شرح القصيدة الدالية للكلوذاني

عبد الرحمن بن ناصر البراك

شرح القصيدة الدالية نظم العلامةِ الفقيهِ أبي الخطَّاب محفوظِ بنِ أحمدَ بنِ حسنِ الكَلْوَذَانيُّ الحنبليُّ (432 - 510 هـ) رحمه الله وعفا عنه شرح فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله ونفعنا بعلومه

بسم الله الرحمن الرحيم مُقدِّمةُ الشَّرحِ الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا شرحٌ مختصرٌ، وتعليقٌ وجيزٌ على «المنظومة الدالية» لأبي الخطَّاب الكَلْوَذَانِيِّ رحمه الله، وقد سلكَ النَّاظِمُ في قصيدتِه طريقةَ السؤالِ والجوابِ في عَرْضِ المسائل، فبيَّنْتُ مرادَه رحمه الله وما نَحَاهُ في جَوَابَاتِهِ، وبيَّنْتُ مَذهبَ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ في المسائل التي تعرَّض لها، ونبَّهْتُ على ما ظَهَرَ لي فيه مخالفَتهُ لمذهبِ أهلِ السنَّة والجماعة. وأصل هذا الشرح دروسٌ علميَّة، ألقيتُها في إحدى الدورات العلمية، وقد قام الشيخ ياسر بن سعد العسكر بتفريغ الشرح، وتهذيبه، وتنسيقه، وتحقيقه، والعناية به، واجتهد في ذلك؛ ليعم الانتفاع به، فأجزل الله له المثوبة وبارك له في علمه وعمله. وهذا أوان الشروع في شرح أبيات القصيدة:

1. دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد

قال الناظمُ رحمه الله: 1. دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ الخَلِيطِ المُنْجِدِ ... وَالشَّوْقَ نحوَ الآنِسَاتِ الخُرَّد هذه القصيدة من بحر «الكامل» (1)، والبحورُ العَرُوضِيَّة معروفةٌ. قوله: «دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ (2)» يعني: اترك الاشتغال بتذكُّرِ الأَصْدِقَاء. و «الخَلِيط» هو الصديقُ والصاحبُ المُخالِط. و «المُنْجِد» هو الوفيُّ الذي يُنْجِدُ صاحبَه عند الأزمات والشدائد، وهذا هو الصديقُ حقاً. والمعنى: لا تَشْغَل نفسَكَ بتذكُّرِ الأصدقاء، ونزِّهها عن الاشتغال بما بينك وبينهم من وِدَاد؛ حفظاً للوقت، وإقبالاً على ما هو أهمّ. وقوله: «الآنِسَات» جمعُ «آنِسَة»، وهي: المرأةُ الأَنِيسَةُ المُؤنِسَة. وقوله: «الخُرَّد»: جمعُ «خَرِيدَة» وهو من الجموعِ غيرِ المشهورةِ في هذا الاسم، وفي وزن «فَعِيلَة»، بل القياس الكثير أن «خَرِيدَة»

_ (1) ووزنه: «مُتَفَاعِلُنْ» ست مرات. (2) هي بفتح التاء، كما في كتب اللغة، قال أبو البقاء في «الكليات» (ص 254): (كلُّ ما وَرَدَ عن العربِ من المصادر على «تفْعَال» فهو بالفتح، كالتَّكْرَار والتَّرْدَاد، إلاَّ لفظين هما: تِبْيَان وَتِلْقَاء فهو بالكسر، وما عَدَا ذلك من أسماءِ الأَجْنَاس نحو: بِتِمْثَال وتِمْسَاح وتِقْصَار، فهو بالكسر). وقال الحَرِيرِيُّ في «دُرَّة الغَوَّاص في أَوهَامِ الخَوَاصّ» (ص 169): (ويقولون في مصدر «ذَكَرَ الشَّيءَ»: تِذْكَار -بكسر التاء-، والصوابُ فَتْحها، كما تُفْتَح في تَسْآل وتَسْيَار وتَسْكَاب وتَهْيَام ...).

2. والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد

تُجمَع على «خَرَائِد»، مثل: صحيفة وصحائف، وفريدة وفرائد، كما أنَّ «خَرِيدَة» تُجمَعُ أيضاً على «خُرُد»، والمراد بـ «الخريدة»: البِكْرُ النَّاعِمَة. والمعنى: دع عنك الشَّوْقَ والتَّوَقَان بتَذَكُّر الآنِسَات والنِّسَاءِ النَّاعِمَات، ولا تُعَلِّقْ قلبَك وفكرَك بِهِنَّ، ولا تَشْغَل نفسَك بذلك. ولا شك أن فتنة النساء هي أعظم فتنة للرجال، كما جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» (1)، وما أكثر ما صرفت فتنةُ النساء النفوسَ عن المطالب العالية (2)، فلا بد حينئذٍ من الإعراضِ عن التعلُّقِ بالآنِسَات الخُرَّدِ والشوق نحوهن. قال الناظمُ رحمه الله: 2. وَالنَّوْحَ في أَطْلاَلِ سُعْدَى إِنَّمَا ... تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لم يَسْعَد هذا البيت متصلٌ في المعنى بالبيت الذي قبله. فقوله: «وَالنَّوْحَ في أَطْلاَلِ» أي: ودع عنك النَّوحَ وهو: البكاء، «في أَطْلاَلِ» جمع طَلَل، وهو البِنَاءُ الدَارِسُ البَالِي، وعادةُ العُشَّاقِ أنهم يذهبون إلى ديار محبوباتهم ومعشوقاتهم ويَنُوحُون عليهنَّ، وهذا مثل قول الشاعر (3):

_ (1) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري (5/ 1959 رقم 4808)، ومسلم (4/ 2097 رقم 2740). (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 514): (وَأَكْثَرُ مَا يُفْسِدُ المُلْكَ [وفي بعض النسخ: المِلَلَ] وَالدُّوَلَ طَاعَةُ النِّسَاءِ). (3) هو: قيس بن الملوح بن مزاحم، المعروف بـ «مجنون ليلى»، وهذان البيتان في «ديوانه».

3. واسمع مقالي إن أردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بهذا تهتدي

أمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيلَى ... أُقَبِّلُ ذَا الجِدَارَ وذَا الجِدَارَ وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلبِي ... وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَ فالناظمُ رحمه الله يقول أيضاً: دع عنك النَّوحَ والبكاءَ على مَنْ تعلَّق قلبُك بها، وكَنَّى عن جِنْسِ المرأة بـ «سُعْدَى». ثم قال: «إِنَّمَا تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لم يَسْعَدِ» يعني: أن الاشتغال بتذكر الجَمَال، وتذكر الحُبِّ، وتذكر المتعة، هذا كلُّه شُغْلُ مَن لم يَسْعَد السعادةَ الحقيقيَّة، فتضيع عليه أوقاتُه بهذه الذِّكرَيَات الذاهبة الضائعةِ، فيبقى قلبُه يطوف في مواطن ومحاسن من فُتِنَ بهنَّ من النِّسَاء وفي محاسِنِهِنَّ. وقوله: «مَنْ لَمْ يَسْعَدِ» أصله: «مَنْ لَمْ يَسْعَدْ» بجزم الفعل المضارع، ولكن وقع الكسر من أجل القافية. قال الناظمُ رحمه الله: 3. وَاسمَعْ مَقَالِي إِنْ أَرَدْتَ تَخَلُّصَاً ... يَومَ الحِسَابِ وَخُذْ بِهَذَا تَهْتَدِي بدأ الناظمُ رحمه الله بتقديم النصائح لقارئ هذه المنظومة فقال: «وَاسمَعْ مَقَالِي» أي: اسمع سَمَاعَ قَبُولٍ واستجابةٍ لما سأقوله وأُبَيِّنُه لك. قوله: «إِنْ أَرَدْتَ تَخَلُّصَاً يَومَ الحِسَابِ» أي: إن أردت النجاة يوم الحساب من العذاب، ومن شدائد يوم القيامة فاسمع مقالي وأصغ لما سأقوله لك. وقوله: «وَخُذْ بِهَذَا تَهْتَدِي» وفي نسخة: «وَخُذْ بِهَدْيِي تَهْتَدِي» وكلٌّ منهما له وجهٌ، فنسخة: «خُذْ بِهَذَا» يعني: خذ بهذا القول الذي سأقوله لك في هذه المنظومة، وأمَّا نسخة: «خُذْ بِهَدْيِي» يعني: خُذْ بما

4. واقصد فإني قد قفيت موفقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد

سأقدِّمُه لك من دلالةٍ وإرشادٍ تهتدِ إلى الصواب وطريق الحق، فهذه أيضاً نصيحةٌ من النصائح. فمعنى هذا أنه صَدَّرَ هذه المنظومة بنصائح لكل مسلم، ولا سيما طالب العلم. قال الناظمُ رحمه الله: 4. وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَفَيْتُ مُوَفَّقَاً ... نَهْجَ ابنِ حَنْبَلٍ الإِمَامِ الأَوْحَد قوله: «اقصِدْ»: أي اقصِدْ بقلبِك وسعيك وجِدِّك نهجَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل رحمه الله، فكأنه يقول: اقصد ما قصدتُ وما قَفَيتُ من مذهب الإمام أحمد ومنهجه. وقوله: «وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَفَيْتُ» وقع في نسخةٍ: «وَاقصِدْ فَإِنِّي قَدْ قَصَدْتُ»، وكلا النسختين مؤداهما متقارِبٌ، فإن من قَفَا وتَبِعَ إماماً فإنَّه يتبعه بقصده وبموافقته. وقوله: «مُوَفَّقَاً» هي حالٌ من الفاعل، يعني: حال كوني موَفَّقَاً، ويحتمل أن تكون حالاً من ضمير الفاعل في «اقْصِدْ»، وهو المخاطَب. وهذا إمَّا أن يكون من باب الرجاء، يعني: أرجو أن أكون مُوَفَّقَاً، وإما أن يكون لبيان أنَّ ما سلكه من عقيدة الإمام أحمد حقٌ وصوابٌ، فإن الإنسان إذا سار على طريق الحق والصواب فلا ضير أن يقول: إني -ولله الحمد- مُوَفَّقٌ حيث سلكتُ هذا الطريق. وقوله: «نَهْجَ ابنِ حَنْبَلٍ» أي: منهجه وسبيله الذي سار عليه في اعتقاده وفي سيرته رحمه الله ورضي عنه. و «ابنُ حَنْبَلٍ» هو الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل، وهو مشهورٌ بهذه النسبة، فإذا قيل: «ابنُ حَنْبَل» فلا ينصرف إلاَّ إلى الإمام أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ حنبل الإمام الشهير.

5. خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد

وقوله: «الإِمَامِ» هذا صحيحٌ فإنه رحمه الله كان إماماً في زمانه، حتى صار قدوةً لمن بعده. وقوله: «الأَوْحَدِ» هو أفعل تفضيل من «الوَحْدَة» و «التَّوَحُّد»؛ لأنه صار فريداً في زمانه، وهذا مِثْلُ قولهم: «فَريدُ مِصْرِه، وَوَحِيدُ عَصْرِه». فالإمامُ أحمدُ رحمه الله أوحدُ من غيره وأكثر تفرداً من غيره، وهذا ما يقتضيه أفعل التفضيل التي عبَّرَ بها الناظمُ. فالناظمُ رحمه الله لم يقل: «الإمام الوحيد»، بل زاد في الثناء فقال: «الإِمَامِ الأَوْحَدِ». قال الناظمُ رحمه الله: 5. خَيرِ البَرِيَّةِ بَعْدَ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... وَالتَّابِعِينَ إِمَامِ كُلِّ مُوَحِّد يواصل الناظمُ رحمه الله الثناء على الإمام أحمد رحمه الله فيقول: «خيرِ البَرِيَّة» خيرُ البَرِيَّة مطلقاً هو نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، لكنَّ الناظمَ رحمه الله قيَّد خيرية الإمام أحمد بقوله: «بَعْدَ صَحْبِ مُحَمَّدٍ وَالتَّابِعِينَ»، وفي هذا التقييد احترازٌ عظيمٌ خرج به الناظم من المبالغة الشديدة في المديح. وما قاله الناظم في حق الإمام أحمد يقتضي تفضيله على كل أحد بعد الصحابة والتابعين، وفي هذا الإطلاق والتعميم نظر. فكأنه يقول: هو خير الناس بعد الصحابة والتابعين. فمع جلالة الإمام أحمد، وعِظَمِ شأنه، وما أكرمه الله به من العلم بالسنة والفقه في الدين، والصلابة فيه، وقمع البدع والمبتدعين، لا يصح أن نقول عنه: إنَّه خير الناس.

6. ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى ... شرفا علا فوق السها والفرقد

فهو رحمه الله من خير أئمة أهل السنة، بل امتاز بِلَقَبِ «إمام أهل السنة»، وهذا أمرٌ معروفٌ يعترف به كل أحدٍ، فإنه لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن كان هو أعظم من واجه هذه الفتنة برده وصبره على البلاء، فقد سجن وضرب وجلد وامتحن ومع هذا كله لم يلجأ إلى التأويل الذي يتخلص به من هذا البلاء مع أنَّ له به فُسْحَة، لكنَّه صَبَرَ وصَابَرَ وصَدَعَ بالحق، فبذلك ذاع صِيتُه، وجعلَ الله له بهذا الصبر لِسَانَ صِدْقٍ في الأُمَّة، وصار قدوةً لمن جاء بعده، و «بالصبر واليقين تُنَالُ الإمامةُ في الدِّين». وقوله: «إِمَامِ كُلِّ مُوَحِّدِ»: هذا تعبير عن كون الإمام أحمد إمام أهل السنة فهو إمام كل موحد من أهل عصره ومن جاء بعدهم. والمُوَحِّد: هو كل من وَحَّدَ الله بأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى. قال الناظمُ رحمه الله: 6. ذِي العِلْمِ وَالرَّأْيِ الأَصِيلِ وَمَنْ حوَى ... شَرَفَاً عَلاَ فَوقَ السُهَا وَالفَرْقَد هذا هو البيت الثالث في الثناء على الإمام أحمد رحمه الله. قوله: «ذِي العِلْمِ» أي: صاحبِ العلم الواسع بالكتاب والسنة وآثار الصحابة والفقه في الدين. وقوله: «وَالرَّأْيِ الأَصِيلِ» أي: وصاحب الرأي المكين في السداد والصواب. وقوله: «وَمَنْ حَوَى شَرَفَاً» هذه الجملة معطوفة على قوله: «ذِي العِلْمِ» يعني: والذي حوى شرفاً.

قوله: «فَوقَ السُّهَا وَالفَرْقَدِ» وفي نسخة: «فَوقَ السَّمَا وَالفَرْقَدِ» وكأنَّ ذكر «السُّهَا» أنسب؛ لأنه كثيراً ما يُقْرَنُ بين السُّهَا والفَرْقَدِ، وهما نجمان معروفان، يعرفهما أهل الشأن، ويقال لهما من باب التغليب: «الفَرْقَدَان». و «السُّهَا» يُقالُ إنَّه نجمٌ خَفِيٌّ، وأمَّا «الفَرْقَد» فهو نجمٌ نَيِّرٌ واضحٌ، يعرفه المهتمُّون بالنجومِ ومنازلِها (1). ويحتمل أنَّ يكون قوله: «وَمَنْ حَوَى شَرَفَاً» كلاماً مستأنفاً يُبيِّن به النَّاظمُ أنَّ مَن حوى شَرَفَاً فقد عَلاَ فوق السُّهَا، يعني علا قَدْرُهُ وارتفعت منزلتُه، والإمامُ أحمدُ كذلك حوى شرفاً عظيماً؛ شرف العلم والتقى، وشرف الجهاد والصبر، فلا غرو حينئذٍ أن يَتَبَوَّأَ رحمه الله هذه المنزلةَ العظيمةَ. ولعل هذا التوجيه هو الأقرب، وهو اعتبار أن هذه الجملة مستأنَفَة.

_ (1) السُّهَا: بضم السين المهملة، هو كوكبٌ خَفِيٌّ في بنات نَعْشٍ الكبرى، والنَّاسُ يمتحنون به أبصارهم؛ لخفائه، وفي المثل: «أُرِيهَا السُّهَا وَتُرِيني القَمَرَ». وأما الفَرْقَد: بفتح الفاء وإسكان الراء وفتح القاف، واحِدُ الفَرْقَدَين، والفَرْقَدَان نجمان لا يَغْرُبَان ولكنهما يَطُوفَان بالجَدي، وقيل: كوكبان قريبان من القطب، وقيل: كوكبان في بنات نعش الصغرى، وربما قالت لهما العرب: الفرقد. والفرقدان يضرب بهما المثل في طول الصحبة والتساوي والتشاكل، ومن ذلك قول القائل: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاَّ الفَرْقَدَان ينظر: «صبح الأعشى» (2/ 181)، و «لسان العرب» (14/ 408) و (3/ 334)، و «تاج العروس» (8/ 491).

7. واعلم بأني قد نظمت مسائلا ... لم آل فيها النصح غير مقلد

قال الناظمُ رحمه الله: 7. وَاعْلَمْ بِأَنِّي قَدْ نَظَمْتُ مَسَائِلاً ... لَمْ آلُ فِيهَا النُّصْحَ غَيرَ مُقَلِّد يقول رحمه الله: «وَاعْلَمْ» أي: يا طالب العلم، وهذا يُعَبِّرُ به عن ما قصد إليه في هذه المنظومة، وتصديرُ المؤلِّفِين كلامهم بقول: «اعلم» يدل على أهمية ما يأتي بعده. قوله: «قَدْ نَظَمْتُ مَسَائِلاً» أي: من مسائل الاعتقاد. وقوله: «مَسَائِلاً» هي بالتنوين من أجل الوزن، وإلا فـ «مسائل» من صيغ منتهى الجموع، وهو لا ينصرف. وقوله: «لَمْ آلُ فِيهَا النُّصْحَ» أي: لم أُقصِّر فيها، بل اجتهدتُ في نظمها نصحاً للعباد. وقوله: «غَيرَ مُقَلِّدِ» أي: أنا فيها متَّبِعٌ غير مقلِّد فيها لأحدٍ. فالناظمُ رحمه الله وإن ذكر أنه مقتفٍ لنَهْجِ الإمامِ أحمدَ إلا أنَّه متَّبِعٌ له لا مقلِّدٌ له، وفَرْقٌ بين «الاتباع» و «التقليد». فـ «الاتباع»: هو الموافقة والاقتداء بالسَّلَف الصالح في منهجهم الواضح عن بَيِّنَةٍ ومعرفةٍ وبصيرةٍ بما هم عليه، فالاقتداء بالعالم إنما هو باتباع منهجه -بعد معرفة أنه على الحق- والانتفاع بفهمه وبيانه وروايته، وهذا ليس بتقليد بل هو اتباع. وأما «التقليد»: فهو قبول القول بغير حجة، يعني: تقليدٌ أعمى. فالناظم بهذا يتبرأ من التقليد، وهذا شيءٌ طيِّبٌ، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يكون مقتدياً بالسلف الصالح وبالأئمة على بيِّنَةٍ وعلى بصيرة، لا يكون مقلِّداً لأحد من الناس، فلا يقول بالقول الفلاني لأن الإمام المعيَّن الذي يُعَظِّمُه يقول به، بل عليه أن يكون مُتَّبِعَاً

8. وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة يوم الجدال مسود

لا مقلِّداً، لكن الانتفاع بفهم أولئك الأئمة واستنباطهم ورواياتهم وبيانهم هذا لا بد منه؛ لأن هذا العلم إنما جاءنا من طريقهم، فلا نستبد عنهم بفهمٍ يُخَالِف فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين. قال الناظمُ رحمه الله: 8. وَأَجَبْتُ عَنْ تَسْآلِ كُلِّ مُهَذَّبِ ... ذِي صَوْلَةٍ يَومَ الجِدَالِ مُسَوَّد قوله رحمه الله: «وَأَجَبْتُ» أي في هذا النظم، «عَنْ تَسْآلِ» «التَّسْآل» مصدرٌ بمعنى السؤال. والمعنى: أني أجبتُ في هذا النظم عن سؤال كل طالبِ علمٍ، مُهَذَّبِ الأخلاقِ، مُؤدَّبٌ في طلبه للعلم من حيث قصده ومطلوبه وأسلوبه في السؤال. وقوله: «ذِي صَوْلَةٍ» يعني: صاحب قوَّةٍ في البيان والمناظرة، مقتدرٍ في ذلك، لا للانتصار للرأي بل لبيان الحق وإظهاره، فهذا هو الذي يمدح في الجدال والبيان والمناظرة والحِجَاج. وقوله: «يَومَ الجِدَالِ» وقع في بعض النسخ: «عند الجدال» وهي أنسب. وقوله: «مُسوَّدِ» يعني: ذي سيادة بأخلاقه، وحصافة عقله، وحسن بيانه ومقدرته، ومن كانت هذه صفته كان جديراً أن يتخذه الناس سَيِّداً. قال الناظمُ رحمه الله: 9. هَجَرَ الرُّقَادَ وَبَاتَ سَاهِرَ لَيلِهِ ... ذِي هِمَّةٍ لاَ يَسْتَلِذُّ بِمَرْقَد في هذا البيت يثني الناظمُ رحمه الله على هذا الصِّنْف من طلاَّبِ العلمِ ذَوِي الهِمَمِ العَالِيَةِ، فقال عنهم:

10. قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد

«هَجَرَ الرُّقَادَ» يعني: ترك النَّومَ، والمراد به النوم الفضولي، وأما النوم من حيث هو فلا بُدَّ للإنسان منه، يَسْتَجِمُّ به، ويستعِيدُ به نشاطَه وقوَّتَه. وقوله: «وبَاتَ سَاهِرَ لَيلِه» فهو يَسْهَرُ لكن لا كَسَهَرِ أكثر النَّاس اليوم، تجدهم يسهرون في الفضول أو على باطلٍ وحرام، وأما هذا فسهره في طلب العلم بالمذاكرة والمجالسة لأهله وبالقراءة واستخراج العلم من مستَودَعَاتِه وخَزَائِنِه التي هي تُرَاثُ العُلَمَاءِ ومؤلفاتهم. وقوله: «ذِي هِمَّةٍ» يعني: صاحب هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، له طموحٌ وأهدافٌ لا يَقْنَع باليسير ولا بالقليل، بل يسعى في تحصيل معالي الأمور فهو «لا يَسْتَلِذُّ بِمَرْقَدِ» أي: لا يستلذ بالنوم لهذه الهمة العالية والمطلب الكبير الذي يسعى له، فلا يأخذ من النوم إلا بأقل القليل. وهذا وصفٌ جميلٌ مَلِيحٌ. قال الناظمُ رحمه الله: 10. قَومٌ طَعَامُهُمُ دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ ... يَتَسَابَقُونَ إِلى العُلاَ وَالسُّؤدَد في هذا البيت انتقل الناظمُ رحمه الله من وصف هذا النموذج من ذوي الهمم العالية وعاد يعبّر عن المجموعة وعن الجنس فقال عنهم: «قَومٌ طَعَامُهُمُ دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ» أي: هذا الصنف الذي سبق وصفه في الأبيات السابقة طعامُهُم وغذاؤُهُم هو دراسةُ العلمِ ومذاكرتُه، فهم يتلذَّذُونَ بطلبِ العلمِ والسعي في تحصيلِه، ويتحمَّلون المشاقَّ في سبيلِ ذلك أكثر مما يتلَذَّذُ أصحابُ المطاعمِ والملذَّاتِ بالطعامِ والشرابِ وسائرِ اللذات، فهؤلاء طعامهم غذاءٌ للعقول والأرواح، وأولئك طعامهم غذاءٌ للبطون والأبدان، والفرقُ بين الفريقين كالفرقِ بين الثَّرَى والثُّرَيَّا.

