجب ومحرك للهداية في مثل قول الله سبحانه وتعالى عن المشركين: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] فدل على أن العقل لو حققوه لاستجابوا للحق، وفي مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فالعقل ليس مذموماً في القرآن، وإنما يذم العقل إذا استعمل على غير وجهه، ووضع في غير موضعه، أو عورضت به الشريعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا هو الذي يذم. أما علم الكلام فإنه قد تواتر عن الأئمة ذمه، واقرأ كتاب أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي فقد حكى روايات متواترة عن الأئمة في ذمه. أما سبب ذم الأئمة لعلم الكلام: فهو فساد معانيه، وقد قال بعض المتأخرين كـ أبي حامد الغزالي: "إن الأئمة كـ الشافعي وغيره ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة". أي: التي لم يوجد ذكرها في القرآن والسنة، مع أن أبا حامد الغزالي وغيره يستعملون علم الكلام، وقد دافع الغزالي رحمه الله عن استعماله، فقال: "ولما كان في زمننا هذا احتجنا لاستعماله؛ لدفع صول الفلاسفة وغيرهم على الإسلام"، ومثل لذلك بقوله: "مثل لبس ثياب الكفار؛ فإنها لا تجوز، ولكن إذا قصد من لبسها المصلحة والنكاية وما إلى ذلك بالكفار كان ذلك جائزاً وليس من باب التشبه". وهذا المثل الذي ذكره أبو حامد ليس هذا مورده ولا موضعه؛ بل الصواب أن علم الكلام مذموم، وذلك لسببين: السبب الأول: لما فيه من الألفاظ المحدثة؛ فإن العقائد الإسلامية ينبغي أن يعبر عنها بحروف وكلمات الكتاب، وكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يصح أن يلقن المسلمون ويعلموا العقائد بألفاظ كان يتكلم بها المتفلسفة، أو ولدت من الفلسفة، أو ما إلى ذلك؛ بل لا بد أن يتكلم بكلام الله وكلام رسوله، وما نطق به الصحابة، وما يقارب ذلك، أما أن تُهجر هذه الكلمات الشرعية ويؤخذ بكلمات مخترعة محدثة في الإسلام فهذا ليس منهجاً عدلاً ولا صواباً. السبب الثاني: أن هذا العلم تضمن معاني فاسدة، قال ابن تيمية رحمه الله في غير موضع في درء التعارض وغيره: "وذم الأئمة لعلم الكلام من جهة فساد معناه أعظم من جهة ذمه لحدوث ألفاظه". وقد تولد عن هذا العلم بدعة المعتزلة بتعطيل صفات الله سبحانه وتعالى، وما إلى ذلك من البدع المعروفة في تاريخ المسلمين التي انحرف من انحرف بها من أهل القبلة.

التعريف الصحيح لعلم الكلام

التعريف الصحيح لعلم الكلام إذاً: الصحيح في تعريف علم الكلام أن يقال: هو علم حادث بعد عصر الصحابة، أحدثه قوم من النظار المائلين عن طريقة الأئمة من الفقهاء والمحدثين. وهو مركب من ثلاث مواد: الأولى: مادة فلسفية مفصلة. الثاني: مادة من الكليات العقلية العامة. الثالثة: مادة من الجمل الشرعية العامة. وهذا من باب الضبط والعدل؛ لأن الحقائق العلمية لا بد أن يتكلم فيها بعلم وعدل؛ حتى مقام الرد على المخالف لا يجوز أن تبغي عليه بحكم، ولا يجوز أن تزيد على مقالته بغير ما قاله. ومن الملاحظ أن المقام العقلي فيه مقام كلي، وأن المقام الشرعي فيه مقام مجمل، أي أن عندهم بعض الجمل الشرعية، ومن الجمل الشرعية التي يراعيها هذا العلم: قاعدة: (أن الله مستحق للكمال، منزه عن النقصان)، فهم يرون أنها قاعدة شرعية، والصحيح أنها شرعية وعقلية أيضاً؛ فإن تنزيه الله عن النقص معلوم بالعقل، وليس كما يقول البعض: إنه معلوم بالشرع وحده. إذاً: هم قصدوا إلى جمل شرعية، وإلى كليات عقلية، ولكن جوهر هذا العلم الذي ينبني عليه ويقوم عليه من جهة التفصيل هي مقدمات لخصت من الفلسفة. كيف دخلت الفلسفة على أهل الكلام؟ لقد كانت البلاد التي فتحت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما بعده -ولا سيما أعالي العراق- كانت بلاداً مليئةً بالثقافات الفلسفية، وقد بدأت الترجمة منذ زمن متقدم في دولة بني أمية، فلما ظهرت الترجمة لهذه العلوم دخلت هذه المولَّدات الفلسفية على المسلمين بما يسمى بـ (علم الكلام)؛ ولذلك تكلم أصحابه بالجوهر، والعَرَض، ومسائل معروفة هي مركبة في الجملة من كلام أرسطو طاليس وأمثاله من فلاسفة اليونان. هذه المادة الفلسفية التي لخصت وأضيفت إليها كليات عقلية، وجمل شرعية، هي ما يسمى في الحقيقة بعلم الكلام؛ ولذلك فليس هذا العلم مجرد استدلال بالأدلة العقلية على العقائد الإيمانية؛ فإنه لما كان هذا العلم مبنياً على هذه المواد الثلاث، ولا سيما المادة الفلسفية المأخوذة عن قوم من الفلاسفة الذين لم يكونوا على دين سماوي صحيح، فقد كان أرسطو طاليس قبل المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة سنة، وكان رجلاً ليس على ديانة شرعية، وإنما كان على فلسفة وإلحاد في تعطيل الباري عز وجل عن أسمائه وصفاته وغير ذلك؛ فلأجل هذا السبب نجد أن من انتحل هذا العلم -علم الكلام- قد عطلوا صفات الله سبحانه وتعالى عن معانيها الشرعية، أو عطلوا ما هو منها، وهذا بحسب استعمال أصحاب هذا العلم له.

المقصود بأهل الإرادة والعبادة

المقصود بأهل الإرادة والعبادة قوله: (والإرادة والعبادة): أهل الإرادة في الغالب إشارة إلى العُبَّاد والمتصوفة. والإرادة مسألة نفسية قلبية، فإذا ذكر أهل الإرادات فهو اصطلاح يقصد به النُّسَّاك والمتصوفة، وهناك اصطلاحات في كلام شيخ الإسلام بنحوها، فأحياناً يقول: "أهل الأحوال، المتفقِّرة، المتصوفة"، وهذه المصطلحات تأتي على هذا المعنى، أي: المائلون عن طرق أهل النظر والعقل إلى الطرق الإرادية النفسية السلوكية.

الأصول التي يعرف بها الحق من الباطل

الأصول التي يعرف بها الحق من الباطل قال المصنف رحمه الله: [لا سيما مع كثرة مَن خاض في ذلك بالحق تارةً وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات]. لقد خاضت طوائف أهل القبلة في هذين الأصلين، وقد خلط كثير من هؤلاء -بل أكثرهم- خلطوا الحق بالباطل في هذين الأصلين. والصواب في هذا: هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نطق به القرآن، وما جاءت به السنة؛ فإن هذه الأصول الثلاثة وهي: إجماع الصحابة، وما دل عليه الكتاب والسنة، هي الأصول التي يوزن ويُعْرَف بها الحق؛ فإن الحق لا يُعْرَف بفلان، وهذه من قواعد الإسلام وشريعة الديانة: أن الحق لا يعرف بفلان وفلان من الأئمة، فإن هذه لم تكن من طرق أئمة السنة والجماعة؛ أنهم يعرفون الحق بفلان أو فلان من الآحاد، وإنما الحق يُعْرَف من جهة كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإذا عُرِف الحق بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع؛ فإن هذا يكون من الحق اللازم من جهة الاتباع. وأما إذا لم يكن هناك دليل صريح من الكتاب أو السنة، أو إجماع في المسألة، فإن النظر في هذه المسألة التي بهذه الصورة يكون من باب المحتمل، ومن باب الاجتهاد الذي يسع فيه الخلاف. وأما إذا انضبط الدليل من النص والإجماع، فإن هذا يكون ديناً لازماً لا تجوز مخالفته؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].

شرح القواعد السبع من التدمرية [3]

شرح القواعد السبع من التدمرية [3] الكلام في التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، أي أنه مما أخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به، فيجب تصديقه ويحرم تكذيبه، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب الذي يجب اتباعه والعمل به، وهذان الأصلان يتضمنان توحيد العبادة وتوحيد العلم والقول، والأصل في توحيد الصفات أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وينفى عنه سبحانه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر وفي الشرع والقدر من باب الطلب

الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر وفي الشرع والقدر من باب الطلب قال المصنف رحمه الله: [فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً]. قسم اللغويون والبلاغيون الكلام إلى عدة تقاسيم، ومن تلك التقاسيم: أن الكلام ينقسم إلى قسمين: خبر، وإنشاء. والمقصود بالخبر: ما احتمل التصديق والتكذيب، والنفي والإثبات. فالمصنف هنا يقول: إن الكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر، والكلام في الشرع والقدر من باب الإنشاء والطلب الذي هو الأمر والنهي، ويتعلق بالإرادة والمحبة. وهناك في النظر وتراتيب العلوم -ويذكره المنطقيون- ما يتعلق بصيغ الدلالات الثلاث، وهي: 1 - دلالة المطابقة. 2 - دلالة التضمُّن. 3 - دلالة التلازم. فإذا قيل: الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، فمعناه: أن توحيد الله سبحانه وتعالى هو قول أخبر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام به، فيجب تصديقه ويحرُم تكذيبه؛ كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فإنه هذا نص خبري يجب تصديقه .. وهَلُمَّ جَرَّا. وهل الأخبار الشرعية لا تتعلق بمسألة الطلب والأمر؟ الجواب: لا. بل كل ما كان من باب الخبر فإنه من وجه آخر من باب الطلب، وكل ما كان في الشريعة من باب الطلب فهو من وجه آخر من باب الخبر. إذاً: فكل حقيقة شرعية فإنه يتعلق بها باب الخبر وباب الطلب، ففي الصفات قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يتعلق به الخبر من جهة أن هذا نص خبري يجب تصديقه، ويتعلق به الطلب من جهة أن الله أمر العباد أن يؤمنوا بالقرآن، وهذا منه. وهكذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) كما في الصحيحين وغيرهما. وكذلك كل أمر شرعي فإنه يجب اتباعه من باب الطلب والإرادة والأمر، وهو خبري من جهة أنه خبر رباني -أي: في القرآن- أو خبر نبوي. وأيضاً مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فهذا من باب الطلب، ومن باب الخبر أيضاً؛ لأن هذه آية من القرآن، فيجب التصديق بأنها آية من كلام الله .. وغير ذلك كثير في الكتاب والسنة. إذاً: هناك تلازم بين الخبر الشرعي وبين الأمر الشرعي، بمعنى: أن ما كان خبراً فإنه أمر من جهة، وما كان أمراً في الشريعة فإنه يجب التصديق به من جهة أخرى، باعتباره كتاباً من كلام الله، أو باعتباره سنة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يقول قائل: ما دام أن ثمة تلازماً في النتيجة، فلماذا ذكر المصنف هذا التقسيم وقال: (فالكلام في التوحيد والصفات هو من باب الخبر .. والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب)؟ والجواب: أن هذا باعتبار الابتداء، فالتوحيد -من حيث الابتداء- باب خبري، والأمر والشرع باب طلبي، وأما إذا اعتبرت اللوازم والنتائج المتسلسلة، فإن الطلب من جهة هو طلب، ومن جهة أخرى يجب التصديق به لأنه نص من كلام الله أو كلام رسوله. - معنى (الخبر) في قولنا: (التوحيد باب خبري): وقولنا: (التوحيد باب خبري) هل معنى (خبري) أي: الحكم الذي ثبت بالنص وحده، أم الذي ثبت بالعقل؟ نقول: إن المصنف رحمه الله في كتبه -ولا سيما في كتابه درء التعارض- قد نبه إلى أن كثيراً من أصحاب علم الكلام زعموا أن القرآن ليس فيه دلائل عقلية، بل هو دلائل خبرية مبنية على صدق المخبر. قال شيخ الإسلام: "وهذا قول من لم يقدر القرآن حق قدره". ومعنى هذا: أن الأخبار التي في القرآن في التوحيد والصفات ليست مخاطبات من جهة التصديق فحسب، بل هي مخاطبات عقلية وخبرية معاً. فمثلاً: قول الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذا نص خبري، لكن هناك نصوص في القرآن هي أخبار ولكنها مخاطبة للعقل أيضاً؛ كقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] فهذه مخاطبة للعقول. إذاً: قد ذكر في القرآن الكريم دلائل عقلية كثيرة تبيِّن ما يتعلق بربوبية الله، واستحقاقه للعبادة، وما إلى ذلك. وأُبْطِلتْ في القرآن الطرق الباطلة في عبودية غير الله سبحانه بالعقل أيضاً، كقول الله تعالى عن أصحاب العجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148] فهذه المقدمة من الآية خبر، ثم جاء الإبطال لهذه الآلهة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] وهذا إخبار عقلي، أي: مخطابة للعقل، بمعنى: أنه يمتنع أن يكون إلهاً مستحقاً للعبادة وهو لا يتكلم. ولذلك فإن أهل السنة والجماعة لما أثبتوا صفة الكلام قالوا: دل عليها الشرع والعقل، أما دلالة الشرع: فلأن الله ذكر في كتابه أنه متكلم وأنه يتكلم: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وهذا نص خبري، وأما دلالة العقل فقول الله تعالى عن أصحاب العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فهذا يدل على أن الإله الحق يتصف بصفة الكلام؛ لأن الله تعالى قال عن العجل ولمن اتخذه إلهاً معبوداً: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فدل على أن الإله الحق لا بد أن يكون متصفاً بصفة الكلام. فالقرآن الكريم تضمن دلائل عقلية كثيرة، وهي براهين قاطعة على صحة الربوبية والألوهية، ونبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

إذا تعلق التصديق والطلب بأمور الشريعة كانت النتيجة متلازمة

إذا تعلق التصديق والطلب بأمور الشريعة كانت النتيجة متلازمة قال المصنف رحمه الله تعالى: [والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة، معروف عند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة]. يشير المصنف إلى أن سائر المكلفين والناس يشهدون الفرق بين ما كان من باب التصديق وما كان من باب الطلب، ولكن تقدم معنا أنه إذا تعلق ذلك بأمور الشريعة، سواءً كانت في الأصول أو في الفروع، فإن هذا يكون في نتيجته متلازماً.

الواجب على العبد في باب الصفات والشرع والقدر

الواجب على العبد في باب الصفات والشرع والقدر قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان كذلك فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمِّن كمال قدرته، وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل]. هذه هي الجملة العامة في باب الصفات، وباب القدر. أما في باب الصفات: فإنه يجب على العبد أن يؤمن بما يجب لله سبحانه وتعالى من الكمال، وينفي عنه سبحانه وتعالى ما يضاد هذا الكمال، كما قال المصنف رحمه الله: (وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال)، فعبَّر بالوجوب؛ لأن سائر الصفات التي ثبتت له سبحانه وتعالى هي صفات واجبة في حقه، بمعنى: أنه سبحانه وتعالى متصف بها، ولا يجوز أن يتصف بها أحد من خلقه، أو ما سوى الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وينفي عنه ما يجب نفيه مما يضاد هذه الحال)، أي: ما يضاد الكمال. وهنا إذا قيل: هل أهل القبلة متفقون في باب الصفات أم مختلفون فيه؟ قيل: ثمة أصل قد اتفقوا عليه، وهذا الأصل الكلي المتفق عليه بين سائر أهل القبلة هو: (أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص)، وهذه قاعدة مُجْمَعٌ عليها بين سائر المسلمين من سائر الطوائف. بمعنى: أن من نازع في هذه الجملة كجملة علمية إيمانية فلم يسلِّم بها، فإنه لا يُعَد من أهل القبلة، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: "إن سائر أهل القبلة متفقون على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص"، ثم قال: "ولكنهم اختلفوا في تحقيق المناط"، أي: اختلفوا في ماهية الكمال، وماهية النقص، هل كمال الله بإثبات هذه الصفات كما هو طريق جمهور الأمة وجمهور المسلمين والأئمة والصحابة؟ أم أن الكمال يكون بهذا النفي الذي دخل عليهم من علم الكلام؟ هذا هو معنى (تحقيق المناط).

قاعدة أهل السنة والجماعة في باب الصفات

قاعدة أهل السنة والجماعة في باب الصفات إن جميع أهل القبلة يسلِّمون بهذه الجملة: (أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص)، ولكنهم إذا جاءوا لتفاصيلها وما يسمى بتحقيق المناط، فإن أئمة السنة والجماعة -وأخَصُّهم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم من بعدهم من الفقهاء والمحدثين كالأئمة الأربعة وغيرهم- هؤلاء يستعملون في هذا الباب قاعدة واحدة، وهي ما نص عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة -وهي قاعدة ميسرة سهلة من جهة الإدراك للخاصة والعامة- قال الإمام أحمد رحمه الله: "يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث". هذه قاعدة أهل السنة والجماعة، وقاعدة الأئمة، وقاعدة جمهور المسلمين؛ لأن جمهور المسلمين هم من أهل السنة والجماعة، وإن كان في بيئتهم بعض العلماء النظار أو المتكلمين، فإن العامة في الغالب هم على أصل الفطرة، وأصل السلامة، وأصل التصديق بظواهر الكتاب والسنة، لم ينتحلوا هذا العلم الكلامي الفلسفي الذي لا يستطيع كثير من المتعلمين والأذكياء والبصراء الإحاطة به لدقته في الفهم، وتعقيد مقدماته وتسلسلها وما إلى ذلك، وليس لقوته في العلم. وقد نطق كثير من أصحابه بأنه: علم ليس ميسَّراً للعامة؛ بل هو علم من علم الخاصة؛ ولذلك تكلموا في إيمان العامة: هل يصح بدونه؟ وما إلى ذلك، بكلام لا طائل من ورائه. وأما المخالفون لأهل السنة فإن لهم طرقاً شتى قد خاض أصحابها في هذا الباب بما لا يكون موافقاً للسنة، إما مطلقاً، وإما في بعض المقامات. فالمخالفون لأهل السنة في الصفات أصناف: فمنهم من خالف السنة مخالفةً عامة. ومنهم من خالف السنة في أكثر مواردها. ومنهم من خالف السنة في كثير من الموارد، وليس في أكثرها. فهم طوائف، ولهم درجات ومقامات، وليس المقصود هنا التفصيل في مقاماتهم وطرقهم ومنازلهم. ولما ذكر القدر ذكر أيضاً الإيمان بخلق الله، والإيمان بالقدر: هو الإيمان بخلق الله سبحانه، والإيمان بعلمه سبحانه وتعالى، ومشيئته وإرادته، ثم يُجمع هذا مع الإيمان بأمره، حتى لا يكون للعباد حجة على الله بالقدر.

الأصلان يتضمنان توحيد العبادة وتوحيد العلم والقول

الأصلان يتضمنان توحيد العبادة وتوحيد العلم والقول قال المصنف رحمه الله: [وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول، كما دلت على ذلك سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ودلت على الآخر سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك]. ذكر المصنف هنا ماهية التوحيد وأنها متنوعة: التوحيد العلمي وهو ما يتعلق بالعلم والقول، أو الخبري وهو ما يتعلق بالتوحيد والصفات. وما يتعلق بالقصد والإرادة والعمل، فهذا متعلق بالشرع والقدر، وبالجمع بين مقام الشرع والقدر.

توحيد الصفات

توحيد الصفات قال المصنف رحمه الله: [فأما الأول وهو: التوحيد في الصفات، فألأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، ويُنفى عنه ما نفاه عن نفسه]. المصنف بعد مقدمته السالفة شرع في ذكر الجمل المبينة لقاعدة أهل السنة والجماعة في باب صفات الله سبحانه وتعالى، فقال: (فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً). وذكر المصنف للرسل عليهم الصلاة والسلام فيه تصريح بأن دين الرسل في باب أصول الدين واحد، وإنما اختلفت شرائعهم، فإن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بأصول واحدة، وهي أصول الديانة الكلية؛ من توحيده سبحانه وتعالى وتنزيهه وكماله، وغير ذلك مما هو من أصول الديانة. ثم اختلفت شرائع الأنبياء، إلى أن جاءت الشريعة الخاتمة، وهي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبها ختمت الشرائع، ورضيها الله سبحانه وتعالى لعباده إلى يوم الدين. وإذا قيل: إن الرسل عليهم الصلاة والسلام توحيدهم وأصولهم واحدة؛ فإن هذا لا يمنع أن يكون بعض الرسل أفضل من بعض فيما نزل عليه من الكتاب، فإن الله آتى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم الحكمة، وأنزل عليه القرآن، ولم يَنْزل على نبي من الأنبياء كتاب كهذا الكتاب الذي نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن في القرآن الكريم من التفصيل لأسماء الرب وصفاته ومسائل أصول الدين ما لم يقع في كتاب نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل.

الإثبات يراعى فيه اللفظ والمعنى

الإثبات يراعى فيه اللفظ والمعنى هذه القاعدة الشرعية الرسالية التي اتفق عليها الرسل في صفات الله سبحانه وتعالى، يحصل بها التنبيه على مسائل الحروف والمعاني، بمعنى: أن صفات الله سبحانه وتعالى معتبرة بالكتاب والسنة من جهة الحروف ومن جهة المعاني. أما اعتبار المعاني: فإن هذه المعاني المثبتة لله سبحانه وتعالى لا بد أن تكون معلومةً من الكتاب والسنة. وأما اعتبار الحروف: فإنه يقصد به التنبيه على مسألة أن يكون الإثبات للباري سبحانه وتعالى موافقاً لنصوص الكتاب والسنة من جهة السياقات. ويقصد بمسألة السياقات: أن صفات الباري في القرآن جاءت على سياقين: الأول: سياق الإطلاق. الثاني: سياق التقييد. فإن بعض الصفات ذكرها الله سبحانه وتعالى مطلقة؛ كاتصافه سبحانه بالعلم، والحكمة، والقدرة، ونحو ذلك. وبعض الصفات جاء ذكرها في القرآن في سياق التقييد، كصفة المكر؛ قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وكصفة الكيد؛ فإنه جاء في القرآن في سياق التقييد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15 - 16] وما إلى ذلك. وعليه: فما ذكره الله في القرآن مطلقاً من الصفات فإن المشروع للعباد أن يثبتوه لربهم من جهة معانيه، ومن جهة سياقاته، أي: أن يذكروه مطلقاً كما ذكر، وما ذكره الله مقيداً فإنه يُذكر مقيداً ولا يسوغ إطلاقه، وإن كان بعض المتأخرين من أهل العلم توسعوا في الإطلاق، ولم يفرقوا بين المطلق وبين المقيد، والأصل أن يُقتدى بطريقة القرآن، فإنك إذا قلت: إن من صفات الله: العلم، والعزة، والحكمة، والقوة، والقدرة، فإن هذا عند العقلاء، وعند المخاطبين والمكلفين؛ بل وغير المسلمين، لا يُفهم منه ما يُشكِل في مقام صفات الباري. ولكن ليس من المناسب في العقل وحتى في الشرع أن يقال: إن من صفات الله الكيد، ومن صفات الله المكر؛ لأن هذا ليس من الحكمة ولا من الفقه، ولا من تحقيق كمال الباري سبحانه وتعالى؛ لأن صفة الكيد ليست كصفة العلم مثلاً، فإن العلم صفة كمال في سائر موارده، وأما صفة الكيد والمكر فإنها تكون كمالاً في مقامها المناسب لها، فيقال مثلاً: إن الله تعالى يمكر بالماكرين، ويكيد على الكائدين من أعدائه .. وهكذا. ومن هنا قيل: إنه لا بد من اعتبار سياق القرآن في إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، وعليه: فتكون طريقة أهل السنة والجماعة معتبرة بسياق الحروف، ومعتبرة بالمعاني.

شرح القواعد السبع من التدمرية [4]

شرح القواعد السبع من التدمرية [4] طريقة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في صفات الله تعالى هي: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته.

طريقة السلف الصالح في إثبات الأسماء والصفات

طريقة السلف الصالح في إثبات الأسماء والصفات قال المصنف رحمه لله: [وقد عُلم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل]

المقصود بالسلف الصالح

المقصود بالسلف الصالح (وقد عُلم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها): المقصود بالسلف من جهة اللغة: التقدم، فإن السالف هو الشيء المتقدم. والمقصود بالسلف هنا: هم أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث عمران بن حصين الثابت في الصحيحين، وأئمة السلف هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم بعد عصر الصحابة من اتبعهم بإحسان، فهؤلاء هم أئمة السلف من القرون الثلاثة الفاضلة، ومن بعدهم فإنه يكون مقتدياً بهم، وبطريقتهم وبشأنهم. ومن المسائل اللفظية أن يقال: من بعدهم من القرون -إذا كان على معتقدهم- هل يسمى من السلف، أم يقال: من أتباع السلف؟ الجواب: إذا قُصد الزمان والتقدم، فإنه يكون متبعاً لهم، وإذا قصدت الحقائق العلمية بالاسم فإنه يسمى من السلف. وهذه مسألة لفظية لا ينبغي أن يعاضل فيها كثيراً، إنما المهم أن يُفْقَه أن المقصود بالسلف هم: الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا شك أن الصحابة هم أضبط الطبقات في هذه الأمة، ولذلك لما ذكرهم الله تعالى ذكرهم بصيغة الإطلاق في رضاه عنهم، فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ولما ذكر من اتبعهم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] فقيد من ابتع الصحابة أن يكون متبعاً لهم بإحسان.

معنى التكييف في صفات الله

معنى التكييف في صفات الله قال رحمه الله: (إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف): المقصود بالتكييف: هو حكاية كيفية الصفة، وقد نفى المصنف هنا التكييف، أي: أن يُحكى عن صفة من صفات الله أن لها كيفية من الكيفيات، فيقال مثلاً: إن كيفية هذه الصفة -كالنزول، أو الإتيان، أو غيرها من الصفات- كذا وكذا. فالمصنف يذكر أن طريقتهم -أي: الصحابة ومن اتبعهم بإحسان- إثبات الصفات من غير تكييف. وهذا النفي للتكييف نفي علم وليس نفي وجود، وإلا فإن صفات الله وأفعاله سبحانه وتعالى لها كيفية؛ كنزوله، وإتيانه سبحانه وتعالى، واستوائه على العرش، وغيرها من الصفات، هذه لها كيفيات؛ ولكنه سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً؛ ولذلك قال الإمام مالك وغيره من السلف والأئمة: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، وفي رواية عن مالك قال: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول". فقوله: (والكيف غير معقول) أي: أن العقل البشري يمتنع عليه أن يحيط علماً بكيفية صفة من الصفات، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً. فالنفي هنا نفي علم، وليس من باب نفي الوجود.

معنى التمثيل

معنى التمثيل قال رحمه الله: (ولا تمثيل): التمثيل: هو ذكر مثيل لصفة الله سبحانه وتعالى من مخلوقاته. وهذا النفي من باب نفي الوجود، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، كما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] سواء كان هذا الشيء موجوداً، أو متخيَّلاً ومتصوراً في الذهن، وإن كان قد لا يستطيع الذهن أن يكون متصوراً له على التمام، فليس كمثله شيء في سائر موارد الإطلاق. وهذا النفي للتمثيل إنما ذكره المصنف رحمه الله تعالى لأن الله تعالى قد ذكره في كتابه في غير موضع، كقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وغير ذلك من الآيات المبيِّنة لتنزيهه سبحانه وتعالى.

أدلة تنزيه الله تعالى عن المثلية

أدلة تنزيه الله تعالى عن المثلية وتنزيه الباري سبحانه عن المثلية معلوم بالسمع، والعقل، والفطرة: أما الدليل السمعي: فإنه يراد به الكتاب والسنة. وأما الدليل العقلي فإنه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون معتبراً بالمجردات العقلية. القسم الثاني: أن يكون مركباً من القياس على المشاهدات الحسية، فإذا كان مركباً من القياس على المشاهدات الحسية فقد سماه البعض دليلاً حسياً، والصحيح أنه دليل عقلي، أي: حكم من العقل معتبر بحكم المشاهدات والحسيات. وأما إذا كان الدليل العقلي مبنياً على المجردات العقلية -وهو القسم الأول- فإن هذه المجردات العقلية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون من كليات العقل الضرورية، وهذا هو الدليل العقلي الضروري القطعي. القسم الثاني: أن تكون هذه المجردات العقلية -أي: غير الحسية- من قياسات العقل ونظره، وهذا هو الدليل العقلي الظني النظري. وعليه: فقد يكون الدليل العقلي قطعياً إذا اعتبر بالكليات واليقينيات، وقد يكون ظنياً إذا اعتبر بقياسات محتملة. وهنا سؤال وهو من مسائل النزاع في مقدمات الأدلة عند النظار: هل الدليل العقلي القطعي هو المعتبر بالكليات العقلية المجردة، أم أنه قد يكون قطعياً وهو معتبر بالحسيات؟ والجواب: يقول كثير من النظار: إنه لا يكون معتبراً عقلياً قطعياً إلا إذا كان معتبراً بالكليات العقلية القطعية المجردة، وهذا غير صحيح؛ بل يكون عقلياً قطعياً إذا اعتبر بالحسيات المطردة، فإن الحس إذا كان مطرداً أخذ حكم القطع، ودل على مناسب له من الحكم. وعليه: فيكون الدليل العقلي له أربعة أوجه: الأول: أن يكون قطعياً مبنياً على المجردات العقلية، وهي الكليات العقلية في الذهن. الثاني: أن يكون عقلياً ظنياً مبنياً على المجردات العقلية. الثالث: أن يكون حسياً قطعياً مبنياً على الاطراد الحسي. الرابع: أن يكون عقلياً ظنياً مبنياً على المحتملات الحسية القياسية. الفرق بين الدليل العقلي والدليل الفطري: والفرق بينهما: أن الدليل العقلي: هو الدليل الاعتباري المبني على الاعتبار والنظر، سواءً اعتمد على مقدمات قطعية، أو مقدمات ظنية. أما الدليل الفطري: فهو ابتداء من الله سبحانه وتعالى في نفوس العباد، أي: أن الله تعلى كما خلق العباد على صورة من الشكل الجسماني الجسدي المعروف، فكذلك خلق الإنسان وهو مبتدأ بهذه الحكمة الأولى وهي الفطرة، فهي مما استودعه الله في الإنسان عند ابتداء خلقه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (كل مولود يولد على الفطرة)، مع أن المولود عند ولادته لا يكون متمتعاً بمسألة القياس والنظر والعقليات، ولا يفقه شيئاً. إذاً: الدليل الفطري: هو ما استودعه الله من الحكمة الأولى في نفوس بني آدم، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] وأيضاً مثالها بيِّن من جهة الفقه لها، فكما خلق الله الإنسان ناطقاً متكلماً، خلقه كذلك فاقهاً لهذه الحكمة الأولى، أي: مؤمناً ومقراً بها؛ ولكنه إقرار وإيمان مجمل لا بد له من تفصيل، وهذا التفصيل هو الذي يقع في كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] وإذا ثبت أن كل مولود يولد على الفطرة، فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو أولى الناس بهذه الفطرة فضلاً عما له من الامتياز في غير مقام الفطرة وما هو زائد عليها. إذا ثبت ذلك فكيف قال الله تعالى في كتابه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]. والجواب: أن المقصود بالإيمان هنا هو تفصيله وليس أصله. وهذه الفطرة قد ينحرف الإنسان عنها بما يزينه له الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)، فالله تعالى خلق الناس وهم مقرون بالحنيفية وهي التوحيد، وهذا هو معنى دليل الفطرة.

معنى التحريف

معنى التحريف قال رحمه الله تعالى: (ومن غير تحريف): ذكر المصنف التحريف مع أنه لا يوجد من أهل القبلة -أي: من المسلمين- من يصرح بتحريف كلام الله وصفاته المذكورة فيما أنزله الله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما ذكره المصنف لأن الله تعالى لما ذكر من انحرف من أهل الكتاب ذكر سبحانه أنهم محرفون لكتابه، فلكون هذا الاسم من الأسماء الشرعية في ذم من خرج عن السنة والهداية النبوية ذكره المصنف من هذا الوجه، وبذلك علل ابن تيمية في مناظرته في الرسالة الواسطية، فقال: "إني ذكرت التحريف؛ لأنه مذكور في القرآن فيمن انحرف عن الحق"، والمصنف هنا قصد إلى الألفاظ والأسماء الشرعية.

نوع التحريف الذي وقع فيه بعض أهل القبلة

نوع التحريف الذي وقع فيه بعض أهل القبلة والتحريف الذي وقع فيه من وقع من أهل القبلة في مقام صفات الباري سبحانه وتعالى: هو تحريف في المعاني وليس تحريفاً في الحروف والكلمات، وهذا التحريف -الذي في المعاني- لا يسمونه تحريفاً، وإنما يسمونه تأويلاً، وإن كان حقيقته أنه تحريف؛ لكن هناك فرق بين تسميتهم له تحريفاً وبين ما لو سموه تأويلاً. وهذا الفرق من جهة الحكم عليهم، فإنهم لما سموه تأويلاً كان هذا موجباً لنوع من الحكم، ولو سموه تحريفاً لكان موجباً لنوع آخر من الحكم، فالحكم على المتكلم بذلك يختلف باختلاف ما يستعمله من الأسماء، فإن كلمة (التحريف) في كتاب الله جاءت مذمومة، وأما التأويل فإنه جاء في القرآن على سياق الإقرار في مثل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] فهو نوع من الإقرار، ولا سيما إذا قرئت الآية على الوصل.

معنى التعطيل وأنواعه

معنى التعطيل وأنواعه وقوله: (ولا تعطيل): التعطيل: هو تفريغ الصفات عن حقائقها، إما بنفي ما هو من كلماتها؛ لعدم ثبوته، كنفي بعض الأحاديث بحجة أنها من الآحاد، أو مما لا يصح، وإما بتفريغ معانيها عن حقائقها الشرعية الدالة عليها. وهذا الاسم -أي: التعطيل- ليس من الأسماء المذكورة في القرآن؛ ولكن المصنف ذكره لأنه وصف يدل دلالة بينة على حقيقة هذه المذاهب، فكأن المصنف يريد أن يقول: إن هذه المذاهب التي استعملها من استعملها من المتكلمين نتيجتها التعطيل لصفات الله سبحانه وتعالى، وإلا فلا أحد من المسلمين يقول: إنه معطل لصفات الله؛ لكن هذا المذهب الذي هو نفي معاني الصفات، ونفي قيام الصفات بالذات، وما إلى ذلك، حقيقته أنه تعطيل للرب عن كماله؛ فإن من خرج عن محكم آيات الكتاب والسنة فإنه يكون معطلاً للرب سبحانه وتعالى عن كماله؛ ولذلك ذكر المصنف هذا التعبير الذي نقول: إنه تعبير وصفي عن حقيقة هذا المذهب. وهذا التعبير الوصفي -وهو التعطيل- هو الذي سماه ابن سينا في كتبه: (التجريد)، ولذلك تجد في كتب ابن سينا عبارة التجريد الإلهي، وهو يَقصد بالتجريد الإلهي: نفي الصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى، فلكلٍ استعمالٌ من النظار والمتفلسفة والمتكلمين؛ ولكن درج الأئمة المتقدمون من أهل السنة والجماعة على أن يسموا هذا تعطيلاً؛ ولذلك تبرءوا من طريقة المعطلة. وهذا السياق من كلام المصنف لما قال: (من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل) يبين به وسطية أهل السنة والجماعة، وأنهم يثبتون صفات الله سبحانه وتعالى على ما اقتضاه سياق القرآن، ولا يزيدون في الإثبات على الحقائق القرآنية، ويفقهون كتاب الله بما اقتضاه لسان العرب؛ فإن القرآن نزل بلسانهم، وقد أخبر الله في كتابه في غير موضع أنه نزل بلسان عربي مبين، فهم لا يزيدون على القرآن؛ لا في حروفه، ولا في معانيه، ويعتبرون هذه الوسطية بالبراءة من التكييف والتمثيل، وبالبراءة من التعطيل والتحريف، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

مصطلح (التشبيه)

مصطلح (التشبيه) لم يذكر المصنف هنا التشبيه، وقد قال بعض المتأخرين: إن كلمة (التشبيه) ذكرها غير مناسب؛ لأن هذه الكلمة لم تذكر في القرآن، وربما عللوا ذلك بأنه ما من شيئين إلا ويقع بينهما قدر من التشابه، ومن هنا تركوا هذه الكلمة. والصواب أن يقال: إن التصريح بنفي التشبيه صحيح، وإن لم يذكر في القرآن، وذلك لوجهين: الوجه الأول: أن العلم بتنزيه الباري عن مشابهة الخلق معلوم بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وإن لم يصرح بهذه الكلمة في القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه، ولذلك لا غرو ولا عجب من ذكرها، وإن لم ينطق بها القرآن؛ لأنه ذُكِر في القرآن ما هو أتم من جهة المعنى والمراد وهو التمثيل. ثم إن التشبيه والمشابهة وإن لم تذكر في القرآن بنصها؛ فإنه ذُكر في القرآن ما يدل عليها، كقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وغير ذلك من الآيات؛ مما يدل على أن مسألة التشبيه منفية في القرآن، وإن كان هذا الاسم لم يصرَّح بذكره. ومعلوم أنه إذا ورد سؤال: هل الباري منزه عن مشابهة خلقه؟ فإن الجواب يكون: نعم. عقلاً وشرعاً. الوجه الثاني: أنه إذا ذكر معتقد الصحابة ومن وافقهم واتبعهم بإحسان قيل: من غير تشبيه؛ لأن المخالفين الذين ظهروا بعد عصر الصحابة اتهموا وطعنوا في الأئمة بحجة أنهم أهل تشبيه، فطعنت المعتزلة وأئمة الجهمية الأولى على أئمة السنة والجماعة بأنهم مشبهة، وأكثروا من إضافة التشبيه إلى مذهب السلف، فلما اشتغل المخالفون بهذه الإضافة ونسبوا الأئمة إلى التشبيه؛ كان لا بد من التصريح بذلك. ولذلك فإن من الحكمة والفقه أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى منزه عن التمثيل والتشبيه. والذي يعاب ويعد من التقصير أن يذكر نفي التشبيه ولا يذكر نفي التمثيل، وأما جمعهما فهو الحكمة، وإنما قيل: (هو الحكمة)؛ لأن كلمة (التمثيل) مذكورة بالنفي في القرآن، وكلمة (التشبيه) لو لم يكن من موجب ذكرها إلا أن المخالف أضاف مذهب أهل السنة والجماعة إلى التشبيه لكان هذا كافياً. ومما يُتعجب منه: أن بعضهم يقول: لا نذكر كلمة التشبيه. ويعلل ذلك ببعض التعليلات، ثم إذا ذكر القياس قال: إن الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأَولى. مع أن كلمة (القياس) غير مذكورة في القرآن، وأصل كلمة القياس في لسان العرب تدل على نوع من التشابه والتشاكل بين الشيئين وبين الماهيتين.

أقسام الألفاظ المعبر بها في باب الصفات

أقسام الألفاظ المعبر بها في باب الصفات والكلمات التي يعبر بها في مقام صفات الله تكون على أربعة أوجه: الوجه الأول: أن تكون كلمات واجبة الاستعمال. الوجه الثاني: أن تكون كلمات سائغة الاستعمال. الوجه الثالث: أن تكون كلمات يرخص في استعمالها لمصلحة. الوجه الرابع: أن تكون كلمات ممنوعة الاستعمال. أما الكلمات الواجبة الاستعمال فهي: الكلمات القرآنية والنبوية؛ كالاستواء، والسمع، والبصر، والنزول، والإتيان، وما إلى ذلك. وأما الكلمات التي يسوغ استعمالها فهي: ما كان خبراً عن الباري سبحانه وتعالى مما لم يصرَّح بذكره في القرآن، وإنما يُخبر عنه على مقام الإثبات، أو يُخبر عنه على مقام النفي، ومن هذا كلمة (التشبيه)، فإنها من باب التنزيه له سبحانه وتعالى، وإن لم تذكر بنصها في القرآن؛ فيُرخص في استعمالها. وأما الكلمات التي يسوغ استعمالها للمصلحة فهي: بعض الألفاظ المجملة في حال المناظرة، وقد ذكر ابن تيمية في درء التعارض أن مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم يكون مرخصاً فيه إذا اقتضت المصلحة الراجحة، ولكنهم لا يوافقون على شيء من المعاني الباطلة، ولا يلزم من هذه الكلمة التي ساغت في مقام أن تكون سائغة في سائر المقامات، بمعنى: أنه قد يسوغ لك المناظرة أن تتكلم ببعض المصطلحات، ولكن هذا مقيد بهذه المناظرة التي قضت الحاجة بها، ولا يلزم من ذلك أن يكون هذا المصطلح الذي تستعمله في هذا المقام مستعملاً في سائر المقامات. وأما ما كان ممنوع الاستعمال فهو: ما تضمن نقصاً، أو نفي كمال عنه سبحانه وتعالى، فإن هذا لا يكون مرخصاً فيه. ومن هنا نقول: إن كلمة (القياس) يجعلها بعضهم من القسم الثاني، وبعضهم يجعلها من القسم الثالث. والفرق بينهما: أن القسم الثاني -وهو الألفاظ سائغة الاستعمال- يعني الألفاظ التي يسوغ أن يبتدأ بها من دون إجبار على ذلك، وذلك في غير مقام المناظرة، أو الرد، أو ما إلى ذلك. وهذا فيما يظهر أنه ليس صحيحاً؛ بل الظاهر أن (القياس) من القسم الثالث، فإنه لا يقال في حق الله سبحانه وتعالى: (يستعمل في حقه قياس الأولى) ابتداءً، ثم يقال: وقياس الأَولى هو المثل الأعلى المذكور في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] فتكون الآية دليلاً لهذا الاسم؛ بل الأصل أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، ويُعلَّم المسلمون أن الله له المثل الأعلى، أي: الوصف الأكمل. أما أن المصطلحين من النظار بعد ظهور المصطلحات والمنطق وغير ذلك سمَّوا هذا: (قياس الأولى) فهذه مسألة اصطلاحية لا يبتدأ بها؛ ولكن عند المناظرة يقال: إن ما كان من باب قياس الأولى فإن معناه يكون صحيحاً لائقاً بالله، وإلا فإن الابتداء بكلمة القياس بيِّن الذم، فمجرد أنك تقول: إن الله يستعمل في حقه القياس، ثم تفسر هذا القياس ولو بمعنىً صحيح، فإن الكلمة من أصلها أقل ما يقال فيها: إنها كلمة مجملة. ومعلوم أن من يتكلم بهذا -ولا سيما بعد ظهور المصطلحات المتأخرة عند متكلمة الصفاتية- كـ ابن تيمية وغيره يذكرون قاعدة: (أن ما كان من الألفاظ مجملاً حادثاً فإنه لا يطلق)، وكلمة (القياس) أقل ما يقال فيها: إنها كلمة مجملة حادثة. إذاً: التباعد عن هذه الكلمة هو الفقه، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر مسألة القياس في العقيدة الواسطية وقال: "إنه يُستعمل في حق الباري قياس الأولى"، قال: "وهو معنى قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، وهذا الكلام الذي ذكره ابن تيمية صحيح، لكن نقول: إنه يكون في مورد إبطال أدلة المخالفين والرد عليهم، وبيان أن معتقد أهل السنة والجماعة معتبر بالعقل كما هو معتبر بالشرع، وقد تقدم أن ما يتعلق بالمعتقد يذكر على طريقتين: الأولى: أن يكون من باب التقرير. الثانية: أن يكون من باب الرد. أما باب التقرير فإنه يقصد فيه إلى ذكر الكلمات والجمل الشرعية النبوية، وباب الرد لا مانع من استخدام الألفاظ المجملة.

منهج السلف في نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله

منهج السلف في نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله قال المصنف رحمه الله: [وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه، ولا في آياته، فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]]

معنى الإلحاد

معنى الإلحاد قوله: (من غير إلحاد): الإلحاد في أصل اللغة: الميل، ويُذكر الإلحاد ويراد به الكفر والجحود، ولم يقصد المصنف هنا الإلحاد الذي هو الكفر والجحود؛ لأن هذا لم يقع فيه أحد من أهل القبلة، وإنما حصل من الكفار، وهو الإلحاد في أسماء الرب سبحانه وتعالى وآياته، وإنما الذي وقع فيه من وقع من أهل القبلة -وهو ما قصده المصنف هنا-: هو الإلحاد الذي هو بمعنى الميل عن الحق، والإلحاد قد يذكر ويراد به الكفر، وقد يذكر ويراد به نوع من الميل والظلم، كقول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25]

مناسبة ذكر الأسماء والآيات في باب الإلحاد

مناسبة ذكر الأسماء والآيات في باب الإلحاد وقوله: (لا في أسمائه ولا في آياته): وهنا تنبيه على طريقة بعض الشراح لكتب أهل العلم: فأحياناً يقف بعض الشراح مع بعض كلمات العلماء وقوفاً منغلقاً: لماذا عبر هذا العالم بهذا التعبير؟! ثم يأتون بأعجوبات هي في الحقيقة من التكلفات في تفسير سياقات العلماء. والحقيقة أن هؤلاء العلماء بشر يخطئون ويصيبون، وهذه مقدمة ضرورية. ومقدمة أخرى: لا يلزم بالضرورة أن تكون سائر السياقات التي عبروا بها لها معانٍ مختصة مقصودة، وإن كان لها معانٍ عامة، لكن قولهم: لماذا عبر بهذه الكلمة ولم يعبر بالكلمة الأخرى؟ هذا هو التكلف. وقد يكون الجواب عن هذا السؤال: أن أمامه أكثر من تعبير، فعبر بواحد من هذه التعبيرات، فالتكلف في فك الكلام ليس هذا من الشرح في شيء؛ بل الشرح هو بيان المعاني المقصودة بهذا الكلام، أما التكلف في التعبير فلا. وهنا سؤال: لماذا قال المصنف رحمه الله: (لا في أسمائه ولا في آياته) ولم يقل: (لا في أسمائه ولا في صفاته)؟ والجواب: أن المصنف هنا اعتبر طريقة القرآن، أي: أن الإلحاد ذُكر في القرآن منفياً عن أسماء الرب، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] ومنفياً عن آياته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت:40] فلمناسبة سياق الآيات ذكر المصنف ذلك في كلامه. قال المصنف رحمه الله: [فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد للإلحاد والتعطيل]. قوله: (فطريقتهم): أي: طريقة الصحابة، ومن اتبعهم بإحسان. وقوله: (تتضمن): التضمُّن: هو تعبير عن اجتماع معانٍ متصلة أو معانٍ متسلسلة، فإذا كان السياق فيه جملة من المعاني المتصلة قيل: إن هذه الطريقة تتضمن أكثر من معنى، وبين هذه المعاني المتضمَّنة قدْر من الاتصال. وقوله: (مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه): المصنف في هذا المقام عبر بنفي التشبيه عن الله، وهو تعبير صحيح، وإنما الذي قد يقال: إنه من القصور أن يُذكر هذا ولا يُذكر نفي التمثيل، هذا هو القصور، أما أن يقصد إلى عدم ذكر التشبيه مطلقاً، فإن هذا ليس معروفاً عن المتقدمين من الأئمة، فإنهم صرحوا بنفيه كثيراً. نصوص الإثبات والتنزيه تدل على التنزيه وعلى إثبات الكمال لله تعالى: ومن القواعد في باب صفات الله تعالى: أن نصوص الإثبات تدل على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، وتدل كذلك على تنزيه الباري عن النقص، وكذلك نصوص التنزيه ونفي التمثيل وما إلى ذلك تدل على تنزيه الباري، وتدل على إثبات الكمال. فمثلاً: في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] دلالة واضحة وصريحة على نفي التشبيه والتمثيل؛ لكن نقول: إن هذه الكلمة من القرآن هي أيضاً دليل على إثبات الكمال، فإن من وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء، دل هذا على اختصاصه بصفات كمال لا تكون لغيره. وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا دليل على إثبات الصفات، وهو أيضاً دليل على إثبات التنزيه؛ لأن الله لم يذكر في كتابه وصفاً يتصف به إلا وذكره في مقام اختصاصه به، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر صفة من صفات الله تعالى إلا وذكرها في مقام اختصاص الله تعالى بها. فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وغيرهما-: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ...) إلخ، فأضاف النزول إلى الله تعالى، ثم قال: (فيقول: من يدعوني .. من يسألني .. من يستغفرني ..)، ومعلوم أن من يقول: من يدعوني، من يسألني، من يستغفرني، لا يكون إلا رب العالمين سبحانه، فظهر من هذا السياق النبوي أن هذا إثبات للكمال لهذه الصفة، وإثبات أيضاً للتنزيه؛ وذلك لأن اختصاص الباري بهذه الصفة يدل على إثبات الكمال، ويدل على إثبات تنزيه الباري سبحانه وتعالى. وعليه: فإن العلم بكمال الله سبحانه وتعالى وصفاته يُعلم من نصوص الإثبات ونصوص التنزيه -أي: نفي التمثيل- ونحوها. كما أن العلم بتنزيه الباري سبحانه وتعالى يُعلم بنصوص نفي التشبيه والتمثيل، كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهي تدل على التنزيه بالتصريح والبيان. وكذلك فإن هذه النصوص تدل على الإثبات، فإن الله تعالى لَمَّا أخبر عن نفسه أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] عُلِم أنه مختص بكمال لا يشاركه فيه غيره؛ لأن هذا الشيء المنفي منه ما قد يتصف بشيء من الكمال؛ كالإنسان مثلاً، فإذا كان في مخلوقات الباري ما هو متصف بشيء من الكمال المناسب له، وقد قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وفي هذه المخلوقات شيء من الكمال في بعض مقاماتها وبعض صورها؛ عُلم بذلك أن الباري المنزه عن هذا المقام له كمال عظيم يختص به. إذاً: سائر نصوص الإثبات تدل على إثبات الكمال، وعلى إثبات التنزيه، ونصوص التنزيه ونفي التشبيه والتمثيل تدل على إثبات التنزيه، ونفي التشبيه والتمثيل، وتدل على إثبات الكمال. وأيضاً: فإن نصوص الإثبات المفصلة إنما دلت على إثبات التنزيه من جهة السياق، فإن الله ذكرها مضافة إلى نفسه، فدل على اختصاصه بها، وذكرها سبحانه وتعالى على معانٍ واختصاص، فدل على أنه منزه عن مشاركة غيره سبحانه وتعالى فيها.

شرح القواعد السبع من التدمرية [5]

شرح القواعد السبع من التدمرية [5] طريقة الكتاب والسنة في صفات الله تعالى هي: التفصيل في مقام الإثبات، والإجمال في مقام النفي، هذا هو اللائق بكمال الله تعالى في أسمائه وصفاته. وقد جاء في القرآن الكريم استخدام الأدلة العقلية في إبطال طرق المنحرفين الذين يصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب.

الإثبات المفصل والنفي المجمل في باب الأسماء والصفات

الإثبات المفصل والنفي المجمل في باب الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله: [والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل] قوله: (والله سبحانه وتعالى بعث رسله): وهذا من فقه المصنف أنه عبر بكلمة (الرسل)؛ لأن دينهم وأصولهم واحدة. وقوله: (بإثبات مفصل): أي: بإثباتٍ لصفاته وأسمائه على التفصيل. وقوله: (ونفي مجمل): الكلام المجمل: هو الكلام الكلي الذي لا يفصَّل على معانٍ، وهذا مشهود معروف في عرف الناس وذوقهم وفقههم، وإن عبروا عنه من جهة اللسان أو المنطق أو غيرها بأسماء مختلفة. وقول المصنف: (والله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل) لا يريد بذلك أنه لا يقع في القرآن إثبات مجمل ولا نفي مفصل، وإنما يريد هنا أن يبين أصل القاعدة عند أهل السنة المخالفة لقاعدة المخالفين لهم، وإلا فإنه قد جاء في القرآن إثبات مجمل في أسماء الله، كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] فهذا إثبات مجمل، حيث لم تذكر الأسماء في هذا السياق، نحو: السميع، أو البصير، أو العزيز، أو ما إلى ذلك. وقد جاء الإثبات المجمل في الصفات في القرآن كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأعلى، فهذا مجمل، حيث لم يذكر الله في الآية صفة الرضا، أو المحبة، أو العلم، أو القدرة، أو ما إلى ذلك من الصفات، إنما قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ويأتي النفي مفصلاً في القرآن أحياناً؛ كقول الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهذا نفي لصفة السِّنَة، وصفة النوم، وصفة الظلم، وهو نفي مفصل. إذاً: قول المصنف: (والله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل) هذا من حيث الأصل والقاعدة، فإن الغالب في كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم هو ذكر التفصيل في مقام الإثبات، وذكر الإجمال في مقام النفي، وإلا فإن هذا يقع وهذا يقع، لكنه ليس هو الأصل.

النفي المفصل يتضمن الإثبات

النفي المفصل يتضمن الإثبات وكل نفي مفصل في القرآن فإنه يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فلما نفى الله عن نفسه الظلم دل ذلك على إثبات العدل، ولما نفى عن نفسه السنة والنوم دل ذلك على كمال حياته وقيوميته؛ ولذلك فإن الله تعالى في كتابه الكريم لا يبتدئ بذكر النفي المفصل في أوائل الآيات، إنما الذي يُبتدأ به هي صفات الإثبات، ولذلك لما قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال سبحانه بعد ذلك: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] من باب تحقيق كمال حياته وقيوميته، ولذكر كمال عدله قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فكان نفي الظلم يتضمن كمال العدل، ولذلك هذا النفي المفصل يقال: إنه يتضمن أمراً ثبوتياً وهو كمال الضد، ويقال: إنه إذا ذكر في حق الله -أعني: النفي المفصل- يذكر في مثل سياقه، وهذا هو المناسب له. قال المصنف رحمه الله: [فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل]. قوله: (من التشبيه والتمثيل) هذا جمع حسن. قال المصنف رحمه الله: [كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] قال أهل اللغة: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أي: نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: هل تعلم له مِثْلاً أو شبيهاً]. هذا معناه واحد، سواء قيل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أي: شبيهاً، أو مثيلاً، أو نظيراً، أو ما إلى ذلك.

استخدام القرآن للأدلة العقلية لإبطال طرق المنحرفين

استخدام القرآن للأدلة العقلية لإبطال طرق المنحرفين قال المصنف رحمه الله: [وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:100 - 101]]. تأمل هذه الآيات تجد أن سياقها عقلي، يرد فيها الله سبحانه وتعالى ويبطل طرق المنحرفين عن الفطرة، وعن آثار الرسل ودينهم، في مثل قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [الأنعام:100] أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، ومع ذلك جعلوا له هؤلاء الشركاء؛ ولذلك تجد في سياق الآيات كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:101] أن هذا المعنى من الإثبات يُقصد به بيان الامتناع، فإذا تأملت هذه الآية في ذكر إبطال ما ذكره المشركون من الشركاء من الجن، أو من الولد، أو غير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى، ولا بتوحيده، وربوبيته، وألوهيته، وعبادته، تجد أنه يستعمل في القرآن مبنياً على إثبات حقائق فطرية عقلية تكون مانعةً من هذا الطارئ الذي ادعاه المخالفون. فالله سبحانه وتعالى هو بديع السماوات والأرض، وهذا من الحقائق الفطرية العقلية الضرورية. ولذلك فإن الله ذكر في سياق الآية قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:101] أي: لما كان سبحانه وتعالى هو بديع السماوات والأرض؛ امتنع أن يكون له شريك في الملك، أو أن يكون له ولد، أو نحو ذلك؛ ولذلك قال: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام:101] أي: يمتنع أن يكون له ولد وهو بديع السماوات والأرض. فهذه الطرق النبوية القرآنية في الرد على المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام هي الطرق الصحيحة، وهي طرق عقلية، وبذلك يقضى على هذه الشُّبَه والطارئات بما هو من اليقينيات الضروريات. وهنا قاعدة شرعية وهي: (أن كل من ادعى غلطاً أو نقصاً فيما جاءت به الرسل، فلا بد أن في دين الرسل من اليقينيات والضروريات ما يدفع هذا الإشكال)، فمن ادعى نقصاً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حديث أو حرف من كلامه؛ فإنه يراجَع في أصل الإيمان بالنبوة، فإذا أقر أنه نبي وآمن بحقيقة النبوة؛ فإن حقيقة النبوة وحقيقة الرسالة معناها أنه لا ينطق عن الهوى. ولذلك إذا جاء شخص مثلاً متأثر بالغرب، أو مائل إلى شيء من طرقهم، أو منحرف عن الصواب، وأراد أن يجادل في بعض الحقائق الشرعية، فالإغلاق معه أن يُسأل: هل تقر بأن هذا شرعي أم ليس شرعياً؟ أما أن يؤخذ معه على التفصيل فإن هذا قد لا يحيط به أحد؛ لأن الحكم الإلهية لم تفصِّل للعباد، والله تعالى لم يذكر لعباده سائر الحكم؛ بل ذكر جملة منها. قال المصنف رحمه الله: [وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:1 - 2] وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ} [الصافات:149]]. هذا امتناع عقلي، وهذا من التنزيه لله سبحانه وتعالى؛ أنه يمتنع أن يكون له شيء من البنات، وكيف يجعل المشركون له البنات ولهم البنون؟! إلى غير ذلك. وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:149 - 150] هذا دليل عقلي بسيط يرد الله به زعم المشركين أن الملائكة إناث، فرد الله عليهم بقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150] أي: هم لم يشاهدوا ذلك، فكيف يقولون: إنهم إناث أو ليسوا إناثاً؟! فإن من بسائط وضروريات العقل أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، فكيف حكموا بأن الملائكة إناث؟!

أقوال المشركين الباطلة المذكورة في القرآن على وجهين

أقوال المشركين الباطلة المذكورة في القرآن على وجهين قوله: [{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:151 - 157]]. بيَّن الله سبحانه أنه ليس لهم سلطان ولا حجة، وإنما قولهم من باب الإفك، والله تعالى إذا ذكر ما تقوله الأمم المشركة فإن ما يذكره عنهم على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون من باب الإفك، وهو الشيء الذي يقولونه وليس عندهم مادة تدل عليه، فهذا يسميه الله تعالى في كتابه إفكاً، وهو القول الذي يقولونه وهو مجرد عن أدنى مواد الاستدلال، كقولهم: الملائكة إناث، مع أنهم لم يشهدوا خلقهم. الوجه الثاني: أن يأتي ما يذكره هؤلاء في القرآن ويسمى ظناً، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [الأنعام:116] والغالب في المسائل الخبرية أن القرآن يسمي ما يقولونه: إفكاً، وإذا عارضوا في مقام التشريع يسمى ما يزعمونه ويعترضون به: ظناً، وهذا هو اللائق في المقامين، فإن المسائل الخبرية تدور على التصديق والتكذيب؛ ولذلك فإنهم إذا اخترعوا قولاً فإنه يسمى إفكاً وكذباً.

طريقة القرآن في الرد على المخالفين

طريقة القرآن في الرد على المخالفين وقوله: [{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:158 - 160] إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]]. هذه سياقات تامة ومحكمة، وهي آيات الله وكلماته سبحانه وتعالى، وفيها التحقيق لوحدانيته والدفع لسائر ما اعترض به المخالفون. وهذه الآيات فيها عبرة من جهة تفصيلها ومن جهة كليتها، فالعبرة الكلية فيها أن يقال: إن طريقة القرآن في الرد على المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام هي رد المختلف فيه إلى المجمع عليه؛ فإن الحقائق -وحتى الحقائق الشرعية- قد تكون متفقاً عليها، وقد يقع في شيء من المسائل الشرعية ما يكون مختلفاً فيه، والفقهاء إذا نظروا في مسائل الفقه -فضلاً عن مسائل الرد على المخالفين- فإنهم يردون المسألة التي فيها نزاع إلى الأصول المتفق عليها في بابها. والحكم على المختلف يكون على ضوء القاعدة العقلية وهي: الحكم على المختلف بالمؤتلف، حتى لو خالف المخالف بالهوى، أو بالظن، أو بالإفك، وما إلى ذلك؛ فهؤلاء المشركون مع أنهم كذبوا، كما قال الله عنهم: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} [الصافات:151] ومع ذلك أبطل الله سبحانه وتعالى ما يذكرونه من هذا الذي يزعمونه مختلفاً مشتبهاً، أبطله الله سبحانه وتعالى بما هو عندهم من المؤتلف، فإن المشركين من المؤتلف عندهم والمستقر عندهم أن الله بديع السماوات والأرض .. وهكذا إذا ناظرت أحداً ولو لم يكن من المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ بل حتى في المسائل الفقهية، فإذا اختلفتَ أنت وآخر، أو قرأت في مسألة فقهية؛ تجد أن هذه المسألة الفقهية لها أصول في بابها، فترد المسألة المتنازَع فيها إلى أصول هذا الباب، فتقول: أنا أتمسك بهذا الأصل في هذا الباب، إلا أن يأتي دليل يخرج المسألة عن هذا الأصل. مثال ذلك: إذا اختلفتَ أنت وآخر في زكاة حلي النساء -ومن المعلوم أن بين الفقهاء خلافاً في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة لا يرون وجوب الزكاة فيها خلافاً لـ أبي حنيفة رحمه الله- فلك أن تقول: إن قاعدة الشريعة في باب الزكاة: (أن أموال القنية والارتفاق ليس فيها زكاة)، فالإنسان ليس عليه في لباسه، ولا في سيارته، ولا في مسكنه زكاة، حتى لو سكن الإنسان بيتاً بمليون ريال أو أكثر فليس عليه فيه زكاة. وهذا الحلي الذي تستعمله النساء وتلبسه هو من قنيتها وارتفاقها، فمقتضى القاعدة في باب الزكاة أن مال القنية والارتفاق لا زكاة فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة). فتقول أنتَ: أنا أتمسك بهذا الأصل، إلا أن يأتي دليل يدل على أن حلي النساء يُستثنى من هذا الأصل، فتكون قد رددت المختلف فيه بين العلماء إلى المؤتلِف. فهذا منهج حسن في التفقه، وهو مستعمل في القرآن في تقرير الحقائق الشرعية، أو في الرد على المخالفين.

عامة الأمم لم يصفوا الله بالنقائص المطلقة

عامة الأمم لم يصفوا الله بالنقائص المطلقة قال المصنف رحمه الله: [فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون] عامة الأمم لم يصفوا الله بالنقائص المطلقة؛ بل كانوا مقرين بأن الله هو رب العالمين، وأنه بديع السماوات والأرض، ويقرون بأصل الربوبية إقراراً مجملاً، لكن عرضت لهم بعض المقامات من جنس ما ذكره الله عنهم في القرآن، والأمم التي غلب عليها مقام النقص في حق الباري سبحانه هم اليهود، فإن الله قد ذكر عنهم من تنقيصه سبحانه وتعالى ما هو معروف، وهذا مذكور في كتاب الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وقوله: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] وغير ذلك. قال المصنف رحمه الله: [وسلم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات]. من طرق استدلال الأئمة على إثبات صفات الله: أن العرب في جاهليتها لما نزل القرآن تكلفوا في دفع ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، وكاهن، وغير ذلك، ومع ذلك لما نزل القرآن وفيه ذكر للأسماء والصفات لم يعترض أحد من المشركين ويقول: إن هذا مخالف للعقل؛ فدل ذلك على أن باب استحقاق الباري لصفات الكمال، وأن تنزيهه سبحانه عن صفات النقص باب فطري من حيث الأصل، ولكن الشريعة فصلته؛ ولذلك لم يعترض عليه مشركو العرب. فإن قيل: إن المشركين تكلموا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية لـ علي رضي الله عنه: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو). فالجواب: أن هذا لا يدل على أنهم كانوا ينفون الأسماء، إنما كان بعض العرب من الجاهليين يقف في هذا الاسم، أو لا يعرف هذا الاسم فينفيه، وهذا لا يدل على أنهم ينفون سائر الأسماء؛ بل كان من الجاهليين من يتسمى بعبد الرحمن، كـ عبد الرحمن الفزاري الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قَرَد، وقد كان هذا الأمر مألوفاً معروفاً في بعض بوادي العرب ومناطقهم. فالمقصود: أن كون العرب لما نزل عليم القرآن لم يطعنوا في الأسماء والصفات بحجة المخالفة للعقل، هذا يدل على أن هذه السياقات موافقة للعقل والفطرة، ولو كانت مخالفة لعقولهم أو فطرهم لكان اعتراضهم عليها بالعقل أولى من قولهم عن الرسول قولاً يعلمون سقوطه، وهو قولهم: إنه ساحر، أو كاهن. فيقول المصنف: إن الآيات السالفة هي من النفي المجمل، مع أنك إذا قرأت السياق وجدت فيه نفياً مفصلاً، وهذا ليس من باب أنها مقصورة على النفي المجمل، إنما أراد المصنف أن فيها تنزيهاً مجملاً، وإن كان فيها تنزيه مفصل، فالتنزيه المجمل في مثل ذكره سبحانه وتعالى لتنزيهه عن الولد، حيث بيَّن سبحانه وتعالى أنه منزه عن الولد وعن كل ما لا يليق به، وهذا معتبر بمراعاة السياق، ومراعاة سياق القرآن فيه حكمة شرعية لازمة لتحصيل المعاني. ولذلك نقول: إن هذه السياقات لا تُسْتَشكل فيقال: كيف قال المصنف: إنها دلت على النفي المجمل وفيها نفي مفصل؟ وذلك لأن فيها نفياً مفصلاً، ونفياً مجملاً، وكل نفي مفصل فإنه يُذكر في مقام رده على جهة التنزيه المطلقة المتضمنة لتنزيهه سبحانه عن هذا النقص المذكور، وعن غيره.

شرح القواعد السبع من التدمرية [6]

شرح القواعد السبع من التدمرية [6] ذكر الله سبحانه وتعالى إثباتاً مفصل لأسمائه وصفاته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وكل نص في الإثبات يدل على الإثبات ويدل على التنزيه، وقد تنوعت دلائل الصفات في كتاب الله تعالى، ومن فوائد ذلك: الرد على المخالفين بتنوع السياقات، فإذا أوَّلوا دليلاً لم يستطيعوا أن يؤولوا الدليل الآخر.

الإثبات المفصل للصفات

الإثبات المفصل للصفات قال المصنف رحمه الله: [وأما الإثبات المفصل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]]. هذا إثبات مفصل: {اللَّهُ} [البقرة:255] {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] وغير ذلك، فكل هذا من تفصيل أسماء الرب وصفاته. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]]. هذا السياق وهو قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] سياق مطلق؛ ولذلك يقال: من أسمائه: الغفور، الرحيم، ويقال: من أسمائه: الرحمن، الرحيم، فهذه السياقات في القرآن تختم بها الآيات. على طريقة الإطلاق، وهذا النص فيه إثبات وتنزيه: أما أنه إثبات فلتصريحه بالإثبات. وأما أنه تنزيه فلأن السياق في قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] سياق اختصاص؛ ولذلك عبر هنا بقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ} [يونس:107] فالسياق من جهة اللسان العربي سياق اختصاص.

تفسير أسماء الله: الأول، الآخر، الظاهر، الباطن

تفسير أسماء الله: الأول، الآخر، الظاهر، الباطن قال المصنف رحمه الله: [{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:14 - 16] {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]]. فسر ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه -كما في الصحيح- بقوله: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، والثلاثة الأولى بيِّنة، وأما قوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) فمعناه: أنه لا يخفى عليه شيء. وقد قال بعض المتأخرين: إن هذه الأسماء مقترنة، فلا يذكر الأول إلا ويُذكر معه الآخر، ولا يُذكر الظاهر إلا ويذكر معه الباطن. ونقول: هذا من باب الكمال، أما أنه من باب اللزوم فلا. فلو قال قائل: إن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. وسكت، لكان كلامه صحيحاً، ولو قال: إن الله هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فإن كلامه يكون صحيحاً، ولو قال: إن الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، لكان كلامه صحيحاً .. وهكذا. وأيضاً: كيف يقال: إنه لا يمكن أن يذكر الظاهر إلا ويُذكر معه الباطن، مع أن هذا الاسم (الظاهر الذي ليس فوقه شيء) قد ذكر العلو والفوقية، وقد جاء ذكر العلو والفوقية مفرداً في آيات كثيرة في القرآن. إذاً: هذا من باب الاقتداء والحكمة الشرعية، أما أنه شيء لازم، ولو ذُكر الأول وحده لكان غلطاً؛ فإن هذا ليس صحيحاً.

التنزيه وأنواعه

التنزيه وأنواعه قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] فيه ذكر التنزيه؛ لأنه قال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] والمخلوق له علم لكنه ليس بكل شيء عليم، فهذا يدل على الإثبات ويدل على التنزيه، والقاعدة في هذا الباب: (أن كل نص في الإثبات فإنه يدل على الإثبات ويدل على التنزيه). والتنزيه نوعان: النوع الأول: تنزيه عام. النوع الثاني: تنزيه خاص. والتنزيه الذي نقصده في نصوص الإثبات هو التنزيه العام الذي هو: تنزيه الباري عن كل ما لا يليق به. وأما التنزيه الخاص: فهو التنزيه المناسب لهذه الصفة، بمعنى: أن الله لما قال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] دل ذلك على أنه منزه عن الجهل، والآية تتضمن هذا التنزيه الخاص، ومع تضمنها للتنزيه العام؛ فإن من كان بكل شيء عليماً كان هو الأول، وكان هو الآخر، وكان هو الرب .. وهكذا. ولذلك فإنه لم يذكر النفي المفصل في القرآن الكريم، فلم يذكر الله تعالى نفي الجهل، ونفي العجز، وغير ذلك من الصفات التي هي مقابلة لصفات الكمال؛ وذلك لأن هذا التفصيل لا معنى له، والله تعالى قد ذكر الإثبات مفصلاً، فإن كل نص في الإثبات يدل على نفي التشبيه والتمثيل، ويدل على التنزيه الخاص والتنزيه العام. قال المصنف رحمه الله: [{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]].

حكم القاتل عمدا

حكم القاتل عمداً قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) هذه الآية من أخص الآيات وعيداً في كتاب الله، ومعلوم أن قاعدة أهل السنة والجماعة: (أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله). وقد جاء عن ابن عباس فيما ثبت عنه في الصحيح: (أن القاتل عمداً ليس له توبة)، وقيل: إنه رجع عن ذلك، وهذه مسألة أخرى؛ لكن المقصود أن ما ذكره ابن حزم وبعض المتأخرين من أن ابن عباس يذهب إلى أن القاتل عمداً يكون مخلداً في النار، فهذا غلط على ابن عباس؛ لأن ابن عباس لم يقل: إنه يعذب في النار، إنما قال: (لا توبة له)، ومعنى ذلك: أنه يوافي ربه بالكبيرة، ويكون مستحقاً للوعيد، أما أنه يلزم من قول ابن عباس: (إنه لا توبة له) أنه يعذب في النار، فلا يلزم ذلك، ولا يلزم أن يكون مخلداً في النار. وهذا يدخل في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وإن عذب -أي: إن لحقه العذاب- فإنه لا يكون مخلداً. فمن حكى عن ابن عباس أن القاتل عمداً يخلد في النار فقد غلط عليه، ومن حكى عنه أيضاً أن القاتل عمداً يعذب في النار فقد غلط عليه؛ إنما الذي قاله ابن عباس أنه (لا توبة له) أي: يوافي ربه بذنبه، ويكون مستحقاً للوعيد، وأهل الكبائر دون الشرك -عند ابن عباس وغيره- إذا وافوا ربهم بالكبائر فإنهم تحت مشيئته. ومسألة القتل من أشد المسائل في القرآن والسنة، وفي قتل النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً ...) إلى آخر الحديث، وقد رواه غير الشيخين كـ الترمذي وغيره. وقد أشكل على بعض أهل العلم قوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) مع أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن الكبائر لا توجب التأبيد في النار إلا كبيرة الشرك والكفر بالله، أما ما عدا ذلك فإنه إذا عُذِّب يعذب قدراً في النار، ثم يخرج منها إلى الجنة. وعليه: فقوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) فيه طريقان: الطريق الأول: أن يكون هذا من باب التعبير العربي في أنه يستحق قدراً كبيراً من العذاب. الطريق الثاني: أن تكون اللفظة الأخيرة وهي قوله: (أبداً) لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكأن هذا هو الأقرب، وهو أن قوله: (أبداً) لفظة معلولة، فإسنادها غريب فرد، وقد أشار الإمام الترمذي إلى إعلالها، وإن كانت في الصحيحين، ومعلوم أن الشيخين إذا اتفقا على حديث لزمت صحته، كما ذكره جماعة من أهل العلم؛ لكن فرق بين أن يقال: إن الحديث ليس بصحيح، أو مطعون فيه، أو مُعَلّ، وبين أن يقال: إن لفظاً فيه دخله الإعلال. إذاً: القاعدة الشرعية المنضبطة في الكتاب والسنة والإجماع لا يمكن أن يُخرج عنها بهذا؛ وهذا من باب رد المختلَف فيه إلى المؤتلف، أي: ما دام أن القاعدة منضبطة أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن من قتل نفسه يخلد في النار أبد الآبدين كالكفار؛ لأنه مخالف للقاعدة الأصل، وهو غير متمسك بالنص؛ لأن هذا النص الذي فيه قدر من الإشكال والاشتباه يرد إلى المؤتلف، وإلى المجمع عليه، وإلى البين المحكم؛ ولابد من مراعاة هذا الأمر في فقه الحروف؛ فإنه لا يفقه الحرف من القرآن وحده؛ بل لا بد أن يقاس وأن يعتبر في السياق وبمقارِنِه وبالأصول في هذا الباب .. ونحو ذلك. ولذلك فإن من يفقه الحروف وحدها يقع أحياناً في شيء من الإشكال، فمثلاً: وجد بعضهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال -كما في الصحيحين- عن الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فقال: الحديث صريح في كفرهم. وهذا غلط؛ لأن الصحابة وهم أفقه الناس لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لما أدركوا هؤلاء الخوارج أجمعوا على قتالهم، كما يقول ابن تيمية: أن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة، ومع ذلك يقول: إنه من جنس الإجماع عند الصحابة الذين أدركوهم أنهم ليسوا كفاراً؛ فلا يمكن أن يكون بين الصحابة إطباق على فقه نص ويكون فقهه خطأً عندهم.

تنوع دلائل الصفات والحكمة من ذلك

تنوع دلائل الصفات والحكمة من ذلك قال المصنف رحمه الله: [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]]. يلاحظ تنوُّع الأدلة على بعض الصفات: فبعض الصفات جاءت بنص أو في سياق، وبعض الصفات -ولا سيما أصول الصفات؛ كعلم الله، وكعلوه، وكلامه، ونحو ذلك- جاءت دلائلها متنوعة. ومن هنا قال بعض أهل العلم: إن أدلة العلو تقارب الألف دليل في الكتاب والسنة، وكذلك قالوا مثل ذلك عن كلام الله تعالى، وقد أخذوا ذلك من تنوع الأدلة، فمثلاً: صفة الكلام ثابتة بقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وثابتة بقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62] وكل نص فيه ذكر مناداته سبحانه فإنه دليل على اتصافه بالكلام، وكل آية فيها ذكر قوله سبحانه فهي دليل على إثبات الكلام، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ} [يس:82] وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمْ} [غافر:60] وكل آية فيها ذكر أمره سبحانه وتعالى فهي دليل على اتصافه بالكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء:58]. ومثله صفة العلو: فآيات ذكر الفوقية، وآيات ذكر أن الله في السماء، وآيات ذكر أنه في العلو، وغير ذلك، كلها دليل على إثبات صفة العلو. ومن فوائد تنوع الأدلة -مع تحقيق الإيمان بذلك-: أنك إذا كنت عارفاً بتنوع الأدلة في هذه الصفة، وحاول المخالف تأويل آية من الآيات، فإن تأويل غيرها يكون ممتنعاً، فلو فرض جدلاً أن سياقاً من السياقات يمكن تأويله، فيقال: لو سلمنا أن هذا السياق يمكن تأويله فإن ثمة سياقات أخرى يمتنع فيها التأويل، وهذا أيضاً من باب رد ما يزعم المخالف أنه مختلف فيه إلى ما كان مؤتلفاً في حكمه.

أقسام خلق الله

أقسام خلق الله قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]]. خلق الله سبحانه وتعالى يقع على وجهين: الوجه الأول: أن يكون خلقه سبحانه وتعالى لشيء بمحض الأمر، وهو المذكور في مثل قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. الوجه الثاني: أن يكون خلقه سبحانه وتعالى على قدر من التقدير والتدبير وتسلسل الأسباب، كخلقه لآدم، وكخلقه للسماوات والأرض، وغير ذلك من مخلوقاته. فإما أن يكون خلقاً سببياً، أي: معتبراً بتسلسل الأسباب؛ كخلق بني آدم، فإن زيد بن عمرو هو ولد لعمرو ولأمه، فخلق بهذين الأبوين على جهة السببية. ومن خلقه سبحانه وتعالى ما كان مقطوعاً عن الأسباب، إنما يخلق الشيء بمحض الأمر، كخلقه سبحانه وتعالى للحية في قصة موسى، فإن العصا انقلبت حية لما أمرها الله أن تكون حيةً، فقد خلقت بمحض الأمر، والحيات الأخرى خلقت بتسلسل الأسباب، والله هو الخالق للسبب والمسبَّب. وسائر ما يقع في الكون هو من تقديره وخلقه وأمره سبحانه وتعالى. والملائكة سبب في خلق الله، وقد غلط بعض المتأخرين فقال كلمة يُعْجَب منها، وقد توجد في بعض الكتب التي يتداولها الناس، قال: "إن كل ما يحدث في الكون هو بأثر الملائكة وتدبيرهم"، وهذا غلط، فإن الملائكة عباد مكرمون، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن لهم عملاً، وأنهم مشغولون بأمر الله وتدبيره لهم؛ ولكن ليس في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قد أحاطوا بشأن الملكوت، أو أنهم يدبرون سائر ما يكون، لكن هناك أمور من أمره سبحانه وتعالى تدبرها الملائكة بتدبير الله وأمره لهم، ولكن أن يقال: إن كل ما يقع هو بأثر الملائكة، فإن هذا غير صحيح؛ بل يقع ما هو بأثر الملائكة، ويقع ما هو بمحض أمره سبحانه وتعالى وخلقه، وغير ذلك. قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24]]. هذا تفصيل لأسمائه تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24] وغير ذلك من الأسماء الحسنى.

المقصود بتسبيح الجمادات

المقصود بتسبيح الجمادات وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحشر:24] ما معنى أن ما في السماوات والأرض يسبح له سبحانه وتعالى؟ الجواب: إن كثيراً من الأسئلة قد غُلط في أصلها، والذي أصبح كأنه شيء مألوف عند الناس أن كل سؤال لا بد له من جواب مفصَّل يتناسب مع السؤال. والحق أن بعض الأسئلة يكون جوابها التوقف، وأن هذا مما اختص الله بعلمه، فلا يجوز أن نقول: إن تسبيح الجبال مثلاً هو سكونها، وإن تسبيح السحاب يكون بحركته، فإن هذا تفصيل والتماس غير صحيح؛ لأنه قول بغير علم، والله تعالى لما ذكر التسبيح قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فلما قال: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] علم أن جواب هذا السؤال أن يقال: إنها تسبح حقيقةً، ولكن تسبيحها لا يُفْقَه، ولو كان تسبيحها هو محض حركة السحاب، أو سكون الجبال، لكان مما يُشاهَد فضلاً عن أن يُفْقَه، ولكن لما قال: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] عُلِم أن هذا مما يتوقف فيه، وأنه يُسَلَّم به، والإنسان لا يمكن لعقله أن يتصور سائر الممكنات التي قد يقدرها الله سبحانه وتعالى أو ينشئها.

حكم إطلاق لفظ الذات على الله تعالى

حكم إطلاق لفظ الذات على الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل]. قوله: (إثبات ذاته وصفاته): أي: إثبات وجوده وكماله. وكلمة (ذات) في حق الله سبحانه وتعالى هي من القسم الثاني من الأقسام الأربعة التي ذكرناها للكلمات وهو: ما يسوغ استعماله. قال رحمه الله: [وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم أجمعين]. وهذه الطريقة طريقة محكمة فطرية عقلية شرعية. والدليل على كونها فطريةً عقلية أن مشركي العرب وغيرهم لم يعاضلوا ويناظروا النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فدل ذلك على أنها لا تخالف حكم العقل، ولا تخالف حكم الفطرة. وإنما دخل على المسلمين بعض المقالات بعد عصر الصحابة من الفلسفة اليونانية ونحوها. وقد ذكرنا فيما سبق: أن علم الكلام الذي حصَّل به المخالفون التعطيل لصفات الله مبني على ثلاث مقدمات: المقدمة الأولى: مقدمة فلسفية مفصلة، وهي جوهره ومبناه الكلي. المقدمة الثانية: مقدمة كلية من العقل. المقدمة الثالثة: مقدمة مجملة من الشرع.

شرح القواعد السبع من التدمرية [7]

شرح القواعد السبع من التدمرية [7] الذين ضلوا وزاغوا عن سبيل المرسلين وعباد الله المؤمنين من الكفار والمشركين، ومن اتبعهم من الفلاسفة والفرامطة والجهمية والباطنية ونحوهم -هؤلاء يصفون الله تعالى بالصفات السلبية، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له، وهذا القول يستلزم غاية التعطيل للصفات الذي يستلزم تعطيل الذات، ويستلزم غاية التمثيل؛ لأنهم مثلوا الله تعالى بالمعدومات والممتنعات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

طريقة المخالفين للرسل عليهم السلام في الأسماء والصفات

طريقة المخالفين للرسل عليهم السلام في الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله: [وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة، والمتفلسفة، والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم، فإنهم على ضد ذلك]. قوله: (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم): أي: خرج وضل عن سبيل المرسلين والمؤمنين. وقوله: (من الكفار والمشركين): ذكر الكفر والشرك، ولا شك أن كل كفر بالله سبحانه وتعالى فهو نوع من الشرك، والشرك المطلق الذي إذا ذكر في القرآن أريد به العبادة لغير الله، المذكور في مثل قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] هو أيضاً كفر. أما أن الشرك الأكبر كفر فهذا أمر بين. وأما أن الكفر شرك ولا بد؛ فلأن الكافر لا بد أن يكون قد اتخذ إلهاً غير الله؛ لأن الاتباع المطلق هو نوع من الشرك، وقد ذكر الله في كتابه أنواع الشرك، فذكر من أشرك بعبادة الأصنام والأوثان، ومن أشرك بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذكر من الشرك اتخاذ الهوى إلهاً، مثل قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] فهذا الذي أعرض عن سائر أمر الله ولم يرفع بذلك رأساً، أو سمى نفسه لا دينياً، أو نحو ذلك من التسميات؛ فإن هذا يقال: إنه كافر، ويجوز أن يقال: إنه مشرك، وشركه هنا بأنه قد اتخذ إلهه هواه، والشرك إذا أطلق في القرآن دل على الشرك الأكبر؛ ولذلك اختلف العلماء: هل الشرك الأصغر يدخل في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] أم أنه يدخل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] على قولين معروفين في كلام أهل العلم، وإن كان الأقرب أن بعض الشرك الأصغر من باب الكبائر، وليس من باب الشرك الأكبر المذكور في الآية. وقوله: (والذين أوتوا الكتاب): الذين أوتوا الكتاب إذا أطلق ذكرهم في القرآن فإنه يراد بهم اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن كتابهم المنزل على أنبيائهم ورسلهم.

المقصود بالصابئة

المقصود بالصابئة وقوله: (ومن دخل في هؤلاء من الصابئة): اسم الصابئة يستعمل في غير معناه، فقد ذكر الله تعالى في القرآن قوماً من الصابئة مؤمنين، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ} [البقرة:62] على أحد التفسيرين. وليس هذا هو قصد المصنف؛ بل مقصوده أتباع المتفلسفة، وقد ذكر المصنف في الرسالة الحموية أن الفلاسفة هم أئمة الصابئة وشيوخهم، وهذا أمر معروف في المقالات وكتب التاريخ: أن الصابئة يعتبرون دينهم أو طريقتهم بأئمتهم، وأئمتهم هم المسمون بالمتفلسفة. فهذا الاسم (الصابئة) يفسر على هذا المعنى.

المقصود بالمتفلسفة

المقصود بالمتفلسفة وقوله: (والمتفلسفة): إشارة إلى من استعمل الفلسفة ممن انتسب إلى القبلة، ويقصد بذلك من صرح بفلسفته ممن انتسب إلى المسلمين، وقد تقدم أن علم الكلام مولّد من الفلسفة، ولكن أصحابه لا يتسمون بالفلاسفة ولا ينتسبون إليها؛ بل لهم اشتغال بالرد على مقالات المتفلسفة؛ كالقول بقدم العالم، وغيرها من المقالات. ولما تأخر التاريخ بعض الشيء جاء قوم انتسبوا إلى القبلة وانتحلوا الفلسفة، وانتسبوا إليها، وسموا أنفسهم بهذا الاسم، وأخص هؤلاء: (أبو نصر الفارابي) و (الحسين بن عبد الله بن سينا)، ثم بعد ذلك كثروا وظهروا في بلاد المغرب، ومن أخص المغاربة: (أبو الوليد ابن رشد) و (ابن الطفيل) وجماعة.

الفرق بين المتكلمين والفلاسفة

الفرق بين المتكلمين والفلاسفة وهناك فرق بين الفلاسفة وبين المتكلمين، وأخص تلك الفروق: أن المتكلمين لهم طريقة في تحصيل مسائل أصول الدين مبنية على أن نصوص الصفات قد نطقت بالحق، ولكنها تحتاج إلى تأويل عن ظاهرها، فهي حق إذا ما أولت، أما قبل تأويلها فإنها لا تدل على الحق في زعمهم. أما ابن سينا وأمثاله من الذين صرحوا بالفلسفة وانتحلوها، ودافعوا عنها، فيرون أن الحق في باب صفات الرب، وفي باب ذاته، ووجوده، وأفعاله، وما إلى ذلك، يرون أن الحق في هذا الباب لم ينطق به القرآن، وإنما غاية ما في القرآن كما يقول ابن سينا: "إشارة مجملة إلى هذا التوحيد"، وإذا سألته: من أين يحصل ذلك؟ قال: يحصل الحق من الحكمة، ويقصد بالحكمة (الفلسفة)، فإن قيل له: أليس القرآن هدايةً للناس؟ فإن جوابه وجواب غيره من المتفلسفة: بلى! إن هذا القرآن هداية للبشرية، لكنه هداية للعامة، وأما الخاصة -على زعمه- فيرون أن الحق لم يذكر في القرآن؛ لقوة هذا الحق، وشدته، فلا تحتمله عقول العامة. فالخاصة يحصلون الحق من الحكمة -أي: من الفلسفة- وأما العامة فإنهم يكتفون بهذه الظواهر؛ لأن عقولهم لا تستوعب إلا هذا. ومن الفروق بينهم: أن المتفلسفة ينتسبون إلى الفلسفة، وأما المتكلمون فإنهم لا ينتسبون إليها؛ بل يطعنون فيها. ولكن من حيث نتائج المذهبين فإنهم يشتركون في بعض النتائج؛ كتعطيل الصفات عن حقيقتها الشرعية، ويختلفون في المقدمات. فمثلاً: ابن سينا لا يوجد في كتبه تأويل؛ بل إن ابن سينا شنع كثيراً على المعتزلة في مسألة التأويل، وقال: "إن نصوص القرآن لا تقبل التأويل"، وقد قال ذلك لأنه يزعم -تعالى كلام الله عن ذلك- أن هذا القرآن ليس هداية للخاصة، وإنما هو خطاب للعامة، فيقول: يجب أن يترك على ما هو عليه، بخلاف المعتزلة؛ فإنهم قالوا: إن الحق في حق الخاصة والعامة موجود في القرآن، ولكنه بحاجة إلى تأويل. فهذا فرق بين الطائفتين في المقدمات، ولكن لا شك أن طريقة ابن سينا أضل.

حقيقة ابن سينا وابن رشد

حقيقة ابن سينا وابن رشد وابن سينا لم يكن يريد التقريب بين الشريعة والفلسفة؛ لأنه رجل نشأ نشأةً فاسدة، فأهل بيته كانوا من الإسماعيلية الباطنية، فنشأ إسماعيلياً باطنياً، ولذلك لم يكن عنده توقيرٌ للشريعة وأحكامها، وقد عرف بإخلاله للآداب، وبشربه للمسكر، ويذكر عنه أنه كان يسهر في قراءة كتب الحكمة والفلسفة، فإذا أعياه الأمر أخذ شيئاً من الخمر أو ما إلى ذلك .. فكان رجلاً فاسد الديانة، وفاسد الآداب، وفاسد العمل، عنده انحراف كثير. بخلاف ابن رشد، فإنه كان فلسفياً، لكنه رجل معظم للشريعة، وفقيه على مذهب الإمام مالك، وله مصنف مشهور في هذا وهو: (بداية المجتهد)، وأبوه كان من القضاة ومن الفقهاء المالكية، إلا أنه أُشرب هذه الفلسفة وصدقها، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، فإنه عُني بها، وشغف بها، وانتصر لها انتصاراً بالغاً، وزعم أن ابن سينا لم يفقهها، وأنه تكلم في مسائل الإشراق وما إلى ذلك. مع أن الحق أن ابن سينا -وإن كان أضل سبيلاً من أبي الوليد ابن رشد - إلا أنه أفقه وأعلم بالفلسفة وطرقها ومواردها من أبي الوليد بن رشد، فإن ابن رشد إنما أخذ فلسفة أرسطو طاليس، بخلاف ابن سينا؛ فإنه ذكر هذه الفلسفة وغيرها. ولذلك فإن ابن سينا له في كتبه أكثر من طريق، فمرة يستعمل الطريقة العقلية الفلسفية، وهي طريقة أرسطو، ومرة يستعمل الطريقة الإشراقية، وهي طريق الفلاسفة الإشراقيين، ومن كتبه في ذلك: كتاب (الشفا)، وهو أكبر كتبه في الفلسفة، وهو يقع في سبعة عشر مجلداً، قال في شأن هذا الكتاب في بعض رسائله: "وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جري على عادة المشائين"، ويعني بالمشائين: أرسطو وأتباعه الذين يسمون بالمشائين. قال: "وأما الحق الذي لا جمجمة فيه" أي: لا خفاء فيه ولا شوب، "فهو ما أودعناه بالحكمة المشرقية" ويقصد بها: الطريقة الصوفية الإشراقية. إذاً: ابن سينا عقلاني في بعض كتبه، إشراقي صوفي في البعض الآخر، وفي كتاب (الإشارات والتنبيهات) جمع بين هذين السبيلين، كـ أبي حامد الغزالي؛ فإنه عقلاني متكلم في بعض كتبه؛ كقواعد العقائد ونحوها، وهو صوفي، وهو المشهور عنه. وقد شاعت في القرن الرابع والخامس والسادس عند الصوفية أو الحكماء أو النظار نظرية تقول: (إن المذهب الشخصي للإنسان لا يلزم أن يكون واحداً)، ولهذا إذا قرأت لـ أبي حامد كتاباً تجد أنه لا يرى فيه للعقل مقاماً؛ بل يعظم الإشراق، والنفس، وطريقة الصوفية، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً عقلانياً، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً واعظِاً .. وهكذا. وقد ظن بعض الباحثين أن الغزالي كانت له أطوار، وهكذا إذا أشكل عليهم مذهب رجل قالوا: كانت له أطوار، والحق أن هذا ليس من باب الأطوار، وقد أجاب الغزالي عن هذا الإشكال فقال: "فإن سألت عن المذهب فالمذهب ثلاثة: مذهب الجدل، الذي يجادل به المخالف للحق -في زعمه- فهذا يكون بالعقل وبعلم الكلام"، وهو أشعري في هذا المقام على طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني ومن سلك طريقتهم ممن خالف طريقة مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري. يقول: "وإن سألت عن مذهب العامة فهو وعظ الشريعة في الزواجر والدواعي، وإن سألت عن المذهب الحق، وهو اليقين السر بين العبد وبين ربه، فهو طريقة الصوفية". فـ أبو حامد يستعمل هذه الطرق، ولذلك لما رد على الفلسفة وكتب كتاب (التهافت) استعمل الطريقة الكلامية، وقال: "إننا نستعين بالمعتزلة في ردنا على هؤلاء".

الجهمية

الجهمية وقوله: (والجهمية): الجهمية: نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي، وهو رجل معروف ومشهور يسيء المقالات؛ فإنه قال كلاماً أحدثه في الإسلام ونشره وأظهره. وهذا الاسم -أي: الجهمية- يطلق في كلام أهل العلم على أحد مرادين: المراد الأول: الجهمية المحضة الغالية الذين يتبعون طريقة الجهم بن صفوان بغلوها وشدتها، وينفون الأسماء والصفات، وهذا المذهب نزعته نزعة فلسفية، وهؤلاء يسمون بالجهمية المحضة. المراد الثاني: من اشتغل بنفي الصفات أو ما هو منها، فإنه يسمى جهمياً؛ ولذلك قيل: مناظرة الإمام أحمد للجهمية، مع أن جمهور من ناظره إذ ذاك كانوا معتزلة، ومن المعلوم أن المعتزلة ليسوا موافقين للجهم بن صفوان على عقائده؛ بل إن من أئمة المعتزلة -كما ذكره ابن الخياط في الانتصار للمعتزلة وهو معتزلي- من يكفر الجهم بن صفوان. فالرجل عندهم ليس محمود الحال، وهو وإن كان قد شاركهم في مسألة الصفات نوع مشاركة إلا أن بينهم فرقاً حتى في الصفات، وكذلك في مسألة الإيمان، فـ الجهم من المرجئة الغلاة، بخلاف المعتزلة فإنهم وعيدية في باب الإيمان، وفي باب الأسماء. فاسم التجهم هنا في كلام شيخ الإسلام يقصد به الإطلاق الثاني وهو: من نفى الصفات؛ وذلك لما كان الجهم هو الذي نشر مقالة نفي الصفات وأظهرها أضيفت إليه، فصار كل من نفى الصفات يسمى جهمياً.

القرامطة الباطنية

القرامطة الباطنية وقوله: (والقرامطة الباطنية): نسبة إلى رجل يقال له: حمدان قرمط، وهو رجل باطني من الباطنية، وهم الذين يعتبرون الإسلام والقرآن له ظاهرٌ وباطن. والتعبير بالظاهر -كما تقدم- موجود عند المعتزلة، إلا أن الظاهر عند المعتزلة يقابله المؤول، فالمعتزلة لا يسمون ما قابل الظاهر باطناً، وإنما يسمونه: مؤولاً، ويقولون: إن ظاهر النصوص ليس مراداً، إنما المراد هو التأويل. أما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر يقابله الباطن. والباطنية انتسبوا في فرق أهل القبلة إلى أحد طائفتين: إما إلى الشيعة، وإما إلى الصوفية، فهم إما باطنية الشيعة، وإما باطنية الصوفية، وهم الغلاة من كلا الطائفتين. ثم باطنية الشيعة وباطنية الصوفية على مدارس وطوائف، وبينهم قدر من الخلاف والوفاق.

سبب الغلط في باب الصفات

سبب الغلط في باب الصفات وقوله رحمه الله: (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب): هذا إشارة من المصنف إلى أن أصل هذه المقالات التي زعمها من زعمها ممن انتسب إلى القبلة -وقد ينازَع في صحة ثبوت إسلامه- أن هذه المقالات أصولها من مقالات المشركين. وهذا مما ينبغي أن يعنى به: أن الغلط في باب الإلهيات وفي باب الصفات ليس موجبه اشتباه النصوص عليهم؛ لأن الذين خالفوا في ذلك إما أن يكونوا من الباطنية، وإما أن يكونوا من المتكلمين، وإما أن يكونوا من المتفلسفين، وقد سبق أن الباطنية والمتفلسفة لا يرون القرآن نطق بهذا، وحتى من كان منهم متكلماً -كأئمة المعتزلة- لا يرون أن ظاهر القرآن نطق بهذا، بل هو -عندهم- بحاجة إلى تأويل. فمراد الإمام ابن تيمية أن يقول: إن البدعة التي ظهرت بعد عصر الصحابة -من نفي صفات الله وإخراجها، عن ظاهرها الشرعي- ثم شرحها المتفلسفة -كـ ابن سينا ونحوه- ودخلت على بعض الفضلاء من الفقهاء المتأخرين المنتسبين للسنة والجماعة، ليس ذلك بسبب أن نصوصاً اشتبهت عليهم من القرآن؛ بل إن الفلسفة هي أصل هذه المقالة، بغض النظر عن التفاصيل التي قد يكون لها بعض الأحوال الخاصة. وعلى هذا فالبدع التي ظهرت في الجملة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: بدع أصلها مادة منقولة. القسم الثاني: بدع ليس لها مادة منقولة قديمة في الفلسفة وغيرها، إنما اشتبهت على قوم من المسلمين؛ لقلة علمهم، ولبغيهم، ولجهلهم، ولعدم اهتدائهم بهدي الصحابة، فظهرت عندهم بدعة ما، كبدعة الخوارج، فالخوارج لم يقرءوا كتب الفلسفة؛ بل كان كثير منهم أميين لا يقرءون ولا يكتبون؛ فلم يأخذوا بدعتهم من الفلاسفة، والخوارج كانوا عرباً، بخلاف أولئك الذين أدخلوا مقالة الفلاسفة وتكلموا في مسألة الإلهيات ونفي الصفات، فأكثرهم من الأعاجم، كـ أبي الهذيل العلاف وابن سينا وأمثالهم. فالمقصود: أن الخوارج قالوا ببدعتهم تلك لأنه اشتبه عليهم القرآن، لا لكون القرآن محتملاً لهذه البدعة؛ وإنما لجهلهم ولظلمهم، وما إلى ذلك. فنجد أن الخوارج استدلوا على أن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، بقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] وقد استدلوا بهذه الآية أمام جابر بن عبد الله كما جاء من حديث يزيد الفقير عند الإمام مسلم، وكذلك استدلوا بقول الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ويجاب الخوارج عن هذه الآيات بما جاء عن ابن عباس وجماعة من الصحابة.

أقسام نفاة الصفات وطريقتهم في ذلك

أقسام نفاة الصفات وطريقتهم في ذلك أما بدعة نفي الصفات فهي بدعة منقولة، وقد انقسم أصحابها إلى ثلاث طوائف، وهذا ينبه عليه في كلام المصنف؛ لأنه قال: (ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة)، ولو حذفت الواو من قوله: (والمتفلسفة) -وقد تكون محذوفة في بعض النسخ مع أن المحقق لم يشر إليها- لكان أقرب إلى السياق هنا، فيكون السياق: (من الصابئة المتفلسفة)؛ لأن المصنف كأنه يريد هنا الإشارة إلى أن الذين حادوا عن سبيل أهل السنة والجماعة في باب الصفات وهم منتسبون إلى القبلة ثلاث نزعات، وأصولهم من الكفار والمشركين، ولا يعني هذا أنه يحكم عليهم بحكم الكفار ويقال أنهم كفار. فالصابئة أئمتهم المتفلسفة، ومن هؤلاء الصابئة المتفلسفة ابن سينا وأمثاله -مع أن ابن تيمية في كتبه أحياناً يضيف ابن سينا إلى الباطنية- والجهمية هؤلاء يمثلون من يسمون بالمتكلمين كالمعتزلة ونحوها، والنزعة الثالثة: هي نزعة القرامطة الباطنية، مع أن الباطنية ليسوا وفقاً للقرامطة، ولكن كما أنه ذكر المتكلمين باسم الجهمية لكونهم هم أصل المادة، فكذلك القرامطة ذكر اسم الباطنية تحتهم لكونهم هم أصل المادة.

طريقة نفاة صفات الله تعالى

طريقة نفاة صفات الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان]. قوله: (فإنهم يصفونه بالصفات السلبية): الصفات السلبية: هي صفات النفي، والسلب: هو النفي المجرد، ولا يوجد في القرآن نفي مجرد، إنما الموجود في القرآن هو النفي غير المجرد، أي: أنه يتضمن أمراً ثبوتياً، أما الذي يصفه به هؤلاء فهو السلب أو النفي المجرد، أي: المجرد عن أمر ثبوتي، فلا يتضمن أمراً ثبوتياً؛ لأنهم يقصدون النفي لتحقيق النفي، لا لإثبات كمال من الكمالات. قال رحمه الله: (فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل)، وقد سبق قول المصنف: (إن الله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي ومجمل)، بخلاف طريقة هؤلاء فإنهم يستعملون النفي المفصل. وقوله: (ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل) (وجوداً مطلقاً) أي: مجرداً عن الأمور الثبوتية. ولذلك يقول ابن سينا -وهو شارح نظرية التجريد-: "إن الباري وجود مطلق"، أي: مجردٌ عن الأمور الثبوتية، ويقول: "إنه واحد من كل جهة مجرد عن هذه الإضافات والتخصيصات ... " إلى آخر ما يزعم من الكلام. وقوله: (وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان): قوله: (وإنما يرجع) أي: الوجود المطلق، وهو أن الله موجود وليس له صفة .. يقول المصنف: إذا جُرد الباري عن سائر صفاته؛ من العلم، والحكمة، والرحمة، والعزة، والقدرة .. إلى غير ذلك من الصفات والأفعال، فإن هذا وجود لا يمكن أن يكون متحققاً في الأعيان، أي: في الوجود الحقيقي، في الخارج؛ وذلك لأن الشيء يكون موجوداً بصفاته، وأما إذا جُرد عن الصفات فإنه يبقى شيئاً ذهنياً، ولو قيل عن إنسان مثلاً -ولله والمثل الأعلى، وهذا في حق المخلوق فكيف بالخالق سبحانه وتعالى- لو قيل عنه: إنه مجرد عن الصفات، فلا يتصف لا بمحبة، ولا بعلم إلى آخر الصفات الجوهرية، وليس له يد، ولا رجل إلخ؛ لأصبح هذا الإنسان معدوماً. فأي شيء في الخارج قائم بنفسه أو قائم بغيره، إذا جُرد عن صفاته العرضية والجوهرية أصبح شيئاً معدوماً، ولذلك سيقول المصنف فيما سيأتي: إن هؤلاء فروا من تشبيه الله بالموجودات فشبهوه بالمعدومات.

استلزام قول النفاة لغاية التعطيل وغاية التمثيل

استلزام قول النفاة لغاية التعطيل وغاية التمثيل قال المصنف رحمه الله: [فقولهم يستلزم غاية التعطيل، وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات]. قوله: (فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل): يستلزم غاية التعطيل لأنهم نفوا الكمال عن الله، فإن إثبات الصفات هو كماله سبحانه وتعالى. وأما أنه يستلزم غاية التمثيل: فلأنهم مثلوه بأقل الممكنات وهي الأشياء المعدومة؛ بل ربما زاد غلاتهم ومثلوه بغير المعدومات وهي الأشياء الممتنعة. والشيء الممكن أكمل من الممتنع، والممكن الموجود أكمل من الممكن المعدوم من جهة أنه موجود، فقولهم يستلزم غاية التمثيل؛ لأن من شبه الله بالمخلوق الموجود فقد مثل، فكذلك من شبهه بالمعدوم أو الممتنع فهذا غاية التمثيل له سبحانه وتعالى.

تمثيل النفاة لله تعالى بالممتنعات والمعدومات والجمادات

تمثيل النفاة لله تعالى بالممتنعات والمعدومات والجمادات وقوله رحمه الله: (فإنهم يمثلونه بالممتنعات): وهذا حينما يقولون: إنه ليس قابلاً للصفات، فإن الذي لا يكون قابلاً للصفات حقيقته أنه ليس قابلاً للوجود، وهذا تشبيه له بالشيء الممتنع؛ لأن الذي لا يكون قابلاً للوجود هو الشيء الممتنع، فإن تعريف الممتنع: هو ما لا يقبل الوجود، أما الشيء المعلوم فإنه قابل للوجود. وقوله: (فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات): وهذا بحسب مراتبهم، وإلا فهناك فرق بين المعدوم، والممتنع، والجماد، والسبب في أن هؤلاء يشبهونه تعالى بالجمادات -أي: بغير الحي- أنهم زعموا أن طريقة السلف تستلزم التشبيه ببني آدم؛ لأن بني آدم هم الذين يتصفون بالسمع والبصر ونحو ذلك، ففروا من هذه الطريقة فشبهوه إما بالموجودات الجامدة غير الحية، وإما بالمعدومات، وإما بالممتنعات، ولا شك أن هذه الثلاثة شر من التشبيه بالموجود الحي. هذا لو فرض أن قول السلف يستلزم تشبيهاً بالموجود الحي، وإلا فطريقة السلف -طريقة أهل السنة والجماعة- لا تستلزم التشبيه لا بالحي ولا بغير الحي.

تعطيل الصفات يستلزم نفي الذات

تعطيل الصفات يستلزم نفي الذات وقوله رحمه الله: (ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات): أي أنهم إذا قالوا: إنه ليس قابلاً للصفات؛ لزم من ذلك أن لا يكون قابلاً للوجود؛ لأن وجود موجود قائم بنفسه، غني عما سواه -وهو الله سبحانه وتعالى- يمتنع إلا أن يكون هذا القائم بنفسه الغني عما سواه متصفاً بصفات الكمال، والله سبحانه وتعالى قد أجمع المسلمون وعامة الأمم على أنه سبحانه هو الواحد الأحد، القائم بنفسه، الواحد في ربوبيته، وإن كانوا يشركون في الألوهية -أي: غير المسلمين- لكن من الفطرة المستقرة عند عامة بني آدم أن الله هو الرب الواحد في ربوبيته، القائم بنفسه، الغني عما سواه. فإذا كان كذلك فلا بد لهذا القائم بنفسه الغني عما سواه أن يكون متصفاً بصفات الكمال، وإذا تجرد عنها أو عُطل عنها استلزم ذلك نفي الذات. وقد ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام لما جادل الصابئة، فإنه بعث في بلاد كان أئمتها المتفلسفة وأتباعهم هم الصابئة، وكانوا ينظرون في مثل هذه المقالات، ومما يدل على أن مقالة نفي الصفات أصلها مقالة صابئية فلسفية: أن إبراهيم عليه السلام جادل قومه -وهم الصابئة- في مسائل تتعلق بأصول الربوبية والخلق والأفعال الإلهية، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:75 - 76] ولما جاء ابن سينا إلى مسألة الأفول: (فَلَمَّا أَفَلَ) أخذ يُرجعها إلى نفس نزعة الصابئة القديمة فقال: إنه (لما أفل) أي: تحرك، فدل ذلك على أن الإله لا يتحرك. وهذا غلط؛ ولأن معنى (أفل) أي: غاب واحتجب الكوكب. وقد كان إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] فدل ذلك على أن الإله الحق لا بد أن يكون متصفاً بهذه الصفات، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد عطل ربوبية وألوهية هذه المعبودات لكونها لا تتصف بصفة أو صفتين، فمن باب الأولى ما يتعلق بسائر الصفات، كما قال تعالى عن أصحاب العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148].

شرح القواعد السبع من التدمرية [8]

شرح القواعد السبع من التدمرية [8] اختلفت مذاهب وآراء المخالفين للرسل عليهم السلام وللسلف الصالح رحمهم الله في صفات الله تعالى، فذهب غلاتهم من الباطنية إلى أن الله تعالى لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت ... إلخ، وذهب الفلاسفة إلى وصف الله تعالى بالسلبيات وهي النفي المجرد، وبالإضافات، كقولهم بأنه مبدأ العالم وعلة العالم، وذهب المعتزلة إلى إثبات الأسماء لله تعالى ونفي الصفات، فقالوا: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة .. إلخ، وكلام هؤلاء جميعاً باطل متناقض مردود بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول.

مذهب الغلاة -وهم الباطنية- في نفي الصفات

مذهب الغلاة -وهم الباطنية- في نفي الصفات قال المصنف رحمه الله: [فغاليتهم يسلبون عنه التقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل؛ لأنهم -بزعمهم- إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شر مما فروا منه]. شرع المصنف رحمه الله في بيان مذاهب النفاة للصفات، وهم المنتسبون للطوائف الثلاث التي انتسب أصحابها للقبلة، وهي: الباطنية، والفلاسفة، والجهمية المتكلمة، فقال: (فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم) وهذه هي مقالة الباطنية، والمصنف لم يرتب الأمر كالترتيب السابق، إنما أراد أن يبدأ بالمقالة الغالية فما دونها، وقد بدأ بذكر مذهب الباطنية القائلين بأن الله لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت إلخ. وهذا المذهب لم يشتبه على أصحابه بسبب نصوص مجملة أو مفصلة، ولا بسبب العقل المجرد، وهو الدليل العقلي الذي يشترك فيه العقلاء، ولم يشتبه عليهم بالمعنى الفطري أو المعنى الحسي، ولكن هذه نزعة فلسفية منقولة، نقلها هؤلاء الباطنية إلى بيئة المسلمين، وزعموا أنهم على هذه الطريقة، ولذلك إذا قيل لهم: هل ذكر القرآن ذلك؟ قالوا: لا. القرآن له باطن.

الفرق بين التفسير الباطني والتفسير التأويلي عند المتكلمين

الفرق بين التفسير الباطني والتفسير التأويلي عند المتكلمين وهنا قد يقول قائل: الباطنية يقولون: القرآن له ظاهر وله باطن، والمعتزلة وأئمة الكلام كالجمهية يقولون: القرآن له ظاهر وله تأويل، فما الفرق بين المعنى التأويلي والمعنى الباطني؟ والجواب: أن المعنى التأويلي أصحابه كالمعتزلة يوجهونه عبر طريق اللغة العربية، بمعنى: أنهم يحورون الآية تحويراً عربياً، وفي الغالب يعتمدون على مقدمات لغوية أكبرها وأخصها ما يسمى بنظرية المجاز اللغوي، فيحورون الآية عبر نظرية المجاز ومقدمات لغوية أخرى، فيجعلونها دليلاً على هذا المعنى الذي حصلوه، فإذا قيل لهم: هل نطق القرآن بهذا هذا المعنى؟ قالوا: نعم. وهذا بحكم كلام العرب، ولكنه على الطريقة المجازية وليس على الطريقة الحقيقية. فهم في النتيجة العامة يعتمدون على اللغة وعلى التفسير اللغوي للقرآن، أما كونهم يغلطون في ذلك فهذا مقام آخر، لكن المقصود بيان طريقة التحصيل. أما الباطنية فلا يفسرون القرآن تفسيراً لغوياً، بمعنى أنهم لا يقولون: إن لغة العرب تدل على ظاهر وتدل على باطن، وإنما الباطن عندهم لغة إشارية تكشف -فقط- للرجل الباطني الذي قد وصل إلى سقف الباطنية، فيفسر -مثلاً- كلمة (الصلاة) بتفسير لا تدل عليه، فليست العبرة أنه متلقى من مادة لغة العرب، إنما هذا بحسب الحكمة الباطنية، وبحسب الفكر الباطني الفلسفي يكون التفسير للقرآن، ويسمون ذلك: (الإشارات) أي: أن القرآن أشار إشارات باطنية لطرقهم، وذلك مثل مسألة خلع النعلين في قصة موسى عليه السلام، فإن بعض الغلاة من باطنية الصوفية يقولون: ليس المقصود أنه فعلاً خلع نعليه، ولكن خلع النعلين يعني: التجرد من عالم المشاهدة إلى عالم الربوبية .. وأمثال هذه التفسيرات. فهذا هو الفرق بين التفسير الباطني والتفسير التأويلي عند المتكلمين.

مذهب الباطنية مردود بإجماع المسلمين

مذهب الباطنية مردود بإجماع المسلمين وهذا المذهب لا ينبغي أن يطالع فيه، ليس لأن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رده؛ بل لأن عامة المسلمين أجمعوا على رده، حتى المتكلمين منهم -كالمعتزلة وغيرهم- فإنهم أجمعوا على إبطاله، وكذلك جمهور الشيعة وجمهور الصوفية ينكرون هذا المذهب على الباطنية الغلاة؛ فضلاً عن المتكلمين؛ فضلاً عن الفقهاء والعباد؛ فضلاً عن أئمة السنة والجماعة، فهو مذهب مهجور بيّن الغلط وواضح السقط.

سلب النقيضين كجمعهما ممتنع

سلب النقيضين كجمعهما ممتنع قال المصنف رحمه الله: [فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات، وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم]. قوله: (فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات): من قواعد العقل الضرورية: أن جمع النقيضين ممتنع، وأن سلب النقيضين أيضاً ممتنع، ولا سيما إذا كان الكلام عن موجود قائم بنفسه وقيل: إنه مجرد عن النقيضين، فإن المجرد عن النقيضين هو الشيء المعدوم، والذي يمتنع عليه هذا النقيض وهذا النقيض هو الشيء الممتنع. وقوله: (وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم): أراد المصنف بهذا الكلام أن يبين أن هذا المذهب مفارق لأصول الفطرة العامة التي لا يقر بها المسلمون فحسب؛ بل يقر بها جمهور بني آدم.

مذهب الفلاسفة في نفي الصفات

مذهب الفلاسفة في نفي الصفات قال المصنف رحمه الله: [وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات]. قوله: (وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم): هذه هي الطائفة الأولى في كلام المصنف السابق لما قال: (الصابئة والمتفلسفة)، وقد قلنا: ربما أن الواو في غير موضعها، وهذا في أول ذكره للمنحرفين عن طريق الرسل.

معنى السلوب والإضافات

معنى السلوب والإضافات قال رحمه الله: (فوصفوه بالسلوب والإضافات): السلوب: هو النفي المجرد، والإضافات: هي الأشياء المتقابلة، وهذا معنى التضايف في المنطق، أي: أن الذكر لأحد المتضايفين كالذكر للآخر؛ كالفوق والتحت ونحو ذلك. فغاية ما يثبته ابن سينا -وهو من أئمة هذه النظرية الثانية- وأمثاله هي مسألة الإضافات، وذلك مثل قولهم: إنه مبدأ العالم، أو علة العالم. فـ ابن سينا يثبت هذه المعاني، لكنها ليست عنده من باب الصفات؛ بل هي عنده من باب الإضافات، بمعنى: أن الأشياء إما علة وإما معلول، كما يقال -حسب اللسان النبوي الشرعي-: إن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، والخالق عنده هو العلة .. تعالى الله سبحانه وتعالى عن هذه التسمية، بل عن هذا المعنى؛ لأنهم يثبتون العلة الغائية وليس العلة الفاعلية، وهذه طريقة أرسطو، فلم يكن أرسطو موحداً، خلافاً لبعض الباحثين المعاصرين الذين يذكرون أن أرسطو كان موحداً، وأنه من خلال الفلسفة أثبت مسائل التوحيد الأولى إثباتاً صحيحاً، وهذا غير صحيح؛ فإن أرسطو يثبت واحداً، لكنه يجعله علة غائية تنتهي إليها الأشياء، وليس فاعلياً، أي: ليس هو الفاعل للعالم، وليس هو الخالق للعالم، بل خلقت الأمور بتوسط العقول وتوسط النفوس .. وغير ذلك مما يذكرونه في كتبهم.

الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والوجود المطلق لا بشرط

الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والوجود المطلق لا بشرط وقوله رحمه الله: (وجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق): الوجود المطلق أي: المجرد عن الصفات الثبوتية (بشرط الإطلاق) أي: بشرط التجريد عن الصفات الثبوتية. وهنا مقالتان في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فتاره يقول عن بعض المذاهب: "وهؤلاء جعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق"، وتارة يحكي عن بعض المذاهب فيقول: "وهؤلاء جعلوه الوجود المطلق لا بشرط". والمقالة الأولى هي مقالة ابن سينا وأمثاله الذين ينفون عنه صفات الإثبات، ويصفونه بالسلوب والإضافات، ويجعلونه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أي بشرط التجريد عن أي أمر ثبوتي، وهذه نظرية فلسفية لـ أرسطو طاليس. أما مقالة الوجود المطلق لا بشرط فهي مقالة الغلاة من باطنية الصوفية، الذين يُعرفون بمذهب وحدة الوجود، كـ ابن عربي الطائي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني، وأمثال هؤلاء. فهؤلاء يقولون: هو الوجود المطلق، أو الموجود المطلق لا بشرط، فيجعلون الوجود واحداً، وهذه نظرية وحدة الوجود، وهي نظرية لقوم من الفلاسفة كانوا قبل أرسطو طاليس، وقد ذكر ابن تيمية أنه وقع كلام لـ أرسطو يرد به على قوم من الفلاسفة قبله كانوا يقولون بوحدة الوجود. وهذان المذهبان -الأول والثاني- لا يزعم أصحابهما أن لهما ذِكراً في القرآن، وغاية ما يمكن أن يقول قائلهم كـ ابن سينا: أن مذهبهم له إشارة مجملة في القرآن، كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] وكقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فيرى أن في القرآن إشارات مجملة، وهناك فرق بين الإشارة وبين التعبير اللغوي السائغ.

مذهب المعتزلة في نفي الصفات

مذهب المعتزلة في نفي الصفات قال المصنف رحمه الله: [وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات. والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات]. هذه هي النزعة الثالثة. وقد يقول قائل: قد سبق أن أشار المصنف إلى ثلاث نزعات: نزعة الباطنية، ونزعة المتفلسفة، ونزعة المتكلمين الجهمية، لكنه هنا لم يذكر الجهمية. والجواب: أن هذا من باب التعريف بالحقائق، بمعنى: أن المصنف يرى أن هذا المذهب جوهره وحقيقته ونتيجته نتيجة مذهب ابن سينا في أنه جعله الوجود المطلق؛ لأنهم ينفون سائر الأسماء وسائر الصفات، فلما كانت النتيجة بين الجهم بن صفوان وبين ابن سينا في الجملة واحدة، لم يقصد المصنف إلى تسمية مذهب الجهم هنا؛ لأنه -في الحقيقة- داخل في كلام ابن سينا، لكن ابن سينا صرح به تصريحاً فلسفياً، وأما الجهم بن صفوان فرتبه ترتيباً كلامياً، ولم يصرح به تصريحاً فلسفياً، وإلا فالنتيجة في الجملة نتيجة واحدة، ولا يلزم من هذا اتفاقهم في كل شيء. هذا هو السبب في كون المصنف لم يصرح بمذهب الجهم لما ذكر المتكلمين هنا، وإنما قال: (وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة) أي: قاربوا المتفلسفة كـ ابن سينا، فإذا كان المعتزلة قاربوهم، فـ جهم قد وافقهم؛ ولذلك يقول ابن تيمية عن ابن رشد: "إن ابن رشد أقرب إلى الشريعة في هذا الباب من جهم بن صفوان "، مع أن ابن رشد رجل فلسفي، وهذا يبين أن المصنف - ابن تيمية - ينتهي إلى أن نظرية الجهم نظرية غالية، ولو أنه قال: ومذهب ابن سينا وابن رشد؛ لما استغرب؛ لأن كليهما فلسفي، مع أن النتيجة أن الجهم أقرب إلى ابن سينا من أبي الوليد ابن رشد، وإن كان هناك في المقدمات تراتيب مختلفة. ومن دقة المصنف أنه قال: (وقاربهم) بمعنى: أن مذهب المعتزلة ليس هو مذهب المتفلسفة، أو الغلاة من المتكلمين كـ جهم بن صفوان؛ بل إن المعتزلة أقرب إلى الشريعة من الجهم ومن المتفلسفة.

الفرق بين إثبات أهل السنة والمعتزلة للأسماء

الفرق بين إثبات أهل السنة والمعتزلة للأسماء وقوله رحمه الله: (فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات): لقد أثبت المعتزلة أسماء الله تعالى من حيث الجملة، ولم يثبتوها إثباتاً تفصيلياً كإثبات أهل السنة، فهناك فرق بين إثبات المعتزلة وإثبات الأئمة المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، وهذا الفرق من وجهين: الوجه الأول: أن الأئمة يثبتون سائر ما ورد به الكتاب والسنة، بخلاف المعتزلة فإنها ردت كثيراً من السنة بحجة أنه آحاد، وهذا له جواب آخر. الوجه الثاني: أن الأئمة إذا أثبتوا الاسم أثبتوا ما دل عليه من المعنى القائم بذات الرب على ما يليق بجلاله، وهي الصفة التي تضمنها ذلك الاسم، أما المعتزلة فإنهم إذا أثبتوا الاسم أثبتوا ما دل عليه من المعنى حكماً، ولم يثبتوه معنىً قائماً بذات الرب، أي: ينفون الصفة التي دل عليها ذلك الاسم. فمثلاً: لا يقولون: إن الله لا يتصف بالعلم، أي: لا يعلم الأشياء، ولا يقولون: إن الله لا يسمع ولا يبصر الأشياء، وإنما يثبتون أحكام هذه الصفات، فإذا قيل للمعتزلي: هل الله بكل شيء عليم؟ فيقول: نعم، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن. ولذلك كفّرت المعتزلةُ القدريةَ الغلاة الذين ينكرون علم الله تعالى. وإذا قيل للمعتزلي: هل أحاط الله بالأشياء إدراكاً؟ فيقول: نعم، يدرك الأشياء لكن لا بسمع ولا ببصر. وهذا هو ما يسمى: (حكم الصفة)، إذ أن الاسم فيه حكم وفيه معنىً الذي هو القيام بالذات، فالمعتزلة تثبت المعنى حكماً، بمعنى: أنهم لا يقولون: إن الله لا يتصف بالعلم من كل وجه، إنما يقولون: عليم، ولكن ليس بعلم يقوم بنفسه، إنما عليم بذاته، أو عليم بعلم هو هو، أو ما إلى ذلك من تعبيرات أئمتهم. إذاً: المعتزلة يثبتون حكم الصفة ولا ينكرونه؛ لأنهم لو أنكروا حكم الصفات لكفروا على التصريح؛ لأن من يقول: إن الله لا يعلم الأشياء، لا يجادل أحد في كفره، لكنهم يقولون: إن الله عليم بذاته، لكن ليس بعلم يقوم بذاته، وبصير بذاته ليس ببصير يقوم بذاته .. وهذا حتى لا يتصف بالصفات التي تضمنتها الأسماء الحسنى.

أخص أسماء الرب ومعانيه عند المعتزلة

أخص أسماء الرب ومعانيه عند المعتزلة وأخص الأسماء في كلام المعتزلة خمسة: حي، عليم، قدير، سميع، بصير، أما الثلاثة الأولى: حي، عليم، قدير، فقد أطبقت عليها المعتزلة، ولا يوجد أحد من المعتزلة ينكرها، وأما السميع والبصير، فهي من الأسماء التي فيها بعض التردد فيما بينهم؛ لكن هذه الخمسة فيها استقرار في الجملة عندهم. وأما أخص معاني الرب عند جمهورهم فهي: القدم، والأولية، ويجعلون هذا هو مبدأ الربوبية، وهذه مسألة فيها إجمال، فلا يُقال: إنها غلط من كل وجه؛ لأن الأولية وأنه الأول وليس قبله شيء، لا شك أنها من أصول ربوبيته، لكن أنها هي أجمع هذه المعاني فإن هذا ليس بالتام؛ فإن قولنا: إنه هو رب العالمين، هذا الوصف هو جامع لأوليته، ولخلقه، ولأفعاله .. وغير ذلك.

تصنيف الأئمة للطوائف هو باعتبار النتائج

تصنيف الأئمة للطوائف هو باعتبار النتائج إن ما يذكره العلماء في مقالات الطوائف هو في الغالب باعتبار النتائج، أي: أن المعتزلة أجمعت على نتيجة عامة، وهذه النتيجة العامة هي نفي قيام الصفات بالذات، أما التراتيب التي قبل ذلك وهي المقدمات والتفصيلات، فقد يقع فيما بينهم اختلاف، فهم متفقون في نتيجة كلية، ونتائجهم الكلية خمس: 1 - التوحيد: الذي قصدوا به أن الباري لا يقوم بذاته صفة. 2 - العدل: الذي قصدوا به أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يردها. 3 - المنزلة بين المنزلتين: وقصدوا بها أن مرتكب الكبيرة فاسق فسقاً مطلقاً ليس معه شيء من الإيمان. 4 - إنفاذ الوعيد: وقصدوا به أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو الخروج على أئمة الجور من المسلمين. فهذه أصول خمسة كلية هي جملة نتائج المعتزلة، أما المقدمات والتفاصيل فيقع بينهم كثيرٌ من الاختلاف.

ضلال أصحاب هذه المذاهب وجهلهم

ضلال أصحاب هذه المذاهب وجهلهم قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات]. ذكر المصنف رحمه الله أن هؤلاء المنحرفين عن منهج أهل السنة يفرون من شيء، وهو -بزعمهم- تشبيه الباري بالموجود الحي .. قال: (فيقعون في نظيره وفي شر منه)، فإنهم إذا شبهوه بالموجود غير الحي فهذا شر من التشبيه بالموجود الحي، وكذلك إذا شبهوه بالمعدومات فضلاً عن الممتنعات. قال: (ولو أنهم سووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المتفرقات): المتماثلات: هي المخلوقات، فإنه إذا ذُكرت صفة من الصفات لزم منها الاشتراك في قدر من الماهية أو في سائرها بين المخلوقات، فمثلاً: إذا ذكرت صفة العلم، أو صفة البصر، أو صفة السمع لمخلوق، سواء كان هذا المخلوق إنساناً أو حيواناً، فلا يلزم أن تكون ماهية هذه الصفات بين الإنسان وبين الحيوان واحدة من كل جهة، لكن بينها قدر من الاتفاق في الماهية نفسها، وليس في الاسم فقط؛ لأن هذا وهذا تحت قانون وتحت قاعدة الخلق، أي: أن هذا مخلوق وهذا مخلوق، وهذا ممكن وهذا ممكن، لكن الصفات المضافة إلى رب العالمين سبحانه وتعالى يمتنع أن تكون ماهيتها إذا ذكرت في حقه مشاركة لماهية شيء من صفات مخلوقاته؛ لأن صفات المخلوقات صفات لممكنات، وصفات الخالق صفات لواجب الوجود سبحانه وتعالى، أي: أنه هو الخالق، الأول الآخر، الظاهر الباطن إلخ. فمن ذاته سبحانه وتعالى، ووجوب وجوده، وقدمه، وأوليته قبل كل شيء، وخلقه لكل شيء، ونحو ذلك من المعاني الفطرية؛ يُعلم أن صفاته مختصة به.

حقيقة معقولات المتكلمين

حقيقة معقولات المتكلمين قال رحمه الله: (لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات): لقد زعم المتكلمون -وهم أخف هذه الطوائف الثلاث التي ذكرها المصنف- زعموا أن دليلهم هو دليل عقلي، وهذا ادعاء ليس بصحيح؛ فإن الدليل الذي زعموه -إن جاز تسميته عقلياً- فإنه يسمى عقلاً مستعاراً، أي: أن مقدماته هي أحكام فلسفية سابقة، والعقل الذي يسوغ استعماله واعتباره في الجملة إنما هو العقل المجرد، أي: العقل الذي يشترك فيه عامة العقلاء، أما أن يؤتى بمقدمات مأخوذة من فلسفة أرسطو أو غيره ويقال: إن هذه مقدمات عقلية ضرورية، فهذا غير صحيح. فحقيقتها أنها مجهولات ومشبهة بالمعقولات، ولذلك لما قال بعض أئمة المتكلمين: إن العقل معارض للنقل، فلا عجب من ذلك؛ لأن حقيقة العقل الذي قصدوه ليس هو العقل الذي خلقه الله قوة في الإنسان يمكن أن يتحرك بالنظر فيه، إنما العقل الذي قصدوه هو أدلة كلامية أصولها فلسفية، فكأنهم قالوا: إن علم الكلام والفلسفة معارض للنقل، وهذا ليس بعجيب؛ لأن هذه الفلسفة فلسفة قوم من الكفار الذين لم يؤمنوا بالأنبياء والرسل إيماناً شرعياً صحيحاً.

معنى السفسطة

معنى السفسطة وقوله رحمه الله: (يسفسطون في العقليات): السفسطة: مصطلح فلسفي متقدم، المقصود به أنهم يموهون، فالسفسطة: هي التمويه؛ ولذلك لما ذكر أهل المنطق القياسات الخمس، ذكروا القياس اليقيني البرهاني، ثم بعده القياس الجدلي، والقياس الخطابي، ثم القياس السفسطي، والقياس الشعري، فهذه هي القياسات الخمسة. والقياس السفسطي: هو الذي تكون مقدماته مموهة في العقل، وتقود إلى الوهم، فيظنها أصحابها شيئاً عقلياً، وهي في حقيقتها وهم عقلي، ولذلك يقول ابن سينا: "إن حقيقة الوهم كاذبة"، وحتى أرسطو طاليس يُذكر عنه أنه لم يكن يعتبر القياس الجدلي والقياس الخطابي، ويزعم أنها مبنية على المسلمات، ويقول أرسطو: إن المسلمات في الغالب أعراف عند الناس وليست حقائق صادقة، وأن الصادق هو فقط القياس البرهاني، أو البراهين العقلية اليقينية. فالمقصود: أن المصنف يقول: إن معقولاتهم هذه هي سفسطة عقلية؛ لأنها تمويه عقلي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] فإذا قرأت في كلامهم وجدت التطويلات والتفسيرات العقلية، حتى يظن المخدوع الضعيف أن هذا بناء عقلي عتيد، لا يستطيع أحد أن يُشكل عليه أو يعارضه بكلمة، وحقيقته أنه من جنس هذا المعنى الذي ذُكر في كلام المصنف أنه تمويه عقلي، وإثبات أن الله تعالى متصف بصفات الكمال لا يحتاج إلى فلسفة عقلية طويلة؛ بل هو فطرة، وهو بديهة في عقول بني آدم.

معنى القرمطة

معنى القرمطة وقوله: (ويقرمطون في السمعيات): القرمطة: نسبة إلى الباطنية، وكأن المصنف يقول: إن النتيجة عند الباطنية والمتكلمين فيها قدر من الاشتراك، فالمتكلمون الذين زعموا التأويل، تأويلهم هذا ليس تسلسلاً لغوياً، وإنما حقيقته أنه من جنس القرمطة عند الباطنية، وهو التأويل الباطني؛ لأن المصنف - شيخ الإسلام - ينازع منازعة شديدة في أن القرآن يحتمل أكثر من معنى، أحدهما ظاهر والآخر مؤول، ويرى أن هذه النظرية من جنس نظرية الباطنية من حيث النتائج الكلية، ولكن أصحابها وضعوا لها تراتيب لغوية؛ ولذلك فإن له موقفاً مشهوراً في مسألة المجاز.

موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المجاز

موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المجاز لم يتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عن تلك المصطلحات اللغوية، كقول القائل: رأيت أسداً يخطب، فهذا مجاز عند ابن تيمية يقول به، وكقوله: رأيت رجلاً يخطب، فهذا حقيقة عند ابن تيمية يقول به. ولكن يقول شيخ الإسلام: "إن مسألة المجاز إذا نظر إليها باعتبارها من عوارض الألفاظ فهذا اصطلاح، والاصطلاح فيه سعة، وأما إذا نُظر إليها باعتبارها من عوارض المعاني، فهذا هو الذي ذكرنا فيه ما ذكرنا)، إذاً: ابن تيمية لا ينفي المجاز كمصطلح، والنحاة قد سموا بعض الجمل: حالاً، وفاعلاً، وتمييزاً .. إلخ، وهذه مصلطحات، ولا مشاحة في الاصطلاح، وابن تيمية وغيره قد أجازوا مصطلحات شرعية، فضلاً عن مصطلحات لغوية؛ بل نجد أن ابن تيمية أحياناً يقول: هذا من مجاز اللغة، وفي كلام ابن القيم مثل هذا؛ حتى قال من قال من الباحثين: إنهم تناقضوا، وهذا غير صحيح؛ لأن ما عبر به ابن تيمية من كلمة (مجاز) يقصد به عوارض الألفاظ، وأما ما رده وعطله فهو كون المجاز من عوارض المعاني، بمعنى: أن الآية من القرآن لها معنىً يُسمى الحقيقة، ولها معنىً آخر يُخالف المعنى الأول يسمى: المعنى المجازي، هذا هو الذي عارضه ابن تيمية، وهذه معارضة شرعية واضحة. فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فـ ابن تيمية يعارض أن يقول قائل: الآية لها معنيان: معنى نسميه: الحقيقة، ومعنى يختلف عن المعنى الأول، وهو ما نسميه: المجاز، فيجعل للآية معنيين بينهما تضاد واختلاف، فهذا هو الذي أراد ابن تيمية أن يقف ضده. وهذه وقفة صحيحة؛ إذ كيف يُقال: إن الآية لها معنى ظاهر غير مراد، ومعنى آخر مراد، ومن هنا قال: إن ما يسمونه تأويلاً هو قرمطة في السمعيات، حشر الجميع من الطوائف الثلاث في باب القرمطة؛ لأن الجميع إما أنهم صرحوا بالقرمطة كالباطنية، أو قالوا -كـ ابن سينا -: إنه خطاب للعامة، أو قالوا -كالمتكلمين-: إنه من باب التأويل.

شرح القواعد السبع من التدمرية [9]

شرح القواعد السبع من التدمرية [9] ذكر نفاة صفات الله تعالى شبهة ظنوها تسعفهم فيما ذهبوا إليه من نفي الصفات، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة أو التشبيه عند الإضافة والتخصيص، وهي شبهة واهية لا دليل عليها؛ بل إن الأدلة الشرعية والعقلية تدل على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل عند الإضافة والتخصيص، وعلى ذلك أمثلة كثيرة.

الموجود إما الخالق وإما المخلوق ولكل منهما وجود يخصه

الموجود إما الخالق وإما المخلوق ولكل منهما وجود يخصه قال المصنف رحمه الله: [وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لا بد له من محدِث، والممكن لا بد له من واجب، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم خالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقاً خلقهم]. هذه مقدمات من ضرورة الشرع، وضرورة العقل، وضرورة الفطرة؛ ليبين أن المنحرفين من هذه الطوائف الثلاث جميعهم قد خالفوا أصول الفطرة الأولى فضلاً عن الأدلة "المفصلة" العقلية أو الشرعية.

شبهة أن الاشتراك في الأسماء يوجب تماثل المسميات والرد عليها

شبهة أن الاشتراك في الأسماء يوجب تماثل المسميات والرد عليها قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما بمسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا؛ بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمي ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص، ولا في غيره، فلا يقول عاقل -إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود-: إن هذا مثل هذا لاتفاقها في مسمى الشيء والوجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه؛ بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله المذهب الشرعي الصحيح الذي عليه جمهور المسلمين وأتباع المرسلين، ثم ذكر بعد ذلك المنحرفين عن سبيلهم، أراد هنا أن يبين جوهر الإشكال عند هذه الطوائف في نفيهم للصفات؛ فذكر أن هناك قاعدة يزعمون أنها قاعدة عقلية، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة أو الاشتراك والتشبيه عند الإضافة والتخصيص. وبيان ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه في القرآن الكريم: العزيز، وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] ووصف نفسه بأنه سميع بصير فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] ووصف الإنسان بأنه سميع بصير فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] وقال عن نفسه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:8] وقال عن عباده المؤمنين: {وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] وسمى نفسه بالملك فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:54] فهنا اشتراك في هذه الأسماء والأوصاف بين الخالق وبين المخلوق، فزعم هؤلاء أن هذا الاشتراك في اسم العزيز والسميع والبصير ونحوها بين الخالق والمخلوق، أنه هو التشبيه الذي نفته النصوص في مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومن هنا قالت المعتزلة وغيرها من المتكلمين بلزوم تأويل هذا الإثبات، حتى نحافظ على التنزيه المذكور في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومن هنا قال ابن سينا: إن هذا التشبيه للعامة دون الخاصة .. وغير ذلك. فالمصنف رحمه الله يريد هنا أن ينتهي إلى حكم عقلي ضروري، هذا الحكم هو: أن الاشتراك في الاسم المطلق -أي: غير المضاف- بين الخالق والمخلوق، لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، أي: عند إضافة هذا الاسم إلى الله، أو إضافته إلى المخلوق، كأن يقال: علم الله، وعلم المخلوق .. ونحو ذلك. إذاً: هم زعموا أن الاشتراك في الاسم المطلق -أي: المجرد عن الإضافة والتخصيص- يستلزم التشبيه والتمثيل بعد الإضافة والتخصيص، فلم يفرقوا بين حكم الاسم المطلق، وبين حكم الاسم المختص المضاف. أما المصنف رحمه الله فإنه يقول: إن العقل -فضلاً عن الشرع- يفرق بين الاسم المطلق وبين الاسم المضاف، ويقول: إن الذي ينزه الباري عنه هو أن يقع بينه وبين شيء من خلقه اشتراك بما يختص به سبحانه أو يجب له. وأما أن ثمة اشتراكاً في الاسم المطلق، فهذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص كقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. ومن الأدلة على ذلك: أن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى ببعض هذه الأسماء بعض المخلوقين من عباده، ووصف نفسه بصفات، ووصف ببعض هذه الصفات بعض المخلوقات، وهذا الاشتراك الذي حصل هو اشتراك في الاسم المطلق، وليس في الإضافة والتخصيص، فلا يلزم من ذلك التماثل أو التشابه بين الخالق والمخلوق.

الرد الشرعي على شبهة أن الاشتراك في الاسم يستلزم التماثل

الرد الشرعي على شبهة أن الاشتراك في الاسم يستلزم التماثل وقد رد المصنف رحمه الله على هذه الشبهة وأبطلها من وجهين: الوجه الأول -وهو الرد الشرعي-: أن القرآن ذكر هذه الصفات وسمى ببعضها المخلوقين، والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] فيمتنع أن يكون القرآن قد نفى التشبيه وأثبته في آن واحد؛ لأنه يلزم من ذلك أن ينسب القرآن إلى التناقض. وقد أجاب المخالفون عن ذلك بالتأويل؛ لأنهم لم ينفوا وجود هذا الأمر في القرآن؛ بل قالوا: إنه موجود في القرآن، وهو مشكل، ولذلك لجئوا إلى التأويل، وقد منع شيخ الإسلام ابن تيمية التأويل وأغلقه؛ لأنه -كما يقول- يشارك طريقة الباطنية من حيث أنه يُجعل للآية معنيان مختلفان؛ بل متضادان: أحدهما ظاهر والآخر مؤول، وكلاهما يدل عليه كلام العرب، والأول يناقض الآخر، فإنهم يقولون: إن الظاهر دلت عليه الحقيقة، والمؤول دل عليه المجاز، والحقيقة والمجاز كلاهما سياق عربي. إذا كان كذلك فإن هذا هو وجه الإغلاق عند شيخ الإسلام، وهذه المسألة فيها حكمة بينة. ومنهم من زعم أن هذا للعامة، كما يقول ابن سينا، ومنهم من لم يرفع بذلك رأساً، وفسره تفسيراً رمزياً، كما يقول الباطنية، وقالوا: إن هذا للعامة، من جنس ما يقوله ابن سينا أيضاً.

الرد العقلي على شبهة أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل

الرد العقلي على شبهة أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل الوجه الثاني: الرد العقلي على هذه الشبهة: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم الثماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات والمحسوسات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. هذا هو الرد العقلي، وهو مبني على القواعد العقلية الكلية، ومبني على المشاهدات الحسية. ومن المعلوم أن الدليل العقلي المبني على الحسيات أو على الاطراد الحسي يكون يقينياً، كما أن الدليل العقلي إذا بني على الكليات العقلية والضرورية المجردة صار يقينياً، والمصنف رحمه الله قد بنى دليله على الكليات العقلية الضرورية المجردة، وعلى الاطرادات الحسية، وهذا الدليل يقول: إن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل بين المخلوقات نفسها، فإذا كان الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات نفسها، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ بل يكون التماثل في الحقيقة بين الخالق والمخلوق عند الإضافة تماثلاً ممتنعاً.

اشتراك الخالق والمخلوق في الوجود لا يستلزم التماثل

اشتراك الخالق والمخلوق في الوجود لا يستلزم التماثل ثم ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك مسألة الوجود، فقال: إن الله سبحانه وتعالى موجود، وهذه ضرورة يقر بها عامة بني آدم، والمخلوق من بني آدم وغيرهم كذلك موجود، فحصل بين هذا المخلوق وبين الصفة التي ذكرت في حق الخالق -وهي الوجود- اشتراك، فإنه يقال عن المخلوق: إنه موجود، والله سبحانه وتعالى أيضاً موجود، فهل يلزم من هذا الاشتراك في هذه الصفة أن يكون وجود الخالق كوجود المخلوق، أو أن يكون وجود المخلوق كوجود الخالق؟ الجواب: لا، مع أن الله سبحانه وتعالى يسمى موجوداً، وهذه المخلوقات يقال عنها: إنها موجودة، فاشتركا في اسم الوجود، وهذا الاشتراك في هذا الاسم لم يستلزم التماثل بعد الإضافة والتخصيص. إذاً: هذا الاشتراك في اسم الوجود عند الإطلاق -أي: قبل الإضافة- لم يستلزم التماثل في الحقيقة بعد الإضافة والتخصيص، وهذا من البدهيات، ولا يمكن لأحد أن يعاضل فيه، إذا كان الأمر كذلك فالمصنف يريد أن يقول: فما الفرق بين هذا الاشتراك وبين الاشتراك في اسم العلم، أو في اسم الحياة، أو في اسم السميع والبصير إلخ؟ بمعنى: أنه إذا قيل: إن الله موصوف بالسمع، والمخلوق موصوف بالسمع، لم يلزم بعد الإضافة والتخصيص أن يكون سمع الخالق سبحانه وتعالى كسمع المخلوق، فإن قال قائل: إنه يلزم، قيل: فلم لم يلزم أن يكون وجوده كوجود المخلوق؟! ومن هنا عُني المصنف في كتبه المفصلة -كدرء التعارض وغيره- بتقرير مسألة الوجود؛ لأنها تعتبر قاعدة بدهية ضرورية، فإنه حتى الغلاة الذين ينفون الأسماء والصفات من المتفلسفة، أو غلاة المتكلمين، لا ينازعون في مسألة الوجود؛ بل إن سائر العقلاء، فضلاً عن المنتسبين إلى الإسلام، أو للديانات السماوية، يقرون بوجود الله، ويقرون -بضرورة الحال- بوجود هذه المخلوقات، فحصل الاشتراك في اسم الوجود.

الاشتراك في الاسم والمسمى

الاشتراك في الاسم والمسمى نجد أن المصنف رحمه الله يقول: (ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود)، ثم بعد ذلك يقول: (واتفاقهما في اسم عام)، فهل حصل الاشتراك في الاسم أم في المسمى؟ الاشتراك الذي حصل هو في اسم الوجود من جهته اسماً، وفي مسماه الكلي الذهني المطلق، وقولنا: (الكلي الذهني) أي: المعنى الكلي لهذا الاسم الذي يحمله الذهن، لكنه لا يوجد في الخارج؛ لأنه لا توجد في الخارج إلا المعينات، المخصصات، المضافات. وقد يقول قائل: لماذا نقول: إن ثمة اشتراكاً في الاسم المطلق الكلي الذي يحمله الذهن؟ والجواب: أن هذا ليفهم الخطاب، فإن اسم الوجود في حق الله وحق المخلوق مقول بقدر من التواطؤ الكلي، وليس مقولاً بالاشتراك اللفظي؛ لأنه لو قيل أنه مقول بالاشتراك اللفظي المحض؛ لكان هذا مما يوجب عدم فقه الخطاب، فلا يُعلم ما معنى وجود الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ الكلي، ولذلك قيل: إن ثمة اشتراكاً في المسمى في وجهه الكلي المطلق الذهني الذي لا يوجد في الخارج، والتباين يكون في المسمى عند إضافته وتخصيصه، وهذا هو الذي يوجد في الخارج. إذاً: هناك وجهان: الأول: أن يكون الاشتراك في الاسم. الثاني: أن يكون الاشتراك في المسمى الكلي الذهني المطلق، وهذا معنىً عام غير مخصص ولا مضاف، والاشتراك فيه ليفقه الخطاب، فمثلاً: السمع في حق الإنسان هو إدراك المسموع، ولا يمكن أن يكون السمع في حق الله تعالى معنىً بعيداً عن هذا المعنى العام. مثال آخر: أخبر الله سبحانه أن في الجنة خمراً، وأن في الدنيا خمراً، فهناك اشتراك في الاسم، وهو (الخمر)، وهناك اشتراك في مسمىً ذهني كلي، وهو أنه شراب ذو لذة ومحبة للنفوس .. وما إلى ذلك، وهذا معنى عام. وعليه: فلا يمكن أن يكون الخمر في الآخرة عبارة عن باب من أبواب الجنة اسمه الخمر؛ لأنه لو كان عبارة عن باب لقلنا: إن الاشتراك لاسم الخمر هو من باب المشترك اللفظي. كذلك فيما يتعلق بحقه سبحانه وتعالى، وهو منزه عن مشاكلة ومشابهة مخلوقاته، لكن المصنف يقول: إن هذا معنىً كلي لا وجود له في الخارج، إنما به يفقه الخطاب، وبه يعرف كمال الرب سبحانه وتعالى، فهذا هو مقصوده بقوله: (ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود). وقوله رحمه الله: (فلا يقول عاقل -إذا قيل: إن العرش شيء موجود، وإن البعوض شيء موجود-: إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود): أي: لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود في وجهه الكلي الذهني المطلق، بمعنى: أنه لا يوجد في الخارج، والمطلق أي: المجرد عن الإضافة والتخصيص. وقوله: (لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنىً مشتركاً كلياً لمسمى الاسم المطلق): هذا هو المقصود بالمسمى المطلق الذي يثبته المصنف، وهو ما عبر عنه هنا بقوله: بل الذهن يأخذ معنىً مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وهذا ليس هو المسمى المضاف المخصص، ففرْقٌ بين المسمى الكلي وبين المسمى المضاف. وقوله: (وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما): وذلك لأن اسم الوجود للعرش أو للبعوض مقول بالتواطؤ الكلي، وهذا التواطؤ الكلي لا يستلزم تماثلاً في الحقيقة؛ لأنه كلي ذهني لا يوجد في الخارج، إنما هو معنىً عام غير مضاف وغير مخصص، فليست فيه عوارض العرش ولا عوارض البعوضة؛ لأنه لم يضف ولم يخصص.

أسماء الله وصفاته مختصة به وإن اتفقت مع ما لغيره عند الإطلاق

أسماء الله وصفاته مختصة به وإن اتفقت مع ما لغيره عند الإطلاق قال المصنف رحمه الله: [ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة أو التخصيص]. لم يقل المصنف: توافق تلك الأسماء، وسكت؛ بل قال: توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، وقد سبق أن نصوص الإثبات كقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] تدل على الإثبات، وتدل على التنزيه؛ لأنها مسوقة مساق الاختصاص بالخالق سبحانه وتعالى، وهذا يمنع أن يكون المخلوق مشاركاً له في هذا الاسم أو في هذه الصفة.

لا يلزم من اتفاق الاسمين تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص

لا يلزم من اتفاق الاسمين تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص وقوله: (ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما): هذا السياق فيه اختلاف في النسخ، وبعض هذا الاختلاف قد يسبب غلطاً في فهم العبارة، والصواب في قراءتها هو: (ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما، واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص)، هذا هو السياق الصحيح للعبارة. فقوله: (ولم يلزم من اتفاق الاسمين) أي: الاتفاق الاسمي اللفظي، أن هذا يسمى موجوداً وهذا يسمى موجوداً. وقوله: (وتماثل مسماهما) أي: التماثل الذي نقول عنه: الكلي الذهني، فلابد أن يتفق الاسمان ويتماثل المسمى في وجهه الكلي؛ لأن مسألة المسمى لا يجوز إطلاقها، فإذا قيل: هل في المسمى اشتراك أو ليس فيه اشتراك؟ قيل: فيه تفصيل: فإذا كان المسمى في وجهه الكلي الذهني المطلق فهذا وجه، وإذا كان المسمى في وجهه المضاف المخصص فهذا وجه آخر. وقوله: (واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما): في بعض النسخ: (لا اتفاقهما) واللام هنا غلط، بل الصواب: (اتفاقهما)، أي: لم يلزم الاتفاق في الاسم وفي المسمى الكلي الاتفاق عند الإضافة والتخصيص. وقوله: (ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص): أي: أنه لم يلزم التماثل عند الإضافة والتخصيص، وهذا بيّن في مخلوقات الله؛ كما في المثال السابق، وهو اتفاق العرش والبعوض في مسمى الوجود، ومع ذلك فوجود العرش غير وجود البعوض، فإذا كان هذا بيناً في المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. والاتحاد: هو عبارة عن ماهية واحدة، ليس فيه غيرية، أما التماثل: فهو عبارة عن ماهيتين، لكن بينهما تماثل، ففيه غيرية، فإذا لم يلزم التماثل فمن باب أولى لا يلزم الاتحاد. ولذلك فإن القول بوحدة الوجود من أفسد المقالات التي قالتها الأمم المنحرفة عن دين المرسلين.

الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه

الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه قال المصنف رحمه الله: [فقد سمى الله نفسه حياً فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وسمى بعض عباده حياً فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19] وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الحي) اسم لله مختص به، وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق]. بدأ المصنف رحمه الله يستشهد بالآيات، وهذا هو الدليل الشرعي القرآني المتواتر الدال على أن الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص، ولا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، إلا إذا فرض أن في القرآن تعارضاً، وهذا فرض ممتنع؛ لأنه كفر بالقرآن. قال رحمه الله: (فقد سمى الله نفسه حياً فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وسمى بعض عباده حياً فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19] وليس هذا الحي مثل هذا الحي): فهنا اشتراك في اسم الحي، فإذا قيل: الحي، فإن هذا اسم مطلق، ولا يقصد به الخالق أو المخلوق؛ لأن الذهن لم يضف هذا الاسم لا إلى الله سبحانه وتعالى، ولا إلى حياة زيد أو عمرو، فإذا قيل: الحي، أو العلم، أو اليد، أو السمع، فهذا اسم في الذهن لا وجود له في الخارج إلا إذا أضيف فقيل: الله لا إله إلا هو الحي، فهنا يكون المقصود بالحي الباري سبحانه وتعالى. فقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] آية مضافة مخصصة بالله سبحانه وتعالى، والحي في الآية الثانية {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19] مضاف ومخصص بالمخلوق، فاشتركا في اسم الحي، ولم يلزم من ذلك أن تكون الحياة كالحياة، فإن حياته سبحانه وتعالى لائقة به، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأما المخلوق فإن حياته مخلوقة مسبوقة بالعدم، ويلحقها زوال وتدرج وتسلسل إلخ، فينتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة .. وهكذا. وقوله: (لأن قوله: (الحي) اسم بالله مختص به، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19] اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج): أي: ليس للمطلق الحي مسمى موجود في الخارج، إنما له مسمىً كلي في الذهن.

المقصود بالمطلق الذي به يفهم الخطاب

المقصود بالمطلق الذي به يفهم الخطاب وقوله: (ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين): هذا هو ما نسميه: بالمسمى الكلي المطلق، والمطلق هو المعنى الكلي الذي يفهمه العقل من اسم الحي وما إلى ذلك. فإذا قيل: الحي، أو السمع، أو اليد، فإن العقل يفهم لكل كلمة معنى كلياً، وهذا من بدهيات العقول، وهو المقصود بكلام المصنف أن هذا الكلي العام غير المضاف به يفهم الخطاب.

التمييز بين الخالق والمخلوق في الصفات

التمييز بين الخالق والمخلوق في الصفات وقوله: (وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق): التقييد يكون بالإضافة، أي: تقييد ما يليق بالخالق وما يليق بالمخلوق، والتمييز يكون أيضاً بالإضافة، فإذا قيل: حياة الله سبحانه وتعالى، فبذلك يكون تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق به من عوارض حياة المخلوقين؛ لأن الحياة هنا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى .. وهلم جرا.

اتباع المنهج السابق في جميع أسماء الله وصفاته

اتباع المنهج السابق في جميع أسماء الله وصفاته قال المصنف رحمه الله: [ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى]. بين المصنف رحمه الله أنه لابد من تطبيق المنهج الذي ذكره في مسمى (الوجود) في جميع أسماء الله وصفاته، ثم قال: (يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق)، ومقصوده هنا أن يمنع أن يكون الاشتراك اشتراكاً لفظياً، وهذا التواطؤ هو تواطؤ كلي ذهني، ومن قال: إنه تواطؤ إضافي، فهو مشبه لله تعالى بخلقه، والمصنف هنا يقول: إنه كلي ذهني لا يوجد في الخارج، وإنما به يعقل الخطاب؛ لأن الله تعالى عندما يقول عن نفسه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] والقرآن نزل بلسان العرب، فهناك معنىً كلي عن السمع وعن البصر يفهم من لسان العرب، فيقول المصنف: إنه لو قيل: إنه مشترك لفظي محض، لصار فقه معنى أسماء الله تعالى وصفاته غير ممكن، وهذا ليس بصحيح، بل المعنى معلوم، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم"، أي: معلوم المعنى في القرآن والسنة، وفي كلام العرب؛ لأن القرآن لابد له من تدبر، والله تعالى أمر عباده أن يتدبروا القرآن، وتدبره معرفة معانيه، ومن ذلك الأسماء والصفات التي ذكرت فيه.

تابع الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه

تابع الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه قال المصنف رحمه الله: [وكذلك سمى الله نفسه عليماً حليماً، وسمى بعض عباده عليماً فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] يعني: إسحاق، وسمى آخر حليماً فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] وسمى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير]. يتابع المصنف رحمه الله ذكر الآيات القرآنية الدالة على أن الله تعالى يسمي نفسه بأسماء أو بصفات، وتذكر هذه الصفات من حيث الاشتراك المطلق في حق المخلوق، وبذلك يتبين أن هذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص، فمن قال: إن الله سميع ويسمع، وإن المخلوق سميع ويسمع، فإن هذا ليس مشبهاً؛ لأنه ليس هذا هو التشبيه الذي نفاه الله في القرآن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إنما الذي نفاه القرآن هو أن يكون هناك تماثل في الصفة، ولو كان التماثل في الاسم هو التشبيه للزم أن يكون التماثل في مسمى الوجود من باب التشبيه، وهذا يقود إلى نفي وجود الله؛ لأنه إما أن ينفى وجود المخلوقات -والمخلوقات موجودة- وإما أن ينفى وجود الله تعالى، وهذا لا يقول به أحد، فهذا مما يعلم به امتناع هذا الأمر في أوائل العقول والفطر. وقوله: (وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير)؛ لأن هذا مضاف إلى الله، وهذا مضاف إلى المخلوق، فاشتركا في الاسم المطلق، وأما عند الإضافة والتخصيص فإن المسمى متباين. قال المصنف رحمه الله: [وسمى نفسه بالرءوف الرحيم فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65] وسمى بعض عباده بالرءوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. وسمى نفسه بالملك فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:54] وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن فقال: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالعزيز فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وسمى صفة المخلوق علماً وقوة فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة].

صفة اليد لله تعالى

صفة اليد لله تعالى من المعروف في لغة العرب أن اليد تأتي بمعنى القوة، كقوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وتطلق ويراد بها النعمة، كقول عروة بن مسعود الثقفي لـ أبي بكر الصديق في صلح الحديبية لما نهره أبو بكر، فقال عروة بن مسعود: (من هذا؟ قال: هذا أبو بكر، فقال: لولا يد لم أجزك بها لأجبتك) أي: لولا نعمة. فإن قال قائل: إذاً فمن فسر قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] بأن اليد هنا صفة لله تعالى، فقد أصاب وجهاً في كلام العرب، ومن فسرها بأن اليد بمعنى القوة والقدرة، فقد أصاب وجهاً في كلام العرب، فلماذا يقال: إن ذلك تفسير صحيح، وهذا تفسير بدعي؟ مع أن العرب تعرف اليد بمعنى الصفة إذا قالوا: أكل زيد بيده، أو قطعت يده، ونحو ذلك، وتعرف اليد بمعنى النعمة أو القوة، ونحو ذلك من المعاني المعروفة في لغة العرب. فالجواب: أن العرب تعرف اليد بمعنى النعمة في سياق، وإذا عرفتها بمعنى النعمة فلا يمكن أن تكون مفسرة بمعنى اليد التي هي الصفة، فإن العرب تتكلم بكلام وليس بكلمة، وكل كلام له معناه من حيث السياق الدال عليه، فحينما قال عروة لـ أبي بكر: (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك) قلنا: معناه: لولا نعمة، وليس هذا من باب التأويل لكلام عروة، وليس هو أيضاً خروجاً من الحقيقة -كما يقال- إلى المجاز؛ لأنه أصلاً لم يرد إلا معنىً واحداً، ولا يمكن أن يفهم من هذا الكلام إلا معنىً واحد، وهذا هو الذي جعل ابن تيمية رحمه الله يمنع أن يكون المجاز من عوارض المعاني، فمثلاً: إذا قيل: رأيت أسداً يخطب، هم يقولون: إن المعنى الحقيقي أنك رأيت الحيوان المعروف وهو الأسد الحقيقي قد صعد منبراً من المنابر وجلس يخطب، والمعنى المجازي أن رجلاً شجاعاً يشبه الأسد قد صعد منبراً وجلس يخطب عليه، فيقول ابن تيمية: إن المعنى الأول هم فرضوه فرضاً، وإلا فليس هناك أحد يفهم هذا الفهم، والكلام لا يدل عليه، والمتكلم بكلام لا يمكن أن يريد بكلامه من حيث الأصل إلا معنىً واحداً، إلا إن كان يقصد التلبيس أو ما إلى ذلك؛ فلأجل هذا منع ابن تيمية رحمه الله أن يكون المجاز من عوارض المعاني، وجعله من عوارض الألفاظ، كما سبق بيانه. إذاً: فلابد من معرفة السياق حتى تفسر الآية المشتملة على الصفة تفسيراً صحيحاً، ومن السياقات الدالة على أن اليد هي صفة حقيقية لله تعالى: أن الله تعالى ذكرها بصيغة التثنية، ولا يوجد في كلام العرب أنهم ذكروا اليد بمعنى النعمة، أو القوة، أو القدرة في سياق التثنية المضافة إلى معين؛ لأن الله يقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فجاء ذكر اليدين هنا مثناة ومضافة، ولا يوجد في كلام العرب أنهم يستعملون اليد في غير معنى الصفة إذا جاءت بمثل هذا السياق، ولذلك فإن ابن تيمية رحمه الله في أحد مناظراته في صفة اليدين اشترط هذا الشرط، فانقطع المخالف له.

تابع الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه

تابع الأدلة من القرآن على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل والتشبيه قال المصنف رحمه الله: [وكذلك سمى الله نفسه عليماً حليماً، وسمى بعض عباده عليماً فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] يعني: إسحاق، وسمى آخر حليماً فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] وسمى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير]. يتابع المصنف رحمه الله ذكر الآيات القرآنية الدالة على أن الله تعالى يسمي نفسه بأسماء أو بصفات، وتذكر هذه الصفات من حيث الاشتراك المطلق في حق المخلوق، وبذلك يتبين أن هذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص، فمن قال: إن الله سميع ويسمع، وإن المخلوق سميع ويسمع، فإن هذا ليس مشبهاً؛ لأنه ليس هذا هو التشبيه الذي نفاه الله في القرآن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إنما الذي نفاه القرآن هو أن يكون هناك تماثل في الصفة، ولو كان التماثل في الاسم هو التشبيه للزم أن يكون التماثل في مسمى الوجود من باب التشبيه، وهذا يقود إلى نفي وجود الله؛ لأنه إما أن ينفى وجود المخلوقات -والمخلوقات موجودة- وإما أن ينفى وجود الله تعالى، وهذا لا يقول به أحد، فهذا مما يعلم به امتناع هذا الأمر في أوائل العقول والفطر. وقوله: (وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير)؛ لأن هذا مضاف إلى الله، وهذا مضاف إلى المخلوق، فاشتركا في الاسم المطلق، وأما عند الإضافة والتخصيص فإن المسمى متباين. قال المصنف رحمه الله: [وسمى نفسه بالرءوف الرحيم فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65] وسمى بعض عباده بالرءوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. وسمى نفسه بالملك فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]. {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:54] وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن فقال: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] وسمى بعض عباده بالعزيز فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وسمى صفة المخلوق علماً وقوة فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة].

صفة المكر والكيد لله تعالى

صفة المكر والكيد لله تعالى صفة المكر والكيد من الصفات المقيدة في القرآن، بمعنى: أنها إذا ذُكِرت فلابد أن تذكر على وفق سياق القرآن، ولا تذكر مطلقة؛ بل يقتدى بسياق القرآن، فما ذكره القرآن مطلقاً من الصفات؛ كالعلم، والحكمة، والسمع، والبصر، ونحوها، فإنها تذكر مطلقة، وما ذكره الله من صفاته مقيداً فإنه يذكر على وفق سياق القرآن، اتباعاً لكتاب الله في سياقه ومعانيه. قال المصنف رحمه الله: [ووصف نفسه بالعمل فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ووصف عبده بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وليس العمل كالعمل. ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62] وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:22] ووصف عبده بالمناداة والمناجاة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة:12] وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:9] وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم فقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4] وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] وليس التعليم كالتعليم. وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح:6] ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150] وليس الغضب كالغضب. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض الخلق بالاستواء على غيره -أي: على غير العرش- في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28] وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة]. قوله: (ونظائر هذا كثيرة): أي: أنه ورد في مواضع كثيرة من القرآن أن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه بأسماء، وجاء ذكر بعض هذه الأسماء في حق المخلوقين من بني آدم، ووصف نفسه بصفات، وجاء ذكر بعض هذه الصفات مضافة إليهم، وهذه الإضافة إلى المخلوقين تدل على نقص هذه الصفات في حقهم، كما أن الصفة إذا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى دلت على أنها صفة كمال مطلق؛ لأن الصفة تبع لموصوفها، فإذا كان الموصوف كاملاً من كل وجه فإن الصفة لابد أن تكون صفة كمال مطلق، وهذه هي صفات الله سبحانه وتعالى. وقد أراد المصنف رحمه الله هنا أن يبين الدليل المتواتر من القرآن الكريم على أن ثمة اشتراكاً في الاسم المطلق، ولم يلزم منه الاتفاق في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، وقد بين المصنف رحمه الله بذلك جهتين: الجهة الأولى: أن هذا الاشتراك ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص؛ لأن النصوص التي نفت التشبيه كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لو كانت نفت هذا الاشتراك للزم أن في القرآن تناقضاً؛ إذ كيف ينفي الله شيئاً ثم يأتي مفصلاً بإثباته؟! فلما نفى الله سبحانه وتعالى التشبيه والتمثيل في كتابه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وغير ذلك، دل على أن ما ثبت في القرآن مفصلاً من الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص. الجهة الثانية: أن هذا دليل شرعي متواتر مطرد، قطعي الدلالة على أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يلزم منه التماثل في الحقيقة والتخصيص، ولهذا استعمل في القرآن الكريم.