وقوله: «يَتَسَابَقُونَ إِلَى العُلاَ» أي: يتسابقون إلى الخيرات، ويتنافسون في تحصيلها، وهذا -ولا شك- مطلبٌ مهمٌ. ومن ذلك: المنافسةُ في طلبِ العلم، وفي الأعمال الصالحة، وفي القيام بالمهام العظيمة، فنحن في هذه الدنيا في ميدان تنافس وسباق، فنسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين. وقد أمر الله عز وجل عباده بالمسابقة إلى الخيرات، فقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة رحمه الله 148، والمائدة رحمه الله 48] في موضعين من كتابه، وقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21]، وأمرهم بالمسارعة، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران:133]، وأمرهم بالمنافسة فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين:26]. وقوله: «إِلَى العُلاَ» أي: إلى المنازل العالية والرتب الرفيعة، وذلك بالأعمال الصالحة النافعة، وبالجهود المخلصة الصادقة. وقوله: «وَالسُّؤدَدِ» أي: السيادة، ولا ريب أن من آمن واتقى نال السعادة والسيادة، ولا ريب كذلك أن تحصيل العلم النافع من أعظم أسباب السيادة. فهذه هي سيرة هذا الصِّنْفِ من أهل العلم وطُلاَّبِه. فالناظمُ رحمه الله يستثير بهذه الأبيات همم طلاب العلم، ويستنهض همم المبتدئين منهم أو المتقاعسين لتحصيل ما سيذكره من مسائل، وما سيقرره من تأصيل.

11. قالوا: بما عرف المكلف ربه؟ ... فأجبت: بالنظر (1) الصحيح المرشد

فهو يستثير هممهم بوصف هذا النوع من طلاب العلم بالجد والاجتهاد وطلب المعالي، والصبر والمصابرة وسهر الليالي. قال الناظمُ رحمه الله: 11. قالوا: بِمَا عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّهُ؟ ... فَأَجَبْتُ: بِالنَّظَرِ (1) الصَّحِيحِ المُرْشِد هذا أول الشروع في المقصود، وقد ذكر الناظمُ رحمه الله المسائلَ التي قصد بيانها بطريقة السؤال والجواب، فكل بيت فيه سؤال وجواب. قوله: «قالوا: بِمَا عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّهُ؟» «بِمَا» لعل الإشباع هنا للوزن، وإلا فالأصل أن «ما» الاستفهامية إذا دخل عليها حرفُ الجَرِّ -كاللام أو الباء مثلاً- تُحْذَف أَلِفُهَا، فيقال: «بِمَ» و «لِمَ». و «المُكَلَّف» في اصطلاح الأصولين هو: الإنسانُ العاقلُ البالغُ. وهذا الذي ذكره الناظمُ رحمه الله هنا هو من جنس قول الشيخ محمد بن الوهاب رحمه الله في «الأصول الثلاثة»: (إذا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ فَقُل: بآياتِه ومخلوقَاتِه). ولَمَّا ذكر الناظمُ رحمه الله السؤال عقَّبه بذكر الجواب فقال: «فَأَجَبْتُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ المُرْشِدِ» أي: عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّه بالنظر الصحيح

_ (1) وقع في مطبوعة الشيخ محمد ابن مانع: (بِالنَّظْمِ) -بالميم-، ووَجَّه رحمه الله العبارةَ بقوله: (مراده بـ «النَّظْمِ»: النظم المعهود، وهو انتظام العالم على أكمل الوجوه، كما قال ابن المعتز: فَيَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإِلَهُ ... أم كيفَ يَجْحَدهُ الجَاحِدُ وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أنَّه وَاحِدُ) قلتُ: وما أثبَتُّه هو ما عليه عامَّةُ النُّسَخِ، وما وقع في مطبوعة الشيخ ابن مانع لم أره في غيرها، والله أعلم.

المرشِد، وحَذَفَ النَّاظِمُ جملةَ (عَرَفَ المكَلَّفُ رَبَّه) من الجواب اكتفاءً بورودها في السؤال. وقوله: «بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ المُرْشِدِ» أي: بنظر العقلِ المستقيمِ المرشِد إلى المطلوب، وذلك بالتفكر في مخلوقات الله، ولا شك أن النظر والتفكر في مخلوقات الله طريقٌ إلى معرفة الله عز وجل. فمعرفة الله عزَّ وجلَّ تحصل بثلاثةِ طُرُق: 1. بالفطرة. 2. وبالعقل، وذلك بالنظر والتفكر في مخلوقات الله عز وجل. 3. وبالوحي. لكنَّ المعرفة الحاصلة بالفطرة وبالعقل هي معرفةٌ إجماليةٌ، فالعبدُ يعرفُ رَبَّه بمقتضى الفطرة، فهو مفطورٌ على أنه لا بد له من خالقٍ، بل لا بد لهذا العالم كله من خالق، وهذا أمرٌ فِطْرِيٌّ. ثم إنَّ النظر في السموات والأرض والتفكر فيهما مما تحصل به معرفة الله عز وجل، فهذا العالم لا بد له من خالقٍ وصانِعٍ، وصانِعُه قادرٌ وحكيمٌ وعليمٌ وهكذا. فالنظرُ الصحيحُ طريقٌ من طُرُقِ المعرفةِ، لكنَّ الطريقَ الأعظم لمعرفة الله معرفةً تفصيليةً هو بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأفعاله الحكيمة المتضمنة للحكمة والعدل والرحمة. وهذه المعرفة طريقُها الوحي الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ:50] ولهذا سمى اللهُ الوحيَ الذي بعث به محمَّداً صلى الله عليه وسلم نوراً ورُوْحَاً؛ لأنه هو الذي به الإبصار التام، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ

وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]. فقوله: «بِالنَّظَرِ» هذا صحيحٌ، فإنَّه بالنَّظَر والتفكُّر يُعْرَفُ الله عزَّ وجل، لكنه ليس هو الطريق الوحيد لمعرفته سبحانه. وهذه المسألة التي ذكرها الناظم غير مسألة: «أَوَّلُ وَاجِبٍ هو النَّظَرُ»، فنحن وإن قلنا إنَّ «النَّظَرَ الصَّحِيحَ» طريقٌ إلى معرفة الله عز وجل، لكننا لا نقول بأن أول واجب على المكلف هو النظر، أو القصد إلى النظر، بل هذا قولُ أهل الكلام، وهو قولٌ مُبْتَدَعٌ (1)، بل إن أوَّلَ واجبٍ على المكلَّف هو الشهادتان -شهادةُ أن لا إِلَهَ إلا الله وأنَّ محمَّداً رسولُ الله- وهذا هو مذهب أهل السنة في هذه المسألة.

_ (1) ينظر: «درء تعارض العقل والنقل» (7/ 352 و 405) و (8/ 3)، و «مدارج السالكين" (3/ 412).

12. قالوا: فهل رب الخلائق واحد؟ ... قلت: الكمال لربنا المتفرد

قال الناظمُ رحمه الله: 12. قَالُوا: فَهَل رَبُّ الخَلائِقِ وَاحِدٌ؟ ... قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّد قوله: «قَالُوا: فَهَل رَبُّ الخَلائِقِ وَاحِدٌ؟» هذا هو السؤال، أي: هل ربُّ المخلوقات واحدٌ، أو للمخلوقات أرباباً متعدِّدِين؟ فأجاب الناظم عن هذا السؤال بقوله: «قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّدِ» يعني: أنَّ الكمالَ في الصفاتِ والأفعالِ هو لرَبِّنَا سبحانه وتعالى. وقوله: «المُتَفَرِّدِ» يعني: المتَوَحِّد، فهو سبحانه الفرد الذي لا رب غيره ولا إله سواه، فهو سبحانه لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ولا في أسمائه وصفاته، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ، فإذا قلنا: (اللهُ واحدٌ) فمعناه: أنَّه واحدٌ في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته. فَإنَّ وَصْفَ الله تعالى بـ «التفرُّدِ» مطلقاً يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة، فهو سبحانه واحدٌ في ربوبيته فلا رب غيره، وواحدٌ في إلهيته فلا معبود سواه، وواحدٌ في أسمائه وصفاته فلا شريك له، ولا مِثْل له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله على حَدِّ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى:11]. وَوَصْفُهُ سبحانه بـ «الكمال» مطلقاً يتضمن إثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال، وتنزيهه عن جميع النقائص على وجه الإجمال كذلك. وجوابُ النَّاظِمِ عن السؤالِ بقوله: «قلتُ: الكَمَالُ لِرَبِّنَا المُتَفَرِّدِ» مفادُهُ أنَّ ربَّ الخلائق واحدٌ لا ربَّ سواه، فهو سبحانه وتعالى خالقُ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومالكُه، وهو الإله الحقُّ الذي لا يستحق العبادة أحدٌ سواه.

13. قالوا: فهل تصف الإله؟ أبن لنا ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمد

قال الناظمُ رحمه الله: 13. قَالُوا: فَهَلْ تَصِفُ الإِلَهَ؟ أَبِنْ لَنَا ... قُلْتُ: الصِّفَاتُ لِذِي الجَلاَلِ السَّرْمَد قوله: «قَالُوا: فَهَلْ تَصِفُ الإِلَهَ؟» هذا السؤال معناه: هل تثبتُ لله صفاتٍ؟ «أَبِنْ لَنَا» أي بَيِّن لنا مذهَبَك، أو بَيِّن لنا الصوابَ في هذه المسألة. فأجاب بقوله: «قُلْتُ: الصِّفَاتُ لِذِي الجَلاَلِ السَّرْمَدِ» يعني: الصفاتُ لله ذي الجلال السرْمَدِ، و «السَّرْمَد» هو: الدَّائِم. وقوله: «السَّرْمَد»: يحتمل أن تكون صفةً لـ «الجلال»، يعني: الجلال الدائم، فصفات الله دائمة، ويحتمل أن تكون صفة لله عز وجل، فهو سبحانه الدائم الذي لا يزول، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخِرُ الذي ليس بعده شيء، كما عَبَّر عن ذلك الطحاويُّ في «عقيدته» المشهورة، بقوله: (قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاء، دَائِمٌ بِلا انْتِهَاء). وهذا الجواب من الناظم فيه نوعُ إجمالٍ، وهو جوابٌ مُقْتَضَبٌ، ولعل عذره في ذلك أنه في مقام نظمٍ، بل هو نظمٌ مختصَرٌ، فلا يكون الجواب فيه واضحاً كما ينبغي. والمهم أنَّنا نأخذ من هذا أنَّ الناظمَ رحمه الله يُثْبِتُ الصفات في الجملة، فليس هو من النفاة المعطِّلة كالجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إنه سبحانه وتعالى لا تقوم به أيّ صفة، بل هو بهذا الجواب معدودٌ في المُثْبِتَة؛ مُثْبِتَةِ الصِّفَات. لكن ليُعْلَم أنه إذا قيل: (مُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ) فإنه يدخل فيهم من كان يثبت ولو بعض الصفات كالأشاعرة، لأنَّ الأشاعرة والكُلاَّبِيَّة هم من المثبتة في الجملة، فليسوا من المعطلة التعطيل العام كالمعتزلة والجهمية.

14. قالوا: فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت: كذاك لم تتجدد

قال الناظمُ رحمه الله: 14. قَالُوا: فَهَل تِلْكَ الصِّفَاتُ قَدِيمَةٌ ... كَالذَّاتِ؟ قُلتُ: كَذَاكَ لَمْ تَتَجَدَّدِ (1) قوله: «قَالُوا: فَهَل تِلْكَ الصِّفَاتُ قَدِيمَةٌ كَالذَّاتِ؟» هذا هو السؤال، يعني: هل هذه الصفات التي أثبَتَّها -في البيت السابق- قديمةٌ كذاتِه أم لا؟ فأجاب بقوله: «قُلتُ: كَذَاكَ» يعني: أنَّ الأمر كما قلتُم من أنَّ صفات الله قديمة كذاته، ويؤكد الناظم ذلك بقوله: «لَمْ تَتَجَدَّدِ»، فقوله: «لَمْ تَتَجَدَّدِ» شرحٌ وبيانٌ وتأكيدٌ لقوله: «قُلتُ: كَذَاكَ» يعني: الأمرُ كما ذُكِرَ من أنَّ صفات الله كذاته قديمةٌ لم تتجَدَّد. والمراد بـ «القديم» في مثل هذا المقام -مقام الكلام في ذات الله وصفاته- هو الذي لا بداية لوجوده ولم يُسبق بِعَدَم، فالله قديمٌ بهذا الاعتبار، ولكن لا يصح أن يطلق «القديم» باعتباره اسماً من

_ (1) بالتاء المثناة من فوق، ووقع في بعض النسخ: (لم يَتَجَدَّدِ) بالياء المثناة من تحت. قال العلامة الشيخ عبدالله أبا بطين في حواشيه على «لوامع الأنوار البهية» للسَّفاريني (1/ 112): (إن أرادَ المؤلِّفُ بكونها «قديمةٌ» أنها غير مخلوقةٍ فصحيحٌ , لكن كان ينبغي أن يُعَبِّر بقوله: غير مخلوقة, ولا يأتي بلفظٍ مجمَلٍ, وإن أراد أنها قديمةٌ في الأزل, فهذا مما يحتاج فيه إلى التفصيل الذي يتبين به الحق من الباطل, فإنَّ الصفات قسمان: 1. صفاتٌ ذاتية: كالحياة والعلم والقدرة ونحوها, مما لا ينفك الله عنها فهي صفات قديمة. 2. صفاتٌ فعلية: فهذه نقول فيها أنَّ جنسَها ونوعَها قديمٌ, وأما بالنسبة إلى كلِّ فعلٍ فإنَّ الله لم يزل ولا يزال يُوجِدُ أفعالَه شيئاً فشيئاً، فهذا استواؤه على عرشه بعد أن خلق العرش ... ولا يمكن أن يتصوَّر عاقلٌ أنَّ استواءَه كذلك قبل أن يخلق العرش).

أسماء الله عز وجل، وأما على سبيل الإخبار فيصح إطلاقه على الله عزَّ وَجَلَّ، فيقال: (الله قديمٌ) بمعنى: أنه لا بداية لوجوده (1). وقول الناظم رحمه الله: «قُلتُ: كَذَاكَ لَمْ تَتَجَدَّدِ» يعني: أن صفاته كذاته قديمةٌ لم تتجدد، وفي هذا الإطلاق نظر، فإن صفات الله نوعان: 1. صفاتٌ قديمةٌ لا بداية لها كذاته، وهي ما يسمَّى في اصطلاح أهل العلم بـ «الصفات الذاتية»، وهي: الصفات اللازمة لذاته التي لا تنفك عن ذات الرب ولا تنفك عنها الذات ولا تتعلق بها المشيئة، مثل: حياته سبحانه، فحياة الله قديمة، وعلمه قديم، وسمعه قديم، فإنَّه سبحانه لم يزل سميعاً، ولم يزل بصيراً، ولم يزل عليماً، ولم يزل عزيزاً، ولم يزل حَيَّاً قَيُّومَاً .... إلخ. 2. صفاتٌ فعلِيَّةٌ، وهي: الصفات التي تتعلق بها المشيئة، كما نقول: إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا شاء، واستوى على العرش حين شاء، وهو يعطي إذا شاء، ويمنع إذا شاء، ويؤتي المُلْكَ مَن يشاء وينزعه ممن يشاء، هذه أفعالٌ متعلقةٌ بمشيئته سبحانه. ومن الصفات أيضاً: صفاتٌ ذاتِيَّةٌ فعلِيَّةٌ، فهي قديمَةٌ من وجهٍ، حادِثَةٌ من وجهٍ آخَرَ، ومثاله: الكَلامُ والخَلْقُ، فإنَّه سبحانه لم يزل متكلِّماً

_ (1) قال ابن القيم في «بدائع الفوائد» (1/ 169 - 170): (ويجب أن يُعلَم هنا أمورٌ: أحدُها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه، فإنه يُخْبَرُ به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا)، إلى أن قال: (السابع: أنَّ ما يُطلَق عليه سبحانه في باب الأسماء والصفات توقيفيٌّ، وما يُطلق عليه في باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيَّاً كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه. فهذا فصلُ الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية؟ أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع؟) أ. هـ

15. قالوا: فهل لله عندك مشبه؟ ... قلت: المشبه في الجحيم الموصد

إذا شاء، لم يَحدُث له أن صار متكلِّمَاً بعد أن لم يكن، ولكن آحاد كلامه سبحانه تحدث تبعاً لمشيئته؛ ولهذا يُعَبَّر عن هذا بأنَّ الكلامَ قديمُ النَّوعِ حادِثُ الآحاد (1). فعبارة الناظم مجملةٌ، وهذا الإطلاق غَلَطٌ، وعبارتُه مُشْعِرَةٌ بأنَّه ممن يقول بِقِدَمِ جميعِ الصفات، وأنَّه تعالى لا تقوم به الصفات الفعلِيَّة، أو أنَّ ما يُسَمَّى بـ «الصفات الفِعْلِيَّة» قديمَةٌ لا تتعلق بها المشيئة، فبهذا لا يتضح لنا مذهبه في هذه المسألة. فهو إما أنه ينتهج منهج الكُلاَّبِيَّة القائلين بإثبات صفات فعلية لكن قديمة لا تتعلق بها المشيئة. أو أنه ينتهج منهج الأشاعرة أو السالمية، وكلُّهم ممن ينفي قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه كالنزولِ، والمجيءِ، وحقيقةِ الاستواء وما أشبه ذلك. قال الناظمُ رحمه الله: 15. قَالُوا: فَهَل لله عِنْدكَ مُشْبِهٌ؟ ... قلتُ: المُشَبِّهُ في الجَحِيمِ المُوصَدِ (2) قوله: «قَالُوا: فَهَل لله عِنْدكَ مُشْبِهٌ؟» يعني: هل أنت تقول بأن لله شبيهاً من خلقه؟

_ (1) ينظر: «شرح الرسالة التدمرية» للشارح حفظه الله (ص 340 - 343). وينظر أيضاً: «منهاج السنة النبوية» (2/ 123 - 131)، و «مجموع الفتاوى» (9/ 300 - 301)، و «الصفدية» (2/ 85 - 87)، و «شرح العقيدة الطحاوية» (ص 113 - 115)، وتعليق العلامة الشيخ عبدالله البابطين رحمه الله على «لوامع الأنوار البهية» للسفَّاريني (1/ 38 و 112)، وكذلك حاشية العلامة ابن قاسم رحمه الله على «الدرَّة المُضِيَّة» للسفاريني (ص 9 - 10 و 31 - 32). (2) وقع في بعض النسخ: (المُوقَدِ) بالقاف.

فأجاب بقوله: «قلتُ: المُشَبِّهُ في الجَحِيمِ المُوصَدِ» وهذا الجواب مقتضاه أنه يُكَفِّرُ المُشَبِّه، ولذا قال: إنَّ «المُشَبِّهُ في الجَحِيمِ المُوصَدِ» أي: في جهنم دار العذاب، الموصدة على أصحابها، نعوذ بالله من النار. و «المشَبِّه»: هو الذي يقول: إنَّ صفات الله مثل صفات عباده، فيقول: له سمعٌ كسمعي، وبصرٌ كبصري، ويدٌ كيدي، وحُبٌّ كحُبِّي، ونحو ذلك (1). وقد قال بعض أهل السنة: من شَبَّه الله بخلقه كَفَر، ومن جَحَدَ ما وَصَفَ الله به نفسه فقد كَفَر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهٌ (2).

_ (1) أخرج ابن بطة في «الإبانة» (3/ 326 - 327) بإسنادٍ صحيحٍ عن حنبل بن إسحاق أنه قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: والمشبهة ما يقولون؟ قال: (من قال: بصرٌ كبصري، ويدٌ كيدي، وقدمٌ كقدمي فقد شَبَّه الله بخلقه). وكلامُ الإمامِ أحمدَ هذا ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية في كثيرٍ من كُتُبِهِ كـ «درء التعارض» (2/ 32)، و «بيان تلبس الجهميَّة» (1/ 432 و 476) و (2/ 165)، وذكره كذلك تلميذه ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 132)، وذكره غيرُهما. (2) القائل هو: نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ الخُزَاعيُّ -شيخُ البخاريِّ-. ومقولته هذه أخرجها ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (62/ 163)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (2/ 532)، والذهبي في «العلو» (ص 126)، وفي «العرش» (2/ 238)، وفي «السير» (10/ 610) وقال (13/ 299): (وما أحسن قول نعيم بن حماد الذي سمعناه بأصحِّ إسنادٍ) ثم ذكره.