إثبات أسماء الله وصفاته من غير تعطيل ولا تمثيل

إثبات أسماء الله وصفاته من غير تعطيل ولا تمثيل قال المصنف رحمه الله: [فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى؛ كان معطلاً جاحداً ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات]. فمن قال هذا -أي: ليس لله علم إلخ- بحجة أن المخلوق له علم إلخ، فنقول: إن هذا فرع عن زعمه -أي: زعم هذا القائل- أن الاشتراك في الاسم المطلق هو التشبيه الذي نفته النصوص، ونفاه العقل، وهذا خطأ؛ لأنه يلزم من ذلك التعطيل لوجود الله، فإنه يقال له: ما الفرق بين نفيك للعلم ونفيك للوجود؟ فإن هذا الاسم اشترك مع هذا الاسم، وهذا الاسم اشترك مع هذا الاسم. قال رحمه الله: [ومن قال: له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاً كرضاي، أو يدان كيدي، أو استواء كاستوائي؛ كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات؛ بل لابد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل]. فمن لم يفرق بين الاسم في إطلاقه، وبين الاسم عند الإضافة والتخصيص، فهذا هو المشبه.

أصل مقالتي النفي والتعطيل والتشبيه والتمثيل

أصل مقالتي النفي والتعطيل والتشبيه والتمثيل ومما ينبه إليه: أن مذهب المعطلة من أئمة المتكلمين، كأئمة الجهمية الأولى كـ جهم بن صفوان ونحوه، أو المتفلسفة كـ ابن سينا -هذا المذهب مبني على الفلسفة، كما يصرح بذلك ابن سينا، أو على علم الكلام الذي هو مولد في جملته وجوهره من الفلسفة. ومما ينبه إليه: أن مذهب المشبهة الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، وأثبتوا له من الصفات على وجه يقتضي التشبيه بما هو من مخلوقاته، هذا المذهب الذي استعمله المشبهة كـ هشام بن الحكم ونحوه، ثم جاء بعدهم قوم دونهم في مقالة التشبيه كـ محمد بن كرام السجستاني وأتباعه؛ هؤلاء أيضاً قولهم في التشبيه مبني على علم الكلام، وبهذا يُعلم أن علم الكلام الذي ذمه الأئمة من الفقهاء والمحدثين الذي هو علم مولد من الفلسفة، ومركب في جمهور أمره منها، وإن كانت فيه مقاصد مجملة من الشريعة، أو مقاصد كلية من العقل -هو الذي أوجب مقالة النفي والتعطيل، ومقالة التشبيه والتمثيل، ولا يظن أحد أن مقالة المشبهة أو المجسمة -كـ محمد بن كرام وأتباعه- لم تكن على أصول علم الكلام؛ بل إن محمد بن كرام كان من المتكلمين؛ بل كان من علماء الكلام المشهورين. ومما يدعو إلى العجب: أن الدليل الذي به نفت المعتزلة الصفات، وبه نفى متكلمة الصفاتيه صفات الفعل، وبه أثبت محمد بن كرام التجسيم -الدليل عند هؤلاء وهؤلاء من المتكلمين دليل واحد، وهو ما يسمونه: (دليل الأعراض)، فإن الأدلة العقلية التي بنى عليها المنحرفون في صفات الله سبحانه وتعالى عن منهج الصحابة، وسموها أدلة عقلية، هي ثلاثة أدلة في الجملة، وهي الأدلة الكبرى الكلية، وهي: 1 - دليل الأعراض، وهو الدليل الذي غلب على طوائف المتكلمين من المجسمة أو النفاة. 2 - دليل التركيب، وهو الذي يستعمله ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة. 3 - دليل التخصيص، وهو الذي اشتغل به المتأخرون من متكلمة الصفاتية كـ أبي المعالي الجويني وغيره. فدليل الأعراض، وهو الذي غلب على المتكلمين من مجسم أو معطل، أو دون ذلك، هو دليل واحد، ولكنهم اختلفوا في الالتزام بنتائجه، وفي ترتيب بعض مقدماته. إذاً: مما سبق يعلم أن علم الكلام هو الموجب لمقالة التعطيل، وهو الموجب لمقالة التشبيه، وأن منهج الحق، وهو المنهج الشرعي الذي عليه جمهور المسملين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي درج عليه الصحابة وجمهور الأمة المحمدية المسلمة، وهو أن الله موصوف بالكمال، كما وصف نفسه في القرآن، ومنزه عن النقص والتشبيه كما نزه نفسه في القرآن، ولابد أن يقتدى بسياق القرآن وحروفه ومعانيه، ولا تفرغ الحروف والكلمات القرآنية والنبوية عن معانيها، فإن هذا هو مذهب التفويض الذي ذمّه جمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم.

شرح القواعد السبع من التدمرية [10]

شرح القواعد السبع من التدمرية [10] ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصولاً وأمثلة وقواعد لبيان مذهب السلف رحمهم الله في صفات الله تعالى ومناقشة مخالفيهم، والأصل الأول الذي ذكره هو: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فمن أثبت له تعالى بعض الصفات فيلزمه أن يثبت بقيتها كما أثبت تلك؛ لأنه لا فرق بين ما أثبته وبين ما نفاه، وكذلك من يثبت الأسماء فقط يقال له: لا فرق بين الأسماء والصفات، ومن أنكرها جميعاً بحجة أنها تشبيه، فإنكاره لها فيه تشبيه لله تعالى بالمعدومات والممتنعات، فقد فر من شيء فوقع في شيء أعظم منه.

الأصول والأمثلة والقواعد لبيان مذهب السلف ومناقشة مخالفيهم

الأصول والأمثلة والقواعد لبيان مذهب السلف ومناقشة مخالفيهم قال المصنف رحمه الله: [ويتبين هذا بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين -ولله المثل الأعلى- وبخاتمة جامعة]. هذان الأصلان يقال فيهما: إنهما الدليل العقلي المبني على الكليات العقلية المجردة القطعية، وأما المثلان: فهما دليلان عقليان مبنيان على الاطراد الحسي الدال على القطع، وقد سبق أن الدليل العقلي يكون قطيعاً إذا بني على المقدمات الضرورية في حكم العقل. فمثلاً: من المقدمات العقلية الضرورية: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، هذه قضية عقلية قطعية ضرورية، ولا تحتاج أن تستعمل لها قياسات حسية؛ لأنه لا يوجد في الحس أصلاً أن النقيضين يجتمعان أو لا يجتمعان، فإذا قيل لأحد: أثبت أن النقيضين لا يجتمعان، قيل: المقصود هو النفي، فكيف تطالب بالإثبات؟! إذاً: الأصلان فيهما تقرير بدليل عقلي مبني على النظر العقلي المجرد عن الاطرادات الحسية، أو عن المعطيات الحسية، وأما المثلان فهما مبنيان على المعطيات الحسية، أو على الأمثلة الحسية المطردة والقاضية بالقطع أيضاً، فيكون الدليل العقلي قطعي من جهتين: من جهة اطراده الحسي، ومن جهة ضرورته المجردة العقلية. ومقصود المصنف بهذين الأصلين والمثلين: أن يبين أن التشبيه الذي نفته النصوص ليس هو الاشتراك في الاسم المطلق، وأن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص.

الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض

الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض قال المصنف رحمه الله: [فصل: فأما الأصلان فأحدهما أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض]. هذا هو الأصل الأول العقلي المبني على الضرورة العقلية، وهو من جنس قولك: إن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فكذلك من ضرورات العقل المطردة المعلومة بضرورة العقل: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإذا لم يلزم في بعضها التشبيه؛ لزم أن يكون هذا الحكم مطرداً في سائرها. وقد قال بعض شراح هذه الرسالة: إن المصنف قصد بهذا الأصل الرد على متكلمة الصفاتية الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر، والأصل الثاني -وهو أن القول في الصفات كالقول في الذات- قالوا: هذا رد على نفاة الصفات. وهذا القول من حيث أنه رد هذا صحيح، لكن أن يقال: إن المصنف قصد بالأصل الأول الرد على متكلمة الصفاتية، الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض فقط، وقصد بالثاني الرد على النفاة كالجهمية فقط؛ فإن هذا ليس بصحيح، والرسالة نفسها تمنع هذا؛ لأنه في الأصل الأول -وهو القول في بعض الصفات كالقول في بعض- ذكر أن هذا الأصل يُقصد به متكلمة الصفاتية من النفاة الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، وذكر بعد ذلك في نفس الأصل أنه يقصد به من ينفي الصفات ويثبت الأسماء، ثم ذكر بعد ذلك أنه يقصد به من ينفي الأسماء والصفات، وهذا هو ما صرح به المصنف. وأيضاً إذا اعتبرت سياق كلامه -وهو صريح أيضاً- تبين لك أن الأصل الأول يُرد به على سائر الطوائف، فيرد به على من يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر، والرد على هؤلاء من هذا الأصل رد، مباشر، فيقال لهم: كما تثبتون بعض الصفات ولم يلزم من ذلك التشبيه، فأثبتوا البعض الآخر. أيضاً: هذا الأصل رد على من يثبت الأسماء وينفي الصفات، كما ذكره المصنف عن عامة المعتزلة، وهو أيضاً رد على من ينفي سائر الأسماء، أو ينفي الأسماء والصفات كما سيأتي. إذاً: فلا يقال: إن الأصل الأول ردٌ على هؤلاء المتكلمين من الصفاتية وحدهم، كأتباع أبي الحسن الأشعري، إنما هو رد على جمهور الطوائف كما سيأتي.

مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها

مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها قال المصنف رحمه الله: [فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حيٌ بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، ويجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته؛ بل القول في أحدها كالقول في الآخر]. من هو القائل بهذا المذهب؟ إذا قلنا: إن الأشعرية يقولون: إن الله سبحانه وتعالى حي بحياة، متكلم بكلام إلخ، فهذا لا إشكال فيه، فإنه معروف عن المتقدمين منهم وكذلك عن المتأخرين، وأما إذا فُهم من هذا السياق أنهم يثبتون الصفات السبع، فإن الصحيح أن مذهب الأشاعرة فيه تفصيل، فالصفات السبع التي هي: الحياة، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والعلم، والقدرة، هذه أجمعت عليها الأشعرية، أتباع أبي الحسن الأشعري، وأما أن الأشعرية لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع، فمن حكى في مذهبهم أنهم يقتصرون على هذه السبع وحدها فقد أخطأ عليهم؛ بل إن متقدميهم وأخصهم أبو الحسن الأشعري إمام المذهب، ومتقدمو أصحابه؛ كـ القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، وابن فورك، وجماعة سواهم، هؤلاء يثبتون ما يسمى بالصفات الخبرية؛ كالوجه، واليدين، ونحوها، وبعض متوسطيهم يثبتون بعض الصفات غير هذه السبع، وإنما الذين غلب عليهم الاقتصار على هذه السبع هم طبقة أبي المعالي الجويني ومن سار على نسجه، أي: من نسج على طريقة الجويني بعده من المتأخرين. والإحاطة بتفصيل مقالة الأشعرية في الصفات مسألة مطولة، ولكن النتيجة العامة: أن الأشعرية منتسبون للسنة والجماعة، معظمون لمتقدم الأئمة، ليسوا من جنس المعتزلة ونحوها من الذين لا ينتحلون مذهب السنة والجماعة، فهم -أي: الأشاعرة- أقرب طوائف المتكلمين إلى أهل السنة والجماعة، كما يعبر بذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله، وإمام المذهب - أبو الحسن الأشعري - حاله بعد رجوعه عن الاعتزال متسلسل من المفضول إلى الفاضل، فإنه أول ما رجع عن الاعتزال انتسب لأهل السنة والجماعة، لكنه لم يكن بصيراً بمفصل مذهبهم، وكان علمه بعلم الكلام علماً مفصلاً، فصار يأخذ من مقالاتهم المجملة ويحاول أن يفصلها، فربما فصلها تفصيلاً كلامياً، فانحرف بها عن مقصودهم، ثم حسنت حاله في آخر أمره لما صنف كتاب الإبانة، فكتاب الإبانة إن كان عليه بعض المآخذ، إلا أنه في الجملة كتاب مقارب للسنة، وإن كان غير محقق على السنة والجماعة، لكنه مقارب للسنة والجماعة، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: "وأما من قال منهم -يعني: الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك -وهذا قيد مهم، وهو قوله: ولم يظهر مقالة تناقض ذلك- فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة"، وإنما كان الانتساب إلى الأشعري بدعة ليس لأجل الأشعري بذاته؛ بل لأنه في أصول الديانة لا ينبغي أن ينتسب إلى معين على وجه الاختصاص به، فإن قال قائل: فقد انتسب من انتسب إلى الإمام أحمد، وقالوا: إنه إمام السنة، قيل: أن يقال عن الإمام أحمد أو عن الشافعي أو عن أبي حنيفة أو مالك أو غيرهم: إنه من إئمة السنة، أو إمام أهل السنة، هذا وجه، وأما أن يقال: إن الحق في قول أحمد، وكأنه اختص به، فهذا هو البدعة. ولذلك لما ناظر ابن تيمية بعض المتكلمين والقضاة في العقيدة الواسطية والحموية وغيرها، قال له بعض قضاة المالكية والشافعية: قل: إن هذا معتقد الإمام أحمد بن حنبل، فقال: لا، هذا المعتقد معروف قبل أن يولد الإمام أحمد بن حنبل. فلا يضاف إلى رجل معين، وحتى لو كان صاحب سنة فلا ينسب إليه بخصوصه، وكأن غيره من أهل السنة أو من الأئمة ليس الحق معهم، إنما الانتساب للمعين يكون في أمور الاجتهاد؛ لأنه لا غرو أن يقال: إن فلاناً حنبلي أو شافعي في الفقه؛ وذلك لأن الشافعي مجتهد في جمهور مسائل الفقه، فأنت قد انتسبت إليه فيما يختص به وهو اجتهاده، وأما العقائد والأصول الكبرى فليست من باب الاجتهاد، ولذلك مُنع أن ينتسب أو أن يتعصب لمعين فيها، فضلاً عن أن يكون هذا المعين عنده انحراف، أو غلط، أو عدم موافقه للسنة والجماعة. قال المصنف رحمه الله: [فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضىً وغضب يليق به، وللمخلوق رضىً وغضب يليق به]. فالقاعدة واحدة، والتفريق تحكم، ومعلوم أن التحكم ممنوع في النظم العقلية، فلابد من جواب عقلي، وهذه مناظرة عقلية، فإذا قال المخالف: إنه يثبت الإرادة، قيل له: إن الله يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] فأثبت للمخلوق إرادة، فلمَ لمْ يلزم أن تكون إرادة الرب كإرادة المخلوق؟ فإن قال: إن الله له إرادة تليق به، قيل: هذا صحيح، ولكن لمَ لا تقول: إن له رضى يليق به؟ فإن هذه الصفة في كتاب الله، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] فهذه آية من القرآن، وهذه آية من القرآن، وهذه صفة وهذه صفة، فالتفريق بينهما من باب التحكم. قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق]. إذا قال المخالف: إن الغضب غليان دم القلب، وهذا لا يليق بالله تعالى. قيل: هذا تعريف للغضب بمعناه المضاف المخصص للمخلوق، وإلا فلا يمكن أن يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الحياة مخلوقة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2] فالحياة ذكرت مخلوقةً في القرآن، ونحن نقول: إن الله حي بحياة، فهل الحياة التي أضيفت إلى الله هي الحياة المخلوقة؟ الجواب: لا. إذاً: هذا التعريف للغضب هو في حق المخلوقات، وليس من باب ما يلزم في حق الخالق، تعالى الله عن ذلك. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عن الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين؛ فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه. قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة]. أي: إن قال: إنه لا يوجد للمحبة والرضا إلا صورة أو معنىً واحد، وهو المعنى اللائق بالمخلوق. قيل: فيلزمك أن تقول: إنه لا يوجد للسمع والبصر إلا معنىً واحد، فلمَ صح في عقلك أن يكون للسمع والبصر ونحوها أكثر من مراد بحسب الإضافة والتخصيص، ولم يصح ذلك في حكم المحبة والرضا ونحوها؟! قال رحمه الله: [فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك]. قوله: (فإنه يبين) أي: هذا المتكلم من الصفاتية المنتسب للسنة والجماعة، ولكنه لم يحقق أصولهم من أصحاب الأشعري، يقول المصنف: إنه إذا ناظر الأشعريُ من هو من المعتزلة، وقال المعتزلي: إنه ليس لله إرادة ولا كلام إلخ، قال له هذا المتكلم من الصفاتية: إن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات. وهذا الجواب من هذا الصفاتي المتكلم جواب صحيح، لكنه يجب أن يطرد في بقية الصفات، فإن الحق لابد أن يكون مطرداً. وقوله: (فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك): أي: ما كان جوابه للمعتزلي، فهو جواب أهل السنة له.

الاحتجاج بإثبات العقل لهذه الصفات والجواب عنه

الاحتجاج بإثبات العقل لهذه الصفات والجواب عنه قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: تلك الصفات أُثبتها بالعقل؛ لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك]. هذا إثبات للصفات السبع بالدليل العقلي، ولذلك سماها بعض متكلمة الصفاتية: الصفات العقلية؛ لأنهم أثبتوها بالدليل العقلي. وهنا سؤالان: السؤال الأول: هل هذا الإثبات لهذه الصفات بالعقل إثبات صحيح أم غير صحيح؟ والجواب: أنه إثبات صحيح من جهة الطريقة، وصحيح من جهة أن العقل يمكن أن يُستدل به على إثبات بعض الصفات الثابتة في الشريعة. السؤال الثاني: هل العقل يدل على هذه الصفات وحدها، أم أنه يدل على هذه الصفات السبع ويمكن أن يدل على غيرها؟ والجواب: أنه يمكن أن يدل على غيرها؛ كالعلو مثلاً، فإن علو الله سبحانه وتعالى يثبت بالعقل، وإن كان لا يلزم من ذلك أن كل صفة معينة في القرآن يمكن أن يدل عليها العقل ابتداءً؛ بل هناك صفات لو لم يخبر الله تعالى بها في القرآن أو رسوله صلى الله عليه وسلم فلن يمكن للعقل أن يبتدئ القول فيها، وذلك كالنزول المذكور في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالإتيان والمجيء، كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] فهذه الصفات وأمثالها لا تثبت بالعقل، مع أنه إذا ذكرها القرآن والسنة فإن العقل لا يمكن أن يكون منافياً لها. إذاً: يقال لهؤلاء من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة: إن هذه الصفات تثبت بالعقل، لكن العقل يدل على غيرها من الصفات .. هذه وجه. الوجه الثاني: أنه لو فرض جدلاً أن العقل لا يدل إلا على هذه الصفات وحدها، فهل المعتبر في صفات الله تعالى هو العقل أم الشرع؟ لا شك أن المقدم هو الشرع، والعقل وإن جُوِّز الاستدلال به إذا أمكن فإنه لاشك أن الحق معتبره الأول هو القرآن، وهنا يقال: لو فرض جدلاً أن العقل لا يدل إلا على هذه السبع وحدها، فإن غيرها من الصفات يثبت بالشرع؛ فلم جُوِّز أن تثبت الصفات بالعقل ومنع أن تثبت الصفات بالكتاب والسنة؟ مع أن التحقيق أن العقل يدل على غير هذه الصفات.

الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين

الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين قال المصنف رحمه الله: [قال له سائر الإثبات: لك جوابان: أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل؛ لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم]. طرق المناظرة تكون على عدة أوجه: منها: المنع -أي: منع الدليل- والقلب -أي: قلب الدليل- والتسليم -أي: تسليم جدل- ثم مناقضة الدليل، وهنا يقول المصنف: لو سلمنا جدلاً بأن العقل لا يدل إلا على هذه الصفات السبع وحدها؛ فإن عدم الدليل المعين -الذي هو هنا العقل- لا يدل على عدم المدلول الذي هو ثبوت الصفات؛ لأنه يمكن أن تثبت هذه الصفات بدليل آخر، فهنا تكون القاعدة في الدليل: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول؛ لأنه يمكن أن يثبت المدلول بغير هذا الدليل المعين. وغاية ما يمكن أن يقال: إن العقل دليل، فمن باب أولى أن يقال: إن القرآن دليل، مع أن تسمية العقل دليل مسألة فيها تفصيل، لكن لو سلِّم وقيل: إن العقل دليل في هذا الباب، والقرآن دليل، فعدم الدليل المعين -الذي هو العقل- لا يستلزم عدم المدلول الذي هو ثبوت غير هذه الصفات السبع؛ لكونها تثبت بدليل آخر وهو الشرع، أو الدليل السمعي. وقوله: (فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه): فإن العقل قد أثبت سبع صفات -كما يقولون- لكن هل نفى غيرها أم سكت عن ذلك؟ على هذا الفرض سكت عن ذلك، فسكوته عنه ليس نفياً. وقوله رحمه الله: (وليس لك أن تنفيه بغير دليل؛ لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم). إن السمع -وهو الدليل من القرآن والسنة- قد أثبت الصفات لله سبحانه وتعالى، وهو قد سلم من المعارضة العقلية والشرعية، أما أنه سلم من المعارضة الشرعية فلأن الشرع -الذي هو الكتاب والسنة- لا يمكن أن يكون متعارضاً مختلفاً، وقد نزه الله كتابه عن ذلك. وأما أنه سلم من المعارضة العقلية فهذا أيضاً معلوم بالقطع، فإن كل ما جاء في كلام الله يمتنع أن يكون معارضاً لشيء من حكم العقل، وكل من زعم حكماً عقلياً معارضاً للقرآن، فإن حكمه العقلي حكم باطل، وليس حكماً صحيحاً.

الجواب الثاني: أنه يمكن إثبات سائر الصفات بالعقل أيضا

الجواب الثاني: أنه يمكن إثبات سائر الصفات بالعقل أيضاً قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته -وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى؛ لقوة العلة الغائية؛ ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم، أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة]. يبين المصنف رحمه الله في الجواب الثاني أن ثمة طريقاً عقلياً لإثبات غير هذه الصفات السبع بالعقل، وذلك كصفة الرحمة، فيقال فيها: إن نفع العباد يدل على إثبات صفة الرحمة .. وهكذا. بل إن بعض الصفات -غير الصفات السبع- حقيقتها أنها من جهة العقل أقرب من بعض الصفات التي أثبتوها، فإن إدراك العامة من المسلمين أن إكرام الطائعين يدل على محبة الله لهم، وعقوبة الظالمين والكافرين به سبحانه وتعالى تدل على غضبه، ونحو ذلك -إدراكهم لهذا أقرب وأقوى من كلمة (التخصيص يدل على الإرادة)، فإن العامة ربما لا يستوعبون معنى هذه الكلمة أصلاً، فلا يفهمون معنى التخصيص ولا علاقة التخصيص بالإرادة؛ بل تحتاج إلى شرح حتى تفهم، كذلك مسألة الحكم وما تنتهي إليه المفعولات؛ ولهذا فإن من فقه المصنف أنه عبر هنا بالانتهاء، فإن بعض الأمور قد تبتدئ ويكون ظاهرها في حق بني آدم أنها ليست خيراً لهم، وذلك كالإفك الذي وقع في حق عائشة رضي الله تعالى عنها، ومع ذلك قال الله تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].

مناقشة من يثبت الأسماء دون الصفات

مناقشة من يثبت الأسماء دون الصفات قال المصنف رحمه الله: [وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء؛ كالمعتزلي الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة. قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء والصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً وتجسيماً؛ لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمىً بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا لجسم، فانف الأسماء، بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا لجسم. فكل ما يحتج به من نفى الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً لذلك كان جواباً لمثبتي الصفات]. هذه هي الطائفة الثانية التي يرد عليها بهذا الأصل، وذلك بأن يقال: إن هذا الباب باب واحد، بمعنى: أن قوله في الصفات مبني على مسألة الاشتراك، فإذا زعم المخالف أن هذه الصفات لا توجد في الشاهد إلا وتكون من باب التركيب، أو من باب الأعراض القائمة بالأجساد -وهذا ما يسمى بدليل الأعراض عندهم- فإن الجواب أن يقال: وكذلك هذه الأسماء التي تستعملها إثباتاً عندك فإنها لا تستعمل في الشاهد المخلوق إلا في حق هذه الأجسام المخلوقة، فإن بني آدم وغيرهم من الحيوان يقال عنهم: إن هذا حي، ويقال عن الآدمي: إنه عليم وقدير بقدرته البشرية .. ونحو ذلك. فالمقصود: أن هذا الاسم سواء سمي اسماً أو سمي صفة، فإن بابه واحد من جهة امتناع الاشتراك في الاسم المطلق، إذا كان هو الشبهة التي يبني عليها هؤلاء منعهم لهذا الإثبات.

مناقشة نفاة الأسماء والصفات

مناقشة نفاة الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله: [وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول: هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير؛ بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز؛ لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير. قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير، كان كذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات]. بين المصنف رحمه الله أنه يلزم أصحاب هذا المذهب ما فروا منه، ولذلك قدم المصنف أنهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره أو في شر منه. وكما أنه يقال لمتكلمة الصفاتية: إنكم تقولون: إن الله حي بحياة، فيلزم أن تقولوا: إن له محبةً تليق به وهكذا. فيقال للطائفة الثانية والثالثة: إنكم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى موجود بوجود يليق به؛ وذلك لأن مسألة الوجود -كما أسلفنا- لا يمكن لأحد أن ينازع فيها، فالله تعالى موجود بوجود قائم بذاته، غني عما سواه، فإذا كان الوجود ثابتاً في حقه سبحانه وتعالى مختصاً به، فإن القول في الوجود -المشترك بين الخالق والمخلوق إذا أطلق اسماً- هو من باب الاشتراك في الاسم المطلق، مثله مثل القول في بقية الصفات.

امتناع سلب النقيضين

امتناع سلب النقيضين قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات. قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات؛ فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، فيمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل]. لأن رفع النقيضين من جنس جمع النقيضين، وهذا من ضرورات العقل؛ ولهذا فكلما كان المذهب أبعد عن الشريعة أو عن السنة وعن الحق، فإن بعده عن العقل يكون كذلك، وكلما كان أقرب إلى الشريعة فيلزم أن يكون أقرب إلى العقل؛ لأن ثمة تلازماً بين حكم الشريعة وحكم العقل، والمقصود بالعقل هنا: العقل الصحيح الثابت؛ وليس مجرد الظن أو الوهم الذي يعرض لبعض عقول بني آدم.

الرد على قول المعترض: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما

الرد على قول المعترض: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما قال المصنف رحمه الله: [فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت؛ إذ ليس بقابل لهما]. لقد سبق قول المصنف رحمه الله أن هؤلاء عندهم سفسطة في العقليات، وهذا من ضمن تلك السفسطات العقلية، وسيرد عليه المصنف في الفقرة التالية.

الوجه الأول: أن نفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر

الوجه الأول: أن نفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر قال المصنف رحمه الله: [قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود العدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر]. هذا المقام محصل تحت قاعدة: أن نفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر، فإنه يقال لنفاة الأسماء والصفات: إنكم تتفقون مع عامة المسلمين، بل وعامة المقرين بربوبية الله أن الله منزه عن النقص، ومما ينزه عنه من النقص: تنزيهه سبحانه وتعالى عن العمى، فإذا نزهتم الباري عن العمى؛ لزم أن يكون موصوفاً بالبصر؛ لأنه إذا ارتفع أحد المتقابلين لزم ثبوت الآخر، ويقال لهم في صفة العلم: إنكم تسلمون بأن الله منزه عن الجهل، فيلزم من ذلك أن يكون موصوفاً بالعلم .. وهكذا في جميع الصفات. وما هو جوابهم عن هذه القاعدة فيما ينفونه من الصفات؟ يقولون: إن هذه القاعدة تصح في المتقابلين، أي: فيما كان قابلاً لهذه الصفة أو لضدها، فمثلاً: إذا قيل: إن زيداً ليس بأعمى؛ لزم أن يكون مبصراً.

الوجه الثاني: إلزامهم بتشبيه الله بالجمادات

الوجه الثاني: إلزامهم بتشبيه الله بالجمادات وقولهم: وأما غير القابل لهذه الصفات، فإنه لا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الأخرى. فيقال: إنكم فررتم من تشبيه الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات الحية، فشبهتموه بالموجودات الميتة الجامدة التي لا حياة لها، ولا شك -باتفاق العقلاء- أن المخلوق الحي أكمل من المخلوق الجامد غير الحي، ولهذا فليس في الجمادات أنبياء ولا رسل ولا ملائكة .. وهذا من البدهيات. إذاً: فهم فروا من تشبيه الله بالمخلوقات الحية، فلزم التشبيه بالموجودات الجامدة التي يقولون: إنها ليست قابلة، وذلك كالجبل، فإنهم يقولون: إذا قيل: إن الجبل ليس بأعمى، لم يلزم أن يكون الجبل مبصراً .. فنقول: بئس ما انتهى إليه النظر العقلي عندكم! لأن الجبل ليس بأكمل من الإنسان الحي، فإذا قلتم: إن هذا الإثبات تشبيه له بالإنسان، قيل: فطريقتكم الثانية في عدم القابلية تشبيه له بالجماد، وهذا مما يدل على أن هذا التركيب العقلي في أصله خطأ؛ لأن المقصود شرعاً وعقلاً هو أن ننزه الله سبحانه وتعالى عن مشابهة كل شيء، سواء كان هذا الشيء حياً أو ميتاً أو جماداً، أو مخلوقاً، أو متصور الخلق، أو مفروضاً في الذهن، فالله منزه عن هذا كله.

الوجه الثالث: عدم وجود الدليل على ما يزعمون

الوجه الثالث: عدم وجود الدليل على ما يزعمون ثم إنهم يقولون: إن هذه القاعدة صحيحة إذا كان الشيء قابلاً للصفتين والله ليس قابلاً، فنقول: ما هو الدليل على أن الله ليس قابلاً؟ الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أنه متصف بهذه الصفات، كقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وهذا في سياق تكليمه سبحانه لنبيه، وفي سياق الرسل قال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] فالله سبحانه وتعالى سمع كلامهم، وكقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] وقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [آل عمران:29] فالله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بهذه الصفات وغيرها، فمن أين لكم -من الشرع أو من العقل- أن الله ليس قابلاً لهذه الصفات؟! وقوله رحمه الله: (فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت؛ إذ ليس بقابل لهما. قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر). هذا هو الجواب الأول: أن مسألة التفريق بين تقابل العدم والملكة، وتقابل السلب والإيجاب، وأن زيداً إن قلت: إنه ليس بأعمى؛ لزم أن يكون مبصراً، بخلاف الجبل، ونحو ذلك، نقول: هذا في مسألة العمى والبصر ونحوه، لكن هناك بعض المقدمات التي لا يمكن أن ننازع فيها أنها من باب تقابل السلب والإيجاب، ومعنى تقابل السلب والإيجاب: أن يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر، وهو الوجوب. وإذا صح الأمر في صفة واحدة، أو في اسم واحد، أو في معنىً واحد؛ بطلت القاعدة التي يزعمون أنها تقول: إن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، فالإبطال الأول الذي ذكره المصنف هو بمسألة الوجود، وقد ذكرنا سابقاً: أن المصنف عني بتقرير مسألة الوجود ليس من باب عناية المتكلمين بها، فإن المتكلمين -ولا سيما غلاتهم- يعنون بتقرير مسألة الوجود لذاتها، لكن المصنف يقول: إن مسألة وجود الله تعالى مسألة فطرية، ولسنا نريد أن نثبت الأدلة على وجود الله؛ لأن هذه مسألة بينة بدليل الفطرة، ودلائل العقول المتواترة، ودلائل الشرائع، وغير ذلك، فهو لا يقصد إلى إثباتها كمسألة تحتاج إلى إثبات وتفصيل أو مجادلة، إنما يستعمل مسألة الوجود لأنها مبتدأ ضروري في مناظرة هؤلاء، فإنهم يقولون: إن الله موجود، وإن المخلوق موجود، ولا يلزم من الاتفاق في الاسم التطابق في الماهية -أي: في ماهية الوجود- عند الإضافة والتخصيص.

الاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية

الاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية قال المصنف رحمه الله: [وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية]. يشير المصنف هنا إلى منزع هذه الطرق والسفسطة العقلية، فهي ليست من أوائل عقولهم، وإنما تلقوها عن مقدمات مشائية، والمشاءون هم أتباع أرسطو طاليس من الفلاسفة اليونان. ثم ذكر رحمه الله قاعدة عقلية، وهي: أن الاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية؛ لأن الحقائق العقلية حقائق عقلية مشتركة في العقل البشري، سواء عبر عنها بلسان العرب أو غير العرب، وسواء عبر عنها بمصطلح متقدم أو مصطلح متأخر .. إلخ، ولذلك يقال: إن أرسطو طاليس هو الذي وضع علم المنطق، ثم جاء من يسمى بالمعلم الثاني وهو أبو نصر الفارابي، ثم جاء ابن سينا وأكمل نظمه. فما كان من هذا المنطق صحيحاً، فليس صحيحاً أن أرسطو هو الذي وضعه .. نعم، هو موجود، لكن أرسطو اصطلح عليه، كما أنه يقال: إن الخليل بن أحمد هو الذي وضع علم العروض، فهل معناه: أنه هو الذي اخترع هذه الأوزان، ثم جاء الشعر ليقف على هذه الأوزان أو يجري عليها، أم أن الشعر سابق على مصطلح الخليل بن أحمد؟ لا شك أن الثاني هو الصحيح. إذاً: هذا من باب الاصطلاح، وليس من باب الإيجاب. قال المصنف رحمه الله: [وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20 - 21] فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرها]. محصل هذا الوجه: أن المصنف يريد أن يقول: إن قولك: إن الجبل ليس بميت، أو لا يقبل الموت والحياة، هذا اصطلاح، وظاهر القرآن والعرب تستعمل في كلامها أنه يمكن أن يقال عن الجبل: إنه ميت، كما قال الله تعلى عن هذه الأصنام، وهي من حجر أو خشب أو ما إلى ذلك: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21] فاسم الموت لا يلزم أن يكون ممنوعاً من باب المصطلحات، وعلى هذا فإنه قد ينازع في اصطلاحهم. قال المصنف رحمه الله: [وقيل لك: ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت، والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك]. وهذا بين كما سبق بيانه. قال رحمه الله: [وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم؛ بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد]. وهذا ما ينتهي إليه غلاتهم؛ ولذلك سبق أن قال المصنف: إنهم يشبهونه بالموجودات، ثم قال: يشبهونه بالمعدومات، ثم قال: إن الغلاة يشبهونه بالممتنعات. ومعنى هذا الكلام: أنهم يتسلسلون، فإذا خرجوا من التشبيه بالموجودات الغير الحية، وأرادوا أن ينفكوا من هذا الإشكال، قال: لزمهم أن يشبهوه بالمعدومات، فإذا خرجوا من هذا الإشكال لزمهم أن يشبهوه بالممتنعات. فهناك حقيقتان: إما الإثبات، وإما النفي، والإثبات صفة للموجود الحي، والنفي إما أن يكون صفة للموجود غير الحي، وإما أن يكون صفة للمعدوم، وإما أن يكون صفة للممتنع، مع أن المصنف يقول: إن الموجود غير الحي يمكن أن يوصف بإثبات أو نفي، لكن لو اتبعنا طريقتهم فقلنا: إن الإثبات هو للموجود الحي، والنفي للصفات هو وصف الموجود غير الحي، أو وصف المعدوم، أو وصف الممتنع، فيقول المصنف: لو كان هذا هو التشبيه -الاشتراك في الاسم المطلق- الذي نفته النصوص؛ لكان الانفكاك منه ممتنعاً؛ لأنك إن أثبت شبهت بالموجودات الحية، وإن نفيت شبهت بالموجودات غير الحية، أو شبهت بالمعدومات، أو شبهت بالممتنعات، فيكون الانفكاك منه لا يسلم منه أحد؛ لا من أثبت الصفات، ولا من نفى الصفات، ولا من نفى النقيضين، ولا غير ذلك؛ مما يدل على أن هذا ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص.

ما كان قابلا للوجود فهو أكمل مما لا يقبل الوجود

ما كان قابلاً للوجود فهو أكمل مما لا يقبل الوجود وقوله: (فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم): قبول الوجود والعدم إما أن يكون قبولاً لأحدهما، وإما أن يكون قبولاً لهما، وإما أن يكون نفياً لهما، فما كان قابلاً للوجود وحده فلا شك أنه أصدق وأكمل مما لا يقبل الوجود والعدم، ولذلك قال: (وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم)، وهذه من الأحكام البدهية في العقل: أن ما يقبل الوجود فإنه يكون أكمل مما لا يقبل الوجود. لكنه قال بعد ذلك: (بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً)، ومعلوم أن اجتماع الوجود والعدم هو اجتماع للنقيضين، ونفي الوجود والعدم هو نفي للنقيضين، ومعلوم أن نفي النقيضين وجمعهما ممتنع، فكيف قال المصنف: بل ومن اجتماع الوجود والعدم؟ مقصوده: أن الممتنعات ليست درجة واحدة في الامتناع؛ بل بعضها أشد امتناعاً من البعض الآخر، ولذلك قال: كما أنه يعلم عند سائر العقلاء أن اجتماع النقيضين ممتنع، وأن نفيهما ممتنع، أي: أن اجتماع الوجود والعدم ممتنع، وأن نفي الوجود والعدم ممتنع في الشيء، قال: فكذلك أشد من هذا الوجه امتناعاً أن يقال عن الشيء: إنه ليس قابلاً للوجود والعدم، فتكون المراتب العقلية متسلسلة على هذا الوجه: الأول: قبول الاتصاف بصفات يسمى بها الحي. الثاني: عدم القبول لصفات الحي وقبول صفات الجماد. الثالث: عدم القبول لصفات الجماد برفع النقيضين، ومعلوم أن رفع النقيضين ممتنع. الرابع: عدم القبول للنقيضين، ومعلوم أن عدم القبول للصفة أعظم من نفي الصفة، فكما أن نفي النقيضين ممتنع، وجمعهما ممتنع، فكذلك أشد من هذا وهذا امتناعاً أن يقال: إنه ليس قابلاً للنقيضين، مع أن الثلاثة -وهي: عدم قبول النقيضين، أو رفع النقيضين، أو جمع النقيضين- كلها ممتنعة، لكن أشدها امتناعاً هو عدم القبول، فهو امتناع من جهتين: عدم فرض القبول، وعدم تصور الوجود، أما النقيضان فإنك إذا لم تقل بنفي قبولها إنما قلت برفع النقيضين، فإنك هنا منعت التصور، فيكون تصور النقيضين على حالة من الاجتماع ممتنعاً. أما الفرض فإنه لم يرفع. وقد يقول قائل: هل معنى هذا أنه إذا لم نقل برفع النقيضين أن هذا ممكن؟ والجواب: لا؛ لأن الذهن يفرض على جهتين، الجهة الأولى: ما يسمى فرض الذهن، والجهة الثانية: ما يسمى تصور الذهن. وتصور الذهن يكون فقط في الممكنات، أما فرض الذهن فإن الذهن يفرض الممتنعات.

الفرق بين فرض الذهن وتصور الذهن

الفرق بين فرض الذهن وتصور الذهن والفرق بينهما: أن فرض الذهن هو الخاطر الأول من الوهم العقلي الذي يرد على الذهن، فإذا دخله نظام التصور امتنع تصوره، بمعنى: أنه إذا عرض على الذهن قبل جمع النقيضين، هذا الخاطر الأول الذي يرد على الذهن يسمى فرضاً، إذا أدخله العقل نظام التصور هل يمكن أن يتصور صورةً يجتمع فيها النقيضان؟ الجواب: لا، ولذلك يقول ابن تيمية وغيره من النظار: إن الذهن يفرض المحال. أي: يفرض الممتنع. فيقول المصنف: إن جمع النقيضين أو رفع النقيضين يفرضه الذهن، والذهن لا عبرة بفرضه؛ لأنه يفرض المحال، وإن كان يمنع التصور له فضلاً عن امتناع وجوده. أما إذا قيل عن الشيء بأنه ليس قابلاً للوجود والعدم، فإنه يمتنع فرضه ويمتنع تصوره، فضلاً عن امتناع وجوده، ومعلوم أن ما يمتنع في العقل مجرد الفرض له -حتى ولو كان فرضاً محالاً- فإنه أعظم امتناعاً مما يمكن أن يفرضه العقل وإن كان يمتنع وجوده. إذاً: فهؤلاء إذا تسلسل عليهم الأمر ففروا من التشبيه -كما يزعمون، وإلا فالباب ليس من باب التشبيه أصلاً- لو فروا من التشبيه بالموجود الحي لشبهو بالجماد، فإن فروا من ذلك شبهو بالمعدوم، فإن فروا من المعدوم إلى الممتنع شبهوه بأول درجات الممتنع وهو رفع النقيضين، فإن فروا من التشبيه برفع النقيضين شبهوه بما هو أعظم امتناعاً وهو ما لا يقبل النقيضين، فتكون الدرجة الثالثة: رفع النقيضين، وتكون الدرجة الرابعة: عدم القبول للنقيضين، وهذا هو أشد الدرجات امتناعاً. وقوله: (فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم): الفرق بينهما: أن الأول: نفيت عنه الفرض الذهني فضلاً عن التصور، والثاني: نفيت عنه التصور فضلاً عن الوجود. ثم قال: (وإذا كان هذا -أي: الثاني وهو رفع النقيضين- ممتنعاً في صرائح العقول، فإن ذلك -الذي هو عدم القبول للنقيضين- أعظم امتناعاً). وقوله: (فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد): أعظم الممتنعات: هو ما لا يقبل الوجود والعدم، ولك أن تقول: هو ما لا يقبل النقيضين.

أقوال بعض الباطنية في الوجود والعدم

أقوال بعض الباطنية في الوجود والعدم قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما. ومنهم من يقول: لا أثبت واحداً منهما. وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق]. وهذا من باب التحكم، ولذلك فإن من الطرق التي يسلكها بعض الغلاة من الباطنية في هذا الباب: -وهي من الطرق التي يعتبرها بعض الغلاة من المخالص لهم- أنهم يمنعون إجراء الأحكام العقلية على هذه المسائل، ويجعلون الأمر من باب التفسير الباطني المحض، الذي لا يعتمد لا على تفسير القرآن باللغة، ولا على تفسير وحكم العقل، فينفكون عن الحقائق العقلية، ويزعمون أن الحقائق العقلية ليست مناسبة لمسائل الربوبية، وما إلى ذلك، وهذا لا شك أنه تحكم على العقل؛ لأنه يستلزم إبطال الحقائق، فإن الحقائق إذا لم تعلم بالشرع ولم تعلم بالعقل فإنه يمتنع العلم بها. وأما قول من يقول: إن الحكم العقلي حكم قياسي على الموجودات، وعلى المشبهات، وعلى المخلوقات، والله تعالى منزه عن هذا القياس، فيقال له: هذا غلط، فإن الحكم العقلي ليس بالضرورة أن يكون حكماً قياسياً، وإن كان من أحكام العقل: القياس على الشاهد ونحو ذلك، فهذا باب آخر، لكن هناك أحكام عقلية ضرورية ليست مبنية على الحكم في الشاهد، وهي الأحكام العقلية الأولى؛ كالقول بأن النقيضين يمتنع اجتماعهما ويمتنع ارتفاعهما، وأن الحي إذا نفيت عنه أحد الصفتين لزم قبول الأخرى وهكذا، فهذه أحكام عقلية أولى ليست مبنية على القياس الحسي المعين، وإن كان القياس الحسي إذا كان مطرداً فإن حكمه يكون قطعياً.

نفي الصفات مع كونه قابلا لها أكمل من نفيها مع عدم قبوله لها

نفي الصفات مع كونه قابلاً لها أكمل من نفيها مع عدم قبوله لها قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدر قبوله لهما -مع نفيهما عنه- فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلاً لهما مع نفيهما عنه وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب]. يبين المصنف رحمه الله أن من كان مخالفاً ومخالفته بنفي الصفات، وقال: إن الله سبحانه وتعالى تنفى عنه هذه الصفات، كما تقوله غلاة المعتزلة، فإنهم ينفون الصفات عن الله تعالى مطلقاً -أي: قيام الصفات بالذات- فيقال لهم: هل أنتم تنفون هذه الصفات مع إمكان قبولها، أم تنفونها مع امتناعها؟ فإن قالوا: إنها تنفى مع إمكان قبولها؛ كان هذا تناقضاً؛ لأن ما أمكن له سبحانه وتعالى من الصفات اللازمة كان واجباً. وإن قالوا: إنها تنفى عنه سبحانه وتعالى لعدم إمكانها؛ فإن هذا تشبيه بما هو أنقص من الممكن القابل لهذه الصفات، فيلزم على هذا أن يكون المخلوق متصفاً بكمالات، ويمتنع تحقق أصل هذا الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى له سبحانه وتعالى، فيكون هذا من باب التشبيه بالجمادات، فضلاً عما قد يكون فوقها من المعدومات والممتنعات. أي: لو قلتم -معشر نفاة الصفات- بأنه تنفى عنه الصفات وهو قابل لها، لكان هذا من حيث العقل الضروري أكمل من أن يقال: إنها تنفى عنه لأنه ليس قابلاً لها؛ لأن عدم قبوله للكمال أشد نقصاً من نفي الكمال مع القول بإمكانه. فإذا قيل عن شيء -ولله المثل الأعلى-: إنه ينفى عنه هذا الكمال؛ كالعلم أو الحكمة أو ما إلى ذلك؛ لأنه ليس قابلاً له، وقيل عن شيء آخر: بأنه لا يتصف بالعلم مع أنه قابل له، فإن هذا أكمل من الأول، إذاً فما نفيت عنه صفة من صفات الكمال لا لعدم قبوله لها، وإنما لعدم قيامها به مع إمكانها، فهذا أكمل من أن يقال: إن هذه الصفة منفية لأنه ليس قابلاً لها، ولذلك فإن هذه الطريقة أنقص. فإن قالوا: إنها منفية عنه مع أنه قابل لها. قيل: هذا تحكم، فإن ما أمكن له سبحانه وتعالى وجب، ولهذا فإن المصنف رحمه الله يغلق على المعتزلة مسألة الجدل، فيقول: إما أن تنفوا الصفات وتقولون: إن سبب النفي هو عدم قبوله لها؛ فهذا أشد نقصاً من كونه قابلاً لها، وإما أن تقولوا: إنها تنفى عنه الصفات وهو قابل لها؛ فإذا قلتم: إنه قابل لها ونفيتم، تناقضتم؛ وذلك لأن الله تعالى ليس كخلقه، فإن الآدمي لك أن تقول: إنه ليس عالماً، وهو قابل للعلم، بخلاف الباري سبحانه وتعالى، فإنه يمتنع أن يقال: إنه لا يتصف بالعلم وهو قابل له، فإن ما أمكن -أي: ما فرض إمكانه في حقه- من الصفات اللازمة؛ فإنه يكون واجباً.

ما كان جائزا لله تعالى من الصفات وجب له

ما كان جائزاًَ لله تعالى من الصفات وجب له وقوله: (وما جاز لواجب الوجود قابلاً، وجب له؛ لعدم توقف صفاته على غيره): هذا هو الإغلاق، (وما جاز) أي: ما فرضتموه جائزاً -أي: ممكناً- (لواجب الوجود) أي: لله سبحانه وتعالى، (وجب له) لماذا؟ قال: لعدم توقف صفاته على غيره؛ لأنه الأول، بخلاف المخلوق، فإنه يمكن أن يكون قابلاً للعلم وليس بعالم؛ لأن صفة العلم في المخلوق متوقفة على غيره، فإنه لابد أن يحصل هذا العلم، ووجود المخلوق ليس واجباً؛ لأن وجوده متوقف على غيره، وهو إيجاد الخالق له. إذاً: فصفات المخلوق الممكن تكون ممكنة، بخلاف صفات الخالق سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود، فإن صفاته تكون واجبةً. وقوله: (فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب): (فإذا جاز القبول) أي: جاز قبوله للصفات، (وجب) أي: وجب وتحقق ثبوت الصفات، وإذا جاز وجود المقبول من الصفات أيضاً كان هذا واجباً. وهذا من باب المناظرة، وإلا فإن المذهب الذي تقوله أئمة النفاة هو أنه ليس قابلاً؛ ولذلك لو فرض أن في القرآن دليلاً على نفي صفة من الصفات، ولا سيما الصفات المتعلقة بإرادة الرب سبحانه وتعالى ومشيئته، فإن هذا النفي لا يدل على امتناع تلك الصفة. مثال ذلك: صفة الرؤية، فإن المعتزلة يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، ولا يراه المؤمنون، ويستدلون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] وهنا أحد جوابين: إما أن يقال: إن الآية لا تدل على ذلك، والإدراك قدر زائد على الرؤية؛ بل إن الآية تدل على الرؤية إلخ. وإما أن يقال: لو فرضنا جدلاً أن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يقصد به نفي الرؤية، فهل الآية نفت وقوع صفة الرؤية، أم أنها نفت القبول لهذه الصفة؟ الجواب: أنها نفت الوقوع؛ ولذلك فإن حقيقة غلاة المتكلمين الأوائل الذين ينفون رؤية الله سبحانه وتعالى أنهم لم يحصلوا هذا المذهب من القرآن على التحقيق؛ لأن القرآن لو فُرِضت دلالته لكان نافياً، بخلاف مذهبهم، فإنهم يقولون بالامتناع، ومعلوم أن الذي يثبت امتناعاً ليس بحاجة إلى نص يدل على النفي؛ لأن النفي أقل درجة من الامتناع.

وجوب صفات الكمال في حق الله تعالى

وجوب صفات الكمال في حق الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [وقد بسط هذا في موضع آخر، وبُين وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه]. اتصاف الباري سبحانه وتعالى بصفات الكمال واجب، وهذه الصفات واجبة في حقه سبحانه وتعالى؛ كصفة العلم، والسمع، والبصر، ونحوها. فإن قال قائل: فصفات الأفعال كنزوله إلى السماء الدنيا ونحو ذلك؟ قيل: هذه الصفات من جهة نوعها وجنسها يقال عنه أنه واجب، ولذلك يمتنع على الله سبحانه وتعالى أن يكون معطلاً عن الفعل، وأما آحاد الأفعال؛ كإتيانه ومجيئه سبحانه وتعالى، فهذا متعلق بمشيئته وإرادته، فإن الله كما أخبر عن نفسه يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يشاء، وهو فعال لما يريد سبحانه وتعالى، وقد أخبرنا الله بجملة من أفعاله اللازمة والمتعدية، ولم يخبرنا بأكثر من ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحيط بأفعاله وإرادته ومشيئته إلا هو سبحانه، ومن أفعاله التي أخبرنا بها: النزول إلى السماء الدنيا، فلما شاء سبحانه وتعالى وأراد النزول إلى السماء الدنيا كان هذا من أفعاله اللائقة به، وهو سبحانه وتعالى يشاء ما يريد؛ ولذلك شاء سبحانه وتعالى إرادةً منه وربوبيةً وحكمةً أن ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ولم يقدِّر سبحانه ولم يرد أن يكون هذا النزول قبل ذلك. فقول المصنف: (إن ما أمكن له من الصفات وجب)، لا يشكل ما يرد في باب الصفات الفعلية، فإن باب الصفات الفعلية من حيث النوع والجنس باب واجب، فإنه يمتنع أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى معطل عن الفعل، سواء كان هذا الفعل لازماً أو متعدياً، فإن هذه الأفعال واجبة، وهي من صفات كماله الواجب.

اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة

اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة قال المصنف رحمه الله: [وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به المخالف، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى]. قوله: (ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته النصوص السمعيات والعقليات): وذلك لأن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن التشبيه معلوم بالشرع ومعلوم بالعقل، ولذلك فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذا حكم شرعي، وهو أيضاً حكم عقلي كقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وذلك لأنه منزه عن التشبيه؛ وإن كان قد قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] فإن المثل الأعلى ليس هو الأمثال التي نهى سبحانه وتعالى العباد أن يضربوها في حقه.

الاشتراك الذي نفته الأدلة بين الخالق والمخلوق من الأسماء والصفات

الاشتراك الذي نفته الأدلة بين الخالق والمخلوق من الأسماء والصفات وقوله: (وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق): فقد نفت النصوص الشرعية وكذلك القواعد العقلية ما يتعلق بباب الخصائص، فإن كل ما اختص بالمخلوق، أو جاز للمخلوق؛ امتنع في حق الخالق، وكل ما وجب لله سبحانه وتعالى، أو حصله فعلاً من أفعاله المتعلقة بإرادته ومشيئته؛ امتنع أن يكون المخلوق متصفاً بهذه الصفة أو بهذا الفعل، أي: متصفاً بماهيتها، لا أن يكون مشاركاً في اسمها، فإن الاشتراك في الاسم هو اشتراك لفظي حرفي، وكذلك الاشتراك في المسمى المعنوي الكلي هو اشتراك ذهني، وأما الخصائص: فهي المضافات التي تخص بمعين، فإن هذا هو الذي يمتنع في هذا الباب. قال المصنف رحمه الله: [وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال، الذين يظنون أن كل معنى سماه مسمٍ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء وينفر عنها بعض الناس، ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل. وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والضلالة]. وهذه سفسطة في العقليات، كما قال المصنف سابقاً أنهم سموا باب الإثبات تجسيماً، وهذا عنه جوابات وعليه سؤالات، وهذه طريقة حسنة في المناظرات: فإذا كنت مناظراً في مسألة وأورد عليك المخالف إيراداً، سواء كان اعتراضاً أو غيره، فإن ثمة طريقين في الرد عليه: الأولى: أن يقال: الجواب عن هذا الإيراد كذا وكذا. الثانية: هي فرض سؤالات على هذا الإيراد، وهذه الطريقة -في الغالب- أوسع في الذهن من طريقة الجواب، فإن بعض الناس قد يورَد عليه إيراد ولا يستطيع أن يجيب عنه، لكنه يستطيع أن يورد عليه سؤالاً، فإذا قالوا مثلاً: إن إثبات الاشتراك في الاسم المطلق هو التشبيه الذي نفته النصوص .. فإن هذا عنه جواب فيما تقدم وما سيأتي، فإن تعذر الجواب على بعض الناس، أو لم يقرب من ذهنه، أمكنه أن يستعمل السؤال على المناظر له، فيقول مثلاً: وما هو المخرج من هذا التشبيه والتجسيم؟ وكيف السلامة من ذلك؟ وكيف يكون التنزيه لله سبحانه وتعالى والتحقيق لكماله؟ فإن قال: يكون ذلك بنفي الصفات، قيل: فهذا يمكن أن نسميه تشبيهاً بالجمادات، فإن قال بعدم قبوله مطلقاً، قيل: فيمكن أن يقول قائل: إن هذا تشبيه بالمعدومات .. وهلم جرا من هذا التسلسل.

تسمية الحق بغير اسمه طريقة الملاحدة المفسدين

تسمية الحق بغير اسمه طريقة الملاحدة المفسدين وقوله رحمه الله: [وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنىً سماه مسمٍ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس؛ ليكذب الناسُ بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والفساد]: وهذا من أخلاق بعض الأمم المنحرفة عن كتابها، وقد ذكر الله تعالى عن قوم من أهل الكتاب أنهم يسمون بعض الحقائق من الحق بغير أسمائها -سواء كان هذا في باب المسائل العلمية، أو في باب العمليات والشرائع- فيكون هذا الاسم المخترع إما أن يتضمن تسويغاً لممنوع في الشريعة، وإما أن يكون تنفيراً عن أمر مشروع. وقد دخل هذا الأمر على طوائف من هذه الأمة، وقد يبتلى به بعض الشباب أحياناً، فتجدهم -مثلاً- إذا رأوا عالماً من العلماء يستعمل الحكمة، سموا هذا الحكمة التي يستعملها من باب الضعف، أو من باب المداهنة، أو من باب المماراة، وما إلى ذلك. فتسمى الأمور -إما من باب الخفض أو من باب الرفع- تسمى بغير أسمائها، وهذا الأمر لا يأتي إلا من قلة العلم، ولا يستعمل مثل هذه الطرق إلا من قل علمه وقل دينه؛ لأن هذه الطرق هي التي تعوضه عن هذا النقص في أمانته وعدله، وفي علمه وإدراكه.

شبهة التركيب

شبهة التركيب قال المصنف رحمه الله: [وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع]. هذه هي شبة التركيب، وقد سبق أن أشرت إلى أن أصول الأدلة الكلية عند هؤلاء النفاة فيما زعموه من العقل هي: دليل الأعراض، ودليل التركيب، ودليل التخصيص، أما دليل التخصيص فهو دليل مختصر لم يستعمله إلا قوم من المتأخرين، والمدار في الجملة على دليل التركيب ودليل الأعراض، والغالب على المتفلسفة المصرحين بالفلسفة هو التكلم بدليل التركيب، والغالب على المتكلمين التكلم بدليل الأعراض. وهذان الدليلان: وإن كان ثمة فرقاً بينهما إلا أن بينهما قدراً من الاشتراك، ولا سيما من حيث النتائج، فإن حاصل دليل الأعرض: أن نفاة الصفات من المتكلمين قالوا: إن هذه الصفات كالعلم ونحوها أعراض، وإن العرض لا يقوم إلا بجسم، فيلزم من إثبات الصفات التشبيه، ومن هنا نفوا الصفات. وهذه ليست حقيقة لغوية ولا حقيقة عقلية، إنما هي حقيقة فلسفية، اصطلاح فلسفي يتضمن معنىً فلسفياً، والمتكلمون الذين استعملوا هذا انقسموا إلى فريقين: فجمهورهم قالوا: لا نثبت الصفات حتى لا نقع في التجسيم، ومن هنا نفت المعتزلة قيام الصفات بالذات حتى لا يقعوا في التجسيم. ولما جاء متكلمة الصفاتية - ابن كلاب، وأبو منصور الماتريدي، وأبو الحسن الأشعري - استعملوا هذا الدليل -الذي هو دليل الأعراض- مع أن ابن كلاب وأمثاله يثبتون الحياة، والعلم، والسمع، والبصر؛ بل إن ابن كلاب يثبت الغضب والرضا، ولكنه يجعله واحداً، والأشعري يتأوله على الإرادة، وهذا من الفروق بين ابن كلاب والأشعري. فالمقصود: أن هؤلاء المنتسبين للسنة والجماعة من المتكلمين أثبتوا قدراً من الصفات، مع أنهم يعتمدون في بناء هذه الطريقة على دليل الأعراض، لكنهم فسروه بتفسير آخر، فقالوا: إن العرض ليس هو الصفة مطلقاً؛ بل إن العرض -الذي يقوم بالأجسام، وإذا تحقق في شيء كان هذا الشيء جسماً- هو ما يعرض ويزول، ولا يبقى زمانين. ومن هنا تأول هؤلاء المتكلمون من الصفاتية ما يسمى بصفات الأفعال التي يسميها هؤلاء: حلول الحوادث، فتأولوا مسألة النزول، والمجيء، والإتيان؛ لأن هذه عندهم هي الأعراض. أما الحياة والعلم ونحوها فقالوا: لا نسمي الحياة والعلم عرضاً؛ لأن العرض هو ما يعرض ويزول، والعلم قائم لازم، بخلاف النزول فإنه يعرض ويزول. وهذا -كما هو معلوم- من باب التحكم، وهناك قوم آخرون من المتكلمين، كـ محمد بن كرام السجستاني، يؤمن بدليل الأعراض، ويؤمن بأن الأعراض على معنى المعتزلة أنها هي الصفات، ولكنه صار أمام أحد نتيجتين: إما أن ينفي الصفات حتى يسلم من مسألة التجسيم، وإما أن يقر بالصفات، وعلى فهمه وإدراكه وظنه سوف يقر بالتجسيم، فاختار ابن كرام الخيار الثاني، وقال: نثبت الصفات ونقول: إن الله جسم، ولكنه ليس كالأجسام .. تعالى الله عن هذه الإطلاقات التي لم ينزل الله بها من سلطان! إذاً: مسألة الأعراض هي في الغالب من استعمال المتكلمين على هذا الوجه، فبعضهم التزم نتيجتها وأقر بها، وبعضهم نفى الصفات حتى لا يقع في نتيجتها وهي التجسيم. ثم يأتي بعد ذلك دليل التركيب، وكأن الأمر تسلسل في النتيجة، فإذا قال القائل: إن الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، فقال قائل -كما قاله ابن كرام -: إن المخرج أن نقر بالتجسيم، مع القول بأنه جسم لا كالأجسام، فإن أهل التركيب -أي: الذين يقررون مسألة التركيب- يقولون: إن الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، ولا يسوغ لك أن تقول: إنه جسم؛ لأن الأجسام مركبة، فهل تلتزم أن تقول -أي: يا من تقر بالتجسيم-: إنه مركب؟ سيكون الجواب عندهم: لا .. قالوا: لأن المركب لا يكون إلا ممكناً، والممكن ليس هو واجب الوجود. إذاً: مسألة التجسيم التزمها قوم، وهم الكرامية ومن قبلهم من المجسمة الذين هم أشد التزاماً لها. لكن مسألة التركيب إذا قيل: إن الجسم مركب، والمركب ممكن، فلا يمكن لأحد أن يقول بالتزام الإمكان. فهذه هي شبهة التركيب، وهي تنتهي إلى قدر مشترك مع شبهة الأعراض. وهذا كله سفسطة، فإن هذه المقدمات ليست مقدمات معلومة لا بالشرع، ولا بالحقائق العقلية المبنية على الألسنة الآدمية، سواء العرب أو غير العرب، ولا بالحقائق العقلية المجردة.

الرد على شبهة التركيب

الرد على شبهة التركيب قال المصنف رحمه الله: [قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً]. هذا هو تعبير المتفلسفة كـ ابن سينا وغيره، فإنه يقول عن واجب الوجود -كما في كتبه-: إن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول إلخ. وقوله: (أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً): أي: أنه يثبت جملة من التعددية في المعنى، فإنه يقول: عاقل، وعاشق، ومبدأ، وعالم بعلم كلي وما إلى ذلك، فهذه الحقائق العامة التي يثبتها وهي متعددة، يمكن أن ينازع فيها فيما هو من قيام الصفات بالذات، كقيام صفة العلم والسمع والبصر ونحو ذلك.

اتصاف الذات بالصفات اللازمة هو توحيد وليس تركيبا ممتنعا

اتصاف الذات بالصفات اللازمة هو توحيد وليس تركيباً ممتنعاً قال المصنف رحمه الله: [فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً. قيل لهم: اتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيباً ممتنعاً، وذلك أنه من المعلوم بالصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً]. وهذا من البدهيات: أن العلم ليس هو القدرة، وأن الذات ليست هي نفس العلم والقدرة. قال رحمه الله: [فمن جوز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف، فهو من أعظم الناس سفسطة]. أي: من جوز أن تكون صفة القدرة هي صفة العلم، أو أن تكون الصفة هي الموصوف، كأن يكون العلم هو العالم، فإن هذا سفسطة في العقليات، وقد خالف أوائل العقول والفطر.

إلزام القائلين بالتركيب بأن يكون الوجود واحدا بالعين

إلزام القائلين بالتركيب بأن يكون الوجود واحداً بالعين قال المصنف رحمه الله: [ثم إنه متناقض، فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع]. فإذا فرض أن الوجود واحد بالعين لا بالنوع، فإنه يمتنع فيه تعدد الحقائق، ومعنى ذلك: أن العقليات في سائر مواردها تكون ساقطةً، وهذا إفساد مطلق للعقل، وهذا المذهب -وهو أن الوجود واحد بالعين- أشد الدرجات امتناعاً، ولا أحد يلتزم به، حتى أهل وحدة الوجود، فإن مذهبهم درجة فوق هذه الدرجة من الإمكان، ولم يلتزم به حتى النظار من المتفلسفة الأوائل؛ لأن هذا المذهب يتعذر ويمتنع أن يفرض بأدنى طرق العقل، فهو مذهب تام الانغلاق، ويستلزم إسقاط الكليات العقلية فضلاً عن مفصلاتها، بمعنى: أنه هدم مطلق للعقل. فما دام أنه كذلك، ولا يقول به أحد، فلماذا استعمله المصنف هنا؟ استعمله من باب أنه لازم لهؤلاء، فإنه يقول: إذا قلتم: إن تعدد الصفات يكون تركيباً، فما هو المخرج من ذلك؟ يقول المصنف: إنه ليس هناك مخرج ممكن إلا أن يكون الوجود واحداً بالعين. بمعنى: أنهم إذا قالوا: إن العلم والسمع والبصر تستلزم التركيب، فالمخرج يكون بالنفي، فيلزم من ذلك أنه ما من معنىً يفرض إلا ويرد عليه هذا الإشكال، حتى المعاني التي يفرضونها هم بفلسفتهم، وهذا لا مخرج منه إلا أن يقولوا: العلم عين العالم، والقدرة عين العلم ونحو ذلك، فيجعلون الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف. ولا يمكن عقلاً أن تكون الصفة هي الأخرى، أو الصفة هي الموصوف، إلا إذا جوز العقل أن الوجود واحد بالعين .. وهذا لا يمكن فرضه في العقل، فضلاً عن أن يكون متصوراً في العقل؛ بل إنه من أعظم الممتنعات؛ أن يكون الوجود واحداً بالعين، فضلاً عن أن يكون مما يمكن للعقل أن يتصوره. قال المصنف رحمه الله: [وحينئذ فإذا كان الوجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم]. قد يقول قائل: لماذا قال المصنف: إن كون الوجود واحداً بالعين من أشد الممتنعات عقلاً؟ والجواب: لأنه يقود إلى حقائق ظاهرة الامتناع، من أوائلها: أنه لا فرق بين الوجود الممكن والوجود الواجب، ولذلك قال المصنف: (وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود المخلوق هو وجود الخالق بالعين)؛ ولذلك فإن القائلين بوحدة الوجود يخرجون من هذا بمخرج لا ينجيهم، لكنهم لا يلتزمون إلى هذه الدرجة أن الوجود واحد بالعين. بل إن هذا المذهب يستلزم تعطيل الوجود، فإن المصنف يقول: إن هذا يستلزم أن يكون الوجود واحداً، لا فرق بين وجود الممكن ووجود الواجب. ويقال بعد ذلك: بل يلزم منه ما هو فوق ذلك، وهو أنه يقود إلى تعطيل الوجود مطلقاً؛ لأنه ما من معنىً يعين به الوجود بالعين إلا ويمكن أن يعين يغيره، وهذا الغير متسلسل إلى غير نهاية؛ لأنه ما من معنىً تفرضه أنه هو الموجود بالعين، إلا ويمكن أن يفرض غيره، وهذا يستلزم تعطيل الوجود. إذاً: هذه النتيجة إن التزموها؛ لزم من ذلك ألا يقع تفريق بين وجود الخالق ووجود المخلوق؛ بل لزم من ذلك التعطيل للوجود نفسه.

لوازم فاسدة تلزم هذا المذهب

لوازم فاسدة تلزم هذا المذهب قال المصنف رحمه الله: [وإذا قدر هذا، كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير]. إذا قدر هذا؛ لزم منه أن يكون الوجود الواجب موصوفاً بالنقائص؛ لأنه موصوف بصفات الممكنات. وقوله: (كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد): أي: طردوا هذا الأصل الفاسد على منهج آخر، فهناك فرق بين هذه الطريقة التي يقول المصنف: إنه لا يلتزمها هؤلاء، لكنها لازمة لمذهبهم، فأراد باستعمالها الإبطال، وليس أنهم يقولون بها. ومن المعلوم أن الأئمة، وبعض المتكلمين الذين يردون على غيرهم أو على الفلاسفة، يستعملون الحقائق من باب اللوازم على الأقوال، وليس لأن المخالف أو المناظر يقول بها، ومن المعلوم أن لازم المذهب ليس مذهباً.

أصل مقالة وحدة الوجود

أصل مقالة وحدة الوجود مقالة وحدة الوجود مقالة انتحلها غلاة المتفلسفة الذين انتسبوا إلى التصوف، وقد نقلوا هذه المسألة نقلاً، وقد سبق أن المذهب الذي نظره ابن سينا في الصفات ينتهي إلى الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أما هؤلاء المتفلسفة المنتسبون للتصوف والباطنية، فقد انتهى مذهبهم إلى الوجود المطلق لا بشرط، وهذا هو الذي ذكره ابن عربي في الفتوحات المكية، وفي فصوص الحكم، وذكره كذلك العفيف التلمساني، فقد نظّروه تنظيراً فلسفياً إشراقياً على معالم وكلمات معروفة عندهم. وقد تكلم المصنف رحمه الله عن هذا المذهب بكلام كثير في بغية المرتاد، وفي المجلد الثاني من فتاواه.

إلزام نفاة الصفات بإثبات موجود متصف بصفات تميزه عن غيره

إلزام نفاة الصفات بإثبات موجود متصف بصفات تميزه عن غيره قال المصنف رحمه الله: [وهذا بابٌ مطرد، فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً فراراً مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه]. بل يلزمه شر منه؛ لأنه يفر من تشبيهه بالموجود الحي فيشبهه بالموجود غير الحي، ومعلوم أن الموجود الحي أكمل من غير الحي، ويفر من تشبيهه بالموجود فيشبهه بالمعدوم، ولا شك أن الموجود أكمل من المعدوم، ويفر من تشبيهه بالمعدوم الممكن فيشبهه بالمعدوم الممتنع .. وهكذا. قال رحمه الله: [فلا بد له في آخر الأمر من أن يُثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه]. هذا هو الذي أراد أن يصل إليه المصنف، بمعنى: أنه لا يمكن أن يقدر في العقل إلا أحد حقيقتين: إما إثبات واجب الوجود المتصف بصفات الكمال، المنزه عن صفات النقص. وإما النفي لواجب الوجود. أما إثبات وجوده واجباً غنياً عما سواه، مع نفي الصفات عنه، فهذا من باب التناقض؛ لأن معنى كونه واجباً غنياً عما سواه هو: أن باب الصفات متضمن في هذا الوجوب، فإن من وجوبه سبحانه وتعالى ومن غناه عما سواه: أنه متصف بصفات الكمال، والأفعال اللائقة به وحده سبحانه وتعالى، فكونه سبحانه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء، هو من معاني أنه غني عما سواه، فهؤلاء النفاة إذا قيل لهم: ألستم تؤمنون بأن الله هو واجب الوجود؟ قالوا: بلى. ألستم تؤمنون بأنه غني عما سواه؟ قالوا: بلى. وقوله: (واجب الوجود) أي: أن من معاني وجوب وجوده اتصافه بصفات الكمال، ومن معاني وجوب وجوده وأنه غني عما سواه: اتصافه بهذه الأفعال .. وهكذا. فيقول المصنف: إن من يقول: إنه واجب الوجود، غني عما سواه، ثم ينفي الصفات أو الأفعال، فهذا متناقض، فتكون النتيجة أن العقل لا يمكن أن يقدر إلا أحد أمرين: الأمر الأول: أن يقال: إنه سبحانه وتعالى هو الأول الآخر، الظاهر الباطن، واجب الوجود، الغني عما سواه، المتصف بصفات الكمال، وأفعال الكمال، الذي ليس كمثله شيء، لا شيء مخلوق قائم موجود، ولا شيء يقدر وجوده من المخلوقات، ولا شيء يمكن وجوده؛ بل ولا شيء من الموجودات يمكن تخيله أو تصوره أو حتى فرضه في الذهن؛ فإن كلمة (ليس كمثله شيء) تعم كل شيء موجود مشاهد، وكل شيء موجود ولكنه ليس مشاهداً، وكل شيء يمكن وجوده، وكل شيء يتخيل وجوده، ولذلك لا يمكن للعباد أن يعلموا أو أن يحيطوا بكيفيات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وصفاته، قال الإمام مالك وغيره من الأئمة: "الكيف غير معقول"، أي: أن العقل يمتنع عليه إدراكه؛ لأن الله تعالى وتقدس سبحانه وتعالى لا يُحاط به علماً. الأمر الثاني: أن ينفي وجود الله سبحانه وتعالى، تبعاً لنفي الصفات. إذاً: لا يمكن للعقل أن يقدر إلا أحد أمرين: إما الإثبات وإما النفي، وكأن هذا هو ما أشار إليه المصنف عندما قال سابقاً: (إن باب الصفات هو من باب الخبر)، والخبر إما أن يكون حقيقة خبرية متصلة غير منقوصة، وإما أن يكون نفياً .. إما أن تثبت بالتصديق، وإما تنفي بالتكذيب.

الاشتراك في المسمى الكلي الذهني

الاشتراك في المسمى الكلي الذهني قال المصنف رحمه الله: [فيقال له: وهكذا القول في جميع الصفات، وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات]. لقد سبق أن علق المصنف على هذا الأمر في أكثر من موضع، وهو ما يقال عنه: الاشتراك في المسمى الكلي الذهني، وهنا يثبت المصنف هذا الأمر، والأئمة يثبتونه كذلك، وإثباته لا يحتاج إلى أن يُصرح به فلان وفلان؛ لأنه ضرورة عقلية. وهذا الكلي الذهني يقول عنه المصنف: ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص؛ بل هذا التواطؤ الكلي الذهني هو قدر عام غير مخصص يحمله الذهن، به يُفقه ويُفهم الخطاب. مثلاً: قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] عندما يقرؤه من يعرف اللسان العربي سوف يفهم من كلمة (التكليم) معنى، هذا المعنى يقول المصنف: إنه يتحصل إدراكه وفقهه من هذا الكلي الذهني، وإذا عدم هذا الكلي الذهني امتنع فقه الخطاب. وقوله: (فلا بد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات): ليتضح المعنى نقول: تواطؤاً كلياً ذهنياً، أما التواطؤ المخصص، أو التواطؤ الإضافي، فإنه هو التشبيه الذي نفته النصوص، أما من يقول من أهل الحد والمنطق: إنه إذا أُضيف أو خصص خرج عن مسألة التواطؤ، فإن هذه اصطلاحات، وليس المهم هنا أن نسير على المصطلح بدقته، لكن علينا أن نسير على المعنى؛ لأنه قد يشكل على البعض ممن لا يعرف حدود هذا المنطق، أو هذا العلم، أو هذا الاصطلاح، أن هذا التواطؤ قد يدخل في الإضافات أو لا يدخل، وهذه مسألة اصطلاحية، لكن نقول: إن باب المخصص وباب المضاف هو التشبيه الذي نفته النصوص، فلابد إذاً أن تتواطأ تواطؤاً كلياً ذهنياً. قال رحمه الله: [ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال]. إن ما اختص الله به أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، فضلاً عن الموجود، فالله تعالى منزه عن مشابهة الموجودات التي نشاهدها، أو الموجودات التي أخبرنا بها، فإن الله أخبرنا أن في ملكوت السماوات والأرض من الخلق ما هو أكبر من خلق الناس، فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل من ذلك كله، ولا يمكن أن يكون مشابهاً لأي مخلوق، سواء كان هذا المخلوق مشاهداً للعباد، أو كان غائباً عنهم متصفاً بحقائق غائبة عنهم، أو كان مما يفرضه أو يتصوره الذهن. فإن قال قائل: هل يمكن للذهن أن يفرض صفة واحدة لواجب الوجود؟ فالجواب: أن الذهن يمتنع عليه أن يتصور صفةً، أو أن يتخيل كيفية صفة، وأما أنه يفهم المعنى، فلا شك أن المعنى معقول، كما قال الأئمة: الاستواء معلوم، أي: معلوم المعنى، لكن إذا تكلمنا في الكيفيات فإن العقل يمتنع عليه أن يتصور كيفية صفة من الصفات، فضلاً عن أن يتصور كيفية الموصوف سبحانه وتعالى الذي لا يُحاط به علماً.

شرح القواعد السبع من التدمرية [11]

شرح القواعد السبع من التدمرية [11] الأصل الثاني في الرد على نفاة الصفات: هو أن القول في الصفات كالقول في الذات، فما دام أن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتاً حقيقية لا تماثل ذوات المخلوقين، فيلزمهم أن يثبتوا له صفات حقيقية لا تماثل صفات المخلوقين، فمن سأل عن كيفية صفة. قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية صفته؛ إذ أن العلم بكيفية الصفات فرع عن العلم بكيفية الذات.

الأصل الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات

الأصل الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات قال المصنف رحمه الله: [وهذا يتبين بالأصل الثاني: وهو أن يقال القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات]. هذا هو الأصل الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله في الرد على نفاة الصفات، ومجمله: أن من بدهيات العقول عند المسلمين أجمعين؛ بل وعند غير المسلمين ممن يقرون بالرب سبحانه وتعالى: أن الله سبحانه وتعالى له ذات، وأن ذاته سبحانه وتعالى منزهة عن مشابهة الذوات، فيقول المصنف: فمن أثبت ذاتاً لزمه أن يثبت الصفات، ومن أثبت ذاتاً من غير تشبيه لزمه أن يثبت الصفات من غير تشبيه، وأما أن يقال: إن ثمة ذاتاً، لكنها مجردة عن الصفات والفعل، فهذا من باب التناقض، وهو بمعنى قولنا: إن هذا الشيء موجودٌ ومعدوم. فيقول: ما دام أنكم تؤمنون بأن لله تعالى ذاتاً، وأنه سبحانه واجب الوجود القائم بنفسه الغني عما سواه ما دام أنكم تؤمنون بهذه الحقيقة في مقام ذاته سبحانه وتعالى، فهذه الحقيقة متضمنة لإثبات الصفات، ولهذا لا يمكن أن يُقال: إن صفاته سبحانه وتعالى هي غيره؛ فإن هذا الاستعمال لما استعمله من استعمله حكم الأئمة بأنه بدعة، والسؤال الذي يقول: هل الصفات غير الذات أم ليست غير الذات؟ فمنهم من يقول: هي غير الذات، ومنهم من يقول: ليست غير الذات، هذا كله من الكلام المجمل المحدث الذي يجب الإعراض عنه؛ بل يقال: إن الله موصوف بصفات الكمال، وهذا من ضرورات العقل. ولذلك فإنه إذا قيل: إن ثمة ممكناً قائماً حياً؛ لزم أن يكون متصفاً بصفات وأفعال تليق به، وإذا جُرد عن صفاته وأفعاله اللائقة به امتنع وجوده؛ لأن من صفاته الحياة، فإذا جرد عن الحياة أصبح ميتاً عدماً، فكذلك ما يتعلق بالذات، وهذا في حق المخلوق، فالخالق من باب أولى. وقد انتقل المصنف من مسألة الذات إلى مسألة الصفات لأن مسألة الذات مسألة لا خلاف فيها؛ فإن جميع المسلمين، بل وغير المسلمين المقرين بربوبية الله يقولون بحقيقة عامة، وهي: (أن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، غني عما سواه)، فيقول المصنف: إن هذا المعنى في إثبات الذات يتضمن ضرورة عقلية إثبات الصفة والفعل، أما إذا قيل: لكنه ليس له صفة ولا فعل، فأين وجوب وجوده إذاً؟! وأين أنه غني عما سواه؟! وقوله: (فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذاوت، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات): لأن تجرد الذات عن الصفات تجرد ممتنع في العقل، وإن كان ابن سينا استطال على الحقائق العقلية، أي: ظلمها وكذب عليها، وأطال في السفسطة لما قرر مسألة: أن واجب الوجود يمكن أن تنفك ذاته عن الصفات؛ وذلك لأن ابن سينا ينطلق من أساسيات مذهب أرسطو، ولا نقول بالضرورة: إنه يلتزم كل مذهب أرسطو، لكنه لا شك ينطلق من أساسيات مذهبه. وأرسطو طاليس كان يثبت ما يسميه بالعلة، والعلة إما أن تكون علة غائية أو علة فاعلية، وأرسطو يثبت العلة الغائية ويجردها عن الصفة والفعل، ولذلك لم يجعل الإله -تعالى الله عن ذلك- علة فاعلية؛ لأن أرسطو يدرك أن ثمة تناقضاً بين التجريد عن الصفة والفعل، وبين إثبات الفعل؛ ولذلك قال: إنه علة غائية، ومعنى العلة الغائية: أن الأشياء تنتهي إليها، فإن الأشياء تنقسم إلى: علة ومعلول، والأشياء تنتهي إلى هذه العلة الغائية. لكن إذا قيل لـ أرسطو: هل العلة الأولى أو العلة الغائية عندك هو الخالق؟ فإنه سيقول: لا، ولكنه فاض عنه فيضاً، أو صدر عنه، كما شرحه ابن سينا وأتمه بنظرية الصدور، ونظرية الفيض، والعقول العشرة، والنفوس التسعة، وغير ذلك من السفسطات العقلية. إذاً: هذا المذهب الذي يجرده أرسطو عن الصفة والفعل، هو ينطلق من نظرية لا تؤمن بالرب الخالق للعالم، وإنما يثبت رباً غائياً، أي: تنتهي إليه الأشياء فقط، دون أن يكون له فعل، أو اختصاص، أو إرادة، أو ملكوت، أو ما إلى ذلك، ولا شك أن هذا ليس إثباتاً للربوبية؛ لا عند المسلمين ولا عند المشركين؛ لأن المشركين يقولون كما قال الله تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وهذا من بداهة العقول والفطر، فالمقصود: أن ثمة تناقضاً بين مسألة التجريد، وبين مسألة إثبات الفاعل الرب الخالق.

جواب من سأل عن كيفية الاستواء على العرش

جواب من سأل عن كيفية الاستواء على العرش قال المصنف رحمه الله: [فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه]. قوله: (الاستواء معلوم): أي: معلوم في الكتاب والسنة؛ فإن القرآن الكريم، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قد نطقا بالاستواء، ومعنى ذلك: أنه معلوم اللفظ ومعلوم المعنى، فالاستواء معلوم بالشرع، والشارع -وهو القرآن الكريم وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بألفاظ مجردة عن المعاني؛ فإن التكلم بكلام مجرد عن المعنى ممتنع؛ خاصة إذا كان الإنسان يتكلم بكلام منتظم، ويقول: إنه ليس له معنى، فإن هذا ممتنع، ولذلك فإن من يؤمن بالآية يلزمه أن يؤمن بمعناها، أو يلزمه أن يؤمن بمعنى فيها، أياً كان هذا المعنى، وسواء أصاب في تفسيرها أو أخطأ. أما أن يقال: إن الآية موجودة، والمعنى غير موجود، فإن هذا لا يكون، إلا أن يكون اللسان ليس لساناً مناسباً لهذا السامع أو لهذا المتكلم. إذاً: قوله: (الاستواء معلوم) أي: معلوم المعنى، فإن معنى (استوى على العرش)، أي: علا على العرش، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: الرحمن علا على عرشه واستوى استواءً وعلواً يليق بجلاله، لا كما يقول المؤولة: أنه استولى، ولا كما يقول المفوضة: أنه استوى على العرش، ولا نعلم معنى ذلك .. كيف لا يعلمون والله تعالى قد نطق به في كتابه، وقد قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]! وهذا من تدبر القرآن. وقد وقع في بعض كلام أهل العلم في تفسير الاستواء بالجلوس، وهذا اللفظ غلط، وإن قال به من قال، ولا يعتبر به، ولا يُقال: إنه مذهب للسلف، فإن مذهب السلف تراعى فيه أكثر من جهة: الجهة الأولى: أن الكلمات القرآنية والنبوية دائماً أشرف وأصدق وأتم وأبين من الكلمات التي تكلم بها من تكلم بعدهم، حتى ولو كان المتكلم إماماً عالماً؛ ومن الكلمات القرآنية: الاستواء، والعلو، والفوقية إلخ. الجهة الثانية: أن المذهب لا يرد فيه تفسيران للسلف إلا إذا اضطرب عندهم، أما إذا ورد أن بعضهم قال: (استوى على العرش) أي: جلس على العرش، فإن التعبير لا يكون مناسباً؛ لأن كلمة (جلس) في لسان العرب ليست مرادفة في معناها ومرادها لكلمة (استوى)؛ بل فيها قدر من الزيادة، وقدر من التفصيل الذي لم تنطق به الكلمة القرآنية. وقد يقصد بعض العلماء الذين ينطقون بمثل هذا أحياناً درء التأويل، أي: أنهم يريدون أن يبينوا أننا نحقق الإثبات، فيقعون في قدر من الزيادة؛ إما في اللفظ، وإما في المعنى. وقد نبه ابن تيمية على هذا الأمر، وهذا يقع في هذا العصر أحياناً عند بعض الناس، سواء في مسائل الصفات أو في غيرها، يقول ابن تيمية: "إن بعض المنتسبين للسنة والجماعة، المعظمين لطريق الأئمة، ربما زادوا إما في الحروف وإما في المعاني في مقام الإثبات، من باب التحقيق ودرء التأويل"، وضرب مثلاً لذلك بـ أبي حامد من الحنابلة، يقول: "إنه شديد في الإثبات"، فينبغي لطالب العلم في تقريره للسنة أن يبتعد عن الزيادة، سواء كانت الزيادة في الكلمات أو في المعاني، إلا أن تكون كلمة اقتضاها السياق، وقد سبق معنا أن الكلمات منها ما يجب استعماله، ومنها ما يسوغ استعماله، ومنها ما يرخص استعماله لداعٍ دعا إلى ذلك، ومنها ما يمنع استعماله. والفقه أن يستعمل الإنسان الكلمات الشرعية، ويستعمل في الدرجة الثانية ما يحتاج العامة فيه إلى البيان والإيضاح. وقوله: (والكيف مجهول) أي: يمتنع العلم به، وهذا نفي لإمكان العلم به، وليس نفياً للكيفية نفسها، فإن الصفات لها كيفية، فنزول الله واستواؤه له كيفية، ولكنها مجهولة. وقوله: (والإيمان به واجب)؛ لأنه خبر من أخبار الله في كتابه، فيجب الإيمان به. وقوله: (والسؤال عنه بدعة) أي: عن الكيفية؛ لأنه قول على الله، وسؤال في حق الله بغير علم.

جواب من سأل عن كيفية نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا

جواب من سأل عن كيفية نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا قال المصنف رحمه الله: [وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟!]. مقصود المصنف: أن من كانت حجته على نفي نزول الرب أن يورد هذا السؤال: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا؟ فإذا لم يُجب بمفصل من العلم وبتقرير يبين كيفية النزول قال بنفيه، يقول: فهذا انطلق من فرضية عقلية خاطئة، وهي أن ثمة تلازماً بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، وهذا غلط عقلي؛ فإن العلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية عقلاً؛ لأنه لو كان العلم بالشيء يستلزم العلم بكيفيته؛ للزم أن يقال له: إن الله موجود، فسيقول: نعم. فكيف وجود الله؟ والله له ذات فكيف هذه الذات؟ إذاً: ليس ثمة تلازم بين العلم بالمعنى وبين العلم بالكيفية؛ بل إن ثمة انفكاكاً بين العلم بالمعنى وبين العلم بالكيفية، فإنه لا يلزم من علمنا بمعنى نزوله واستوائه أن نعلم الكيفية، كما أنه لا يلزم من علمنا بذاته أن نعلم كيفية ذاته سبحانه وتعالى. والعلم بالكيفيات -أي: بكيفيات الصفات- إذا تسلسلت انتهت إلى نتيجة وهي: العلم بكيفية الذات، وهذا ممتنع، فكما أن العلم بكيفية الذات ممتنع؛ فإن العلم بكيفية الصفات ممتنع؛ لأن القول في الصفات فرع عن القول في الذات.

عود لمناقشة من يثبت بعض الصفات دون بعض

عود لمناقشة من يثبت بعض الصفات دون بعض قال المصنف رحمه الله: [وإذا كنت تقر بأن له ذاتاً حقيقةً ثابتة في نفس الأمر، مستوجبةً لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره، وكلامه، ونزوله، واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم. وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بالعقل، إذا أُلزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا، لم يجد بينهما فرقاً]. قوله: (لم يجد بينهما فرقاً): وذلك كما سبق فيمن يؤول صفة المحبة بالإرادة، فيقال له: ما الفرق بين إرادة الله وإرادة المخلوق؟ ولماذا أثبتَّ الإرادة ونفيت المحبة؟! وهكذا.

لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض قانون مستقيم

لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض قانون مستقيم قال رحمه الله: [ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي]. لا يوجد عندهم قانون مستقيم، ولذلك مثلاً الذين يثبتون سبع صفات فقط إذا قيل لهم: لماذا أثبتم الصفات السبع وحدها؟ فليس لديهم جواب صحيح، وغاية ما يقول قائلهم: إن هذه الصفات السبع دل عليها العقل، وقد سبق الجواب عن هذا. فيقول المصنف: ليس لهم قانون مستقيم فيما يثبتونه وفيما ينفونه، أي: أن كل ما أثبتوه يرد عليهم ما أورده في مقام النفي.

طريقة النفاة فيما لا يثبتونه من الصفات

طريقة النفاة فيما لا يثبتونه من الصفات وقوله: (الذين يوجبون فيما ينفونه إما التفويض، وإما التأويل): الطريقة التي سار عليها المتأخرون من متكلمة الصفاتية: أن ما لا يثبتونه من الصفات يجوزون فيه أحد الوجهين: إما التأويل، وإما التفويض، وهذا المنهج قد ذكره محمد بن عمر الرازي في كتبه وشرحه، فذكر أن النصوص التي ليست على ظاهرها -كما يقول- إما أن تؤول، وإما أن تفوض، قال: "والاشتغال بتأويلها ليس من باب الوجوب، بل هو من باب التبرع". أي: أنه يجوز عنده التأويل ويجوز التفويض.

معنى التفويض

معنى التفويض ومعنى التفويض: ترك المعنى دون تعليق، وهذا ممتنع، فإن العقل لا بد أن يقدر معنىً إذا سمع الكلام، فإن هناك تلقائية عقلية بين سماع الكلام وبين تقدير المعنى لذلك الكلام، فمثلاً: إذا قال رجل لقوم جالسين: قوموا. فلا يمكن لأحد منهم أن يقول: أنا قررت إرادياً وعقلياً أن لا أفهم هذا الكلام؛ لأن هناك تلقائية في الفهم. إذاً: مسألة التفويض مسألة ممتنعة، إلا أن يكون القارئ أو المستمع لا يفهم اللسان العربي، فهنا لا بأس أن يقول: أنا أعلم أن هذا قرآن، لكني لا أدري ما معناه؛ لأنه لا يفقه اللسان، أما أن يكون ممن يعرف اللسان العربي، فإنه لا بد أن يفهم المعنى بشكل تلقائي. ولذلك فإن المتكلمين الأوائل -كأئمة المعتزلة- لم يتخلصوا من هذا الإشكال بمسألة التفويض، مع أنها أسهل من التأويل؛ لأنهم يدركون أن مسألة التفويض مسألة ممتنعة في العقل، فلا يمكن أن تقرأ كلاماً فصيحاً بيناً وأنت على لسانه ثم تقول: إنه لم تتحرك إرادتك، أو أنه منعت إرادتك العقلية في المعاني أن تحدد أو تدرك معنىً .. هذا كله من الفرضيات الذهنية.

تناقض النفاة في الإثبات

تناقض النفاة في الإثبات قال المصنف رحمه الله: [وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنىً من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنىً آخر؛ لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب؛ كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط، ولو فسر ذلك بمفعولاته -وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنه يلزمه بذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل المعقول لا بد أن يقوم أولاً بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات]. مراد المصنف أنه إذا فسر النفاة ما ينفونه من الصفات بالمفعول، قيل لهم: والمفعول يستلزم فعلاً، ولذلك فإن هؤلاء الذين يفسرون هذا المقام بهذا التفسير، درج جمهورهم على عدم التفريق بين الفعل وبين المفعول، وهذه المسألة تكلم عنها الإمام البخاري رحمه الله؛ لأنها من المقدمات التي كان متقدمو المتكلمين يستعملونها في تنظير هذه المسائل في الصفات أو في مسائل القدر؛ ولذلك عني البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد) بتنظير هذه المسألة تنظيراً عقلياً، وهي مسألة: الفرق بين الفعل والمفعول، والفرق بين الخلق والمخلوق. وقوله: (فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات): أي: إن أثبتوه على ما هو معروف في الشاهد، فهذا من باب التشبيه، وإن تجردوا عن ذلك، فهذا الذي يلزم في سائر الصفات.

شرح القواعد السبع من التدمرية [12]

شرح القواعد السبع من التدمرية [12] هناك مثلان ذكرهما شيخ الإسلام في الرد على نفاة الصفات، وهما مثلان عقليان يقودان إلى حقيقة عقلية قطعية، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى، والمثل الأول: هو الجنة وما فيها من النعيم، فإنها تشترك مع بعض ما في الدنيا في الأسماء، من اللذة والنعيم ونحو ذلك، ومع ذلك لم يلزم من هذا الاشتراك مماثلة ما في الجنة لما في الدنيا من النعيم.

المثلان المضروبان في الرد على نفاة الصفات

المثلان المضروبان في الرد على نفاة الصفات

المثل الأول: الجنة

المثل الأول: الجنة قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات، من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماءً ولحماً وفاكهةً وحريراً وذهباً وفضةً وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء)، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا؛ إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بين واضح]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله الأصلين السابقين، انتقل إلى بيان المثلين المضروبين في الرد على نفاة الصفات، وهما مثلان عقليان يقودان إلى ضرورة عقلية قطعية، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. والمثل الأول هو: الجنة وما فيها من النعيم، فإنها تشترك مع بعض ما في الدنيا في الأسماء؛ من اللذة أو النعيم أو نحو ذلك، فحصل اشتراك في الاسم، وحصل اشتراك في المسمى الكلي الذهني، ولم يلزم من ذلك بعد الإضافة والتخصيص -أي: إذا قلت: خمر الدنيا وخمر الآخرة- لم يلزم أن تكون خمر الدنيا مماثلة أو على حقيقة وماهية خمر الآخرة، ولا الثانية كالأولى. وبهذا المثل يتبين أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، وهو بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل بين الخالق والمخلوق يكون ممتنعاً.

افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر

افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر قال المصنف رحمه الله: [ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق: فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وأن مباينة الله لخلقه أعظم]. وهؤلاء هم الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان، وهذا هو الذي عليه جمهور المسلمين، وهو الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع العلم أن الحقائق في اليوم الآخر تختلف عن الحقائق والصفات في الدنيا، فمن باب أولى أن الصفات في حقه تختلف عن صفات مخلوقاته. قال المصنف رحمه الله: [والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام: المعتزلة، ومن وافقهم]. علم الكلام منهج تندرج تحته مدارس عدة، ومن أخص مدارسه: المعتزلة، والماتريديه ونحوهم، والمتكلمون لم يشتغلوا بالتأويل في باب اليوم الآخر؛ بل يرون أن اليوم الآخر حق على حقيقته وظاهره ولا يحتاج إلى تأويل، فيقول المصنف: كما أنكم أقررتم باليوم الآخر، مع أن ثمة اشتراكاً ولم يلزم منه مطابقة، فيلزمكم أن تقروا بالصفات من باب أولى. قال المصنف رحمه الله: [والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية، والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر]. هؤلاء ينفون الأمرين جميعاً، وهذه طريقة ابن سينا ومن وافقه من المتفلسفة، ولذلك كتب الرسالة الأرحوية في تأويل المعاد، فإنه يؤويل المعاد تأويلاً روحانياً، ولا يقر بالنعيم ولا بالعذاب، وغيرها من الحقائق البدينة، فهو رجل يميل إلى تقرير مسألة الأرواح في هذا الباب، وأن باب اليوم الآخر باب روحاني وليس من باب الحقائق الجسدية أو الجسمانية المشاهدة على حقيقتها، كما قرر ذلك في الرسالة الأرحوية. وابن رشد يقارب بعض هذا المقام، وإن كان يتهيب من كثير من التصريح، لكنه يشارك في بعض هذه المادة.

تأويل الباطنية للأمر والنهي

تأويل الباطنية للأمر والنهي قال المصنف رحمه الله: [ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها، لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام شهر رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله]. هؤلاء هم الغلاة من الباطنية الذين يسقطون التشريع، فيزيدون على هذا بتأويل أو إسقاط الشرائع أيضاً، وهذا لا يسلكه إلا الغلاة من الباطنية.

حكم عوام الباطينة وغيرهم من الفرق الضالة

حكم عوام الباطينة وغيرهم من الفرق الضالة ومما ينبه إليه: أنه إذا وجد في كتب المقالات -كالملل والنحل للشهرستاني، أو الفصل لـ ابن حزم، أو المقالات للأشعري، أو حتى في كلام شيخ الإسلام رحمه الله وغيره- إذا وجد أن هذا يستعمله كذا وكذا من طوائف الباطنية، ووُجد أن بعض الناس في بعض البيئات يضافون إلى طائفة من هذه الطوائف؛ فلا يلزم أن هذا السواد من العامة يقرون بهذه الحقائق الخاصة من المذهب، أو أنهم عارفون أو مدركون أو آخذون بهذه الحقائق الخاصة من المذهب؛ وذلك لأن المذهب الباطني يقوم على مسألة: الخاصة والعامة، وأن الظاهر يعطى للخاصة، والباطن سرٌ مكتوم لا يصل إليه إلا المتدرج في التسلسل المعروف عندهم. وهذا يفيد في مسألة إطلاق الأحكام، فإذا نسب لطائفة أن لها حقائق معينة بعيدة عن الشريعة الإسلامية، فلا يلزم أن كل من انتسب إلى هذه الطائفة يدان بكل هذه الحقائق، مع أن مجرد انتسابه إلى هذه الطائفة، وتعظيمه لها ولشيوخها، يصيبه بقدر من البدعة والضلالة، وهذا لا جدال فيه، إنما الذي يراد تقييده: أن انتساب أحد إلى طائفة معينة قد يكون انتساباً من حيث اللفظ العام، ومن حيث الكليات العامة التي يتداولها عامتهم، ولا يلزم أن يكون ملتزماً بتلك الدقائق التي يرى أئمتهم كتمانها عن العامة، فإذا كانوا يقررون في كتبهم أنها سر مكتوم عن العامة، فلا يجوز أن يُحكم على العامة بها وهم لم يصرحوا بالتدين أو الأخذ بها. فهذا باب يجب فيه الإدراك؛ لأن بعض الناس قد يقول: إن عوام الطائفة الفلانية -مثلاً- كفار خارجون من الملة .. لماذا؟ قال: لأنهم من هذه الطائفة، وهذه الطائفة من عقائدها كذا وكذا. وهنا لا بد أن يتأكد هل هذه العقائد فعلاً موجودة عند العامة، أم أنها سطرت في كتب وأضيفت إلى قوم من غلاتهم أو قوم من خاصتهم؟ فإنه لا يحكم على معين بكفر إلا بعد أن يعلم أن هذا الكفر الذي نسب إلى طائفته موجود عنده، وهو عارف به، وإلا فقد يوجد عند بعض أئمتهم من الغلو ما لا يعرفه هؤلاء العامة، فلا يدان العامة بحكم هذا الرجل. قال المصنف رحمه الله: [وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم، رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات]. يبين المصنف رحمه الله أن الباطنية إذا وصل الرجل عندهم إلى مرحلة معينة، وصار من عارفيهم ومحققيهم، كشفوا له الباطن، وهذه إشارة من المصنف إلى أن هؤلاء لا يكشفون هذا الباطن في تفسيرهم للشرائع أو ما إلى ذلك للعامة، وعليه فلا يحكم على العامة بهذا الحكم من هذا الوجه، وإن كان لك أن تحكم على العامة بحكم أنهم ينتسبون لبدعة، وأنهم يقولون بكذا، فهذه أحكام أخرى. قال رحمه الله: [وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخلُ في بعض هذه المذاهب. وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى]. قوله: (وقد يوجد ...) أي: يوجد في بعض المتصوفة الغلاة قوم يميلون إلى بعض الباطنية. فمثلاً: ابن عربي، المعروف أنه صوفي، ويأتي في درجات الصوفية المتقدمة في الغلو، لكن هناك كثير من المسلمين يعظمون ابن عربي، سواء ممن تصوف على طريقته -طريقة وحدة الوجود- أو ممن كان متصوفاً وليس على طريقته، فهل يلزم أن من يعظم شأن ابن عربي، أو من يدافع عنه أو ينتصر له أو يثني عليه، هل يلزم بالضرورة أن يكون مداناً بالحقائق المفصلة التي يقول بها ابن عربي؟ الجواب: لا. فهذه مسائل لا بد من إدراكها، فمن يقول: أنا على طريقة ابن عربي، لكنه لا يعرف ما هي طريقة ابن عربي، فلا يلزم أن تقول: ما دام أنه ينتسب إلى ابن عربي إذاً يحكم عليه بحكمه، ولذلك فإن بعض أهل العلم الفضلاء ما تجرأ على الكلام في ابن عربي؛ لأنه كان مشتغلاً بعلم الحديث والرواية والرجال، ولما سئل عن ابن عربي رأى أن في كلامه بعض الرمز وبعض الإشارة التي لا يلزم الجزم بظاهرها؛ بل إن ابن تيمية رحمه الله ذكر في كلام له في فتاواه: أنه كان في أول طلبه وفي أول إقدامه وسلوكه قال: "كنت أجتمع أنا وإخوة لي نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكية، وكنا نرى في بعض كلامه خيراً وكلاماً حسناً مفيداً في مسائل السلوك"، فالرجل له أحياناً كلام مفيد وصحيح، فهل هذا الكلام الصحيح هو الذي يمثل ابن عربي؟ لا. كما أن الكلام الغلط الذي عند ابن عربي لا يجوز أن ينسب إلى كل من أخذ بشيء من تعظيمه أو ما إلى ذلك. قال المصنف رحمه الله: [وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات]. يقول المصنف: إن المتكلمين يعارضون المتفلسفة في مسألة اليوم الآخر، ويطالبون المتفلسفة بإثباته على التحقيق، يقول: فهذا مما يمكن أن يقلب عليهم، فإن المتفلسف يمكن أن يقول لهم: وأنتم قد تأولتم باب الصفات!!

ما يجوز وما لا يجوز في حق الله تعالى من الأقيسة

ما يجوز وما لا يجوز في حق الله تعالى من الأقيسة قال المصنف رحمه الله: [والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه]. قياس التمثيل: هو قياس الفرع على الأصل، وقياس الشمول: هو القياس الكلي، وقياس التمثيل ينتهي في الحقيقة إلى قياس الشمول، لكن التفريق بينهما هو من باب التقسيمات. فالله سبحانه ينزه عن قياس التمثيل، وينزه عن قياس الشمول، وهو القياس الذي يقود لنتائج كلية، وإنما يستعمل في حقه تعالى المثل الأعلى، وهو ما يسميه بعض المصطلحين: (قياس الأولى)، وقد سبق أن قياس الأولى من الدرجة الثالثة من الكلمات وهي: التي يجوز استعمالها عند الحاجة إليها، أما قبل الحاجة إليها فلا يعبر بها، وإنما يعبر بأن الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وله الوصف الأعلى .. وما إلى ذلك. وقياس الأولى: هو أن كل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو الكمال الإضافي في حق المخلوق، فإن الخالق أولى به. وهذا من قواعد الإثبات العقلية، وذلك كصفة الكلام والسمع والبصر، ولذلك قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] وغير ذلك من الآيات. قال المصنف رحمه الله: [فإذا كان المخلوق منزه عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم]. فكما أن من النقص أن يتصف الرب بصفات المخلوقات، فإن من النقص أن يكون معطلاً عن الصفات، فإذا قلتم: إن هذا التشبيه نقص، قيل: ونفي الصفات أيضاً نقص؛ لأنه تعطيل عن الكمال.

شرح القواعد السبع من التدمرية [13]

شرح القواعد السبع من التدمرية [13] المثل الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام في الرد على نفاة الصفات هو: الورح، فإن الروح متصفة بصفات معلومة، كالحياة والوجود والسمع والبصر، ونحوها، ومع ذلك فإن العقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لعدم مشاهدتها أو مشاهدة نظيرها، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته.

المثل الثاني: الروح

المثل الثاني: الروح قال المصنف رحمه الله: [وهكذا القول في المثل الثاني: وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن، وتسل منه كما تسل الشعرة من العجين]. هذا هو المثل الثاني الذين ذكره المصنف في الرد عل النفاة، وهو الروح؛ فإن الروح قد وصفت بصفات وصف الجسد بها على حركته، ومع ذلك لا يلزم أن تكون ماهية صفة الروح كماهية صفة الجسد، فهذا تباين في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين مخلوقين، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى.

اضطراب الناس في ماهية الروح

اضطراب الناس في ماهية الروح قال المصنف رحمه الله: [والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المزاج، أو نفس البدن. ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض]. وهذه هي طريقة ابن سينا، وله قصيدة مشهورة في هذا، مطلعها: هبطت إليك من المحل الأرفع ... . فهذه طريقة هؤلاء المتفلسفة: أنهم يعظمون مقام الروح، ويصفونها بما يصفون به واجب الوجود. وفي الجملة: الكلام في الروح جمهوره لا أصل له، إنما الذي يُقر به من مسألة الروح: أنها مخلوقة، وأنها تقوم بالجسد، وأنها تتصف بما وصفها الله به، وأن لها حركة تناسبها، وأنها تقبض ... إلخ. وأما الزيادة على ذلك فإن هذا من باب التكلف، والله تعالى يقول: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ولذلك فلا ينبغي الزيادة والنظر في مسألة الروح، وليست من المسائل التي عُني الأئمة المتقدمون من الصحابة ومن بعدهم بتفصيلها، وليس ذلك من العلم الشريف -أي: التفصيل فيها- وليست الإحاطة بذلك هو موجب الهداية، أو عدم الإحاطة به هو موجب الضلالة، ولذلك فلو كانت الإحاطة بتفصيل العلم بها هو موجب الهداية لبينه الله لمّا قال لنبيه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] فعُلم أن عدم العلم بتفصيلها لا يوجب ضلالهم عند الحقيقة إلا أن يكون مكابرة منهم. ومما ينبه إليه: أن ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، وإن كان قد رد رداً حسناً على بعض الأقوال الفلسفية وغيرها، إلا أنه توسع في مسألة الروح، وقال أقوالاً تخالف أقوال المتفلسفة، لكن لا يلزم أن تكون هي أيضاً صحيحة، فكثير من المباحث في كتاب الروح لا أرى أن له أهمية أصلاً، ولعله كان الأفضل أن لا يبالغ في هذا التفصيل، إنما يقال: إن الروح هي حقائق عامة، فهي موجودة، وهي مخلوقة من خلق الله، وتتصف بصفات تناسبها إلى غير ذلك من صفاتها، ويذكر ما جاء فيها من نصوص الكتاب والسنة، والحقائق العامة المعروفة بالعقل والحس، أما ما زاد على ذلك من التكلفات، فهذا كله نوع من التخيل ليس إلا.

قول المتفلسفة بأن الروح تعلم الأمور الكلية المطلقة

قول المتفلسفة بأن الروح تعلم الأمور الكلية المطلقة قال المصنف رحمه الله: [وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة]. وهذا ما يزعمون أنه حق واجب الوجود، تعالى الله عن ذلك! ولذلك يقول ابن سينا: "إن الله يعلم الأشياء علماً كلياً"، وقد نُسب المتفلسفة إلى أنهم ينكرون علم الله بالجزئيات، مع أنه يوجد في كلام ابن سينا أنه يقول: "وواجب الوجود يعلم الأشياء كليها وجزئيها"، ولكن معنى كلامه هذا: أنه يعلم الأشياء كليها وجزئيها بعلم كلي، هذا هو مقصود ابن سينا، وإلا فهو لا ينفي العلم بالجزئيات على المعنى البسيط الذي قد يتبادر للذهن، فهو يقول: إنه يعلم الأشياء كليها وجزئيها، وهذا نص كلامه في التعليقات، والإشارات، والتنبيهات، وفي كتاب الشفاء، وغيرها من كتبه يصرح بأن الله يعلم الكليات والجزئيات، لكنه يقول: إنه بعلم كلي؛ لأنه يمتنع عنده مسألة الفهم والمشيئة، وورود الأفعال، وتعلق الفعل بالمفعول .. وغير ذلك، فهذا كله من باب التحقيق للتجريد عنده، الذي هو التعطيل في حقيقته. قال رحمه الله: [وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة. وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع]. وهم يزعمون أن هذا تشريف لها؛ لأن واجب الوجود عندهم كذلك.

وجود الكليات في الأذهان فقط

وجود الكليات في الأذهان فقط قال المصنف رحمه الله: [وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل. قالوا: بل هذا ممكن؛ بدليل أن الكليات ممكنة موجودة، وهي غير مشار إليها]. هذه الفلسفة العقلية التي كانت بين أرسطو وبين أفلاطون، وما يسمى بالمثل الأفلاطونية، وهي المسائل الكليات، بمعنى: أن ثمة كلياتٍ مجردة موجودة قائمة في الخارج، والحقيقة أنه لا يوجد في الخارج إلا المعينات، أما الكليات المجردة فليس لها ماهيات قائمة بنفسها موجودة. قال رحمه الله: [وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال، الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال]. فلا توجد كلية إلا في الأذهان، فالكليات موجودة وجوداً ذهنياً، أي: معقولة ومعلومة، أما في الخارج فلا يوجد إلا المعينات.

سبب اضطراب الناس في ماهية الروح

سبب اضطراب الناس في ماهية الروح قال المصنف رحمه الله: [واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك: أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ]. العناصر: هي الأشياء الأولى، وقد اختلفوا في ما هي العناصر؟ فمنهم من يقول: الهواء والماء، ومنهم من يزيد النار .. وغير ذلك، فهذه العناصر هي المبادئ الأولى لوجود الأشياء في تقدير الفلسفة، ثم المولدات من هذه العناصر، وهي المركبات من عنصرين فأكثر. فيقول المصنف: إن الروح عند هؤلاء ليست هي الجسد، ولا هي العناصر، ولا هي المولدة من العناصر، وإنما هي من باب العالم الآخر الذي لا يستطيعون كشفه. وقوله: (فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة): أي: يعرفونها بالسلوب حتى لا تشارك العناصر، وحتى يميزوها عن العناصر والمولدات عنها. وقوله: (وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ): وذلك من باب الرد على المتفلسفة، (وكلا القولين خطأ)، فإنها وسط بين هذا وهذا، وسط بين السلب المحض، وبين المرحلة الثانية وهي مسألة الأرواح.

إطلاق لفظ الجسم على الروح وأقوال الناس في الجسم

إطلاق لفظ الجسم على الروح وأقوال الناس في الجسم قال المصنف رحمه الله: [وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ (الجسم) للناس فيه أقوالٌ متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي. فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن. وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وأما أهل الكلام فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة. ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية. ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا؛ بل هو ما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك. فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميت -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا خرج تبعه البصر)، وإنها تُقبض ويعرج بها إلى السماء- كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح]. ولذلك قال الأئمة: إن الله لا يقال: إنه جسم، ولا يقال: إنه ليس بجسم؛ لأن هذا لفظ مجمل حادث، وكذلك الروح، فإذا قيل: هل الروح جسم أم ليست بجسم؟ قيل: ما المقصود بالجسم؟ فإن قصد بالجسم الموجود، فهي جسم، وإن قصد بالجسم البدن، فليست جسماً من هذا الوجه، فالمعنى فيه تفصيل. والغالب على المتكلمين ونظار المتكلمين أنهم يقاربون الروح إلى نظام وعالم الأجساد، بخلاف المتفلسفة، فإنهم يسلكون معها طريقة التجريد والسلوب.

المقصود بضرب المثل بالروح

المقصود بضرب المثل بالروح قال المصنف رحمه الله: [والمقصود: أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات، مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها، فإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلاً لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات]. قوله: (والعقول قاصرة عن تكييفها): فمن باب أولى عن تكييف صفاتها، وهذا بين، فإذا قيل لأحد: كيف تصعد الروح وكيف تنزل؟ فلن يستطيع أن يعطيك علماً مفصلاً بالكيفية، فإذا كانت العقول قاصرة عن تكييفها، فمن باب أولى أن تكون العقول قاصرة عن تكييف صفات الله تعالى. وقوله: (والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره): أي: تدرك كيفيته وماهيته، والروح لم نشاهدها، ولم نشاهد لها نظيراً، فإذا كان هذا في الروح -ولله المثل الأعلى- فمن باب أولى في حقه سبحانه وتعالى. وعدم علمنا بماهية وكيفية صفات الروح، لم يلزم منه عدم الإقرار بصفاتها؛ بل نقر بصفاتها، وهذا إقرار ضروري، ومع ذلك نقر بعدم العلم بكيفية صفاتها، وهذا أيضاً إقرار ضروري، فحصل انفكاك بين هذا وهذا.

شرح القواعد السبع من التدمرية [14]

شرح القواعد السبع من التدمرية [14] ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في خاتمة كلامه عن توحيد الصفات سبع قواعد نافعة جامعة في إثبات صفات الله تعالى، وفي الرد على المخالفين من النفاة والمعطلين والمؤولين ونحوهم، والقاعدة الأولى هي: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كالعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوها، وهي متضمنة للكمال المطلق، والنفي يتضمن إثبات الكمال لله تعالى، كنفي الظلم، فإنه يتضمن إثبات كمال العدل المطلق لله سبحانه وتعالى.

القواعد السبع في صفات الله تعالى

القواعد السبع في صفات الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة]. سبق أن قال المصنف رحمه الله: (وهذا يتبين بأصلين شريفين، ومثلين مضروبين، وبخاتمة جامعة فيها قواعد نافعة)، فهذه القواعد السبع التي ذكرها المصنف في هذا الفصل هي تمام لما قدمه في تقريره لمسألة الصفات، وقد سبق أن المصنف ابتدأ بتقرير: أن هذا الباب باب خبري، وأنه باب معتبر بالدليل السمعي الذي هو الكتاب والسنة، وبين مقام الدليل العقلي في هذا المورد، وبين مذهب السلف، ثم ذكر أصول المذاهب التي انحرفت عن سبيلهم، ثم ذكر الأصل الكلي الذي أشكل على عامة هؤلاء، وبين أنه أصل مجاب عنه بمتواتر الشريعة، وبضروري العقل، بأصلين ومثلين سبق ذكرهما. ثم انتقل المصنف إلى بيان هذه القواعد السبع، وهي تمام في هذا الباب، وهي كذلك رد لشبهات المخالفين، وتقرير لدلائل من العقل، وتفصيل لبعض مقاصد أئمة السنة والجماعة في مذهبهم في باب الصفات. فهي قواعد مجملة في هذا الباب، قصد المصنف منها الإحكام لهذا المذهب الذي ذكره في مقدمة رسالته، فإنه لما ذكر مذهب أهل السنة والجماعة جعل هذه القواعد السبع من باب الإحكام لهذا المذهب؛ إما إحكام في تفصيل بعض المراد به، وإما إحكام في تقرير بعض دلائله، وإما إحكام في الجواب عما قد يعارض به المعارض، فهذه القواعد ليست وجهاً واحداً من هذه الأوجه الثلاثة أو ما يشاكلها، إنما هي مادة مشتركة بين هذه الأوجه. ولذلك فليس بالضرورة أن يكون بين هذه القواعد قدر من التسلسل الضروري؛ ككونه جملة من الأدلة، أو جملة من الردود، أو جملة من التفصيل؛ لأن المقصود منها هو الإحكام للمذهب، والإحكام للمذهب يكون تارةً بتقرير دليل، وتارة بالجواب عن شبهة، وتارة بتفصيل مجمل من القول أو المعنى.

القاعدة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات والنفي

القاعدة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات والنفي قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]]. هذه هي القاعدة الأولى، وهي من أشرف القواعد، وهي: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات والنفي، وإن كان المصنف قد نص على هذه الجملة بل على أكثر منها فيما تقدم من كلامه، فإنه قد ذكر في مذهب أهل السنة والجماعة أن الله موصوف بالإثبات والنفي، وذكر أن الله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل. وهذا قد سبقت الإشارة إليه. وإنما فصله المصنف هنا كقاعدة ابتدأ بها القواعد من باب الإحكام للمذهب؛ لأن الكمال من جهة العقل فضلاً عن الشرع، لا يمكن أن يكون بتقرير الإثبات وحده، كما أن الكمال لا يمكن أن يكون بتقرير النفي وحده، فكما تقدم وكما سيذكر المصنف أن النفي المجرد عن الإثبات ليس كمالاً، فكذلك يقال: إنه يمتنع تحقق إثبات لا يتضمن نفياً؛ لأن إثبات أحد المتقابلين يستلزم نفي الآخر، فعندما وُصف الله بالعلم؛ لزم من ذلك أن يتضمن هذا الإثبات نفي الجهل. وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى مستحق للكمال، ومنزه عن النقص، والكمال في حكم العقل فضلاً عن حكم الشرع لا يمكن أن يكون إلا بإثبات هذين الأصلين: أن الله موصوف بالإثبات، والإثبات لا بد أن يتضمن نفياً، وهو نفي المقابل، وهو ما يدخل في مادته من النقص. وكذلك نقول: إن النفي يتضمن إثباتاً. فهذه القاعدة أشار بها المصنف إلى التحقيق، كما أنه أشار بها إلى الوسطية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر حال الطائفة المنصورة من هذه الأمة الناجية، وقد بين المنصف كثيراً أن أهل السنة وسط بين الطوائف، ومن وسطيتهم في هذا الباب: أنهم يحققون الإثبات على وجهه الشرعي العقلي، كما أنهم يحققون النفي على وجهه الشرعي العقلي، بخلاف من غلا في مقام النفي؛ كجمهور النفاة، أو غلا في مقام الإثبات؛ كجمهور المائلين إلى التشبيه والتجسيم ونحو ذلك. فيكون التحقيق لمقام الإثبات والنفي هو تحقيق الوسطية، وأما من لم يحقق الإثبات والنفي -بمعنى: أنه لم يستعمل إلا النفي وحده، أو لم يستعمل إلا الإثبات وحده، أو استعمل إثباتاً على وجه من الغلو، أو نفياً على وجه من الغلو، أو ما إلى ذلك- فإن هذا ليس وسطياً في تقريره.

صفات النفي تتضمن إثبات الكمال

صفات النفي تتضمن إثبات الكمال قال المصنف رحمه الله: [وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال]. الكمال يتعلق بالأمور الوجودية؛ لأن الكمال صفة ثبوتية، فالكمال وجه من الثبوت، فلا بد أن يتعلق بأمر وجودي وليس بأمر عدمي، فإن قيل: إنه جاء في القرآن ما هو من وصف العدمي، أي: الوصف السلبي، أو وصف النفي. قيل: كل ما ذكر مفصلاً في القرآن من النفي في مقام الصفات، فإنه لا بد أن يكون متضمناً لصفة ثبوتية؛ بل أكثر من ذلك. فإن قيل: هل النفي المفصل من حيث حكم العقل يستلزم أمراً ثبوتياً، أم أن النفي المفصل لا يستلزم أمراً ثبوتياً؟ قيل: من جهة حكم العقل فإن النفي المفصل لا يستلزم أمراً ثبوتياً في بابه المطلق في حق غير الله سبحانه وتعالى، فإذا وصفت شيئاً من الأشياء بنفي، فلا يلزم أن يكون هذا من باب تحقيق الإثبات له. لكن عندما جاء ذكر شيء من نفي صفات النقص عن الله تعالى على وجه التفصيل؛ فإن كون هذا السياق مضافاً إلى رب العالمين سبحانه وتعالى هو من باب تحقيق الكمال، فإن الله لما نفى عن نفسه الظلم؛ دل ذلك على كمال عدله. فإن قيل: فما هي الحاجة إلى أن نقول: إن قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] تضمن إثبات العدل؟ لماذا لا نقول: إنه يدل على نفي الظلم؟ قيل: الدلالة على نفي الظلم وحده دون تحقيق العدل ليس مدحاً؛ لأن الأشياء التي لا تقبل الظلم ولا تقبل العدل توصف بأنها لا تظلم. فهذا هو مقصود المصنف: أن كل نفي مفصل في القرآن يتضمن أمراً ثبوتياً، وهو كمال الضد، وما لحقه من المعاني المناسبة. وقوله: (ولأن النفي المحض) أي: المجرد عن إثبات المقابل، فالنفي المحض هو الذي لم يتضمن أمراً ثبوتياً، والشيء المحض هو ما يسمى بالشيء الخالص، أو الشيء المجرد عن التعلق بغيره، أو عن تعلق غيره به.

آيات قرآنية تدل على أن النفي يتضمن إثبات الكمال

آيات قرآنية تدل على أن النفي يتضمن إثبات الكمال قال المصنف رحمه الله: [فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من نفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255]]. إن النفي المفصل المتضمن أمراً ثبوتياً يرد في القرآن في سياق مناسب له، فإن الله نفى عن نفسه السنة والنوم بعد قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فصار التقديم بالإثبات دليلاً على أن هذا النفي ليس نفياً محضاً. وعليه: فكل نفي مفصل في القرآن فإنه يدل على إثبات كمال الضد، فإن قيل: فمن أين دل على إثبات كمال الضد؟ قيل: دل على ذلك من حيث القاعدة العامة أنه في حق الله، وما كان في حق الله فلابد أن يكون كذلك، ودل من جهة السياق، فإنك إذا نظرت في سائر السياقات، وفي سائر الآيات التي ذكرت نفياً مفصلاً؛ تجد أنها مسوقة مساق الكمال، وإثبات صفات الكمال. وقد جاء عن كثير من السلف -بل فيها آثار مرفوعة- أن الحي القيوم هو الاسم الأعظم، وهذا ليس فيه نص بين الصحة، لكنه مما ينبغي أن يجتهد في القصد إليه؛ لشرف هذه الآية، فإنها أعظم آية في كتاب الله، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره.

صفات الله تعالى تستلزم الكمال المطلق بخلاف صفات المخلوقين

صفات الله تعالى تستلزم الكمال المطلق بخلاف صفات المخلوقين قال رحمه الله: [وكذلك قوله: (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته]. وهذا من الفروق بين صفة المخلوق وصفة الخالق وإن اشتركا في الاسم، فإن القدرة في أصلها صفة كمال، لكن كل ما أُضيف إلى المخلوق من الصفات فلا بد أن يكون ناقصاً؛ لأن المخلوق ناقص أصلاً، والصفة تبع لموصوفها، فإن المخلوق ممكن، وصفته تكون ممكنة، والإمكان نفسه يكون نقصاً. وقد يقول قائل: كيف نسلسل مسألة النقص على صفة المخلوقين؟ فيقال: إن النقص يلحقها من أوجه، لكن هناك وجه عام في كون صفات المخلوقين فيها نقص، وهو: أن كل ما فُرض من صفات المخلوقين فهو ممكن، وهذه القاعدة العامة من النقص مطردة في سائر صفاتهم، فإنه يقال: إن العلم المضاف إلى المخلوقين -الذي يكتسبونه ويحصلونه- علم ناقص، فهو علم ممكن وليس علماً واجباً، ولذلك فضل الله سبحانه وتعالى رسله عليهم الصلاة والسلام بأن علمهم ليس من باب الاكتساب الذهني والتتبع، كما يحصل لغيرهم من أتباعهم أو من غير أتباعهم، إنما علمهم من باب الوحي الذي أوحى الله به إليهم.

التفصيل في مقام النفي لتحقيق كمال الإثبات

التفصيل في مقام النفي لتحقيق كمال الإثبات قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض]. ولذلك فإن هذا النفي لما جاء في هذا السياق دل على كمال الإثبات، وعلى تحقيق الإثبات وتفصيله، وقد سبق أن قدم المصنف أن الله بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، لكن بعض مقامات الصفات يناسب في سياقها أن يُفصل في مقام النفي من باب تحقيق الكمال، ومن باب تحقيق سياق الكمال. ولذلك فإن ما ذكره بعضهم من أن النفي المفصل في القرآن لا يستعمل إلا في نفي ما ادعاه المكذبون للرسل، أو ما إلى ذلك من الأوجه؛ كأن فيه شيئاً من الحصر؛ لأن الاستقراء للقرآن فيما فصل لا يلزم منه أن يكون كذلك .. صحيح أن ما يذكره الباري سبحانه وتعالى من تنزيهه عن السنة والنوم، وعن عزوب شيء في السماوات والأرض عنه، ونحو ذلك، لا شك أنه رد على من يشكك أو يجحد ما هو من ذلك، أي: مما يليق به، أو يصفه بما لا يليق به سبحانه وتعالى، فلا شك أن القرآن بهذا السياق يتضمن رداً، لكن أن يكون هذا هو الموجب، وأنه لولا هذا المحرك لما حصل هذا، فليس بالضرورة أن يكون ذلك صحيحاً؛ فإن السياق إذا كان كذلك كان هذا أتم في كماله سبحانه، فعندما قال الله سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، ثم قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] علم أن قوله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أتم في تحقيق الكمال من السياق لو كان مختصراً على المقام الأول وحده، وإن كان المقام الأول فيه تحقيق للكمال. إذاً: إنما يذكر ذلك من باب تحقيق كماله سبحانه وتعالى، وهذا التحقيق يكون متضمناً للرد على من خالف هذا من وجه آخر لا إشكال في ثبوته. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه]. لأن هذا السياق من القرآن من باب قطع الوهم، وليس بالضرورة أنه رد على قوم معينين، فإنه من باب قطع الوهم الذهني الذي قد يعرضه الشيطان لبعض نفوس بني آدم. وقد سبق أن خلق الله سبحانه وتعالى يكون على أحد وجهين -على ما ذُكر في القرآن- فإما أن يكون خلقاً على جهة الفعل الذي هو الأمر المحض منه سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وإما أن يكون من باب الخلق الذي هو توسط السبب في وجود المُسَبّبَ، ويكون الله سبحانه وتعالى هو الخالق للسبب والمسبب.

الكلام على قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)

الكلام على قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء]. قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] هذه الآية من كتاب الله هي من نصوص التفصيل في مقام النفي لتحقيق كمال الإثبات، وقد استدل نفاة الرؤية من المعتزلة وغيرهم بهذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى لا يُرى. وهذه الآية إذا تأملت فيها وجدت أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ومعلوم أن الإدراك للأشياء -سواء كان إدراكاً بصرياً، أو إدراكاً علمياً، أو ما إلى ذلك من أوجه الإدراك- ليس هو أصل المعنى السابق له، فإنه إذا قيل لك: هل تعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق .. إلخ؟ فإن الجواب سيكون: نعم. فإننا نعلم من شأن الله سبحانه وتعالى وفعله وصفاته شيئاً، والعباد يعلمون ربهم، ولولا أنهم يعلمون ربهم، ويعلمون ربوبيته ووجوده وألوهيته ... إلخ؛ لما أمكنهم أن يعبدوه وأن يعرفوه، فهل هذا العلم الذي يُقر به المسلمون وغير المسلمين ممن يقر بالربوبية -هل استلزم عند المسلمين بسائر طوائفهم الإحاطة به سبحانه؟ الجواب: لا. وهذا أمر مستقر، فإذا تحقق أنه يمكن أن يثبت الشيء ولا يثبت الإحاطة به، فكذلك الذي نفي في القرآن هنا هو الإدراك فقط؛ ومعلوم أن الإدراك قدر زائد على أصل رؤية الشيء، وهذا أمر معروف بحكم العقل الضروري المبني على الاطراد الحسي، فإنه مستقر عند بني آدم من المسلمين وغير المسلمين، من العرب وغير العرب- أن رؤية الشيء ليست هي الإدراك له، كما أنه يُعلم أن من رأى شيئاً لا يلزم أن يكون مدركاً له. فهذا أمر مستقر عند أهل اللسان العربي وغير العربي من جهة المعاني، وإن كان أهل العربية يقصدون بهذه الكلمة هذا المعنى، فإن هذا لا يلزم أن يكون على اللسان المعبر، فكل من عبر بلسانه فإن هذا المعنى يكون ثابتاً عنده؛ لأنه معنى معلوم بالاطراد الحسي، وهو دليل قاطع. فلما قال الحق سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فإن الآية نفت القدر الزائد على الرؤية، وهنا يقال: إن الآية دليل على إثبات الرؤية، ووجه ذلك: أن يقال: إن تخصيص القدر الزائد بالنفي وحده دليل على أن ما دونه يكون ثابتاً؛ لأن ما دونه -وهو أصل الرؤية- لو كان منفياً أو ممتنعاً؛ لما كان هناك قصد إلى تخصيص القدر الزائد بالنفي، فلما خُص القدر الزائد وحده بالنفي؛ دل على أن ما تحته وما دونه داخل في الإثبات، ومن هنا يقول أهل العلم: إن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية، وليست دليلاً على نفيها، ومن المعلوم أن مذهب الأئمة رحمهم الله -أي: مثبتة الرؤية- أن الله سبحانه يراه المؤمنون ولكنهم لا يحيطون به. فهذا من تحقيق الإثبات عندهم. ولم يقل أحد من الأئمة من السلف ونحوهم: إن المؤمنين يرون ربهم ويحيطون به إبصاراً؛ بل إنهم متفقون على أن قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا يحاط به مع رؤيته؛ ولذلك فإنه لكماله ولتعذر أن يُحاط به سبحانه وتعالى، فإن الخلق لا يمكنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة -حتى عندما يراه المؤمنون في دار كرامته- لا يمكن أن يحيطوا بذاته سبحانه وتعالى، أو أن تكون أبصارهم مدركة له إدراكاً على التفصيل.

نفي الرؤية لا يتضمن كمالا لله تعالى

نفي الرؤية لا يتضمن كمالاً لله تعالى قال المصنف رحمه الله: [ولم ينف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً]. يذكر المصنف هنا أن الآية إذا فسرت كما تفسرها المعتزلة بأن قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه الأبصار، فإن هذا ليس من باب المدح؛ بل إنه من باب النفي المجرد، وقد عُلم بالعقل فضلاً عن الشرع أن النفي المجرد -وهو النفي المحض- ليس مدحاً، وليس كمالاً؛ لأنه لو كان المقصود بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه الأبصار؛ لعدم إمكان رؤيته ليس إلا؛ فإن الأشياء المعدومة والأشياء الممتنعة تتصف بهذه الصفة في كونها لا ترى، أو لا يمكن أن ترى. قال رحمه الله: [وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أن لا يحاط به وإن علم]. وهذا وجه اختصاصه عن خلقه، ولك أن تقول: هذا وجه اختصاصه عن غيره. وبهذا يُعلم أن طريقة الأئمة هي لتحقيق الكمال، فإن ما أثبتوه له في هذا المقام يتحقق به اختصاصه عن غيره؛ سواء كان هذا الغير مخلوقاً، أو شيئاً ممكناً، أو شيئاً معدوماً، ولكنه ليس من باب الممكن، بل من باب الممتنع، فإن غير الله سبحانه وتعالى إما أن تمتنع رؤيته؛ كالمعدوم والممتنع أيضاً، فإن رؤيته تكون ممتنعة، وإما أن تكون رؤيته غير ممتنعة عند وجوده؛ كالأشياء التي تُرى وتكون مدركة، وهي الأشياء القائمة، وإما أنه يرى ولا يدرك. فإن قال قائل: إن في مخلوقات الله سبحانه وتعالى ما يرى ولا يدرك، كالسماء، فإن كل بني آدم يرون السماء، ومع ذلك لم يدرك أحد سائر أنحائها واتساعها وامتدادها، وما إلى ذلك، فكيف قيل: إن من اختصاصه عن خلقه أنه يرى ولا يدرك، مع أن في أعيان مخلوقاته القائمة المشاهدة أنها ترى ولا تدرك؟ فالجواب: أن يقال: إن كل مخلوق يُرى ولا يدرك فإنه ممكن الإدراك، بخلاف الباري سبحانه وتعالى، فإن الإدراك له ممتنع، فإن السماء لا يدركها أحد، ولكن هذا الإدراك غير ممتنع، فإنه من الممكن أن يخلق الله سبحانه وتعالى مخلوقاً يدرك أبعاد السماء، وهذا غير مستحيل في حقه سبحانه وتعالى، فإدراك المخلوقات إدراك ممكن، وإن لم يكن حاصلاً في كثير من الأحيان، بخلاف إدراك الخالق سبحانه وتعالى من جهة أن من أبصره أدركه، فإن هذا إدراك ممتنع. إذاً: قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لامتناع إدراكها، ولعدم إمكان إدراكها له، بخلاف قولنا: لا تدرك الأبصار السماء، فإن ذلك لعدم ثبوت الإدراك، وإن كان الإدراك في نفس الأمر ممكناً. قال رحمه الله: [فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية]. وعليه فقد يقول قائل: إن في مخلوقات الله ما يعلم ولا يحاط به، كالروح مثلاً، فإننا نعلم منها شيئاً، ولكننا لا نحيط بها علماً. فيقال: إن الإحاطة بالروح علماً ممكن، وإن لم يحصل، ولم يقدر الله أنه يحصل لأحد، ولكنه ممكن، بخلاف الإحاطة بالباري سبحانه وتعالى، فإنه ممتنع. قال المصنف رحمه الله: [فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها]. قوله: (مع عدم الإحاطة)، أي: مع عدم الإدراك، وهذا هو معنى الإدراك (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تحيط به، وهذا معنى معروف في الأذهان، وذلك كقولك: رأيتُ السماء، وأنت لم تدركها. وقوله: (وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها): هو الحق، وهو أيضاً الكمال عقلاً وشرعاً، أما إذا نفيت الرؤية فلا يكون كمالاً، وإذا أُثبتت الرؤية مع إثبات الإحاطة والإدراك، فإن هذا أيضاً لا يكون كمالاً، إنما الكمال هو إثبات الرؤية مع نفي الإدراك والإحاطة.

كل نفي لا يستلزم ثبوتا فليس من صفات الله

كل نفي لا يستلزم ثبوتاً فليس من صفات الله قال المصنف رحمه الله: [وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً؛ بل ولا موجوداً]. الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالسلوب المحضة التي لا تتضمن أمراً ثبوتياً، يقول عنهم المصنف: هؤلاء لم يصيبوا القرآن لا في مجمله، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولا في مفصله، كقوله تعالى: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)؛ لأن كل نفي في القرآن فإنه تضمن إثباتاً، سواء كان هذا الإثبات إثباتاً مفصلاً، أو إثباتاً مجملاً؛ بل حتى المجمل من النفي، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فإنه يتضمن التنزيه ويتضمن إثبات الكمال؛ لأن الله تعالى لم يقل: ليس كخلقه شيء؛ بل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذا مما يختص به عن غيره، فكذلك قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، سواء كان هذا الشيء مخلوقاً قائماً، أم مخلوقاً غائباً عن المشاهدة، أم كان معلوماً ولكنه ممكن، أم كان متخيلاً، أم كان ممتنعاً، فكل ما يعرض عن غير مقامه سبحانه وتعالى فهو داخل في هذا النفي، ولذلك يكون النص -كما سبق- محقق للإثبات كما أنه محقق للتنزيه. والذين يصفون الله تعالى بالسلوب المحض هم المتفلسفة كـ ابن سينا وأمثاله.

مذهب المتكلمين الأوائل كالجهمية في نفي الصفات

مذهب المتكلمين الأوائل كالجهمية في نفي الصفات قال المصنف رحمه الله: [وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم]. هذا هو مذهب أئمة المتكلمين من أئمة الجهمية الأولى، الذين ينفون سائر الصفات، ولهذا قال المؤلف: (من شاركهم في بعض ذلك) أي: شارك المتفلسفة في هذه الطريقة، وإن كان هؤلاء قد ظهروا وتكلموا بكلامهم قبل ظهور ابن سينا وأمثاله، لكن المادة مستقاة من جوهر واحد، إلا أن ابن سينا وأمثاله أفصح بالفلسفة، وهؤلاء قد أجملوا وركبوا ما حصلوه من الفلسفة تحت مقدمات مجملة؛ إما من العقل، وإما من الشرع، وهو ما سمّوه بعلم الكلام. هذه طريقة أئمة الجهمية نفاة الصفات، الذين يقولون: إنه لا يتكلم، ولا يرى، وليس فوق العالم ولا تحته إلخ، وربما عبروا بعبارات كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، وهذا من باب رفع النقيضين، بمعنى: أن طريقتهم هذه مخالفة للعقل؛ لأن رفع أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر، فقولهم: إنه لا يتكلم، يستلزم نقصاً، ولزم أن يكون متصفاً بضد ذلك، والله تعالى منزه عن الضد بإجماع المسلمين. ومن الأدلة على أن الإله الحق المعبود قابل للصفات: أنه لو كان الأصل في العقل، أو في الفطرة، أو في دلائل العقل الكلية، أن الإله المعبود لا يكون قابلاً للصفات؛ لما أبطل الله سبحانه وتعالى ألوهية العجل بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] لأن أصحاب العجل قد يكون جوابهم: إن الإله الحق ليس قابلاً للصفات، كما تزعم المعتزلة، فإنهم يقولون: إن الله لا يتكلم، ولا يلزمنا أن يكون الله سبحانه وتعالى موصوفاً بالخرس، فإن قيل: فكيف ذلك؟ قالوا: لأن الله ليس قابلاً، فيقال: هذا خلاف حكم العقل، وخلاف حكم الشرع، فإن الله قابل للصفات, والإله الحق لا بد أن يكون قابلاً؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] فلو كان الإله الحق ليس قابلاً؛ لما قال إبراهيم ذلك لأبيه. وقوله: (ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تعبده وبين المعدوم): أي: أن هذا المذهب يستلزم القول بالعدم، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوه في الحقيقة إلها محموداً ولا موجوداً، وهذا من باب لوازم المذهب.

نفي الصفات عن الله تعالى ليس فيه مدح ولا كمال

نفي الصفات عن الله تعالى ليس فيه مدح ولا كمال قال المصنف رحمه الله: [وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال؛ بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد أو الناقص]. قوله: (بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات)؛ لأن العقل نفسه -فضلاً عن الشرع- يدل على كمال الرب في صفاته، ومن صفاته: الكلام، فإثبات الكمال لله سبحانه وتعالى معلوم بالسمع، ومعلومٌ أيضاً بالعقل، والإله الذي لا يتكلم لا يكون إلهاً حقاً، كما قال الله تعالى عن عبدة العجل.

شبهة حول الحوادث

شبهة حول الحوادث وقول المصنف: (وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ..): قد يقول قائل: هل من لازم الإله الحق أن يكون متصفاً بالنزول؟ أليست هذه الصفة صفة خبرية سمعية لم يثبتها العقل ابتداء كصفة العلم والكلام ونحوها؟ والجواب: أن يقال: إن نفاة الصفات التي تسمى: الصفات الخبرية، أي: التي نطق بها القرآن أو السنة، والعقل لم يدل عليها ابتداء، ولكنه لا ينافيها، وذلك كصفة النزول، نفاة هذا النوع من الصفات لا ينفونها لذات الصفة وحدها، ولذلك فلو كانت العلة عندهم أن حديث النزول آحاد، وسلمنا جدلاً أنه من الآحاد، وسلمنا جدلاً أن الآحاد لا يحتج به في العقيدة، فماذا يقولون في صفة الإتيان والمجيء الذي ذكره الله في القرآن؟! فهم -إذاً- يضطربون في النفي والتأويل، فهذا يردونه لكونه آحاداً، وهذا يتأولونه، إلى غير ذلك. فالإشكال عندهم ليس لأن هذا النص في ذاته مشكل، ولكن الإشكال عندهم هو في القاعدة التي بها ينفون الصفات، وهي ما يسمونها: (حلول الحوادث)، ولتقريب المعنى نقول: ما يسمونه بمسألة الحركة، فأي صفة تتضمن في المعنى العام ما هو بمعنى الحركة فلا يكون عندهم صفة ثابتة. ولذلك فإن الإمام الدارمي رحمه الله في رده على الجهمية ذكر إثبات الحركة لله سبحانه وتعالى، مع أن القرآن الكريم لم يذكر كلمة الحركة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة ليست من الكلمات التي تعرض ابتداءً، إنما الذي يعرض هو الأفعال المفصلة في القرآن، لكن في تفصيل الرد على المخالف لابد من إبانة مثل هذه المعاني، ولذلك فقد عرضت هذه الكلمة لبعض الأئمة، واستعملوها على هذا الوجه, وقد جوز الإمام ابن تيمية الاستعمال على هذا الوجه من المناسبة، وذكره عن الإمام الدارمي، وهو موجود في رده على الجهمية، وذكره عن جماعة آخرين. فالمقصود: أن هؤلاء ينفون مسألة الحركة التي سموها باصطلاح علم الكلام: حلول الحوادث. وهذا المعنى هو في حقيقته يرجع إلى المعاني الفلسفية القديمة التي كان أصحابها لا يثبتون الفعل في حق الإله سبحانه وتعالى، فهي نزعة مشتقة من الفلسفة. والغريب في الأمر: أن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال قال: "إن دليل الأعراض الذي بنت المعتزلة عليه قولها في صفات الله تعالى هو متلقى من الفلسفة". وهذا أمر مهم جداً، فإن القائل لهذا الكلام ليس هو ابن تيمية أو بعض العلماء من أئمة السنة؛ بل إنه أبو الحسن الأشعري، وقد كان إماماً في مذهب المعتزلة سابقاً، وإماماً من أئمة المتكلمين، ولم يزل على هذا العلم مع انتسابه في آخر أمره إلى أهل السنة والجماعة، فقد نص على أن دليل الأعراض الذي بنت المعتزلة عليه القول في الصفات متلقى من الفلسفة. والعجب أن الأشعري قال هذا الكلام ولم يسقط هذا الدليل؛ بل استعمله، ولكنه عدل فيه شيئاً، وأثبت بهذا التعديل أصول الصفات؛ كالحياة، والكلام، والسمع والبصر، ونحو ذلك, ونفى صفات الأفعال التي سماها: حلول الحوادث، فنفيه لما سماه: حلول الحوادث، بقية بقيت عليه من دليل المعتزلة ومن مذهبها، وقد نص على أن دليل المعتزلة دليل فلسفي، فيلزم من هذا -كنتيجة علمية- أن يكون الأشعري قد بقي عليه بقية من هذا الدليل الفلسفي، وبقي عليه بقية من نتيجته، وهي ما سماها بمسألة: حلول الحوادث، أي: نفي مسألة الحركة. ولذلك نجد أنهم يتأولون الاستواء على العرش، والأشعري يثبت الاستواء، لكنه لا يثبته على بابه من الفعل المعروف في الإثبات عند الأئمة، ونجد أنهم يتأولون النزول والمجيء والإتيان، وإذا تكلموا في إرادة الله قالوا: إن هذه إرادة واحدة، وعندما تكلم الأشعري وابن كلاب عن صفة الكلام قالوا: إن الله يتكلم لأن الكلام صفة عقلية ضرورية، لكن عندما قيل: إنه يتكلم بحرف وصوت، عرضت لهم مسألة حلول الحوادث، فلزم أن يكون هذا على تقديرهم من باب حلول الحوادث، فرجع ابن كلاب وتبعه الأشعري في ذلك، فقالوا: إن الكلام هو معنى يكون في النفس واحد، ليس بحرف ولا صوت. وقد أتوا بهذه الفلسفة في تعريف الكلام -وهي فلسفة لم يعرفها الناس، لا من أهل اللسان العربي، ولا من أهل العقل، ولا غير ذلك- ليتخلصوا من مشكلة نفي صفة الكلام، وهي صفة عقلية كمالية بينة، فأثبتوا صفة من صفات الكلام لضرورة إثباتها، ولكنهم فسروها هذا التفسير ليتخلصوا مما سموه: حلول الحوادث، وهو: كل ما أوجب حركة. والمقصود بالحركة هنا هو معناها الفلسفي، وليس المعنى اللغوي العربي، فالمقصود بكل ما يتضمن حركة هو المعنى الفلسفي التي كان يقصد أرسطو طاليس وأمثاله كـ ابن سينا، فإنه في كثير من تعبيره ينص على أن الإله الحق مجرد عن الحركة، ويفسر الحركة تفسيراً فلسفياً. ولسنا نقول: إن الأشعري مثل ابن سينا .. كلا! فإن الأشعري رجل عظم السنة وانتسب إليها, وهو رجل له علم وديانة، وقصد لأهل السنة والجماعة، وإن كان على بدعة وأغلاط، ولكن دين الإسلام لا يرجع فيه إلى رجل أو أهل بيت، أو طائفة من الطوائف، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد عظم أهل بيته، وقال: (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي)؛ ولكنه لم يوجب على المسلمين أن يرجعوا في دينهم وفي معتقدهم، أو في أصولهم إذا أشكل عليهم شيء أن يرجعوا إلى أحد من أهل بيت النبوة؛ بل إن الله تعالى يقول في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. إذاً: مسألة التعصب يجب على الأمة أن تنفك عنها في أي واد كان هذا التعصب, سواء كان تعصباً فقهياً, أم تعصباً لرجل في الاعتقاد، أو غير ذلك. فالمقصود: أن هذه الإشكالات التي دخلت على الأشعري وعلى غيره، وشوشت على أمرهم، مادتها مادة جاءت بمثل هذا التدرج. إذاً: ابن سينا -كما مر- يتكلم عن مسألة تجريد الله عن الحركة على هذا المعنى الفلسفي، أي: تجريده عن الفعل ونحو ذلك، ولذلك قال: إن العالم تولد عن العقول العشرة، والنفوس التسعة، ونحو ذلك، ويحقق نفي الحركة نفياً فلسفياً فيقول: أن الباري يعلم الأشياء ليس بعلم جزئي وإنما بعلم كلي. وهو يقول هذا الكلام ليتخلص -بزعمه- من مسألة الحركة. وحقيقة هذا التخلص الفلسفي أنه يقود إلى تعطيل الله عن صفات الفعل؛ سواء ما سمي بالفعل اللازم، أو بالفعل المتعدي, ولذلك فإن أساطين الفلسفة الأوائل -أي: قبل الإسلام- لم يكونوا يثبتون أن الله أو أن الإله عندهم هو الخالق للعالم؛ لأن هذا من معاني الحركة التي هم يقصدون إلى تجريد الإله منها, وهذا الذي كان عليه أرسطو طاليس وأمثاله. إذاً: هذه نزعات تأثر بها هؤلاء من أهل القبلة، كـ الأشعري وغيره.

رفع النقيضين وجمعهما ممتنع

رفع النقيضين وجمعهما ممتنع قال المصنف رحمه الله: [فمن قال: لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له]. وذلك لأن هذا من باب رفع النقيضين، وهي جملة: لا هو مباين للعالم -أي: منفك عنه وخارج عنه- ولا هو داخل العالم. وهذه من طرق إثبات العلو بالعقل، أن يقال: إن رفع النقيضين ممتنع، وإن جمعهما ممتنع، فإما أن يكون الخالق سبحانه وتعالى داخل العالم، وإما أن يكون خارجه. ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون داخل خلقه، فلزم أن يكون خارجاً عن خلقه، وإن كان خارجاً فإما أن يكون موصوفاً بالعلو على الخلق، أو بعلو الخلق عليه، أو محايدتهم له، ولا شك أن علو الخلق عليه أو محايدتهم له من باب النقص، إذاً لابد أن يكون موصوفاً بالعلو؛ لأن ذلك من تمام كماله سبحانه. وقد يقول قائل: هل نحن بحاجة إلى مثل هذا الاستدلال على إثبات العلو مثلاً؟ فنقول: نعم، فإنه لما ظهر قوم ينفون العلو ويقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، احتيج لمثل هذا الكلام وهذا الدليل العقلي على إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وقد استدل به الإمام أحمد رحمه الله في بعض مناظراته، وذكره أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب في كتاب الصفات في ذكره لمسألة العلو، وذكره أبو الحسن الأشعري، فهو من أدلة المثبتين للعلو من أئمة أهل السنة والمنتسبين إليها من أعيان المتكلمين المائلين إلى السنة والجماعة؛ كـ أبي محمد ابن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما.

يلزم من نفي صفة الكمال عن الله وصفه بما يقابلها

يلزم من نفي صفة الكمال عن الله وصفه بما يقابلها قال المصنف رحمه الله: [ومن قال: إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم؛ لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم]. وذلك لأن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر، وهذا لا ينفك عنه هؤلاء إلا بجواب سيشير إليه المصنف هنا إشارة، كما أشار إليه سابقاً، وسيفصله في القاعدة السابعة. وقد اعترض هؤلاء على هذه القاعدة -وهي: أن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر- اعترضوا عليها باعتراض مشهور، وهو قولهم: إن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر في القوابل, أما في غير القوابل فلا يلزم. وقد أجاب المصنف عن هذا الإيراد وهذا الإشكال بعدة أجوبة كما في الفقرة التالية:

قول النفاة أن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر فيما يقبل والرد عليه

قول النفاة أن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر فيما يقبل والرد عليه قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال له: أعمى ولا بصير]. فإذا قالوا هذا يقال لهم ابتداءً: لماذا نفيتم أن الله موصوف بالكلام أو بالرؤية أو بالبصر؟ فسيقولون: إن هذا النفي من باب التنزيه عن التشبيه، فيقال لهم: أي تشبيه هذا؟ فسيقولون: التشبيه بمخلوقاته التي توصف بتلك الصفات، فيقال: وما ليس قابلاً هو أيضاً من مخلوقاته، فإن الجبل ونحوه مما ليس قابلاً هي من مخلوقات الله، ومعلوم أنه يقصد تنزيهه عن سائر مخلوقاته؛ بل يقصد تنزيه الباري سبحانه وتعالى عن غيره؛ أياً كان ذلك الغير، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، فلا مانع إذاً -على حد قولهم- أن يقال: إنه لا يرى؛ لأن المخلوق موصوف بذلك, أو إنه لا يتصف بهذه الصفات؛ لأن المخلوق كذلك. ولذلك فإنهم يعلمون أن الإله الحق لا بد أن تثبت له هذه المعاني، فإن المعتزلة -مثلاً- الذين لا يثبتون الصفات، هل معنى ذلك أنهم لا يصفون الله تعالى بمعنى العلم، فيصفونه بالجهل، أو أن الله لا يوصف بإدراك المبصرات والمسموعات؟ لا. بل إنهم يثبتون ذلك، ولذلك إذا قيل للمعتزلي مثلاً: هل الله سبحانه وتعالى يدرك مكاننا هذا الإدراك السمعي والإدراك البصري؟ فسيقول: نعم، فإنه لا يخفى عليه شيء من خلقه؛ لا من حركاتهم، ولا من أفعالهم، ولا من أصواتهم، ولا من أفكارهم، ولا غير ذلك، ولكنه لا يسمع بسمع, بل هو سميع بذاته، وبصير بذاته .. ويفسرون السمع والبصر بالإدراك، وليس بأنه صفة تقوم بذات الرب على المعنى المعروف. إذاً: فهم يثبتون ما يتعلق بحكم الصفة، ولم يستطيعوا أن ينفوه؛ لأن هذا من الإلحاد في حقه سبحانه وتعالى، لكنهم لم يقولوا: إن لله تعالى سمعاً وبصراً يقوم بذاته .. وغير ذلك.

الوجه الأول: أن غير القابل يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى ونحو ذلك

الوجه الأول: أن غير القابل يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى ونحو ذلك قال المصنف رحمه الله: [قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام، يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة]. هذا هو الوجه الأول في الرد عليهم، وهو أن يقال: إن هذا اصطلاح, ولغة العرب واسعة، ولاسيما أن الذين يتكلمون بهذه الاصطلاحات -من أئمة المعتزلة مثلاً- هم الذين يتكلمون بمسألة الحقيقة والمجاز، ولسان العرب واسع في باب المجازات. فيقول المصنف: إن هذه الأشياء -أي: الجمادات- يمكن أن توصف، وقد ورد في كلام العرب، بل وفي القرآن أن الله تعالى وصف بعض الجمادات ببعض صفات الأحياء، كمثل قول الله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] فقد وصف الله الجدار بأنه يريد أن ينقض، وسواء قلتم: إن هذا من باب المجاز، أو من باب الحقيقة، فإن هذا وجه آخر، لكن المهم أن هذه الصفة ترد حتى في حق الجمادات. وهذا الرد لك أن تقول: إنه رد اصطلاحي لفظي من باب اللغة، وليس هو بالضرورة الرد المحكم اللازم.

الوجه الثاني: أن كل موجود يقبل الاتصاف بهذه الصفات وما يقابلها

الوجه الثاني: أن كل موجود يقبل الاتصاف بهذه الصفات وما يقابلها قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الجبال والعصي]. هذا هو الوجه الثاني في الرد، وهو رد عقلي، يقول فيه المصنف: إنكم تقولون: إن ثمة من الموجودات ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات, كالجمادات، فإنها لا توصف بالسمع ولا بالبصر، وليست قابلة لها، فلو سلمنا أنها لا توصف بذلك في كلام العرب، فهل عدم قبولها لها يدل على أن هذه الصفات ممتنعة عليها، أم أن هذه الصفات ممكنة في حقها؟ يقول المصنف: إن كل مخلوق يمكن أن تقوم به صفة من الصفات، ولا يلزم من هذا القيام أن تنقلب حقيقته, وضرب لذلك مثلاً بعصا موسى، وهذا مثال صحيح، ولكن لو مثل بمثال أقرب إلى التحقيق العقلي لهذا الرد لكان أولى، وهو أن يقال: لقد ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث)، فهل انقلب هذا الحجر وقت السلام على النبي صلى الله عليه وسلم -كما انقلبت عصا موسى- إلى شخص يسلم ثم يرجعه الله حجراً، أم أنه يصدر هذا الصوت وهو على حجريته؟ الجواب: أنه يصدر هذا الصوت وهو على حجريته. والله تعالى يقول عن السماوات والأرض: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] فما هو هذا التسبيح؟ هل هو شيء مدرك أم غير مدرك؟ لو كان ظاهراً لنا كسير السحاب مثلاً، وثبوت الجبال، وما إلى ذلك؛ لكان شيئاً مدركاً. فيقال إذاً: إن الله وصفها بصفة لا ندركها، مما يدل على أن هذه الصفة تقوم بها، وأنها تسبح تسبيحاً خارجاً عن ظواهرها؛ كحركة السحاب وثبوت الجبال، ولذلك قال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] مما يدل على أن هذه الصفات ممكنة في حق الجمادات؛ بل إن التحقيق: أن هذه الجمادات التي تسمى جمادات وهي متحركة حركة تناسبها، أو قائمة قياماً يناسبها, أنها تقوم بها صفات، ومن الصفات التي تقوم بها -ولا تزال قائمة بها قياماً حقيقياً لا يقبل الإدراك- تسبيحها, فإن الله تعالى قال ولم يستثن شيئاً: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]. إذاً: قول المتكلمين وغيرهم: إن هذه ليست قابلة، ليس بصحيح؛ بل هي قابلة، بل إنها تقوم بها بعض الصفات، وإذا قامت بها صفة واحدة وهي أنها تسبح لله، فإن هذا يكفي حتى نحكم عليها أنها من القوابل. فتكون النتيجة: أن سائر المخلوقات من باب القوابل، إما قوابل حقيقة قائمة، وإما قوابل من جهة إمكانها. ولو قال قائل: إن كل المخلوقات قابلة لصفات ما يخلقها الله سبحانه وتعالى فيها قيام قبول على الحقيقة، لم يكن بعيداً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] والتسبيح هو صفة لا بد أن يكون عن قيام صفة تنتج هذه الصفة الثانية، فإن الصفة الأولى هي فرع عن صفة سابقة لها، والفعل يتسلسل إلى فعل آخر .. وهكذا. فالمصنف يريد أن يصل إلى أنه لا يوجد في الموجودات إلا شيء تكون الصفات قائمة به، أو يقبل قيام الصفات به. وأنتم تقولون -أي: المخالفون- إن الإله ليس قابلاً، أي: تمتنع عليه الصفات، فيقول: إنه يمتنع أن يكون هناك شيء موجود ويقال فيه: إنه تمتنع عليه الصفات؛ بل لا بد من ثبوت الصفات، إما ثبوت تحقق، وإما ثبوت إمكان. فإذا استقرت هذه القاعدة، وهي أن كل موجود إما أن يكون موصوفاً بالصفات، أو قابلاً لها؛ فإن ما كان في حق الله سبحانه وتعالى فإنه من باب الواجب؛ لأن ما أمكن له وجب، ولذلك فإن صفات الكمال صفات واجبة له، وإذا كانت الأشياء الممكنة تقبل هذه الصفات، فكيف بواجب الوجود، الذي لا معنى لوجوب وجوده إلا أنه متصف بربوبيته سبحانه وتعالى، وأنه الخالق وما سواه مخلوق، وأنه موصوف بالكمال، وأنه المعبود بحق، وما إلى ذلك من الصفات، وهذا هو معنى التوحيد. وهذا وجه شريف وقوي من جهة الدليل العقلي.

الوجه الثالث: أن الذي لا يقبل الصفات أعظم نقصا ممن يقبل الصفات ونقائضها

الوجه الثالث: أن الذي لا يقبل الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الصفات ونقائضها قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس]. هذا هو الوجه الثالث في الرد، وهو من باب التسليم الجدلي. فيقول المصنف: لو سلمنا جدلاً بصحة الاصطلاح، وسلمنا جدلاً بصحة المعنى -أي: أن الموجودات قوابل وغير قوابل، أي: يمتنع عليها القبول- لو سلمنا بذلك، فأيهما أكمل في العقل: الأشياء القابلة أم غير القابلة؟ لا شك أن القوابل أكمل من غير القوابل، فيقول: أنتم فررتم من تشبيهه بشيء من مخلوقاته -على حد زعمكم- فشبهتموه بشيء من مخلوقاته أنقص منها، وقطعاً في حكم العقل أنها أنقص منها، وهي الأشياء غير القابلة للصفات، فإن غير القابل أنقص من القابل عقلاً. وقد يقول قائل: هل معنى هذا أن أهل العلم ومن نظر في باب الصفات لا يستطيعون الانفكاك إما عن التشبيه بالقوابل أو بغير القوابل؟ والجواب: لا. إنما هؤلاء عندما لم يحسنوا تفسير التشبيه الذي نفته النصوص، ونفاه العقل، ونفته الفطرة؛ وقعوا في هذه المضايق وهذه الإشكالات؛ لأنهم لم يفهموا معنى التشبيه الذي نفته النصوص، وظنوا أن التشبيه الذي نفته النصوص هو الاشتراك في الاسم المطلق، فذهبوا يهربون هذه المهارب, فوقعوا في نظير ما فروا منه؛ بل في شر منه، وإلا فلو فقهوا التشبيه الذي نفته النصوص لما لزم منه أن يكون الله سبحانه وتعالى مشابهاً لشيء؛ لا لما يسمونه قابلاً، ولا لما يسمونه غير قابل. قال المصنف رحمه الله: [فإذا قيل: إن الباري عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لهما، كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي؟!]. مع أن التحقيق الشرعي والعقلي أن الله لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، ولكن المصنف يقول: إن من نفيت عنه صفة وهو قابل لها، فهو أكمل في العقل ممن نفيت عنه صفة لكونها ممتنعة عليه. وبعبارة أخرى: إذا نفيت صفة الكمال عن معين وهو قابل لها، فإن هذا أكمل مما إذا نفيت عن معين وهو غير قابل لها. ثم يذكر المصنف أنهم يقولون: إن أئمة السنة قد شبهوا الله تعالى بالمخلوقات، فشبهوه ببني آدم ونحوهم الذين يتكلمون، ويسمعون، ويبصرون، ويعلمون .. إلخ، وتقوم بهم هذه الصفات، فيقول المصنف: إذا كان هذا هو مفهوم التشبيه عندكم، فإن قولكم: إنه لا يتكلم، ولا يوصف بالسمع، ولا بالبصر، ولا بغير ذلك من الصفات، يعتبر تشبيهاً له بالجمادات، فلماذا كان ذلك التشبيه -بزعمكم- شناعةً على الأئمة، وهذا التشبيه الذي هو شر منه لم يكن شناعة عليكم؟ فإن قيل: فما المخرج؟ قيل: المخرج أن عندهم إشكالاً في تفسير التشبيه الذي نفته النصوص، فإنهم لم يفقهوه، وإلا فلو فقهوه لما لزم لا هذا ولا هذا، فإن الله منزه عن مشابهة سائر مخلوقاته.

الوجه الرابع: أن نفي الصفات نقص وإثباتها كمال

الوجه الرابع: أن نفي الصفات نقص وإثباتها كمال قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي، هي -مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها- صفة كمال]. هذا هو الوجه الرابع في الرد، يقول المصنف: إننا أثبتنا صفة العلم من باب أن عدم إثباتها يستلزم الجهل، وهذا دليل عقلي على أن نفي أحد المتقابلين يستلزم ثبوت الآخر، فعندما علم بالعقل أن الله منزه عن الجهل؛ دلَّ العقل ضرورة على أن الله متصف بالعلم. هذا هو وجه الإثبات، لكن هل الإثبات بحكم العقل فضلاً عن حكم الشرع يقتصر على ذلك؟ نقول: لا. فهناك أوجه وأدلة من العقل تقضي بهذه الصفات، ومن هذه الأوجه ما ذكره المصنف في الوجه الرابع، وهو أن هذه الصفات -كالحياة، والكلام، والسمع، والبصر، ونحوها- هي صفات كمال إذا كانت مطلقة ولم تضف لا إلى الله ولا إلى المخلوق، وهذا الكمال الذي هو كمال ضروري للموجود لا بد أن يكون واجب الوجود متصفاً به. ومعلوم أن بني آدم حينما وصفوا بأنهم يعلمون ويسمعون ويبصرون؛ دل ذلك على كمالهم؛ لأن هذه صفات كمال، فكيف تصفون المخلوق بهذا الكمال وتعطلون الخالق عنه؟! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً! إذاً: من الأدلة على إثبات هذه الصفات: أن هذه الصفة بتجريدها عن الإضافة صفة كمال، والله تعالى أولى بأن يوصف بالكمال؛ ولذلك فقد سبق أن الله تعالى يذكر الصفات المطلقة على الإطلاق، وهي الكماليات المطلقة، وذلك كصفة العلم، فإن الله تعالى قد ذكرها مطردة مطلقة، بخلاف صفة الكيد والمكر، فإن الله تعالى لم يذكرها إلا مقيدة، كما قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] وغير ذلك من الآيات. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه وتعالى أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به؛ لكان المخلوق أكمل منه]. قوله: (لكان المخلوق أكمل منه): وهذا غلط من جهة العقل وغلط من جهة الشرع؛ لأن الله يقول: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ولذلك فإن المحققين من المتكلمين -كـ ابن كلاب والأشعري وأمثالهم- مهما كان عندهم من الميل عن السنة والجماعة من المسائل، إلا أنهم أثبتوا جملة من الصفات وسموها: الصفات العقلية، وقد سبق أن قال المصنف: إن من يثبت الصفات السبع لو روجع فيها وقيل له: لماذا أثبتها ولم تثبت غيرها؟ لقال: لأنه دل عليها العقل، أي: أنها صفات لازمة من حيث الضرورة العقلية. وقوله: أنها لازمة من حيث الضرورة العقلية، كلام صحيح؛ لكن من الصحيح أيضاً أن هناك جملة أخرى من الصفات لازمة من حيث الضرورة العقلية، وأن ما لم يثبته العقل لم يثبت في الشرع.