16. قالوا: فأنت تراه جسما؟ قل لنا ... قلت: المجسم عندنا كالملحد

قال الناظمُ رحمه الله: 16. قالوا: فَأَنْتَ تَرَاهُ جِسْمَاً؟ قُلْ لَنَا ... قُلتُ: المُجَسِّمُ عِنْدَنَا كَالمُلْحِد قوله: «قالوا: فَأَنْتَ تَرَاهُ جِسْمَاً؟ قُلْ لَنَا»، وفي نسخةٍ: «جِسْمَاً مِثْلَنَا»، أي: هل أنت ممن يقول ويعتقد بأن الله جِسْمٌ؟ «قُلْ لَنَا» أي: بَيِّن لنا. ثم أجاب الناظم عن هذا السؤال بقوله: «قلتُ: المُجَسِّمُ عِنْدَنَا كَالمُلْحِدِ» وظاهرٌ من جوابه أنَّه ينفي أن يكون اللهُ جِسْمَاً، وأن من قال: إنَّ الله جسمٌ فإنَّه كَالمُلْحِدِ، هذا جوابه. ووَصْفُ الله عزَّ وجَلَّ بأنَّه جِسمٌ أو ليس بجسمٍ هو مما لم يتكلم به السلف، ولم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، وهكذا أهل السنة لم يتكلموا في رب العالمين بمثل هذا، فلم يقولوا: إنَّ الله جِسْمٌ، ولا إنَّ الله تعالى ليس بجسمٍ، ولا يرتضون إطلاق هذا اللفظ في النفي ولا في الإثبات، وذلك لأمرين: أولاً: أنه لم يرد وصف الله بهذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، وهم يقفون مع النصوص. ثانياً: أن لفظ «الجسم» لفظٌ مُجْمَلٌ يحتمل معاني كثيرة، منها ما هو حقٌّ يمكن إضافته إلى الله عز وجل، ومنها ما هو باطلٌ لا تجوز إضافته إلى الله عز وجل. فالجسم له معنى لغوي، وهو الجسد والبدن، كما يقولون: الجسم والروح، قال تعالى عن طالوت: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]. وله أيضاً معان اصطلاحيَّةٌ عند المتكلِّمِين، منها: الموجود، والقائم بنفسه، والمركَّب من الجواهر المفردة.

وعلى هذا فلفظ: "الجسم" لفظٌ مجملٌ (1)؛ ولهذا قال أهل السنة: إن من أضاف هذا اللفظ إلى الله عز وجل نافياً أو مُثْبِتَاً، يقال له: ماذا تريد بلفظ الجسم؟ فإن أراد حقاً قُبِلَ، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن أراد حقاً وباطلاً وُقِف اللفظُ وفُسِّر، وأُثْبِت ما يجبُ إثباتُه ونُفِيَ ما يجبُ نَفيُه (2). إذاً نحن لا نطلق هذا اللفظ، ولا يجوز أن نقول: إنَّ الله جسمٌ، ولا أنه ليس بجسمٍ، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا اللفظ وأمثاله من الألفاظ المبتَدَعَة. وأما طوائف المتكلمين فجمهورهم كالجهمية والمعتزلة بل والأشاعرة أيضاً، كلهم ينفون أن يكون الله جسماً، فكلهم يطلقون هذا اللفظ، والناظم على هذا المسلك. وعند المعتزلة أن جميع الصفات تستلزم الجسمية؛ ولذلك ينفون جميع الصفات؛ لأنه لو قامت به الصفات لكان جسماً. وأما الأشاعرة فعندهم تفصيل في ذلك، فهم يقولون: إن بعض الصفات تستلزم الجسمية وبعضها لا يستلزم ذلك، فالصفات التي ينفونها تستلزم التجسيم عندهم، وأما الصفات التي يثبتونها فلا تستلزم

_ (1) ينظر: «العقيدة التدمرية» (ص 52 - 53)، وقد أفاض شيخ الإسلام في بعض كتبه وأطال الكلام على هذه المسألة كما في: «درء التعارض» (1/ 119)، و «منهاج السنة» (2/ 134 - 135 و 198 - 203 و 530 - 532). (2) ينظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 106 و 307 - 308) و (13/ 304 - 305)، و «منهاج السنة النبوية» (2/ 134 - 135 و 192 و 198 - 200 و 527)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 505 - 511)، و «الرسالة التدمرية» (ص 135 - 136)، و «الصواعق المرسلة» (3/ 939 - 949).

التجسيم، وهذا من التناقض الذي يقوم عليه مذهبهم، فإن مذهب الأشاعرة قائمٌ على التناقض والتذبذب والتلفيق. ويقابل هؤلاء كلهم الكَرَّامِيَّة، فإنهم يُثبِتُون لفظ الجسم لله عز وجل، ويقولون: «إنَّ اللهُ جِسْمٌ»، وكلُّهم -النافي والمُثْبِت- مُبتَدِعٌ، فقول الناظمِ -رحمه الله وعفا عنَّا وعنه-: «قلتُ: المُجَسِّمُ عِنْدَنَا كَالمُلْحِدِ» لا ندري ماذا تحته، هل يعني بـ «المُجَسِّم» مَن يُطلق هذا اللفظ على الله ويقول: «إن الله جِسْمٌ» كالكَرَّامِيَّة، أو يعني به مَن يصف الله عز وجل بصفاتٍ هو يرى أن إثباتها تجسيمٌ؟ فمثلاً الجهمية والمعتزلة يَعُدُّونَ الأشاعرة مُجَسِّمَة؛ لإثباتهم بعض الصفات، والأشاعرةُ يَعُدُّونَ أهلَ السُنَّةِ مُجَسِّمَة؛ لأنهم يثبتون ما ينفونه من الصفات. فعند الأشاعرة أنَّ من يُثْبِتُ الوجه، أو اليدين، أو القدمين، أو يُثْبِتُ مثلاً النزول، أو المجيء، أو ما أشبه ذلك من الصفات التي ينفونها، يعتبرونه مُجَسِّمٌ. فجوابُ النَّاظم فيه إِجمالٌ كثيرٌ، لكن واضحٌ من جوابه أنه يجزم بنفي الجسم، فسبيلُه سبيلُ جمهور المتكلمين في نفي الجسم عن الله عز وجل، ثم إننا لا ندري ما الذي يستلزم التجسيم عنده؟ وقوله: «المُجَسِّمُ عِنْدَنَا كَالمُلْحِدِ» المُلْحِد هو: الكافر بالله، ولعل الناظمَ أراد بهذا أنَّ المُجَسِّم يشبه المُلْحِد في الافتراء على الله وتَنَقُّصِه، وفي وَصْفِ الله تعالى بما لا يليق به، والله أعلم.

17. قالوا: فهل هو في الأماكن كلها؟ ... قلت: الأماكن لا تحيط بسيدي

قال الناظمُ رحمه الله: 17. قَالُوا: فَهَل هُوَ في الأَمَاكِنِ كُلِّهَا؟ ... قُلتُ: الأَمَاكِنُ لا تُحِيطُ بِسَيِّدَي قوله: «قَالُوا: فَهَل هُوَ في الأَمَاكِنِ كُلِّهَا» أي: هل الله في كلِّ مكانٍ، حالٌّ في شيءٍ من مخلوقاته؟ كما يقوله فريقٌ من الجهمية الحُلُولِيَّة الذين يقولون: إن الله بذاته حَالٌّ في كلِّ مكانٍ، تعالى الله عن قولهم عُلوًّا كبيراً. فأجاب بقوله: «قُلتُ: الأَمَاكِنُ لا تُحِيطُ بِسَيِّدَي» وهذا الجواب يتضمن نفي الحلول، فالله سبحانه وتعالى عظيمٌ، أعظمُ من أن يحيط به شيءٌ من مخلوقاته؛ لأنَّ القول بالحلول يتضمن أنَّ المخلوقات تحوي الربَّ سبحانه تعالى وأنها محيطةٌ به. وقوله: «لا تُحِيطُ بِسَيِّدَي» أي: بربي، فهو سبحانه السيِّد ذو الصفات العظيمة، وله العظمة والسيادة المطلقة. فجواب الناظمِ رحمه الله يتضمن نفي الحلول، وأنه تعالى لا تحيط به الأماكن، وذِكْرُ «الأماكن» كنايةٌ عن المخلوقات؛ لأنَّ القائلين بالحلول يقولون: إنَّ الله في كلِّ مكانٍ، يعني: أنَّه في الأرض، وفي السماء، وفي باطن الأرض، تعالى الله وتقدَّسَ. فإنَّ مطلق هذا القول يقتضي أموراً بشِعَةً قبيحةً، ولهذا رَدَّ عليهم الأئمةُ -كالإمام أحمد- بأن قولهم يتضمن أن الله في البطون، وفي الحشوش، وفي الأماكن المستَقْذَرة المستَقْبَحَة الرديئة (1). وكفى بهذا دليلاً عقلياً على بطلان هذا المذهب الخبيث المنافي للعقل والشرع.

_ (1) ينظر: «الرد على الزنادقة والجهمية» للإمام أحمد (ص 40).

18. قالوا: أتزعم أن على العرش استوى؟ ... قلت: الصواب كذاك أخبر سيدي

وهنا ينبغي أن يُعلم أن نفي الحلول لا يستلزم نفي العلو عند نفاته؛ لأنَّ منهم من يقول إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه. وقد اختلفت النُّسَخ في رواية هذا البيت، فمنها ما تقدم الشرح عليه من قول الناظم: «قُلتُ: الأَمَاكِنُ لا تُحِيطُ بِسَيِّدَي» ووقع في بعض النسخ: «فَأَجَبْتُ: بَلْ في العُلْوِ مَذْهَبُ أَحمدِ» وهذه الرِّوَاية أدَلُّ على المعنى الحقِّ من الرِّوَاية الأولى؛ لأن فيها التصريح بعلو الله على خلقه دون الرواية الأولى، فهي محتَمِلةٌ، كما سبق التنبيه عليه. قال الناظمُ رحمه الله: 18. قَالُوا: أَتَزْعُم أَنْ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى؟ ... قُلتُ: الصَّوَابُ كَذَاكَ أَخْبَرَ سَيِّدِي قوله: «قَالُوا: أَتَزْعُم أَنْ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى؟» يعني: إذا كنتَ تقول إن الله تعالى لا تحيط به الأمكنة، فكيف تزعم أنه على العرش استوى؟ يعني: هل تزعم أن الله فوق المخلوقات؟ «قُلتُ: الصَّوَابُ كَذَاكَ» أي أنَّ الصواب ما ذُكِرَ، وهو أنه سبحانه مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله. وقوله: «كَذَاكَ أَخْبَرَ سَيِّدِي» أي كذاك أخبر ربي عز وجل أنه مستوٍ على العرش. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.

19. قالوا: فما معنى استواه؟ أبن لنا ... فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي

في ستَّةِ مواضعَ منها يقول سبحانه وتعالى مخبِرَاً عن خلق السماوات والأرض: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54 ويونس:3 والرعد:2 والفرقان:59 والسجدة:4 والحديد:4]، وفي سورة طه قال سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. قال الناظمُ رحمه الله: 19. قَالُوا: فَمَا مَعْنَى اسْتِوَاه؟ أَبِنْ لَنَا ... فَأَجَبْتُهُمْ: هَذَا سُؤالُ المُعْتَدِيْ قوله: «قَالُوا: فَمَا مَعْنَى اسْتِوَاه؟» أي: ما معنى أن الله استوى على العرش؟ «أَبِنْ لنا» أي: وَضِّح لنا وبَيِّن. وقوله: «فَأَجَبْتُهُمْ: هَذَا سُؤالُ المُعْتَدِي» هذا الجواب يتضمن رفض الجواب ورفض السؤال، فمضمونه أن معنى الاستواء غير معلوم. فقوله: «هَذَا سُؤالُ المُعْتَدِيْ» أي: هذا سؤال المتعدي في سؤاله؛ لأن السؤال عن كيفية الاستواء لا يجوز، ولذا قال الإمام مالك رحمه الله في رَدِّهِ على من قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: (... والسؤال عنه بدعة) (1). وأما السؤال عن معنى الاستواء فلا حرج فيه، وليس هو من

_ (1) هذا الأثر مشهورٌ وثابتٌ عن الإمام مالك رحمه الله، فقد رواه الدارمي في «الرد على الجمهية» (ص 66)، واللالَكَائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (3/ 441 رقم 664)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (6/ 325)، والأصبهاني في «الحجة في بيان المحجَّة» (2/ 106 و 257)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 304 - 360 رقم 866 و 867)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 171)، وغيرهم كثير.

الاعتداء في السؤال، ولذا قال الإمام مالك رحمه الله في جوابه السابق: (الاستواءُ معلومٌ) يعني: أن الاستواء معلومٌ معناه؛ لأنه لفظٌ معروفُ المعنى في اللغة العربية، والقرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عربيّ، والله خاطبَ عبادَه باللسانِ الذي يعرفونه كما قال عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 193 - 195]. وهذا البيت يمكن أن يؤخذ منه أن الناظمَ رحمه الله يذهب في إثبات الاستواء إلى القول بالتفويض، فهو يثبت الاستواء، ولكنه لا يُثبْتُ له معنى معلوماً؛ بل اعتبر السؤال عن المعنى من الاعتداء في السؤال، وهذا مذهب أهل التفويض، فإنهم يقولون: إن نصوص الصفات ليس لها معنى مفهوم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها ألفاظاً من غير فهمٍ لها. والناظمُ رحمه الله في البيت السابق ينفي الحلول، وفي هذا البيت يثبت الاستواء، ولكن المؤسف أنه يمتنع عن تفسير الاستواء، ويقدح في السؤال عن معنى الاستواء، فهو إذاً يُثْبِتُ لفظ النَّص ويقول: نعم، إن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش، ولكن من غير تفسيرٍ لذلك؛ لأنه قال لمن سأله عن معنى استواء الله: «فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي». فيظهر من هذا أنه يثبت الاستواء ولكن لا يُفَسِّرُه بشيءٍ، هذا هو مُحَصَّلُ الجواب، فكأنه يقول: نعم، الواجب أن نقول: إن الله مستوٍ على العرش كما أخبر سبحانه وتعالى، ولكن لا ندري ما معنى استوى، ولا يجوز أن نسأل عن معنى استوى، وهذا غلطٌ فإنَّه بهذا لا يكون مُثْبِتَاً للاستواء على حقيقته، فهو أثبت النصَّ القرآني من غير فهمٍ لمعناه، ومن لم يفهم المعنى فإنه لا يمكن له أن يثبت حقيقة ذلك اللفظ، فهو لم يثبت لله معنى مفهوماً يصفُ الله به، بل يقول: الله تعالى استوى على العرش كما

20. قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا ... قوم هم نقلوا شريعة أحمد

أخبر ولا ندري ما معناه، وهذا خلاف المأثور عن السلف فقد جاء تفسير الاستواء بألفاظٍ معروفةٍ: (علا، وارْتَفَعَ، واستَقَرَّ، وصَعِدَ) (1)، وقال الإمام مالك -كما تقدم-: (الاستواءُ معلومٌ) فلو أنَّ هذا السائل قال للإمام مالك: ما معنى الاستواء؟ لأمكن أن يقول: (علا وارتفع)، ولكن السائل كان مُعْتَدِيَاً في سؤاله فقال: كيف استوى؟ فأجاب بهذا الجواب المُحْكَم السَّدِيد، قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجلَ سُوءٍ) فأمر به فأُخْرِجَ، فاستعظم رحمه الله هذا السؤال المُنْكَر؛ لأنَّه تَكَلُّفٌ، وسؤالٌ عما لا سبيل إلى العلم به. قال الناظمُ رحمه الله: 20. قَالُوا: النُّزُولُ؟ فقُلتُ: نَاقِلُهُ لَنَا ... قَومٌ هُمُ نَقَلُوا شَرِيعَةَ أَحْمَدِ (2) المراد بـ «النزول» هنا النزول الإلهي الذي جاءت به النصوص، وتواترت به الروايات، ونقله الثقات، وهو نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر. فقوله: «قَالُوا: النُّزُولُ؟» أي: ما تقول في نزولِ الربِّ عزَّ وجلَّ؟ هل تُثْبِتُهُ؟ أو تتأوَّله كما يقول المعطلة: تنزل رحمتُه، أو ينزل مَلَكٌ من الملائكة، أو نحو ذلك؟

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (1/ 454 - 458) ط: التركي، و «التمهيد» (7/ 131 - 132)، و «شرح أصول الاعتقاد» (3/ 397 - 400)، و «العلو للعلي الغفار» للذهبي (ص 73 و 153 و 159 - 160 و 180 و 186 و 205 و 231)، و «العرش» له أيضاً (2/ 9 - 16)، و «مختصر الصواعق» (3/ 888 - 946) مهم. (2) وقع في بعض النسخ: «قَومٌ تَمَسُّكُهُمْ بِشَرْعِ مُحَمَّدِ».

فأجاب بقوله: «قُلتُ: نَاقِلُهُ لَنَا قَومٌ هُمُ نَقَلُوا شَرِيعَةَ أَحْمَدِ» ومضمون هذا الجواب أن خبر النزول الإلهي إلى السماء الدنيا نقله لنا الرواة الثقات الذين نقلوا لنا الشريعة، فهم الذين نقلوا لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج وأحكامها، فكيف نرد حديثاً ونقبل منهم أحاديث؟ لا شك أن هذا تناقض، فلا بد حينئذ من قبول ما رووه من الأخبار في النزول الإلهي (1). وهذا الجواب أيضاً مضمونه أن النزول الإلهي حقٌّ وصدقٌ؛ لثقة النقلة وكثرتهم، فقد نقل حديث النزول جَمْعٌ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر بعض العلماء (2) أنه نقله ثلاثون من الصحابة الكرام أو أزيد، فخبر النزول الإلهي متواترٌ لا مَدْفَعَ له (3).

_ (1) ينظر: «الشريعة» للآجري (ص 254 - 255). (2) قال ابن القيم كما في «مختصر الصواعق» (3/ 1108 ط أضواء السلف): (نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة)، وفي (3/ 1125) سرد أسمائهم فزاد عليهم اثنين فبلغ بهم الثلاثين صحابياً، ثم ساق أحاديثهم حديثاً حديثاً. هذا؛ وقد عُنِيَ بعض أهل العلم بجمع أحاديث النزول، منهم: الدارقطنيُّ في كتابه «النزول»، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «شرح حديث النزول»، وكذلك الإمام الذهبي له جزءٌ مفردٌ جَمَعَ فيه أحاديث النزول، وساق طرقها وتكلَّم عليها -كما أشار إلى ذلك في كتابه «العلو» (ص 91 و 100) -. (3) نصَّ على تواتر أحاديث النزول جماعةٌ من أهل العلم، منهم: أبو زرعة الرازي كما في «السنة» لأبي الشيخ ابن حيان -ذكره العيني في «عمدة القاري» (7/ 199) -، وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 128)، وابن تيمية في مواضع متعددة من كتبه، ومنها: ما في «مجوع الفتاوى» (5/ 470)، والذهبي في «العلو» (ص 91 و 100)، وابن القيم كما في «مختصر الصواعق» (3/ 1108) و (3/ 1125)، وابن عبد الهادي في «الصارم المنكي» (ص 304) والكتاني في «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» (ص 241).

فأهلُ السنة والجماعة يثبتون النزول حقيقةً، ويقولون: إن الله عز وجل ينزل كيف شاء إذا شاء. فليس المراد -عندهم- من قوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا» (1) تَنَزُّلُ رحمتُه، أو ملائكتُه، أو أمرُه، أو نحو ذلك مما يقوله المبتدعة، بل هذا تحريفٌ للكَلِمِ عن مواضعه، إذ كيف يصح أن يقال هذا مع قوله سبحانه وتعالى إذا نَزَلَ: «مَن يدعوني فأستجيب له؟، مَن يسألني فأعطيه؟، مَن يستغفرني فأغفر له؟»، فالملَكُ لا يجوز له أن يقول: «من يدعوني .. من يسألني .. من يستغفرني ..»!!، وكذلك الرحمة ليست شيئاً قائماً بنفسه حتى تتكلَّم، فهذا نصٌّ قاطعٌ بأنَّ الذي ينزل هو الله عز وجل، وأنه هو الذي يقول إذا نزل: «من يدعوني ... ، من يسألني ... ، من يستغفرني ...». فالناظم أجاب عن السؤال بجوابٍ يتضمَّن أنه ممن يثبتُ النزول ويقرُّ به. والنزولُ صفةٌ فعليَّةٌ بلا شك؛ لأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه، فنقول: إنه سبحانه وتعالى ينزل إذا شاء، وليس «النزول» عبارةٌ عن شيءٍ، أو عن معنى قائمٍ بالرب، لم يزل ولا يزال، بل هو فعلٌ يقوم به سبحانه وتعالى إذا شاء كيف شاء. فالذين ينفون جميع الصفات ينفون صفة «النزول» كغيرها، وهناك من ينفي الصفات الفعلية الاختيارية، ومنها: «النزول» كالأشاعرة، فإنَّ المشهور من مذهبهم هو نفي الصفات الاختيارية، كالنزول، والاستواء، والغضب، والرِّضَا، وهذا يجعلهم يتأوَّلُون صفة النزول بنزول المَلَك، أو نزول الرَّحمة، أو ما أشبه ذلك.

_ (1) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (1/ 384 رقم 1094)، ومسلم (1/ 521 رقم 758).

21. قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم: ... لم ينقل التكييف لي في مسند

وأما أهل السنة فيثبتون له الصفات الفعلية الاختيارية، ومعنى أنها «اختيارية» يعني أنها متعلقة بمشيئته سبحانه، فهذا هو ضابط الصفات الفعلية الاختيارية. قال الناظمُ رحمه الله: 21. قَالُوا: فَكَيفَ نُزُولُه؟ فَأَجَبْتُهُمْ: ... لَمْ يُنْقَلِ التَّكْيِيْفُ لِي في مُسْنَد هذا السؤال متعلق بالمسألة السابقة، وهي مسألة «النزول». فقال رحمه الله: «قَالُوا: فَكَيفَ نُزُولُه؟» يعني: إذا كنتَ تُثْبِتُ النزول لله عز وجل فبيِّن لنا كيف يَنْزِل؟ هذا هو السؤال. فأجابهم بقوله: «فَأَجَبْتُهُمْ: لَمْ يُنْقَل التَّكْيِيْفُ لِي في مُسْنَدِ» أي: إن كيفية نزول الرب عز وجل لم تُنْقَل لنا في خبرٍ مُسْنَدٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما دام الأمر كذلك فيجب علينا أن نمسك عن الخوض في الكيفية، فنؤمن بنزوله سبحانه ونثبت له ذلك، ولكننا لا نعلم كيفية نزوله إذ لم ينقل لنا تكييف نزوله في خبرٍ من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: «في مُسْنَدِ» أي: في حديثٍ مُسْنَدٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم. و «الحديثُ المسْنَدُ» في اصطلاح أهل الحديث (1) هو: الخبر المنقول بسندٍ متصلٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا بد فيه من اتصال السند، وأن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذان البيتان في إثبات صفة النزول، ونفي التكييف، هما من أوضح ما جاء في هذه القصيدة، ففي البيت الأول أثبت رحمه الله النزول

_ (1) ينظر: «مقدمة ابن الصلاح» (ص 42)، و «نزهة النظر» (ص 154)، و «فتح المغيث» (1/ 181).

الإلهي الذي نقلته الثقات، وتواتر ذكره عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وفي البيت الثاني نفى العلم بالكيفية، وهذا هو الواجب في هذه الصفة وفي كل الصفات، الإثبات مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية، وهو المراد بقول أهل السنة: «بلا تكييف». وفرقٌ بين نفي الكيفية، ونفي العلم بالكيفية. فلصفات الله كيفيةٌ لا يعلمها غيرُه سبحانه، كما قال الإمامُ مالكٌ وغيرُه: «والكيفُ مجهولٌ» فلم ينف الكيفية بل نفى العلم بها، فنزول الله عز وجل له كيفية، لكننا لا نعلمها، واستواؤه سبحانه على العرش له كيفية، ولكننا لا نعلمها، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في جوابِه المُسَدَّد: «الاستِوَاءُ مَعْلومٌ، والكَيفُ مَجْهُولٌ» (1) فالاستواء له معنى معروف في اللغة العربية، والله خاطب عباده بلسانٍ عربيٍّ، فنحن نثبته بمعناه المعروف عند العرب، ولكن كيفية استوائه سبحانه مجهولة لنا، فهكذا نقول في نزوله سبحانه. فإذا قال القائل: كيف النزول؟ قلنا له: (النزول معلوم) أي: أن له معنىً معقولاً، فالنزول فيه معنى الدُنُوّ والاقتراب، والله تعالى وهو فوق سماواته على عرشه يَقْرُبُ من خلقه إذا شاء كيف شاء، ولا يصح أن نطلق للعقول العنان في التفكير في كيفية نزول الله عز وجل، بل لا يجوز أن نفكر في كيفية النزول، وأيضا لا يجوز أن نفكر في ذات الله سبحانه، وهنا أصلٌ ذكره أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2)

_ (1) تقدم تخريجه (ص 42). (2) ينظر: «الرسالة التدمرية» (ص 43)، و «شرح حديث النزول» (ص 79).

22. قالوا: فينظر بالعيون؟ أبن لنا ... فأجبت: رؤيته لمن هو مهتدي

وهو: أنَّ القول في الصفات كالقول في الذات، ومن هذا الأصل نقول: فكما أنَّه لا يَعْلَم كيف هو إلاَّ هو سبحانه، فكذلك لا يعلم كيفية نزوله إلا هو سبحانه. فمن قال لنا كيف ينزل؟ نقول له: كيف هو؟ فإذا قال: لا يَعْلَم كيف هو إلا هو، قلنا له: فكذلك لا يعلم كيفية نزوله إلا هو، فالعلم بكيفية الصفة فرعٌ عن العلم بكيفية الموصوف. قال الناظمُ رحمه الله: 22. قَالُوا: فَيُنْظَرُ بِالعُيُونِ؟ أَبِنْ لَنَا ... فَأَجَبْتُ: رُؤيَتُه لِمَنْ هُوَ مُهْتَدِي قوله: «قَالُوا: فَيُنْظَرُ بِالعُيُونِ؟» يعني: أفيُنْظَرُ الله سبحانه بالعيون؟ وهذا على تقدير حذف همزة الاستفهام، وهو كثير في لغة العرب. والمعنى: هل يُنظر الله سبحانه وتعالى بالأبصار نظراً حقيقياً؟ وقوله: «أَبِنْ لَنَا» يعني: بيِّن لنا أيها الشيخُ الصوابَ في هذه المسألة، ووضح لنا الحق فيها، وذلك لأن الناس اختلفوا في رؤية العباد لربهم يوم القيامة. وقوله: «فَأَجَبْتُ: رُؤيَتُهُ» هذا مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، أي: رؤيةُ العِبَادِ لربهم. وقوله: «لِمَنْ هُوَ مُهْتَدِي» أي: إنَّ رؤيتَه سبحانه وتعالى حاصِلَةٌ وَوَاقِعَةٌ يومَ القيامةِ لكل مَن هو مهتَدٍ، فـ «مَنْ» اسمٌ موصولٌ من صِيَغِ العموم، فتشمل كل مهتدٍ بهُدَى الله، من الأولين والآخرين. فالمهتدون بهدى الله والسائرون على صراط الله يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة رؤيَةً بصريَّةً حقيقيَّةً.

وهذا الجواب من الناظم جوابٌ سديدٌ، لكنَّه مُجْمَلٌ، كما سيأتي. والأدلة على إثبات الرؤية معلومةٌ من الكتاب والسنة. أما الكتاب: ففي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، فقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أي: بَهِيَّةٌ مشرِقَةٌ نَضِرَةٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يعني: تنظر إلى ربها، وهذا هو الصواب في تفسير هذه الآية (1)، وهذه الآية أصرحُ آيةٍ استدل بها أهلُ السنة على إثبات الرؤية. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، في هذه الآية توعَّدَ اللهُ الكفَّارَ بأنَّهم محجُوبُون عن ربِّهم لا يرونَه، فدلَّ ذلك على أنَّ المسلمين على خلاف ذلك، وأنَّهم يرونه سبحانه وتعالى وهو راضٍ عنهم، ولهذا قال سبحانه بعد هذه الآية: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)} [المطففين:22 - 23]، قيل: ينظرون إلى ربهم (2)، ونظرهم إلى ربهم داخلٌ في هذه الآية على كل تقديرٍ، سواءٌ قيل: إنَّ الآية خاصةٌ بهذا النَّظر، أو شاملةٌ لكلِّ ما يَنْظُرُونَ إليه. فقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} [المطففين:22 - 24] هذه الآية تضمنت ذكر نضارة وجوه الأبرار، ونظرهم بأبصارهم إلى ربهم، فأشبهت هذه الآيةُ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].

_ (1) ينظر: «تفسير الطبري» (29/ 192)، و «تفسير ابن كثير» (4/ 451). (2) ينظر: «تفسير ابن كثير» (4/ 487).

ومن الآيات الدالة على إثبات الرؤية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، قد فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم والتابعون «الزيادة» (1) و «المزيد» (2) في هاتين الآيتين بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى. وأما السنة: فالأدلة الدالة على ذلك كثيرةٌ شهيرةٌ (3)، ولهذا قيل:

_ (1) أخرج مسلم في «صحيحه» (1/ 163 رقم 181) من حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قال: يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شيئاً أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وتنجينا من النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فما أُعْطُوا شيئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ من النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عز وجل، ثُمَّ تَلا هذه الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}». قال البيهقيُّ في «الاعتقاد» (ص 123): (وقد فسَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المبيِّنُ عن الله عزَّ وجلَّ، فمَن بعده من الصحابة الذين أخذوا عنه، والتابعين الذين أخذوا عن الصحابة أنَّ «الزيادة» في هذه الآية النظرُ إلى وجه الله تبارك وتعالى وانتشر عنه وعنهم إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة بالأبصار). وللاستزادة ينظر سياق الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب في «اعتقاد أهل السنة» لللالكائي (3/ 455 - 463). (2) قال اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» (3/ 469): (قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} روي عن عليٍّ وأنسِ بنِ مالكٍ: أنَّه النظر إلى وجه الله عز وجل، ومن التابعين: زيدُ بنُ وَهْبٍ وقال: يتجلى لهم كل جمعة). (3) قال ابن حجر في «الفتح» (13/ 530): (جَمَعَ الدارقطنيُّ طُرُقَ الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في «حادي الأرواح» فبلغت الثلاثين، وأكثرُها جيادٌ، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعةَ عشرَ حديثاً في الرؤية صحاحٌ). وقد صنَّف في إثبات الرؤية جماعةٌ من أهل العلم، منهم: الدارقطني في كتابه «الرؤية»، وابن النحاس في كتابه «رؤية الله تبارك وتعالى»، والآجري في كتابه «التصديق بالنظر إلى وجه الله تعالى» للآجري، وغيرهم.

إن السنة متواترة في الدلالة على رؤية المؤمنين لربهم (1). ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جَرِير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جُلُوسًا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إلى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا الْقَمَرَ لا تُضَامُونَ (2) في رُؤْيَتِهِ ...» (3). وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال أُنَاسٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ هل نَرَى رَبَّنَا يوم الْقِيَامَةِ؟ فقال: «هل تُضَارُّونَ في الشَّمْسِ ليس دُونَهَا سَحَابٌ؟» قالوا: لا

_ (1) نصَّ على تواتر أحاديث الرؤية جماعةٌ من أهل العلم، منهم: الأشعري في «الإبانة» (1/ 14)، وابن حزم في «الفِصَل» (3/ 3)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (13/ 35)، وفي «درء التعارض» (7/ 30)، وتلميذه ابن القيم في «حادي الأرواح» (ص 231)، والذهبيُّ في «السير» (2/ 167) و (10/ 455)، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 578)، وابن حجر في «الفتح» (8/ 384)، والكتاني في «نظم المتناثر» (ص 238 - 240)، وغيرهم. (2) قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (3/ 18): (قوله: «هل تُضَامون» ورُوي «تُضَارون» -بتشديد الرَّاء وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما-، ومعنى المشدَّد: هل تضارون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه كما تفعلون أول ليلة من الشهر، ومعنى المخفَّف: هل يلحقكم في رؤيته ضَيْرٌ وهو الضرر. وروي أيضاً: «تضامون» -بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شدَّدَها فتح التاء ومن خفَّفَها ضَمَّ التاء-، ومعنى المشدَّد هل تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفَّف هل يلحقكم ضَيمٌ وهو المشقة والتعب، قال القاضي عياض رحمه الله: وقال فيه بعض أهل اللُّغة: تضارون أو تضامون -بفتح التاء وتشديد الرَّاء والميم- وأشار القاضي بهذا إلى أن غير هذا القائل يقولُهما بضمِّ التاء سواء شدَّد أو خفَّفَ وكلُّ هذا صحيحٌ ظاهرُ المعنى) أ. هـ (3) أخرجه البخاري (1/ 203 رقم 529)، ومسلم (1/ 439 رقم 633).

يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «هل تُضَارُّونَ (7) في الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ليس دُونَهُ سَحَابٌ؟»، قالوا: لا يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يوم الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ» (1). فقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب» في هذا تشبيهٌ للرؤية بالرؤية، لا تشبيهُ المرئي بالمرئي. فالمُشَبَّه: هو رؤية المؤمنين لربهم، والمُشَبَّه به: هو رؤيتهم للشمس والقمر، وذلك أنهم يرونه سبحانه وتعالى بأبصارهم من غير إحاطة، ويرونه رؤيةً جَلِيَّةً لا خَفاءَ فيها، ويرونه أيضاً في جهة العلو. فهذا هو وجه الشبه بين المُشبَّه والمُشَبَّه به، فوجه الشبه بين رؤية المؤمنين لربهم وبين رؤيتهم للشمس والقمر إنما هو من هذه الوجوه من كونها رؤيةً بصريَّةً واضحةً من غير إحاطةٍ، وفي جهة العلو. فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى يُرى بالأبصار حقيقة، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عَيَانَاً بأبصارهم. وخالف في ذلك الجهمية والمعتزلة، فقالوا: إنَّه تعالى لا يُرى بالأبصار، وحرّفوا كلام الله وكلام رسوله وفسّروا الآيات والأحاديث بخلاف ما تدل عليه، واستدلوا على مذهبهم الباطل بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقوله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام لما قال له: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقد بيَّن أهل العلم بطلان هذا الاستدلال وبيَّنُوا أنَّ هاتين الآيتين حجَّة عليهم لا لهم؛ لأنَّ قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} هو نفيٌ للإدراك الذي هو الإحاطة، فهو سبحانه لا تحيط به الأبصار، فليس في هذا نفيٌ للرؤية مطلقاً، بل هو نفيٌ للرؤية التي تكون

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 2403 رقم 6204)، ومسلم (1/ 163 رقم 182).

معها الإحاطة، ولو كان سبحانه وتعالى لا يُرى لما صحَّ نفيُ الإدراك، فلا يصح أن يقال حينئذٍ: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، بل يُقال: (لا تَرَاهُ الأَبْصَارُ)، فلما نفى إدراك الأبصار له سبحانه وتعالى دلَّ على أنه يُرى لكن من غير إحاطة، فالأبصار لا تحيط به سبحانه؛ لكمال عظمته عز وجل. وهكذا قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} فقد زعم المستدلون بهذه الآية على نفي الرؤية بناء على أنَّ «لن» تدل على التأبيد، يعني: لن تراني أبداً. وقد ردَّ المحقِّقُون من أهل اللُّغَة القول بأنَّ «لن» تفيد التأبيد، كما قال ابن مالك في «الكافية الشافية»: وَمَنْ يَرَى النَّفْيَ بِـ «لَنْ» مُؤبَّدَا ... فَقَولَهُ ارْدُدْ وَخِلاَفَهُ اعْضُدَا (1) فالصحيح أنَّ «لن» تكون للتأبيد ولغير التأبيد، ومما يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ -يعني الموت- أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، فاجتمع في هذه الآية «لن» مع ذكر التأبيد، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن أهل النار يتمنون الموت كما قال سبحانه: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} [الزخرف: 77]، فعُلم أن النفي في آية البقرة -وهو نفي تمنيهم الموت- إنما هو في الدنيا، بدليل تمنيهم الموت في الآخرة بعد دخولهم النار كما في آية الزخرف. وأيضاً فإنه تعالى لو كان لا يُرى أبداً لم يقل لموسى عليه السلام: {لَنْ تَرَانِي}، ولقال له: (إني لا أُرى)، وفرقٌ بين اللَّفظين، فإنَّ قولَه: {لَنْ تَرَانِي} يُفهم منه أنه تعالى يُرى ولكنَّ موسى لن يراه في ذلك الوقت الذي طلب فيه الرؤية. وقد أطال العلماءُ في ردِّ الاستدلالَ بهذه الآية على نفي الرؤية،

_ (1) «الكافية الشافية» مع شرحها للناظم (3/ 1515).

وفصَّلوا القول في إبطال ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ مأخوذة من الآية نفسها، ومن هؤلاء العلماء العلامةُ ابنُ القيِّم رحمه الله في كتابه «حادي الأرواح» (1)، فقد فصَّل القولَ في هذه المسألة، وأبطل الاستدلال بهذه الآية على نفي الرؤية من سبعة أوجهٍ. ومن أقوال أهل البدع المنحرفة في مسألة «الرؤية» قول الأشاعرة، فإنهم يقولون: إنَّه تعالى يُرى لكن لا في جهة، يعني: لا يُرى من فوق، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا من أسفل، وهذا دارجٌ على طريقتهم في التلفيق في باب الصفات، كما صنعوا في إثبات الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا أكثرها، ومثل ذلك قولهم في صفة الكلام فإنهم أثبتوا الكلام النفسي، ونفوا الكلام المسموع، وهكذا قولهم في «الرؤية» ملفَّقٌ من مذهب أهل السنة، ومن مذهب المعتزلة، بل حقيقة قولهم في الرؤية يؤول إلى نفي الرؤية، فإنَّ الرؤية في غير جهةٍ غيرُ معقولة (2)؛ لأنَّه لا بد أن يكون المرئيُّ في جهةٍ من الرائي، ولذا أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تعالى يُرى في العلو. ومنشأ قول الأشاعرة من أنه تعالى يُرى لا في جهة هو أنهم ينفون صفة «العلو» لله عز وجل، فهم ينفون علو الله عز وجل على خلقه، فالله عندهم في كل مكان، ولا يوصف بأنه فوق المخلوقات بمعنى: أنه فوقهم بذاته، لكن إذا قالوا: بأن الله فوق المخلوقات فيعنون بذلك الفوقية المعنوية، وهي فوقية القَدْر.

_ (1) (ص 196 - 198). (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 84): (قول هؤلاء -يعني الأشاعرة- إن الله يُرى من غير معاينة ومواجهة، قولٌ انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهورُ العقلاء على أنَّ فسادَ هذا معلومٌ بالضرورةِ، والأخبارُ المتواترةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تَرُدُّ عليهم).

فمذهب أهل السنة والجماعة حقٌّ خالصٌ، ومذهب الجهميَّة والمعتزلة مذهبٌ باطلٌ ليس فيه من الحقِّ شيءٌ، ومذهب الأشاعرة فيه حقٌّ وباطلٌ، فقولهم: (إنه يُرى بالأبصار) حقٌّ، وقولهم: (لا في جهة) باطلٌ. فالمهم أنَّ الناظمَ رحمه الله أجاب بهذا الجوابِ المختَصَرِ: «رُؤيَتُهُ لِمَنْ هُوَ مُهْتَدِي»، وهذا الجواب جوابٌ مجمَلٌ لا تفصيل فيه، فلا يمكن من خلاله تحديد مذهب الناظم، هل هو جارٍ على مذهب أهل السنة من أنَّه تعالى يُرى بالأبصار، وأن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، أو أنَّه جارٍ على طريقة الأشاعرة من أنه تعالى يُرى لكن في غير جهة؟ فالجزم بهذا أو ذاك يحتاج إلى الرجوع إلى ما يوجد من كلامه في هذه المسالة في غير هذا الموضع (1). ومن المسائل المتعلقة بالرؤية: أنَّ المؤمنين يتفاوتون في رؤيتهم لربهم عزَّ وجلَّ، فليسوا هم على درجةٍ واحدةٍ في ذلك، وقد جاء ما يدل على هذا. وهذا هو موجَب حكمةِ الربِّ وفضلِهِ في جزاء أوليائِهِ، فلا يُسَاوَى مَن يكون في أدنى درجات الجنَّةِ بمَن هو في أعلى درجاتها من الأنبياء والصديقين والكُمَّل من أتباع الرسل، بل بينهم تفاضل في ذلك، فكما أنهم متفاضلون في الدرجات فكذلك هم متفاضلون في نظرهم إلى ربهم.

_ (1) وقد وقفتُ على كلامٍ له في بعض كتبه صرَّح فيه بمذهبه في هذه المسألة، فقال في كتابه «التمهيد في أصول الفقه» (3/ 285) ما نصه: (وإجماعُنا أنَّ الله يُرَى لا في جهةٍ)، وهذا النصَّ صريحٌ في أنه جارٍ على مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، وقد ورد عنه أيضاً إنكارُ الجهةِ لله عز وجل، فقال في كتابه «الانتصار» (2/ 173): (وفي استقبال الله سبحانه على الحقيقة لا يُتَصَوَّر معنى الابتلاء؛ لأنَّه سبحانه لا جهةَ له).

23. قالوا: فهل لله علم؟ قلت: ما بالعيون؟ أبن لنا ... من عالم إلا بعلم مرتد

وقد جاء ما يدل على أنَّ أهلَ الجنة لهم موعدٌ يرون فيه ربهم، وهو يقابل يوم الجمعة في الدنيا، وأن ذلك اليوم يسمى «يوم المزيد» يوم القيامة، وأما أهلُ الدرجاتِ العُلَى -الأنبياءُ والصدِّيقُون- فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ من فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وما فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ من ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وما فِيهِمَا، وما بين الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ على وَجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ» (1). ومن المسائل أيضاً: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل ليلة المعراج، وهذه المسألة الخلاف فيها مشهورٌ بين أهل السنة (2)، والصحيح في المسألة أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه (3). ثم قال الناظمُ رحمه الله: 23. قَالُوا: فَهَلْ لله عِلْمٌ؟ قُلْتُ: مَا بِالعُيُونِ؟ أَبِنْ لَنَا ... مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ بِعِلْمٍ مُرْتَد قوله: «قَالُوا: فَهَلْ لله عِلْمٌ؟» يعني: هل يوصف الله عز وجل بالعلم؟ فهل يُقال: عِلْمُ الله، كما يقال: حياتُه وسمعُه وبصرُه؟.

_ (1) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري (4/ 1848 رقم 4597)، ومسلم (1/ 163 رقم 180). (2) ينظر في تفصيل هذه المسألة وأقوال أهل العلم فيها رسالةُ: «رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عزَّ وجل» للدكتور محمد خليفة التميمي. (3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (6/ 509): (وليس في الأدلة ما يقتضي أنَّه رآه صلى الله عليه وسلم بعينِه، ولا ثبت ذلك عن أحدٍ من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوصُ الصحيحةُ على نفيهِ أدلُّ، كما في صحيحِ مسلمٍ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: «نورٌ أنَّى أَرَاهُ»).