مقارنة بين من ينفون عن الله النقيضين وبين من يصفونه بالنفي فقط

مقارنة بين من ينفون عن الله النقيضين وبين من يصفونه بالنفي فقط قال المصنف رحمه الله: [واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، حتى يقولوا: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي. ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين]. قوله: (الجهمية المحضة كالقرامطة): فإن جهماً ظهر قبل ظهور القرامطة، والقرامطة منزع غير منزع المتكلمين، والجهمية المحضة هم الغلاة من نفاة الصفات, ولذلك ربما قال ابن تيمية: "وابن سينا وأمثاله من الجهمية الغلاة", مع أن ابن سينا جاء بعد الجهم بن صفوان، وهو يرى أن الجهم بن صفوان ليس على جادة محكمة. فالمقصود بكلمة التجهم على هذا التقرير: الغلاة من نفاة الصفات، كما أنهم ربما استعملوا كلمة التجهم على معنى الوقوع في شيء من نفي الصفات, وربما استعملوها على معنى الغلو، وربما استعملوها على معنى القصر, أي: أن ما وقع من نفي الصفات سموه تجهماً، أو سموا مقالته: من أقوال الجهمية، ولذلك يقول الإمام أحمد: "من قال: إن القرآن مخلوق فهو جهمي"، والمقصود أن هذه المقالة جهمية، لا أن من قالها فهو جهمي محض، وإن كان منتسباً للسنة. قال المصنف رحمه الله: [وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي ولا سميع ولا بصير، وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه]. قوله: (وآخرون وصفوه بالنفي فقط): أي: بالسلوب المحضة, وربما زادوا على مسألة السلوب فتكلموا بما يسمونه: الإضافات، وقد سبق أن ذكر ابن تيمية عن ابن سينا وغيره أنهم يصفونه بالسلوب والإضافات، كقولهم: إنه مبدأ العالم، أو علة العالم، وما إلى ذلك. وقوله: (وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه): أي: الذين هم على طريقة ابن سينا وأمثاله، الذين يصفونه بالنفي، ولا يصفونه بسلب النقيضين. وإذا اعتُبرت الحقائق المتناهية فإن مقالة رفع النقيضين -وهي مقالة غلاة الباطنية- أشد مناقضة من مقالة ابن سينا وأمثاله، وإن كانت كلا المقالتين مخالفة للعقل والنقل. لكن قوله: (وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه)؛ وذلك لأنهم يتكلمون بالنفي، والنفي وحده يقود إلى العدم، بخلاف من يستعمل رفع النقيضين؛ فإنه يعارض نفيه برفعه. ومن هنا صارت المقالة الثانية من هذا الوجه شراً من المقالة الأولى، ثم يقول بعد ذلك: (وأولئك -أي: الباطنية- أعظم كفراً من هؤلاء من وجه)؛ وذلك لأن مخالفة طريقة الباطنية لأوائل العقول أظهر من مخالفة ابن سينا بما يسميه بالسلوب والإضافات، فهؤلاء أعظم كفراً من وجه، وأولئك أعظم كفراً من وجه, لكن من حيث الحقائق المتناهية فإن طريقة الباطنية أبعد عن الشرع والعقل من طريقة ابن سينا وأمثاله. قال المصنف رحمه الله: [فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك؛ كالموت والصمم والبكم. قالوا: إنما يلزم لو كان قابلاًَ لذلك. وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً]. قوله: (يزيد قولهم فساداً)؛ لأنه أولاً: ممنوع لفظاً، وثانياً: يلزمهم أن يقعوا في شر مما فروا منه. مقالة: أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه: قال رحمه الله: [وكذلك من ضاهى هؤلاء، وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه] الذين يقولون: ليس هو بداخل العالم ولا خارجه، هم نفاة العلو، لكن هذه الكلمة كلمة فلسفية، أي: تكلم بها المتفلسفة كـ ابن سينا وأمثاله، وتكلم بها غلاة المتكلمين، ولما جاء من تأثر بهم من متأخري متكلمة الصفاتية؛ كـ محمد بن عمر الرازي وأمثاله، عدلوا قليلاً في العبارة فقالوا: (ولا يقال: أنه داخل العالم ..)، وحاولوا التفريق بين مقالتهم وبين مقالة المتفلسفة بمثل هذا الاستثناء، فإن ابن سينا يصرح فيقول: ليس بداخل العالم ولا خارجه، والرازي يقول: ولا يقال أنه داخل العالم ولا خارجه. والفرق بينهما قد يكون له مقصود عام، لكنه عند التحقيق فرق لفظي فقط. إذاً: فالمتأخرون من متكلمة الصفاتية كـ محمد بن عمر وأمثاله من نفاة العلو قد شاركوا المعتزلة، أما المقتدمون منهم؛ كـ أبي الحسن الأشعري، وأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وأبي علي الثقفي، وأمثال هؤلاء المتقدمة من أصحاب الأشعرية، كانوا مثبتة لعلو الله سبحانه وتعالى، وحتى من مال منهم إلى التصوف والسلوك كـ الحارث بن أسد المحاسبي وغيره.

الرد على قول النفاة: إن العلو لا يكون إلا للمتحيز

الرد على قول النفاة: إن العلو لا يكون إلا للمتحيز قال المصنف رحمه الله: [إذا قيل لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره، قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين]. وهذا هو الممتنع: أن ما ليس بداخل العالم ولا خارج العالم، لا يكون إلا شيئاً معدوماً أو شيئاً ممتنعاً، أما ما كان موجوداً -ولا سيما إذا قيل: إنه موجود قائم بنفسه- فهذا لا بد أن يكون متصفاً بحقيقة الوجودية، وهذا ليس له صلة بالعلم بالكيفيات؛ بل يعتبر من العلم بأوائل الكليات العقلية، أن الموجود لا بد أن يقال: إنه داخل العالم، أو إنه خارج عنه؛ لأن هذا من باب النقيضين، وهو كقولنا: إما أن يكون موجوداً، وإما أن يكون معدوماً. لكنهم يعترضون على هذا بمسألة القابلية، فيقولون: إن هذا في المتحيز، فإنه يقال عن الإنسان أو عن الجبل مثلاً: إما أن يكون داخل العالم، وإما أن يكون خارج العالم. فيقال: إن هذا الوصف يصح للمتحيز، لكنه ليس وصفاً للمتحيز فقط، وإنما قبله المتحيز -على تسميتكم- لكون المتحيز موجوداً، فالآدمي قابل لهذا المعنى لأنه موجود، وهو إما أن يكون خارج العالم أو داخل العالم، ولما علم امتناع كونه خارج العالم؛ دل على أنه داخل العالم. إذاً: هذا الوصف يصح للآدمي لكونه موجوداً؛ لأن كل ما سوى الله تعالى سيكون داخل العالم, والعالم هو كل ما سوى الله تعالى، وكل شيء موجود مهما كانت طريقة قيامه أو صفته أو ما إلى ذلك لا بد أن يكون داخل العالم, فعلم من ذلك اختصاص الباري سبحانه وتعالى بأنه بائن عن خلقه. لكن هذا التعبير -وهو قولهم: داخل العالم وخارج العالم- لا يوجد في القرآن؛ لأن الله تعالى قد عبر في القرآن بأشرف السياقات المذكورة في قول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ولا شك أن العلو تحقيق للمباينة على معنىً فاضل؛ لأن المباينة قد تكون على معنى ناقص، وهو أن يكون الخلق أعلى منه، أو ما إلى ذلك، ولذلك وصف الله تعالى نفسه بالعلو، وبالفوقية، وأنه في السماء .. إلى غير ذلك.

المراد بلفظ التحيز

المراد بلفظ التحيز قال المصنف رحمه الله: [فيقال لهم: علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق، لا يستثنى منه موجود، والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم]. قوله: (فهذا هو الداخل في العالم): والله تعالى منزه عن ذلك باتفاق المسلمين، أي: منزه عن أن يكون داخل العالم. ويستفاد من هذا السياق -خاصة في المناظرات- أن كل دليل عقلي يستعمله نفاة العلو، فهو إذا أمكن صدقه دل على نفي أن يكون الله سبحانه وتعالى داخل العالم، ولا شك أن هذا النوع من الدليل إذا صدق على هذا الوجه صار دليلاً على إثبات العلو؛ لأن من الأغاليط التي وقع فيها من وقع، وفرعوا عليها: أنهم ظنوا أن مفهوم قول الأئمة: (إن الله في السماء) هو من جنس قول المسلمين: (إن الملائكة في السماء)، ولذلك فإنهم يقولون: إذا قيل: إنه في السماء؛ لزم أن يكون في جهة، ثم يسلسلون مسألة الجهة، وأن الجهة أكبر منه، وما إلى ذلك من الفلسفة. وهذا كله فرع عن غلط في الفهم؛ لأن قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] لا يعني أن الله في السماء مثل قولك: إن الملائكة في السماء, أو إن عيسى في السماء, فإن قولك: إن الملائكة في السماء، هو بمعنى قولك: إن بني آدم في الأرض، أما قولنا: إن الله في السماء، فليس المقصود بالسماء هي السماوات السبع المخلوقة، وأن الله فيها كظرفية وحلول الملائكة فيها وما إلى ذلك؛ بل السماء هنا بمعنى العلو، أي: أن الله فوق سماواته, ولذلك ذكر الله الكرسي فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] فما بالك بعرشه الذي هو أعظم من ذلك؟! وما بالك بما يتعلق بذاته سبحانه وتعالى؟! فإنه لا يقدر أحد من الخلق قدر عرشه، فضلاً عن أن يقدر قدر ذاته جل وعلا. إذاً: فهم عندما فهموا فهماً خاطئاً ذهبوا ينفونه، وظنوا أن هذا هو ظاهر القرآن، ولهذا قالوا: كيف يقال: إنه في السماء؟ وقالوا: إنه يلزم من ذلك التحيز، وأن تكون الجهة مخلوقة مع الله؛ لأن السماء مخلوقة، مع أنه لا يقصد بالسماء الشيء المخلوق أن الله فيه، كما يقال: إن الملائكة في السماء، ونحو ذلك. قال رحمه الله: [وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، متميز عنها، فهذا هو الخروج]. وهذا لا دليل من العقل على نفيه، ولذلك قلنا سابقاً: إن كل ما يذكره المتكلمون أو المتفلسفة من دليل على نفي العلو، فإنه إذا تحقق وصدق يدل على نفي أنه داخل العالم، وهذه حقيقة بدهية، لم يكن هناك حاجة إلى دفعها، ولم يكن أحد يقول بها. ولذلك فإن الرازي يقول: "اعلم أن المسلمين أجمعين لم يذهبوا إلى أن الله داخل العالم إلا الحنابلة والكرامية"، وهذا من عدم إدراك محمد بن عمر الرازي لحقيقة الأقوال والمذاهب، ولذلك يقول ابن تيمية وغيره: "إن أئمة المقالات هم من أكثر الناس علماً بمقالات بني آدم، لكنهم من أجهل الناس علماً بحقيقة أقوال أئمة السنة والجماعة"، وهذا بين، فمثلاً: كتاب الملل والنحل للشهرستاني، نجد أنه يذكر أقوال البراهمة، وأقوال الفرس، وأقوال المتفلسفة الأوائل، وغير ذلك، ويذكر أقوال الطوائف الإسلامية؛ كالمعتزلة وأصناف المعتزلة، ومفصل أقوال أصناف الشيعة، وغير ذلك، لكن عندما يأتي إلى حقيقة أقوال السلف يضطرب في تقريره اضطراباً شديداً. ولذلك فإن الحاذق منهم إذا أراد أن يعرف قول الأئمة، إما أن يعرفه معرفة مجملة؛ كشأن أبي الحسن الأشعري، فقد عرف جملاً من كلامهم، مع أنه قصد الانتصار لهم والتعظيم لشأنهم, لكن القارئ في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) -مع أنه يعد من أجود كتب المقالات، ومصنفه يعد من أعدل المصنفين في المقالات- يلاحظ أنه كتب عن المعتزلة كثيراً، وفصل في حقائق مذهبهم، مع أنه ليس بمعتزلي عندما ألف الكتاب, وكذلك كتب عن طوائف الشيعة كثيراً, وعن طوائف المرجئة، ونحوهم، لكن عندما ذكر مقالة أهل السنة والحديث ذكرها مجملة، وربما أدخل عليها جملاً ليست منها. إذاً: من أكبر الإشكالات عند علماء الكلام والنظار: أنهم لم يفهموا حقيقة المذهب الذي عليه أئمة السنة؛ بل فهموه فهماً خاطئاً, وربما فهموه على وجهه في مسائل ولكنهم لم يقتدوا ولم يعتبروا به، ولا سيما في مسائل الإيمان وأصول التشريع، فإن هذا الباب أقرب إلى الإدراك والانضباط في فهمهم من باب الإلهيات. قال رحمه الله: [فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم, وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه]. ولذلك يقال: إن الفاضل منهم إذا أراد أن يعرف مذهب الأئمة، إما أن يعرف مجمله، وإما أن يعرفه بأنه تفويض عام، كشأن إمام الحرمين الجويني، فإنه صنف كتباً؛ كالشامل، والإرشاد الذي سماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة، وانتصر في هذه الكتب انتصاراً صريحاً لمذهبه، ثم بعد ذلك بان له الغلط في هذا الطريق، وصنف الرسالة النظامية، ولكنه زعم أن طريقة الأئمة هي التفويض، وهذا التفويض الذي ينسبه إلى الأئمة المتقدمين، أو يقول: إنه مذهب للسلف، لا يفهم منه الجويني أكثر من كونه ليس تأويلاً، فيقول: إن باب الصفات إما أن فيه تأويلاً، وهو يعلمه علماً مفصلاً، ثم تبين له في الأخير أن التأويل خطأ، فرجع من التأويل إلى التفويض، وربما أن أقرب ماهية للتفويض عنده أنه تركُ التأويل، وعدم الدخول في تفصيل المعاني، ويرى أن أي تحقيق للمعنى يعود إلى مسألة التأويل. إذاً: هذا النقص في العلم سببٌ لهذا الاضطراب الذي وقع فيه هؤلاء النظار من المسلمين الذين خرجوا عن السنة إلى طرق من طرق الابتداع في الدين. قال المصنف رحمه الله: [فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنىً آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل، كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل]. إذاً: قولهم: إن إثبات العلو يستلزم التحيز، يقال: ما المقصود بالتحيز؟ فإن قصدتم أن إثبات العلو يستلزم التحيز، أي: أن يكون الله سبحانه وتعالى داخل المخلوقات، فهذا لا يلزم، وليس هو المقصود بإثبات العلو؛ لأن إثبات العلو هو بمعنى إثبات مباينة الله وعلوه على خلقه، وإن أردتم أنه يستلزم التحيز، أي: أن الله منحاز عن الخلق، وأنه منفك عنهم مباين لهم, فهذا لا ينفيه العقل؛ بل إن من ينفي هذا فإنه لم يحقق ربوبية الله؛ لأنه يلزمه إذا لم يقل بمباينة الله لخلقه أن يدعي مداخلة الباري للخلق، وهذا هو النقص. إذاً: كلمة (التحيز) من الكلمات المجملة، وسيذكر المصنف في القاعدة الثانية بعض الكلمات التي فيها إجمال، وسيذكر القاعدة في شأنها. إذاً: هذه هي القاعدة الأولى، وقد قصد المصنف منها إلى تفصيل معنى من معاني السلف، وتقرير بعض دلائلهم، والرد على شبه المخالفين لهم.

شرح القواعد السبع من التدمرية [15]

شرح القواعد السبع من التدمرية [15] القاعدة الثانية التي ذكرها شيخ الإسلام في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، فيجب الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله ونحوها من خبر أو أمر أو نهي، وكذلك يجب الإيمان بكل ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وما تنازع فيه المتأخرون ففيه تفصيل في قبوله أو رده.

القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به وإن لم يفهم معناه

القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به وإن لم يفهم معناه قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه]. هذا السياق من كلام المصنف لو أراد بعض المتكلفين في الفهم وغير المنصفين في وزن أقوال أهل العلم، لربما تكلف حمقاً فقال: إن المصنف نزع في هذه الجملة إلى مسلك التفويض. وهذا إنما أشير إليه ليس من باب الدفاع عن المصنف، وأنه لا يذهب مذهب التفويض؛ لأن المصنف أكبر شأناً من أن يتوهم في شأنه هذا الأمر، ولكن لعل هذا السياق من كلامه يكون مناسبةً لتقرير مقام العدل في وزن أقوال الرجال ولا سيما أهل العلم، وأنه لا يحل لأحد ولا يجوز له شرعاً أن يأخذ المجمل من الأقوال، فيجعل هذا المجمل المشترك المحتمل لأكثر من معنى -يجعله على سيئ المعاني، حتى ولو كان اللفظ أو السياق يمكن أن يفسر بهذا، فإنه لو جوز أحد لنفسه أن يستعمل مثل هذا المنهج؛ لوقع في كلام كثير من أهل العلم من أهل السنة بعض الجمل المجملة التي يمكن أن تفسر إما بنوع من التفويض، أو بنوع من التأويل، أو بنوع من الغلو، أو بنوع من التفريط، أو ما إلى ذلك من أوجه المخالفة والنقص. وقد كان أهل العلم رحمهم الله لا يرون الزيادة في تفسير المعاني حتى على مخالفيهم, إلا من باب تقرير لوازم أقوالهم، ليعلم أن أقوالهم خطأ، وأما أن ينسب لمعين أنه يقول كذا وكذا من جهة التحقيق والمطابقة لأقواله بلازم من لوازمه، أو بمجمل كلامه، أو ما إلى ذلك، فإن هذا ليس عدلاً. وعليه: فإنه يجب إذا فسر كلام أحد من الأعيان أن يُعتبر حال هذا المعين، فإن كان هذا المعين معروفاً بالسنة والجماعة، وإثبات الصفات مثلاً، لكن جاء في جملة من كلامه سياق فيه اشتراك، بمعنى: أن هذا السياق استعمله المفوضة، فإنه لا يحل لأحد أن يقول: إن هذا المصنف قد غلط وفوض، ونحو ذلك. ولكن لا بأس أن يقال: لو أن المصنف عبر بغير هذا السياق لكان أحسن وأجود، فإن هذا من باب الضبط والتحقيق، وبيان أن الألفاظ المشتركة مع المخالفين لا ينبغي أن يعبر بها، لكن أن يلزم المصنف بحقيقة هذا اللفظ المشترك على معنى من المعاني المخالفة، فإن هذا لا يقع فيه إلا من كان عنده إما نقص من جهة العلم, أو نقص من جهة العدل، فإن الله يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فمن دخلت عليه مادة من الجهل، أو مادة من الظلم؛ ركب هذا المرتقى الصعب، وعد ذلك من باب الانتصار، أو من باب التحقيق، أو من باب تمييز الحق، أو ما إلى ذلك. ولا شك أن من قواعد الحق وأصوله: العدل بين الخلق، فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فلابد أن يكون العدل منهجاً لطالب العلم، فإن أولى الناس بالعدل هم أهل العلم؛ لأن العدل حقيقته: هو العمل بقضاء الله سبحانه وتعالى، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذه الجملة من كلام المصنف تفسر على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يقال: إن المصنف قصد بقوله: (أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف)، قصد به أن الأصل في قواعد الشريعة أن كل ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه حق يجب الإيمان به، وليس الإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فرعاً عن المعرفة بمفصل المعنى؛ بل إن مجرد كونه خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون هذا موجباً للإيمان والتصديق، بخلاف بعض المعاني التي لا تكون من صاحب النبوة، فإنها لا تصدق إلا إذا بان صدقها من جهة الإدراك لمعناها الصادق. أما إذا كان المعنى مجملاً أو منغلقاً، فإن الإنسان ليس مكلفاً بتصديقها, لكنها لما جاءت من صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام، فإن الأصل أنه يؤمن بما أخبر به وإن لم يعرف معناه. وعلى هذا التفسير فلا يلزم أن يكون المصنف قصد أن هناك جملة من خبر الرسول عن ربه لا يعرف معناه، بل هو يقول: إن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث أنه خبر من صاحب النبوة، حتى لو فرض جدلاً أن المعنى هنا ليس معلوماً، فإن عدم العلم بالمعنى لا يوجب التأويل أو الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وهذا من التعبير الذي يستعمله أهل العربية في كلامهم، فيكون هذا من باب اللزوم الذاتي، أنه يلزم الإيمان بما أخبر به النبي من حيث هو، وليس الذي أوجب الإيمان بالذي أخبر به النبي هو العلم بمفصل المعاني؛ بل إن مجرد كونه خبراً يجب الإيمان به, ولذلك لو سمع أعجمي كلاماً من كلام صاحب النبوة، فقيل له: إن هذا كلام نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ لوجب عليه أن يصدق هذا الكلام، وإن لم يكن في قلبه تصديق بهذه الكلمات، وإيمان بها، وتعظيم لها، وقبول لها، وإن كان ليس فقيهاً لسائرها. فهذا من باب أن العلم بما أخبر به الرسول عن ربه هو علم إيماني؛ لأن هذا هو من تحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله. الوجه الثاني: أن يقال: ربما قصد المصنف بالمعنى هنا: التمام من المعنى، وهو ما يتعلق بإدراك المعنى إدراكاً تاماً، بحيث يكون هذا من باب العلم بالكيفيات، فكأنه قصد أن ما أخبر به النبي عن ربه فإنه يجب الإيمان به، وإن لم نعرف تمام المعنى الذي هو الإحاطة بماهية المعنى، والإحاطة بماهية المعنى قد تفسر بمعنى الكيفية. وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: "نؤمن بها لا كيف ولا معنى"، وهذا الذي روي عن الإمام أحمد -إذا ما صح عنه- فإنه يفسر بأن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد ليس هو المعنى الذي كانت تنفيه المعتزلة وغيرهم من الطوائف، ولكن إما أنه ينفي المعنى الفاسد، وإما أنه ينفي العلم بالكيفيات. وقد يقول قائل: إن هناك فرقاً في لسان العرب بين كلمة (المعنى) وبين كلمة (الكيفية)، وهذا يقود إلى أن هذه التعبيرات قد لا تكون هي المناسبة على كل تقدير، لكنها إذا وردت من أحد من المعروفين بالسنة والجماعة لزم أن تفسر على هذا الوجه. فالمقصود: أن هذا الكلام من كلام المصنف يخرج على أحد هذين الوجهين، وكأن التخريج الأول أصح، بمعنى: أنه يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث هو خبر صاحب النبوة، وإن كان من موجبات الإيمان به ما تضمنه من المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى، فيصير الإيمان به متحركاً في نفوس الخلق من جهتين: من جهة أنه كلام صاحب النبوة، ومن جهة أنه تضمن معنى من الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى.

ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها يجب الإيمان به

ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها يجب الإيمان به قال المصنف رحمه الله: [وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة متفقاً عليه بين سلف الأمة]. قوله: (وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها): أي: أن ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فإنه يجب الإيمان به، والاتفاق -الذي هو الإجماع- لابد أن يكون مبنياً على نص، والمقصود بالنص: الدليل الشرعي، سواء كان هذا من باب النص المعروف في مصطلح الأصوليين، وهو الجملة الصريحة في الدلالة، أو كان من باب الحكم على خبر معين، فربما كان الإجماع مبنياً على مثل هذا, وربما كان الإجماع مبنياً على جملة من الدلائل، بمعنى: أن العلماء أجمعوا في مسألة من المسائل، وتجد أن دليل الإجماع هو جملة من الأدلة، وقد يكون بعض هذه الأدلة نصياً، وبعضها من باب الظاهر. وقوله: (مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة): أي: باب أصول الديانة، وباب صفات الله سبحانه وتعالى الذي ذكر المصنف تقريره، فباب الصفات ليس مما يثبت بالكتاب وحده، أو بالسنة وحدها، أو بالإجماع وحده؛ بل عامة هذا الباب نجد أن الأدلة متواترة في شأنه، وهكذا هو شأن قواعد هذا الباب، فإن قواعد باب الأسماء والصفات -أي: القواعد الكلية في هذا الباب- لا شك أنها ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. وكذلك جمهور التفصيل في هذا الباب ثابت أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع، وربما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه صفة لم يذكرها القرآن، لكن نجد أن نوعها مذكور في متواتر القرآن، كالنزول مثلاً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يذكر في كتابه أنه ينزل إلى السماء الدنيا، لكن نجد أن نوع هذه الصفات قد جاء ذكره في القرآن في ذكر مجيء الله، وإتيانه، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك. إذاً: هذه هي الأصول الثلاثة في تقرير الاعتقاد، وهي: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة.

الألفاظ التي لم يرد بها دليل شرعي

الألفاظ التي لم يرد بها دليل شرعي قال المصنف رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد]. مقصود المصنف بالمتأخرين هنا: الذين جاءوا بعد ظهور البدع في مسائل الصفات، فهؤلاء المتأخرون الذين انحرفوا عن هدي السلف، وخرجوا بشيء من الأقوال المحدثة، ولم يقتدوا بكلمات القرآن وكلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستعملوا ألفاظاً مجملة، فصارت القاعدة هنا: (أن كل لفظٍ مجملٍ حادث فيما يتعلق بأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، فإنه لا يجوز أن يطلق إثباتاً ولا نفياً)، فلابد أن يجتمع فيه الأمران: الأول: أنه مجمل، أي: أنه يحتمل أكثر من معنى، والثاني: أنه حادث، أي: مبتدع لم يذكر في الكتاب والسنة, ولا في إجماع كلمات الأئمة، وهذه الألفاظ المجملة الحادثة قال المصنف: ليس على أحد بل ولا له أن يطلق إثباتها أو أن يطلق نفيها. وقولنا: (كل لفظ مجمل)، المقصود بالإجمال هنا: الإجمال بوضع اللغة، وباستعمال المستعملين من النظار، فاللفظ قد يكون مجملاً من حيث اللغة، وقد يكون مجملاً باستعمال المستعملين له, فإن هناك بعض الألفاظ هي من حيث اللغة ليست مجملة، بمعنى: أنه إذا عبر بها بان المقصود بالتعبير بها، لكن باستعمال المستعملين من النظار ونحوهم صار هذا اللفظ مجملاً، ومن المعلوم أن باب الأخبار باب واسع، لكن لما دخلها الإجمال من حيث الاستعمال، أغلق شأنها، فقد يكون اللفظ من الألفاظ السائغة، لكن لما طرأ الاستعمال وتعدد وجه تفسيره، صار مجملاً من جهة الاستعمال, ولهذا أصبح إطلاقه إثباتاً ونفياً لا يكون حسناً؛ بل لا بد من التفصيل: فينظر في المعنى المراد، فإن كان المعنى المراد حقاً قبل المعنى، وإن كان المعنى المراد باطلاً رد المعنى, وإذا قبل المعنى أو فسر المعين كلامه بمعنىً صحيح، فهل من لازم قبول المعنى قبول اللفظ؟ الجواب: لا. بل يقبل المعنى ويعبر عنه بالكلمات الشرعية. والله سبحانه وتعالى لم يضيق أمر المكلفين في عقيدتهم وفي دينهم، فإن الله تعالى قد ذكر من الكلمات التي لا يأتيها الباطل، وهي كلمات القرآن، وقد قال الله عنه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] وكذلك كلمات صاحب النبوة، وهي الكلمات الجامعة المانعة، وقد أوتي جوامع الكلم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام. فهذه الكلمات الشرعية لا شك أنها أفصح وأصدق وأضبط في تعيين الحق، فلا يكون المعنى الحق موجباً للتكلم بلفظ مجمل؛ بل المعنى الحق يعبر عنه بالكلمات المفصلة، وهي الكلمات الشرعية، أو ما جاز من الكلمات، وهي الكلمات التي ليس فيها إجمال ولا ابتداع. قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه؛ بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك] هذا التفصيل من المصنف في قوله: (قبل .. رد، لم يقبل مطلقاً, ولم يرد ..) هذا كله في المعنى، وأما في اللفظ فإنه لا يجوز استعماله في هذا المقام، لكن ربما ساغ استعماله أثناء المناظرة، فيكون من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، فهذا الاستعمال مقيد بحال المناظرة التي يقصد بها الدعوة إلى حق أو الدفع لباطل. ولذلك فإن ابن تيمية لما تكلم عن لفظ الجهة ونحوه قال: "إن مثل هذه الكلمات لا بأس أن تستعمل إذا قامت المصلحة الراجحة حال المناظرة"، وهذا من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، أما أن تكون هذه الكلمة مما يعرض في مقام التقرير لعقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة وسلف الأمة، فهذا لا يصح. وقوله: (كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك): هذا مثال للكلمات المجملة التي قصدها المصنف في قوله: (وما تنازع فيه المتأخرون)، أي: ما تنازع فيه المتكلمون وبعض المنتسبين للسنة والجماعة من الكلمات.

لفظ (الجهة)

لفظ (الجهة) قال المصنف رحمه الله: [فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم]. هذان معنيان للفظ الجهة: فإما أن يراد بالجهة شيء موجود، أي: شيء مخلوق؛ لأن الشيء إذا كان موجوداً لزم أن يكون مخلوقاً؛ لأنه ليس ثمة إلا الخالق سبحانه وتعالى والمخلوق، فإذا قيل: جهة موجودة؛ لزم أن تكون مخلوقة. فإن أريد بالجهة الشيء المخلوق؛ كالسماوات السبع، أو السماء السابعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته. وإن أريد بالجهة ما ليس مخلوقاً مما باين العالم، وما فوق العالم، وما فوق السماوات؛ فإن هذا لا يسمى جهة، ولكنه يسمى فوقاً وعلواً، وما إلى ذلك من كلمات القرآن. قال رحمه الله: [ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك. وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله تعالى فوق العالم بائن من المخلوقات]. إذا تضمن لفظ الجهة أكثر من معنى، كما عبر المصنف في بعض كتبه كدرء التعارض عن ذلك بقوله: فيقال لمن تكلم بلفظ الجهة ماذا يريد بالجهة؟ الجهة الوجودية، أو الجهة العدمية، فإن أريد الجهة الوجودية -أي: الشيء الموجود- فإن الله منزه عن أن يكون في شيء موجود؛ لأن هذا الشيء الموجود مخلوق، وإن أريد الجهة العدمية، وهي ما فوق العالم -أي: ما ليس مخلوقاً مما باين العالم- فإن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه. وهذا التعبير إنما يستعمله المصنف في مقام المناظرات، أما في مقام تقرير المعتقد الحق، ومعتقد المسلمين للعامة، أو الدعوة إلى ذلك، فلا ينبغي أن يعبر بلفظ الجهة ثم يفسر فيقال: الجهة الوجودية، أو الجهة العدمية، ونحو ذلك, وإنما يعبر بالكلمات التي نطق بها القرآن؛ كالاستواء على العرش، والعلو، والفوقية، ونحو ذلك. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل]. قوله: (فإن أردت الأول): وهو أن الله فوق العالم، فهذا صحيح، ولكن لا يعبر عنه بلفظ الجهة؛ بل يعبر عنه بكلمات القرآن، وهو المذكور في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وغير ذلك من الآيات.

لفظ (المتحيز)

لفظ (المتحيز) قال المصنف رحمه الله: [وكذلك لفظ المتحيز، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات، فالله أعظم وأكبر؛ بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!)، وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)، وفي حديث ابن عباس: (وما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)]. الحديث الأول في الصحيحين، ومصطلح (الصحاح) هو ما التزم مصنفه أن ما يخرجه في كتابه يكون صحيحاً, سواء صُدق في هذا، أي: اطرد التصديق له، كما في صحيح البخاري مثلاً، فإن من بعده شهد له بذلك، واستقر الأمر في الجملة على أن كل ما في صحيح البخاري فهو صحيح, وإن كان هناك بعض الأحاديث التي تلكم فيها بعض الأئمة المتقدمين، وكان لهم فيها نظر آخر. وكذلك ما في صحيح مسلم، ومن المعلوم أن الأئمة المتقدمين ومن بعدهم قد تكلموا في بعض الأحاديث التي رواها مسلم، لكن في الجملة أن هذا وهذا قد شاء القول بالصحيح. وقد تسمى بعض الكتب بالصحاح وإن كان النظر فيها من جهة عدم الموافقة كثيراً، كما في صحيح ابن خزيمة , أو صحيح الحاكم، إذا سمي صحيحاً، وهو مستدرك على الصحيحين، فصحيح الحاكم أو صحيح ابن خزيمة ليس الأمر فيها كما في البخاري ومسلم. فالمقصود: أن مصطلح الصحاح على هذا الوجه، أي: ما قصد المؤلف منه أن يذكر الصحيح من الحديث فقط. والحديث الثاني والثالث رواهما ابن جرير وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]. قال رحمه الله: [وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، أي: منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه]. وهذا المعنى -أي: المعنى الثاني- صحيح، وهو أنه منحاز عن المخلوقات، مباين لها، منفصل عنها، لكن التعبير بلفظ (التحيز) تعبير ليس صحيحاً؛ لأنه ليس شرعياً، ثم إنه لفظ مجمل، أراد به المتكلمون ما كان حقاً من المعاني، وربما أرادوا به ما كان حقاً وما كان باطلاً.

شرح القواعد السبع من التدمرية [16]

شرح القواعد السبع من التدمرية [16] القاعدة الثالثة في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد يحتاج إلى تفصيل، فإن أريد بظاهر النصوص المعاني الصحيحة اللائقة بالله، فإن هذا الظاهر مراد، وإن أريد بالظاهر التشبيه الذي يليق بالمخلوقات، فإن هذا المعنى غير مراد، ولكن لا يجوز أن يقال: إنه هو ظاهر النصوص، فإن ظاهر نصوص الصفات هو إثبات الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه، وهذا لا يقتضي تشبيهاً ولا تمثيلاً.

القاعدة الثالثة: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد يحتاج إلى تفصيل

القاعدة الثالثة: أن القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد يحتاج إلى تفصيل قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد؟]. هذه هي القاعدة الثالثة، وقد يقال: إنها تعتبر جملة من جمل القاعدة الثانية؛ لأن المصنف لا يزال يتكلم في الألفاظ المجملة الحادثة المشتركة، سواء كان اللفظ لفظاً فرداً؛ كلفظ الجهة، أو كان اللفظ لفظاً مركباً؛ كقول: ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً. فما يقال فيه: إنه يستفصل فيه، قد يكون كلمةً، وقد يكون جملةً مركبة، لكن المصنف عني بإفراد هذه الجملة في هذه القاعدة؛ لأن هذه الجملة من الجمل التي شاع النظر فيها كثيراً، فإن سائر من تأول الصفات أو بعضها، يسمي ما تأوله ظاهراً، ويجعل ما يقابل هذا الظاهر هو المؤول. فيذكر المصنف أنه إذا قيل: ظاهر النصوص مراد أو ليس بمراد؟ فإن هذه الجملة من الجمل المجملة التي لا بد فيها من استفصال، وهذا الإجمال إنما هو باستعمال المستعملين من النظار لهذه الجملة، وليس هو إجمالاً بأصل اللغة، فلولا أن هؤلاء الذين خالفوا الأئمة تكلموا بلفظ الظاهر على قدر من التأويل له، أو التعطيل للمعاني الصحيحة، أو ما إلى ذلك؛ لكان الأصل أن من تكلم في التقرير فقال: إن ظاهر النصوص مراد؛ فإن كلمته هذه كلمة سائغة جائزة، لكن لما جاء الاشتراك من جهة استعمال المستعملين لها؛ لزم أن يقال بالتفصيل؛ لأن المتكلم بذلك قد يكون فهم من الظاهر التشبيه، فإذا قيل له: إن ظاهر النصوص مراد، فكأنه قيل له -في زعمه-: إن التشبيه مراد. ولذلك فلابد أن يقال: ماذا يقصد بالظاهر؟ فإن قصد بالظاهر المعاني الصحيحة، فإن ظاهر النصوص مراد، وإن قصد بظاهر النصوص التشبيه الذي يليق بالمخلوقات وما إلى ذلك، فإن هذا المعنى ليس مراداً، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: إنه هو ظاهر النصوص, وهذا من طرق الرد على المخالفين الذين سموه بظاهر النصوص, أي: فهموا فهماً من التشبيه وسموه: ظاهر النصوص، ونقول: إنه يلزم على ذلك أن يقال: إن ظاهر القرآن كفر؛ لأن التشبيه نقص, والله منزه عن النقص، ومن نقص الله فقد كفر. فمن قال: إن ظاهر النصوص هو التشبيه، فهي بحاجة إلى التأويل، فيقال له: ليس ظاهر النصوص هو التشبيه؛ لأنه يلزم على هذا أن ظاهر القرآن كفر. ومن المعلوم أن غالب الناس لا يعلمون التأويل؛ ولا سيما أن هؤلاء يجعلون التأويل على طرق كلامية، فيلزم من ذلك أن جمهور من يقرأ القرآن ويعتقد بظاهره، أن هذا الظاهر عندهم كفر؛ لأنه نقص وتشبيه. قال المصنف رحمه الله: [فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك, فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً, ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال]. فلا يجوز لأحد أن يقول: هذا هو ظاهر القرآن، حتى وإن قال: إنه سيتأول هذا إلى معنى صحيح بزعمه، فإن مجرد تسميته لظاهر القرآن بهذه الحقائق الكفرية، من تشبيه الله بخلقه؛ فإن هذا طعن في كلام الله سبحانه وتعالى.

غلط من يجعل ظاهر النصوص يقتضي التشبيه

غلط من يجعل ظاهر النصوص يقتضي التشبيه قال المصنف رحمه الله: [والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل]. أي أنهم يفسرون الآية بمعنى من معاني التشبيه والتمثيل، فيقولون: إن ظاهر الآية يدل على كذا وكذا، ويكون هذا الذي فسروا الآية به غلطاً، أي: أنه ليس لائقاً بالله سبحانه وتعالى، ويتفق أهل السنة معهم على أن هذا المعنى ليس لائقاً بالله، فإذا فسروها بذلك قالوا: فهذا ظاهر القرآن, فهو يحتاج إلى تأويل. والحق أن معنى الآية ليس هو ما فسروها به ابتداء وسموه ظاهراً، ولا ما فسَّروها به ثانياً وسموه تأويلاً؛ بل إن معناها يكون صحيحاً مناسباً ليس من باب التشبيه، ولا من باب النفي والتعطيل الذي سموه تأويلاً. فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يقولون: إن ظاهر هذه الآية أنه استوى مثل جلوس المخلوق على شيء مخلوق، وهذا يلزم منه قدم هذا المخلوق معه، ويلزم منه مماسة، ويلزم منه تحيزات، ويلزم منه حاجة الباري إلى الاستواء على العرش، أو إلى العرش، وغير ذلك من الكلمات التي يقحمونها على هذا النص. فهذا المعنى -أي: أنه محتاج إلى العرش، وليس غنياً عما سواه ونحو ذلك- لا شك أن الله منزه عنه؛ ولذلك يتأولون الآية فيقولون: إن المخرج من هذا التفسير الظاهر أن يقال: إن (استوى) بمعنى: استولى. فيكون الجواب هنا: أن تفسير الآية بالمعنى الأول الذي سميتموه ظاهراً، وبالمعنى الثاني كلاهما غلط، وثمة معنى ثالث وهو المعنى الصحيح، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، أي: علا على عرشه علواً يليق بجلاله، وهذا المعنى لا يلزم فيه تلك اللوازم التي ادعوها لازمة للتفسير الأول. وقوله: (وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل): هذا هو الوجه الثاني من غلطهم، وهو أنهم ربما قالوا: إن ظاهر النص هو كذا وكذا، وهو ليس مراداً، ويكون تفسيرهم لظاهر النص تفسيراً صحيحاً, لكنهم ينازعون في نفيه، ولا ينازعون في أصل التفسير. فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، قالوا: إن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الله موصوف بهذه الصفة وهي الأصابع، وهذا ليس مراداً، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] قالوا: إن ظاهر ذلك أن الله خلق آدم بيديه، وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله أخبر عن نفسه كذلك. إذاً: فهم ربما فسروا الآية بمعنىً حق، لكنه عندهم يكون باطلاً، فتكون منازعتهم في نفيه وليس في أصل التفسير، وهذا يختلف عن الوجه الأول، وهو أنهم يفسرون الظاهر بمعنى يُتفق معهم على أنه غلط، لكن ينازع في كونه هو ظاهر اللفظ.

أهمية اعتبار السياق في فهم النصوص

أهمية اعتبار السياق في فهم النصوص قال المصنف رحمه الله: [فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني ...)، وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، وقوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق. فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق]. إن من أسباب التوهم الذي عرض لهؤلاء، مع ما دخل عليهم من علم الكلام ومادته، إلا أن من أسباب التوهم الإشكالي الذي طرأ على هؤلاء: أنهم لم يفقهوا القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار السياق، وإنما يأخذون حرفاً أو كلمة ويبنون عليها، وهذا الأمر -وهو عدم فقه الشريعة وأصولها باعتبار السياق- إذا دخل على أحد في مسائل أصول الدين؛ خرج من السنة إلى البدعة، ومن فاته الفقه للسياق في باب الفقه وفروع الشريعة؛ خرج من الأقوال المحكمة إلى الأقوال المتشابهة الشاذة، مع أنه ربما يظن أن هذا هو عين المتمسك بصريح النص، أو بالحقائق الظاهرة. إذاً: فلابد من اعتبار السياق في فهم النصوص؛ لأن فقه الأئمة رحمهم الله -حتى في فروع الشريعة- هو فقه سياق، بمعنى: أنهم يعتبرون قواعد هذا الباب، وأصوله، وغير ذلك، ولذلك لا بد لطالب العلم المقتدي بهدي الأئمة وهدي الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون متبعاً لهذا الفقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فاعتبار السياق مهم جداً. ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم قسماً، فأعطى رجالاً ولم يعطِ رجلاً، فقال سعد: (يا رسول الله! أعطِ فلاناً فإنه مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو مسلم، قال سعد: أقولها ثلاثاً ويكررها علي ثلاثاً: هو مسلم، ثم قال: إني لا أعطي الرجل ...) الحديث. وما جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ائتني بها، فجاءه بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). وهنا سؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي ذلك الرجل مؤمناً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن جارية معاوية بن الحكم: إنها مؤمنة، لما أجابته بأن الله في السماء وأنه رسول الله؟ والرجل في حديث سعد يعلم بالقطع أن سعداً ما زكاه وما مدحه إلا لكون ذلك من البدهيات؛ وذلك لأنه يقر بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، فالحقيقة التي مع الجارية يعلم أنها معه؛ بل إن معه أكثر من ذلك. ولكن الفرق هو من جهة اعتبار السياق. كذلك المنافقون، فإنه قد يقال: إن القرآن جعل المنافقين من جملة المسلمين، وقد يقال أيضاً: إن القرآن لم يجعل المنافقين من جملة المسلمين، أي: من جهة الاسم، وإلا فإن المنافق من حيث الباطن كافر. والقائل بأن المنافقين في القرآن ليسوا من جملة المسلمين قد يستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56] والله تعالى يقول في موضع آخر من كتابه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18] والمعوقون هنا هم المنافقون، ومع ذلك قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18] وهناك في آية التوبة يقول: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] ولذلك يقول ابن تيمية: "إن القرآن إذا ذكر المنافقين في سياق ربما أدخلهم في الإسلام، وإذا ذكرهم في سياقٍ آخر ربما أخرجهم منه، ويكون الاعتبار بحال السياق، وبحال فقه السياق". مثال آخر: مسألة التكفير، قد يقول قائل: إن فقه الحجة ليس لازماً, فإن الله تعالى كفّر الكفار وحكم عليهم بالنار، وقد قال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فحكم الله بكفرهم، وذرأهم لجهنم، مع أنه وصفهم بأنهم لا يفقهون. وقد يقول آخر: بل لا بد من فقه الحجة، ونحو ذلك من تسلسل المعاني، والدليل على ذلك أن الله لما كفر أصحاب فرعون قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] وقال تعالى عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] مع أن الكلام في حقيقته ليس متناقضاً، بمعنى: أن القوم الذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] هؤلاء يدخل فيهم فرعون ومن معه الذين قال الله فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فهل يثبت القرآن مرةً أنهم يعرفون، ومرة يثبت أنهم يجهلون، ومرة يثبت أنهم يعقلون، ومرةً يثبت أنهم لا يعقلون؟ الجواب: لا، ولكن هذا من تنوع مادة السياق. ولذلك فإن الخوارج عندما قرءوا قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] ظلوا لأمرين: أولاً: لأنهم لم يعتبروا سياق الآيات الأخرى، وهذا نقص فاتهم، فلم يقرءوا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وغيرها من الآيات الدالة على أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن يشاء. ثانياً: لأنهم لم يفقهوا سياق الآية، فلو قرءوا ما قبل الآية وما بعدها، وتأملوا في سياق الآية نفسها؛ لبان لهم أن هذا السياق في قومٍ كفار. إذاً: لا بد من اعتبار فقه السياق، سواء في أصول الدين، أو في فروعه، ولذلك يقال: إن من فاته فقه السياق، فإذا كان في باب أصول الدين؛ فإنه يخرج من السنة إلى البدعة، كما فعلت الخوارج، فإنهم لم يفقهوا سياق القرآن؛ بل أخذوا بعض الكلمات من القرآن وبنوا عليها، وهذا من الضلال التي ضل فيه أهل الكتاب، الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] وربما كان هذا الكفر كفر جحود، وربما كان من باب التحريف، أو من باب الترك، أو من باب عدم الفقه، أو من غير ذلك.

الكلام على حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض)

الكلام على حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) قال المصنف رحمه الله: [أما الحديث الواحد، فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمنيه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال: (يمين الله في الأرض)، وقال: (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً وأنه محتاج إلى التأويل؟! مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس]. يبين المصنف أنه لسنا بحاجة إلى أن نقول: إن هذا من باب المجاز؛ بل إن من قرأ هذا الأثر، وقرأ سياقه كاملاً، لا يفقه منه أن الحجر الأسود هو يمين الله، أي: على الحقيقة، أنه صفة من صفاته القائمة بذاته، ولذلك قال ابن عباس: (فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله)، فقد جاء السياق هنا من باب الكناية والتشبيه ونحو ذلك، وليس من باب الحقائق التي هي من باب الصفات التي تليق بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الحجر الأسود هو حجر مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، فيمتنع أن يكون صفة من صفات الباري القائمة بذاته؛ كيديه سبحانه وتعالى ونحو ذلك. والإضافة في قوله: (يمين الله)، هي من باب إضافة التشريف، ومن المعلوم أن المضافات إلى الله تعالى ليست بالضرورة من باب الصفات والأفعال، وهذا مثل قولنا: (رسول الله)، فليس معنى ذلك أن الرسول صفة من صفات الله، إنما سمي برسول الله، أو نبي الله لأن الله أرسله، وبيت الله إنما سمي بذلك لأن الله جعلها قياماً للناس، وهذا من باب إضافة الاختصاص والتشريف.

الكلام على حديث: (عبدي جعت فلم تطعمني ...)

الكلام على حديث: (عبدي جعت فلم تطعمني ...) قال المصنف رحمه الله: [وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً: (يقول الله: عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)، وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده, فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسِّراً ذلك بأنك: (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو عدته لوجدتني عنده)، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل]. فقوله: (أما علمت أن عبدي فلاناً ..) إلخ، هذا هو التفسير لقوله: (جعت فلم تطعمني)، وهذا معروف في كلام العرب، ولذلك فلا يقال: إن هذا النص يحتاج إلى تأويل؛ بل هو مفسر في نفس سياقه، فمن قال: إن الأئمة تأولوا حديث: (عبدي! جعت فلم تطعمني)، فيقال: إن هذا ليس من باب التأويل، فليس في كلام الأئمة أبداً استعمال للتأويل بمعنى التأويل الذي يستعمله المتكلمون، أما التأويل بمعنى التفسير للآية أو للحديث، كما يقول ابن جرير: "وتأويل قوله تعالى كذا"، فهذا لا إشكال فيه، لكن التأويل بمعنى التأويل الكلامي، فهذا لم يقع. إنما قد يظن البعض أن ظاهر النص شيء آخر، فزعم أن الخروج عنه من باب التأويل، والحق أن كلمات الله، وكلمات نبيه صلى الله عليه وسلم في الإخبار عنه سبحانه وتعالى، هي كلمات تقصد على معنى واحد، وقد سبق أن أشرت إلى أن ابن تيمية تكلم في المجاز من جهة كونه من عوارض المعاني، فقال: "لا يمكن أن يكون هناك خبر عن الله سبحانه وتعالى له معنى باطل، ومعنى صحيح، والأول يسمى حقيقة والثاني يسمى مجازاً ... " إلخ، بل إن الآية لا تدل إلا على معنى واحد وهو المعنى الحق، وهذا هو ظاهر الآية وهو باطنها، وليس لها أكثر من ذلك. ولذلك إذا قرئ هذا الحديث على العامة من المسلمين قراءة تامة؛ بل لو قرئ على غير المسلم وقيل له: إن في حديث نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحديث، فلن يستشكل السياق؛ لأن السياق هنا سياق اجتماعي كامل, لكن لو قرئ عليه قوله: (عبدي؛ جعت فلم تطعمني)، وقطع الحديث عن سياقه، فهنا ربما يتبادر الإشكال إلى بعض الأذهان.

الكلام على حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)

الكلام على حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) قال المصنف رحمه الله: [وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة]. فالبينية لا تستلزم المماسة، وإن أمكن ذلك في بعض السياقات من كلام العرب، فإن هذا ليس مطرداً لازماً؛ بل إن جمهور لغة العرب إذا ذكروا البينية وقالوا: إن هذا الشيء بين يدي الشيء، ونحو ذلك، فليس هذا من باب المماسة. فإذا جاز في سياق من كلام العرب، فلا يلزم أن يجوز في سائر السياقات، ولذلك فإن القرآن الكريم يفسر بكلام العرب، ويبنى تفسيره على كلام العرب، لكن لا بد من اعتبار السياق، فإن أهل اللسان العربي من أكثر الأمم تعدداً في السياقات، فكلماتهم يتعدد سياقها تعدداً كثيراً، ولكثرة هذه السياقات ظهر ما يسمى بنظرية الحقيقة ونظرية المجاز، مع أن الأمر لم يكن محتاجاً إلى مثل هذا التقسيم. فالمقصود: أن كلمة البينية لا تستلزم المماسة، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] ولم يلزم من ذلك أن يكون السحاب مماساً للأرض ولا مماساً للسماء، مع أن هذا كلام عربي معروف، وقد ذكره الله تعالى في كتابه. ومن رد تفسيره المخالف لإجماع الأئمة إلى لسان العرب، فإنه ينظر معه في مقامين: المقام الأول: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى على هذا اللفظ فرداً, فإذا ما وجد أن في لسان العرب تجويزاً لهذا المعنى على هذا اللفظ من حيث هو لفظ فرد، قيل: ينظر معه في المقام الثاني. المقام الثاني: التحقق من أن لسان العرب يجوز هذا المعنى فيما شاكل أو ماثل السياق القرآني الذي تأوله. وأحياناً ينقطع المتأول في المقام الأول، فمثلاً: قولهم: إن (استوى) بمعنى: استولى، إذا نظر في لسان العرب فإنهم لا يستعملون هذا المعنى حتى في مقام الإفراد، ولو فرض أنهم يستعملونه، قيل: لا بد من النظر في السياق، فإنه لو صح -كما زعموا- أن العرب نطقوا بهذا المعنى، كما في قول الأخطل: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق فيقال: هذا سياق آخر، أما السياق الذي في القرآن فليس هو كذلك؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالاستيلاء؛ لأن الاستيلاء يكون عن مغالبة، وعن انتزاع، وكأن أحداً نازعه أو غالبه في ملكه، أو ما إلى ذلك. وحتى إذا فسر الاستيلاء بالملك الذي ليس عن مغالبة، فإن ملكه سبحانه وتعالى ليس مختصاً بالعرش وحده؛ بل هو ملك السماوات والأرض ومن فيهن. وهذا يدل على أهمية اعتبار السياق.

فرق بين قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) وبين قوله: (مما عملت أيدينا)

فرق بين قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) وبين قوله: (مما عملت أيدينا) قال المصنف رحمه الله: [ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71]]. فهنا ثلاثة سياقات: فقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] هذا فيه إثبات صفة اليدين، ومعنى ذلك: أن الله خلق آدم بيديه على الحقيقة، على ما يليق بجلاله، من الفعل الذي لا نعلم كيفيته. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] أي: مما عملنا. وهذا التفسير ليس من باب التضاد؛ بل إنه من باب التنوع الذي جميعه لائق بالله تعالى، وقد فسرت هذه الآيات بهذه الأوجه من باب اعتبار السياق. قال رحمه الله: [فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] وهناك أضاف الفعل إليه فقال: (لما خلقت)، ثم قال: (بيدي)، وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]]. وهذا تفريق من المصنف من جهة السياق، فإن هذا سياق مضاف، وهذا سياق مفرد، وهذا سياق جمع .. وغير ذلك. قال رحمه الله: [وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] في المفرد، فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك]. من المعلوم أن الله إذا ذكر نفسه فإما أن يكون بصيغة المفرد، وإما أن يكون بصيغة الجمع، أما صيغة التثنية فإن هذا لم يقع إلا فيما هو من صفاته سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولم يقل: لما خلقت أيدينا، ونحوه. وقوله: (وربما تدل على معاني أسمائه): هذا من جهة أن صيغة الجمع إذا ذكرت دلت من جهة سياقها على جملة من معاني أسماء الرب سبحانه وتعالى، فقد سبق أن الاسم من أسماء الرب، أو الفعل من أفعاله سبحانه وتعالى يكون دالاً على جملة من المعاني، كالسميع؛ فإنه يدل على صفة السمع، ويدل على إثبات صفة العلم، ويدل على إثبات صفة البصر؛ لأن من اتصف بالسمع لزم أن يتصف بنظيره وهو البصر، ولزم أن يكون متصفاً بالحياة؛ لأنه لا يكون سميعاً إلا إذا كان حياً .. وهلم جرا. فالاسم الواحد يقتضي إثبات جملة من كمالات الرب سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: [فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي، كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وهو نظير قوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، و (بِيَدِكَ الْخَيْرُ)، ولو قال: خلقت بيدي، بصيغة الإفراد؛ لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) بصيغة التثنية]. وهذا صريح في أن هذا فيه ذكر لصفة اليدين، ولهذا جاء بصيغة التثنية المضافة، ولا يوجد في كلام العرب أنهم يجوزون تأويل مثل هذا السياق على معنى النعمة أو القوة، أو غير ذلك. قال رحمه الله: [هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأمثال ذلك]. أي أن هذا السياق في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ليس سياقاً واحداً في القرآن؛ بل له نظائر في كلام الله وكلام رسوله، وقد أجمع سلف الأمة على هذا المعنى، وعلى هذا الإثبات لصفة اليدين. وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

من يقول في بعض الصفات: الظاهر مراد أو ليس بمراد يلزمه ذلك في جميع الصفات

من يقول في بعض الصفات: الظاهر مراد أو ليس بمراد يلزمه ذلك في جميع الصفات قال المصنف رحمه الله: [وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير, واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد -كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا]. ولذلك إذا قيل: هل الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً؟ قيل -مع القول بأن هذا الكلام دخله إجمال باستعمال بعض الطوائف له-: الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد, وقد سبق أن أشير إلى أن كلمة (الظاهر) لم يأتِ ذكرها على هذا الوجه، وإنما جاء في القرآن مثل قول الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] أما المستعملون للظاهر وما يقابله فهم درجات: فمنهم من يستعمل الظاهر ويجعل المؤول مقابلاً له، وهذا هو استعمال جملة المتكلمين لكلمة الظاهر، أما الباطنية فإنهم يجعلون الباطن مقابلاً للظاهر. وقد وقع في كلام الإمام الشافعي أن قال في رسالته: "إن بعض الأدلة تدل على حكم ظاهر، فيكون الحكم المحصل منها حكماً ظاهراً، وبعض النصوص إذا قضت بحكم كان هذا الحكم ظاهراً وباطناً". وكلام الشافعي رحمه الله ليس هو من باب المشاكلة لكلام الباطنية وما إلى ذلك, إنما مقصود الشافعي: أنه إذا قيل عن حكم بأنه واجب، وأن دليله من القرآن كذا وكذا، كمسألة شرعية، فإذا كانت الدلالة قطعية صريحة فإنه يقال: إن هذا الحكم ظاهراً وباطناً. وقوله: (ظاهراً) أي: أن هذا هو نظرنا واجتهادنا، و (باطناً) أي: أننا نقطع ونعلم أن هذا الحكم هو في نفس الأمر عند الله تعالى، فمثلاً: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] قال الشافعي: إن حج البيت الحرام واجب، وهذا هو الحكم المأخوذ من الآية ظاهراً، أي: بنظرنا في الآية، وهو باطناً، أي: أنه يعلم أن الحكم عند الله في نفس الأمر أن الحج واجب. لكن قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] قد اختلف العلماء في المراد بالقرء، فمنهم من فسره بالطهر، ومنهم من فسره بالحيض، فيقال: إن هذا الحكم حكم ظاهر؛ لأنه اجتهاد المجتهد، ولكن لا يقطع بأنه الباطن، أي: الحكم في نفس الأمر. فهذا هو مقصود الشافعي: أن دلالة الآيات والأحاديث تكون على وجهين: فإما أن يقال: إن الحكم ظاهر باطن، وإما أن يقال: إن الحكم ظاهر، ولا يجزم بأنه باطن، وليس هذا من باب مشاكلة الباطنية في كلامهم. قال رحمه الله: [وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالمٌ حقيقة، قادرٌ حقيقة، لم يكن مرادهم أنه يكون مثل المخلوق الحي الذي هو حي عليم قدير، فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] إنه على ظاهره، لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضاً كرضاه]. وهذا يرجع إلى أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر؛ بمعنى: أن من طرأت له شبهة في صفة من الصفات، فإنه يرد ذلك إلى صفات أخرى محكمة لم تدخل عليها شبهة، أي: محكمة عنده، لم تدخل عليه فيها شبهة، فمن كانت عنده شبهة في صفة النزول، رد ذلك إلى صفة العلم، وصفة العلو، وغيرها من الصفات، فإذا ما بان له أن هذا الباب محكم، وسلم بإحكامه؛ قيل: إن باب الصفات باب واحد. قال رحمه الله: [فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي]. هذا نتيجة البحث السابق: أن ظاهر النصوص مراد أم ليس مراداً، فيقال: الأصل أن يقال: إن ظاهر النصوص مراد، لكن هذه الجملة لما استعملها من استعملها على معنى من الاشتراك المجمل، وضمنوها بعض المعاني الباطلة، احتيج إلى الاستفصال في بعض مقامات ذكرها. قال رحمه الله: [وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً]. أي: أنه لا يجوز في العقل ولا في السمع أن يختص السمع أو العقل بنفي صفة معينة دون غيرها؛ بل إذا فرض أن السمع يدل على النفي؛ لزم أن يدل على نفي سائر الصفات، وإذا فرض جدلاً أن العقل يدل على النفي؛ لزم أن يكون دالاً على نفي سائر الصفات، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون العقل -فضلاً عن السمع- دالاً على نفي سائر الصفات، فإذا علم هذا الامتناع؛ علم امتناع التأويل لصفة من الصفات؛ لأن الشرع جاء بإثبات الصفات، فإذا علم امتناع اطراد النفي لصفات الله في الشرع وفي العقل؛ علم من هذا الامتناع امتناع النفي لصفة واحدة، فإن القول في سائر الصفات كالقول في آحادها.

صفات المخلوقين أعيان وأعراض

صفات المخلوقين أعيان وأعراض قال المصنف رحمه الله: [وبيان هذا: أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام, وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد, ومنها ما هي معانٍ وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة]. بين المصنف أن من كان موجب النفي عنده لصفة الوجه واليدين أنها أبعاض لنا، فيقال له: ليس النقص فيها أنها أبعاض لنا؛ بل وجه النقص هنا أنها صفات لنا على تقديرك، فيلزمه أن ينفي صفة العلم؛ لأن صفة العلم قائمة للمخلوقين. فمن كان وجه النفي عنده أن هذه الصفات جائزة للمخلوق، فيقال له: إن الذي جاز للمخلوق ليس فقط صفة اليدين؛ بل مما جاز للمخلوق: صفة العلم، والسمع، والبصر، وما إلى ذلك، فإذا جاز له نفي صفة اليدين؛ جاز له نفي صفة العلم، ومعلوم أن هذا لا يتناهى إلا بتعطيل سائر الصفات، وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل.

امتناع كون صفات الخالق كصفات المخلوق

امتناع كون صفات الخالق كصفات المخلوق قال المصنف رحمه الله: [ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا؛ بل صفة الموصوف تناسبه]. لأنها مضافة إليه، ولذلك -ولله المثل الأعلى- كما يمتنع أن تفسر صفة مخلوق بصفة مخلوق آخر، بعد إضافتها إلى المخلوق الأول، كذلك يمتنع من باب أولى أن تفسر صفة من صفات الباري بما هو من حقائق وكيفيات صفات مخلوقاته، ثم يذهب إلى نفيها، فإن النفي هنا لا شك أنه نفي صحيح، لكن الإشكال هو في أصل التفسير، أي: أنهم لم يفهموا من صفاته إلا ما كان مشابهاً لصفات المخلوقات، ولذلك قال أهل العلم: (كل معطل ممثل)؛ وذلك لأنه لم يذهب إلى التعطيل إلا لأنه لم يكن في عقله وإدراكه عن الصفة إلا حقائق من حقائق التشبيه والتمثيل، ولذلك نفاها، وإلا فلو تحقق عنده الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى، ولم يدخل عليه مادة من التشبيه؛ لما انقاد عقله إلى مقام التعطيل.

صفة كل موصوف تكون مناسبة له

صفة كل موصوف تكون مناسبة له قال المصنف رحمه الله: [فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه]. وهذا من مدارك العقل الأول: أن صفة كل موصوف تكون مناسبة له، ولهذا لم يقع لعاقل أن يفسر صفة من صفات المخلوقين بصفات الله؛ بل ولا بصفة مخلوق آخر، فإذا علم ذلك فإن ما وصف الله به نفسه من الصفات لا بد أن يكون لائقاً به. وأما أن يكون موجب الرد لظواهر القرآن والسنة هو أنه قد يفهم منها هذا الفهم الغلط، فإنه يقال: إن هذا الفهم لو كان ممكناً لمدارك العقول؛ لسبق إلى عقول قوم لا يؤمنون بأن محمداً رسول الله، فإن العرب في جاهليتهم لما سمعوا القرآن، لم يعترضوا أبداً ويقولوا: إن هذا السياق في صفات الله في اليدين أو في غيرها يفهم منه في لساننا أن الله موصوف بكذا وكذا، ولا سيما أن الجاهليين كانوا يؤمنون برب، ومفهوم الربوبية عندهم من حيث الأصل مفهوم كمال، وهو أن الله هو الخالق للسماوات والأرض، وأنه هو الرب .. ونحو ذلك، فلو كان يفهم من سياق آيات الصفات أنها من باب النقص، وأن لسان العرب يقتضي هذا التفسير، كما زعم الزاعمون من أئمة التعطيل؛ لفهم ذلك العرب الجاهليون، ولاعترضوا على القرآن بذلك، ولكنهم قالوا في اعتراضهم عليه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] فلماذا لم يفهموا من آيات الصفات ما هو من التشبيه، فيكون من طعنهم على القرآن، ومن طعنهم على صاحب النبوة: أن صاحب النبوة قد جاء بتشبيه الخالق وإسقاط مقام الربوبية؟! إذاً: فعدم اعتراض العرب على آيات الصفات يعد دليلاً على أن هذه السياقات في كلامهم العربي لا تقتضي التشبيه، ويدل على أن هذه السياقات في عقولهم لا تقتضي نقصاً وتعطيلاً, ولذلك إذا قال قائل: إن النصوص بحاجة إلى التأويل، قيل: لو كانت بحاجة إلى التأويل للزم أن يعترض العرب على ظاهره. وقد يجيب المعتزلة على هذا الكلام فيقولون: إن العرب سكتوا ولم يطعنوا على القرآن بهذا لأنهم يعرفون بأن لها تأويلاً، ونقول: من هو الذي يسكت لأنه يعرف أن لها تأويلاً لو جاز هذا الكلام؟ ذلك هو المؤمن، أما الذي يريد أن يطعن على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكفيه في الطعن أن يقول: إن ظاهر هذا الكلام النقص. والعرب قد قالوا كلاماً هم يعرفون غلطه، فقالوا عن النبي: إنه مجنون, وساحر، وكاهن، وغير ذلك، وهذا يدل على أن الحجج قد تناهت عندهم، حتى استعملوا كلاماً هم يفهمون غلطه، وحتى نساؤهم وصبيانهم يعرفون أن هذا الرجل ليس مجنوناً، فهل يعقل أنهم وصلوا إلى هذا الحد من الانغلاق في الحجج مع أنه كان يمكنهم أن يقولوا: إن القرآن قد نطق بظواهر لا تليق برب العالمين؟! لو كان هذا متبادراً أو ممكناً في عقولهم أو في لسانهم، لكان أقوى بكثير من الحجج التي يستعملها هؤلاء في الاعتراض على القرآن. أما قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] فإن هذا من باب التحكم، فلما لم يجدوا دليلاً على أن محمداً مجنون قالوا هذا الكلام. ومن الأدلة على إثبات الصفات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، وكان يحدث ويخبر عن ربه عز وجل، وما نقل أن أحداً لا من المسلمين ولا من الذي وفدوا من المشركين الذي أسلموا أو لم يسلموا -لم ينقل أن أحداً سمع هذا القرآن أو هذا الحديث فاستشكل صفة واحدة، مما يدل على أن المعاني معروفة ومستقرة. وهذا الذي ذكر في كلام العرب الجاهلين، كما أنه يبطل التأويل، فهو أيضاً يبطل التفويض؛ لأنه لو كان الحق في تفويضها، لكان من اعتراض العرب: أنك يا محمد تأتي بكلام أو ينزل عليك كلام تقول: إنه كلام الله، وهو كلام غير معقول الحقائق، فهذا من الأمور البدهية: أن العرب في جاهليتهم كانوا يقرون بجملة الصفات، وإن كان تفصيلها لا يتلقى إلا عن صاحب الكتاب عليه الصلاة والسلام. قال رحمه الله: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي]. قوله: (فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي): فإن الله منزه عن مشابهة خلقه، ولذلك قال بعض المخالفين: إن هذا من نصوص التشبيه، فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث به لم يستشكل أحد من أصحابه أو يتبادر إلى فهمه ما هو من التشبيه، إنما شبه عليه الصلاة والسلام الرؤية بالرؤية، وليس هذا من باب التشبيه الذي هو تشبيه المرئي بالمرئي. وهذا التشابه ليس من باب المطابقة التامة، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كخلقه، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أنهم يرون ربهم حقيقة كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا يضامون في رؤيته.

شرح القواعد السبع من التدمرية [17]

شرح القواعد السبع من التدمرية [17] القاعدة الرابعة في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أن هناك محاذير يقع فيها من يتوهم أن نصوص الصفات فيها تمثيل، الأول: أنه مثل صفات الله بصفات خلقه، الثاني: أنه عطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، الثالث: أنه نفى الصفات عن الله بغير علم، الرابع: أنه يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات.

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم التمثيل في نصوص الصفات

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم التمثيل في نصوص الصفات قال المصنف رحمه الله: [وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير]. قوله: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة): أي: ما سبق ذكره في القاعدة الثالثة، أو المعاني المتضمنة فيما ذكر قبل ذلك، فإنه ذكر في القاعدة الثالثة مسألة الظاهر، وأن هذا اللفظ صار لفظاً مشتركاً باستعمال بعض المستعملين له، فقال: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة)، وهذا كقوله في أول الرسالة: (ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين). وهذا الربط في المعاني والقواعد هو من باب التسلسل العلمي، ولا شك أنه من فقه المصنف وضبطه لتقريره؛ فإن الاطراد في المعاني لابد أن يكون وجهاً من أوجه الفقه في كلام أهل العلم؛ ولذلك كلما كان الناظر في كلام العلماء عارفاً بمسائل اطرادهم، سواء من جهة الدلائل، أو من جهة الأقوال نفسها، أو بموجب هذه الأقوال أو القرائن في هذا الباب أو غيره، فإن هذا نوع من الفقه، وبه يعلم الناظر ما يبنى من المسائل على بعض، وما يتفرع من المسائل عن البعض الآخر .. وهكذا. وقوله: (وهي أن كثيراً من الناس): ولم يقل: جميع الناس، أو ما إلى ذلك؛ لأنه من المعلوم إذا ذكر جمهور المسلمين فليس المقصود بذلك جمهور الطوائف، وإنما المقصود بجمهور المسلمين: هم جمهور أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن العامة من المسلمين الذين لم تشوش مذاهبهم أو لم يشوش نظرهم وإدراكهم وبصائرهم، فإنهم لا يفقهون من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الله موصوف بالكمال، منزه عن النقص، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ولذلك فإن النظار من المتكلمين في هذه المسائل، إنما أخطئوا وضلوا لما أدخلوا ما سموه (علم الكلام) على مداركهم وعلى تحصيلهم، ولو استقروا على أصل لسان العرب، وفقهوا القرآن على أصل هذا اللسان، وأخذوا الكتاب والسنة على ما جاء ذكره في كلام الله أو كلام رسوله؛ لما ظهر عندهم هذا الإشكال. فالمقصود: أن كثيراً من النظار الذين غلطوا في هذا الباب من أهل القبلة، من المعتزلة أو غيرهم، قال: (يتوهم في بعض الصفات، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين)، وهذا التعدد في كلام المصنف هو فرع عن تعدد المذاهب؛ فإن البعض من النظار إنما يتوهم هذا في بعض الصفات، كما هي طريقة متقدمي متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة؛ كـ عبد الله بن سعيد بن كلاب وجماعته؛ من متكلم أو متنسك متصوف كـ الحارث بن أسد المحاسبي ونحوه. فهذه هي طريقة المتقدمين من متكلمة الصفاتية الذين توهموا ذلك في بعض الصفات. وقوله: (أو كثير منها) وهؤلاء عندهم توهم أكثر من النوع الأول، وهذا هو الذي غلب على جمهور متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة من أصحاب أبي الحسن الأشعري , وأصحاب أبي المنصور الماتريدي، وهؤلاء -ولا سيما أصحاب أبي الحسن الأشعري - هم أكثر توهماً في هذا الباب من متقدمي أصحابهم؛ كـ أبي الحسن الأشعري، وعبد الله بن سعيد بن كلاب وأمثال هؤلاء، ومعلوم أن عبد الله بن سعيد بن كلاب جاء قبل أبي الحسن الأشعري، لكن الأشعري وأمثاله نسجوا على طريقته في الجملة والصفات؛ ولذلك ذكر ابن حزم أنه شيخ قديم للأشعري، والبغدادي -وهو من متكلمة الأشعرية- تجد أنه في كلامه ربما قال: "وذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري "، وربما قال أيضاً: "وذهب شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب ", فبناء هذا المذهب على بعض كلام ابن كلاب أو على جملة قوله شيء مشهور حتى عند الأشعرية أنفسهم. وقوله: (أو أكثرها) وهذا هو الذي غلب على الغلاة من متكلمة الصفاتية، الذين باعدوا طريقة الجمهور منهم فضلاً عن مقدميهم، وعلى بعض مقتصدة المعتزلة. وقوله: (أو كلها) كما هو الأصل في مذهب أئمة المعتزلة الأوائل؛ كـ إبراهيم بن سيار النظام، وأبي الهذيل العلاف، وأمثال هؤلاء، فضلاً عن جهم بن صفوان ونحوه من متقدمي الجهمية الأولى. وقوله: (أنها تماثل صفات المخلوقين) بمعنى: أن من عطل صفة أو تأولها، فإن ذلك لكونه ظن أن إثبات هذه الصفات يكون من باب التشبيه والتمثيل، وبهذا يُعلم أن الأصل في طريقة هؤلاء أنهم فروا من التشبيه -وإن كانوا لم يحققوا الحق في هذا الباب- لكنهم غلطوا في تقرير هذا الباب بمثل هذه الطرق التي أحدثوها. والمصنف هنا يريد أن يصل إلى أن كل من تأول شيئاً من الصفات فإنه ممثل، وكما يقال: إن أهل السنة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه والتمثيل، فإن المصنف ينتهي إلى أن ثمة تلازماً ذهنياً تصورياً بين التعطيل وبين التمثيل والتشبيه، بمعنى: أنه ما عطل معطل -بما يسمى تأويلاً عند أصحابه- إلا وقد توهم أن الإثبات يستلزم التمثيل، فقام التمثيل في ظنه، فذهب ينفيه بما سماه تأويلاً. وقوله: (فيقع في أربعة أنواع من المحاذير) وهي ما سيذكرها هنا.

المحذور الأول: أنه مثل صفات الله بصفات خلقه

المحذور الأول: أنه مثل صفات الله بصفات خلقه قال المصنف رحمه الله: [أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل]. وهذا هو المحذور الأول، وقد كان يسعه عقلاً وشرعاً أن يفهم من النصوص ما يليق بالله؛ لأن الصفة تبع لموصوفها، فالعقل والشرع والفطرة لا يقضيان بهذا الوهم الذي توهمه، وهو أنه ظن أن هذه النصوص أو أن بعضها يقضي بالتمثيل والتشبيه، بل كان يسعه أن يقول: إن هذه صفات تليق بذات الله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

المحذور الثاني: أنه قد عطل النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات

المحذور الثاني: أنه قد عطل النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلةً عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله -حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه]. وهذا هو المحذور الثاني، ومجمله: أن المصنف يريد أن يقول: لو فرض جدلاً أن هذا التأويل الذي استعملوه كان حقاً، فإن غايته أنه ينفي التشبيه الذي توهموه، لكنه لا يحقق معنىً صحيحاً في تفسير هذا النص من جهة ثبوت الصفة على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى. إذاً: هذا التأويل وما سبقه من الوهم الذي استوجب هذا التأويل، تضمن تعطيل النص عما دل عليه من المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى، فإن التأويل -كما هو معلوم- إنما قصد أصحابه به نفي التشبيه الذي توهم في ظاهر السياق. فيقول: لو فرض أن الأمر كذلك فإن غاية التأويل هو دفع التشبيه، أما أن التأويل يتضمن التحقيق لمدلول هذه النصوص على الوجه الصحيح، فإن هذا لم يقع، فتبقى النصوص -حتى مع تأويلها- معطلةً عن معاني الكمال اللائقة بالله سبحانه وتعالى.

المحذور الثالث: نفي الصفات عن الله بغير علم

المحذور الثالث: نفي الصفات عن الله بغير علم قال المصنف رحمه الله: [الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى]. قوله: (أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم): لأنه لم يبن نفيه لهذه الصفات -التي ذهب إلى تأويلها- على علم؛ لا من الشرع ولا من العقل، وقد سبق كثيراً أن الشرع والعقل يقضيان بأن هذه الصفات صفات كمال، ولذلك عندما تكلم المصنف سابقاً عن مسألة القابلية، وما قالوه من تقابل السلب والإيجاب، والعدم والملكة، وما إلى ذلك؛ ذكر من أوجه الرد: أن هذه الصفات من حيث هي صفات كمال، فإثباتها إثبات واجب من حيث الإثبات الذاتي، وليس من جهة قرائن أخرى استلزمت هذا الإثبات. فمثلاً: صفة العلم، إذا ذكرت هذه الصفة على باب الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، فإنها عند سائر العقلاء، وبأي لسان عبر عنها صفة كمال، وقد علم كمالها من وجهين: الأول: من جهة الأدلة. الثاني: أن العلم بكون هذه الصفات صفات كمال علم ضروري؛ لأن سائر العقلاء من بني آدم إذا ما ذكرت لهم صفة العلم -مثلاً- فهموا أن هذه الصفة من صفات الكمال، وإذا ذكرت لهم صفة الجهل فهموا أن هذه الصفة صفة نقص. فيقول المصنف: بأي دليل تأولوا هذه الصفة لينفوا وجهاً من التشبيه الذي ظنوا أنه لازم لها؟ وقد تضمن هذا النفي لهذا الوجه من التشبيه الذي توهموه التعطيل لسائر الصفات. ثم إن العقل لو عرض عليه سؤال: أيمكن أن تثبت هذه الصفة لله سبحانه وتعالى دون أن تكون مشابهة لصفات خلقه؟ لكان جواب العقل بالإيجاب، ولابد أن يكون الأمر كذلك؛ لأن الله تعالى يفعل، والله يقول: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] والخلق يفعلون، ومع ذلك لم يكن هذا الفعل منه سبحانه وتعالى كفعل مخلوقه وهكذا.

المحذور الرابع: أنه يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات

المحذور الرابع: أنه يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات قال المصنف رحمه الله: [الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات]. هذا هو المحذور الرابع، وهو أنه يلزمه إذا لم يثبت هذه الصفة، أن يصف الرب سبحانه وتعالى بصفات الجمادات، أو صفات المعدومات؛ لأنه لا يصح عقلاً -وهذا ما يسمى بالسبر والتقسيم العقلي- أن يقال: إما أن تثبت هذه الصفة -كالعلم مثلاً- على وجه من التشبيه، وإما أن تثبت على وجه مختص بالله سبحانه وتعالى يليق به، لا يشاركه فيه غيره، وإما أن تنفى عن الله مطلقاً .. فهذه ثلاثة أوجه: الأول: أن تثبت الصفة على وجه من التشبيه. الثاني: أن تثبت الصفة على وجه مختص بالله يليق به لا يشاركه فيه غيره. الثالث: أن تنفى هذه الصفة بأي طريقة من طرق النفي، وطرق النفي كثيرة، لكنها في النتيجة ترجع كلها إلى أن هذا نفي للصفة. هذا هو السبر العقلي، بمعنى: أن الحكم العقلي الضروري لا يخرج عن أحد هذه الأوجه، فيقول المصنف: أما الوجه الأول -وهو أن تثبت الصفة بوجه من التشبيه- فهذا مما لا يقول به الأئمة, ولا يحل لأحد أن يقول به، ولم يقل به أحد على جهة القصد، أي: أنه قصد تشبيه الله بخلقه، وإن كان ربما تضمن كلام بعض الطوائف تشبيهاً، لكنهم لم يقصدوا هذا النقص. قال: وأما نفي هذه الصفة فإنه تعطيل للكمال، ووصف للباري سبحانه وتعالى بنوع من التشبيه الذي فروا منه في الوجه الأول، فإن الوجه الأول إنما فر عامة المسلمين منه لأنه تشبيه لله بخلقه، حتى من وقع في مادة من التشبيه فإنه لا يحقق هذا التشبيه ويقول: إن الله مشابه للمخلوقات على نوع من الاشتراك في الاختصاص. فيقول: إن الوجه الذي أوجب فرارهم يرد عليهم في الوجه الثالث، وهو النفي؛ لأن النفي إما أن يكون تشبيهاً بالجمادات، أو بالمعدومات، أو بالممتنعات، ومعلوم أن التشبيه الذي نفاه العقل والشرع هو أن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة غيره، سواء كان هذا الغير مخلوقاً حياً، أو مخلوقاً جامداً، أو كان شيئاً متخيل الوجود أو كان غير ذلك. وعليه: فإن هذا السبر والتقسيم يدل على لزوم إثبات الصفة، وهذه القاعدة العقلية -وهي السبر والتقسيم- يصح استعمالها في أي صفة من الصفات، فيقال: إما أن تثبت الصفة بوجه من التشبيه، أو تنفى، أو تثبت بوجه من الاختصاص اللائق بالله تعالى. قال المصنف رحمه الله: [فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسمائه وآياته]. وهذه هي المحاذير الأربعة: أنه عطل، ومثل، وحرف الكلم عن مواضعه، وهذا هو باعتبار الحقائق، وإلا فلو سئل أحد من هذه الطوائف: ما حكم تحريف القرآن؟ لقال: تحريف القرآن كفر، فإن قيل: فما وقع في كلامكم؟ لقال: هذا من باب التأويل. فكون هذا من التحريف إنما هو باعتبار الحقائق اللازمة، وليس لأن هؤلاء يقصدون إلى التحريف؛ لأن من قصد التحريف على معناه وعلى لفظه فإنه لا يكون من أهل القبلة والإسلام.

دلالة السمع والعقل على إثبات الصفات

دلالة السمع والعقل على إثبات الصفات قال المصنف رحمه الله: [مثال ذلك: أن النصوص كلها دلت على وصف الله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش، فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله]. يشير المصنف هنا إلى بعض طرق الاستدلال، وذلك عندما ذكر صفة العلو والاستواء، فإن العلو يعلم بالعقل الموافق للسمع، ويدخل في هذا الباب كثير من الصفات، أي: أنها تعلم بالعقل وتعلم بالسمع، أو يقال: تعلم بالعقل الموافق للسمع. ومعنى أنها تعلم بالعقل: أنه يعلم ثبوتها بالعقل ابتداءً واختصاصاً، وإن كان قد جاء السمع بذكرها؛ كصفة العلو، والعلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك. والنوع الثاني من الصفات: هو ما يعلم بالسمع، وقد مثل له المصنف بصفة الاستواء على العرش، وما علم بالسمع المقصود به: أن العقل لا يحصل العلم به ابتداءً، لكن السمع -أي: الدليل من القرآن والسنة- إذا وردا به فإن العقل يكون مصدقاً بذلك، ولا يكون معارضاً أو منافياً له. فلو قيل: هل تثبت الصفات بالعقل؟ فإن الجواب: أما قواعد الصفات الكلية فإنها معلومة بالعقل، كقاعدة: أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، أما تفصيل الصفات، أو مفصل الصفات، فإن منها نوعاً يعلم بالعقل الموافق للسمع، ومنها ما يكون معلوماً بالسمع، وإذا ورد السمع به صدقه العقل وإن لم يعلمه ابتداءً.

صفة الاستواء

صفة الاستواء قال المصنف رحمه الله: [فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] .. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا: أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم]. يقول المصنف: إن هؤلاء يفرضون لازماً من النقص على ظاهر النصوص؛ كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيفرضون لازماً لهذا الظاهر، فيقولون: لو أخذ بهذا الظاهر للزم أن يكون الله تعالى محتاجاً إلى عرشه، ونحو ذلك؛ ومن ثم يفسرون الآية بأن هذا ليس باستقرار وليس بقعود. مع أنه من المعلوم أنه لو كان هذا اللازم ممكناً أو متحققاً -جدلاً- لما كان مختصاً من جهة النفي والإشكال بمسألة القعود وحدها؛ بل حتى لو فسر الاستواء بأي معنىً من المعاني، فإن هذا اللازم يوجب نفي ذلك المعنى، ولا يختص هذا بالتفسير بالقعود أو بغيره. يقول رحمه الله: فعلم أن الإشكال ليس من هذا التفسير نفسه، وإنما من هذا اللازم الذي أدخلوه؛ ولذلك فإن هذا التوهم في تفسير الآية لا شك أنه وجه من التشبيه؛ وإلا فإن من عرف قدر الله سبحانه وتعالى؛ عرف أن الاستواء يختص به سبحانه وتعالى، وإذا كان مختصاً به امتنع فرض مثل هذه اللوازم من النقص؛ لأن هذه اللوازم لا تكون إلا لمن كان ناقصاً، وهو المخلوق، أما الخالق فإنه مجرد عن هذا النقص، وعن عروضه، وعن لزومه لصفاته سبحانه وتعالى. وأما تفسير الاستواء: فإنه يفسر -كما سلف-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا على العرش علواً يليق بجلاله. وقوله: (وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم): أي: أنه ليس الإشكال في تفسير الاستواء بالاستقرار أو بغيره، إنما الإشكال في فرض هذا اللازم، وهذا ليس من باب أن المصنف يسلم بهذا التفسير، أو يريد أن يسلم بهذا التفسير، فإنه قد درج في تفسيره لآيات الاستواء على العرش على ما درج عليه الأئمة من أن معنى قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا على العرش، ونحو ذلك من المعاني التي هي مرادفة لهذا المعنى، وأما طريقته هنا فأراد منها بيان أن هؤلاء متحكمون فيما يثبتونه وما ينفونه، أو فيما يفسرونه وما يمنعون التفسير به.

منهج السلف في تفسير الاستواء

منهج السلف في تفسير الاستواء قال المصنف رحمه الله: [وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره]. يبين المصنف رحمه الله هنا التناقض الذي وقع في طريقتهم، ولم يقصد المصنف أن الاستواء يفسر بهذا، فإن هذا قد يكون من باب الفرق، وقد سبق أن بعض أهل العلم -من باب تحقيق الإثبات- قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: جلس؛ ولذلك فإن من يريدون أن يعترضوا على كلام السلف وكلام الأئمة يذكرون مثل هذه الأفراد من الجمل التي قالها من قالها؛ ولهذا يقال: إن من الحكمة أن يقال: إن هذا اجتهد في كلامه ولم يصب الحق في التفسير الذي درج عليه الجمهور والعامة من الأئمة، وكلامه ليس حكماً مناسباً في تفسير الكلمة؛ ولهذا فلا ينبغي الانتصار لمثل هذا التفسير؛ لما فيه من الفرق، وكما يشير المصنف هنا: أن ثمة فرقاً في لسان العرب بين قولك: جلس زيد، واستوى زيد، فالجلوس والاستواء بينهما فرق، وقد يشتركان في قدر من المعنى، ولكنهما يختلفان. ولا ينبغي أن يفسر القرآن بمعان تتضمن زيادة عن القدر المشترك؛ فإن هذه الزيادة قد ينازع المنازع فيها ويقول: من أين ثبت هذا القدر من الزيادة؟ فليس هناك حاجة أن يفسر النص بمثل هذا؛ بل يفسر بما درج عليه الأئمة، وبما كان معروفاً من جهة التحقيق في كلام العرب، وهو العلو .. هذا أمر. والأمر الثاني: أن البعض يتوهم أن كل كلمة في القرآن لابد لها من تفسير بكلمة أخرى، وهذا ليس بلازم عقلاً ولا شرعاً، إنما يفسر الكلام في أعراف بني آدم إذا احتيج إلى بيانه وتفصيله، فمثلاً: لو قيل: جاء زيد، فإن هذا الكلام مفهوم ولا يحتاج إلى تفسير، فلو قيل في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] إن هذه صفة تليق بجلال الله، فإن الاستواء لا يحتاج إلى تفسير بالضرورة، لكن إذا قيل: ما معنى استوى؟ فيقال: أي: علا .. وهكذا. ولذلك فإن الإمام مالكاً لما سئل عن الاستواء كان يسعه أن يقول: الاستواء هو العلو على العرش .. وهذا معنى صحيح، لكنه قال: "الاستواء معلوم". أي: أن الكلمة نفسها كلمة بينة مفصلة؛ ولذلك فإن الأجود أن يقال في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] الاستواء معلوم، فإذا قال قائل: ما معنى استوى؟ وما معنى أنه معلوم؟ أو توهم معنىً ليس مناسباً للاستواء، فيقال: هو بمعنى علا وارتفع .. ونحو ذلك. وقوله: (ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره): أي: أن المقصود هنا ليس هو الموافقة لهذا التفسير، إنما المقصود أن يعلم أنهم متحكمون.

إضافة الاستواء إلى الله تعالى يدل على أنه منزه عن مشابهة المخلوقين

إضافة الاستواء إلى الله تعالى يدل على أنه منزه عن مشابهة المخلوقين قال المصنف رحمه الله: [وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك، فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة]. قوله: (وليس في اللفظ ما يدل على ذلك): ولهذا فإن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن هذا التوهم يعلم بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ويعلم بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكما أن تنزيه الله عن مشابهة الخلق في استوائه يعلم بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهو يعلم بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لأن الاستواء هنا أضيف إلى الله، فعلم اختصاصه به عن غيره. وقوله: (فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق): بل ذكر استواءً خاصاً، وهو استواؤه على العرش، وأضاف هذا الاستواء إلى نفسه سبحانه وتعالى فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكان هذا كلاماً مفصلاً مخصصاً، وليس كلاماً مجملاً مطلقاً. قال المصنف رحمه الله: [فلو قدر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه. أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه؛ بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواءً يخصه، لم يذكر استواءً يتناول غيره، ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه؟! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً!]. وهذا كلام بين من جهة العقل والشرع، فإن المصنف يقول: لو قدر أنه هو سبحانه وتعالى مماثل لخلقه، فأمكن إيراد مثل هذه الأوجه من الإشكال، من جهة احتياجه إلى العرش، أو نحو ذلك من اللوازم الباطلة .. لكن من المعلوم عند سائر المسلمين؛ بل وعامة بني آدم، أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، ولا أحد يقر بربوبية الله -حتى ولو كان مشركاً في ألوهيته- إلا ويشهد أن الله سبحانه وتعالى مختص عن خلقه، فإذا كان هذا معروفاً حتى عند جمهور وعامة المشركين؛ فضلاً عن المسلمين وأتباع المرسلين، فإنه لا يمكن أن يتوهم في صفة من الصفات مثل هذا الإيراد. ومن طرق المصنف رحمه الله في رسالته -وهي من الطرق الشرعية العقلية الفاضلة، وقد سبق الإشارة إليها-: أنه يبني القول الحق على قواعد منضبطة بضرورة العقل أو ضرورة الشرع، كما أنه يجعل الأقوال المخالفة التي خالف أصحابها قول الأئمة أو إجماع الصحابة، يجعل هذه الأقوال مستلزمة لمخالفة القواعد الضرورية من الشرع أو من العقل، فالمصنف يرد كثيراً إلى أصول مستقرة، فيجعل الحق الذي ذكره مناسباً لهذه الأصول، ويجعل القول الذي أراد إبطاله مفارقاً ومنافياً لهذه الأصول. وهذا المنهج أجود في المناظرة والمجادلة من الرد إلى أصول أو كلمات أو أدلة يرد عليها التوهم، أو الظن، أو الاشتباه، أو المنازعة، أو ما إلى ذلك، وهذا من فقه المصنف رحمه الله، وهي طريقة معروفة في القرآن، ومن أمثلتها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم مع قومه، وفي قصته مع الرجل الكافر الذي ناظره لما قال إبراهيم: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258]. إذاً: الحق يتسلسل، والحق المفصل يرجع إلى حق كلي مجمل، ويكون تفصيل هذا المجمل بهذا المفصل، وربما صار بعض التفصيل محل اجتهاد في جمل الاستدلال ونحو ذلك؛ فمثلاً: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] إذا نازع منازع في مسألة أن هذا دليل على الرؤية، فهل المخالف قد بنى سائر ما يقول على هذا الإشكال الذي ذكره؟ الجواب: لا. إذاً: الرد إلى الأصول المتفق عليها من حسن المناظرات، وهذا الأمر معروف في المناظرات عند عامة الأمم, أنه إذا كان المعنى الذي تذكره حقاً؛ فإنه يلزم عقلاً وشرعاً أن يكون مناسباً للأصول المستقرة في العقل والشرع عند جميع المسلمين. مثلاً: من الأصول المستقرة عند جميع المسلمين أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص؛ ولذلك ذكر المصنف أن هذه الصفات من حيث هي صفات كمال، كما أنه من المعلوم بالضرورة أن كل معنى باطل يلزم أن يكون منافياً للأصول المعلومة الصحة بالعقل والشرع, فيرد المشتبه أو المشكل أو المختلف فيه إلى الحكم المستقر المؤتلف في شأنه.

ضلال النفاة في قولهم أن ظاهر الآية يدل على أن الاستواء كاستواء المخلوقين

ضلال النفاة في قولهم أن ظاهر الآية يدل على أن الاستواء كاستواء المخلوقين قال المصنف رحمه الله: [هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق. بل لو قدر أن جاهلاً فهم مثل هذا، أو توهمه؛ لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل عليه اللفظ أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه، فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زبل، ومجارف، وأعوان، وضرب لبن وجَبْل طين؟!]. يقول المصنف: إنه يكفي غلطاً عند هؤلاء أنهم ظنوا أو فرضوا أن القرآن دلَّ بظاهره على هذا المعنى الباطل الذي أجمع المسلمون على أنه باطل، فيقول: مجرد أنهم فرضوا أن القرآن بظاهره يدل على هذا المعنى الذي استقر عند المسلمين جميعاً أنه غلط ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، وهو الاستواء اللائق بالمخلوق، أو الذي يختص بالمخلوق، أو الذي يشارك المخلوق في خصائصه -يقول: تفسير النص بذلك وحده يكون كافياً في بيان أن هذا من التوهم الغلط؛ لأن الحق -وهو القرآن- لا يمكن أن يكون محتملاً .. وهذه من القواعد التي سبق أن أشرت إليها. ويمكن أن يقال في المناظرة: من المستقر عند المسلمين أن القرآن لا يمكن أن يكون محتملاً من جهة الدلالة لمعنىً باطل؛ فضلاً عن أن يفسر به؛ فضلاً عن أن يقال: إنه هو ظاهر اللفظ، فيذهب إلى نفيه؛ فإن هذا يلزم عليه لوازم باطلة، منها: هذا المعنى الذي نفوه وقالوا: نفيناه بالعقل؛ مع أن ظاهر السمع أثبته .. فيلزم من هذا أن لا يكون القرآن هدىً للناس؛ بل يلزم أن يكون الناس بعقولهم قبل القرآن أضبط في باب الصفات؛ لأنهم قبل ورود القرآن لم تأتهم ظواهر تشكل على هذه الحقائق العقلية الموجودة عندهم. وقد عني المصنف بهذا الأمر في الرسالة الحموية، فقد ذكر مثل هذا التسلسل، وأنه يلزم على هذا أن لا يكون القرآن هدىً للناس، ولا بينات من الهدى والفرقان، ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويلزم أن يكون الناس قبل الأنبياء أحسن حالاً منهم بعد الأنبياء الذين شوشوا عليهم بهذه الظواهر التي لا يليق ظاهرها بالله تعالى .. ونحو ذلك.

عدم افتقار بعض المخلوقات إلى بعض يدل على أن الله منزه عن ذلك

عدم افتقار بعض المخلوقات إلى بعض يدل على أن الله منزه عن ذلك قال المصنف رحمه الله: [ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها]. ففي آيات الله الكونية ما يكون موافقاً لآياته الشرعية، وهذا ما يسمى بالاطراد الحسي، وهو من الضروريات، فإنه من المعلوم عقلاً أن مسألة الافتقار لا تلزم في كثير من الأوجه بين المخلوقات نفسها، فمن باب أولى أن لا يكون الخالق مفتقراً إلى المخلوق. قال رحمه الله: [فالعلي الأعلى، رب كل شيء ومليكه، إذا كان فوق جميع خلقه؛ كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟! وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه أحق به وأولى]. يقول المصنف: إذا كان بعض المخلوقات ليس مفتقراً للبعض الآخر، فمن باب أولى في الامتناع المحقق الضروري أن لا يكون الخالق مفتقراً إلى شيء من مخلوقاته؛ لأنه إذا كان مفتقراً إلى شيء من مخلوقاته لم يكن رباً, تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله مفتقر إلى خلقه، لكن المقصود أنهم تأولوا الصفات وعطلوها عن كمالها اللائق بالله؛ لأنهم توهموا فيها هذه الأوجه، وهذا التوهم لا معنى له؛ لأن وروده في تفسيرهم للآيات غلط محض؛ لأنه يمتنع أن يكون محتملاً في دلالة القرآن ما يكون معنىً معلوم الامتناع في العقل والشرع. وقوله: (وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه أحق به وأولى): سيأتي -إن شاء الله- في القاعدة السادسة تفصيل لهذه القاعدة: وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ فإن الخالق أولى به.

صفة العلو

صفة العلو قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه]. لقد غلط كثير من الطوائف ففسروا كلام الأئمة -الذين قالوا: إن الله في السماء وإنه في العلو- بأنهم يقولون: إن الله في السماء في مكان مخلوق، وبأنهم يجعلون الله محتاجاً إلى السماء .. ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه غلط على الأئمة، فإن المقصود بكلامهم وإجماعهم: أن الله سبحانه وتعالى في السماء، أي: في العلو، وليس معنى ذلك أنه على معنى قولنا: إن بني آدم في الأرض، وإن الملائكة في السماء، فإن بني آدم محتاجون إلى الأرض، والملائكة محتاجون إلى هذه السماء التي تحويهم، والله تعالى غير محتاج إلى شيء من خلقه. فقولهم: (إن الله في السماء) معناه: أن الله فوق الخلق، ومعلوم أن السماء هي العلو، وإذا ما فسرت السماء بالسماوات السبع قيل: معنى ذلك: أنه على السماء، فهو فوق هذه السماوات السبع، وقد قال الله عن كرسيه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] فلا يمكن أن يفسر العلو والفوقية بمثل هذه التفسيرات الباطلة التي توهمها من توهمها ولم يقلها أحد من أهل العلم، بل لم يقلها أحد من المسلمين، والحقيقة أنه لا أحد من المسلمين يصف الله بهذا النقص، لكن لما توهم من توهم أن معنى مقالة الأئمة هو هذا المعنى؛ ذهبوا ينفونها، واستعملوا بدلاً عنها: (لا داخل العالم ولا خارجه)، ففروا من هذا النقص -الذي هو نقص بحق، لكنه لم يكن قولاً للأئمة- فروا من هذا النقص إلى ما هو شر منه، فإنهم قالوا قولاً لا يستلزم التشبيه؛ بل يستلزم الامتناع، ولك أن تقول: لا يستلزم التشبيه بالمخلوقات؛ بل يستلزم التشبيه بالممتنعات، وذلك حين قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه؛ فإن هذا هو حكم الممتنعات أو المعدومات على أقرب الأحوال. وقوله: (وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه): فإذا أضيف إلى الله فلا شك أنه مختص به، وإذا أضيف إلى المخلوق فلا شك أنه مختص به.

ورود حرف (في) في كلام العرب على معان مختلفة

ورود حرف (في) في كلام العرب على معان مختلفة قال المصنف رحمه الله: [ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق؛ فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله]. بين المصنف رحمه الله أن حرف (في) قد استعمل في جميع هذه الموارد، ومع ذلك فإن الحقائق الأربع هنا حقائق مختلفة، فإذا كان كذلك وهذا بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ ولهذا كانت العرب في جاهليتها يعرفون هذا المعنى؛ وأنه من معاني الربوبية العامة؛ وهو مذكور في شعرهم، كقول عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان رب في السماء قضاها فكون الباري سبحانه وتعالى في السماء، هذا أمر كانت العرب في جاهليتها عارفةً له، وهو من مبادئ الفطرة الأولى، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في حديث معاوية بن الحكم السلمي: (أين الله؟ قالت: في السماء)، فهذا معنىً مستقر، ولم يكن أحد حتى من الجاهليين يفهم من (أن الله في السماء) هذا القدر من التشبيه الذي يسقط مقام الربوبية؛ فضلاً عن أن يكون هذا لأرباب العلم والديانة والاتباع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

معنى قولنا: (إن الله في السماء)

معنى قولنا: (إن الله في السماء) قال المصنف رحمه الله: [فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء. ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات؛ بل ولا الجنة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن)، فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48]]. ويفسر هذا العلو بحسب سياقه، فلما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] عرف أن السماء الذي نزل منه الماء هو السماء الإضافي بالنسبة لأهل الأرض؛ ولذلك فما ذكر في حق الباري سبحانه وتعالى لابد أن يكون هو العلو المطلق الذي يختص به سبحانه وتعالى عن غيره، فإن الله تعالى قد قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وبين أن هذا الماء ينزل من السماء، وكذلك الملائكة في السماء، ومعلوم أن هذه السماء ليس هي السماء التي أضافها الله سبحانه وتعالى إليه في سياق ذكر ذاته في قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فإن هذا قدر مخلوق، أي: ما يختص بمخلوقاته يكون مناسباً لهم، أما أنه في السماء فمعنى ذلك: أنه عليٌ عن خلقه سبحانه وتعالى، وأنه بائنٌ عن خلقه، مستوٍ على عرشه، كما أخبر عن نفسه جل وعلا. والحديث الذي ذكره رواه البخاري وغيره. قال رحمه الله: (ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء). وهذا أمر بدهي؛ ولذلك لم يتوهم أحد في قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] أكثر من المعنى المعروف، وهو أن هذا المطر ينزل من علو عن الأرض، فهذا الذي لم يدخله قدر من التوهم، فما كان في حق الله يعتبر من باب أولى، ولكن لولا دخول هذه المادة الفلسفية على قوم من المسلمين، فصار عندهم هذا الإشكال وهذا التردد وهذا التوهم الذي ما أنزل الله به من سلطان، وإلا فإنه كما قيل: إن العرب في جاهليتها، بل وجميع أمم الشرك كانت هذه المعاني -كعلو الرب سبحانه وتعالى، وأنه غني عما سواه، وأنه فوق خلقه ونحو ذلك- كانت من المعاني المستقرة التي لا تحتاج إلى كثير من الجدل والنظر والاحتراز ببعض القيود التي أحدثها من أحدثها من المتأخرين من أهل الكلام.

قول الجارية: (إن الله في السماء)

قول الجارية: (إن الله في السماء) قال المصنف رحمه الله: (وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها). فلم ترد الجارية أن الله في السماء كقولنا: إن الملائكة في السماء؛ بل أرادت بالسماء العلو، وحديث الجارية رواه الإمام مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي، وهو حديث طويل، وفيه: قال معاوية: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاةٍ من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). وهذا الحديث دليل على أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهو سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه لهذه الجارية.

العلو يتناول كل ما فوق المخلوقات كلها

العلو يتناول كل ما فوق المخلوقات كلها قال المصنف رحمه الله: [وإذا قيل: العلو. فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق]. قوله: (كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق)؛ لأن هذا يستلزم تسلسل المخلوقات إلى ما لا نهاية، فالمصنف يقول: إذا علم أن العرش لا يستلزم التسلسل في المخلوقات؛ علم أن معنى (أن الله على عرشه) أي: أنه عليٌ على سائر خلقه، ولما كان علياً على خلقه، وأنه فوق العرش، مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله؛ كان علوه على غير العرش من مخلوقات من باب أولى، فإن العرش هو أعظم المخلوقات، وهو أعلاها، ولما كان العرش هو أعظم المخلوقات وأعلاها، والله عليٌ على عرشه، مستوٍ عليه؛ علم من هذا أنه عليٌ على سائر خلقه؛ ولهذا لما ذكر الاستواء ذكره في مقام ذكر علوه على عرشه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولما ذكر العلو جعله مطلقاً ولم يعين بشيء من مخلوقاته، فقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] فهذا العلو موافق لهذا العلو، وإن كان ما ذكر في استوائه على العرش له اختصاص من جهة المعنى كما هو معروف. قال رحمه الله: [فإذا قدر أن السماء المراد بها الأفلاك؛ كان المراد أنه عليها، كما قال: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] وكما قال: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه]. يبين المصنف هنا أن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يراد به العلو، فلو قال قائل: إن السماء هنا هي السماوات المخلوقة، قيل: حتى لو قيل بهذا المعنى في قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فإن تفسير هذه الآية سيكون: أي: على السماء، فكلا التفسيرين يدل على العلو.

شرح القواعد السبع من التدمرية [18]

شرح القواعد السبع من التدمرية [18] القاعدة الخامسة في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أننا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، أما الوجه المعلوم فهو المعنى المستقر في اللسان، وإذا ذكر مضافاً إلى الله علم اختصاصه به، وأنه معنى يليق به سبحانه، ليس كالمعنى المضاف إلى الإنسان، وأما الوجه الذي ليس معلوماً فهو ما يتعلق بكيفية الصفات، فإن كيفية الصفات مجهولة بالنسبة لنا، وتحت هذه القاعدة كلام عن التأويل، وعن المحكم والمتشابه، وبيان معانيها وحقائقها الصحيحة.

القاعدة الخامسة: أننا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه

القاعدة الخامسة: أننا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه قال المصنف رحمه الله: [القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فأمر بتدبر الكتاب كله]. هذه هي القاعدة الخامسة، وهي من شريف القواعد، وهي من تحقيق مذهب الأئمة، وقول المصنف: (أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه)، أما الوجه المعلوم فهو: المعنى المستقر في اللسان، وإذا ذكر مضافاً إلى الله علم اختصاصه به، وشهد العقل والإدراك أنه معنىً يليق بالله سبحانه وتعالى، ليس كالمعنى الذي يضاف إلى المخلوق؛ فالاستواء معلوم، والسمع معلوم، والبصر معلوم, فهذا ما يعلم، وهو العلم بالمعنى. وأما قوله: (دون وجه)، فإن الوجه الذي ليس معلوماً هو ما يتعلق بكيفية الصفات، فإن كيفية الصفات مجهول، وهذا تصريح من المصنف بأنه لا يذهب مذهب التفويض الذي يقول أصحابه: إن العلم بالمعنى في سائر أوجهه لا يكون معلوماً.

أمر الله تعالى بتدبر القرآن وفهم معانيه

أمر الله تعالى بتدبر القرآن وفهم معانيه وقوله: (فأمر بتدبر الكتاب كله): أي: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر الكتاب كله دون استثناء أي شيء منه، ومن المعلوم أن آيات الصفات في كتاب الله متواترة؛ وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتدبر الكتاب -أي: القرآن- كله، مما يدل على أن إمكان العلم بالمعاني في القرآن ممكن، ولو كان العلم بمعاني القرآن ليس ممكناً، أو كان العلم بمعاني آيات الصفات ليس ممكناً؛ لما شرع الله لعباده أن يتدبروا القرآن تدبراً عاماً مطلقاً لم يستثن من ذلك شيئاً من الآيات. والتدبر: هو درجة تزيد على التصديق بأن هذا قرآن، فإن بعض الناس قد يصدق بأن هذا القرآن، كما هو معروف عند عامة المسلمين، لكن التدبر هو وجه من الفقه والفهم لكتاب الله، وبذلك يعلم غلط طريقة المفوضة؛ لأن من لازم التفويض منع التدبر؛ أما أن يقال: إن الآية لا نعين لها معنى، ولكنه يشرع تدبرها، فإن هذا من باب التناقض. وأيضاً: فإن أمره سبحانه وتعالى بتدبر القرآن كله دليل على غلط طريقة أهل التأويل، ووجه ذلك: أن الله أمر بتدبر القرآن، وجعل هذا حكماً لعباده أجمعين, مما يدل على أن ظاهر القرآن مراد، وإلا لو كان ظاهره -كما يقول أهل التأويل- ليس مراداً؛ لما شرع التدبر؛ لأن من تدبر الكلام انقاد إدراكه وعقله إلى إدراك المعنى الظاهر، وهذا يدل على أن ظاهر النصوص مراد. مع تقييد هذا الكلام بأن يقال: إن الظاهر الذي يحصل بالتدبر العلم به هو: المعاني اللائقة بالله سبحانه وتعالى، وليس هو التشبيه، ولذلك فإن من تدبر قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] حصل له من هذا التدبر أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى بن عمران, ومن تدبر قول الله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] حصل له من هذا التدبر أن الله موصوف بالمحبة لعباده المؤمنين، وأن المؤمنين يحبون ربهم، كما أنه سبحانه وتعالى يرضى عنهم ويحبهم. وقد يقول قائل: إن ما سماه بعض المصطلحين من أهل العلم بالحروف المعجمة -وهذا التسمية في ظني ليست حسنة، إنما يقال: أوائل السور، والمقصود بها الحروف المقطعة في أوائل السور, كقوله تعالى: {الم} [البقرة:1] {كهيعص} [مريم:1] {المر} [الرعد:1] إلخ- فقد يقول قائل: إن هذه الآيات -وهي أوائل بعض السور- ليست معينة المعنى على مثل سياق قوله تعالى مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} [الحجرات:12] أو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] إلخ. فيقال: هذا صحيح، لكن هذه الآيات أيضاً -وهي أوائل بعض السور- داخلة في التدبر، ومن معنى التدبر: تحصيل تدبر يكون مناسباً لها، فإن هذه الأحرف مثل: (الم) (المر) (كهيعص)، ليس لها معنى في لسان العرب كسياق: (أقيموا الصلاة) أو (آتوا الزكاة)، فيكون تدبرها تدبراً مناسباً لسياقها، وهنا نرجع إلى أن التدبر يكون مناسباً للسياق، ومن ذلك: أن هذا مما يعلم به اختصاص القرآن، ومما يعلم به إعجاز القرآن .. وغير ذلك من الأوجه التي تفسر بها.

الخلاف في تفسير قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)

الخلاف في تفسير قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) قال المصنف رحمه الله: [وقد قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم]. هذه الآية من كتاب الله تعالى قد وقف عندها كثير من الواقفين في باب الصفات، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن جمهور المتكلمين جعلوا آيات الصفات من المتشابه، وقالوا: إن الله شرع في المتشابه التأويل، وهذا على الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ومنهم من يجعلها من باب المتشابه، ثم يتردد في مسألة التأويل. فالمقصود: أن جملةً كثيرةً من الطوائف -ولا سيما الطوائف الكلامية- فسروا المتشابه في هذه الآية بآيات الصفات، ولا شك أن هذا من الكلام المجمل الذي لا يجوز إطلاقه. وقد أثر عن الأئمة في الوقف فيها أحد وجهين: الوجه الأول: الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] وهذا هو الذي عليه الجمهور كما يقول المصنف. الوجه الثاني: الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]. فعلى الوجه الأول يفسر التأويل بالحقيقة التي اختص الله بعلمها، وهي الكيفيات والحقائق التي لا يمكن للعقل أن يتصورها. وعلى الوجه الثاني يكون المقصود بالتأويل: التفسير، أي: أن الفقه والتفسير والتحقيق للمعاني هو من شأن الراسخين في العلم. قال رحمه الله: [وروي عن ابن عباس أنه قال: (التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب). وقد روي عن مجاهد وطائفة: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله. وقد قال مجاهد: (عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها)]. مقصود ابن عباس بالتفسير الذي لا يعلمه إلا الله أي: الحقائق المفارقة، وهي حقائق اليوم الآخر، أو ما يتعلق بكيفيات الصفات، وغير ذلك، فهذا مما اختص الله بعلمه. وقول مجاهد: (يعلمون تأويله) أي: تفسيره.

بيان معاني التأويل

بيان معاني التأويل

المعنى الأول: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة

المعنى الأول: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة قال المصنف رحمه الله: [ولا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان: أحدها -وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله-: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟]. هذا هو المصطلح الأول في مرادهم بالتأويل، وهو الذي عليه أئمة علم الكلام، وقد دخل على كثير من أهل الفقه والأصول، وإلا فأصل هذا المصطلح هم أئمة المعتزلة، فالتأويل عندهم بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وهو مبني على ما تقدمت الإشارة إليه من مسألة الحقيقة والمجاز؛ ولهذا فلك أن تقول: إنهم يقولون تارة: هو صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي؛ لدليل يقترن بذلك، ولا شك أن هذا الحد فيه قدر من التناقض من جهة العقل، ومن جهة اللغة، ومن جهة الشرع، وليس هذا المقام مقام تفصيله.

عدم احتمال الكلام المحكم البين لمعنيين متنافيين

عدم احتمال الكلام المحكم البين لمعنيين متنافيين لكن لابد من الإشارة إلى أن الأصل أن الكلام المحكم البين يكون بريئاً من كونه محتملاً لمعنيين بينهما قدر من التباين والتنافي، الأول يسمى ظاهراً حقيقة، والآخر يسمى تأويلاً مجازاً .. فإن هذا لا شك أن فيه قدراً من التناقض العقلي والتناقض اللغوي؛ بل والتناقض الشرعي؛ أي: أنه يعلم تناقضه من جهة الشرع، فإن الشرع يقضي بتناقضه وإبطاله؛ لأن الشرعيات -سواء باب الأمر والنهي أو باب الخبر- مراد الله سبحانه وتعالى في نفس الأمر من الكلام يكون واحداً، مع أن هناك نصوصاً في الأمر والنهي قد تحتمل عند الناظرين فيها أكثر من معنى، إلا أن مراد الله سبحانه وتعالى يكون واحداً من هذا الذي قد اختلف فيه اختلاف تضاد. أما باب الخبر فإنه دائر بين التصديق والتكذيب، فمثلاً: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فالقرء هنا قد يفسر بالحيض وقد يفسر بالطهر، وهذا التفسير مختلف عن هذا، لكن ليس هذا من باب الإثبات والنفي، أي: التصديق والتكذيب، أما إذا قيل: إن هذا النص الخبري -كنص من نصوص الصفات- يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز، ويكون المعنى المجازي منافياً للمعنى الذي يسمى حقيقة؛ لزم أن يكون النص قد احتمل معنيين بينهما تناقض في النفي والإثبات، أي: في التصديق والتكذيب، ومن المعلوم أن من يكذب القرآن فإنه يكفر. وإذا ما فرض عند هؤلاء أن الآيات الخبرية -وهي آيات الصفات- تحتمل معنيين متناقضين أو متنافيين؛ لزم من هذا -كضرورة عقلية- أنه قد يقع بعض المسلمين حقيقة في هذا أو في هذا، فقد يقع بعضهم في المعنى الصادق، ويقع البعض الآخر في المعنى الكاذب، ويكون هذا في باب صفات الله وكمال الله، وهذا واضح الامتناع؛ ولذلك فإن مسألة التأويل بهذا الاصطلاح مبنية على نظرية لغوية، وهذه النظرية اللغوية هي نظرية الحقيقة والمجاز. وقد أسلفنا أن تسمية نوع من سياق العرب مجازاً والآخر حقيقة إذا ما كان من باب الاصطلاح فإنه يكون سائغاً، ولا مشاحة في الاصطلاح، وأما إذا كان ذلك من باب عوارض المعاني، فلا شك أن هذا غلط على اللغة، وغلط على الشريعة.

احتمال الكلام لأكثر من معنى

احتمال الكلام لأكثر من معنى قد يتكلم بعض المتكلمين بكلام خبري يحتمل أكثر من معنى، ويكون بين المعنيين تناقض وتناف، ويكون أحدهما محتملاً للإثبات، والآخر محتملاً للنفي، لكن سبب هذا التناقض أحد سببين: الأول: أن المتكلم نفسه أراد أن يلغز ويدلس ويشبه على المخاطبين، فقال جملة خبرية يفهم منها شخص إثباتاً، والآخر يفهم منها نفياً؛ لأنه قصد عدم الإفصاح بالحقيقة المثبتة، أو بالحقيقة المنفية. الثاني: أن المتكلم بطبعه ليس فصيحاً، فيكون ركيك الكلام، ركيك التركيب، فاضطرب كلامه حتى لم يستطع السامع له أن يفهم هل أراد إثباتاً أم أراد نفياً؟ لكن لا شك أن كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المسلمين ينزه عن هذين الوجهين، أو عن هذين العارضين: فينزه عن أن يكون الله تعالى أراد أن يلبس على خلقه .. هذا لا شك أنه يستحيل على قدره سبحانه، وقدر كلامه، وقدر كلام نبيه، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وغير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن الكريم هو هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. ويمتنع الوجه الآخر من العارض، وهو النقص في المتكلم نفسه، فيكون ركيك الكلام، فيضطرب كلامه .. فإن هذا بين الامتناع عقلاً وشرعاً أن يضاف إلى القرآن أو إلى كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: لا يمكن أن تكون الجملة الخبرية محتملة لمعنيين متنافيين، ومعلوم أن باب الصفات -كما قال المصنف في أول الرسالة- من باب الخبر الدائر بين الإثبات والنفي، وهذا من فقه المصنف؛ أنه افتتح بهذه القاعدة ليقول: إنه يمتنع أن تكون هذه الآيات محتملة للإثبات ومحتملة للنفي؛ فإن من التناقض أن يقال: إن الآية محتملة للكمال، ومحتملة للنقص، ومحتملة للصدق، ومحتملة للكذب. إذاً: كل جملة خبرية في ألسنة بني آدم أجمعين، ليس عند العرب فقط، فإن بعض الناس يظن أن مسألة الحقيقية والمجاز مبنية على مفهوم لسان العرب فقط، وهذا غير صحيح -وإن كان القرآن نزل بلسان العرب- وذلك لأن الله بعث الأنبياء بألسنة قومهم، ومعلوم أن الأنبياء، وأن جميع الرسالات والكتب السماوية جاءت بإثبات الصفات لله تعالى، وقد نزلت بلسان قومها -أي: بلسان قوم الأنبياء- ولذلك يقول ابن سينا -وهو ممن يمنع التأويل كما سبق، وإن كان يذهب إلى شر منه، لكنه يعارض أهل التأويل من المتكلمين فيقول-: "هب أنكم تأولتم هذا على طريقة العرب، فأين التأويل على طريقة اليهود؟ وأين التأويل على طريقة الأمم الأخرى؟ ". إذاً: كل جملة خبرية لا يمكن أن تكون محتملةً لمعنيين متنافيين، أحدهما تصديق والآخر تكذيب بالأول، أو الأول إثبات والثاني نفي، إلا أن يكون المتكلم قاصداً لتردد المخاطب في إدراك أحد الحقيقتين، وهذا ينزه عنه الباري سبحانه، والأنبياء عليه السلام، وإما أن يكون المتكلم ناقصاً ركيك الكلام، فإذا امتنع هذا وهذا، فإنه يمتنع حتى في كلام المخلوقين -ولله المثل الأعلى- أن تكون الحقيقة مضطربة هذا الاضطراب. إذاً: مسألة المجاز تنقد من هذا الوجه: أنها تتضمن الإيمان بأن هذه الآيات تتضمن معنىً ومعنى مناقض له، تتضمن الكمال وتتضمن النقص، والنقص هو الظاهر كما يزعمون، فإنهم جعلوا ظاهر النصوص هو النقص؛ لأنهم لو جعلوا ظاهر القرآن هو الكمال؛ لكان هذا -مع أنه لا حاجة إليه- ألطف، لكن أن يقولوا: إن ظاهر القرآن ليس مراداً؛ بل المراد هو التأويل، ويسمون الأول مجازاً والثاني حقيقة، فلا شك أن هذا غطرسة وسفسطة في العقليات، وعدم تقدير للقرآن حق قدره، ومن هنا فإن القول في مسألة المجاز من هذا الوجه يكون قولاً مناسباً من جهة اللغة ومن جهة الشرع. أما إذا كان اصطلاحاً فكما أسلفت أنه لا مشاحة في الاصطلاح، لكن هذا كله سفسطة، فحينما يقال: إن قولنا: رأيت أسداً يخطب، هذا مجاز، وقولنا: رأيت رجلاً يخطب، هذا حقيقة، لماذا قيل في الأول: إنه مجاز؟ قالوا: لأن الحقيقة إذا قلت: رأيت أسداً يخطب، أن يفهم السامع أن أسداً حيواناً دخل المسجد وصعد المنبر وجلس يخطب والناس يستمعون، هذه هي حقيقة هذا الكلام، فنحن نريد أن نبين ونستدرك فنقول: إن المتكلم العربي إذا قال هذا فهو لا يقصد المعنى الحقيقي وهو أن الحيوان المعروف دخل المسجد، إنما يقصد المعنى المجازي، وهو أن رجلاً شجاعاً دخل المسجد!! متى وصل الذهن البشري إلى هذه الدرجة من الانحطاط حتى يقال: حتى لا يتوهم متوهم أن حيواناً دخل المسجد أو ما إلى ذلك؟! هذا كله سفسطة في تفكيك اللغة، وفي فلسفة اللغة، ولا حاجة إليه، فإنه إذا قيل: رأيت أسداً يخطب؛ فُهم أن رجلاً شجاعاً أو رجلاً هائجاً قام على المنبر فخطب. إذاً: هذا مما يرد به على مسألة الحقيقة والمجاز، ومن ثم على مسألة التأويل الكلامي.

المعنى الثاني: التأويل بمعنى التفسير

المعنى الثاني: التأويل بمعنى التفسير قال المصنف رحمه الله: [والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماء التأويل. ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره]. هذا هو المعنى الثاني للتأويل، وهو أنه بمعنى التفسير، وقول ابن جرير رحمه الله: "واختلف علماء التأويل"، أي: علماء التفسير.

المعنى الثالث: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام

المعنى الثالث: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام قال المصنف رحمه الله: [الثالث -من معاني التأويل-: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا]. هو هذا المعنى الثالث من معاني التأويل، والفرق بين الثاني والثالث من المعاني: أن الثاني المقصود به المعاني المدركة بالعقل، أما الثالث فالمقصود به الحقيقة الصورية، أو ما نسميها بالكيفيات أو الحقائق المتصورة على قدر من التكييف والماهيات المفارقة. قال رحمه الله: [فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته، أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج]. وعليه: فالعلم بالتأويل على المعنى الثاني لا يتضمن العلم بالتأويل على المعنى الثالث. قال رحمه الله: [ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)، تعني: قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] وقول سفيان بن عيينة: (السنة هي تأويل الأمر والنهي)]. فيكون من باب التحقيق والتطبيق.

الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة

الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة قال المصنف رحمه الله: [فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء؛ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهي عنه؛ لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة]. قوله: (الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة)؛ لأن الفقهاء يعرفون ما يسمى بالحقيقة الشرعية، ومن المعلوم أن علماء الأصول يقولون: هذه حقيقة شرعية، وحقيقة لغوية، أو العرف الشرعي، والعرف اللغوي .. فيقول أبو عبيد -وهو من متقدمي أهل العلم العارفين بكلام العرب وفقه الحديث والرواية-: (إن الفقهاء أعلم بالتأويل -أي: التفسير- من أهل اللغة)، ووجه ذلك: أنهم -أي: أهل الفقه- يعلمون المعنى الذي قصده الشارع، بخلاف صاحب العربية الذي لم يستفصل في علم الشريعة، فربما ظن أن المقصود بهذه الكلمة من كلمات صاحب النبوة هو عين المعنى اللغوي. - مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم لا؟ وهناك مسألة ذكرها النظار من المتكلمين، وبعض أهل السنة؛ كالإمام ابن تيمية، وأبي محمد ابن حزم، وهي مسألة: هل جاءت الشريعة بزيادة على المعاني اللغوية أم أن الأمر ليس كذلك؟ هل هذا ترادف أم أن الشارع قلب الأسماء اللغوية؟ أم أنها ثبتت على أصولها وزيد عليها؟ هذا فيه خلاف مفصل مطول ذكره أبو محمد ابن حزم في الفصل، وذكره ابن تيمية في مواضع، منها: في المجلد السابع من الفتاوى لما تكلم عن مسألة الإيمان عندما يقال: التصديق في اللغة وفي الشرع هو كذلك، أم أنه في الشرع هو كل ما شرع من الأقوال والأعمال؟ ثم ذكر الخلاف مع المرجئة في هذا الكلام. لكن أقول هنا: إن ما يذكره ابن تيمية أو ابن حزم في: هل زادت الشريعة على اللغة، أم أنها نقلت اللغة، أم أن ثمة أوجهاً أخرى من الكلام؟ أقول: إن هذه الأوجه من البحوث والجدل والمناظرات والخلاف يقال فيها وينظر فيها، وقد يرجح فيها .. لكن من المعلوم أنه لا يمكن أن ترد الحقائق في أصول الدين إلى الانتصار لقول يقبل الخلاف ويقبل الاجتهاد والمنازعة .. وهذه طريقة في تقرير المعتقد لابد أن يكون طالب العلم على فقه فيها. فلا ينبغي أن يبني هذا الحق الذي يجعله أصلاً من أصول الدين، كقوله: إن الإيمان في الشريعة هو كل قول وعمل شرعي -لا ينبغي أن يبني هذا على وجه من الدليل المركب على المعاني اللغوية، ويكون هذا الوجه قد حصل فيه نزاع، لكنه -أعني: هذا المتكلم به- انتصر له وصححه، فإنه حتى لو انتصر له وصححه فإن غيره يمكن أن ينازعه فيه. إذاً: فما يعرض في كلام أهل العلم يقال: إنه نوع من الاستئناس في التقرير، أو نوع من قطع الحجج على المخالفين، أما أن الحقائق تبنى على ذلك، وعلى هذا الاختلاف، وعلى أنه إذا انتصرنا لقول الله تعالى مثلاً: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} [يوسف:17] فكأن فقه مسألة الإيمان الشرعي عند المسلمين يدور على تفسير هذه الآية، فلا. وقد نبه إلى هذا المعنى ابن تيمية، مع أنه يشتغل بهذه المعاني، لكن اشتغاله بها هو من باب كمال الحقيقة العلمية، ومن باب الاستئناس العلمي؛ ليقطع حجج المخالفين. أما أن مدار المسألة يتفرع عن هذا التفسير، أو عن هذا النظر المعين الذي -إن صحح- قد ينازع فيه الغير وفي تصحيحه؛ فإن هذا لا يكون، ولذلك يقول ابن تيمية في بعض أجوبته مع المرجئة: "إنه يمتنع أن يكون فقه مسألة الإيمان، الذي ما بعث الله الرسل إلا من أجله، وما بعث الله الرسل إلا للتوحيد، وأصل التوحيد هو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، إنه يمتنع أن يكون فقه هذه المسألة عند المسلمين مبنياً على آية من كتاب الله، ربما أن كثيراً من المسلمين لم يسمعها ولم يقرأها، أو أنه توفي وقد صح إسلامه وإيمانه قبل نزولها". فهذا باب ينبغي أن يفقه، وهو أن أصول الدين ترد إلى دلائل وإلى قواعد مستقرة منضبطة، وهي كذلك، ولا ينبغي أن ترد إلى قول يقبل النزاع، ويقبل الاختلاف والمجادلة. وقوله: (كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ...): أبقراط هو الطبيب المعروف، وهو من أساطين الأطباء، وسيبويه هو عالم النحو المعروف.

الفرق بين تأويل الأمر والنهي وبين تأويل الخبر

الفرق بين تأويل الأمر والنهي وبين تأويل الخبر قال المصنف رحمه الله: [ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته، بخلاف تأويل الخبر]. قوله: (لكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته)؛ لأنه يتحقق، ولذلك قال سفيان: (السنة تأويل الأمر والنهي). بخلاف الخبريات، فإنه لا يمكن المعرفة بتأويلها على المعنى الثالث الذي هو الحقائق. إذاً: في باب الأمر والنهي تقع الحقائق، وذلك بتطبيق الأمر على وجهه الشرعي, وهذا يسمى تأويلاً له، أي: تحقيقاً له في الخارج وفي الوجود، أما في باب الخبريات فإن المصنف يقول: (بخلاف تأويل الخبر فإنه لا يمكن معرفته)؛ لأنه من الحقائق المفارقة في علم الغيب الذي اختص الله تعالى به.

تأويل صفات الله تعالى ووعده ووعيده

تأويل صفات الله تعالى ووعده ووعيده قال المصنف رحمه الله: [إذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات، هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد، هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد]. هذا هو المعنى الثالث للتأويل، وأما إذا قيل: التفسير، فإن تأويل الصفات على معنى التفسير هو العلم بمعانيها، وتأويل الوعيد على المعنى الثاني هو العلم بمعناه، أما على المعنى الثالث فهو الحقائق المفارقة، وقد اختص الله تعالى بعلم كيفية صفاته، أو كيفية وماهية وعيده.

ما جاء في القرآن والسنة نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه

ما جاء في القرآن والسنة نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه قال المصنف رحمه الله: [ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وماءً وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته]. قوله: (وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً): وهذا هو: الاشتراك اللفظي بين ما في الدنيا وما في الآخرة من هذه الأسماء. وقوله: (ومعنى) أي: المعنى الكلي الذهني، وهذا قد سبق في ذكر المثلين. قال رحمه الله: [فأسماء الله تعالى وصفاته أولى -وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- ألا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته]. وقد سبق الإشارة إلى هذه القاعدة كثيراً.

الإخبار عن الغائب بالمعنى المعلوم في الشاهد مع اختلاف الحقيقة

الإخبار عن الغائب بالمعنى المعلوم في الشاهد مع اختلاف الحقيقة قال المصنف رحمه الله: [والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد]. إذا قيل: لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأسماء في حق خلقه، وهي مذكورة في حق ذاته سبحانه وتعالى؟ قيل: لأنه لا يعلم الإخبار عن الغائب إلا إذا عبر بأسماء معلومة في الشاهد، فيكون الاشتراك حصل في الاسم، وفي المعنى الكلي الذهني، وأما من حيث الإضافة والتخصيص فإن هذا المعنى يكون تابعاً لمن أضيف له. وقوله: (وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد)؛ لأن هذا أضيف إلى الشاهد الممكن البسيط، وذاك أضيف إلى قدر من الغيب المعظم، سواء في ملكوت السماوات، أو في ملكوت الأرض، أو في ملكوت الله سبحانه وتعالى فيما شاء من خلقه؛ فضلاً عما يكون مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كانت حقيقة ما ذكر من النعيم أو من العذاب في الآخرة أعظم من حقيقة النعيم أو العذاب في الدنيا؛ فمن باب أولى أن يكون ما ذكر من صفات الله سبحانه وتعالى ليس كصفات خلقه. قال رحمه الله: [وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر]. وهذا يقع في الجنة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فإذا كان في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فمن باب أولى أن يكون ما اختص الله سبحانه وتعالى به من صفات الكمال لم تره العين، ولم تسمع هذه الكيفيات الأذن، ولا يمكن أن تخطر هذه الكيفية على قلب بشر، فإذا كانت كيفيات ما في الآخرة -مع العلم بمعانيها- لم تسمعها الأذن، ولم ترها العين، ولم تخطر على قلب بشر، فمن باب أولى ما يتعلق بكيفيات صفات الباري سبحانه وتعالى.

العلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية

العلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية قال المصنف رحمه الله: [فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار؛ علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسرنا ذلك, وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله]. وهذا على المعنى الثالث للتأويل، فكما أننا نعلم المعاني المقولة في وعيد الله ووعده، ومع ذلك لا نعلم الكيفية التي تقع، فإن القول في باب الصفات من باب أولى أن يقال: إن معانيها معلومة، وهي صفات كمال لائقة بالله، وأما كيفياتها فإنها مجهولة وليست معلومة، والعلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية، فإنا نعلم ما في وعد الله ووعيده من المعنى، ولا نعلم الكيفية، فهذا في حق المخلوقات، فهو في حق الخالق وصفاته من باب أولى. قال رحمه الله: [ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبين أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة]. وهذا القول -أي: قول مالك - مروي عن غير واحد من السلف، وهو يصح أن يقال في سائر مسائل الصفات، وقوله: (الاستواء معلوم) أي: معلوم المعنى، فإن معنى (استوى) في كلام العرب معلوم، والاستواء معلوم في القرآن، وإذا قيل: إنه معلوم في القرآن، فإن معنى ذلك أنه معلوم في كلام العرب؛ لأن هناك تلازماً، فإن القرآن نزل بلسان العرب، ولا يمكن أن يخبر الله عز وجل عن نفسه في القرآن بشيء إلا ويكون معلوماً؛ لأن الله أمر بتدبر القرآن. وقوله: (والكيف مجهول) أي: أن العلم به علم ممتنع؛ لأنه لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى علماً. وقوله: (والإيمان به واجب) أي: بالاستواء ومعناه، وقوله: (والسؤال عنه بدعة) أي: عن كيفية الاستواء؛ لأنه يدخل في قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فلا ينبغي لأحد أن يسأل عما ليس له به علم. قال المصنف رحمه الله: [ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، ولا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم. وقد أخبر به أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره]. الحديث الثاني، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) قد تكلم بعضهم في إسناده، وبعضهم قواه وصححه، وهو دليل على أن أسماء الله سبحانه وتعالى ليست مقصورةً على تسعة وتسعين اسماً. وإذا كان الله عز وجل قد استأثر بشيء من أسمائه سبحانه وتعالى، فمن باب أولى ما يتعلق بالكيفيات في صفاته سبحانه وتعالى.

أسماء الله وصفاته متنوعة في معانيها متفقة في دلالتها على ذات الله

أسماء الله وصفاته متنوعة في معانيها متفقة في دلالتها على ذات الله قال المصنف رحمه الله: [والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم .. إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، فنحن نفهم معنى ذلك، ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات]. قوله: (متواطئة من حيث الذات) أي: أنها تدل على ذات واحدة وعلى مسمى واحد، وأما أنها متباينة من جهة الصفات فمعنى ذلك: أن كل صفة تدل على معنى، وهذا فيه إبطال لطريقة غلاة المتكلمين الذين جعلوا كل صفة هي عين الصفة الأخرى. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب]. الماحي: الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر: قيل: الذي يحشر الناس على قدميه، أي: يكونون تبعاً له، والعاقب: الذي ليس بعده نبي. قال رحمه الله: [وكذلك أسماء القرآن مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك، فمثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها: هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات؛ كما إذا قيل: السيف، والصارم، والمهند؛ وقصد بالصارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات]. ولا ينبغي هذا الإطلاق ولا هذا الإطلاق؛ لأنها من وجه متباينة ومن وجه متواطئة ومترادفة. ومن المعلوم أن أساسيات المفاهيم هي قوانين مشتركة فطرية أساسية إدراكية، أو تلقائية الإدراك عند سائر بني آدم، وهذا هو معنى أن الإنسان عاقل، أي: أنه يدرك الأشياء، فإذا قيل: من أسماء النبي: محمد، وأحمد، والحاشر، والعاقب؛ فليس هناك حاجة إلى أن ندخل نظام الاصطلاح على هذا الكلام ومن ثم نقول: هل هذا متواطئ أم مترادف؟ لأن سائر من يسمع هذا عن مسمى؛ كالنبي عليه الصلاة والسلام، أو عن غيره، كما لو قيل عن رجل بأنه يسمى بخمسة أسماء مثلاً -لم يفهم أن هذا الرجل سيكون خمسة رجال، كما أنه لا أحد من الناس يفهم أن هذه الصفة بمعنى الصفة الأخرى؛ إلا إذا لم يكن عليماً باللسان الذي سمع به الخطاب. فهذه الحقائق في أصلها حقائق مدركة، فحينما يقال: إن من أسماء الله العزيز، والحكيم، والسميع، والبصير؛ فإن سائر العقلاء يدركون أن المسمى واحد، وأن هذه الصفات صفات متنوعة ومختلفة.

وصف القرآن بأنه محكم وبأنه متشابه وبأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه

وصف القرآن بأنه محكم وبأنه متشابه وبأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه قال المصنف رحمه الله: [ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه]. ذكر المصنف رحمه الله هنا مسألة أخرى، كتفريع عن مسألة التباين والترادف، وأنه قد يكون من باب اختلاف التنوع، فذكر أن الله عز وجل قد وصف القرآن الكريم بأنه محكم، ووصفه بأنه متشابه، وقال عنه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فوصف القرآن تارةً بالإحكام العام، وتارة بالتشابه العام، وتارة بأن منه ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، فيقول المصنف: إن هذا الإحكام العام لا ينافي الإحكام الخاص، كما أن الإحكام العام لا ينافي التشابه الخاص ولا العام، ويجعل لهذا معنىً مناسباً، ولهذا معنىً مناسباً، كما سيأتي في عرض كلامه.

معنى الإحكام العام

معنى الإحكام العام قال المصنف رحمه الله: [قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر:23] فأخبر أنه كله متشابه. والحكم: هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة: فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه، وأحكمته، إذا أخذت على يده، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمةً، وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره]. فالإحكام العام بمعنى الإتقان، أي: أن ما فيه من الخبر فهو صادق، وما فيه من الشرع والأمر فهو رشد وعدل ونفع للناس، وما إلى ذلك، فإذا قيل: إن القرآن محكم, أي: محكم من جهة صدق خبره، ومن جهة صدق أمره ورشده. قال المصنف رحمه الله: [والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] وجعله مفتياً في قوله: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:127] أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هادياً ومبشراً في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء:9]]. وهذا كله معنى الإحكام العام الذي هو: الإتقان، والضبط، والصحة، والصدق، ونحو ذلك من الكلمات.

معنى التشابه العام

معنى التشابه العام قال المصنف رحمه الله: [وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وهو الاختلاف المذكور في قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9]]. وهذا بين، فالتشابه العام: هو ضد الاختلاف المنفي عنه، فقولنا: إن القرآن كله متشابه، أي: أنه لا اختلاف فيه، والله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أي: تعارضاً وتضاداً وما إلى ذلك، ولك أن تقول: إذا قيل: إن القرآن متشابه، فهو بمعنى قولك: إن القرآن محكم. فالتشابه العام هو بمعنى الإحكام العام، والتشابه العام بمعنى أنه ليس مختلفاً، وهو الذي نفي في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أي: تضاداً، أو عدم صدق، أو تناقضاً وعدم رشد في الأمر، أو ما إلى ذلك. قال رحمه الله: [فالتشابه هنا: هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر؛ بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر؛ بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ]. فإن قيل: إذا كان معنى التشابه العام بمعنى الإحكام العام، فلماذا يوصف القرآن بهذا وهذا؟ قيل: وإن كان المعنى في الجملة واحداً، إلا أن كلمة (الإحكام) تفيد الاختصاص بوجه من تحقيق كمال هذا القرآن، كما أن كلمة (التشابه) تفيد بوجه آخر من الاختصاص، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه إذا سمي بمحمد، أو سمي بالحاشر، أو سمي بنبي الرحمة؛ فإن هذا الاسم يدل على معنى لا يكون الثاني منافياً له، بل يكون مشاركاً له، لكن يكون أحد الأسماء أدل على وجه من الاختصاص، كما لو قيل في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] الصراط المستقيم هو القرآن, وقال آخر: الصراط المستقيم هو الإسلام، وقال آخر: الصراط المستقيم هو الاستقامة على تقوى الله، وقال آخر: الصراط المستقيم هو اتباع سنة النبي, فكل هذه التفسيرات صحيحة، لكن الذكر لواحد منها -وإن دل على المعنى الآخر بالجملة- إلا أنه يعطي اختصاصاً لوجه من الإحكام. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك؛ بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته؛ بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارةً وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرق بين المتماثلين، فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة]. الاختلاف الذي نفي في القرآن في قوله تعالى: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أي: لوجدوا فيه تضاداً كثيراً، وعدم اطراد في الحكم والتشريع، أو في باب الخبر، لكن لما كان القرآن من عند الله؛ تحقق لزوماً أن يكون مطرداً في خبره، ومطرداً في تشريعه.

التشابه العام لا ينافي الإحكام العام

التشابه العام لا ينافي الإحكام العام قال المصنف رحمه الله: [وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويناسب بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً؛ كان الكلام متشابهاً، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً. فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام؛ بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً]. قوله: (فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام)، ولك أن تقول: بل هو بمعناه الكلي، وإن كان التشابه يختص بوجه من التحقيق، كما أن الإحكام يختص بوجه من التحقيق، والقرآن وصف بهذا وهذا، ولهذا فقد استعمل هذا وهذا في كلام الله سبحانه وتعالى.

معنى التشابه الخاص وبيان أنه أمر نسبي

معنى التشابه الخاص وبيان أنه أمر نسبي قال المصنف رحمه الله: [بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص: هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك، والإحكام: هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما. ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه]. يبين المصنف رحمه الله أنه قد يرد على بعض الأذهان بعض المقامات التي لا تكون صحيحة من جهة العقل أو من جهة الشرع، وذلك أن الإحكام صفة مدح، والتشابه الذي ذكر في القرآن ليس منافياً لكمال القرآن، وهذا يعتبر من الضرورات العقلية الشرعية، فإنه إذا وصف به كتاب الله أو بعض آياته فيمتنع أن يكون -سواء كان تشابهاً عاماً أو تشابهاً خاصاً- مادةً من النقص؛ لأن القرآن منزه عن هذا، فلما وصف القرآن بأن منه آيات محكمات ومنه ما هو متشابه؛ علم أن هذا وهذا من الكمال. وعليه: فالتشابه الخاص -كما أشار المصنف، وهذه قاعدة عقلية في كل الأشياء المختصة، بخلاف الأشياء العامة المطردة- هو تشابه نسبي، وكل ما كان خاصاً فإنه يكون نسبياً، وهذا من معنى خصوصه، فإن التشابه هنا إذا ما فسر بقدر من الحقائق المفارقة التي اختص الله بعلمها؛ كان هذا أيضاً من التشابه الخاص، وإن كان عاماً في الخلق، إلا أنه لا يستلزم الجهل بالمعاني، ولهذا فإن تشابهت حقائقها، بمعنى: أن الله اختص بعلمها، فإن معانيها تكون معلومةً. وقد يكون التشابه راجعاً إلى حال الناظرين في آيات القرآن، ولا يلزم أن تكون الآية في نفس الأمر كذلك، ومن هنا قال بعض العلماء -كالمصنف-: إن من وقف من السلف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] كان وقفه صحيحاً، ومن وقف منهم على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] كان وقفه صحيحاً، ولكن هذا يفسر بمقام وهذا يفسر بمقام آخر. إذاً: التشابه الخاص: هو قدر من الأمر النسبي، وهذا من معنى خصوصه، وقد يعرض لبعض الناظرين في آيات القرآن، وقد يفسر هذا التشابه بوجه من الحقائق الغيبية المفارقة. وعليه: فإذا قيل: هل يوجد في القرآن آية متشابهة على هذا المعنى الخاص من التشابه باطراد، أي: أنها متشابهة في معناها وحقيقتها عند سائر المخاطبين بها؟ فالجواب: لا؛ لأنه لو اقتضى التشابه الخاص حكماً عاماً مطرداً؛ لكان هذا نقصاً، ولهذا فلا يوجد في القرآن آية متشابهة من كل وجه تشابهاً مطرداً عند سائر المخاطبين بالقرآن؛ لأنه إما أن يكون التشابه على معنى الحقائق المفارقة التي هي من غيب الله، وهذا ليس تشابهاً من كل وجه؛ بل هو تشابه في الماهية والكيفية، أي: أنها كيفية مجهولة، لكن المعنى الذي وردت الآية به -سواء كان في صفات الله، أو في مسائل المعاد ونحوها- يكون معلوماً. فإذا اطرد التشابه من جهة المعنى امتنع أن يكون عاماً؛ بل يكون في وجه من مدلول السياق دون الوجه الآخر؛ لأنه لو كان مدلول السياق في سائر موارده مشتبهاً، أي: ليس بيناً وليس محكماً مفصلاً؛ لكان هذا النوع من سياق القرآن مما يقرأ ولا يفهم، وهذا مما ينفى عن القرآن. وأما إذا قيل: إن بعض الآيات قد يكون شأنها كذلك، أي: أن بعض القارئين لها، أو الناظرين فيها، أو السامعين لها لا يفهمون معناها؛ فإن هذا موجود، لكنه لا يمكن أن يكون حالاً عامة لسائر المخاطبين والسامعين للقرآن؛ بل هو حال عارضة لبعضهم، وهذا العروض ليس سببه السياق, وإنما سببه حال السامع. وعليه: فالتشابه الخاص هو نوع من عدم العلم التام المطرد، أي: أن الناظر قد يعرض له قدر من الوقف، فإذا كان الوقف في المعنى من كل وجه؛ امتنع هذا أن يكون حكماً مطرداً، وامتنع أن يكون سياقاً من القرآن كذلك، وإن عرض لبعض الناظرين فهذا من جهتهم. وأما إذا كان من وجه خاص كالحقائق المفارقة، فإن هذا يكون حكماً عاماً للمخاطبين، ولكن السياق يكون سياقاً محكماً من وجه آخر، ولذلك فلو قال قائل مثلاً: إن الآيات التي ذكرت ما يتعلق باليوم الآخر محكمة بمعنى، وفسر الإحكام هنا بمعنى أنها معلومة المعاني، وقال آخر: إن هذا من المتشابه في القرآن، وقصد ما يتعلق بالحقائق في نفس الأمر، فيقال: إن كلام المعنيين صحيح. وإن كان قد ينازع في تسمية هذه الآيات بالمتشابه؛ فإنه وإن أخبر الله تعالى أن من كتابه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، إلا أن إطلاق التسمية بالتشابه الخاص على جملة من آيات القرآن غلط بين .. نعم، من القرآن ما هو متشابه، ولكن فرق بين الإطلاق، وبين أن يضاف التشابه الخاص إلى سياق خاص على وجه من التفسير المناسب. وعليه: فمن قال: إن ما يتعلق بكيفية الصفات هو من المتشابه الذي اختص الله بعلمه والذي قال الله فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] كان كلامه هذا كلاماً صحيحاً، بخلاف من قال: إن آيات الصفات هي المتشابهات وغيرها هي المحكمات، فإن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً مناسباً ولا إطلاقاً سائغاً، وقد أطلقه جمهور المتكلمين، وكثير من الفقهاء، وأهل التفسير، ونسبوه إلى طائفة من المتقدمين، وهذا الإطلاق ليس حكمياً ولا مناسباً؛ فإن آيات الصفات وإن كانت متشابهة من جهة الحقائق، فإنها من جهة المعاني محكمة مفصلة.

من أسباب الاختلاف: وجود التشابه والاشتراك

من أسباب الاختلاف: وجود التشابه والاشتراك قال المصنف رحمه الله: [ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل. والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد]. هذا استطراد من المصنف لتقرير وجه من أوجه الفهم والإدراك للحقائق، فإن كثيراً من موارد الاختلاف؛ بل عامة موارد الاختلاف بين المختلفين، تجد أن موجب هذا الاختلاف في الجملة يقع فيه قدر من الإجمال، أو قدر من الاشتراك، فأكثر أسباب الخلاف بين بني آدم هو أنهم يختلفون لأن ثمة وجهاً من أوجه الاشتراك، أو وجهاً من أوجه التشابه، وما إلى ذلك، ولذلك قالت الفلاسفة: "أكثر ما يخطئ العقلاء من جهة المشترك"، ويقول الإمام أحمد: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"، فإن القياس يتنوع على غير وجه، وكذلك التأويل هو قدر من الاشتباه في مورد الدليل أو في مورد الخطاب. وعليه: فإنه لا بد من تحقيق المناطات إذا ما تكلم في حقائق معينة من الحقائق العلمية؛ سواء كان هذا في باب أصول الدين، أو في باب الفروع، أو في غيرها من مسائل العلم؛ لأن كثيراً من الاختلاف ربما كان من باب التنازع دون تحرير لمحل النزاع، فلابد أن يكون هناك تحقيق وتنقيح للمناط، وهو ما قد يجمل بكلمة التحرير والتعيين لمحل النزاع ومورده. وهذا مما يلخص كثيراً من أوجه النظر في الاختلاف، بخلاف من ينظر إلى أسفل المسألة المعينة، ويتكلم فيما احتف بها من القرائن، دون أن ينظر في أصل هذه المسألة، أو وجه ورودها في الشريعة، أو وجه ورود الدليل بها، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا في الغالب يقع عنده شيء من الاضطراب وعدم التحقيق.

عامة الضلال من جهة التشابه

عامة الضلال من جهة التشابه قال المصنف رحمه الله: [وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويختلفان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه؛ ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه -والقياس الفاسد لا ينضبط- كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة]. قوله: (والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة): أي: عند المتكلم بها، فإن التشابه لم يدخل عليها من جهة النصوص، وإنما لأنه بنى أو صدق بأصل استوجب هذا التصديق عنده أن يجعل هذه النصوص من المتشابهة، فإذا قيل مثلاً: لم حكم أئمة المعتزلة أو بعض متكلمة الصفاتية بأن آيات الصفات هي المتشابه في القرآن؟ قيل: هذا لم يحكموا به ابتداءً، وإنما عندما استعملوا الدليل العقلي -الدليل الكلامي- الذي قالوا: إنه معارض للنقل, فلما صدقوا بهذه المقدمة الكلامية؛ لزم من ذلك أن يجعلوا آيات الصفات من المتشابه، وأن يطلقوا هذا القول.

ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها لا بدفع الشبهات عنها

ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها لا بدفع الشبهات عنها قال المصنف رحمه الله: [وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق]. وذلك أن ثبوت الحقائق يعرف بصدق دليلها، وليس بدفع الشبهة المعينة عنها، وهذه قاعدة في التحصيل، وهي التي جاء ذكرها في القرآن وفي هدي الصحابة رضي الله عنهم: أن الحقائق تصدق باعتبار دليل الحق الموجب لتصديقها، وليس بالضرورة أن التصديق بالحقائق يكون طريقه مستلزماً دفع التسلسل من الشبهات. ولذلك فإن أهل العلم والبصراء يعرفون الحق بدليله، ويدفعون الشبه التي تعرض له، لكن العامة من المسلمين قد استقر عندهم كثير من الحق، أو استقر عندهم الحق في الجملة، مع أنه قد لا تقوى عقولهم على الجواب عن كل ما يعارض به المعارض من الشبهات، فلو أُورد عليهم إيراد -مثلاً- في بعض المسائل، فإن عدم العلم بالجواب عن هذه الشبهة المعينة لا يحصل علماً أن هذا الحق الذي كان عليه تبين أنه ليس كذلك؛ بل يقال: إن الأصل أن الحق يعرف بدليله، وهذا هو الذي يناسب العامة ويناسب الخاصة، وإن كان الخاصة -أي: أهل العلم- لابد لهم مع هذا من دفع الشبهات. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الدعوة وما إلى ذلك جعلها في نفر من أهل الإيمان فقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة:122] فما يتعلق بمسألة التصحيح هذا لا تستطيعه العامة؛ وعليه: فالعامة يعرفون الحق بدليله، وليس بفساد الشبه العارضة عليه، إلا إذا كان هناك شبهة شاعت بين العامة، فهنا يكون من الحكمة الشرعية أن يحدث العامة بدفعها، كما اعترض بعض الكفار على إحياء الأموات، فجاء جوابه في القرآن في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]. إذاً: المنهج الشرعي أن العامة لا يحدثون بالشبهات ثم يقصد إلى الجواب عنها إلا إذا علم أن هذه الشبهة قد شاعت بينهم، وهذا يختلف باختلاف البيئات، واختلاف الأزمنة والأمكنة، وإلا فإن الأصل: أن العامة يحدثون بدلائل الحق الشرعية والعقلية القاضية بصدق الحق، وأما أنه يتسلسل معهم في مسائل الشبه ودفعها، فهذا ليس من الحكمة، وعقولهم لا تقوى على الاستتباع، وربما كان المقرر بمسألة الشبهة ودفعها ضعيفاً في دفعها قوياً في تقريرها .. وما إلى ذلك، وهذا مما ينبغي أن يلاحظ في مسائل تعليم العقيدة. وقد سبق أن أشير إلى أن ثمة فرقاً بين تقرير العقيدة وبين الرد على المخالفين، ولا ينبغي أن يخلط هذا المقام بهذا المقام، فإن مقام تقرير العقيدة له وجه: وهو تعليم الحق بدليله، ودفع الشبه الشائعة، أما الاستفصال في مقام الرد فإن هذا يكون وجهاً آخر من أوجه التعليم، وهو ليس من شأن العامة.

أصل مقالة وحدة الوجود والقائلين بها

أصل مقالة وحدة الوجود والقائلين بها قال المصنف رحمه الله: [فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات حتى ظنوا وجودها وجوده؛ فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه؛ وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع]. يشير المصنف إلى طريقة أهل وحدة الوجود من غلاة المتفلسفة المتصوفة، ومما ينبغي أن ينبه إليه هنا: أن من قال بهذا المذهب -وهو ما يسمى بمذهب وحدة الوجود- هم قوم من الباطنية المتفلسفة، الذين نسجوا على طريقة الصوفية، وأما أن قوماً من العباد والسالكين والصالحين الذين ينظرون في كلام الله ورسوله، وينظرون في مقامات الورع ومقامات الديانة والنسك، تحصلت عندهم هذه النتائج، فهذا ليس كذلك؛ لأن هذا المقام لم يصل إليه إلا قوم استعملوا المقدمات الفلسفية، ولهذا فإن كل من تكلم بهذا من أئمة هؤلاء يكون معروفاً بمقام من العلم بالفلسفة. لكن إنما يشتبه ذلك على بعض الناس لأنه إذا ذكرت الفلسفة تبادر إلى عقله أن الفلسفة هي العلم بالعقليات، أو أنها نظر في العقليات، وهذا ليس كذلك؛ فإن الفلسفة وجهان: إما أن تكون فلسفةً عقلية، وهذه هي التي نظر فيها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين؛ كـ ابن رشد وأمثاله، وإما أن تكون فلسفةً نفسية. وقد درج نظار بني آدم الذين لم يتلقوا الرسالات السماوية ويصدقوا بها -وهم من يسمون بالفلاسفة وأتباع الفلاسفة- درجوا على أن العلم بالحقائق يكون بأحد طريقين: إما بالطريق العقلي، وإما بالطريق النفسي. ولما جاء الإسلاميون -أي: من انتسب إلى القبلة وصحح الفلسفة، كـ ابن سينا وابن رشد وأمثال هؤلاء- فمنهم من استعمل الطريق العقلي لتحصيل الحقائق -أي: الفلسفة العقلية- ومنهم من استعمل الفلسفة العرفانية الإشراقية الغنوصية؛ كحال العفيف التلمساني وأمثاله، ومنهم من جمع بين الفلسفتين، فاستعمل هذا تارة وهذا تارة، وهذا على مقام وهذا على مقام، كـ ابن سينا ونحوه.

القائلون بأنه يلزم من الاشتراك في الاسم التشابه والتركيب

القائلون بأنه يلزم من الاشتراك في الاسم التشابه والتركيب قال المصنف رحمه الله: [وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود؛ لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات]. وهذا هو غاية التعطيل؛ لأنهم إذا قالوا: إنه من باب المشترك اللفظي؛ لزم أن يكون معنى الوجود المضاف إلى الله غير معلوم؛ وهذا من تعطيل وجوده سبحانه وتعالى. وهذا اللازم لا أحد يلتزم به، لكنهم يريدون أن يفروا من الإشكال دون أن يتبينوا أن ما فروا إليه هو شر مما فروا منه، وإلا فلا شك أن القول بالمشترك اللفظي شؤمه وإشكاله أكثر من القول بالتواطؤ، مع أن القول بالتواطؤ إذا ما حقق لم يلزم منه إشكال، وقولنا: (إذا ما حقق) أي: إذا ما فرق بين الاسم والمسمى من جهة، وفرق بين المسمى الذهني العام والمسمى العيني الخاص، فإذا ما حقق التواطؤ لم يوجب إشكالاً. قال المصنف رحمه الله: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود؛ لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة، مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه]. وهذا قد عرض لقوم من الفلاسفة الأولى؛ كالمثل الأفلاطونية التي كان أفلاطون صاحب الأكاديمية يستعملها، وكذلك جاء ما هو أكثر تقييداً من هذا المذهب الذي عليه أفلاطون عند أرسطو طاليس، فإن ثمة فرقاً بين مذهب أفلاطون وبين مذهب أرسطو، كما هو معروف في كلامهم. فيقول المصنف: إن مسألة الوجود -مع أنها من أوائل وأبسط المسائل العقلية- لما بالغ هؤلاء في اصطلاحها وتقسيمها وفلسفتها وتشقيقها؛ خرجوا بها عما يعلم بضرورة العقل فضلاً عن ضرورة الشرع، حتى زعم يعضهم أن الوجود واحد، وحتى زعم بعضهم أن ثمة حقائق مفارقة كلية، مع أنه لا يوجد في الخارج إلا المعينات، فقالوا -كـ أفلاطون وأمثاله-: لما كان هناك الوجود الكلي الذهني؛ لزم أن يكون هذا الوجود الكلي الذهني موجوداً في الخارج، فقال أفلاطون بالمثل المفارقة الكلية، وهي المثل الأفلاطونية، أي: الحقائق الكلية الذهنية، وقال: إنها موجودة في الخارج، وأن وجودها غير وجود المعينات، وربما سلسل بعضهم هذه الفلسفة، وأن وجود المعينات يرجع إلى وجود هذه الكليات .. إلى غير ذلك، فهذا كله من باب الاشتباه.

المنهج الوسط في بيان الحقائق الشرعية

المنهج الوسط في بيان الحقائق الشرعية وهذا يبين معنى من الفقه في الحقائق؛ سواء كانت حقائق شرعية أو غير شرعية, وهو أن التشقيق الزائد للأشياء ليس هدياً من جهة العقل، ولا هدياً من جهة الشرائع، فإن بسائط الأشياء لا ينبغي أن يبالغ في تشقيقها وتقريرها، وهذه الإشارة لها تفصيل يسع، وذلك مثلما قيل في مسألة التفسير، فعندما يقال: تفسير القرآن. لا يفهم من هذا أن كل آية من القرآن لابد أن يستعمل لإبانة معناها حرف آخر؛ بل يقال: إن كثيراً مما في القرآن، أو أكثر ما في القرآن، بالنسبة لأهل العلم، وأهل المعرفة بالشريعة، وحتى الكلمات النبوية هي في ذاتها كلمات بينة، وكلمات مفسرة من نفسها. وعليه: فلا يلزم أن كل سياق يحتاج إلى تفسير، وأن كل حقيقة تحتاج إلى تقسيم. وهذا التشقيق والتقرير في الغالب هو نوع تميل إليه كثير من النفوس، ولا سيما النفوس التي تكون متربصة بمسائل العلم -إن صح التعبير- أي: داخلة في مسائل العلم دون أن تكون محصلة لفقهه على الوجه الصحيح، فتجد أنهم يعنون بهذه التقسيمات، وهذه التشقيقات والاصطلاحات والتفريعات، وفي الغالب أن مثل هذه الطرق التي كثرت في كلام بعض المتأخرين لا تحصل فقهاً كثيراً. فتجد بعضهم مثلاً يقول: إن هذا الشيء ينقسم إلى ثلاثة أوجه، ثم يذكرها، ويظن أن الإحاطة بمثل هذه الأوجه الثلاثة في مسألة معينة هو من التحقيق العلمي، مع أن هذا الأمر الذي يدور حوله، وربما علمه وتعلمه، وكرره، وعده من نفائس العلم وما إلى ذلك، يعد في الأصل من البدهيات، ولو نظرنا من هو الذي تكلم بهذا التقسيم من العلماء المتقدمين لوجدنا أن فلاناً من أهل العلم ربما ذكره على نوع من الذكر العادي، ولم يقصد به الإبراز والإثارة المطلقة لهذا الكلام. فلابد من العناية بالفقه على الطريقة التي جاء ذكرها في القرآن في تقرير الشريعة، في أصولها أو فروعها، أو جاء في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقة مخاطبته لأصحابه، وفي طريقة تعليمه، وفي طريقة قضائه، وفي طريقة أمره ونهيه، هذه الطريقة العلمية القرآنية النبوية التي درج عليها الصحابة هي الطريقة الفاضلة. وعندما تأخر عصر الأمة، وضعف اللسان، ودخلت الرواية بعض التردد عند بعض الرواة لها، وما إلى ذلك؛ طرأت هذه الإشكالات بلا شك، لكن لا ينبغي أن يبالغ في ترسيم هذه الإشكالات أكثر من اللازم، فإن اللسان العربي لم يفسد، والناس لا يزالون عرباً، لكن ذهبت فصاحتهم، ولذلك فإن العربي الذي ولد عربياً ونشأ عربياً، إذا قرأ القرآن فإنه يفهم جمهور ما في خطاب القرآن، فيفهم معنى (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ويفهم معنى أن الله يأمر بالعدل، ويفهم قصة موسى من أولها إلى آخرها، ويفهم معنى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:143] ويفهم (وكلمه ربه)، فلا يزال اللسان العربي قائماً. لكن هناك بعض الحقائق العلمية الخاصة التي تحتاج إلى إنسان فصيح. فلا ينبغي أن يبالغ في تكريس علوم الآلة تكريساً استطرادياً مطولاً لا يحصل في النتيجة فقهاً عادلاً، ولذلك فإن كل من استطاع أن يختصر المسافة بين فهم المخاطبين وبين النص بطريقة علمية عادلة وصادقة، بحيث يكون فهمهم للنص أكثر بياناً وأكثر وضوحاً، فهذا نوع من الفقه ونوع من التجديد الشرعي، بخلاف من يضع سلسلة متسلسلة معقدة للوصول إلى الحقيقة التي نطق بها النص، مع أن الإشكال والتعقيد إنما هو في الفهم وليس في النص نفسه، وهو أيضاً في إدراك هذه السلسلة المطولة. ولعل من الأمثلة على ذلك: حال المتكلمين، فإنهم إذا أرادوا أن يقرروا دليل الربوبية -أن الرب واحد- قالوا: وهو المذكور في قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91] الآية، ثم يقولون: وهذا دليل التمانع، ويذكرون معناه، وأنه مبني على مقدمتين: ثم يأتون بسلسلة عقلية في تقرير دليل التمانع، وفي الأخير يقولون: دليل التمانع هو المذكور في قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91]. ومن المعلوم أن فهم العامة لدليل التمانع على الصورة الكلامية يكون فهماً صعباً، وليس هذا فحسب؛ بل يقولون بعد ذلك: ولكن هذا الدليل عليه سؤالات، فإنه مبني على تعارض الإرادتين، فلو فرض جدلاً أن ثمة اتفاقاً في الإرادتين ثم يقولون: وهذا يجاب عنه بكذا ... إلخ، فتجد أنهم -إن صح التعبير بالعبارة الدارجة- قد عقدوا القضية، مع أنه من يقرأ من المسلمين -وإن لم يكن عربياً، ويترجم له المعنى- قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91] يفهم أن هذا تقرير بين واضح لمسألة الربوبية، دون أن يحتاج إلى ذلك التعقيد؛ ولذلك حينما سمع جبير بن مطعم قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:35 - 36]-كما في البخاري - تحركت نفسه إلى التصديق عندما سمع هذا الكلام. فالمقصود: أن تقريب الفهم إلى النصوص منهج حسن، بشرط أن يكون على وجه من العدل، لا أن تسقط العلوم التي اشتغل بها العلماء، فإن بعض الناس يريد أن يفهم النصوص والحقائق دون أن يرجع للقواعد وأصول الفقه وما إلى ذلك، فإن هذا ليس منهجاً عدلاً، وليس هو المقصود، لكن المقصود أيضاً ألا يبالغ في هذه القضايا.

رد المتشابه إلى المحكم

رد المتشابه إلى المحكم قال المصنف رحمه الله: [ومن هداه الله سبحانه فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق، الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق، وهذا كما أن لفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم به الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنىً واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات، وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم]. وهذا كله محكم، ولا ينبغي أن يكون إشكالاً؛ لأن الإشكال ينشأ عن فرض غلط، كما إذا قيل: إن لفظ (إنا) هي للجمع، فكيف عبر بها في حق المفرد؟ مع أنه لا أحد يفهم من هذا السياق أن ثمة تعدداً في الذات، ولذلك فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يستشكلوا شيئاً من هذه الإشكالات، ولم يفرضوا على أنفسهم ما لم يقتضه المقام. وقد يقول قائل: إنه لفصاحة لسانهم. وأقول: إنه لفصاحة لسانهم ولسلامة نفوسهم، واستعدادهم العقلي والذهني، وصفاء مداركهم وفطرهم التي فطرهم الله عليها. فمثلاً: حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هل استشكل صحابي واحد هذا الكلام وقال: يا رسول الله! كيف تقول: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؟! وحينما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل جلسوا فيما بينهم واستشكلوا هذا الكلام؟ لا، لم يستشكلوا شيئاً منه؛ بل فهموه فهماً تلقائياً. ولو رجعنا إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبحثنا فيها؛ لم نجد ولا مرةً واحدة أن الصحابة استشكلوا إشكالاً عاماً أي: مطرداً بين جميع الصحابة؛ بل في الغالب أنه لا أحد منهم ينطق بشيء. نعم. هناك أحاديث استشكل بعضهم فيها فسأل عن تفصيل بعض ما ورد فيها، منها: حديث: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو من النار، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله! ففيم العمل؟ ... إلخ). لكن هل الذين قالوا ذلك هم كل الصحابة؟ هل قال ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي؟ لا. ولا شك أن الذي يقول هذا ليس بدرجة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي. إذاً: ليس السبب فقط هو فصاحة اللسان عندهم .. هذا شيء له أثره، لكن هناك تخلص من كثير من هذه الافتراضات والإشكالات التي تفرض على النص.