فأجاب الناظم بقوله: «قُلْتُ: مَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ بِعِلْمٍ مُرْتَدِ» يعني: كلُّ مَن قيل عنه إنَّه عالِمٌ فلا بد أن يكون العِلْمُ صفةً له، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: عليمٌ بلا علمٍ، سميعٌ بصيرٌ بلا سمعٍ ولا بصرٍ، وهذا بناءً على أصلهم الفاسد في إثبات الأسماء ونفي الصفات، فلما كان أصلُ مذهبهم نفي صفات الباري سبحانه وتعالى وإثبات الأسماء أثبتوا الأسماء ونفوا ما تدل عليه من المعاني. ففي هذا البيت رَدٌّ لمذهبِ المعتزلة، وتحقيقٌ للمذهب الحق في أن أسماءه تعالى متضمنةٌ للصفات، فكلُّ اسمٍ متضمِنٌ لصفةٍ، فالاسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى صفته بالمطابقة، وعلى أحدهما بالتضمُّن، وعلى ما يستلزمه هذا الوصف بطريق اللزوم (1). فاسمه «العليم» مثلاً يدل على ذات الله، وعلى صفة العلم بالمطابقة، وعلى أحدهما بالتضمن، ويدل على صفة «الحياة» بطريق اللزوم، فإنَّ العلمَ مستلزم للحياة. وعلى هذا فتكون أسماء الله مترادفةً في دلالتها على الذات، فتقول: العليم هو العزيز، وهو الحكيم، وهو القدير؛ لأنَّ المسمَّى بها واحدٌ.

_ (1) تنقسم الدلالة اللفظية الوضعية إلى ثلاثة أقسام: 1. دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ على كمال المعنى الذي وضع له. 2. دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له. 3. دلالة الالتزام: وهي دلالة اللفظ على أمرٍ خارجٍ عنه لازمٍ لمعناه لزوماً ذهنياً. ينظر تفصيل ذلك في: «شرح السُّلَّم المُنَوْرَق» للأَخْضَرِي (ص 25 - 26)، و «المنطق المفيد» للبَهْنَسِي (1/ 13 - 14)، و «آداب البحث والمناظرة» للشنقيطي (ص 20).

ومتباينةً في دلالتها على الصفات، فيصح أن تقول: العليمُ غير الحكيم، والعزيزُ غير القدير، والسميعُ غير البصير، وذلك بالنظر إلى اختلاف معاني هذه الأسماء. وقوله: «مَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ بِعِلْمٍ مُرْتَدِ» «مُرْتَدِ» كأنَّه أخذها من الرِّدَاء، أي: متصِفٌ بالعلمِ، فالعلمُ صفةٌ قائِمَةٌ بالله عزَّ وجَلَّ، فلا يُعقَل أن يوجد عالِمٌ بلا علمٍ، فكل مَن وُصِف بأنه عالِمٌ أو عليمٌ فلا بد وأن يكون العلمُ صفةً له قائمة به. وبهذا يُعلم أن أسماء الله عز وجل ليست أعلاماً محضةً، كما هو مقتضى قول المعتزلة من أن أسماء الله أعلامٌ محضةٌ لا تدل على معانٍ، بل الصحيح أنها أعلامٌ وصفاتٌ، فـ «الرحمن» عَلَمٌ على الرَّبِّ، وهو أيضاً صفةٌ له سبحانه وتعالى. ونظير هذا أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها أعلامٌ وصفاتٌ فاسمه صلى الله عليه وسلم «محمَّد» ليس كاسم «محمَّد» من سائر الناس، فأسماء الناس هي أعلامٌ فقط، لا تدل على صفة، أما اسم الرسول صلى الله عليه وسلم «محمَّد» فإنَّه عَلَمٌ على شخصه صلى الله عليه وسلم، ودالٌ على كثرة محامِدِه وكثرة ما يُحمد، فـ «محمَّد» اسمٌ مفعولٌ من حُمِّد، وهكذا اسمه «أحمد» هو أفعل تفضيل من الحمد، فهو صلى الله عليه وسلم أحمدُ من غيره، أي أكثر حمداً لله عز وجل من غيره، وأكثر من غيره حَمْدَاً، يعني: حَظُّهُ من حَمْدِ النَّاس له أكثر من غيرِهِ. فاسمه «أحمد» قيل: إنَّه مشتقٌ من حُمِد، وقيل: مشتقٌ من حَمِد، وكلا المعنيين صحيحٌ في حقِّه صلى الله عليه وسلم (1).

_ (1) ينظر: «جلاء الأفهام» لابن القيم (ص 277 وما بعدها)، فقد أطال في الكلام على هذه المسألة بكلامٍ جميلٍ، فليرجع إليه.

24. قالوا: تصفه بأنه متكلم؟ ... قلت: السكوت نقيصة بالسيد

وهكذا أسماؤه الأخرى كلُّها تدلُّ على معانٍ: البشيرُ النذيرُ، السراجُ المنيرُ، وغيرها من الأسماء، وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لي أَسْمَاءً أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أَحْمَدُ، وأنا الْمَاحِي الذي يَمْحُو الله بِيَ الْكُفْرَ، وأنا الْحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ الناس على قَدَمِي، وأنا الْعَاقِبُ الذي ليس بَعْدَهُ أَحَدٌ» (1)، وهذا يدل على أنَّ أسماءه صلى الله عليه وسلم هي أعلامٌ وصفاتٌ أيضاً. وكذلك أسماءُ الرَّب سبحانه وتعالى ليس شيءٌ منها عَلَمَاً محضاً لا يدل على معنى، بل هي أعلامٌ وصفاتٌ، حتى اسمه «الله» الذي هو أخص أسمائه به سبحانه وتعالى، هو عَلَمٌ وصفةٌ، والتحقيق أن هذا الاسم مشتقٌ وليس بجامد، فـ «الله» أصلها «الإله»، قيل: حُذفت الهمزةُ، وأُدغِمَت اللام في اللام مع التفخيم فصار «الله»، فهو يدل على الألوهية، فالله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه (2). وهذا الجواب من الناظم رحمه الله يتبين منه أنه يُثبت الاسم والصفة، فهو سبحانه عليمٌ بعلمٍ، وقد أحسن في هذا رحمه الله وأصاب الصواب فجزاه الله خيراً، والله أعلم. قال الناظمُ رحمه الله: 24. قَالُوا: تَصِفْهُ بِأَنَّه مُتَكَلِّمٌ؟ ... قُلتُ: السُّكُوتُ نَقِيْصَةٌ بِالسيِّد يقول الناظم رحمه الله: «قَالُوا: تَصِفْهُ» بسكون الفاء لضرورة الوزن، وإلا فالأصل أنه مرفوعٌ؛ لأنه فعلٌ مضارعٌ تجرَّد من النَّاصِب والجَازِم، ووقع في «المنتَظَم»: «قَالُوا: فَيُوصَفُ أَنَّه مُتَكَلِّمٌ؟».

_ (1) متفقٌ عليه من حديث جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3/ 1299 رقم 3339)، ومسلم (4/ 1828 رقم 2354). (2) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (1/ 54).

هذا هو السؤال، أي: هل الله متكلِّمٌ؟ وهل هو موصوفٌ بالكلام؟. فأجاب الناظم رحمه الله عن هذا السؤال بقوله: «قُلتُ: السُّكُوتُ نَقِيْصَةٌ بِالسيِّدِ»، ويفهم من هذا الجواب أنَّ الله متكلِّمٌ، خلافاً للجهمية والمعتزلة القائلين بأنَّه تعالى غيرُ متكلِّم، ولا يقوم به الكلام، بل لا تقوم به أيُّ صفةٍ من الصفات -تعالى الله عن قول الظالمين والجاهلين والمفترين علواً كبيراً- {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. فعدم القدرة على الكلام نَقِيصَةٌ وأيُّ نَقِيصَة، والله عز وجل قد احتجَّ على بني إسرائيل وبَيَّنَ لهم بطلان إِلهيَّة العِجْل بأنَّه لا يتكلَّم، والذي لا يتكلم يكون ناقصاً، والناقص لا يصلح أن يكون إلهاً، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} [الأعراف: 148]، وقال في الآية الأخرى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 88 - 89]، فالكلام ضده الخَرَس، والخَرَس عيبٌ وأيُّ عيبٍ، فالجهمية عطَّلُوه سبحانه عن صفات الكمال، ومنها الكلام. وتعبير الناظم رحمه الله بـ «السكوت» هنا إما أن يكون أراد به الخَرَس، لكنه لجأ إلى التعبير بالسُّكُوت لأجل النظم، إذ لم يسعفه التعبير بالخَرَس، وإما أن يكون ممن يذهب إلى أن الله تعالى لا يوصف بالسكوت. وثَمَّةَ فَرْقٌ بين الخَرَسِ والسكوت، فـ «الخَرَس» هو العَجْزُ وعدمُ القدرة على التكَلُّم، فالأخرس كالأبكم، وأمَّا «السكوت» فهو ترك الكلام ممن هو قادرٌ عليه، فالقادر على الكلام يتكلَّم إذا شاء ويَسْكُت إذا شاء.

فالسكوتُ ذاتُه ليس عيباً على الإطلاق، وإنما العيب سكوت الأخرس وعدم تكلمه، فإذا كان السكوت بسبب العجز عن الكلام فهو عيب ونقص بلا ريب، وأما إذا كان السكوت عن اختيار ومشيئة فهذا لا يُعَدُّ عيباً ولا نقصاً. فكان الأجدر بالناظم أن يُعَبِّرَ بغير السكوت، ولكن لا ريب أن مقصوده بـ «السكوت» السكوتُ عن عَجْزٍ لا عن مشيئةٍ واختيارٍ. قوله: «نَقِيصَةٌ» أي: خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ، فالعجز عن الكلام يعدُّ نقصاً في المخلوق فكيف بالخالق؟ فإذا كان الكلام صفة كمال في المخلوق، فالله تعالى أولى وأحرى أن يكون متكلِّماً. وقوله: «بالسَّيِّدِ» «السَّيِّدُ»: هو الله عز وجل، وهو اسمٌ من أسمائِه سبحانه (1). هذا، وقد اختلفَ النَّاسُ في كلامِ الله: فذهبت الجهمية والمعتزلة إلى نفي الكلام عن الله تعالى كسائر الصفات. وذهبت الكلابية والأشاعرة إلى أنَّ كلامَ الله معنى واحدٌ نفسيٌّ، أو هو أربعة معاني، لكن كلامه ليس بحرفٍ ولا صوتٍ، فكلامه لا يُسْمَع منه، بل هو أمرٌ معنويٌّ، قائمٌ بنفسِه.

_ (1) أخرج أحمد في «المسند» (4/ 24 رقم 16350) و (4/ 25 رقم 16359)، والبخاري في «الأدب المفرد» (1/ 83 رقم 211)، وأبو داود في «سننه» (4/ 254 رقم 4806) -واللفظ له-، والنسائي في «الكبرى» (6/ 70 رقم 10074 و 10076) جميعهم من طُرُقٍ عَنْ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشخِّيْرِ قَالَ: قَالَ أَبي: انْطَلَقْتُ فِى وَفْدِ بَني عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (5/ 179): (رجالُه ثقاتٌ، وقد صَحَّحَه غيرُ واحدٍ).

فالأشاعرة يقولون: كلام الله هو معنى نفسيٌّ واحِدٌ قديمٌ. فقولهم: «هو معنى نفسيٌّ»: يعني ليس بحرفٍ ولا صوتٍ. وقولهم: «واحدٌ»: يعني ليس فيه تَعَدُّد. وقولهم: «قديْمٌ»: يعني ليس بمشيئته سبحانه وتعالى، بل هو لازمٌ لذاته كحياته. وفي المسألة مذاهب أخرى، وكل هذه المذاهب الكلامية فيها حقٌّ وباطلٌ، والمذهبُ الحقُّ الخالصُ من الباطلِ هو مذهب أهل السنة والجماعة، فحقيقة مذهبهم أنَّ الله تعالى لم يزل يتكلَّم إذا شاء بما شاء كيف شاء، فكلامه عزَّ وجلَّ قديمُ النَّوع حادِثُ الآحاد، فالله سبحانه نادى الأبوين آدم وحواء (1)، ونادى كليمه موسى عليه السلام (2)، ونادى خاتم رسله وخيرة خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (3)، وهو سبحانه ينادي ملائكته أو من شاء من ملائكته (4)، وأخبر سبحانه أنه ينادي المشركين مُوبِّخَاً لهم يوم

_ (1) كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]. (2) كما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10]، وقوله تعالى: {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] وغيرهما. (3) كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [في مواضع، ومنها: التحريم: 1 و 9]، و {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41 و 67]. (4) كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" (1/ 191) رقم (202) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 26]، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي" وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ -وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ.

القيامة، فقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)} [القصص: 62 و 74]، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]. فأهل السنة عندهم أنَّ كلام الله صفةٌ قائمةٌ به، تابعةٌ لمشيئته، فهي صفةٌ ذاتِيَّةٌ فعليَّةٌ، وأنَّه سبحانه يتكلَّم بصوتٍ يسمعُه مَن شاء سبحانه وتعالى، فموسى كلَّمَه ربُّه فسَمِعَ كلامَ ربِّه منه إليه بلا واسطة، ولكن من وراء حجاب، وليس كلام الله ككلام البشر أو أحدٍ من الخلق، كسائر صفاته سبحانه وتعالى، وهذا مذهبُ أهلِ السُنَّة والجَمَاعَة في صفة كلام الله عز وجل. وإذا كان الله عز وجل يتكَلَّم إذا شاء كيف شاء، فهذا يقتضي أنَّه سبحانه يتكلَّم إذا شاء ولا يتكلَّم إذا شاء، وهذا هو السكوت، ومما ورد في نسبة «السكوت» إلى الله عز وجل قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله فَرَضَ فرائضَ فلا تضيِّعُوها، وحَدَّ حدوداً فلا تَعْتَدُوها، وسَكَتَ عن أشياء رحمةً بكم غير نِسيَان فلا تسألوا عنها» (1).

_ (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (22/ 221 رقم 589)، وفي «مسند الشاميين» (4/ 338 رقم 3492)، والدارقطني في «سننه» (4/ 184 رقم 4350)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 17)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 12 - 13)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 9) جميعهم من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعاً، وهذا إسنادٌ منقَطِعٌ، فإنَّ مكحولاً لم يصحَّ له سماعٌ من أبي ثعلبة، كما قاله غير واحد من الحفاظ. إلا أنَّ للحديث شاهداً حسناً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أخرجه البزَّار في «مسنده» (10/ 26 رقم 4087) وقال: إسناده صالحٌ، والدارقطني في «سننه» (2/ 137)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 375) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 12 رقم 19508). وعلى هذا فالحديث حسنٌ بشواهده، وقد حسَّنَهُ النوويُّ في «الأربعين» (رقم 30)، والحافظُ أبو بكرِ ابنُ السمعاني في «أماليه» -قاله ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» -،وغيرهما، والله أعلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (6/ 179) بعد أن أورد حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه: (ثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بـ «السكوت»، لكن السكوت يكون تارة عن التكُّلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه).

25. قالوا: فما القرآن؟ قلت: كلامه ... لا ريب فيه عند كل موحد

قال الناظمُ رحمه الله: 25. قَالُوا: فَمَا القُرْآنُ؟ قُلتُ: كَلاَمُهُ ... لاَ رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ كُلِّ مُوَحِّد قوله: «قَالُوا: فَمَا القُرْآنُ؟» يعني: ما الذي تعتقده في القرآن؟، وهذا السؤال أخصَّ من السؤال السابق. فأجاب بقوله: «قُلتُ: كَلاَمُهُ» أي: إنَّ القرآنَ كلامُ الله، وهذا كلامٌ سديدٌ وجيِّدٌ، لكنَّه لا يظهرُ به مذهبُ أهل السنة والجماعة بشكلٍ واضحٍ مع تعدُّدِ المذاهب في كلام الله عز وجل، فغاية ما في هذا الجواب أنَّه يتضمَّن الرَدَّ على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: (القرآنَ مخلوقٌ)، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: (القرآنَ كلام الله، مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ). فجوابُ الناظم هنا مقتضبٌ وفيه إجمالٌ، وكثيرٌ من أجوبته في هذه القصيدة مقتَضَبَةٌ وموجَزَةٌ ومجمَلَةٌ لا يتضح بها مذهبُه على وجهِ التحديد. فقوله: «قُلتُ: كَلاَمُهُ» هذا حقٌّ، فالقرآن كلام الله، لكنه في الحقيقة جوابٌ مجملٌ من غير تفصيل، فكل الطوائف يقولون: (القرآن كلام الله)، لكنهم عند التفصيل لكل واحدٍ من تلك الطوائف مذهبٌ.

فالجهمية والمعتزلة يقولون: القرآن كلام الله، لكن إضافته إلى الله -عندهم- من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف. وأما الأشاعرة والكلابية فيقولون: القرآن كلام الله، لكنَّ كلامَ الله هو معنىً نفسي، فيقولون: إن هذا القرآن المكتوب هو عبارةٌ عن كلامِ الله، فكلام الله -عندهم- هو المعنى القائم بذات الرب عز وجل، فهو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فتسميتهم للقرآن بأنه كلام الله هو على جهة المجاز، فكلام الله حقيقة هو المعنى النفسي، وهذا القرآن المسموع المتلو المكتوب هو كلام الله؛ لأنَّه عبارة عن هذا المعنى النفسي. ومن طوائف المتكلمين: السالِمِيَّة، ومذهبهم في كلام الله أنَّه حروفٌ وأصواتٌ لكنَّها كلَّها قديمةٌ لا يتقدَّم بعضُها على بعضٍ، فليست الباءُ قبل السينِ، ولا السينُ قبل الميمِ في «البسملة»، ولذلك يُعرَفُون بـ «الاقترانية». ومعنى هذا: أنَّ الله لم يزل متكلِّمَاً بكلِّ كلامٍ يُضاف إليه، فلم يزل قائلاً: يا موسى، أو يا آدم، وهذا ظاهرُ الفسادِ عقلاً وشرعاً. فظهر بهذا أنَّه لا يمكن أن يتبيَّن مذهب الشخص إلا بالتفصيل. فمن عُرِف بالسُنَّة المحْضَةِ حُمِلَ كلامُه المجْمَل على ما هو معروفٌ من مذهبه. ومن عُرِفَ بالبدعة حُمِلَ كلامُه على ما هو معروفٌ من مذهبه. وأما من لم يعرف مذهبه على وجه التحديد فيصبح كلامه مجملاً يحتاج إلى بيان، وذلك بالنظر في سائر كلامه، أو بالنظر في مواضع أخرى له يمكن أن يُعرَف من خلالها حقيقةُ مذهبِهِ، ومن أيِّ الطوائِفِ هو في هذه المسألة.

وقوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ كُلِّ مُوَحِّدِ» أي: إنَّ كلَّ من يؤمن بالله وكتابِه فعنده أنَّ القرآنَ كلامُ الله لا شك في ذلك ولا ريب فيه. وهذا الكلام فيه من الإجمال ما فيه، وغايته أنَّ كلَّ واحدٍ يقول: (القرآنُ كلامُ الله) لكن على أيِّ وجهٍ؟ ووقع عند ابن الجوزي في «المنتَظَم» مكان الشطر الثاني: «مِنْ غَيرِ مَا حَدَثٍ وَغَيرِ تَجَدُّدِ»، وهذا التعبير أوضح وأصرح، ففيه أنَّ الناظم يقول: إنَّ القرآنَ كلامُ الله، وإنَّه قديمٌ، فالشطر الثاني فيه تتمَّةٌ للجواب، فكلام الله قديمٌ عنده، فالقرآن بهذا قديمٌ. وهذا يتفق مع ما أطلقه فيما مضى من أنَّ صفاتَ الله كذاتِه قديمةٌ لم تَتَجَدَّد، وقد سبق بيان ذلك، وتقدم أيضاً مناقشةُ الناظم في حكمه على جميع الصفات بالقِدَم، وهذا الإطلاق يقتضي أنَّ الناظم يقولُ بقِدَمِ كلامِ الله، يعني أنَّ كلامَ الله قديمٌ، فالقرآن أيضاً قديمٌ. فاللفظ الذي ورد عند ابن الجوزي يتفق مع ما ذكره الناظم في سائر الصفات من أنها قديمة غير متجدِّدَة، وهذا هو مذهب الأشاعرة من أن كلام الله معنى نفسي واحدٌ قديمٌ. ومعنى «قديم» أي: إنَّه لا أوَّلَ له، ولا تتعلقُ به المشيئةُ، وهذا باطلٌ، بل كلامُ الله بمشيئتِه، فهو سبحانه يتكلَّم إذا شاء بما شاء كيف شاء، ولكنَّه لم يزل سبحانه وتعالى متكلِّماً إذا شاء. والكلابيةُ والأشاعرةُ والسالميَّةُ كلُّهم يقولون بِقِدَمِ الكلام، يعني: أنَّ كلامَ الله قديمٌ، أي: ليس بمشيئتِه سبحانه، بل هو قائِمٌ به كحياتِه وعلمِه. والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة وهو موجَب العقل

26. قالوا: الذي نتلوه؟ قلت: كلامه ... لا ريب فيه عند كل موحد

والسمع، فالكمال هو أن يتكلَّم القادرُ إذا شاء ويترك الكلام إذا شاء، فكلامه بمشيئته. قال الناظمُ رحمه الله: 26. قَالُوا: الذي نَتْلُوهُ؟ قُلتُ: كَلاَمُهُ ... لا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ كُلِّ مُوَحِّد هذا السؤال أورده الناظم رحمه الله عن هذا «القرآن» الذي نتلوه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا، ونسمعه بآذاننا، ونحفظه في صدورنا. ويظهر من هذا السؤال أنَّه تكرارٌ لقوله في البيت السابق: «قَالُوا فَمَا القُرْآنُ؟ قُلْتُ: كَلاَمُهُ»، إلا أنَّه قيَّده في هذا البيت بـ «التلاوة» فقال: «قَالُوا: الذي نَتْلُوهُ؟» يعني: ما تقول في هذا الكلام الذي نتلوه؟ أهو كلام الله؟ أم هو كلام البشر تعبيراً عن كلام الله؟ فأجاب عن هذا السؤال بقوله: «قُلتُ: كَلاَمُهُ» أي: أنَّ هذا الذي نتلوه بألسنتنا هو كلامُ الله حَقاً، ولا ريب أنَّ القرآنَ كلامُ الله سواءً كان متلوَّاً بالأَلْسُن، أو مكتوباً في المصاحف، أو محفوظاً في الصدور، كل ذلك لا يخرجه عن كونه كلام الله، فهو كلام الله كيفما تصرَّفَ، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة. ولكن إذا نظرنا إلى قول الناظم رحمه الله في البيت السابق: «منْ غَيرِ مَا حَدَثٍ وَغَيرِ تَجَدُّدِ»، فإن كلامه هذا يقتضي أنه يذهب مذهب مَن يقول بقِدَم كلام الله، وعلى هذا فقوله هنا في الذي نتلوه إنه كلام الله هو على سبيل المجاز؛ لأنَّ هذا الذي نتلوه هو عبارةٌ عن المعنى النفسي القائم بالرَّب سبحانه وتعالى. وعلى هذا فالألفاظُ التي نتلوها مخلوقةٌ عُبِّر بها عن المعنى القائم بالرَّب سبحانه وتعالى.

فظهر من هذا أن مذهب الأشاعرة في هذا القرآن الذي نتلوه لا يختلف عن مذهب الجهمية والمعتزلة وقولِهم إنه مخلوقٌ. فعند الأشاعرة أنَّ كلامَ الله يُطلق حقيقةً على ذلك المعنى النفسي القائم بالرب تعالى، ويُطلق مجازاً على هذا الكلام الذي نتلوه ونسمعه ونكتبه. وأما الجهمية والمعتزلة فعندهم أن هذا الكلام الذي هو القرآن المكتوبُ في المصاحفِ والمتلُوُّ بالألسُنِ مخلوقٌ، ولم يَقُمْ بذاتِ الرَّبِّ شيءٌ منه لا معنى ولا لفظ. وقول الناظم: «قُلتُ: كَلاَمُهُ، لا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ كُلِّ مُوَحِّدِ»، هذا يؤكد أن القول بأن ما نتلوه هو كلامُ الله مما هو متَّفَقٌ عليه بين كلِّ الموحِّدين أي كلِّ المسلمين، فليس عندهم شكٌّ في ذلك ولا ريب. ووقع في نسخةٍ: «عندَ كُلِّ مُسَدَّدِ» أي لا ريب في ذلك عند كلِّ مسدَّدٍ وموفَّقٍ لمعرفةِ الحقِّ واعتقادِه. ولا يخفى أنَّ كلامَ النَّاظِم رحمه الله في هذا البيت لا يتضمن تحريرَ مذهبِه بوضوح، لكن قد تقدَّم معنا من مجموع كلامه في أول النظم وآخره ما يقتضي أنه يذهب في «القرآن» مذهب الأشاعرة لقوله في البيت السابق: «منْ غَيرِ مَا حَدَثٍ وَغَيرِ تَجَدُّدِ». ويحتمل أنه يذهب في «كلام الله» مذهب الاقترانية السالمية القائلين بأنَّ «القرآن» حروفٌ وأصواتٌ قديمةٌ في الأزل، وهو قول مبتدَعٌ مخالفٌ لمذهب أهل السنة، مناقضٌ للعقل والشرع، واحتمال أن الناظم يذهب في «كلام الله» مذهب الأشاعرة أقرب.

27. قالوا: فأفعال العباد؟ فقلت: ما ... من خالق غير الإله الأمجد

وأما إطلاقه على القرآن أو الذي نتلوه أنه كلام الله فقد تقدَّم معنا أن إطلاق اسم «كلام الله» على القرآن أو على الذي نتلوه قدرٌ مشتَرَكٌ بين الطوائِفِ، لكنَّ أهلَ السُنَّةِ والجماعة يقولون إنَّ القرآن الذي نتلوه ونكتُبُهُ هو كلامُ الله على الحقيقةِ، أما الأشاعرة فعندهم أنَّ إطلاق اسم «كلام الله» على الذي نتلوه هو من قبيل المجاز، وعند الجهمية والمعتزلة إضافته إلى الله هو كإضافة بعض المخلوقات إليه كالبيت والناقة، فإضافة الكلام إلى الله عندهم من باب إضافة المخلوق إلى خالقه. والواجب على المسلم أن يعتصم بما مضى عليه الصدر الأول، ومن تبعهم بإحسان قبل أن تفترق الأمة، وتتشعب بهم المذاهب والآراء المحدَثة، والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. قال الناظمُ رحمه الله: 27. قَالُوا: فَأَفْعَالُ العِبَادِ؟ فَقُلتُ: مَا ... مِنْ خَالِقٍ غَير الإِلَهِ الأَمْجَد قوله: «قَالُوا: فَأَفْعَالُ العِبَادِ؟» يعني: ما تقول في أفعال العباد؟. ومسألة أفعال العباد من المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الناس. فالجبرية يقولون: إنَّ العبدَ لا فِعْلَ له أصلاً، فأفعاله -عندهم- كصفاتِه، كطوله ولونه وشكله، فهي أفعالٌ مخلوقةٌ لله، وليس للعبد فيها مشيئةٌ ولا اختيارٌ ولا قدرةٌ، بل هو مضطرٌ إليها، كحركة المرْتَعِش والنَّائِم، وحركة الرِّيشَة في مهبِّ الرِّيح. فهذه طريقةُ الجَبْرِيَّة الَّذِين يقولون إنَّ العبدَ مجبورٌ على أفعاله،

ليس له فيها مشيئةٌ ولا اختيارٌ بل ولا قدرة، فأفعاله إنما هي حركاتٌ آليَّةٌ، مثل حركة الآلة التي هي جمادٌ ليس لها إرادةٌ ولا مشيئةٌ، وإنما تتحرك بحسب ترتيب من صَنَعَها. فهؤلاء يقولون: إنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله، وهذا حقٌّ، أما قولهم: إنها ليست أفعالاً للعبد حقيقة، وأنَّ إضافتَها ونسبتَها إليه نسبةٌ مجازيَّةٌ، وأنَّ العبدَ لا مشيئةَ له ولا اختيار، فهذا باطلٌ. ويقابل الجبريةَ المعتزلةُ، فإنَّ المعتزلةَ ينفون القَدَرَ، فيُخْرِجُون أفعال العباد عن أن تكون بمشيئة الله وقدرتِه وخلْقِهِ، فأفعالُ العِبَادِ عندهم ليست واقعةً بمشيئةِ الله ولا بقدرتِه، ولا هي خَلْقٌ من مخلوقات الله، فيُخْرِجُون أفعال العباد عن مُلْكِ الله وعن خلقه. فالمعتزلةُ «نفاةُ القَدَر» عندهم أنَّ أفعال العباد خارجةٌ عن مُلْكِ الله وقدرتِه ومشيئتِه، بل العبدُ عندهم هو الذي يخلُقُ فِعْلَ نفسِه بمشيئةٍ هو فيها مستَقِلٌّ عن مشيئَةِ الله، فالعبدُ يشاءُ ولو لم يشأ اللهُ. وعلى مذهبهم الباطل فإنَّ الله لا يقدر على أن يجعل المطيع عاصياً، ولا العاصي مطيعاً، ولا الكافر مؤمناً، ولا المؤمن كافراً، فمذهبهم يتضمن تَعْجِيزَ الرَّب، وأنه غيرُ قادرٍ، وأنَّه يقع في ملكِه ما لا يريد، فهذان المذهبان على طرفي نقيض. وأما الأشاعرةُ فالمشهور من مذهبهم أنَّ أفعالَ العِبَادِ مخلوقةٌ لله، كما يقول الجبرية، بل وكما يقول أهل السنة أيضاً؛ لأنَّ أهل السُّنَّة يقولون: هي مخلوقة لله، لكن الأشاعرة لا يقولون: إنها أفعال للعباد بل هي كسبٌ منهم، وهذا هو المراد بـ «كَسْبِ الأَشْعَري» وهو أحدُ الثلاثةِ التي لا حقيقة لها -وهي: «كَسْبُ الأشعريِّ» و «أحوالُ أبي هاشِمٍ»

و «طَفْرَةُ النَظَّامِ» (1) -. فالأشاعرة يقولون: إنَّ (أفعال العباد مخلوقة لله)، وهذا كلامٌ طَيِّبٌ، و (كسبٌ من العِبَاد)، وهذا كلامٌ فيه من الإجمال ما فيه، وتفسير «الكَسْبِ» عندهم أنَّه وقوعُ الفعل مقارناً للقدرة الحادثة، فيكون العبد له قدرة، ولكنها قدرةٌ لا تأثيرَ لها في أفعالِه، بل غايةُ الأَمرِ أن تكون القدرةُ علامةً على الأفعال، كما هو مذهبهم في الأسباب، فالأسباب عندهم غير مؤثِّرَةٍ في مسبَّبَاتها، لكنَّها أماراتٌ، وهم بذلك يقتربون جِدَّاً من مذهب الجبريَّة. أما أهلُ السنَّة والجماعة فيقولون: إن أفعال العباد هي أفعالٌ لهم حقيقة، وهي واقعةٌ منهم بقدرتِهم ومشيئتِهم، وأنَّ مشيئة العباد تابعةٌ لمشيئةِ الله عزَّ وجلَّ على حَدِّ قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]. فالله تعالى خالقُ العباد وخالقُ قدرتِهم وخالقُ أفعالهم، فأفعال العباد هي أفعالهم حقيقة، ولكنَّها في الوقت نفسه هي مفعولةٌ، وفرقٌ بين الفعلِ والمفعولِ، فأفعالُ العبادِ هي مفعولةٌ لله أي مخلوقةٌ لله، لكنَّها ليست أفعالاً لله، فإنَّ الفعلَ بالمعنى المَصْدَرِي إنما يقوم بالفاعل، فالكلام -بالمعنى المَصْدَرِي- يقوم بالمتكَلِّم، والخَلْقُ يقوم بالخالِق، والضرب يقوم بالضارب، وهكذا. والأصل في هذا أنَّ المصدر في اللغةِ العربيَّة كثيراً ما يطلق ويراد به اسم المفعول، مثل: الفعل والخلق والردّ، فهذه مصادر تطلق ويراد

_ (1) للوقوف على معاني هذه المصطلحات يُنظَر: «مجموع الفتاوى» (8/ 128)، و «منهاج السنة» (1/ 459) و (2/ 279)، و «شفاء العليل» (ص 50 و 122).

بها المفعول والمخلوق والمردود، فأنت تقول مثلاً: (هذا خَلْقُ الله) تشير بذلك إلى بعض المخلوقات كالسماوات والأرض وغيرهما، فقولك: (هذا خَلْقُ الله) يعني: مخلوقٌ لله، وتقول: الخلق من صفات الله، وهذا حقٌّ، فإن الخلق صفةٌ من صفات الله عزَّ وَجَلَّ وفعلٌ من أفعاله القائمة به سبحانه. فأفعالُ العبادِ هي أفعالٌ لهم قائمةٌ بهم، لكنَّها في نفسِ الوقتِ هي مفعولةٌ ومخلوقةٌ لله عز وجل. وبعد هذا نأتي إلى عبارة الناظم رحمه الله فقوله: «فَقُلتُ: مَا مِنْ خَالِقٍ غَيرُ الإِلَهِ الأَمْجَدِ» فـ «غيرُ» خبرُ «خَالِق» فإنَّه مبتدأ دخلت عليه «مِنْ» الزائدة، فهو مجرورٌ في محلِّ رفعٍ. وكلام الناظم هذا يتضمن أنَّ الله خالق أفعال العباد، وواضحٌ منه أنَّه يردُّ قولَ المعتزلة، ويقول: إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ لله، ليس هناك خالقٌ إلا الله، فالله عز وجل خالق العباد، وهو خالق أفعالهم، إذاً أفعالُ العبادِ مخلوقةٌ لله. وهذا القَدْرُ مشتَرَكٌ بين الجبريَّة والأشاعرة وأهل السنة -كما تقدم-. وبهذا لم يتضح مذهب الناظم على وجه التحديد، هل هو على مذهب الأشعري أو لا؟ نعم مستبعدٌ أن يكون الناظم ممن يقول بقول الجهمية الجبرية القائلين بأن أفعال العباد مخلوقةٌ لله، وأنَّ العباد لا قدرة لهم على ذلك ولا مشيئة، لكن هل هو ممن يقول بمذهب أهل السنة، وهو أن أفعال العباد مخلوقة لله وهي أفعالٌ لهم حقيقة؟، أو يقول بمذهب الأشاعرة، وهو أن أفعال العباد مخلوقة لله وكسبٌ من العباد فلا تأثير

28. قالوا: فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت: الإرادة كلها للسيد

لقدرتهم ومشيئتهم في أفعالهم؟، هذا أقرب بحسب ما ورد في النظم من المسائل التي عرض لها الناظم رحمه الله وعفا عنَّا وعنه. قال الناظمُ رحمه الله: 28. قَالُوا: فَهَلْ فِعْلُ القَبِيحِ مُرَادُه؟ ... قُلتُ: الإِرَادَةُ كُلُّهَا لِلسَّيِّد انتقل الناظم رحمه الله هنا إلى مسألةٍ أخرى متصِلَةٍ بالمسألةِ السابقةِ، مسألةِ «أفعال العباد». فقال رحمه الله: «قَالُوا: فَهَلْ فِعْلُ القَبِيحِ مُرَادُه؟» يعني: أنَّ أفعال العباد منها الحسن ومنها القبيح، ومنها الطاعات والأعمال الصالحات، ومنها الكفر والفسوق والعصيان، فهل إذا قلتَ: إنَّ أفعالَ العباد كلَّها مخلوقةٌ لله عز وجل هل معنى هذا أنَّ الله يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي؟ فالمعتزلة القائلون بأن أفعال العباد غير مخلوقة لله يوردون هذا الإيراد على مَن خالفهم بأنَّه يلزم من القول بأنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ لله أنَّ يكون اللهُ مريداً للقبيح، فاعلاً له، فإنَّ أفعالَ العِبَادِ فيها الحَسَن والقبيح، والخير والشر. فالناظم رحمه الله يجيب عن هذا الإيراد بقوله: «قُلتُ: الإِرَادَةُ كُلُّهَا لِلسَّيِّدِ» أي: الإرادةُ كلُّها لله عز وجل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في مُلْكِهِ ما لا يريد، فالكفر والمعاصي الواقعةُ في الوجودِ هي واقعةٌ بمشيئةِ الله وحكمَتِهِ وبإرادَتِهِ الكونيَّة، فالخير والشر كلُّه بمشيئة الله وبإرادته الكونية، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون إن أفعال العباد غير مرادة لله، ويعترضون بأن ذلك يستلزم أن يكون الله مريداً للقبيح من أفعال العباد.

29. لو لم يرده وكان كان نقيصة ... سبحانه عن أن يعجزه الردي

قال الناظمُ رحمه الله: 29. لَو لم يُرِدْهُ وَكَانَ كَانَ نَقِيصَةً ... سُبْحَانَه عَنْ أَنْ يُعَجِّزَهُ الرَّدِي (1) قوله رحمه الله: «لَو لم يُرِدْهُ وَكَانَ ...» هذا تتِمَّةٌ للجواب السابق، وكأنَّه يُبَرْهِنُ على جوابِه السابق فيذكر دليلاً عقليَّاً على أنَّ إرادةَ الله ومشيئتَه شاملةٌ لكلِّ ما في الوجود، فكلُّ ما في الوجود فهو بمشيئتِه سبحانه، فلا يكون إلا ما يريد، ولا يكون في السماوات والأرض من حركةٍ ولا سكونٍ إلا بمشيئتِه سبحانه وإرادتِه، فالإرادةُ كلُّها للسيِّدِ. فقوله: «لَو لم يُرِدْهُ وَكَانَ كَانَ نَقِيصَةً» أي: إنَّ الله عز وجل لو لم يُرِد ما يَقَعُ في الوجود من القبائح من كفرٍ ومعاصٍ ونحوِ ذلك، ثم كانت ووُجِدَتْ لكان ذلك نقصاً في قدرته سبحانه، إذ كيف يقع في ملكه شيئاً لم يُرِدْه؟ وكيف يقع شيءٌ بخلاف مرادِهِ سبحانَه؟ فالقول بهذا يلزم منه تَنَقُّصُ الرَّبِّ وتَعْجِيزُه، فمضمون قولِ القَدَرِيَّة أنَّ الكافرَ شاءَ الكفرَ وأنَّ العاصي شاء المعصية، والله تعالى شاء منهما الإيمان والطاعة، فوقع مرادُهما دون مرادِ الله عز وجل، وهذا مذهبٌ باطلٌ شرعاً وعقلاً؛ لأنَّه يتضمن تعجيز الرَّبِّ، وأنَّه يكونُ في ملكِه ما لا يريد، والله عز وجل قد أكذبهم في غير ما آيةٍ من كتابِه الكريم، من ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} [البقرة: 253]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].

_ (1) ورد البيت في بعض النسخ هكذا: لَو لم يُرِدْهُ لكَانَ ذَاكَ نَقِيصَةً ... سُبْحَانَه عَنْ أَنْ يُعَجَّزَ في الرَّدِي

وقد وَرَدَ أنَّ القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على أبي إسحاق الإسفرائيني فقال: (سبحان من تَنَزَّه عن الفحشاء)، وهذا كلامٌ طَيِّبٌ في ظاهره، لكنَّه يرمز به إلى شيءٍ من مذهبه، فهو يريد أن يعترض به على من يُثْبِتُ القَدَرَ، فيقول: (سبحان من تَنَزَّهَ عن الفحشاء)، يعني سبحان من تَنَزَّه عن أن يريد الكفر والمعاصي، ففهم أبو إسحاق الإسفرائيني مغزاه، فأجابه على الفور قالاً: (سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء) (1). فمَن قال: إنَّ الله تعالى لم يشأ الكفر والمعاصي، فإنَّ ذلك مقتضاه أنَّ الله عاجزٌ، وأنَّه يكون في ملكه ما لا يشاء، وعند المعتزلة حتى الطاعات لم تقع بمشيئته سبحانه؛ لأنَّ أفعالَ العباد -عندهم- طاعتَهم ومعصيتَهم كلَّها واقعةٌ بِمَحْضِ مشيئتِهم وقدرتِهم دون مشيئة الله تعالى وقدرته.

_ (1) ينظر: «تفسير الرازي» (21/ 60)، و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (4/ 261)، وهذا نصُّها كما أوردها العلاَّمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه «أضواء البيان» (7/ 97) وهي: أن القاضي عبد الجبار قال: «سبحان من تَنَزَّه عن الفحشاء»، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله؛ لأنَّه في زعمه أَنْزَهُ من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته. فقال أبو إسحاق: «كلمةُ حقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ»، ثم قال: «سبحان مَن لم يَقَع في مُلْكِهِ إلا ما يشاء». فقال عبد الجبار: «أَتُرَاهُ يشاؤُهُ ويعاقبني عليه؟!». فقال أبو إسحاق: «أتُرَاك تفعله جَبْرَاً عليه، أأنت الرَبُّ وهو العبدُ؟». فقال عبد الجبار: «أرأيتَ إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالرَّدَى، دعاني وسدَّ الباب دوني، أتراه أحسن أم أساء؟». فقال أبو إسحاق: «أرى أنَّ هذا الذي منعك إن كان حقَّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك وقد أساء، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضلٌ، وإن منعك فعدلٌ». فبُهِتَ عبدُ الجبَّار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جوابٌ.

30. قالوا: فما الإيمان؟ قلت مجاوبا: ... عمل وتصديق بغير تبلد

فأشار الناظم رحمه الله في هذا البيت إلى البرهان العقلي على أنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله عز وجل، وواقعةٌ بإرادتِه، أفعالُهم كلُّها، طاعتُهم، ومعاصيهم، وإيمانُهم، وكفرُهم، كلُّ ذلك واقعٌ بمشيئةِ الله وقدرتِهِ وتدبيرِهِ الحكيم فله الحكمة البالغة في كل ما يُقَدِّرُه ويَقْضِيهِ. وقوله: «سُبْحَانَه عَنْ أَنْ يُعَجِّزَهُ الرَّدِي» لعله يريد بـ «الرَّدِي» الكافر مثَلاً؛ لأن مقتضى كلام المعتزلة -كما تقدم- أنَّ الله شاء من الكافر الإيمان، وشاء هو الكفر، فَغَلَبَت مشيئةُ الكافرِ مشيئةَ الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل الله تعالى يضلُّ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7 - 8]. وينبغي أن يُعلَم أنَّ مشئيةَ اللهِ للكفرِ والمعاصي مع بغضه لها وكراهتها راجعٌ إلى حكمته البالغة، وهذا هو الجاري على مذهب أهل السنة، فإنهم يُثبِتُون عموم المشيئة، ويثبتون الأمر والنهي، وأنَّه تعالى إنما يأمر بما يُحِبُّ ويَرضى، وينهى عن كلِّ ما يُسْخِطُه ويُبْغِضُه، وأنَّه سبحانه حكيمٌ في شرعه وقَدَرِه، وبهذا يَخْلُص مذهب أهل السنة عن كلِّ باطلٍ تضمنته مذاهب المخالفين لهم من الجبرية والمعتزلة والأشاعرة. قال الناظمُ رحمه الله: 30. قَالُوا: فَمَا الإِيمانُ؟ قُلتُ مُجَاوِبَاً: ... عَمَلٌ وَتَصْدِيقٌ بِغَيرِ تَبَلُّدِ (1) انتقل الناظم رحمه الله في هذا البيت إلى مسألةٍ أخرى من مسائل الاعتقاد وهي مسألة: «الإيمان».

_ (1) قوله: «عَمَلٌ وَتَصْدِقٌ» بالرفع، وهو الصحيح، وهو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ, تقديره: (الإيمانُ عملٌ وتصديقٌ)، وأما ما وقع في بعض النسخ: (عَمَلاً وَتَصْدِقاً) بالنصب، فلا وجه له كما أفاده الشارح، وقوله: «بِغَيرِ تَبَلُّدِ» وقع في بعض النسخ: (بِغَيرِ تَرَدُّدِ) ومعناهما واحد.