لا أحد يحيط بالله سبحانه وتعالى علما

لا أحد يحيط بالله سبحانه وتعالى علماً قال المصنف رحمه الله: [وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمه إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء، فقد علم أنه هو وأعوانه -مثل كاتبه، وحاجبه، وخادمه، ونحو ذلك- أمروا به، وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها، من صفاته، وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة]. قوله: (بخلاف الملك من البشر ...) إلخ، وهذا بخلاف الباري سبحانه وتعالى، فإنه لا يحاط به علماً؛ ولهذا كانت حكمته سبحانه وتعالى في أفعاله وفي شرعه وأمره لعباده ونحو ذلك غير معلومة على الإحاطة، والعباد قد يعلمون ما هو من مقام هذه الحكمة العالية، لكنهم لا يمكن أن يقع لهم إحاطة بهذه الحكمة وتفصيلها.

التشابه يقع في الألفاظ المتواطئة والمشتركة

التشابه يقع في الألفاظ المتواطئة والمشتركة قال المصنف رحمه الله: [وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: (فيها أنهار من ماء) , فهنا قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو -مع ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله]. التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة بمعنى: أنها تكون متشابهةً من وجه محكمةً من وجه، فإذا قيل: إن الأسماء المذكورة في صفات الله قد جاء ذكرها في صفات المخلوقين كالرضا والمحبة ونحوها، قيل: هي متواطئة من وجه، وهو إذا ما قصد بذلك المعنى الذهني الكلي، ومتشابهة من وجه آخر، وهو إذا ما تكلم بالكيفية التي اختص الله بها في صفاته وأفعاله. وقول المصنف: (وبهذا يتبين أن التشابه ...) إلخ، يبين أن التشابه يقع في المقامين: في الألفاظ المتواطئة، والألفاظ المشتركة، وإنما كان كذلك لأنه التشابه الخاص، ومعلوم أن التشابه الخاص -كما سبق- أمر نسبي إضافي. قال رحمه الله: [وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو]. وهي الكيفيات، أي: كيفيات الأسماء والصفات.

ذم الأئمة للتأويل الفاسد

ذم الأئمة للتأويل الفاسد قال المصنف رحمه الله: [ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنفه في "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله"، وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق التأويل، كما تقدم من أن لفظ "التأويل" يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل: الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع]. ولذلك ذكر المصنف -أعني شيخ الإسلام - في مواضع أن الإمام أحمد لم يذم التأويل مطلقاً، وإنما ذم تأويل القرآن على غير تأويله؛ لأن المتقدمين ينطقون بالتأويل على معنى التفسير.

نسبة كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد

نسبة كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد وكتاب (الرد على الزنادقة والجهمية) هو رسالة محدودة الصفحات، وهي مطبوعة ومشهورة، وهل هي للإمام أحمد أو ليست له؟ هناك قولان للأصحاب وغيرهم: فمنهم من يصحح هذا الرسالة ويقوي أنها للإمام أحمد، ومن أخص هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه يعتمد أن هذه الرسالة للإمام أحمد، وينقل عنها في كتبه كثيراً، ويقرر عليها تعليقات، ويصلها بكلام له، وينقل عن الإمام أحمد، ويبني نقله على هذه الرسالة. ومن أهل العلم -كما ذكر الذهبي رحمه الله- من لا يصحح أن هذه الرسالة للإمام أحمد. وسواء قيل: إنها لـ أحمد أو ليست له، فإن ما عليه الإمام أحمد من القول في مسائل أصول الدين أمر شائع، سواء صحت هذه الرسالة أو لم تصح.

غلط من ينفي التأويل مطلقا

غلط من ينفي التأويل مطلقاً قال المصنف رحمه الله: [ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، ويحتجون بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل. وهذا تناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً. وجهة الغلط: أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك]. قوله: (بغير دليل يوجب ذلك): حتى وإن كانوا قد اشترطوا دليلاً للتأويل، فإنهم -أي: أهل التأويل الكلامي المخالف للسنة والجماعة- ينازعون في ثلاثة مقامات: أولاً: ينازعون في كون هذه النصوص محتملة لمعنيين متنافيين: أحدهما يسمى بالحقيقة وهو الظاهر، والآخر يسمى بالمجاز، فإن هذا من باب تحميل القرآن للمعاني المتناقضة المتنافية، وهذا يصان القرآن عنه. ثانياً: أنه لو فرض أن ثمة احتمالاً في المعنى، فإنهم قد اشترطوا أن التأويل لابد أن يكون بدليل، وهذا الدليل الذي بنوا عليه التأويل هو الدليل الكلامي، وليس هو دليلاً شرعياً ولا عقلياً يعرف بمدارك العقل الأولى، وإنما هو دليل كلامي، وهو ما سموه: دليل الأعراض، أو دليل التركيب، أو ما إلى ذلك. إذاً: فهم قد صرفوا اللفظ عن ظاهره -كما يقولون- وحجتهم في هذا الصرف هو الدليل الكلامي الذي زعموه معارضاً للقرآن، فينازعون في صحة الدليل الصارف. ثالثاً: أنه لو فرض أن هذا الدليل صحيح، أي: أن الدليل الكلامي يمكن أن يكون حجةً في هذا التأويل، فإن هذا الدليل غاية ما يقضي به الجواز وليس الوجوب، بمعنى: أنه إذا صح هذا الدليل الصارف، لم يحصِّل إلا أن المعنى يفسر بهذا التفسير، ولو صح صرفه للّفظ عن ظاهره فإنه يمنع ورود المعنى الأول الذي تركوه عن اللفظ، وهذا يجعل الإشكال باقياً، ووجه بقاء الإشكال: أنه يلزم منه أن القرآن تضمن جملةً من المعاني التي لا تليق بالله، وحتى لو قالوا: إنها ليست مرادة، فيقال: إن القول بأنها مدلول من مدلولات القرآن، ثم يقال: إنها ليست مرادة، فإن هذا من باب التناقض؛ لأن ما كان مما يدل عليه القرآن؛ لزم أن يكون مراداً. وأما إذا لم يكن مراداً فإنه يمتنع أن يكون من مدلول القرآن، وإذا كان كذلك صار هذا التقسيم لا وجه له. قال المصنف رحمه الله: [ويدعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً كان الثابت مثله. وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء]. من المعلوم أنه لم تقع بدعة أو لم يقع غلط في مسائل الأصول إلا ووقع ما يناقضه؛ ولهذا قيل: إن طريقة الأئمة أنهم وسط بين الطوائف. فلما وجد الغلاة من أهل التأويل؛ وجد الغلاة من أهل دفع التأويل في سائر موارده.

تناقض من ينفون التأويل وتعطيلهم للنصوص

تناقض من ينفون التأويل وتعطيلهم للنصوص قال المصنف رحمه الله: [وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه، لإمكان أن يكون له معنىً صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالةً على خلاف الظاهر، فلا يكون تأويلاً، ولا يجوز نفي دلالته على معانٍ لا نعرفها على هذا التقدير، فإن تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد، فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى؛ لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنىً من المعاني، ولا يفهم منه معنىً أصلاً، لم يكن مشعراً بما أريد به، فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أولى. فلا يجوز أن يقال: إن هذه اللفظ متأول، بمعنى: أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا، فلابد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره]. لكنه إذا قيل: إن هذا السياق ليس معيناً للمعنى المراد به؛ لزم من باب أولى ألا يكون معيناً للمعنى الذي ليس مراداً به، فإن الأصل هو عدم دخول المعنى الذي ليس مراداً في النص؛ لأن النصوص إنما جاءت بذكر حقائق معينة، وليس بذكر امتياز عن جملة من المعاني المتسلسلة. ولذلك إذا قيل: هل يراد بسياق من السياقات كذا وكذا؟ فقيل: لا؛ قيل: العلم بعدم هذه الإرادة فرع عن العلم بإرادة الأول، بمعنى: أنه إنما نفي الثاني لكونه منافياً للأول الذي يفسر الكلام به، فإذا ما قيل: إن الكلام لا يفسر بالأول -وهو المعنى الموجب، المعنى الإثباتي- امتنع أن يسلسل النفي فيقال: هذا ليس مراداً، بمعنى: أنه إنما يعرف أن هذا المعنى الثاني والثالث والرابع -وهلم جرا- ليست مرادةً في هذا النص لأنها تنافي معناه اللائق به. فإذا زعم زاعم وقال: إن المعنى المراد ليس معلوماً، فهل يمكنه عقلاً أن يقول: إن المعاني التي ليست مرادةً تكون معلومةً؟ الجواب: لا، فإذا جهل المراد لزم أن يجهل ما ليس مراداً؛ لأن ما ليس مراداً إنما عرف كونه ليس مراداً بالعلم بالأول، فلما امتنع العلم بالأول امتنع العلم بالثاني، فيكون السياق ليس معلوماً من كل وجه، وهذا غاية التعطيل للنصوص؛ ولذلك سبق أن أشرت إلى أن مسألة التفويض في المعاني مسألة ممتنعة من جهة العقل.

أسباب الاضطراب في فهم أصول الدين

أسباب الاضطراب في فهم أصول الدين قال المصنف رحمه الله: [لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين، وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنىً في سياق واحد من غير بيان، كان تلبيساً، وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي: تجري على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه؛ كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً؛ لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم منه معنىً من المعاني. وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب]. ولذلك فإن هذا الاضطراب في فهم بعض مسائل أصول الديانة لابد أن يكون له أحد أسباب ثلاثة: فإما أن يكون صاحب هذا الاضطراب قد نقصت إرادته بتحصيل الفقه، وإما أن يكون قد نقص اجتهاده، وإما أن يكون قد استعمل وجهاً ليس مشروعاً في تحصيل الحق. ولذلك فإنه من المعلوم أنه إذا رجعنا إلى البسائط الأولى من الفطرة ومدارك العقل، ومقاصد الشريعة الأولى، فإن الإسلام بوجه عام يجب أن يكون ديناً واضحاً بيناً؛ لأن الإسلام ليس هو رسالة للعلماء أو للمثقفين -إن صح التعبير- أو للأذكياء، أو للبصراء، أو للمكاشفين ونحو ذلك فحسب؛ بل هو رسالة لسائر الناس. فيجب أن يكون الإسلام رسالة بينة في أصوله وفي فروعه، أما أصوله فهي واضحة منضبطة، وقد اضطرب قوم من أهل القبلة في مسائل الأصول لأحد هذه الأسباب الثلاثة: السبب الأول: أن يغلب عليهم التعصب لبعض الطوائف والأعيان، فلما غلب عليهم التعصب عَميت نفوسهم وعقولهم عن تحصيل الحق، ومن غلب عليه التعصب لأحد فلابد أن يكون تعصبه هذا منقصاً لإبصاره الحق؛ ولذلك فلم يشرع التعصب بمعناه اللغوي -الذي هو التمسك تمسكاً مطلقاً- لم يشرع هذا التمسك تمسكاً مطلقاً إلا لصاحب الحق المحض وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو الذي لا يؤخذ من قوله ويرد؛ بل يؤخذ سائر ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن التعصب له لا يمكن أن يعمي عن الحق، أو عن شيء من الحق؛ لأنه لا يقول إلا حقاً، بخلاف من تعصب لمعين، حتى ولو كان عالماً فقيهاً، فضلاً عن أن يكون مبتدئاً؛ فهذا يصيبه كثير من الاضطراب. إذاً: من أهم مقاصد طالب العلم: أن ينفك عن التعصب، ولكن أقول: ينفك عن التعصب بفقه، وليس بهوج، فيذهب يتعصب لنفسه، أو ينفك عن التعصب لأحد من الأكابر فيتعصب للأصاغر، فإن هذا قد يعرض أحياناً. السبب الثاني: عدم الاجتهاد في تحصيل الحق. السبب الثالث: الأخذ بوجه غير مشروع في تحصيل الحق، والوجه المشروع هو أن يكون تحصيل الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. إذاً: الأصل أن دين الإسلام بين في أصوله وفروعه، أما أصوله -كما أسلفت- فإنها بينة، وأما فروعه فحتى لو اختلف العلماء فيها، فإن هذا الخلاف في كثير من موارده -بل في أكثرها- هو نوع من السعة، وليس معنى ذلك: أن الناس يخيرون ويتذوقون ما يشاءون، ولكن القصد: أنه ليس من الإشكال وليس من الحرج.

شرح القواعد السبع من التدمرية [19]

شرح القواعد السبع من التدمرية [19] القاعدة السادسة في إثبات الصفات والرد على نفاتها: أنه لابد من بيان الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات في الصفات؛ وذلك لأن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه اعتماد غير صحيح؛ لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وقد بين شيخ الإسلام هذا الضابط بياناً تاماً، وشرحه الشيخ شرحاً وافياً.

القاعدة السادسة: بيان الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة والباطلة في النفي والإثبات

القاعدة السادسة: بيان الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة والباطلة في النفي والإثبات قال المصنف رحمه الله: [القاعدة السادسة: أن لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات؛ إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد؛ وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز]. هذه هي القاعدة السادسة، وفيها يبين المصنف أنه لكثرة هذه المصطلحات، ولكثرة استعمال المستعملين لبعض الجمل التي دخل بسببها قدر من الاشتراك، قال: لقائل أن يقول: فما هو الحد الفاصل في مسألة الإثبات ومسألة النفي؟ والقاعدة السادسة والسابعة هي خاتمة ختم بها المصنف هذه المسألة، وهي أشبه ما تكون بنوع من الطريقة التي قد يحتاجها بعض المناظرين، فهذه القاعدة هي حق محتاج في باب المناظرة في الجملة. ولو قال قائل: إن الإثبات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التشبيه، أو أن ما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه هو مشابهة المخلوقات، قيل: إن هذا الكلام كلام صحيح، وإن كان قد دخل هذا أو هذا شيء من الاشتراك عند بعض الطوائف. فهذا التقرير من المصنف هو تقرير تفصيلي يُحتاج إليه في مقام المناظرات في الجملة.

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه قال المصنف رحمه الله: [فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم؛ لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له. ومعلوم إن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة. ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنىً من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه، ومنازعه يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه]. فصار لفظ التشبيه لفظاً مشتركاً باستعمال المستعملين له، كالمعتزلة الذين يرون أن كل من قال بقيام الصفة بذات الله فإنه يلزم منه التشبيه، قال: فإن المنازع يقول: إن هذا ليس تشبيهاً .. وهلم جرا.

من شبه المعتزلة: أن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء

من شبه المعتزلة: أن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء قال المصنف رحمه الله: [وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرةً قديمةً، كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن القدم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله، فمن أثبت لله صفةً قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً، فيسمونه ممثلاً بهذا الاعتبار]. تكلم النظار في أخص وصف للإله، فجمهور المعتزلة يقولون: أخص وصف لله هو القدم, وجمهور متكلمة الصفاتية يقولون: أخص وصف لله هو القدرة على الفعل. ومعلوم أن الرب سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الفاعل والخالق لكل شيء، إلا أن ثمة مقاماً من مقامات التفصيل في القرآن المتضمنة لهذا وهذا، بمعنى: أن من أخص وصفه سبحانه وتعالى أنه رب العالمين، وهذه الكلمة التي ذكرها الله في كتابه عن نفسه -وهي أنه رب العالمين- هي متضمنة لفعله، ومتضمنة لكونه الأول الذي ليس قبله شيء، ومتضمنة لكونه الخالق وما سواه مخلوق، ومتضمنه لتدبيره وإرادته .. إلى غير ذلك، فهذه الجملة هي أجمع من هذه التعبيرات التي يعبر بها هؤلاء. فالمقصود: أنهم يجعلون من أثبت صفة قديمة مشبهاً؛ لأن القدم أخص وصف للإله عندهم، قالوا: فيلزم من ذلك تعدد القدماء. وهذه سفسطة في العقل؛ لأن فرض تعدد القدماء مبني على أن الصفة شيء مفارق منفك عن الموصوف، فإذا قالت المعتزلة: إن القول بقدم شيء من الصفات يستلزم تعدد القدماء، يقال لهم: هذا اللازم فرع عن كون الصفة شيء مفارق منفك عن موصوفها.

الجواب عن هذه الشبهة

الجواب عن هذه الشبهة قال المصنف رحمه الله: [ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك]. وهذا هو أكثر تحقيقاً، وإن كان ما تذكره المعتزلة ليس باطلاً وهو ما يتعلق بالقدم، فإنه يعلم عند جميع المسلمين أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. وقول المصنف: (ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره ...)، ليس معناه أن المصنف يريد أن مثبتة الصفات يدفعون كلام المعتزلة لأنه ليس القدم أخص وصف للإله، فإنه من المعلوم أن القدم -الذي هو بمعنى الأولية المطلقة- لا شك أن الله سبحانه وتعالى كذلك، وإنما المصنف يريد أن يراجعهم في أصل الإطلاق، وإلا فإن الجواب العلمي عن هذا الإيراد هو ما تقدم: أن القول بتعدد القدماء إنما هو فرع عن فرض انفكاك الصفة عن موصوفها، وأنها مجردة قائمة بنفسها عن موصوفها. فهذا هو التعدد الذي يقال: إنه ينافي مقام الربوبية، وإذا كان كذلك امتنع أن تكون صفةً له؛ بل تكون شيئاً آخر مع الله سبحانه وتعالى.

أقوال الصفاتية في قدم الصفات

أقوال الصفاتية في قدم الصفات قال المصنف رحمه الله: [ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم. ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يكون هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه]. وهذه الأقوال كلها -من جهة الألفاظ- أقوال مجملة، لا ينبغي الإطلاق فيها والقول بها؛ لأن ثمة ألفاظاً أو حروفاً محكمة، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] فهذه الكلمات كلمات محكمة، والمسلمون يفهمون منها فقهاً واحداً صحيحاً، وهو أن الله موصوف بالكمال منزه عن النقص. أما التكلم بمسألة: هل الصفة هي الموصوف أم ليست هي الموصوف؟ وهل يقال: هو قديم بصفاته، أم صفاته قديمة؟!! فإن هذا كله من الاستفصالات المتكلفة. قال رحمه الله: [فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة؛ بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبياً]. وهذا جواب بعض متكلمة الصفاتية على إيراد المعتزلة، وهذا الجواب إنما بني على أصل غلط عندهم من جهة العقل، فإن منهم من يسلم ويقول: إن الصفة قديمة والموصوف قديم، ثم يقول: إنه لا يلزم أن تكون الصفة رباً, وهذا كله من باب السفسطة العقلية؛ لأن هذا يرجع إلى أن ثمة انفكاكاً بين الصفة وموصوفها، وهذا ليس كذلك، وتجد أنهم يجعلون من مثاله ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم محدث -أي: مخلوق- فيقولون: إن نبوته من الله سبحانه وتعالى، مع أنه مخلوق من مخلوقات الله. فهذا التفصيل إنما ورد عليهم بهذه الكلمات المجملة التي نطقوا بها، ولك أن تقول: إن هذه الحقائق البسيطة في الفطرة ومدارك العقل الأول وما قضت به الشرائع بينة واضحة، وهذا هو معنى البساطة المذكورة هنا (بسيطة) أي: بينة واضحة مفصلة، من بسط الشيء وبيانه. ولكن عندما أدخلوا عليها هذا التقسيم، وهذه الفروضات واللزومات؛ لزمتهم هذه الإشكالات.

العبرة بحقائق المعاني لا بحقائق الألفاظ

العبرة بحقائق المعاني لا بحقائق الألفاظ قال المصنف رحمه الله: [فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مسمى (المثل) و (الكفء) و (الند) ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده، فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة]. ينتهي المصنف هنا إلى نتيجة فاصلة في هذا المقام، ولا سيما أنه قد كثر المصطلحون، وكثر الاشتراك في كلام الطوائف في مسألة التشبيه، فمنهم من فسر التشبيه بما هو من الحق، ومنهم من فسر التشبيه بما هو مما ينزه الله عنه .. وما إلى ذلك، فيقول المصنف: إن من القواعد العقلية عند بني آدم: أن العبرة في مقام الإثبات، أو في مقام النفي للأشياء وللموجودات، أو للحقائق، أو للصفات، أو لغير ذلك -العبرة هي بالحقائق من جهة المعاني، وأما الألفاظ فإنها لا تكون حكماً على المعاني؛ إما لكون اللفظ مشتركاً في نفسه، أو لكون المستعملين له جعلوه مشتركاً. فلا ينبغي أن تكون المناظرة على الألفاظ .. وهذه من قواعد المناظرة الصحيحة، فلابد -أولاً- من تحقيق المعاني، فإذا حُققت المعاني الصحيحة، وعرف ما يخالفها من المعاني الباطلة؛ أمكن أن يسمى المعنى الصحيح إما بالأسماء الشرعية المذكورة في الكتاب والسنة، أو بأسماء يتفق عليها، لكن أن يكون هناك جدل في الأسماء دون أن يكون هناك تحقيق للمقصود بهذه الأسماء التي حصل الجدل عليها، فإن هذا ليس فقهاً، ولذلك فقد يوجد أن طائفة ينفون اسماً، وآخرين يثبتونه؛ لأن هؤلاء قصدوا به معنى فنفوه، وأولئك قصدوا به معنى آخر فأثبتوه. فلابد إذاً من الاستفصال في المعاني، ولا سيما بعد كثرة المصطلحات والاشتراكات في استعمال المستعملين.

نفي التشبيه معلوم بالسمع ومعلوم بالعقل

نفي التشبيه معلوم بالسمع ومعلوم بالعقل وقوله: (وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة): هذه مسألة من مسائل الخلاف بين النظار وهي: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن التشبيه هل هو معلوم بالسمع أم معلوم بالعقل؟ فالذي عليه محققوهم أنه معلوم بالعقل، وإذا قيل: إنه معلوم بالعقل، فمن باب أولى أنه معلوم بالسمع، وإنما الغلط ما ذهب إليه بعض غلاتهم الذين زعموا أن تنزيه الله عن النقص إنما علم بالسمع، ولم يعلم بالعقل، فإن هذا من الضلال المبين؛ بل هو معلوم بالسمع ومعلوم بالعقل؛ لأنه قدر كلي. والقاعدة: أن كل كلي علم بالسمع لزم أن يكون معلوماً بالعقل، وأما الذي يمكن أن يكون معلوماً بالسمع وحده فهو المفصلات، أو ما هو من المفصلات؛ لأنهم إذا قالوا: إنه علم بالسمع ولم يعلم بالعقل، يقال لهم: ما معنى قولكم: إنه لم يعلم بالعقل؟ هل معناه أن العقل يجوز مسألة التشبيه؟ لأنه ليس في الحقائق إلا أحد ثلاث إضافات: إما أن يقال: إن هذا الشيء واجب، وإما أن يقال: إن هذا الشيء جائز ممكن، وإما أن يقال: إن هذا الشيء ممتنع، وهنا يرد عليهم السؤال: هل العقل يقضي بأن التشبيه جائز، أم واجب، أم ممتنع؟ فإن قالوا: ممتنع؛ فمعناه: أن العلم بنفي التشبيه علم بالعقل، وإن قالوا: إنه جائز؛ فهذا لا شك أنه عين الضلال المبين، بمعنى: أن عقولهم قضت بمسألة التشبيه، وهذا ما يبين حقيقة المذهب، وأنه ليس ظاهر القرآن هو الذي قضى بالتشبيه، كما يزعمون أن ظاهر القرآن هو التشبيه، وأن الدليل العقلي هو الذي صرف النص عن التشبيه إلى التأويل. فإذا كانوا يقولون: إن الدليل العقلي هو الذي صرف النص، فمن أوائل المقدمات أن يقال: إن العلم بنفي التشبيه معلوم بالعقل، أما أن يقال: إنه ليس معلوماً بالعقل، ثم يقال: إن العقل هو الذي قضى بنفي التشبيه، فإن هذا من باب التناقض، فإن العقل إذا لم يكن عالماً به؛ امتنع أن يكون دافعاً له. وهذا ليس مذهباً للمتكلمين أجمعين؛ بل هو مذهب لقوم من غلاتهم.

من شبه النفاة: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم والأجسام متماثلة

من شبه النفاة: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم والأجسام متماثلة قال المصنف رحمه الله: [وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه. وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش، وقيام الأفعال الاختيارية به، ونحو ذلك]. وهذا هو ما يعرض في كلام بعض المتأخرين من المتكلمين، الذين استعملوا ما يسمونه بالدليل المركب في صفات الأفعال، وإن كنت لا أحب أن أسميهم هنا؛ لأنهم حقيقة يضطربون في تقرير هذا الأمر، فمثلاً: نجد أن الرازي مرة يقرر أن هذه مسألة معلومة بالسمع، ويجعل السمع هو دليل الإجماع، ومرة يجعلها معلومة بالعقل، وقد سبق التنبيه إلى أن من يريد أن يحكم على الطوائف فلا ينبغي أن يكون حكمه مبنياً على جملة عرضت في بعض كلامهم؛ بل لابد أن يكون بصيراً بحقيقة أقوالهم، وحتى لو حكوا الإجماع، فإنه أحياناً يحكي بعض المتكلمين إجماع طائفة من الطوائف، أو إجماع الطائفة عندهم على قول، فلا يلزم أن يكون الأمر كذلك؛ بل قد يكون في الأمر كثير من الخلاف عندهم. قال المصنف رحمه الله: [فيقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذ فالأجسام متماثلة، فيلزم التشبيه]. وعن هذا التفريق الذي زعموه بالعقل أثبتوا ما يسمى بالصفات العقلية؛ كالعلم، والحياة، والسمع، والبصر، ونحوها، ونفوا الصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث، وغلاتهم -أعني غلاة متكلمة الصفاتية- نفوا ما يتعلق بعلو الرب سبحانه وتعالى، وجعلوا الموجب لنفي علوه من جنس الموجب لنفي صفة الفعل في حقه سبحانه وتعالى، أي: أنهم جعلوا هذا مستلزماً للتشبيه والتجسيم. أبو المعالي الجويني: قال المصنف رحمه الله: [فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب الإرشاد وأمثاله]. صاحب الإرشاد هو أبو المعالي الجويني، صنف كتاب الشامل، وصنف كتاب الإرشاد، وسماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، وهو -أي: أبو المعالي الجويني إمام الحرمين- من فقهاء الشافعية، وهو أصولي معروف في علم الأصول على الطريقة الكلامية، وهو منتحل لمذهب أبي الحسن الأشعري، ولكنه ممن عدل في هذا المذهب كثيراً؛ فإنه شرد بهذا المذهب إلى نوع من طريقة المعتزلة.

تأثر بعض الحنابلة بمعتقدات النفاة كالأشاعرة ونحوهم

تأثر بعض الحنابلة بمعتقدات النفاة كالأشاعرة ونحوهم وأبو الحسن الأشعري لما رجع ومال إلى السنة وعظم الأئمة، وجاء كبار أصحابه كالقاضي أبي بكر ابن الطيب وأدرك قوماً من مقتصدة الحنابلة؛ بل من المائلين من الحنابلة إلى بعض مسائل التأويل، وهم قوم من التميميين من الحنابلة الذين كانوا يجوزون بعض المسائل ويتأثرون بطرق الكلابية. والحنابلة هم أخص الطوائف التي كانت معنية بمسألة إثبات الظاهر ودفع التشبيه وما إلى ذلك، كتاريخ وليس كحقيقة، فإن الحقيقة أن السنة والجماعة موجودة في الشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية وأهل الحديث ونحوهم، لكن كتصورات تاريخية عامة. فالمقصود: أن هؤلاء الحنابلة كانوا متوالفين مع القاضي أبي بكر ابن الطيب وأمثاله من شيوخ الأشعرية، حتى إن القاضي أبا بكر ابن الطيب الباقلاني لتسالمه وتوالفه مع الحنبلية إذ ذاك -مع بعض الاختلاف الذي كان موجوداً، كما يذكره ابن تيمية وأهل الأخبار في التراجم- كان يوقع جواباته الفقهية للأمصار حينما يستفتى ويكتب: (محمد بن الطيب الحنبلي)، مع أنه ليس فقيهاً حنبلياً، أي: ليس على مذهب الإمام أحمد في الفقه، لكن هذا نوع من التوالف والتسالم الذي كان بينهم. ثم لما جاءت فتنة (الفراعية) أتباع القاضي، حصلت بعض النزاعات التي كان لها أثر سلطاني، فإن السلطان ربما ساعد بعض الطوائف الخارجة عن السنة، كما حصل في بعض الدول كحال المأمون وغيره. ثم بعد ذلك انقطع هذا التوالف بينهم، فلما كثر الاختلاف بين الحنابلة والأشعرية صار كل قوم يقصدون إلى الانتصار لمذهبهم، فنجد أن بعض الحنبلية ربما تعدوا بالانتصار إلى نوع من الزيادة في الإثبات، وكذلك الأشعرية تعدوا بالانتصار فخرجوا عما كان عليه أبو الحسن الأشعري وقدماء أصحابه إلى نوع من طريقة المعتزلة، ولذلك يقول ابن تيمية: "وأبو المعالي الجويني لما كثر النزاع بينهم وبين الحنبلية شرب كتب أبي هاشم الجبائي ". أي: أنه درس كتب الجبائي؛ لأنها كتب منظرة على طريقة الردود المفصلة، فتأثر بها؛ ولذلك فإنه من أخص من قرر الصفات السبع وحدها، أما الأوائل كـ الأشعري والباقلاني فكانوا مثبتين للصفات الخبرية؛ كصفة الوجه واليدين ونحوها. فالمقصود: أن المذهب الأشعري دخله هذا التقصير على يد جماعة منهم الجويني، وإن كان الجويني ركض في هذا المقام كثيراً، وصنف هذه الكتب، وانتصر لها، وبالغ في التقرير، وشدد في المذهب الأشعري على غير طريقة محققي الأشعرية المتقدمين، ثم تبين لـ أبي المعالي الجويني أن هذه الطريقة التي ركض فيها ليست طريقةً محكمةً من جهة الشرع ولا من جهة العقل، فأعلن رجوعه عنها، وكتب الرسالة النظامية، وهي رسالة تدل على رجوعه عن نظرية التأويل، وإن كان لم يصب التحقيق، فقد ذهب إلى تمجيد التفويض، وزعم أنه لا بد من التأويل أو التفويض، وأن التفويض هو درب الأئمة والسابقين الأولين، وهذا غير صحيح، وإن كان يحمد للجويني الرجوع في الجملة، فإنه يحمد لهؤلاء؛ لأن الجويني وأمثاله كـ أبي حامد، الأصل فيهم أنهم قصدوا اتباع الحق، وإن كان هذا القول هو قول مجمل، فإن الله هو العالم بأحوال العباد. وإن كان يقال أيضاً -مع القول بأنهم قصدوا الحق-: قد ظهر عندهم شيء من مقامات التعصب، وهذا التعصب لما دخل على الفقهاء أفسد كثيراً من فقههم، ولما دخل على المخالفين للسنة والجماعة أقامهم في بدعتهم، ولم يقربهم إلى السنة، ولذلك ينبغي أن ينفك طالب العلم عن التعصب للأعيان، ويكون تعصبه للحق، لكنه يكون على قدر من الفقه كما سبق. قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو]. القاضي أبو يعلى من شيوخ المذهب الحنبلي كما هو معروف، وقد كان في أول أمره متأثراً بشيء من كلام الكلابية، ثم رجع عن ذلك في الجملة. وقد عرض لبعض الحنبلية أنهم تأثروا بشيء من هذا الكلام؛ كـ أبي الوفاء ابن عقيل، فإنه درس علم الجدل وعلم الكلام على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـ أبي علي ابن التبان، وأبي القاسم ابن الوليد المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي الحنفي. فدرس أبو الوفاء ابن عقيل على هذين، وتأثر بشيء من طرق المعتزلة، ولا سيما في منهج الاستدلال، وتأثر بجملة من نتائج الكلابية في مسائل الصفات، وإن كان ابن عقيل رجع عن كثير من ذلك أو عن أكثره، وصنف (الانتصار لأهل الحديث)، وكتب توبةً معروفةً شائعةً في ذلك العصر. فهؤلاء من الحنابلة أو غير الحنابلة قد عرضت لهم بعض المسائل التي خالفوا فيها المنهج الحق.

عدم تحقيق المتأثرين بالنفاة للحق من الباطل

عدم تحقيق المتأثرين بالنفاة للحق من الباطل قال المصنف رحمه الله: [ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفةً خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات. والعقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق]. أي أنهم لما لم يحققوا المعاني الصادقة من جهة العقل والشرع، ربما نفوا وجهاً من الغلط، ولكنهم لم ينفوا الوجه الآخر، والحكمة العقلية والشرعية ليست هي أن تعرف وجهاً من الحق دون بقيته، ولا أن تنفي وجهاً من الباطل دون بقيته، فإن الذي عرض لجمهور أهل القبلة من الطوائف المخالفة للسنة والجماعة: أنهم أثبتوا وجهاً من الحق ونفوا وجهاً من الباطل، ولذلك إذا قيل مثلاً عن المعتزلة: هل لا يوجد عندهم إثبات لشيء من الحق ولا يوجد عندهم نفي لشيء من الباطل؟ فالجواب: لا؛ بل عندهم إثبات لحق ونفي لباطل، ولكن امتياز أهل السنة والجماعة في هذا المقام، ولا يمكن أن يقال عن طائفة من طوائف المسلمين أنها تجردت عن الحق من كل وجه؛ لأن من تجرد عن الحق من كل وجه لم يكن مسلماً، فمن لم يعرف معنى (لا إله إلا الله)، ولا الربوبية، ولا النبوة، ولا الكمال .. فإن هذا لا يكون مسلماً. إذاً: هؤلاء عرفوا وجهاً من الحق، ولكنهم لم يعرفوا الباطل، أو أثبتوا وجهاً من الحق ولم يثبتوا بقيته، ونفوا وجهاً من الباطل ولم ينفوا بقيته؛ والبقية الأولى من الحق إما أنهم غافلون ساكتون عنها، وإما أنهم يظنونها من الباطل، فهم يثبتون حقاً ويسكتون عن بقيته، أو ينفونه لكونهم يظنونه من الباطل، وينفون وجهاً من الباطل ويسكتون عن بقيته غفلةً عنه، أو يظنونه شيئاً من الحق, فربما أثبتوا وجهاً من الغلط والباطل.

الجواب عن شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم

الجواب عن شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم قال المصنف رحمه الله: [وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة]. هذا ما يسمى بدليل الأعراض، فهم قالوا: إن الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة. لكنهم ينازَعون في هذه المقدمات؛ فيقال مثلاً: ما معنى أن الأجسام متماثلة؟ فإذا قصد بالتماثل أن الأجسام موصوفة بالصفات، فهذا وجه، ثم ما المقصود بالأجسام نفسها؟ فيقال: كلمة الأجسام كلمة فيها إجمال، فما المقصود بالجسم؟ فإن قصدتم بالجسم الموصوف بالصفات أو القائم بنفسه، فهذا معنى، ولا يلزم أن يسمى جسماً في لسان العرب على هذا الاطراد، فإن الجسم في لسان العرب هو البدن الكثيف. وأيضاً: ما معنى التماثل الذي يقال في الأجسام؟ فإن هذه كلها كلمات مجملة مشتركة، ما أنزل الله بها من سلطان. قال المصنف رحمه الله: [والمثبتون يجيبون عن هذا تارةً بمنع المقدمة الأولى، وتارةً بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارةً بالاستفصال]. وهذا من فقه المناظرة والجواب، أنه تارةً تمنع المقدمة الأولى، وتارةً تمنع المقدمة الثانية، وتارة تمنع المقدمتان، وتارةً بالاستفصال، فإنهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم التجسيم -وهذه هي المقدمة الأولى- والأجسام متماثلة -وهذه هي المقدمة الثانية- والنتيجة نفي الصفات. فيقول المصنف: إما أن تنفى المقدمة الأولى، فيقال: إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم، أو تنفى المقدمة الثانية، وهي قولهم بتماثل الأجسام؛ بل يقال: هي مختلفة، أو تنفى المقدمتان، أو يستفصل، فيقال: ماذا تقصدون بالتجسيم؟ وماذا تقصدون بالتماثل؟ قال المصنف رحمه الله: [ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولى والصورة، ونحو ذلك]. لأن معنى التماثل في العقل: أن الماهيتين ليس بينهما قدر من الامتياز، وهذا المعنى بيِّن الامتناع بين المخلوقات، فإذا كان بين الامتناع بين المخلوقات -كما سبق في المثلين المضروبين- فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. وقوله: (أو بالمركب من الهيولى والصورة): أي: من المادة والصورة.

مسألة الجوهر والعرض

مسألة الجوهر والعرض قال المصنف رحمه الله: [فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك]. قوله: (الجواهر المفردة): هذا مصطلح مولد من الفلسفة، وهم يجعلون الجوهر ما يقابل العرض، ويجعلون الأشياء مركبة إما من الجواهر، وإما من الأعراض، ويجعلون العرض مقابلاً للجوهر، ويجعلون الجوهر: إما جوهراً فرداً، وإما جوهراً مركباً، ويجعلون الجوهر الفرد هو الجزء من المادة الذي لا يقبل الانقسام، ويقولون: إن الأجسام مركبة من الأعراض والجواهر. وهذا كله سفسطة خيالية عقلية، مناسبة لحال الممكنات، ولو صحت هذه الفرضية فإنها فرضية من خيال الذهن، ومعروف أن العقل إذا تخيل فإنه يتخيل شيئاً ممكناً. وهذه النظرية المولدة من الفلسفة هي دخيلة على المسلمين، ولذلك يروى في كتب الأخبار: أن إبراهيم بن سيار النظام قال لـ أبي الهذيل العلاف -وكان العلاف أكبر منه سناً-: يا أستاذ! فررت من أن يكون الرب عرضاً، فيلزم أن يكون جوهراً. فإن المعارض إذا قيل له: لا يلزم ذلك، قيل: فلا يلزم الأول، بمعنى: أنه إما أن يكون القول في المسائل الإلهية يتصل بمسألة العرض والجوهر أو لا يتصل، فإن لم يتصل لم يلزم لا العرضية ولا الجوهرية، وإن اتصل ونفيتم العرضية؛ لزم أن تبقى الجوهرية وهي التجسيم. يقول: أنتم إذا فرضتم أن يكون الرب عرضاً؛ لزم أن يكون جوهراً، وإذا فرضتم أن يكون جوهراً؛ لزم أن يكون عرضاً، فإن قلتم: إن هذا لا يلزم؛ علم أن هذا المقام بعيد عن هذا القول من أصله. حتى قيل: إن العلاف بصق في وجهه، وقد كان إبراهيم بن سيار من أكثر الناس ذكاءً؛ بل كان من أعيان الأذكياء والمناظرين؛ لكنه زل زلات كثيرة، وإن كان بعض ما نقل عنه قد لا يصح. ولذلك فإن بعض الناس تردد في تكفير النظام؛ لأنه نقل عنه ما يوجب ذلك، وفي نظري أن ما لم يعلم انضباطه من المسلمين من أهل القبلة فلا ينبغي أن يتكلف فيه، فما دام أنها رواية تاريخية، فلا يجوز أن يحكم على شخص بمجرد تلك الرواية التاريخية، لكن يقال: من قال كذا وكذا فإنه يكفر، كمن يقول مثلاً بالصدفة، فإن هذا الكلام كفر، لكن هل قال النظام بذلك أم لم يقل؟ الله أعلم. وفي الغالب أنه لم يقل به؛ لأنه لم ينقل عنه إظهار الزندقة إظهاراً صريحاً، كما نقل عن ابن الراوندي مثلاً، وإن كان الناقلون لذلك هم المعتزلة؛ لأن ابن الراوندي قد رد على المعتزلة كثيراً. فهنا يجب أن تكون الحقائق بينة، فما كان معلوماً في التاريخ مستفيضاً منضبطاً، أخذ به وبني عليه، وأما ما نقله بعض الإخباريين، فلا يلزم أن يضاف حكم شرعي إلى معين على رواية معينة من الروايات التاريخية التي قد تصدق وقد تكذب.

بطلان القول بتماثل الأجسام

بطلان القول بتماثل الأجسام قال المصنف رحمه الله: [والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناءً على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة للنصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى]. إذاً: مسألة تماثل الأجسام يجاب عنها بأحد جوابين: الأول: بالمنع، فإن الأجسام مختلفة؛ لأن التماثل بين المعنيين يعني امتناع الامتياز، وهذا لا وجود له في الخارج؛ فإن الأشياء بينها امتياز، وهذا من ضرورات تعدد الماهيات بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. فتماثل الأجسام باطراد أمر لا وجود في الخارج، وهو مخالف لمدارك العقل الأول، ومخالف للاطراد الحسي، فإن العلم بتباين واختلاف الماهيات من العلم الضروري في العقل فضلاً عن الشرع. الثاني: أن يقال بالاستفصال: ما المقصود بتماثل الأجسام؟ فإن قيل: المقصود أنها تشترك في إثبات الصفات مثلاً، فإن هذا ليس هو التماثل المعروف عند العقلاء. وقوله: (كإطلاق الرافضة للنصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى): فإنه لا يلزم من محبة أبي بكر وعمر البغض لـ علي؛ بل طريقة أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين هي التولي لسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحفظون ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل وما ذكره الله في القرآن من مراتبهم، فيقدمون من قدم الله، ويفضلون من فضل الله، مع القول بأن جملة الصحابة عدول خيار، وإن كانوا يفضلون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأمثالهم على جمهور الصحابة.

سبب انحراف المتكلمين وضلالهم

سبب انحراف المتكلمين وضلالهم قال المصنف رحمه الله: [ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه. وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبينا فساد قول من يقول بتماثلها]. قد يقول قائل -وهذا سؤال قد يرد على البعض ولا سيما الناظر في كتب المتكلمين-: إن هؤلاء أوتوا ذكاءً، وعندهم سعة في العلم في مسائل النظر والجدل والعقليات وما إلى ذلك، فلماذا اضطرب أمرهم؟ فيقال: إن الاضطراب إنما دخل عليهم ليس لنقص في ذكائهم، ولا لنقص في أحاطتهم بالمعارف التي قد يدركها من هم دونهم بمراتب في العلم، ولكنهم لما فرضوا بعض المعاني، وأرادوا تصديق هذه المعاني التي فرضوها؛ اصطدموا بقدر متسلسل من الحقائق العقلية والحقائق الشرعية، فذهبوا يتأولون الشرعي، ويوردون السؤال على العقلي، ومن هنا حصل عندهم هذا الاضطراب، وإلا فإنهم أهل نظر، ولذلك فإن محمد بن عمر الرازي -وهو عمدة المتأخرين من أصحاب الأشعري - رجل واسع العلم، وفقيه، وأصولي، وقد صنف كتباً مطولة؛ كالمطالب العالية، والمباحث المشرقية، وصنف في آخر عمره كتاباً سماه: (أقسام اللذات)، وقال في هذا الكتاب: "إن لكل قوة وحاسة لذة، ولذة العقل العلم، وأشرف العلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله"، ثم قال: "وعلى كل واحدةٍ منها عقدة لم تنحل"، أي: أن عنده إشكالاً، ثم قال: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً"، أي: أن من عنده شبهة فهو بمنزلة المريض المعلول، وهذه الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، لا يجد جواباً محققاً فيها. وقوله: (ولا تروي غليلاً) أي: أن الرجل الذي ليس هو صاحب شبهة ولا ثقافة معينة، هو بمنزلة العطشان، فهو يريد أن يعرف الحقائق من جهة المناهج الكلامية والفلسفية، ولكنها لا ترويه، فهي لا تصلح لا لمن جهله بسيطاً، ولا لمن جهله مركباً، أي أنها لا تدفع شبهة صاحب الجهل المركب. قال: "ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن". وكذلك أبو حامد الغزالي، خاب في هذا الباب، وانتهى إلى أن هذا الباب لا يحصل نتائج علمية دقيقة، لكنه قال: إنه باب من باب المناظرة، ودفع صول الصائلين على الإسلام، فنجيبهم بهذه الطرق، وهذه التشقيقات، وهذه النظريات، وهذه المحاولات العقلية. إذاً: هؤلاء لم ينقص مقامهم في الذكاء، أو في ذات المعارف؛ لكنهم لما وضعوا أصولاً ليست محكمة، وتعصبوا لها، وتسلسل تعصبهم؛ وصلوا إلى هذا المقام، ولذلك فإن من وفقه الله إلى نوع من الصدق، فإنه ينفك انفكاكاً ليس بالضرورة أنه يعرف الحق المفصل، لكنه يعرف أن الذي هو فيه كان غلطاً؛ كأمثال أبي الحسن الأشعري لما أعلن رجوعه عن الاعتزال، والجويني لما أعلن رجوعه عن التأويل، والغزالي لما أعلن رجوعه عن الطريقة الكلامية، وتمسك بالطريقة الصوفية، وإن كان لم يحقق الصواب مع أنه كان قاصداً له.

الاعتماد بالقول بتماثل الأجسام على نفي التشبيه اعتماد باطل

الاعتماد بالقول بتماثل الأجسام على نفي التشبيه اعتماد باطل قال المصنف رحمه الله: [وأيضاً: فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل؛ وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام، فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم؛ كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه]. أي أنه إذا كان القول بأن الأجسام متماثلة قول صحيح؛ اقتضى هذا المقام بذاته، دون أن يبنى على مقدمة أن هذا من باب التشبيه. قال رحمه الله: [لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب، ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه. لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى]. وهذا فيه تفريق من المصنف رحمه الله تعالى بين الطريقتين، فإن من اعتمد في نفيه على نفي التشبيه، يقول المصنف: إن حقيقة هذه الطريقة، وإن ركبها من نفس مسألة التجسيم، فإن مقام التشبيه عندهم يختلف عن مقام التجسيم، فإنهم إذا فسروا التشبيه بالتجسيم امتنع أن يكون هذا الاشتراك الذي ورد به القرآن من باب التشبيه، أما إذا كان التشبيه عندهم على معنى الاشتراك، فإنه يمتنع أن يكون هو التجسيم، فيكون المقام منفكاً بين الجهتين.

الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج

الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج قال المصنف رحمه الله: [وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد؛ إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة]. قوله: (وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد): هذا في ذكر مقام الاحتجاج، وإلا فمعلوم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة مخلوقاته، وأن التشبيه قد استقر عند سائر أهل العلم بل عند جماهير المسلمين أن الله منزه عنه، ولكن قول المصنف رحمه الله: (إن مجرد الاعتماد) أي: في باب الاحتجاج، (على مجرد نفي التشبيه لا يفيد)، وقوله: (لا يفيد) فيه قدر من التعيين لمراده, بمعنى: أنه لا يصح أن يفهم أحد عن المصنف أنه يصف الله بالتشبيه، فإن قوله في هذه الحجة بهذا الوجه، ليس معناه أنه يقول: إن الله موصوف بالتشبيه، وإنما مقصوده: أنه إذا ذكرت الحجج في مقام الإثبات ومقام النفي، فإن تعليق الحجة على هذا اللفظ -وهو لفظ التشبه- لا يكون محكماً من كل جهة؛ لأن هذا اللفظ متضمن لقدر من الاشتراك، فضلاً عما أدخل عليه من الاشتراك؛ ولهذا فإن من نفى صفات الله سبحانه وتعالى من المعتزلة ونحوهم يجعلون الحجة في نفيهم: أن هذا الإثبات يستلزم التشبيه. فيقول المصنف: إن كلمة التشبيه من هذا الوجه كلمة مجملة متضمنة لغير معناه، فإن التشبيه إذا ما فسر بالاشتراك في الاسم فهذا وجه، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك في المسمى الكلي الذهني فهذا وجه آخر، وإذا فسر التشبيه بالاشتراك فيما هو من الخصائص فهذا وجه ثالث، فإن المصطلح والمخالف لطائفة قد يسمي هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً، أو هذا تشبيهاً. ولذلك يقول: إن المعتزلة عندما جعلت الاشتراك في المسمى الكلي تشبيهاً، وذهبت تتأول الصفات، لأن هذا من التشبيه الذي نفاه القرآن، قال: فإن هذا يمكن أن يتسلسل عليهم في سائر الموارد، بمعنى: أنه يتسلسل في موارده الثلاثة: في باب الاسم واللفظ، أو في باب المسمى الكلي الذهني، أو فيما هو من الخصائص. وإن كان يعلم بالضرورة أن المصنف إذا ما ورد عليه ما يتعلق بالوجه الثالث -وهو الاشتراك فيما هو من الخصائص- فإنه لا شك ينفي التشبيه بهذا المعنى؛ فإنه لا هو ولا غيره من أهل السنة؛ بل ولا من جماهير المسلمين؛ بل لا يوجد أن أحداً من المسلمين يلتزم بمسألة الخصائص التزاماً مطلقاً؛ أي: يقول بأن المخلوق تتحقق له صفات الكمال المطلق اللائقة بالخالق، أو يقول بأن الخالق تتحقق له صفات النقص اللائقة بالمخلوق، أي: أن تكون الصفة المضافة إلى الخالق هي من حيث الماهية والحقيقة بمعنى الصفة المضافة للمخلوق، فلا يفرق بين ما أضيف إلى الله سبحانه وتعالى، وبين ما أضيف إلى المخلوقين، بل يقول: إن عين صفة الخالق من حيث المعاني المختصة الإضافية هي عين صفة المخلوق، فيجعل صفة الله كصفة خلقه؛ وهذا قدر من التشبيه، أو يقول بعكس ذلك، فيجعل صفات بعض المخلوقين كصفات الباري المطلقة بالكمال. فهذا الوجه من التشبيه قد اتفق المسلمون على إبطاله، وإن كان بعض أهل القبلة -وهم من سموا بالمجسمة وغيرهم- قد عرض لهم مقام من هذا التشبيه، ودخلت عليهم مادة من هذا التشبيه، لكن الذي يقصد قوله: أنه لم ينضبط عن أحد من المسلمين أنه قال: إن الباري مثل المخلوق من كل وجه، أي: لم يجعل ثمة فرقاً بين الخالق والمخلوق، فإن من التزم بهذا القول على هذا التحقيق والجزم والكمال؛ فإنه لا يكون من أهل القبلة، وإن كان يقال: إن مادة من التشبيه الذي قد علم إبطاله بالإجماع قد دخلت على بعض أصحاب الطوائف كالمجسمة. ثم إن المصنف لم يقصد منع تسمية ما يعلم نفيه -وهو ما لا يليق به سبحانه وتعالى من المعاني المشابهة أو المماثلة لصفات المخلوقين- لم يقصد منع تسمية هذا من باب التشبيه، فإنه ينفيه؛ بل ويسميه نقصاً، ويسميه أيضاً تشبيهاً. وقد سبق في تقريره لمذهب أهل السنة أن قال: إنهم يثبتون صفات الله من غير تشبيه ولا تمثيل. إذاً: لا بد أن يفهم كلامه هنا أنه لا يقصد عدم القول بنفي التشبيه عن الله سبحانه وتعالى، وإنما يقول: إنه في باب الاحتجاج إذا ما كانت الحجة مبنية على هذا اللفظ الذي دخله كثير من الاشتراك من وجه آخر، فإنّ هذه الحجة لا تكون منضبطة على هذا التقدير؛ لأنه يلزم أن تكون مطردة في سائر مواردها الثلاثة، فإذا ما جوز واحد منها، فقد ينازع المنازع في تجويز غيره، وإذا ما نفي واحد منها، فقد ينازع المنازع في نفي غيره. فهذا وجه من كلام المصنف: أنه يقول: إن التشبيه هنا يراد به الشبيه في الاسم، أو في المسمى الذهني، أو في المعنى الإضافي المختص، فهنا قال: إن نفي التشبيه لا يفيد في مقام الاحتجاج؛ لأنه إن جُوز وجه واحد من هذا التشبيه؛ فإن المنازع قد يحتج على جواز غيره، وإذا نفي واحد منها، فإن المنازع قد يحتج على نفي غيره، ومن المعلوم شرعاً وعقلاً أن نفي واحدٍ من هذه الأوجه عند التحقيق لا يلزم منه النفي للآخر، كما أن إثبات واحد منها لا يستلزم شرعاً وعقلاً إثبات الآخر؛ فإن من قال: إن الاشتراك في الاسم المطلق تشبيه، وجوز ذلك، وصححه؛ لم يلزم منه أن يجوز غيره، وإن كان ينازَع في تسمية هذا تشبيهاً؛ بل يقال: إن هذا ليس من باب التشبيه، لكن تصحيح المعنى هنا لم يستلزم تصحيح المعنى الثاني. ولذلك لو قال: إذاً أجوز غيره من الأوجه ولا أسميها تشبيهاً، قيل: هذا لا يصح، فإن جواز واحد منها -وهو الاشتراك في الاسم المطلق- لا يستلزم أن يجوز الثالث، وهو الاشتراك في الخصائص، أو يقال: الاشتراك في المسمى الذهني لا يستلزم الاشتراك في الخصائص، كما تقدم أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التطابق في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. إذاً: هذا هو معنى كلام المصنف رحمه الله، فإنه عندما قال هذا الكلام، لم يقصد به أن ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى يمنع أن يسمى تشبيهاً؛ بل ما ينفى عنه سبحانه وتعالى لك أن تقول: إن الله منزه عن هذا؛ لأنه نقص وعيب وتشبيه بما لا يليق بالله من خصائص المخلوقين. كما أنه ليس معنى كلام المصنف أن ما يكون ثابتاً في نفس الأمر يجوز أن يسمى تشبيهاً بإطلاق، والثابت في نفس الأمر عند أهل السنة هو الاشتراك في الاسم المطلق، فالمصنف لا يقول: إن هذا يسمى تشيبهاً بإطلاق، فهو لم يقصد نفي الأول، ولا إثبات الثاني، وإنما مقصوده ما تقدم، ولعله قد تحقق مراده هنا. وقد غلط بعض المعلقين على هذه الرسالة، فعلق على كلام المصنف بما لا يصح ولا يجوز أن ينسب إليه أو إلى أمثاله.

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على التنزيه عن النقص والعيب

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على التنزيه عن النقص والعيب ولذلك قال المصنف بعد ذلك: (بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب)، فإن من بنى حجته على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن النقص والعيب؛ كان هذا أحكم، ووجه كونه أحكم: لأن ما هو نقص أو عيب لا يمكن أن يكون مشتركاً، فبعضه ثابت، والبعض الآخر غير ثابت؛ بل إن هذا الاسم معناه مطرد في النفي على التحقيق، ولهذا لا يسوغ بحال أن يسمى ما يكون ثابتاً في نفس الأمر نقصاً، بخلاف الأول. وقد يقول قائل: إن الاشتراك في الاسم المطلق تشابه في الاسم المطلق. فإذا قال قائل هذا فإنه قد بنى نفيه على اسم التشبيه، فيكون هذا اللفظ ليس محكماً من هذا الوجه، بخلاف الاشتراك في الاسم المطلق، فلا يحق لأحد لا من جهة اللغة ولا من جهة الاصطلاح أن يقول: إن الاشتراك في الاسم المطلق هو نقص، فإن هذا يكون ممتنعاً من جهة العقل، ومن جهة الأسماء والمصطلحات. إذاً: لفظ النقص أحكم في النفي، ولا شك أن كل ما نفي عن الله سبحانه وتعالى يلزم أن يكون نقصاً، أو يسمى كذلك، ومن هنا كان التعليق في مناط الحجة على هذا الاسم أحكم من جهة اللفظ، وأحكم من جهة المعنى.

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي المماثلة في صفات الكمال

صحة الاعتماد في نفي ما ينفى على نفي المماثلة في صفات الكمال قال المصنف رحمه الله: [وكذلك إذا أُثبت له صفات الكمال، ونٌفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات]. يقول المصنف: إن من الطرق الصحيحة أيضاً: الاعتماد في تقرير مسألة النفي على نفي المماثلة، وهذا بين من جهة العقل، ومن جهة الشرع في مثل قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].

قول النفاة: أن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه

قول النفاة: أن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه قال المصنف رحمه الله: [فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه، جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه]. لا يقصد المصنف في هذا المقام من تقريره إلى دفع جهة من جهات الغلط، وهذا من شرف فقهه، وإن كانت حالاً لا يصل إليها إلا أصحاب التحقيق، فإن الذي يسع الكثير من المناظرين والمجادلين في المسائل أنه ربما استطاع أن ينفي جهة من جهات الإشكال على قوله, لكن إذا حقق نفي هذه الجهة من جهات الإشكال، فإنه لا يتفطن أنه أغلق جهة، لكن هذا الطريق من الإغلاق قد يستعمل عليه في جهة مقابلة، بمعنى: أنه يعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه. فمثلاً: من قال: إن الله ليس بجسم، وأطلق، لم يكن إطلاقه محكماً؛ لأن هذا لفظ مجمل حادث، ومن قال: إن الله جسم -تعالى الله عن هذه الإطلاقات- أيضاً لم يكن إطلاقه محكماً، لا في الإثبات ولا في النفي. فالمقصود: أن المصنف أراد التحقيق في رده على من خالف من أهل النفي والتأويل, أو من أهل التجسيم والتمثيل والتشبيه، فإنه إذا تكلم بالكلام الأول، فلا بد أن يكون له قدر من الالتزام به، حتى لا يرد عليه من طائفة أخرى فيكون متناقضاً. بمعنى: أنه إذا تكلم مع أهل التأويل تكلم بوجه, وإذا تكلم مع أهل التجسيم لم يتكلم بوجه يناقض الحجة الأولى؛ بل أراد أن تكون حجته مطردة، بمعنى: أنه قال: إن الاعتماد على نفي التشبيه المفسر بالنقص والعيب والمماثلة اعتماد صحيح، فإنه نفى التشبيه عن الله، والمقصود بالتشبيه هنا: ما ثبت في نفس الأمر وفي الحقائق العقلية والشرعية أنه نقص, ولهذا فإن أهل السنة نطقوا بنفي التشبيه، والمصنف نفسه نطق بنفي التشبيه، فهو لا يريد هنا رفع هذا الاسم مطلقاً، ولكنه يقول: إنه لفظ مشترك، فإذا ذكرت الحجج فإما أن يفصل هذا الاسم، وإما -عند الإطلاق- أن يذكر اسم لا لبس فيه ولا اشتباه ولا اشتراك. فالخلاصة: أنه يريد أن يقول: في مقام الاحتجاج إما أن يذكر الاسم المشترك مفسراً، وإما أن يستعمل غيره من الأسماء التي ليس فيها مادة من الاشتراك والاشتباه. فيقول المصنف: (فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه ...) أي: إذا قيل: إن مجرد الاعتماد على نفي التشبيه لا يكون محكماً؛ لأن هذا اللفظ فيه اشتراك، وهو أحد أوجه ثلاثة في استعمال المستعملين واصطلاح المصطلحين، فمعنى ذلك: أن منه ما هو يكون جائزاً؛ لأن الأوجه الثلاثة لو كانت كلها ممنوعة لكان اللفظ مفصلاً أو مشتركاً، أي: مفصلاً من جهة الحكم، وإن كان مشتركاً من جهة تعدد المراد به، لكن الإشكال ليس في تعدد المراد فحسب؛ بل الإشكال في تعدد المراد واختلاف الحكم، فإن المعنى الأول -وهو الاشتراك في الاسم- له حكم يختلف عن المعنى الثالث، وهو الاشتراك في الإضافة والتخصيص، فتعدد المعنى واختلف الحكم. فيقول المصنف: لو اعترض معترض فقال: ما دام أنه تعدد المعنى واختلف الحكم؛ فقد صار أحد معانيه جائزاً، فإننا نسلم أن المعنى الأول جائز، وقد نطق به القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه سميعاً بصيراً، ووصف عبده بأنه سميع بصير، وسمى نفسه بالملك، وسمى بعض عباده بالملك، وما إلى ذلك. وإن سلمنا أن الأول ثابت وصحيح، وهذا مطرد في الأسماء واللغات، فإننا لا نسلم أن هذا من باب أن يسمى تشبيهاً؛ لأن هذا اللفظ -وهو لفظ التشبيه- إذا أطلق تبادر منه قدر مشترك من النقص, ولذلك وجب نفيه في موارد الإطلاق، وإن كان لا يصلح حجة في موارد النفي.

الجواب عن هذا الاعتراض

الجواب عن هذا الاعتراض قال المصنف رحمه الله: [قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه، لم يكن ممتنعاً؛ كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حياً عليماً سميعاً بصيراً، فإذا قيل: يلزم أن يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجوداً حياً عليماً سميعاً بصيراً. قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية]. فقول المعترض: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه -أي: اشترك معه من وجه- جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه. يقال له: هذا التلازم فيه إجمال، فإن قصد بالجواز الجواز الاسمي، فهذا الاسم ليس ممنوعاً، لكن الجواز الاسمي لا حقيقة له -حتى في مقام الأسماء- إلا مضافاً مختصاً، بمعنى: أن الجواز الاسمي لا حقيقة له في الأسماء إلا مضافاً مختصاً، فمثلاً: إذا قيل: السمع، فإنه إذا أطلق كان هذا لفظاً مطلقاً، بخلاف إذا ما أضيف فقيل: سمعه سبحانه وتعالى لكلام خلقه، أو قيل: سمع زيد لكلام عمرو، فإن الاسم هنا وقع مختصاً، ووقوعه مختصاً يقطع التماثل الاسمي من كل وجه، حتى في السياق والكلمات، فإنه لا يوجد في الخارج تطابق مطلق عند الإضافة والتخصيص؛ بل إن الاسم إذا أضيف كان المعنى مختصاً عند الإضافة والتخصيص، وإنما الاشتراك في الاسم المطلق ليس اسماً إضافياً، ولذلك سمي مطلقاً. فالمقصود: أن المصنف يقول عن قولهم: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه: ماذا تقصدون بالجواز؟ فإن قصدتم الجواز الاسمي، قيل: هذا يقع، لكنه لا يوجد في الأسماء إلا مضافاً أو مختصاً, وأما إذا أطلق فإنه يمتنع أن يكون معيناً بالخالق سبحانه وتعالى، أو بمخلوق معين من المخلوقات. وكذلك إذا ما قصدوا بالاشتراك الجائز هنا ما يتعلق بالمسمى الكلي، فإن هذا مقام آخر، أو قصدوا بالجواز ما يتعلق بالمسمى الإضافي المختص، فإن هذا مقام آخر، فالمقصود: أن قولهم: إن الشيء إذا شابه غيره جاز عليه ما يجوز عليه، يقال لهم: ما المقصود بهذا التشابه؟ وما المقصود بهذا الجواز؟ فإذا فسَّروا التشابه والجواز بما هو من الحقائق الصادقة؛ صدقت هذه الحقائق، وإن كان ينازع في تسمية هذا تشبيهاً.

القدر المشترك لا يستلزم التشبيه والتمثيل

القدر المشترك لا يستلزم التشبيه والتمثيل قال المصنف رحمه الله: [وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع والبصر، أو السميع والبصير، أو القدرة أو القدير]. القدر المشترك: هو الاسم المطلق، والمسمى الكلي الذهني, وهذا من باب تحصيل المناظرات، وإلا فإنك لو ابتدأت الكلام لم تحتج إلى تقرير هذا المعتقد، وقد نبهت عليه فيما سبق، ومما يؤكد هذا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يستعمل هذه الطريقة في باب تقرير المعتقد لآحاد المسلمين، وإنما في بيان الحقائق العلمية، حتى لا يعترض المخالف على الحقائق الشرعية بحجج يظنها إما شرعية وإما عقلية؛ بل يقول: إن ما يتكلمون به من الحجج فإنها حجج مجملة. ومن القواعد التي يستعملها المصنف أنه يقول: إن المخالفين لأهل السنة والجماعة إما أن يتكلموا بحجة باطلة في نفس الأمر، أي: باطلة من أصلها, وإما أن يتكلموا بحجة صحيحة، فما كان من الحجج صحيحاً فإنه غير مفصل فيما عينوه من المعاني؛ بل يكون حجة مجملة قد دلّت على نفي معنى ليس هو المعنى الذي يعينونه بالنفي؛ كاستدلالهم بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهذه حجة صحيحة، لكنها تدل على معنى قد أجمع المسلمون على نفيه، وأما أن هذه الحجة تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالصفات، أو لا تقوم به الصفات، فإن هذا استدلال غلط، وموجب الغلط: أن هذه الحجة فيها إجمال، فإن قدراً من معناها يعلم بالضرورة عند سائر المسلمين الإحاطة به في تقرير كمال الرب سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: [والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه]. أي: أنه لم يقع اشتراك حتى يقال بنفيه، أو يقال: إن من أثبته يكون مجسماً مشبهاً، فإن هذا القول إنما يكون فرعاً عن الأمور الإضافية، فلما لم يقع اختصاص وإضافة؛ امتنع أن يقال: إن هذا يجب نفيه، بمعنى أن من أثبته كان مجسماً، فإن التشبيه بمعين آخر لا يقع إلا في مقام الإضافة والتخصيص، وليس في مقام الإطلاق، فليس هناك تعيين لواحد بصفة يكون الآخر مماثلاً له فيها، أو ما إلى ذلك. قال رحمه الله: [فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال؛ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق؛ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً؛ بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود]. قوله: (لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً): فإن من يسمي هذا تشبيهاً، فإن هذه حجة داحضة؛ لأنه لا يمكن أن ترفع الحقائق الشرعية العقلية باسم مشترك؛ بل للمنازع أن ينازع فيقول: إن لفظ التشبيه -وهذا من باب التسلسل في المناظرات- لم يرد ذكر نفيه في الكتاب ولا في السنة. فإن قيل: إن المسلمين درجوا على أن الله منزه عن مشابهة خلقه. قيل: ما درج عليه المسلمون هو قدر مما يقوم في عقولهم وفطرهم ومحكم الشرائع، فإذا تكلم به المسلمون على هذا الوجه فقد صدقوا في كلامهم، وهو أن الله منزه عن مشابهة خلقه. إذاً: فأهل العلم بل وعامة المسلمين درجوا على أنه يقال: إن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة خلقه, فإذا ما حكيت هذه الجملة على قدر من الحقائق البينة المنضبطة عند عامة أهل الإسلام من أهل السنة أو غيرهم، فإن هذا الإطلاق على مثل هذا المورد من السياق وعلى مثل هذا المورد من المعنى يكون مناسباً، لكن إذا تكلم قوم بالتأويل، وبقدر من الاصطلاح، فإنهم ينازعون ويناظرون بحسب ما يسلمون به من تعدد مادة الاصطلاح.

اعتماد الجهمية على نفي التشبيه هو عين التعطيل

اعتماد الجهمية على نفي التشبيه هو عين التعطيل قال المصنف رحمه الله: [ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية، سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً، وربما قال الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام]. حينما يقول المصنف: إنه لا يعتمد في النفي على مجرد نفي التشبيه، فإن المقصود: أن مجرد الاعتماد على نفي التشبيه في المناظرات فيه تضييق لتحصيل الحقائق ودفع الشبه؛ بل يعتمد في المناظرات أو التقريرات على نفي التشبيه ونفي النقص والعيب، فإذا ذكر مقترناً معه مفسراً له؛ كان اللفظ هنا منفكاً عن الإشكال والاشتباه. ولذلك يقول: إن السلف سموا الجهمية معطلة، مع أن الجهمية وأمثالهم يجعلون قولهم نفياً للتشبيه. وقد يقول قائل: وأيضاً فإن المعتزلة الجهمية وأمثالهم يجعلون قولهم نفياً للنقص، فهل يلزم من ذلك أنه يفصل في مسألة النقص كما فصل المصنف في مسألة التشبيه؟ والجواب: لا يلزم ذلك؛ لأنه مع أن الجهمية يجعلون قولهم نفياً للتشبيه ونفياً للنقص، لكنهم حين يقولون: إن إثبات الصفات من باب النقص، فإن منع ذلك يكون منعاً بدهياً من جهة الأسماء ومن جهة المعاني: أن هذا ليس نقصاً لا في الاسم ولا في المعنى، لكن إذا قالوا: إن الإثبات يكون من باب التشبيه، فإنه قد يشكل على مخالفيهم؛ لأن الاشتراك في الاسم وجه من أوجه التشبيه في الاصطلاح، ولا يوجد في الاصطلاح أن الاشتراك في الاسم وجه من أوجه النقص، فإن هذا ليس اصطلاحاً، ولا حكماً عقلياً مطرداً؛ لا حكماً عقلياً نظرياً اصطلاحياً، ولا حكماً عقلياً بسيطاً مضبوطاً بكليات العقول أو ما إلى ذلك.

حكم إطلاق وصف (شيء) على الله تعالى

حكم إطلاق وصف (شيء) على الله تعالى وقوله: [وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام]. الإنكار الذي روي ونقل عن الجهم هو قدر من التعطيل الذي كان عليه، لكن من المعلوم أن وجوده سبحانه وتعالى، وقيامه بنفسه أمر معلوم عند سائر أهل القبلة؛ بل وعامة بني آدم, وهذا أصل معنى ربوبيته سبحانه وتعالى. لكن التعبير عنه سبحانه وتعالى بأنه (شيء) ليس من التعبير الفاضل؛ لأنه لو قيل -ولله المثل الأعلى- عن بني آدم: إن هذا شيء، كان هذا تعبيراً قاصراً؛ لأن هذا الوصف وصف كلي تشترك فيه جميع الأشياء، بخلاف إذا ما قيل: إنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وإنه العلي الأعلى، وإنه الأول والأخر والظاهر والباطن؛ فإن هذه هي الأسماء التي سمى الله سبحانه وتعالى بها نفسه. وحينما يقال: إن هذا الاسم ليس فاضلاً، ليس معناه أن ثمة تردداً في معناه المراد به على الوجه الصحيح، وإنما المقصود أنه حتى المعاني اللائقة به سبحانه وتعالى، فإنه يخبر بها فيما يتعلق به سبحانه وتعالى بالأسماء الشرعية، أو الأسماء التي تصححها الشريعة تصحيحاً مطلقاً وتمتدحها، وهي ما قد يسميه أهل العلم: بباب الإخبار عن الله تعالى.

ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم

ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم قال المصنف رحمه الله: [والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة؛ بل الوجود والثبوت والحقيقة، ونحو ذلك، تجب له لوازمها، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم, وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلاً]. لو تسلسل بحثهم, وقال أهل التأويل: إن الاشتراك في المسمى الكلي الذهني يلزم عليه إثبات اللوازم، فإن كل شيء من الحقائق يكون له لوازم، ومعلوم أن ثبوت هذا يكون موجباً لثبوت هذا، فيلزمكم أن تثبتوا اللوازم من المعنى الكلي. فيقال: إن اللوازم من المعنى الكلي تكون حقاً، فإن ما كان حقاً يلزمه حق، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا معنىً كلي، وإن لازمه من باب الخصائص والإضافات, فإن هذا تناقض؛ لأنه إذا كان الملزوم كلياً؛ لزم أن يكون اللازم كلياً، إذا كان الملزوم ليس مختصاً إضافياً؛ لزم أن يكون اللازم كذلك, فإنه تبع له، وعليه فلا يكون هناك إشكال. فمن قال: إن من لازم المسمى الكلي ما هو من النقص المختص بالمخلوقين أو ما إلى ذلك، قيل: هذا ليس بلازم للمعنى الكلي، إنما هو لازم للمسمى الإضافي، والمسمى الإضافي ليس مثبتاً عند أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله: [بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق، من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه]. وهذا مما يعترض به بعض النظار من أهل التأويل، فيقولون: إن المسمى الكلي يلزم له لوازم -كقاعدة- فإثباته يستلزم إثبات لوازمه، ثم إذا قيل لهم: ما هي لوازمه؟ فسروا اللوازم بما هو من مقام الخصائص والإضافة، فيقال: هذا غلط من جهة العقل نفسه، فإن ما كان كلياً؛ لزم أن يكون لازمه كلياً، وما كان مختصاً؛ لزم أن يكون لازمه مختصاً.

غلط المتكلمين في مسألة اللازم والملزوم

غلط المتكلمين في مسألة اللازم والملزوم قال المصنف رحمه الله: [وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام]. قوله: (زالت عنه عامة الشبهات)؛ لأن هذه القاعدة -وهي أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات- قاعدة عقلية ضرورية الثبوت، فإذا كان ذلك بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ بل إن الأمر بين الخالق والمخلوق يكون ممتنعاً. فما دام أن هذه قاعدة ثابتة في الشريعة، وثابتة في العقل الكلي المجرد، المبني على الحقائق الكلية المجردة الضرورية، وعلى الاطراد الحسي والدليل العقلي، فلماذا اشتبه الأمر على عامة الأذكياء من النظار والمتكلمين؟ الجواب: إن الذي دخل على عامة الأذكياء من النظار هو في مسألة التلازم، فإنهم في أول مقام يستشكلون مسألة الاسم، ثم ورد عليهم المقام الثاني وهو مسألة المسمى الكلي، فاقتضى مقام النظر الأول أنهم لا يستشكلونه، ولكن دخل عليهم وهمٌ من هنا، وهو أنهم قطعوا -وقطعهم صحيح من حيث الأصل- بأن ثبوت المعنى الكلي يستلزم إثبات لوازمه، وهذا المعنى من حيث الإطلاق يسلم به، كضرورة عقلية؛ أن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم. فلما وصلوا إلى هذا المقام من الحكم العقلي الضروري، أخطئوا في تفسيره، فذهبوا لا يعينون اللوازم إلا بالخصائص، فكأن المصنف يقول هنا: إنهم ظنوا أن اللوازم لا تكون إلا مختصة، فلم يفرقوا بين لازم كلي ولازم مختص؛ بل جعلوا اللوازم في موردها الأول وموردها الثاني لا تكون إلا مختصة، ومن هنا نفوا المعنى الكلي من جهة لازمه؛ لأنه لزم عندهم تحته لازم مختص ينزه الله عنه. وإن كان كلامهم صحيحاً، وهو أن هذا اللازم المختص ينفى عن الله؛ لكن نفيه لا يوجب نفي الملزوم الكلي؛ لأن هذا اللازم المختص إنما هو تبع للملزوم المختص، وليس للملزوم الكلي. إذاً: هذا المورد الذي يشير المصنف إليه في قوله: (وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً)، وهو مسألة اللزوم، هو مكان الإشكال، فإنهم رتبوا على المعنى الكلي لازماً كضرورة عقلية، أو أن الملزوم يقتضي لازماً بحكم العقل، وهذا صحيح كقاعدة عقلية، ولكنهم لم يفهموا اللوازم إلا مختصة معينة، فلما جعلوا اللوازم مختصة إضافية معينة على المعنى الكلي؛ لزم من ذلك عندهم النفي للمعنى الكلي، وهذا هو وجه الغلط. والقاعدة العقلية تقول: إن اللازم تابع للملزوم، فإذا كان الملزوم كلياً لزم أن يكون اللازم كلياً، وإذا كان مختصاً لزم أن يكون مختصاً.

معنى القدر المشترك بين الأشياء

معنى القدر المشترك بين الأشياء قال المصنف رحمه الله: [وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله]. قوله: (لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه): أي: في معنىً إضافي مختص، فإن قيل: هل المعنى الكلي هو الذي يقال، ويفرق بينه وبين المعنى الإضافي؟ قيل: المعنى الكلي لا وجود له في الخارج، ولهذا لو قالوا: هل المعنى الكلي لائق بالله أم لائق بالمخلوق؟ قيل: إيراد هذا السؤال بهذه الصورة لا يكون محكماً من جهة العقليات؛ لأنه حينما يقال: إما أن يكون لائقاً بالله، وإما أن يكون لائقاً بالمخلوق, فإن كان لائقاً بالله امتنع في حق المخلوق، وإن كان لائقاً بالمخلوق امتنع في حق الخالق, فيكون هذا من باب التشبيه. فيقال إذاً: إن هذا من باب الفروضات الذهنية، فإذا دخلنا في مسائل الإضافات، امتنع الإطلاق الكلي في الذهن، فإذا قيل: هذا المعنى هل هو لائق بالله أم بالمخلوق؟ قيل: هو معنى كلي. وأما المعنى المختص بالخالق فلا شك أنه يختلف عن المعنى المختص بالمخلوق، وأما المعنى الكلي فإنه ليس مضافاً إلى الخالق بحيث يختص به ويكون ممنوعاً على مخلوقه، وليس مختصاً بالمخلوق فيكون مختصاً به ولا يليق بالله؛ بل هو معنى كلي مشترك.

عدم فهم هذا المعنى يوقع في الغلط والتناقض

عدم فهم هذا المعنى يوقع في الغلط والتناقض قال المصنف رحمه الله: [ولما كان الأمر كذلك، كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارةً يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذراً من ملزومات التشبيه، وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة]. وهذا هو مقام الاضطراب بين هؤلاء وهؤلاء.

أمثلة على تناقض النفاة واضطرابهم

أمثلة على تناقض النفاة واضطرابهم

المثال الأول: وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟

المثال الأول: وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟ قال رحمه الله: [ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟] ولا شك أن هذه الجمل وهذه السؤالات لم يبتدئها أئمة السنة، فإذا قيل: كيف تقرر هذه الجمل في الاعتقاد؟ قيل: هذا ليس من باب التقرير الأول، فإن هذه الجمل -كمسألة الذات، والماهية، وهل هي زائدة أو ليست زائدة- هذه السؤالات لم تكن واردة في الأصل؛ لأن الحقائق السابقة المرادة هنا حقائق بينة، قائمة في الفطر، وقائمة في العقول, وإذا عبر عنها أمكن أن يعبر بألفاظ مختلفة. فالقول بأنه سبحانه وتعالى هو رب العالمين، الموصوف بصفات الكمال، هذه كلمات محكمة، بخلاف هذه الكلمات التي يعبر بها من يعبر بها من المتكلمين. ومسألة الزيادة على الذات أو عدم الزيادة على الذات، لا شك أنه استدعاء استدعاه المتكلمون، ولكن لما كثر استدعاؤه عندهم، وكان موجباً لغلطهم إما بالإفراط أو بالتفريط؛ كان لا بد من دفع هذا الغلط، وبيان الحق لهم ولغيرهم من المسلمين الذين قد يكون عندهم شيء من التأثر بهم.

المثال الثاني: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك؟

المثال الثاني: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك؟ قال رحمه الله: [وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك؟] الاشتراك اللفظي: هو أن يكون الاشتراك في الاسم اللفظي وحده، دون أن يكون هناك قدر من المعنى المشترك، وأما التشكيك -بمعنى أنه يشكك السامع له- فإنه يدخل في التواطؤ على التحقيق، وإن كان بعض المصطلحين يجعله ثالثاً، فهذا باب من الاصطلاح ليس إلا. والفرق بين التواطؤ وبين التشكيك: أن التواطؤ يكون المعنى المشترك نسبته واحدة؛ بخلاف التشكيك؛ فإن النسبة تكون متفاضلة، فإذا كانت النسبة متفاضلة، سماه المصطلحون من باب التشكيك، وإذا كانت النسبة واحدة سموه متواطئاً, وإذا كانت النسبة ليست موجودةً سموه: مشتركاً لفظياً. وهذا كله اصطلاح, ولك أن تقول: إنه كلام لا معنى له؛ لأن هذه الأشياء أصلاً هي موجودة في أذهان الناس، ولا تحتاج أن يصطلح عليها بهذا الاصطلاح المدقق المعين، ولذلك يقول ابن تيمية عن المنطق: "إنه لا يحتاجه الذكي، ولا ينتفع به البليد"، وهذه الاصطلاحات كذلك، فإنه يمكن أن تسمى بجملة من الأسماء، فمسألة أن يقال: هذا تواطؤ وهذا تشكيك، هي مصطلحات، وليس معنى ذلك أن فقه باب الاعتقاد، أو فقه أسماء الشريعة، أو فقه أصول الفقه لا يكون إلا من هذه المشكاة، فإن هذا كلام لا معنى له، وهو كما قال ابن تيمية عن المنطق: " إنه لحم جمل غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل"، فلا يفهم فاهم، ولا يظن ظان أن فقه ما يتعلق بصفات الله، أو ما يتعلق بأسماء الشريعة وفقهها وفروعها لا يكون إلا من هذه المشكاة، وأن من لم يفقه حد المتواطئ وحد التشكيك وحد الترادف، والفرق بين المشكك وبين المتواطئ، وبين المشترك اللفظي وغير اللفظي، والجنس، والخاص، والفصل القريب، وما إلى ذلك من أسماء المنطق -أن من لم يفقه هذا لا يكون أصولياً يعرف أصول الشريعة، ويعرف قواعدها. وهذا ليس معناه الإبطال لهذا الباب، لكن الإبطال لهذه الأسماء، وأن هذه الأسماء والحدود هي أسماء جائزة موجودة، لكن لا يلزم أن الحقائق لا تعرف إلا من مشكاتها وحدودها. ولما بالغ وغلا من غلا في مسألة المنطق، ركبوا صعباً، ولم يحصلوا فقهاً صحيحاً, وهناك فرق بشكل بدهي بين المنطق وبين علم أصول الفقه، ولكن بعض الأصوليين يجعل للأصول مقدمة منطقية، أو يبني كثيراً من معانيه على المصطلح المنطقي. ومن الذين بالغوا في علم المنطق مثلاً: أبو محمد ابن حزم، فقد امتدح المنطق مدحاً صارماً؛ بل إنه يقول: "إن أرسطو كان نعمة من الله على خلقه لما وضع هذا المنطق ورتبه"، ويقول ابن حزم: "إننا نتقرب إلى الله بتقريب هذا المنطق إلى العامة"، وإذا قيل: إن المنطق هو الأسماء، فإن هذا حقيقة باطلة؛ لأن المنطق هو العقليات، فإذا جعل المنطق له اصطلاح، قيل: إن من الممكن منازعة شخص لا يتكلم العربية، والحقائق عندهم واحدة، ويكون موجب الاختلاف أوجه أخرى. إذاً: هذا الاصطلاح هو اصطلاح داخل لغة واحدة، هذا إذا سلم أن المصطلحات مصطلحات عربية فصيحة، فلو كانت مصطلحات عربية فصيحة، لقلنا: إنه اصطلاح داخل لغة. فالمنطق إذا ما فسر بالاصطلاح قيل: لكل أحد أن يصطلح بمصطلح، وإذا ما فسر المنطق بالحقائق، فإن الحقائق موجودة عند بني آدم، والوجه الذي قد يكون حسناً في المنطق -حتى يكون الكلام معتدلاً مقتصداً- هو أن بعض الطرق المنطقية تكون منظمة للجدول العقلي الذهني، فإذا ما فسر المنطق بأنه نوع من التنظيم فيما كان صحيحاً؛ فإن هذا كلام صحيح. أما إذا فسر بأنه نوع من التأويل، فالحق أنه ليس تأويلاً؛ لأن الحقائق قائمة في نفوس الناس بأي اسم عبروا بها، وأما أنه نوع من التنظيم فهذا صحيح، ولذلك قال ابن تيمية: "لا يحتاجه الذكي"؛ لأن الذكي يستطيع أن ينظم بأكثر من طريقة، "ولا ينتفع به البليد"؛ لأن البليد به يعرف التعيين لكن لا يعرف التنظيم. فمثلاً: إذا تلكم متكلم بنظام عقلي منطقي معين، فإن السامع يصدق هذا الكلام، ويعتبره من الأشياء البينة، لكن هل يستطيع أن ينظم هذا التعيين على هذا التقرير الذي قرره هذا المعين؟ الجواب: لا يلزم ذلك. ولذلك يقول ابن تيمية: إن الأصل في بني آدم أنه تقوم في نفوسهم من المعارف والعلوم ما لا يستطيعون أن يعبروا عنه من جنس هذا التعبير، وهو التعبير المنطقي، ولذلك فإن المتفلسفة عندما صرفوا أنظار العالم حقيقةً ليس ذلك من باب أنهم يعينون حقائق؛ بل غلطهم في الحقائق أكثر من صوابهم، ولكن الذي جعل الكثير ينصرف إليهم، ويكون معجباً بهم، حتى عندما دخلت على المسلمين تأثر بها من تأثر، هو أن هؤلاء عندهم نوع من التنظيم للمعارف، سواء قيل: إنها صادقة، أو قيل: إنها غلط. إذاً: هذا باب ينبغي أن يكون مقتصداً فيه، حتى لا يظن أو يفهم من هذا النقد للمنطق إهداره جملة؛ بل إن من يقرأ المنطق ليتعلم طرق التنظيم، وطرق التحصيل بمسائل الحجج وما إلى ذلك، فإن هذا وجه حسن، لكن من يقرأ المنطق، ويظن أنه يعين به الحقائق، أو أن الحقائق الشرعية والعلمية لا تعين إلا من مشكاته؛ فهذا غلط. وهذا هو الوسط في علم المنطق بين من غلا في شأنه، وبين من حرمه وسفهه من كل وجه.

المثال الثالث: هل المعدوم شيء أم لا؟

المثال الثالث: هل المعدوم شيء أم لا؟ قال المصنف رحمه الله: [كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟] هذه كلها سؤالات مجملة، والإشكال: أن هذه السؤالات المجملة المبنية على اصطلاح دخله الاشتراط، قد جعلها البعض هي المحصل، فإذا حصل جواباً عن هذا السؤال، ربما جعل هذا الجواب موجباً لحكمه على قاعدة ضرورية من قواعد العقل والفطرة، وربما خالف ما هو فطريٌ عقلي ضروري من باب التزامه لجوابه عن هذا السؤال أو ذاك. فمثلاً: هل المعدوم شيء؟ نجد أنهم التزموا نتيجة لهذا الجواب الذي رتبوه بطريقة محصلة في علوم الفلسفة، وبعض من التزم بهذا الجواب التزم له لوازم غالية، ولذلك فإن ابن عربي بنى ما عرف في فلسفته بوحدة الوجود على مقدمات فلسفية؛ بل بناه في جملته على أحد هاتين المقدمتين. وهل المعدوم شيء؟ هذه الكلمة إذا أطلقت على بسائط العقول فإنه يقال: إن المعدوم ليس بشيء؛ لأن بسائط العقول الآدمية إذا ذكر الشيء عندها قصد به ما كان موجوداً، وأما قول من يقول: إن الشيء قد يفسر بالممكن، فيقال: هذا التفسير صحيح، ولكن يبقى أن هذا الاسم لا يكون على إطلاقه إلا حيث اقترن به التفسير. فالمقصود: أن هؤلاء ربما دخلوا على بعض هذه السؤالات فأجابوا عنها، والتزموا لهذا الجواب ما هو من اللوازم الغالية في البطلان، كبناء مسألة وحدة الوجود على مثل هذه المقدمات التي ليس لها شأن عند التحقيق؛ لا من جهة الحقائق العقلية، ولا من جهة الحقائق الشرعية من باب أولى.

تناقض النظار في هذه المقامات واضطرابهم

تناقض النظار في هذه المقامات واضطرابهم قال المصنف رحمه الله: [وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارةً يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير]. قوله: (فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين): وهذا لا عجب منه؛ لأن هذه الجمل وهذه السؤالات يدخل عليها اشتراك كثير، ولا سيما أنها جمل وكلمات مركبة، أي: أنها ليست من بسائط الجمل الدارجة في لسان العرب؛ بل إما أن تكون ليست من لسانهم، وإما أن تكون قد دخلها ترتيب لا يستطاع به أن تفهم فهماً عربياً على بسائط لغة العرب، فإذا كانت كذلك فهو يغلب عليها الاشتراك في المعنى، كما حصل الاشتراك في لفظها، فتجد أن بعض النظار يتناقضون، فربما صحح المعنى ونفى الآخر، وفي مقام آخر يكون على عكس ذلك.

الصواب في الماهية والوجود

الصواب في الماهية والوجود قال المصنف رحمه الله: [وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة، وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج]. قوله: (وبينا أن الصواب ...) لك أن تقول: إن هذا قاله في مسألة الوجود، أما المسائل الأخرى فقاعدة المصنف فيها: أن الصواب هو الاستفصال. وهذا كقاعدة عقلية مطردة أو عامة: (ما كان مشتركاً فإن من حسن الجواب فيه هو الاستفصال)، وهذا هو أحكم من جهة، وأبسط من جهة، فإذا أتيت إلى كلمة مشتركة، أو جملة مشتركة تحتمل أكثر من معنى، واستعملت معها التفصيل؛ كان هذا التفصيل أحكم من جهة ربط المعاني، وأبسط من جهة تحصيل الحقائق للسامع أو للمخاطب، وهذه القاعدة هي ما درج عليها المصنف في مناظراته، وهذا هو الذي يحرج المخالف الإحراج العلمي، بمعنى: أنه يقطع إشكاله واعتراضه. قال رحمه الله: [بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مغايرة للموجود في الخارج]. وذلك حتى يفرق بينها وبين الماهية المختصة، ولذلك فإن المصنف يقول: إنما نفي عن الله ما كان مختصاً، بخلاف ما كان مطلقاً، فإن هذا قدر مطلق لا يضاف إلى الخالق ولا إلى المخلوق؛ بل هو كلي في الذهن، والذهن لا يعينه بمعين مختص. قال رحمه الله: [وأن لفظ الوجود كلفظ الذات، والشيء، والماهية، والحقيقة، ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده أو متماثلاً]. سبق أن التشكيك هو أن تكون النسبة متفاضلة، والمتواطئ في اصطلاحهم: هو أن تكون النسبة متماثلة، فإذا تماثلت النسبة سموه: تواطئاً، وإذا تفاضلت النسبة سموه: تشكيكاً، وبعضهم يقول: إن كل هذا يسمى متواطئاً.

تعقيد علم الكلام للبسائط العقلية

تعقيد علم الكلام للبسائط العقلية من الإشكالات في علم الكلام: أنه عقَّد البسائط العقلية، بمعنى: أنه أصبح الإدراك لبسيطة من البسائط العقلية يحتاج إلى سلسلة من التنظيمات العقلية والاصطلاحية وما إلى ذلك، وفي الأخير يكتشف أن النتيجة سهلة ويسيرة، فإذا أرادوا -مثلاً- أن يثبتوا أن زيداً موجود، دخلوا في مسألة طويلة، وقالوا: إن الإنسان حيوان، وتقوم به صفة الحيوان، وهو حيوان ناطق، ثم يفسرون هذا الكلام، وفي الأخير يخلصون إلى أن زيداً موجود لأنه حيوان, والحيوان متصل بالحياة، والحياة تقود إلى الوجود وهكذا. ونجد في المنطق أن الإنسان حيوان ناطق، مع أنه لو قيل: الإنسان، لعرف مباشرة؛ لأن الإنسان هو الذي يستوعب نفسه، فهذا التعريف -وهو أن الإنسان حيوان ناطق- هل اكتشف بعض الخصائص في الإنسان لم يصل إليها العلم؟ وهل فصل نظام الروح في الإنسان؟ وهل فسر كل حقيقة الحياة في الإنسان؟ وهل ذكر علاقة الروح بالجسد؟ وما إلى ذلك، فهل أفاد هذا التعريف هذه المعاني الدقيقة المعتاصة على إدراك الإنسان نفسه؟ الجواب: لا. بل لم يفد إلا أن الإنسان شيء يتكلم. إذاً: فهم أحياناً يعقدون القضية، مع أنها من الواضحات. وعلى كل حال: فإن كتب المنطق وكتب علم الكلام لا فائدة فيها في الجملة إلا -كما سبق- أنها نظمت معلومة، ولا سيما في علوم آلات المنطق، وقد تقوى بها بعض الناس على الفك والربط والجدل والمناظرة، وإن كان هذا غير داعٍ إلى قراءتها، لكن من اشتغل بها فإنه ربما استفاد هذا الوجه، فتجد مناظرة الماتريدية مثلاً للمعتزلة فيها مثل هذا الفوائد من هذا الوجه.

الأصل الذي بنى عليه ابن عربي قوله بوحدة الوجود

الأصل الذي بنى عليه ابن عربي قوله بوحدة الوجود قال المصنف رحمه الله: [وبينا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن، لا في الخارج, فلا فرق بين الثبوت والوجود]. وهذا من باب مما يقوله ابن عربي، فقد بنى فلسفته في وحدة الوجود على مسألة المعدوم، وهل هو شيء أم ليس بشيء؟ وعلى مسألة: هل يفرق بين الثبوت والوجود أم لا يفرق؟ فعلى جوابه عن هاتين المقدمتين بنى قوله في مسألة وحدة الوجود، وهي نظرية فلسفية، وليس المقصود هنا أن نجيب عنها، إنما المقصود أن يقال: إنها لم تنشأ من سلوك فاضل عند ابن عربي، فإنه وإن كان متصوفاً وله سلوك معروف على طريقته، إلا أن هذه لم تنشأ عنده عن حال من التعبد الخاص، وإن كان الرجل له اشتغال بمقام من التنسك على طريقته، وهي طريقة غير مناسبة للطريقة الشرعية، فالرجل صوفي، وأيضاً متفلسف، وليس بالضرورة أن كل الصوفية متفلسفة، فإن جمهور الصوفية ليس متفلسفاً؛ بل من الصوفية من هم مقتصدون، ومنهم من هو من أهل السنة والجماعة، وهو لم يسمِ نفسه صوفياً، وإنما سماه بعض الناس صوفياً، وذلك كالفضيل كـ الفضيل بن عياض، وسهل بن عبد الله التستري، فهؤلاء لم يكونوا يسمون أنفسهم صوفية، إنما سماهم الناس صوفية، وبعضهم قد يسمي نفسه صوفياً، وينتسب إلى طريقة التصوف، لكن تكون حاله في الجملة مقاربة للسنة والجماعة، فهو ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، وإن كان يوصف بالبدعة والتصوف من وجه آخر. ولذلك فإن ابن تيمية يقسم الصوفية فيقول: صوفية المتفلسفة، وصوفية المتكلمين، وصوفية أصحاب السنة والحديث. وهذا من باب التفصيل؛ لأن الإطلاق على الصوفية بحكم واحد لا يكون عدلاً في الجملة.

الفرق بين الوجود العيني والوجود العلمي

الفرق بين الوجود العيني والوجود العلمي قال المصنف رحمه الله: [لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العيني ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به]. أي أن ثمة فرقاً بين الوجود العيني والوجود العلمي (المطلق)، بين الوجود المطلق في الذهن، وبين الوجود المعين في الخارج، وهذه كلها من بدهيات الإدراك، ولذلك فإن من خالفها من متقدمي المتفلسفة -كـ أفلاطون الذي تكلم في مسألة الكليات المجردة القائمة في الخارج- فإنه هو الذي تكون مخالفته ممتنعة من جهة العقل والتحصيل، وذلك عندما قال: إن ثمة كليات موجودة في الخارج، وهذا ممتنع، فلا يوجد في الخارج إلا ما هو معين، فمثلاً: لا يوجد في الخارج إنسان كلي، إنما يوجد في الخارج الإنسان على معنى زيد وعمرو، وما إلى ذلك من أعداد بني آدم. قال رحمه الله: [وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه بذلك وتختلف به. وأما هذه الجمل المختصرة، فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها علم قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال]. من أحسن ما يراجع في هذا كتاب: درء تعارض العقل والنقل، وبغية المرتاب، والصفدية، وكتاب منهاج السنة، ففيه اصطلاحات وأبحاث في بعض الموارد مناسبة لهذا المقام. فهذه الكتب الأربعة في الجملة أن كلام المصنف يكون مجموعاً فيها. قال رحمه الله: [والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب، وينزه عنه -كما يفعله الكثير من المصنفين- خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة]. وهذا من باب الاحتجاج، وهناك فرق بين أن تقول: الاعتماد في النفي على مجرد نفي التشبيه، وبين أن تقول: إن التشبيه منفي، والمصنف لا يريد أن يقول: إن التشبيه مثبت، وليس منفياً، إنما يقول: إن الاعتماد (الاعتماد بالحجة) على مجرد نفي التشبيه ليس محكماً، ومعنى قوله: (على مجرد نفي التشبيه) أي: هذا الاسم بإطلاقه، أما إذا ذكر مفصلاً، أو مقترناً بما يفسره، وما إلى ذلك؛ فإن هذا يكون وجهاً آخر ليس على ما ذكر المصنف، إنما الذي يمنعه، ويقول بأنه ليس محكماً من جهة الحجج: هو الاعتماد على مجرد نفي التشبيه في مقام الاحتجاج.

شرح القواعد السبع من التدمرية [20]

شرح القواعد السبع من التدمرية [20] هناك ضوابط في باب الصفات لابد من مراعاتها في مقام الإثبات، وفي مقام الرد على نفاة الصفات، من تلك الضوابط: أن الاحتجاج على نفي النقائص عن الله تعالى بنفي التجسيم أو التحيز لا يفيد شيئاً؛ ولا يحصل به المقصود، ومنها: أن الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه خطأ، وكذلك الاعتماد في النفي على عدم مجيء السمع خطأ أيضاً، والصواب في ذلك كله هو إثبات لله تعالى ما كان كمالاً لائقاً به سبحانه مع الدليل عليه، وتنزيهه سبحانه عن كل ما ضاد الكمال اللائق به سبحانه وتعالى.

الاحتجاج على نفي النقائص بنفي التجسيم أو التحيز لا يحصل به المقصود

الاحتجاج على نفي النقائص بنفي التجسيم أو التحيز لا يحصل به المقصود قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله. فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم أو التحيز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع]. قوله: (فإن كثيراً من الناس): أي: كثيراً من المتكلمين، الذين بنوا هذا الباب على مسألة نفي التشبيه والتجسيم، حتى إنه من ضيق حالهم إذا أرادوا أن يردوا على من قال: إن الله بكى ممن كفر به سبحانه وتعالى، فإنهم يقولون: إنه لا يوصف بالحزن والبكاء؛ لأن هذا يستلزم التجسيم والتشبيه، فيقول المصنف: إن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن هذا لا ينبغي أن يعبر عنه من هذه المشكاة؛ لأن هناك من الألفاظ والمعاني والمدارك ما هو أكثر بياناً وأكثر تحقيقاً للامتناع، وهو النقص الذي وصف بعض الواصفين -ممن كفر بالله سبحانه وتعالى- به الخالق، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! فمن نفى النقص لأن الله منزه عن التجسيم، يقال له: أرأيت لو غلبك مغالب، وجوز التجسيم جدلاً، فإن حجتك تنقطع، فمن يجعل مبنى إبطال هذا الكلام من الكفار أو من قوم من الكفار على أن الله منزه عن التجسيم، فيقال له: فيلزم عندك أن من جوز التجسيم، أو إطلاق التجسيم كما هو شأن ابن كرام -وإن كان ابن كرام لا يقول: إن الله جسم كالأجسام، بل يقول: إنه جسم لا كالأجسام، ويجعل كلمة (جسم) من جنس (سمع) أو (بصر)، من حيث الاشتراك- فيلزم أن لا يفهم أن ابن كرام ممثل لله بخلقه التمثيل المطرد المطلق. قال رحمه الله: [وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوه]. قوله: (لا يحصل بها المقصود)؛ لأنها قد تنقل، وقد يغلب غالب، كما فعل ابن كرام؛ لأنه غالب المتكلمين -وليس المراد أنه انتصر بحجة صحيحة- ولكن المقصود أنه غالبهم فقال: لا بأس أن يقال: إن الله جسم، لكن نقول: لا كالأجسام.

الوجه الأول: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص أشد فسادا من نفي التحيز والتجسيم

الوجه الأول: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص أشد فساداً من نفي التحيز والتجسيم قال المصنف رحمه الله: [أحدها: أن وصف الله تعالى بهذا النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرِّف للمدلول، ومبين له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى؛ كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود]. قوله: (أظهر فساداً من نفي التحيز والتجسيم)؛ لأن كلمة (التحيز) و (التجسيم)، كلمات فيها اشتراك وإجمال، وربما أن بعض العامة لا يستطيع أن يفهم ما المقصود بالتحيز أصلاً إلا إذا فسر له ببسائط من المعاني. وهؤلاء كما يقال: (صنعوا زحمة في التاريخ!!)، وإلا فما كانت هذه المسائل تحتاج إلى كل هذا الكلام، فإن مسائل الصفات -كما سبق كثيراً- مسائل كانت واضحة للمسلمين في زمن النبوة؛ بل وحتى المشركين الذين كانوا يسمعون القرآن ولم يصدقوا به لم يكونوا يستعملون من طرق عدم التصديق أن فيه ذكراً لهذه الصفات والأفعال، لكن لما دخل هذا العلم (علم الكلام) وهو علم -كما أسلفت كثيراً- مبني على مقدمات فلسفية، أو مرتب من جملة مواد فسلفية، فلما دخل جاءت هذه الإشكالات، وهذه الفرضيات، وهذا التناقض بين أصحابه، ولذلك فإن المتكلمين لم يتفقوا على حكم واحد في باب الصفات؛ بل منهم من نفى الصفات، ومنهم من نفى بعضاً وأثبت بعضاً, ومنهم من أثبت الصفات وأثبت التجسيم، فإن الكرامية متكلمة، ومحمد بن كرام متكلم، وكذلك المعتزلة متكلمة، والكلابية والماتريدية وأمثالهم من متكلمة الصفاتية متكلمة؛ فتبين بذلك أن علم الكلام يستلزم التناقض، وأصحابه قد حصلوا به نتيجة مختلفة متناقضة.

الوجه الثاني: أنه يمكن من يصفون الله بالنقائص أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز

الوجه الثاني: أنه يمكن من يصفون الله بالنقائص أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز قال المصنف رحمه الله: [الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال]. قوله: (أن هؤلاء الذين يصفونه) المقصود بهم: الكفار، وليسوا من المتكلمين. فيقول المصنف: إنهم قد يقولون: إذا انتهى الإشكال في مسألة التجسيم، فإن هذه صفات تجوز مع نفي التجسيم، كما أن المثبتة من أهل السنة قالوا: إنه تثبت صفات الكمال مع نفي التجسيم، وحتى بعض المتكلمين أثبتوا جملة من الصفات -كالصفات العقلية عند متكلمة الصفاتية- مع نفي التجسيم، وهذه الحجة ليست بلازمة على هذا الاطراد؛ لا عند المتكلمين، ولا عند أهل السنة. قال رحمه الله: [فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحداً، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد]. أي: أنه يلزم أن يكون الطريق إلى تكذيب الباطل أو نفي ما هو حق طريقاً واحداً، وهذا غاية التناقض والفساد.

الوجه الثالث: أن المعتمدين على نفي التجسيم ينفون عن الله صفات الكمال بهذه الطريقة

الوجه الثالث: أن المعتمدين على نفي التجسيم ينفون عن الله صفات الكمال بهذه الطريقة قال المصنف رحمه الله: [الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة]. وهذا من الأدلة على فساد هذه الطريقة: أن هؤلاء الذين يردون على هؤلاء القوم من الكفار بحجة نفي التجسيم قد نفوا صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، فإذا ما أبطل نفيهم لصفات الكمال؛ فإنه يلزم أن بطلان الدليل يستلزم الاطراد، فإنه إذا بطل في مقام، نظر في المقام الآخر لما كان المناط واحداً. وهذا لا شك أنه غاية في الامتناع، وغاية في التناقض.

الوجه الرابع: أن أصحاب هذه الطريقة متناقضون

الوجه الرابع: أن أصحاب هذه الطريقة متناقضون قال المصنف رحمه الله: [الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي، فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع البصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً. قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حي عليم قدير, وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن]. فلذلك لا بد من التمييز بين هذا وهذا، والتمييز على هذا الاصطلاح عندهم ممتنع، فتكون النتيجة: أن قولهم يكون فاسداً، والموجب لفساده: أنهم متناقضون، ومعلوم أن الأقوال إذا دخلها التناقض فإن هذا غاية في فسادها العقلي؛ لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين. قال رحمه الله: [وقالوا لهم: أنتم أثبتم حياً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل]. ومعنى ذلك: أنهم يقولون -أي: نقاة الصفات-: إن من كان حياً بحياة، سميعاً بصيراً بسمع وبصر؛ لزم أن يكون جسماً موجوداً، فيلزم النفي، ويقولون: من كان حياً بلا حياة، سميعاً بصيراً بلا سمع ولا بصر؛ لزم أن يكون شيئاً معدوماً؛ لأن ما يسمى كذلك ولم تقم الحقائق بذاته، فإن هذا لا يكون إلا شيئاً يتخيله الذهن. قال المصنف رحمه الله: [ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك -إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم؛ لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم. قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا، فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم، فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين]. هؤلاء الذين يثبتون الرضى والغضب هم أهل السنة والجماعة، فإنه يحصل منازعة بينهم وبين متكلمة الصفاتية الذين ينازعون في هذه الصفات، أي: الذين ينفون الرضى والغضب ونحوها، ومما ينبه إليه: أن ابن كلاب كان يثبت الغضب والرضى والمحبة كما يثبت الإرادة، لكنه لا يفسر الرضى والمحبة والغضب بالإرادة، بل يجعلها صفات واحدة، كما أنه يجعل الكلام واحداً. أما الذين فسروا المحبة بالرضى، والرضى بالإرادة، فهم: الأشعري والمتقدمون من أصحابه؛ بل وعامة أصحابهم.

طريقة السلف والأئمة عدم الخوض في الجسم والجوهر والتحيز

طريقة السلف والأئمة عدم الخوض في الجسم والجوهر والتحيز قال المصنف رحمه الله: [ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً؛ لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد في حق الله تعالى بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً]. كما قال أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة: "وأجمعوا على أن الله ليس بجسم"، وهذا الإطلاق اللفظي من كلامه ليس محكماً، وليس معنى هذا: أنهم يقولون بأنه جسم؛ بل يقال: إن هذا اللفظ لم يتكلم به السلف، لا نفياً ولا إثباتاً، وإنما الذي تكلموا به أن الله موصوف بالكمال منزه عن النقص، وأما الألفاظ المجملة الحادثة المخترعة، فليس من المحكم عقلاً وشرعاً أن يتكلم بها إطلاقاً؛ سواء في الإثبات أو في النفي. قال رحمه الله: [ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة، لا تحق حقاً، ولا تبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع؛ بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة]. أي أن الإبطال للآلهة المعبودة من دون الله -كما حصل في أصحاب العجل- لم يكن لأن الصفات قامت به، ولا يوصف بهذه الصفات إلا جسم مركب إلخ؛ بل كان الإبطال في المقام الثاني، وهو لأنه لم يتصف بصفات الكمال؛ إذ قال الله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فعلم أن عدم ثبوت الصفات هو النقص.

خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه

خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه قال المصنف رحمه الله: [فصل: وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه؛ إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه]. ولذلك فإن من حكى عن أهل السنة وزعم أنهم يصفون الله تعالى بالصفات، ولكنهم يقولون: بلا تشبيه، كـ ابن الجوزي وبعض أصحابه، فإنهم يقولون: إنهم -أي: أهل السنة- يصفون الله بالنقائص ويقولون: بلا تشبيه؛ فإن هذا نوع من التحكم عليهم، وإن كان بعض الحنابلة قد غلطوا في الإثبات وزادوا فيه، فهذا مقام آخر، لكن المعتقد الذي كان عليه الأئمة رحمهم الله لم يكن بهذه الطريقة؛ بل إنهم يصفون الله بما يليق به، مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن من تحقيقهم أنهم إذا ذكروا ما وصف به نفسه قالوا: بلا تشبيه ولا تمثيل. مع أنه من حيث الاقتضاء العقلي الأول أن مجرد إثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى يعني أنه منزه عن النقص، وقد سبقت الإشارة إلى أن أدلة الإثبات تدل على الإثبات وتدل على التنزيه، كما أن أدلة التنزيه والتشريف له سبحانه وتعالى عن خلقه تدل على التنزيه، وتدل على لزوم ووجوب الإثبات. قال رحمه الله: [كما لو وصفه مفترٍ عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً!]. وهذا التفصيل لم يقل به أحد من أهل القبلة، وإنما ذكره من ذكره مضافاً إلى بعض المذاهب: إما أنه أضيف إلى مذهب أهل السنة من مخالفيهم، وزعموا أنهم يقولون بمثل هذا الكلام، وهذا كذب عليهم، أو أن بعض من رد من المتأخرين على بعض المجسمة -كالكرامية من الحنفية- ربما أضاف إليهم في رده أنهم يقولون بهذا، فإن هذا من مفهوم التجسيم عندهم، مع أنه إذا ذكرت الأقوال فلا بد أن تذكر على حقائقها، ويفرق بين ما كان من الأقوال حقيقة عند صاحبه وما كان لازماً له. فإن قال قائل: فإن الأئمة قد ذكروا في وصف مذاهب بعض أهل البدع ما كان لازماً لهم. قيل: ذكره هنا ينبغي أن يفقه على ما ذكر أنه من باب اللازم، فإن قيل: لماذا ذكروه وهو ليس من قولهم؟ قيل: ذكروه لكونه لازماً، ومعلوم أن اللازم إذا كان معلوم الفساد بديهة، عرف به أن القول في أصله معلوم الفساد، فإن الحكم على اللازم يلزم في ملزومه. فمثلاً: من أقوال مرجئة الفقهاء: أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ويقولون: إن الإيمان واحدٌ من كل وجه، لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، ويقولون: إن إيمان جبريل وأبي بكر كإيمان الفساق، فالجملة الثالثة - وهي قولهم أن إيمان جبريل وأبي بكر كإيمان الفساق- تسمى من باب اللوازم، وإلا فلا يوجد أحد من الفقهاء أو المرجئة أو عامة من يتكلم بهذا يقول بذلك، إنما هذا يقوله بعضهم في رده على حماد بن أبي سليمان وغيره. إذاً: لو أن أحداً من النظار بنى مسألة الإثبات على نفي التشبيه، فإنه يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: هو ما قرره المصنف، وهو أن الطرق الشرعية يمكن أن يستعمل فيها ما هو أفصح وأصدق من هذه المادة. الوجه الثاني: أن يقال: لو سلم أن هذا صحيح -مع أنه صحيح من وجه، وهو إذا كان مفسراً أو مقترناً- لأمكن أن يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه؛ ولكن هذا اللازم لا يلزم من قال: إن الإثبات مبني على نفي التشبيه لزوماً صادقاً، بمعنى: أنه حتى لو قال: إن باب الإثبات مبني على نفي التشبيه، فإن هذا يمكن أن يفسر على المعاني الصحيحة، وأما أن يقال: إن هذا يلزم منه أن يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه، فإنه يجاب عنه بأن وصفه بالأكل والشرب مع نفي التشبيه تناقض؛ إذ كيف يقال: إنه يوصف بالأكل والشرب، ثم يقال: مع نفي التشبيه؟! وهذا هو كقول القائل: يوصف بالأكل والشرب مع نفي ذلك عنه، فإن هذا تناقض، فكذلك إذا قال: يوصف بالأكل والشرب مع نفي التشبيه كان متناقضاً؛ لأن صفة الأكل والشرب هي وجه من أوجه التشبيه والنقص. ومما ينبه إليه: أنه لا ينبغي لأحد أن يستطرد فهمه في مسألة التشبيه ليظن أنها مسألة لا توجد قدراً من الصواب، إنما المصنف يسوقها على نوع من الاختصاص في التعبير، والاختصاص في المراد، فمن قرأها أو شرحها فلابد أن يفهم مراده في معناها، ولا بد أن يكون مدركاً لطريقة سياق كلامه وموجبه. قال رحمه الله: [فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات؟ فلابد من إثبات فرق في نفس الأمر]. وهذا من باب الإلزام في الحجة: أنه إذا نفى بعض الصفات وأثبت بعضاً على هذه المادة، فإنه يكون متناقضاً؛ لأنه لا فرق بينهما، ولا بد عليه أن يثبت الفرق وإلا كان متناقضاً.

خطأ الاعتماد في النفي على عدم مجيء السمع

خطأ الاعتماد في النفي على عدم مجيء السمع قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع. قيل له: أولاً: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن قد نفاه]. بين المصنف أن عدم الدليل السمعي حقيقته هو عدم الدليل المعين، وعدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول؛ لأنه يمكن أن يثبت بغيره، بمعنى: أنه لو سلم جدلاً أن الدليل السمعي دل على هذه وحدها، فإن عدم الدليل المعين ليس دليلاً على عدم الدليل من كل وجه، وهذا يقال لمثبتة الصفات الخبرية، كما يقال لمثبتة الصفات السبع، كما ذكر المصنف سابقاً فقال: (قولهم: إن الدليل على تخصيص هذه السبع في الإثبات هو العقل. يجاب عنه من وجوه، منها: أن عدم الدليل العقلي ليس علماً بعدم الدليل)، فإنه لو لم يدل العقل إلا على هذه وحدها -جدلاً- فإن: غيرها قد ثبت بدليل السمع. مع أنه معلوم أن الدليل السمعي لم يدل على هذه الصفات السبع، أو على الصفات التي تسمى بالصفات الخبرية وحدها، كالوجه واليدين؛ بل إنه قد دل على المحبة، والرضى، والغضب، وغيرها من الصفات التي يعلم أنها ذكرت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها. وأيضاً فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي، ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت]. المصنف هنا يعالج أصولاً للمذاهب، فإن من أثبت ما يسمى بالصفات الخبرية كالوجه واليدين، فإن هذا الإثبات لا شك أنه حق ويحمد لهم، لكن المصنف ينظر إلى الأصول التي يثبتون بها هذا الإثبات، فيقول: إن من يعلق إثباته للوجه واليدين ونحوها من الصفات الخبرية على حجة أن هذه ورد السمع بها، فلما ورد السمع بها تعذر عليه نفيها، فلزم أن يثبتها من غير تشبيه، فمن كان من هؤلاء لا يشهد فرقاً بين صفة اليدين وبين صفة الأكل والشرب، إلا أن صفة اليدين جاء بها السمع، وصفة الأكل والشرب لم يأت بها السمع من كان هذا هو مقام إثباته ونفيه فقد وقع في الغلط؛ لأنه يجوز في نفس الأمر أن تكون صفة الأكل والشرب مما أثبته السمع، ولذلك فلا علة لنفيها عنده إلا أن السمع لم يأتِ بها، ولا سيما أن هذا التعليل يأتي إذا ضاق عليه الأمر وسئل: بم أثبت صفة الوجه واليدين؟ قال: بالسمع، فكأن المسألة لا دخل لها بالكمال ولا بالنقص، والحقيقة أن صفة اليدين جاء بها السمع، لكنها صفة كمال، بخلاف صفة الأكل والشرب، فإنها لم يأتِ بها السمع، لكنها صفة نقص. ومعلوم أن تفصيل النفي لم ينطق به السمع في الجملة إلا في مقامات مختصة سبقت الإشارة إليها. إذاً: مراد المصنف رحمه الله أن المخالفين ينقسمون إلى قسمين: إما مخالف في أصل إثبات، بمعنى: أنه ينفي ما هو من الصفات، وإما قوم أثبتوا ما أثبتوه من الصفات، واشتركوا مع أئمة السنة في الإثبات؛ لكنك إذا راجعت أصولهم في الإثبات وأصولهم في النفي؛ وجدت أنها أصول مضطربة متناقضة، فهو يريد أن يعالج المسألة من جهتين: الجهة الأولى: جهة النفاة نفياً صريحاً، أو المخالفين مخالفة صريحة في الدلائل والمسائل. الجهة الثانية: هم القوم الذين يشاركون أهل السنة في جملة من النتائج، ولكنك إذا رجعت إلى المقدمات عندهم؛ وجدت أنها مقدمات ليست منضبطة. قال رحمه الله: [وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لا بد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافياً كان مخبراً عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟ فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم -علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه]. وهذا مقام عرض لبعض متكلمة الصفاتية، ولا سيما الذين غلب عليهم تعظيم السنة والأئمة، فإنهم لما كان بعضهم مائلاً إلى المعتزلة، ثم اشتغلوا بالرد عليهم لما ظهرت السنة، وانفكت بعض الممانعات التي كانت متبناة من قبل بعض السلاطين -صار هؤلاء يقصرون الإثبات على محض السمع، بمعنى: أن ما يثبتونه لا يكون إلا سمعياً من حيث الدلائل، أو من حيث المسائل، أو يقال: يجعلون المقدمة سمعية والنتيجة سمعية، ويجعلون هذا وجهاً فاضلاً في مفارقة المعتزلة، فإذا قيل لهم: فالوجه واليدين؟ قالوا: نثبتها خلافاً للمعتزلة، فالنتيجة أنهم أثبتوها بخلاف المعتزلة, فإذا قيل لهم: فما موجب إثباتها؟ قالوا: لأن السمع جاء بها. وهذا الكلام سياقه ليس فيه اطراد، فلا يفهم أحد اطراداً في هذا الكلام؛ لا في كلام المصنف، ولا في هذا الشرح. وهذا الكلام من حيث الجملة كلام صحيح، وهو قولهم: نثبت الوجه واليدين، هذا لا اعتراض عليه، فإن قيل: ما الدليل على إثباته؟ قالوا: السمع، وهذا الكلام أيضاً صحيح لا إشكال فيه. لكن فرق بين أن يأتي هذا السياق ضمن مفهوم صحيح من مسألة النفي والفرق بين النفي والمنفي، وبين أن يأتي على باب أن هذا نطق به السمع، وأن ثمة صفات أخرى لو نطق بها السمع لسلمنا بها. فإن قيل لهم: ما الفرق بين اليدين وبين الأكل والشرب ونحوها؟ لم يكن عندهم فرق إلا أن هذه جاء بها السمع، وهذه لم يأت بها السمع، وقد فات أصحاب هذه الطريقة أنهم لم يحققوا ويفقهوا حقائق الكمال اللائقة بالله سبحانه وتعالى، وحقائق النقص والعيب التي ينزه الله سبحانه وتعالى عنها، فهم يثبتون ما يثبتونه لا لكونهم فقهوا أنه كمال، وإنما لكون النص جاء به، وينفون ما ينفونه لا لكونهم فقهوا أنه ليس بكمال، أو أنه نقص ينزه الله عنه، وإنما لعدم مجيء النص به.

ينفى عن الله تعالى ما ضاد صفات الكمال

ينفى عن الله تعالى ما ضاد صفات الكمال قال المصنف رحمه الله: [فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجوداً بنفسه؛ بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه، وكل ما نافى غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حي قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه]. هذه طرق شرعية وطرق عقلية، فيقال: إن الأكل والشرب ينفى عن الله لا لعدم مجيء السمع به؛ بل لكونه نقصاً؛ ولذلك فهو منافٍ لحياة الله وقيوميته، ومنافٍ لكونه الأول الذي ليس قبله شيء, وهذا أصل شرعي في نفي الصفات التي لا تليق بالله تعالى. قال رحمه الله: [وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفء، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه]. ولذلك لم تصرح النصوص بتفصيل النفي؛ لأنه إذا ثبت أحد المتقابلين لزم نفي الآخر. قال رحمه الله: [فطرق العلم بما ينزه عنه الرب متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه]. لأن هذا يوجب الاضطراب والتناقض عندهم من جهة، ويوجب عدم التحقيق لمباني الإثبات والنفي من جهة أخرى، وإنما كان الأمر كذلك لأن هذا اللفظ (التشبيه والتجسيم) لفظ صار فيه إجمال واشتراك كثير، ولا سيما إذا حقق المتكلم من هذا الوجه المجرد مراده على طريقة غلط؛ كقولهم: إن الفرق بين هذا وهذا: أن هذا جاء به السمع، وهذا لم يأت به السمع، دون أن يفقهوا أن ما جاء به السمع فإنه يكون كمالاً، وما لم يأت به السمع فإنه يكون نقصاً، فإن تجويز النقص ولو لم يوصف به الباري -أي: فرض قبول إمكان الرب له- هو بحد ذاته نقص، فإن من قال مثلاً: إن الله لا يوصف بالأكل والشرب؛ لأنه لم يصف نفسه بذلك، وإن كان قابلاً أو يجوز عليه هذا الأمر؛ فإن هذا قد أتى باباً من أبواب التشبيه والنقص. قال رحمه الله: [وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال: موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا]. وهذا سبق بيانه، ولا حاجة إلى التعليق عليه هنا. وقوله: (فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا): كأن هذه الجملة تفسر ما أراده المصنف بهذه الطريقة التي استعملها فيما سبق من كلامه، لما واجه مصطلح التشبيه من هذا الوجه، ولكن يقال: إن مسألة التشبيه نطق بها أهل العلم، وكذلك المصنف نفسه في كتبه ورسائله، فقد نطقوا بأن الله منزه عن التشبيه، وهذه مسألة لا يجادل فيها أحد من حيث هي، لكن حينما تكون هي المبنى في الإثبات والنفي، ويقصر الإثبات والنفي على هذا المبنى وحده، ويفسر تفسيراً غلطاً، ثم يلتزم له بلوازم خاطئة، فيجعل الفرق بين الكمال والنقص: أن هذا نطق به السمع، وهذا لم ينطق به السمع؛ فهذا لا شك أنه هو المقصود عند المصنف في إبطاله لهذه المادة من هذا الوجه. ومعلوم أن الإبطال لطريقة الاعتماد على نفي التشبيه في الإثبات من وجه لا يلزم أن يكون إبطالاً لها من كل وجه، ولذلك إذا قيل: إن المصنف منع استعمالها هنا، فأيضاً نقول: إنه من المعلوم أن المصنف استعملها في مقام آخر، لكن ثمة فرق بين الوجه الذي منعه، والوجه الذي استعمله، وذلك عندما استعمل مادة التشبيه في مسائل التشبيه، أو في مسائل التقرير، أو في مسائل الرد. فهو يقرر أن ما أثبت لله سبحانه وتعالى يكون مثبتاً له مع تنزيهه عن التشبيه، أو أنه ينفي بعض التفسيرات لكونها وجهاً من التشبيه، وهو يجعل كل ما يثبت لله سبحانه وتعالى من باب الإثبات الذي لا يقارنه وجه من التشبيه والنقص، كما يجعل كل ما نفي عن الله سبحانه وتعالى فهو وجه من التشبيه والنقص.

النفي المجرد لا مدح فيه ولا كمال

النفي المجرد لا مدح فيه ولا كمال قال المصنف رحمه الله: [وقد تقدم أن ما يُنفى عنه سبحانه وتعالى -يُنفى لتضمن النفي الإثبات؛ إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحاً له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عن الرب سبحانه وتعالى]. فمثلاً: من قال: إنه لا يوصف بالأكل والشرب؛ لعدم ذكر السمع لذلك، فإن هذا -لو فرض جدلاً- من باب النفي المجرد، والنفي المجرد لا كمال فيه، بخلاف من قال: إنه لا يوصف بالأكل والشرب؛ لكون هذا منافياً لقيوميته وكماله، وما سواه من المعاني, فإن النفي بهذه الطريقة يتضمن أمراً ثبوتياً، ولما تضمن النفي في هذا المقام أمراً ثبوتياً؛ تبين أن وجه نفي هذه الصفات عنه هو لكونها منافية لكماله، وليس لأن السمع لم يأت بها، وإن كان يقال: إن كل ما نافى كماله فإنه يمتنع أن يأتي به السمع، وفرق بين أن يقال: إن السمع لم يأت به، وبين أن يقال: إنه يمتنع أن يأتي به السمع. فقول المصنف: إننا لا نعلل ذلك بأن السمع لم يأت به، ليس معناه أنه يفرض ذلك؛ بل معناه: أن هذه الصفات تنفى عنه لكونها منافية لغناه عما سواه، ولكونها منافية لقيوميته سبحانه وتعالى، وما نافى غناه عما سواه وكذلك قيوميته سبحانه وتعالى؛ امتنع أن يجيء به السمع.

تنزيه الله تعالى عن كل ما ضاد الكمال

تنزيه الله تعالى عن كل ما ضاد الكمال قال المصنف رحمه الله: [والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي، والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره]. فهذه المادة تنفى عنه سبحانه وتعالى -وإن كان المصنف لم يفصل نفيها- لأن العلم بنفيها علم واجب؛ فإنه لما استقر في العقل والشرع والفطرة أن الله سبحانه وتعالى غني عما سواه، فإن كل صفة تنافي غناه عما سواه؛ فإنه ينزه عنها، وذلك كصفة الأكل والشرب؛ فإنها تتضمن الاحتياج إلى المأكول والمشروب، وهذا شيء آخر، فيلزم من تجويزها هذا اللازم، بخلاف صفة اليدين؛ فإنها لا تتضمن أنه يحتاج إلى غيره، ولا تنافي غناه عما سواه؛ لأن اليدين ليست سواه؛ بل إنها صفة من صفاته، بخلاف المأكول والمشروب؛ فإنه لابد أن يكون سوى الله سبحانه وتعالى، فإذا قيل: إنه يأكل ويشرب -تعالى الله عن ذلك- علم أن هذا من باب النقص الممتنع عليه سبحانه وتعالى.

معنى الصمد

معنى الصمد قال المصنف رحمه الله: [كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته أو أفعاله .. فهو مفتقر إليه ليس مستغنياً بنفسه, فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب، ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكل ولا تشرب]. من معاني الصمد -كما قال ابن عباس وغيره-: (الصمد السيد)، ومن معانيه: أن الصمد هو المصمت، بمعنى: أنه ليس بأجوف، وقد ذكر المصنف أن الملائكة صُمُد؛ لأنهم لا يأكلون ولا يشربون، ولأن التجويف نوع من الافتقار إلى المادة التي يحتاجها هذا التجويف، ولذلك لما خلق الله آدم -كما في الصحيح- جعل إبليس يطوف به، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك.

تنزيه الله تعالى عن صفة الأكل والشرب لأنها صفة نقص

تنزيه الله تعالى عن صفة الأكل والشرب لأنها صفة نقص قال المصنف رحمه الله: [وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب. وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى]. من الأدلة على تقرير مسألة الربوبية لله وحده: أنه لما ألَّه أهل الكتاب عيسى بن مريم وأمه، قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] والدليل في هذه الآية على عدم ألوهيته وربوبيته: أنه يأكل الطعام، والإله الحق لا يأكل الطعام، وهذا من بسائط الاستدلال، وقال الله لأهل العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] وقال إبراهيم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] فعلم أن مادة الكمال من النتائج المهمة. والأنبياء والرسل كانوا يخاطبون قومهم، وهم مشركون كفار، ينازعون في مقام الربوبية -كانوا يخاطبونهم بمثل قول الله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فعلم بذلك أن ثمة استقراراً عقلياً عند المخاطبين أن عدم الكلام نقص، وأن الأكل والشرب نقص، وأن عدم السمع والبصر نقص، ولكن هذا الباب قد اضطرب على قوم من أهل القبلة، لما استعملوا ما استعملوه من الطرق الباطلة، وهي الطرق الفلسفية، التي ليس فيها تحقيق للحق ولا إبطال للباطل، ولا إبقاء لمدارك العقول على أصلها واستقرارها الأول. فإن قال قائل: فكيف كان هؤلاء المشركون أكثر استقراراً في هذا الباب؟ قيل: كانوا أكثر استقراراً في هذا الباب لأنهم لم يستعملوا طرقاً توجب إفساد المادة العقلية؛ فضلاً عن المادة الفطرية، بخلاف الطرق التي دخلت على قوم من المسلمين. وإن كان هؤلاء المسلمون -بلا شك- خيراً من أولئك من أهل الكتاب وغيرهم، فإن هؤلاء المسلمين الأصل فيهم الإسلام، وإن كانوا قد وقعوا في أخطاء؛ بخلاف أولئك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا يدينون بدين الإسلام، لكن الحقائق والمعاني قد يكون عند بعض الكفار بعض المعنى الصحيح الذي يفوت بعض المسلمين، ولا نقول: إنه يفوت المسلمين، ولا نقول: إنه ليس في الإسلام، فإن ما كان غلطاً امتنع أن يكون من الإسلام، وما كان غلطاً امتنع أن يكون عليه المسلمون. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) , فدل على أن مادة التشبه تدخل على المسلمين، فربما تشبه بعض المسلمين ببعض طرق قوم من غير المسلمين، ويكون هؤلاء الذين تُشُبه بهم من شر طوائف الكفر، ويوجد في الكفار من هو أقرب منهم إلى الحق، كما يوجد ذلك في كتاب الله، فإن الله لما ذكر أهل الكتاب بين أنهم أقرب إلى الحق في الجملة من عبدة الأوثان، ولما ذكر أهل الكتاب بين أن بعضهم أقرب إلى الحق من البعض الآخر. قال رحمه الله: [والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد، فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل؛ إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل]. هذا وجه من أوجه التفريق بين صفة اليدين وبين الأكل والشرب، وهناك وجه آخر أبسط منه، وهو يقود إلى هذا الوجه، وهو أن يقال: إن اليدين صفة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، فلا يرد عليها أنه محتاج إلى ما سواه؛ لأن ما كان صفة للموصوف كان داخلاً في اسم ذاته، أي: في حقيقة وماهية الذات.

تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد

تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد قال المصنف رحمه الله: [وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز الذي ينزه الله عنه، بخلاف الفرح والغضب، فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم؛ فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك]. لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أن بعض أهل الكتاب نسبوا إليه سبحانه وتعالى الولد، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ولكن القرآن الكريم لم يفصل كثيراً في الجواب عن هذه الفرية العظيمة، إنما أجاب عنها في كثير من الموارد إجمالاً, كقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92] وسياق (ما ينبغي) إذا جاء في القرآن فإنه يكون في الأمور الممتنعة، فهو من أخص موارد النفي: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92] أي: إن هذا أمر ممتنع في حقه؛ لأنه الرحمن، وهو الإله المعبود وحده، وهو الرب سبحانه، فما ينبغي له أن يتخذ ولداً. قال رحمه الله: [وأيضاً فقد ثبت في العقل ما أثبته السمع، من أنه سبحانه وتعالى لا كفء له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات]. ولهذا كانت طريقة من ضل من أهل الكتاب طريقة متناقضة، فإنهم إذا قالوا: إن عيسى ابن الله، وجعلوا له مقاماً من الإلهية؛ كان هذا من باب التناقض؛ لأن الإله لابد أن يكون قديماً؛ لأنه إذا كان مستحقاً للعبودية، فإنه استحقاقه للعبودية يطرد في سائر بني آدم، وإذا قالوا: إنه إله عند خلقه، أو عند وجوده، أو عنده تخلصه الروحاني، أو ما إلى ذلك من هذيانهم، فإنه يرد عليهم أنه قبل وجوده هل كان الإله الحق موجوداً أو ليس موجوداً؟ وإذا كان موجوداً فهل كان وجوده وجوداً كاملاً؟ وهم يسلمون بأن الإله الحق كان موجوداً، فهل كان وجوده وجوداً كاملاً أم ناقصاً؛ فإن كان وجوداً كاملاً في ألوهيته وربوبيته امتنع أن تدخله الزيادة، وإن كان وجوده الأول وجوداً ناقصاً؛ فإن هذا نفي للربوبية والألوهية؛ لأنه لا يوجد في معنى الربوبية والألوهية ربوبية أو ألوهية نسبية؛ بل إما ربوبية أو عدم ربوبية، وإما ألوهية -أي: استحقاق للعبادة- أو عدم ألوهية، وهذا من باب تقابل السلب والإيجاب، فإما أن يوجد هذا المعنى وإما أن ينفى. وهذه من طرق المناظرة مع أهل الكتاب الذين ظلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ومجادلتهم. فالمقصود: أن الطرق العقلية التي يسلكها الأئمة رحمهم الله هي أصدق الطرق؛ خلافاً لطرق مخالفيهم، وهي متضمنة في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ خلافاً لمن يقول: إن القرآن لم يذكر الدلائل العقلية، كما سيعلق على ذلك المصنف لاحقاً.

مباينة حقيقة الخالق لحقيقة المخلوقين

مباينة حقيقة الخالق لحقيقة المخلوقين قال المصنف رحمه الله: [فيعلم قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك؛ بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر]. وهذا هو معنى قول الحق سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولذلك فكل صفة لا يقبلها الله عز وجل، فإنها تكون مما ينزه الله سبحانه وتعالى عنها من جهة حقيقتها وماهيتها اللائقة بالمخلوق، وأما الاشتراك في اسمها، أو في المعنى الكلي والذهني، فهذا باب آخر. قال رحمه الله: [فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى, ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجود والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين. وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.]. قوله: (وهذا جمع بين النقيضين)؛ لأنه إذا ثبتت صفة عن جهة التماثل بين الخالق والمخلوق، فيلزم على ذلك عقلاً أحد وجهين: الوجه الأول: دخول مسألة الإمكان على الخالق، أي: عدم وجوب الوجود، أو عدم الربوبية. الوجه الثاني: دخول مادة من الربوبية على المخلوق. فمن أثبتها بطريقة تناسب الرب سبحانه وتعالى، فيلزم إذا جعل هذا من باب التماثل أن يكون المخلوق موصوفاً بما هو من مقام الربوبية، وإذا فسرها على معنى يناسب المخلوقين، وجعلها للخالق؛ لزم أن يكون الخالق متصفاً بصفات المخلوقين على جهة التشابه والتماثل في الخصائص والإضافات، وهذا إسقاط لمقام ربوبيته سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله: [وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم]. هذه هي الخاتمة للقاعدة السادسة، وقد بين فيها نوعاً من الاحتراز في كلامه، أي: أنه لا يفهم على غير وجهه ومراده، وبين أنه لم يقصد التنبيه إلى الطرق المفصلة، وإنما اشتغل بطريقة فيها إجمال، والطرق التي استعملت في هذا المقام ثلاث طرق: الطريقة الأولى: هي الطريقة الصحيحة المفصلة المحكمة؛ كمسألة: أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، وعن مماثلة غيره؛ فإن هذه طريقة محكمة عقلاً وشرعاً، ومحكمة بين المسلمين أجمعين. الطريقة الثانية: هي الطرق الباطلة، وهذه لم يتكلف المصنف كثيراً في هذا المقام بذكرها على التفصيل؛ لكون المقام لا يسع ذلك، ولكونها بينة البطلان. الطريقة الثالثة: وهي الطرق المجملة، كمسألة التشبيه والتجسيم، فإن هذه الطريقة قد استعملت في مقام الإثبات والنفي، وهي طريقة إذا كانت وحدها مجردة وصفت بأنها طريقة مجملة، وجمهور مادة هذا الإجمال الذي دخلها هو من المتكلمين أنفسهم، والدليل على ذلك: أن كل ما نفوه من الصفات التي أثبتها أهل السنة يجعلون الموجب لنفيها: أن إثباتها يستلزم التشبيه والتجسيم، فهي طريقة دخل فيها الإجمال، وإن كان جمهور هذا الإجمال إنما جاء بسببهم. ومن هنا صارت طريقة غير محكمة إذا ما ذكرت مجردة، ويزيد الأمر سوءاً إذا ما فسرت تفسيراً باطلاً، فإن القصور في التقرير إما أن يكون قصوراً في الألفاظ، وإما أن يكون قصوراً في المعاني، فمن عبر بها وحدها ففسرها تفسيراً صحيحاً قيل: تفسيره صحيح، ولكنه لو قرنها بالتفسيرات المفصلة لكان أحكم، بخلاف من استعملها وحدها وفسرها تفسيراً غلطاً؛ فإن هذا يكون قد قصر لفظاً ومعنى.

ما سكت عنه السمع ولم يثبته العقل ولم ينفه سكتنا عنه

ما سكت عنه السمع ولم يثبته العقل ولم ينفه سكتنا عنه وقوله: (وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه, سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه). فمثلاً: ما يتعلق بالأكل والشرب، فهل سكت عنه السمع أو لم يسكت عنه؟ الجواب: أنه إذا قصد اللفظ فإنه سكت عنه، وسكوت السمع عنه بذكر لفظه بالتفصيل هو من كمال السمع، أي: من كمال القرآن في تحقيق الإثبات، وفي تحقيق التنزيه، وأما أنه سكت عنه من حيث المعنى فلا؛ فإن الله لما ذكر مقامه سبحانه وتعالى من الربوبية؛ علم غناه عما سواه، ومما سواه ما يتعلق بالمأكول والمشروب ونحو ذلك. إذاً: فما يتعلق بالصفات اللازمة؛ فإن هذه صفات في الجملة يكون شأنها بيناً، لكن ما يتعلق بمفصل الأفعال التي سكت السمع عنها, والعقل لا ينفيها ولا يثبتها، فإن هذه يجب السكوت عنها. فمثلاً: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فهذا فعل معين مختص، وأخبر الله تعالى في القرآن أنه يجيء لفصل القضاء، وهذا فعل مختص، ولا شك أن أفعالاً كثيرة مختصة لم ينطق بها السمع على التعيين، فإذا ما فرضت قيل: إن هذا مما لا يمنعه العقل، فلا يجوز نفيه، وما لم ينطق به السمع بالتصريح فلا يجوز إثباته؛ لأنه قد يكون ليس كذلك، ليس لعدم قابلية الرب له، وإنما لعدم ذكر السمع له بالتصريح. إذاً: ما يتعلق بأفعال الرب سبحانه وتعالى، كإخباره بأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] فإن هذه أفعال تثبت؛ لأن السمع جاء بها، وهي صفات كمال، وما كان من نوع هذه الأفعال ولكن السمع لم يذكرها على التخصيص، كفعل مفرد من أفعاله، فلو فرضه فارض فإنه لا يثبت؛ لأن السمع لم يأت به، ولا ينفى؛ لأن العقل لم يدل على نفيه. وقد يقول قائل: لماذا لم يدل العقل على نفيه؟ فيقال: إما أن يكون الشيء منفياً لعدم مجيء السمع به، وهذا وجه، لكن قد يكون الشيء واقعاً في نفس الأمر، ولكنك لم تستطع العلم بوقوعه لأن الله لم يخبر بوقوعه، وقد يكون هذا الفعل ليس واقعاً في نفس الأمر، فيكون نفيه لعدم مجيء السمع به، ولعدم وقوعه في نفس الأمر، وإن كان العلم بعدم وقوعه علماً ممتنعاً، لكن عدم الوقوع ليس لعدم قابلية الرب له، وإنما لعدم إرادته ومشيئته.

اعتراض لنفاة الصفات الفعلية والجواب عنه

اعتراض لنفاة الصفات الفعلية والجواب عنه لذلك أورد نفاة الصفات الفعلية -كالنزول والمجيء ونحوها- أوردوا إشكالاً لابد من الجواب عليه، فقالوا: إن النزول والمجيء ونحوها من الصفات إذا لم تفسر بالتأويل على طريقتهم يلزم من ذلك إما أن يكون كمالاً، وإما أن يكون نقصاً، فإن قلتم: إنه نقص، فالله منزه عنه، وإن قلتم: إنه كمال؛ لزم أن يكون هذا الكمال قد فاته قبل حدوث هذا الفعل المعين، وفوات الكمال نقص. وهناك عدة أجوبة عن هذا الإشكال، وهناك أجوبة صحيحة ولكنها ليست ملزمة, وهناك أيضاً أجوبة صحيحة ولكنها ليست محكمة. ومن طرق الجواب أن يقال: إن هذه الصفات ذكرت على نوع من الحدوث، وما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً في العقل، فإن الحدث ينافي القدم، والشيء إذا وصف بأنه حادث امتنع أن يوصف بأنه قديم، فيقال هنا: إن هذه الصفات ذكرت على معنى الحدوث، أي: أنها متعلقة بمشيئة الرب، وما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً, وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً؛ لأن النقص هو فوات الكمال الممكن، وليس هو فوات الممتنع، فما كان ممتنعاً فإنه يمتنع أن يكون فواته نقصاً؛ لأنه ممتنع، والكمال يتعلق بالأمور الوجودية. وهذا جواب محكم من جهة العقل. وهناك جواب من جهة القياس: وهو أنه يستلزم التناقض عندهم، فإنه يمكن أن يقلب عليهم هذا الباب بطريقة بسيطة في الإدراك، وهي قوية من جهة الحكم أيضاً، فيقال: إن هذا يلزمكم في خلق السماوات والأرض، فإن الله هو الخالق للسماوات والأرض، فإما أن تقولوا: إن خلقه لهما كمال، وإما تقولوا: إنه نقص. فسيقولون: إنه كمال, وحينئذ فما كان جوابهم عن خلقه للسماوات والأرض، فهو الجواب عن نزوله، وإن قالوا: إن النزول إذا قيل: إنه كمال؛ لزم أن يكون قد فاته من قبل، وفوات الكمال نقص. قيل: فخلقه للسماوات والأرض أزلاً ممتنع؛ لأن ما كان مخلوقاً امتنع أنه يكون أزلياً، فإن الله هو المختص بالأولية المطلقة، فما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً. وهذا من سفسطة العقل. وهذا الدليل هو الدليل المحكم لنفي الصفات الفعلية، وهو ما يذكره محمد بن عمر الرازي ويسميه: الدليل المركب، ومعلوم أن أصحابه هم الذين ينفون أو يتأولون الصفات الفعلية، وهي ما يسميها أصحاب أبي الحسن الأشعري: حلول الحوادث، فجاء الرازي -ولا سيما في آخر أطواره- وقال: إن ما عمل به أصحابنا في التأويل لهذا الباب فهي علل منقوصة، وجاء بعلل أصحابه، ثم أجاب عنها، ورد عليها، وإذا لم يرد على الحجة فربما اكتفى بإيراد السؤالات عليها، فقال: "إن سائر ما ذكروه إما أن يرد عليه الجواب، أو يرد عليه سؤال"، ثم قال: "وإن الحجة الصحيحة الاعتماد في هذا على الدليل المركب"، وقد ذكر أن أصحابه اعتمدوا على الدليل العقلي، وقالوا: أما الاعتماد على السمع وحده فلا؛ لأن السمع في آيات كثيرة ظاهره الإثبات لما هو من حلول الحوادث. ثم قال: "وحججهم في هذا إما مجاب عنها، وإما عليها سؤالات" , فهو عطل الحجة السمعية وحدها، والحجة العقلية وحدها، وقال: "إنما المعتبر في نفي حلول الحوادث هو الدليل المركب من السمع والعقل"، ثم جاء بالدليل المركب، فجعل مادة العقل لها السبق في هذا الدليل، وأما مادة السمع فقد قال: "إننا نقول: إن كانت ناقصاً، فإن الله منزه عن النقص بالإجماع"، فجعل كلمة (الإجماع) هي الوجه السمعي في دليله، فإن الإجماع كلمة سمعية وليست عقلية. وهذا من خطئه، فإن تنزيه الله عن النقص يعلم بالعقل، وإن كان بالضرورة يعلم بالسمع أو بالإجماع ونحو ذلك.

شرح القواعد السبع من التدمرية [21]

شرح القواعد السبع من التدمرية [21] القاعدة السابعة في إثبات الصفات والرد على نفاتها: أن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل، بل جميع صفات الله تعالى لا يقضي العقل بعدم إمكانها، وبهذا يعلم فساد قول المتكلمين بأن هناك تعارضاً بين العقل والنقل، وهو قول فاسد باطل، لا دليل عليه لا من النقل ولا من العقل؛ بل إن الدلائل الشرعية والعقلية البينة تدل على بطلان هذا القول، وعلى أنه لا تعارض بين العقل والنقل أبداً.

القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع

القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع قال المصنف رحمه الله: [القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بين من الآيات الدالة عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بين أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه. فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها. والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً]. هذه هي القاعدة السابعة، وقد بين فيها المصنف رحمه الله أن المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أنها خبرية، ومن جهة أنها عقلية، وكلا السياقين نطق به القرآن، ومعنى هذا الكلام: أن الشرعي -وهو ما كان من القرآن أو السنة- فإن سياقه في القرآن إما أن يكون سياقاً خبرياً محضاً مبنياً على صدق المخبر، كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذا حكم شرعي خبري مبني على صدق المخبر، وإما أن يكون حكماً شرعياً عقلياً، كقول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ..} [المؤمنون:91] فهذا حكم شرعي عقلي. أما أنه شرعي فلكونه قرآناً، وأما أنه عقلي فلكونه مخاطباً للعقول، وهو ليس فرعاً عن تصديق المخبر أو عدم تصديقه، ولذلك فإنه يلزم المخاطب عقلاً التصديق بهذا الحكم، حتى من لم يسلم بأن هذا القرآن كلام الله، أو ما إلى ذلك من أحوال المشركين.

فساد قول المتكلمين بالتعارض بين العقل والنقل

فساد قول المتكلمين بالتعارض بين العقل والنقل قال المصنف رحمه الله: [وكثير من أهل الكلام يسمي هذه (الأصول العقلية)؛ لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل]. قوله: (فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق): هذا هو كلام المخالف، فإن هؤلاء -وهم غلاة المتكلمين- يجعلون النصوص القرآنية لم تنطق بالأحكام العقلية؛ بل السمع عندهم مجرد الإخبار المبني على صدق المخبر, وهذا عدم فقه للقرآن, فإن من قرأ القرآن بان له أن فيه حكماً عقلياً، وهي الأمثال المضروبة التي ضربها الله تعالى في كتابه، كقوله سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28] وكقول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] أو يأتي على سياق ليس فيه ذكر للمثل؛ كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الطريقة هي الطريقة التي عليها جمهور المسلمين، وفضلاء المتكلمين والنظار، خلافاً لغلاتهم الذين قالوا: إن القرآن لم يأت بالأحكام العقلية. ولذلك إذا بان هذا الأمر؛ بانت نتيجة مهمة في الأصول، وهي: أن الدليل النقلي في الكتاب والسنة -أي: الدليل السمعي- لا يقابله الدليل العقلي، فإن الدليل السمعي هو الدليل الشرعي، وما يقابله هو ما ليس شرعياً؛ سواء سمي بدعياً، أو قيل: هو ما لم يأت ذكره في السمع، وليس هو العقلي؛ لأنه إذا قيل: إن الدليل السمعي يقابله العقلي، فيلزم كضرورة عقلية وكبدهيات أساسية أن يكون النقل مجرداً عن الحكم العقلي. وهذا التناقض هو الذي وقع فيه غلاة المتكلمين، وجاء في كلامهم، حتى فرضوا ما يسمى بقانون تعارض العقل والنقل، وإن كان هذا القانون قد دخل على بعض فضلاء النظار، الذين لا يلتزمون بمثل هذه الحقائق على التحقيق. فيقول غلاة المتكلمين: إن التعارض إذا وقع بين السمعي والعقلي، فإما أن يعمل بهما جميعاً, وإما أن يرفعا جميعاً، والعمل بهما جميعاً ورفعهما جميعاً كلاهما ممتنع؛ لأن الجمع لهما جمع للنقيضين، والرفع لهما رفع للنقيضين. قالوا: فلم يبق إلا أن يقدم الدليل السمعي على الدليل العقلي، أو يقدم الدليل العقلي على الدليل السمعي، وتقديم الدليل السمعي على العقلي ممتنع؛ لأن الدليل على صدق السمع هو العقل. فإن قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السمع إنما جاء عن الأنبياء والرسل، والدليل على صدق الرسول هو معجزته, ومعجزته حكم عليها بكونها معجزة بحكم العقل، فإذا قدمنا الدليل السمعي على العقلي؛ لزم الشك في الدليل العقلي المصدق للمعجزات، فيلزم على هذا الإسقاط للسمع والعقل. وهذا كله سفسطة, وتناقض في الكلام العقلي؛ والجواب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن القول بأن ثمة تعارضاً بين العقل والنقل خطأ من جهة العقل نفسه؛ لأنه يلزم -كضرورة أولية- أن تكون الدلائل السمعية مجردة من العقل. الوجه الثاني: لو فرض أن ثمة تعارضاً بين العقلي والسمعي، فإن ما كان عقلياً امتنع أن يكون معارضاً للسمع، إلا أن يكون عقلاً فاسداً, وما كان فاسداً امتنع أن يكون معارضاً للصواب، فإن السمع كله صادق، فما كان صادقاً امتنع أن يعارضه صادق؛ لأنه يلزم أن يكون بين الصادقين تمانع، ومعلوم أن الصادقين لا يمكن أن يكونا متناقضين أبداً، فعلم بذلك أن السمع لا يعارضه بنفس الأمر إلا عقلي ليس صادقاً؛ لأن العقلي إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً. فإن كان كاذباً وقد عارض سمعياً صادقاً، فإن القاعدة: أن الصادق إذا عارضه كاذب قدم الصادق. فإن قالوا: إن الدليل العقلي لا ينقسم إلى صادق وكاذب؛ بل إن العقل كله صادق. فيقال: إن العقل إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً، ومنازعتهم مبنية على كل واحد من هذه الأوجه الثلاثة، فإن قالوا: إن العقل كله صادق؛ لزم من ذلك امتناع التعارض؛ لأنه يمتنع أن يتعارض الصادقان، وإن قالوا: إن العقل جميعه كاذب؛ لزم من ذلك إبطال العقل وتعظيم السمع، وإن قالوا: إن العقل منه ما هو صادق، ومنه ما هو كاذب، قيل: ما كان كاذباً من العقل فإنه يرد، وما كان صادقاً منه فإنه يمتنع أن يعارض السمع. وهناك أوجه كثير في مسألة درء تعارض العقل والنقل، وأن الشريعة لا يمكن أن تعارض حكماً من أحكام العقل الصحيح، وأما العقل الفاسد فإنه متسلسل عند بني آدم، وهو من الأحكام الفاسدة، وهو الظن، ولذلك فإن ما يذكره الكفار على سبيل القضاء في الحكم العقلي، سماه الله في القرآن بالظن فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] ففي باب الحكم العقلي نجد أن حجتهم حجة ظنية، وفي موارد الإرادات والأحوال والسلوكيات وما إلى ذلك نجد أن موجب القبول عندهم وعدم القبول هو هوى النفس؛ بخلاف أهل الإيمان، فإنهم في باب الإرادات والأحوال والسلوكيات لا يكون المحرك لهم هو هوى النفس، وفي باب العقليات لا يكون المحرك لهم هو الظن، وإنما العلم اليقيني.

النبوة ثابتة بالمعجزة وبغير المعجزة

النبوة ثابتة بالمعجزة وبغير المعجزة قال المصنف رحمه الله: [ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها]. إثبات النبوة يكون بأصل العقل، وقد تثبت النبوة بغير العقل، أي: بغير دليل معجزة، وإلا فليس هناك شك أن المجنون الذي نزع عقله من أوله إلى آخره لا يستوعب هذه المسائل على التفصيل، ولذلك فإن هرقل -كما جاء عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما- لما سأل أبا سفيان عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسأله عن حدوث المعجزات الخارقة للعادة، كخروج الماء من بين أصابعه، ونحو ذلك، إنما سأله عن نسبه، وعمن يتبعه، وعن أبيه، وهل كان ملكاً؟ إلخ، وهذه ليست معجزات، إنما هي صفات، ولذلك قال هرقل: (إن يكن ما تقول به حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم ...) إلخ. إذاً: النبوة تثبت بالمعجزة، وتثبت بغيرها، والمقصود بالمعجزة هنا: الآية الخارقة للعادة. قال المصنف رحمه الله: [فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل. وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام]. قوله: (وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه)، أي: بإثبات حدوث العالم، وأن إثبات حدوث العالم لا يكون إلا بإثبات كونه جسماً، ومن هنا قالوا: إن الصفات تنفى؛ لأنها تستلزم التجسيم. قال رحمه الله: [وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.]. فمن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الصفات، فهذا طريق لقوم من أهل الكلام، ومن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الأفعال القائمة بها، فهذا طريق آخر، ولذلك فإن المعتزلة نفت سائر الصفات؛ لأنه لو ثبتت صفة عندهم تقوم بذات الرب؛ لبطل الدليل المصحح عندهم لحدوث العالم، وكذلك متكلمة الصفاتية نفوا ما يتعلق بالصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث؛ لأنهم لو أثبتوها لبطل عندهم الدليل المصحح لحدوث العالم، والدليل المصحح لحدوث العالم هو الدليل المصحح لوجود الصانع. قال رحمه الله: [ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع -وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤول، وإما أن يفوض]. قوله: (وهو أصله) أي: أن أصل الدليل السمعي عندهم هو العقل؛ وذلك لأنهم يقولون: إن دليل ثبوت السمع هو النبوة، والنبوة دليلها المعجزة. وهذا غلط من وجهين: الوجه الأول: أن النبوة تثبت بغير المعجزة. الوجه الثاني: أنه لو سلم جدلاً أن الدليل العقلي هو الذي صدق المعجزة، ودليل المعجزة بصدقه صدقت النبوة، فإن هذا دليل معين من أدلة العقل، ومعلوم أن الدليل المعين لا يلزم أن يكون حكمه مطرداً في سائر الأدلة، وإلا لزم من ذلك التصديق بكل ما يقال أنه عقلي، وهذا معلوم الامتناع بين العقلاء، فإن عقول بني آدم بينها قدر من الاختلاف والتضاد والتناقض في أحكامها العقلية. إذاً: عندما يقولون: لو قدمنا السمعي للزم من ذلك الطعن في أصل ثبوت السمعي، يقال: هذا ليس بلازم؛ لأنه يمكن أن نقدم السمعي على العقلي الذي عارضه. أما الدليل العقلي الذي قالوا: به ثبتت النبوة، فهل عارض السمع أو أثبته؟ فإن قالوا: إن به ثبت السمع، فمعناه: أنه عارضه أو صدقه، فإذا كان صدقه فهذا لا جدال فيه، ولا يرد في مسألة تعارض العقل والنقل، إنما الكلام هو في العقلي المعارض، وهذا العقلي ليس هو الذي أثبت السمع، مع أن هذا الكلام -كما سبق- ليس محكماً من أصله. قال المصنف رحمه الله: [وهم أيضاً عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم. وهؤلاء يضلون من وجوه: منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة، وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن يبين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النقل، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية]. قوله: (منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، كلمة (تارة) ليست صحيحة؛ بل هي غلط في السياق، وقد أشار المحقق إلى ذلك؛ لأن مقصود المصنف هو ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد، أي: أن السمع هو الخبر المجرد، أما إذا قيل: إن السمع هو الخبر المبني على صدق المخبر تارة، فيلزم أن يكون ظنهم صحيحاً؛ لأن السمع هو خبر المخبر المبني على صدق هذا المخبر تارة، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذا حكمه -كما سبق- ليس من ابتداع العقل. إذاً: إما أن يكون السياق هو: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد)، وهنا يكون الكلام صحيحاً، وإما أن يكون السياق: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، وهذا الكلام خطأ؛ لأنهم لو ظنوه تارةً لكان ظنهم صحيحاً، وإنما غلطهم أنهم ظنوه مطرداً. وقد يقال: إن السمع طريق الخبر المجرد، أي: المجرد عن الحكم العقلي، المبني على الإطلاق، بمعنى أنه في سائر موارده يكون كذلك، هذا هو وجه الغلط، وأما أن في القرآن ما هو سمعي محض، أي: ليس مبنياً على أوائل الحكم العقلي المحصل له قبل ورود السمع فيه، فهذا لا جدال في عدم وجوده في القرآن. قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع]. إن خطأهم ليس في هذه الطريق وحدها؛ بل إن جمهور ما يذكرون من الطرق المحصلة للنبوة هي تحصيل للنبوة من وجه، فيكون غلطهم من وجهين: الوجه الأول: أنهم قصروا طريق تحصيل النبوة على هذا الطريق. الوجه الثاني: أنهم ربما استعملوا طرقاً قاصرة في إثبات النبوة، مع أن ثمة طرقاً أصدق منها وأحكم في نفس الأمر. قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة]. وإن كان جمهور ما يذكرونه في إثبات النبوة صحيحاً، ومنه ما قد يكون باطلاً، وإنما يؤخذ عليهم أنهم قصروا الطريق عليه، واستعملوه هو وفي الباب ما هو أولى منه. قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع]. لأن المعارض للسمعي إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً، وإما أن يكون لا سمعياً ولا عقلياً، فأما إن كان سمعياً فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم فيه التعارض بين السمعيين، وهذا ممتنع، وأما إن كان عقلياً، فإنه يعود القول فيه إلى ما سبقت الإشارة إليه من الأوجه, وأما إن فرض أنه لا سمعي ولا عقلي، فيقال: ليس في الأمر ما يكون كذلك؛ بل الحكم إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً.

من صفات الله تعالى ما يعلم بالعقل

من صفات الله تعالى ما يعلم بالعقل قال المصنف رحمه الله: [والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل -عند المحققين- أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم؛ بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل، وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، كما أثبتته بذلك الأئمة، مثل أحمد بن حنبل وغيره، ومثل عبد العزيز المكي، وعبد الله بن سعيد بن كلاب]. كل هؤلاء أثبتوا الدليل العقلي على علو الله سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء من هو من النظار؛ كـ ابن كلاب، ومنهم من هو من أهل الحديث؛ كالإمام أحمد. وإنما ذكر المصنف الإمام أحمد وابن كلاب؛ ليعلم بذلك أن العلم بالدلائل العقلية معروف ليس عند أهل السنة وحدهم؛ بل حتى عند الفضلاء من المتكلمين ومقتصدة النظار؛ فإنهم يعلمون ويفصلون الدلائل العقلية، وحتى المعتزلة، فإنهم -وإن عبروا بما عبروا به- يمتنع عليهم تجريد المسائل المقولة في صفات الله وفي ربوبيته وكماله عن الأحكام العقلية، فإنه إذا تعذر العقل في هذا المقام؛ امتنع التقرير لمسألة وجود الرب سبحانه وتعالى في طريقتهم، فإن طريقتهم في إثبات وجوده طريقة عقلية، وما كان طريقاً عقلياً في إثبات وجوده لزم أن يكون طريقاً مطرداً في تحقيق وجوده، ولا شك أن تحقيق وجوده سبحانه وتعالى لا يكون إلا بإثبات صفات الكمال اللائقة به.

إثبات الرؤية بالعقل

إثبات الرؤية بالعقل قال المصنف رحمه الله: [بل وكذلك إمكان الرؤية بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك. وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات، كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع]. أشار المصنف إلى مثلين من الطرق العقلية لإثبات الرؤية، فإنها قد ثبتت بالسمع، كما هو في الدلائل، وتثبت أيضاً بالعقل، فإنه يقال: إن العقل يقضي أن كل موجود يمكن رؤيته، وهذه الطريقة فيها بعض التأخر عن الطريقة الفاضلة، وهي أن يقال: إن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته، ورؤيته لا تستلزم نقصاً؛ لأن النقص إنما يكون في إدراكه، أي: إذا دخله الرؤية والإدراك لزم أن يكون ناقصاً ممكناً؛ وذلك كالمخلوقات كلها، فإنها إما أن تدرك، وإما أن تكون قابلة للإدراك؛ بخلاف الباري سبحانه فإنه يرى ولا يدرك، ولهذا كان قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] مصدقاً لقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] وموافقاً له.

من الطرق العقلية في إثبات الصفات: أنه لو لم يوصف الله تعالى بأحد المتقابلين للزم وصفه بالآخر

من الطرق العقلية في إثبات الصفات: أنه لو لم يوصف الله تعالى بأحد المتقابلين للزم وصفه بالآخر قال المصنف رحمه الله: [والمقصود هنا: أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب: أنه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم]. لقد سبقت الإشارة إلى هذا سابقاً، وهو أن من الطرق العقلية التي يسلكها الأئمة: أنه لو لم يوصف بأحد المتقابلين للزم أن يوصف بالآخر، فإذا ما علم أنه منزه عن الجهل بالاتفاق؛ لزم أن يكون موصوفاً بالعلم، ولما علم بالاتفاق أنه منزه عن العمى؛ لزم أن يكون موصوفاً بالبصر .. وهكذا في سائر الصفات. فيكون ذلك من طرق إثبات الصفات بالعقل: أن العلم بتنزيهه عن أحد المتقابلين -وهو النقص- علم ضروري، فإذا عرف أنه منزه عن هذا النقص بالضرورة الشرعية والفطرية والعقلية؛ لزم أن يكون المقابل ثابتاً؛ لأن نفي المتقابلين يكون ممتنعاً. قال رحمه الله: [وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى]. قوله: (وتلك صفة نقص) أي: دخوله في العالم، فلما علم أنه منزه عن هذا النقص بالضرورة وبالاتفاق؛ علم أنه مباينٌ للعالم، وإذا كان مبايناً للعالم، فإما أن يكون العالم هو العالي، وإما أن يكون العالم هو السافل، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون محايداً أو أسفل من مخلوقاته؛ فلزم أن يكون الحكم العقلي يقضي بأن الله فوق خلقه، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] إذاً: فما ذكره الله تعالى في كتابه موافق من كل وجه لحكم العقل.

كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به

كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به قال المصنف رحمه الله: [وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها]. هذه طريقة عقلية ثانية في إثبات الصفات، وهي: أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به، وهي محصلة من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] وربما سماها بعض نظار السنة: قياس الأولى، وقد سبق أن هذه التسمية ليست محمودة، إلا في مقام المناظرة عند الحاجة إليها، أما من حيث الابتداء فلا ينبغي أن تسمى بذلك؛ بل تسمى بما سمى الله سبحانه وتعالى هذا الأمر به وهو: المثل الأعلى. وهذه القاعدة فيها إشارة من الفقه، وهي أنه إذا قيل: إن كل كمال ثبت للمخلوق، فالمقصود هنا: الكمال المطلق، وإن كان المخلوق لا يتحقق فيه ما هو من الكمال المطلق، فإن النقص في هذا الكمال المطلق إنما دخل من حيث الإضافة، بمعنى: أنه لا يرد على هذا أن يقول قائل: إن وجود الولد كمال في المخلوق، والرجل الذي له ولد أكمل من العقيم عند الناس. فلا يرد هذا الأمر؛ لأن هذا نقص؛ وذلك لأن صفة الولد فرع عن الحاجة، وكذلك الأكل والشرب، فإن عدمه يكون عن علة، فهي إذاً صفة نقص، وإنما المقصود: الكمال المطلق؛ كالكلام، والسمع، والبصر. فإن قال قائل: فهل في المخلوق كمال مطلق؟ قيل: المقصود هو ليس ما في المخلوق، وإنما المقصود الصفة إذا كانت مجردة، فإن الكلام إذا ذكر مطلقاً مجرداً فهو كمال مطلق، بخلاف الولد، فإنه إذا ذكر مجرداً فإنه يكون نقصاً؛ بل الولد لا يمكن أن يكون إلا أمراً إضافياً، فإذا قيل: الابن؛ لزم من وجوده وجود الأب. إذاً: لا ينبغي دخول هذا الإشكال على هذه القاعدة، وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به. قال رحمه الله: [وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية]. الآمدي هو من متكلمة أصحاب الأشعري، وهو من كبار متأخريهم، وقوله: (وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة) مقصوده: الطريقة الأولى، وهي مسألة التقابل. قال رحمه الله: [فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حياً لكان متصفاً بما يقابلها، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلين وبيان أقسامهما. فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين]. قوله: (في الصدق ولا في الكذب): المقصود بالصدق: الإثبات، وبالكذب: النفي، أو يقال: الصدق هو الإيجاب, والكذب هو السلب, فكل هذه مترادفة. قال رحمه الله: [فالأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما، كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر؛ من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه بنفسه وممكناً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان]. مقصوده: أنه يمتنع ارتفاعهما ويمتنع اجتماعهما، فإنه إذا قيل: إن زيداً ليس بحيوان؛ لزم أن يكون ليس بحيوان. وقوله: (وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة ...): أي: أنه لا بد من ثبوت أحدهما، فأما أن يرفعا جميعاً فهو ممتنع، فإذا قيل: إن زيداً معدوم؛ لزم أن لا يكون موجوداً، وإذا قيل: زيدٌ حيوان؛ لزم أن يكون حيواناً، فإنه إذا ذكر الإثبات امتنع النفي، وإذا ذكر النفي امتنع الإثبات.

§1/1