ومسألة «الإيمان» من المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الناس، وافترقت فيها الأمة على مذاهب متعدِّدةٍ. فالجهميَّة يقولون: الإيمانُ هو المعرفة. والأشاعرة يقولون: هو التصديق. والمرجئة يقولون: هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان. والكَرَّامِيَّة يقولون: هو الإقرار باللِّسان فحسب، من غير اعتبارٍ لتصديقِ القلب. وأهل السنة والجماعة يقولون: هو قولٌ وعملٌ، وبتعبيرٍ آخر: هو اعتقادٌ بالجَنَان وإقرارٌ باللِّسان وعملٌ بالأركان (1). فقوله: «قَالُوا: فَمَا الإِيمانُ؟» يعني ما مُسَمَّى الإيمانِ عندك؟. ثم أجاب الناظم رحمه الله عن هذا السؤال بقوله: «عَمَلٌ وَتَصْدِيقٌ» يعني أنَّ الإيمانَ عملٌ وتصديقٌ. وجواب الناظم هنا مطابقٌ لمعتقد أهل السنة والجماعة، يعني: أنَّه عملٌ بالجوارح، ومنها اللِّسان، وتصديقٌ بالجَنَان، فهو قولٌ وعملٌ، وهذا من أحسنِ ما وَرَدَ في هذه المنظومةِ وأوضحِه.

_ (1) مسألة «الإيمان» وما يتعلق بها من بيان حقيقته ونحو ذلك، تُعدُّ من أهم مسائل الاعتقاد، ولذا عُني بها أهل العلم قديماً وحديثاً، فقلما يخلو كتابٌ من كتب العقائد من ذكر هذه المسألة، بل أفردها بعضهم بمصنَّفٍ خاصٍّ، منهم: أبو عُبيد القاسم بن سلاَّم في كتابه «الإيمان»، وابنُ أبي شيبة، وابنُ مَنْدَه وغيرُهم، ثم تلاهم شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فصنَّف فيه مصنَّفَيْن حافلين بديعين، هما: «الإيمان الكبير» و «الإيمان الأوسط»، بيَّن فيهما حقيقة الإيمان عند السلف، وذَكَرَ مذاهب المخالفين، وفَنَّدَ شبهاتهم بكلامٍ رصينٍ، وتحقيقٍ متينٍ، تقرُّ به عيون الموحِّدِين، فرحمه الله وسائر علماء المسلمين رحمةً واسعةً، وجزاهم عن السنة وأهلها خير جزاءٍ وأوفاه.

31. قالوا: فمن بعد النبي خليفة؟ ... قلت: الموحد قبل كل موحد

وقوله: «بِغَيرِ تَبَلُّدِ» يعني: بغير تَحَيُّرٍ ولا تَرَدُّدٍ ولا شكٍّ. وهذه الجملة يحتمل أن تكون حالاً من قوله: «فَقُلتُ مُجَاوِبَاً»، فهي إما حالٌ من الضمير المتَّصِل في قوله: «فَقُلتُ»، أو حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في قوله: «مُجَاوِبَاً»، أي: قُلتُ مُجَاوِبَاً من غير تَبَلُّدٍ مني ولا تَحَيُّرٍ ولا ترددٍ في ذلك. ويحتمل أن تكون صفةً للتصديق، أي: تصديقٌ بلا تَرَدُّدٍ ولا شكٍّ. فالجارُّ والمجرور إما حالٌ من الضميرِ المتَّصِل أو المستَكِنّ في قوله: «مُجَاوِبَاً»، أو هو صفةٌ للتصديق. قال الناظمُ رحمه الله: 31. قَالُوا: فَمَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ خَلِيفَةٌ؟ ... قُلتُ: المُوَحِّدُ قَبْلِ كُلِّ مُوَحِّد بعد أن فرغ الناظمُ رحمه الله من ذكر بعض المسائل المتعلِّقة بصفات الله عز وجل، وذكر ما يتعلق بالقدر والإيمان، انتقل في هذه الأبيات إلى ما يتعلق بالصحابة الكرام رضي الله عنهم. وهذه القضايا التي عرض لها الناظمُ رحمه الله، وهي: «الصفات»، و «القدر»، و «الإيمان»، و «الصحابة» تُعَدُّ من أهمِّ القضايا التي وقع فيها النِّزَاع وافترقت فيها الأُمَّةُ فِرَقاً متعدِّدة. وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم انقسم النَّاسُ فيهم، وافترقت فيهم الأُمَّةُ فرقاً. فالرَّافضةُ يبغضون جمهور الصحابة، ويطعنون فيهم ويسبونهم، ومنهم من يكفرهم كلَّهم إلا نفراً قليلاً منهم مثل: سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهم، وكذلك من يغلون فيهم من أهل البيت.

ويقابلهم الخوارج وخصوصاً في موقفهم من أهل البيت، وبالأخص في علي رضي الله عنه فإنهم يكفرونه. ومن مذهب الرافضة الباطل طعنهم في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وطعنهم في خلافتهم. فالرافضة منهم من يكفر الشيخين ويكفر جمهور الصحابة، ومنهم من يسب أبا بكر وعمر ويصفهما وسائر الصحابة بالظلم، وأنهم ظلموا علياً رضي الله عنه واغتصبوا حقه. وأما أهل السنة والجماعة فهم بين هؤلاء وهؤلاء، هم وسط بين الرافضة والخوارج النَّواصب الذين ينصِبُون العَدَاوة لأهل البيت. فالناظمُ رحمه الله يريد أن يبين في هذه الأبيات مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصوصاً الخلفاء الراشدين. فقال رحمه الله: «قَالُوا: فَمَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ خَلِيفَةٌ؟» يعني من هو المستحق للخلافة بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟. فأجاب رحمه الله بقوله: «قُلتُ: المُوَحِّدُ قَبْلِ كُلِّ مُوَحِّدِ» ويعني به خليفةَ رسولِ الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وفي هذا الجواب إشارةٌ إلى سَبْقِ أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى الإسلام، وأنَّه أول مَنْ آمن بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأول مَن دخل في الإسلام -قيل من الرجال-. فهو رضي الله عنه الخليفةُ بحقٍّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الرَّافضةُ فيقولون هو الخليفةُ بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لكن بغير حقٍّ، وهو ظالم مغتَصِبٌ هو ومَن بايعه، فالأحقُّ بالخلافةِ -عندهم- هو عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، وكلُّ مَن وليَ الخلافةَ قبلَهُ فهو معتَدٍ وظالمٌ، فهذه هي عقيدةُ الرَّوافض في خلافةِ الخلفاءِ الثلاثة رضي الله عنهم.

32. حاميه في يوم العريش ومن له ... في الغار أسعد يا له من مسعد

وأما أهل السُّنَّة فعندهم أن أبا بكر هو الخليفةُ بحقٍّ بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهو أحقُّ النَّاس بالخلافةِ وولايةِ الأمرِ بعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم. واختلف أهل السنة في خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنه هل ثبتت بالنصِّ الجلي، أم بالنصِّ الخفي والإشارة، أم بالاختيار. فذهب شيخُ الإسلام ابن تيمية إلى أنها ثبتت حُكماً بالنص على أبي بكرٍ، لكن قد يكون ذلك بالنص الجلي، أو بالنص الخفي والإشارة، وثبتت فعلاً بالاختيار، وذلك بمبايعة الصحابة من المهاجرين والأنصار لأبي بكرٍ في سقيفةِ بني سَاعِدَة، فصارَ خليفةً فعلاً بمبايعة الصحابة له (¬1). قال الناظمُ رحمه الله: 32. حَامِيهِ في يَومِ العَرِيشِ وَمَنْ لَهُ ... في الغَاِر أَسْعَدَ يَا لَهُ مِنَ مُسْعِد في البيت السابق أشار الناظمُ رحمه الله إلى سَبْقِ أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى الدخول في الإسلام وذلك بقوله: «المُوَحِّدُ قَبْلِ كُلِّ مُوَحِّدِ». وفي هذا البيت ذكر له مناقب أخرى، فقال: «حَامِيهِ في يَومِ العَرِيشِ» ويريد بـ «العريش» ما حصل في غزوة بدر، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في عريشٍ له يدعو ربه ويناشده ويستغيث به، وأبو بكرٍ عند ظهره ويحميه، ولما رأى شدة إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه قال: يا نبيَّ الله كَفَاك مُنَاشَدَتُكَ ربَّكَ فإنه سَيُنْجِزُ لك ما وَعَدَكَ فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ

_ (1) «منهاج السنة» (1/ 486 - 532)، ومجموع الفتاوى» (35/ 47 - 49).

مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ الله بِالمَلائِكَةِ (1). فهذا ما يشير إليه الناظم بقوله: «حَامِيهِ في يَومِ العَرِيشِ». ثم ذكر الناظمُ رحمه الله منقبةً ثالثةً لأبي بكرٍ رضي الله عنه، فقال: «وَمَنْ لَهُ» يعني والذي له «في الغَاِر أَسْعَدَ» يعني في غارِ ثَوْرٍ، وهذا فيه إشارةٌ إلى ما حصل في قصَّةِ خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ من أجل الهجرةِ إلى المدينةِ، فقد خَرَجَا مستَخْفِين، فلجئا إلى الغارِ حتى يهدأ الطلب عنهما، حتى وصل إليهما الطلب في الغار يتتبعون أثرهما إلا أنَّ الله برحمتِه وحكمتِه أعمى بصائِرَهم وأبصارَهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبِه، وجعل من الأسباب ما يصرف أنظارهم وعقولهم عنهما. وقد أشار الله عز وجل إلى هذا النصر بقوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: 40]. فأبو بكر رضي الله عنه أَسْعَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم أَيَّمَا إسعادٍ، فقد أَسْعَدَهُ بصحبَتِهِ ومرافقَتِهِ وحمايتِهِ له، حتى إنَّه قد جاء في أخبار الهجرة أنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان يمشي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتارةً يكون أمامه، وتارةً يكون خلفه، وتارةً عن يمينه، وتارةً عن يساره، فلما سأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سببِ ذلك، قال: إني أذكر العَدُوَّ من الرَّصَد (2) فأكونُ أمامَك، وأذكر العَدُوَّ

_ (1) أخرج القصة مطَوَّلَةً: مسلمٌ في «صحيحه» (3/ 1383 رقم 1763)، وأخرجها البخاريُّ (3/ 1067 رقم 2758) مختَصَرَةً. (2) يقال: فُلانٌ يَخافُ رَصَدَاً من قُدَّامِهِ، وطَلَباً من وَرائِهِ، يعني: عَدُوًّا يَرْصُدُهُ ويَرْقُبُهُ. ينظر: «أساس البلاغة» للزمخشري (1/ 233).

33. قالوا: فمن ثاني أبي بكر الرضا؟ ... قلت: الإمارة في الإمام الأزهد

من الطَّلَب فأكونُ خلفك، وأخشى أن تُؤتَى من يمينك أو من شمالك (1)، فهو يدور على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل حمايته. وقوله: «يَا لَهُ مِنَ مُسْعِدِ» هذا فيه أسلوب مدحٍ، يعني أنه هو المُسْعِدُ الصادِقُ في صحبته وفي حمايته، بل وفي إيمانه قبل ذلك رضي الله عنه وأرضاه. قال الناظمُ رحمه الله: 33. قَالُوا: فَمْن ثَانِيْ أَبِي بَكْرِ الرِّضَا؟ ... قُلتُ: الإِمَارَةُ في الإِمَامِ الأَزْهَد قال الناظمُ رحمه الله: «قَالُوا: فَمْن ثَانِيْ أَبِي بَكْرِ الرِّضَا؟» ووقع عند ابن الجوزي في «المنتظم»: «قَالُوا: فَمَنْ تَالِي أَبي بَكْرِ الرِّضَا» يعني: مَنْ التالي لأبي بكر في الخلافة؟ أو مَنْ الثاني بعده في الخلافة؟ وقوله: «قُلتُ: الإِمَارَةُ في الإِمَامِ الأَزْهَدِ» يريد به الخليفةَ الرَّاشدَ الإمامَ الزَّاهِدَ عمرَ ابنَ الخطَّاب رضي الله عنه. فهو الخليفة الثاني بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو التالي له في الفضل وفي الخلافة، وقد وَلِيَ رضي الله عنه أَمْرَ المسلمين بعهدٍ من الخليفة الأول والنَّاصِحِ لهذه الأُمَّة أبي بكرٍ رضي الله عنه، وأجمع الصحابة عليه ولم يختلفوا، فلم يُنَازَع رضي الله عنه في أمرِ الخلافة ولم يُخْتَلَف عليه البتة، ولا

_ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 7 رقم 4268) -وعنه: البيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 476) - من طريق السري بن يحيى عن محمد بن سيرين مرسلاً، قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ على شرطِ الشيخينِ لولا إرسال فيه، ولم يخرِّجَاه). وأخرج نحوه الإمام أحمد في «فضائل الصحابة» (1/ 62 رقم 22) و (1/ 178 رقم 182)، والأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 205)، وابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (30/ 81) من مرسل ابن أبي مُلَيْكَة.

34. فاروق أحمد والمهذب بعده ... سند الشريعة (1) باللسان وباليد

أذكر الآن أنَّه عُمِل له بيعة، بل اكتُفِيَ بمجرَّد العهد، وأنا لا أذكر أنه قد ورد في التاريخ أنَّ النَّاس جاءوا ليبايعوه، بل انتقل إليه الأمر بهذا العهد، واكتفى المسلمون به. قال الناظمُ رحمه الله: 34. فَارُوقُ أَحْمَدَ وَالمُهَذَّبُ بَعْدَهُ ... سَنَدُ الشَّرِيْعَةِ (1) بِاللِّسَانِ وَبِاليَد في هذا البيت أثنى الناظمُ رحمه الله على ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونَعَتَه بعدَّةِ أوصافٍ سَرَدَهَا في هذا البيت فقال: «فَارُوقُ أَحْمَدَ» هذا أشهر لَقبٍ لُقِّبَ به عمرُ رضي الله عنه، حتى قيل له: «عمر الفاروق»، وسببُ تلقِيبِه بذلك ما ذكره بعضُهم من أنَّه حَصَلَ بإسلامه الفرق بين الحق والباطل، فبإسلامه كان للحق ظهور، حيث كان المسلمون بمكة في أول أمرهم يستخفون ويخافون، فلما أسلمَ عمرُ وكان معروفاً بقوَّتِهِ وشدَّتِهِ طلبَ من الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يستخفوا وأن يخرجوا، فخرج الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومَن معه من الدَّارِ التي كانوا مستخفِينَ فيها، خرجوا في صفين، أحدهما فيه عمر رضي الله عنه، والثاني فيه حمزةُ عمُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأعزَّ اللهُ بإسلامِهِ هذا الدِّين، فهذا هو السرُّ في تلقيبه بهذا اللقب. وقول الناظم: «فَارُوقُ أَحْمَدَ» «أحمد» هو اسمٌ من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد هذا الاسم فيما أخبر الله به عن عبده ورسوله

_ (1) وقع في بعض النسخ: «نَصَرَ الشَّرِيعَةَ ...».

عيسى بن مريم عليه السلام بقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وإضافة هذا اللقب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم «فَارُوقُ أَحْمَدَ» من باب التشريف والتكريم. وقوله: «وَالمُهَذَّبُ بَعْدَهُ» أي: مهذب الأخلاق، فهو ذو الأخلاق الكريمة العالية، المنزه عن سفاسفها. ولو قال الناظم: «فَارُوقُ أَحمَدَ والمُحَدَّثُ بَعْدَهُ» لكان أولى؛ لأنَّ هذا الوصف قد جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: «لقد كان في الأُمَمِ قبلَكُم مُحَدَّثُون، وإن يكن في أُمَّتِي مِنْهُم أحدٌ فَعُمَر» (1)، فهو يُعرَفُ عند أهل العلم بـ «المُحَدَّث» يعني: المُلْهَم، ومن آثار تحديثه وإلهامه أنَّه وافق ربَّه في أحكامٍ عَدِيدَةٍ، فاقترح الصلاة خلف المقام، وعارض النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أراد -باجتهادٍ منه- أن يصلي على رأس المنافقين عبدِالله بنِ أُبَي ابنِ سَلُول، فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84] إلى غيرِ ذلكَ من موافقاته رضي الله عنه (2). وقوله: «سَنَدُ الشَّرِيْعَةِ بِاللِّسَانِ وَبِاليَدِ» أي: حامي الشريعةِ، والمدافعُ عنها، والناصرُ لها، ومما يدل على ذلك كثرة الفتوح الإسلامية في عهده، وانتشار الإسلام في الأمصار، فكان رضي الله عنه عظيم الهَمِّ في نشر الإسلام، وتجهيز الجيوش لأجل ذلك، حتى إنَّه قد جاء عنه أنَّه كان

_ (1) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3/ 1279 رقم 3282)، (3/ 1349 رقم 3486)، ومسلم (4/ 1864 رقم 2398). (2) جمع السيوطي (ت 911 هـ) موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونظمها في منظومةٍ رجزيةٍ مختصرةٍ بلغت (19) تسعة عشر بيتاً، وسماها: «قطف الثمر في موافقات عمر»، وهي مطبوعة ضمن كتابه: «الحاوي للفتاوي» (2/ 5)، ولهذه المنظومة -مما وقفتُ عليه- شرحان مطبوعان: الأول: «الدر المستطاب» لمفتي دمشق حامد بن علي بن إبراهيم العمادي الدمشقي الحنفي (ت 1171 هـ)، وزاد على ما ذكره السيوطي من موافقاتٍ، ونظم زوائده وشرحها في أثناء الكتاب، ثم ختم الشرح بذكر موافقات أبي بكرٍ الصديق وعلي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما. والثاني: «فيض الوهاب» لعلاَّمَةِ الشَّامِ في زمانه الشيخ محمد بدر الدين الحَسَني (ت 1354 هـ).

35. قالوا: فثالثهم؟ فقلت مجاوبا: ... من بايع المختار عنه باليد

يجهزُ الجيوش وهو في الصلاة (1)، يجهزها بفكره وعقله، ففكره وعقله مشحونٌ بهموم المسلمين وعزِّ الإسلام وأهله، ولعل هذا مما يُبَيِّنُ قول الناظم: «سَنَدُ الشَّرِيْعَةِ بِاللِّسَانِ وَبِاليَدِ». قال الناظمُ رحمه الله: 35. قَالُوا: فَثَالِثُهُمْ؟ فقُلتُ مُجَاوِبَاً: ... مَنْ بَايَعَ المُخْتَارُ عَنْهُ بِاليَد انتقل الناظمُ رحمه الله في هذا البيت إلى الإشادةِ بثالثِ الخلفاءِ الرَّاشدين عثمان بن عفان رضي الله عنه، والثناء عليه، فقال: «قَالُوا: فَثَالِثُهُمْ؟» أي: مَنْ ثالث الخلفاء الراشدين؟ فأجاب بقوله: «فقُلتُ مُجَاوِبَاً: مَنْ بَايَعَ المُخْتَارُ عَنْهُ بِاليَدِ» «المختار» هو الرسول صلى الله عليه وسلم. والناظمُ رحمه الله يشيرُ بهذا إلى ما وقع في «بيعة الرِّضْوَان» عام صلح الحُدَيْبِيَة، يوم أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عثمانَ بنَ عفَّان رضي الله عنه إلى أهل مكة يخبرهم بمقصودهم، وأنهم ما جاءوا لحربٍ وقِتَالٍ، وإنما جاءوا معتَمِرِين قاصدين بيتَ الله، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمانَ رضي الله عنه قد قُتِلَ، فطلبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم من أصحابِه رضي الله عنهم أن يبايعوه على الموت، أو على ألا يفروا، على اختلاف الروايات في ذلك، فبعضهم يقول: «بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (2/ 186 رقم 9751) بإسنادٍ صحيحٍ، وأخرجه البخاريُّ تعليقاً مجزوماً به، في «صحيحه» (1/ 408) كتاب الصلاة: بَاب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ في الصَّلَاةِ. ينظر: «فتح الباري» (3/ 90)، و «تغليق التعليق» (2/ 448). وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً (رقم 7950) وابن حزم في «المحلى» (3/ 99) من طريق عروة بن الزبير عن عُمَرَ رضي الله عنه قال: «إنِّي لَأَحْسِبُ جِزْيَةَ الْبَحْرَيْنِ وأنا في الصَّلاَة»، وإسناده صحيحٌ أيضاً.

على الموت» (1)، أي: على القتال حتى الموت، وبعضهم يقول: «بايعناه على ألاَّ نَفِرَّ» (2)، فبايعه الصحابةُ رضي الله عنهم، وتنافسوا في هذه البيعة، حتى إنَّ منهم من يُبَايِع ويخرج ليُبَايِعَ مرةً أخرى، وهذه البيعة هي «بيعة الرضوان» التي أشار الله عزَّ وجَلَّ إليها بقولِهِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح: 18]، فبايع الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمانُ غائباً، فلما جاءت نَوْبَةُ عثمان رضي الله عنه قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وهذه لعثمان» (3) ثم وضع يده الشريفة صلى الله عليه وسلم على الأخرى، وهذه والله فضيلة لعثمان وأيُّ فضيلة، أَنْ بايعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عنه بيدِهِ الكَرِيمَة. ومما يُذْكَرُ هنا أنَّه قيلَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لعلَّ عثمان قضى نَهْمَتَه من البيت، وطاف وقضى عمرته، فلما رجع عثمانُ قيل له في هذا، فقال:

_ (1) «المبايعة على الموت»: جاءت من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3/ 1081 رقم 2800)، ومسلمٌ (3/ 1486 رقم 1860)، ومن حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أيضاً، أخرجه البخاري (3/ 1081 رقم 2799)، ومسلمٌ (3/ 1486 رقم 1861). (2) «المبايعة على عدم الفرار لا على الموت»: جاءت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أخرجه مسلمٌ (3/ 1483 رقم 1856)، ومن حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أيضاً، أخرجه مسلمٌ (3/ 1485 رقم 1858). قال النووي في «شرح مسلم» (13/ 3) بعدما ذكر اختلاف الروايات: (وفي رواية عن ابن عمر في غير «صحيح مسلم» البيعة على الصبر، قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها، وتبين مقصود كل الروايات، فالبيعةُ على أن لا نَفِرَّ معناه: الصبر حتى نظفر بعدونا، أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت، أي: نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا أن الموت مقصودٌ في نفسه). وينظر أيضاً: «فتح الباري» (6/ 117 - 118). (3) أخرجه البخاري (3/ 1352 رقم 3495).

36. صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد

ما كنتُ لأفعل هذا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصدودٌ ومحبوسٌ عن البيت، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ذاك الظَّنُّ بِكَ»، أو كما ورد في القصة (1). قال الناظمُ رحمه الله: 36. صِهْرُ النَّبيِّ عَلَى ابْنَتَيْهِ وَمَنْ حَوَى ... فَضْلَينِ فَضْلَ تِلاَوَةٍ وَتَهَجُّد قوله: «صِهْرُ النَّبيِّ عَلَى ابْنَتَيْهِ» هذه من فضائل عثمان التي اشتهر بها، وهي أنه تزوَّجَ ابنتي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، رُقَيَّةَ وأمَّ كُلْثُوم رضي الله عنهما، وقد ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: «وَمَنْ حَوَى فَضْلَينِ» يعني: حاز فضلين، «فَضْلَ تِلاَوَةٍ وَتَهَجُّدِ» أي: فضل قراءة القرآن وفضل قيام الليل. فالناظم رحمه الله أثنى على عثمان رضي الله عنه بثلاثة أمور: 1. بمبايعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنه بيدِه الشَّريفة. 2. وبمصاهَرَتِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وتزوُّجِهِ من ابنتَيهِ. 3. وبما عُرِفَ عنه من كثرة تلاوته لكتاب الله عز وجل، وطول تهجده بالليل، وهذا مما اشتهر به رضي الله عنه. وهؤلاء الثلاثة: -أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ- هم الخلفاءُ الرَّاشدون على التوالي. وبيعةُ عثمانَ رضي الله عنه تمت بعد مشاورات؛ لأنَّ عمرَ رضي الله عنه جعلَ الأمرَ في الستة الذين قال عنهم: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راضٍ، وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فبعد مداولات قام بها عبد الرحمن بن عوف

_ (1) أخرج القصةَ مطوَّلَةً الإمام أحمد في «المسند» (4/ 323 رقم 18930) بإسنادٍ صحيحٍ.

مع هؤلاء الستة انتهى أمر المسلمين إلى مبايعة عثمان، فبايعه عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ، والبقيَّةُ، ثم بايعه النَّاسُ بعدَ ذلك، فتَمَّ له الأمرُ حينئِذٍ (1). وهؤلاء الثلاثةُ أيضاً هم أفضلُ الصحابةِ، جاء عن ابن عمر رضي الله عنه في «الصحيح» أنَّه قال: «كنَّا نقولُ -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ-: أفضلُ هذه الأمة بعد نبيها أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمان، وما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُنكِرُ ذلك» (2). فهذا دليلٌ على أنَّ عثمان أفضلُ الصحابةِ بعد أبي بكرٍ وعمرَ، ثم يليهم في الفضل عليٌّ رضي الله عنه، وهذا مما وقع فيه شيءٌ من الخلافِ القديمِ، فمن السلف من قدَّمَ عَليَّاً رضي الله عنه، ومنهم من قَدَّم عثمانَ على عليٍّ، ومنهم من تَوقَّفَ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطية» لما ذكر هذه المسألة: (لَكِن اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ) وهذا هو الصواب، فقد استقر الأمر على أنَّ أفضل الصحابة هم: أبو بكرٍ، ثم عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين، وعلى هذا مشى الناظمُ رحمه الله.

_ (1) قصة مبايعته رضي الله عنه أخرجها البخاريُّ في «صحيحه» (3/ 1353 رقم 3497). (2) أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود في «سننه» (4/ 206 رقم 4628)، وإسناده صحيح، والأثرُ أصلُه عند البخاري (3/ 1337 رقم 3455) بلفظ: «كنا نُخَيِّرُ بين الناس في زَمَنِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ رضي الله عنهم»، وقوله رضي الله عنه: «كنا نُخَيِّرُ بين النَّاس» أي نقولُ: فلانٌ خَيرٌ من فلانٍ. وورد في بعض الروايات -كما عند ابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 568 رقم 1196)، وأبي يعلى في «مسنده» (9/ 456 رقم 5604) وغيرِهما- زيادةٌ في آخِرِهِ: «فَيَبلُغ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فلا يُنْكِرُهُ».

37. أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي ... في الناس «ذا النورين» صهر محمد

قال الناظمُ رحمه الله: 37. أَعْني ابنَ عَفَّانَ الشَّهِيدَ وَمَنْ دُعِي ... في النَّاسِ «ذَا النُّورَينِ» صِهْرَ مُحَمَّد هذا زيادةُ توضيحٍ، وإلا فقد وَضَحَ بما ذُكِرَ من صفاتِه رضي الله عنه. قوله: «أَعْني ابنَ عَفَّانَ الشَّهِيدَ» الذي قتله البُغَاة الطُّغَاة، قتلوه وهو يتلو كتاب الله، بعد ما حاصروه في داره أياماً، ومنع رضي الله عنه الصحابةَ من الدِّفَاع عنه؛ لأنَّه لا يريدُ أن يُسفكَ في سبيله دمُ مسلمٍ، فما زال به رءوسُ الفتنةِ حتى اقتحموا عليه داره فقتلوه. وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الصحيح لما قال لأبي موسى رضي الله عنه: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه»، فلما أبلغه أبو موسى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشارة مع البلوى، قال: «الله المستعان» (1). وقوله: «وَمَنْ دُعِي في النَّاسِ: ذَا النُّورَينِ» هذا لقبٌ مشهورٌ لعثمان رضي الله عنه، ويَرِدُ على لسانِ كثيرٍ من أهلِ العلم والمؤرخين، فهو معروفٌ بـ «ذي النُّورَين»، وقيل: إنه لُقِّبَ بهذا لزواجه من ابنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا اللَّقب ليس مأثوراً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، لكنَّه مما عُرِفَ به عند كثيرٍ من المؤرِّخين وأهلِ العلمِ، واشتَهَرَ إطلاقُه عليه.

_ (1) متفقٌ عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أخرجه البخاري في مواضع، ومنها: (5/ 2295 رقم 5862) و (3/ 1350 رقم 3490)، ومسلم (4/ 1868 رقم 2403).

38. قالوا: فرابعهم؟ فقلت مبادرا: ... من حاز دونهم أخوة أحمد

وقوله: «صِهْرَ مُحَمَّدِ» قد سبق الكلامُ على هذه المصاهرة في البيت السابق. فالمقصود أنَّ الناظمَ رحمه الله أثنى على عثمانَ رضي الله عنه هذا الثناء العاطر، ونَعَتَهُ بهذه الأوصاف، وهو أهلٌ لذلك رضي الله عنه وأرضاه. قال الناظمُ رحمه الله: 38. قَالُوا: فَرَابِعُهُمْ؟ فَقُلتُ مُبَادِرَاًً: ... مَنْ حَازَ دُونَهُمُ أُخُوَّةَ أَحْمَد يقول الناظمُ رحمه الله مبيِّنَاً مراتبَ الخلفاءِ الرَّاشِدِين: «قَالُوا: فَرَابِعُهُمْ؟» يعني بعدما ذكرتَ الخلفاء الثلاثة أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضي الله عنهم، فمَن يكون رابعهم إذن؟ وقوله: «فَقُلْتُ مُبَادِرَاً» يعني: قلتُ مُسَارِعاً إلى الجواب دون توقُّفٍ ولا تردُّدٍ؛ وذلك لأنَّ المسألةَ واضحةٌ، والحقَّ فيها بيِّنٌ، ورابعُ الخلفاءِ معروفٌ ومعيَّنٌ، وهو عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه. وقوله: «مَنْ حَازَ دُونَهُمُ أُخُوَّةَ أَحْمَدِِ» يعني أُخُوَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنونَ كلُّهُم إِخوة، وأصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هم إِخوَتُه وأصحابُهُ، ولكن مَن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ أَخِي» فله في هذه الإضافة فضيلةٌ على غيرِه كما قال سبحانه وتعالى في شأنِ أبي بكرٍ رضي الله عنه يومَ كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} [التوبة: 40]، فنصَّ سبحانه وتعالى على أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه صاحبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، مع أنَّ صفَةَ «الصُّحْبَة» مشتَرَكةٌ بين عمومِ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم، لكن خُصَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه بالنصِّ عليه من الله عز وجل ومن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صاحبُه، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تَارِكُوا لي صَاحِبِي» (1)، وهكذا عليٌّ رضي الله عنه جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذيُّ

_ (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (3/ 1339 رقم 3461)، و (4/ 1701 رقم 4364) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

وقال عنه: (حسنٌ غريبٌ) أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «أنت أخي في الدُّنيا والآخِرَة» (1)، لكن الحديث ضعَّفه أهلُ العلم، ومنهم: شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة في «منهاج السنة»، والحافظُ العراقيُّ في «تخريج أحاديث الإحياء» وغيرُهما، بل قال شيخ الإسلام: (أحاديثُ المؤاخَاة لعليٍّ رضي الله عنه كلُّها موضوعة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يؤاخِ أحداً ...) (2)، وقال العراقيُّ: (كلُّ ما ورد في أُخوَّتِه رضي الله عنه فضعيفٌ لا يصحُّ منه شيءٌ) (3). فيحتمل أنَّ الناظمَ رحمه الله يشير إلى هذا الحديث للتصريح فيه بأُخوَّة عليٍّ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الدُّنيا والآخرة، ويحتمل أيضاً -ولعله الأقرب- أنه يشير إلى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما استخلف عليَّاً رضي الله عنه على المدينة في غزوة تبوك وشق عليه ذلك قال له صلى الله عليه وسلم: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» (4)، وهارون هو أخو موسى عليهما السلام، وحملُ كلام النَّاظم رحمه الله على هذا لعله أَسَدُّ؛ لأنَّ هذا الحديثَ صحيحٌ بخلاف الحديث السابق. وقد دلَّ كلامُ الناظمِ رحمه الله في هذا البيت على أنَّ عليَّاً رضي الله عنه هو رابع

_ (1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (5/ 636 رقم 3720) من حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنه أنه قال: آخَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَصْحَابِهِ فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ آخَيْتَ بين أَصْحَابِكَ ولم تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أَخِي في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قال الترمذي: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قلت: هذا حديثٌ ضعيفٌ لا يصح، في إسناده جُمَيْع بنُ عُمَيْر ضعفه غير واحد، بل رماه بعضهم بالكذب، ولذا قال عنه الذهبي في «الكاشف»: (واهٍ). (2) «منهاج السنة» (7/ 361)، و (5/ 71). (3) «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 483). (4) متفقٌ عليه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3/ 1359 رقم 3503)، و (4/ 1602 رقم 4154)، ومسلم (4/ 1870 رقم 2404).

الخلفاء الراشدين، فهو رابعهم في الفضل وفي الخلافة، فهو أفضل الصحابة على الإطلاق بعد الخلفاء الثلاثة. ومسألةُ المُفَاضَلَة بين عليٍّ وعثمانَ رضي الله عنهما من المسائل التي وقع فيها خلاف بين السلف رحمهم الله، فمنهم مَن ذَكَرَ فضل الثلاثة ولم يزد على ذلك، وقال: أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وسكت، ومنهم من ربَّع بعليٍّ، ومنهم من قدَّم عليَّاً على عثمان، ومنهم من توقَّف، وقد ذكر هذه الأقوال وأشار إليها شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في «العقيدة الواسطية» حيث يقول: (مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيم أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ وَسَكَتُوا، أو رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا، لَكِن اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ) وهذا هو الصواب، وقد صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (كنا نقول -ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ-: خيرُ هذِهِ الأُمَّة بعد نبيها: أبو بكرٍ ثم عمرُ ثم عثمانُ) (1). فما ذكره الناظم هنا من أن علياً رضي الله عنه هو رابعُ الخلفاءِ الرَّاشِدِين هو الحقُّ والصوابُ. ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فضائل ومناقب جاءت بها السنَّة: منها: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى». ومنها: ما جاء في حديث سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رضي الله عنه المتفق عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال يوم خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ الله على يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ، قال: فَبَاتَ الناس يَدُوكُونَ

_ (1) تقدم تخريجه (ص 94).

لَيْلَتَهُمْ، أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فلما أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهم يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ؟ ... فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ ...» (1). فهذا نصٌّ على فضلِ عليٍّ رضي الله عنه وأنَّه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه، وفي هذا رَدٌّ على الخوارجِ الذين يكفِّرُونَه، والنَّوَاصِبِ الذين يسبُّونَه. ومنها أيضاً: أنه أفضل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، فهو أفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي. ومن فضائله: أنَّه صِهْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ابنتِه فاطمةَ فُضْلَى بناتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل فُضْلَى نساءِ هذه الأُمَّة، بل هي سيِّدَةُ نساءِ أهلِ الجنَّة كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على فضلها ومنزلتها رضي الله عنها وأرضاها (2). وقد وليَ عليٌّ رضي الله عنه الخلافةَ بعد مقتل عثمان رضي الله عنه سنة 35 هـ، فبعد ما قُتل عثمانُ رضي الله عنه اضطربت الأُمَّةُ وافترقت، وبايع جمهورُهم عليَّاً رضي الله عنه، ولكن الأمة لم تتفق على مبايعته، فقد امتنع من ذلك أهلُ الشام لشبهاتٍ عَرَضَت لهم، فولي رضي الله عنه الأمرَ قرابةَ خمس سنين،

_ (1) أخرجه البخاري في (4/ 1542 رقم 3973)، و (3/ 1096 رقم 2847)، و (3/ 1357 رقم 3498)، وأخرجه مسلم في (4/ 1872 رقم 2406). (2) جاء في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «يا فَاطِمَةُ ألا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أو سَيِّدَةَ نِسَاءِ هذه الْأُمَّةِ». أخرجه البخاري (5/ 2317 رقم 5928)، ومسلم (4/ 1904 رقم 2450). ووقع في بعض روايات الحديث عند البخاري (3/ 1326 رقم 3426): «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أو نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ».

39. زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد

وأفضل ما جرى في عهده رضي الله عنه قتال الخوارج الذين بشَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن قاتلهم بالأجر العظيم، فلما قاتلهم عليٌّ رضي الله عنه ووَجَدَ الرَّجلَ المُخْدَج فرحَ بذلك وسرَّه (1)؛ لما ورد في الحثِّ على قتال الخوارج والترغيب في ذلك والثناء على مَن قاتلهم، وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ من الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» (2)، فهذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ عليَّاً أولى بالحق من غيره، ولا خلاف بين الأمة كلِّها أنَّه كان أولى بالأمر حتى عند مَن خالَفَه كمعاوية رضي الله عنه ومَن معه من أهل الشام هو أولى بالأمر عندهم، فهم لا يدَّعون أنهم أولى بالأمر منه، لكنهم توقَّفوا وامتنعوا من المبايعة لبعض الشبهات التي عرضت لهم. قال الناظمُ رحمه الله: 39. زَوجُ البَتُولِ وَخَيرُ مَنْ وَطِئَ الحَصَى ... بَعْدَ الثَّلاَثَةِ وَالكَرِيمُ المَحْتِد في هذا البيت وصف الناظمُ رحمه الله عليَّاً رضي الله عنه بثلاث صفات: 1. أنه زوج فاطمة البتول رضي الله عنهما. 2. وأنه خير من وطئ الحصى بعد الثلاثة. 3. وأنه الكريمُ المَحْتِدِ.

_ (1) يُنظر خبر الرَّجُلِ المُخْدَجِ في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: البخاري (3/ 1321 رقم 3414)، و (5/ 2281 رقم 5811)، و (6/ 2540 رقم 6534)، ومسلم في (2/ 744 رقم 1064). و «المُخْدَج» -بضم الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الدال- أي: ناقِصُ اليد. (2) أخرجه مسلم في «صحيحه» (2/ 745 رقم 1064) من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه.

فقوله: «زَوجُ البَتُولِ» هذا من فضائله رضي الله عنه أنه زوج البتول، والمراد بـ «البتول» هنا فاطمةُ رضي الله عنها، وإلا فوصف البتول يطلق أيضاً على مريمَ بنتِ عِمْرَان الصدِّيْقَة، وقيل في مريم: إنها بتول، يعني منقطعةٌ عن الرِّجال فلم يَمَسَّها بشرٌ ولم تَكُ بغِيَّاً، وقيل في معنى أنَّ فاطمةَ بتول: يعني منقطعةٌ عن نساءِ زمانها، فلا نظير لها في نساء الأُمَّة في الفضلِ والدِّينِ والشَّرفِ، وعلى كلِّ حالٍ فلفظُ «البَتُول» يدلُّ على العفافِ والطُّهْرِ والفضلِ. وقوله: «وَخَيرُ مَنْ وَطِئَ الحصى -وفي نسخةٍ: «الثرى» - بعد الثلاثة»، في هذا تنصيصٌ على مرتبته رضي الله عنه في الفضل، وأنه أفضل الصحابة بعد الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، فهو إذن أفضلُ الأُمَّة وخيرُ مَن وَطِئَ الثَّرَى بعد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم. وقوله: «وَالكَرِيمُ المَحْتِدِ» أي: كريمُ الأَرُوْمَة والأَصْل، فهو رضي الله عنه كريمُ النَّسَب، كيف لا، وهو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، فهو ابنُ عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصِهْرُهُ على ابنَتِهِ فاطمة رضي الله عنها، وهو أفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو داخل في الاصطفاء والاختيار في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ من وَلَدِ إسماعيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا من كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى من قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي من بَنِي هَاشِمٍ» (1). فهو كريمُ النَّسَب إذ جمعَ اللهُ له بين فضل الصحبة وفضل القرابة، فيجب أن يُعرَف لعليٍّ رضي الله عنه فضلَه، فيُحَبُّ لإيمانِه وفضلِه في الدِّين، ويُحب كذلك لقرابتِه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه عمه

_ (1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (4/ 1782 رقم 2276) من حديث واثلةَ بنِ الأَسْقَع رضي الله عنه.

40. أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الأنام فضائل لم تجحد

العباس رضي الله عنه أنَّ قريشاً يجفون بني هاشم قال: «والله لاَ يَدْخُلُ قَلْبَ امْرِئٍ إِيمَانٌ حتى يُحِبَّكُمْ لله عز وجل - يعني لدينكم وإيمانكم بالله- ولقرابتي» وفي رواية: «حتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» (1). قال الناظمُ رحمه الله: 40. أَعْنِي أَبَا الحَسَنِ الإِمَامَ وَمَنْ لَهُ ... بَينَ الأَنَامِ فَضَائِلٌ لَمْ تُجْحَد في هذا البيت صرَّح الناظمُ رحمه الله بالمعْنِيِّ في البيتين السابقين، فلما ذكر صفاته ومناقبه أوَّلاً، عيَّنه وبيَّنَه بعد ذلك بقوله: «أَعْنِي أَبَا الحَسَنِ» وهذه كنيةُ عليٍّ رضي الله عنه، وهو مشهورٌ بها؛ لأنَّ الحَسَن أكبرُ من الحسين رضي الله عنهما، فالحسن هو أكبرُ وَلَدَيهِ من فاطمة رضي الله عنهم أجمعين. وقوله: «الإِمَامَ» لم يكن يُعرفُ رضي الله عنه في خلافتِهِ بـ «الإمام»، بل كان يلَقَّبُ بـ «أمير المؤمنين»، والتلقيب بـ «أمير المؤمنين» بدأ من زمن عمرَ رضي الله عنه، أما الذين يلقِّبُونَ عليَّاً رضي الله عنه بـ «الإِمَام» فهم الرافضة، ولكن قد يجري على ألسنة بعض أهل السُنَّة إطلاق اسم «الإمام» على عليٍّ رضي الله عنه، وهو -ولا شكَّ- إمامٌ، ولكن الإمامة في الدِّين لا تختص به، بل هي

_ (1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (5/ 652 رقم 3758) -واللفظ له- وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/ 382 رقم 32211)، وأحمد في «المسند» (4/ 165 رقم 17550 و 17551)، و (1/ 207 رقم 1777)، وفي «فضائل الصحابة» (2/ 918 رقم 1757)، والبزار في «مسنده» (6/ 131 رقم 2175 و 2176)، والنسائيُّ في «الكبرى» (5/ 51 رقم 8176)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (ص 453 رقم 470)، جميعهم من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب -ويقال: المطلب- بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (2/ 933 رقم 1792)، وابن ماجه في «سننه» (1/ 50 رقم 140) كلاهما من طريق الأعمش عن أبي سبرة النخعي عن محمد بن كعب القرظي عن العباس رضي الله عنه.

41. ولإبن هند في الفؤاد محبة ... ومودة فليرغمن مفندي

متحققة له ولغيره من الخلفاء الراشدين وسائر علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقوله: «وَمَنْ لَهُ بَينَ الأَنَامِ» أي بين الخَلِيقَة، «فَضِائِلٌ» جمعُ (فضيلة)، وهو من صيغ منتهى الجموع التي لا تنصرفُ ولا تُنَوَّنُ، ونُوِّنَت هنا من أجل استقامة النظم، وهذا جائزٌ في الشعر. وقوله: «لم تُجْحَدِ» أي لا سبيل إلى جَحْدِهَا وإنكارها، ومن فضائله التي لا تجحد ما تقدَّمت الإشارة إليه، وأيضاً فقد جمع الله له بين فضل الإيمان، والهجرة، والنصرة والجهاد، والصحبة العظيمة الطويلة من صغره رضي الله عنه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحبُه وصِهْرُه وقرِيبُهُ رضي الله عنه وأرضاه، ورزقنا حُبَّهُ وحُبَّ جميع الصحابة والقرابة. قال الناظمُ رحمه الله: 41. وَلإبْنِ هِنْدٍ في الفُؤادِ مَحَبَّةٌ ... وَمَوَدَّةٌ فَلَيَرْغَمَنَّ مُفَنِّدِي لما فرغ الناظمُ رحمه الله من ذِكْر الخلفاءِ الرَّاشدين وما لهم من المناقب والفضائل أعقَبَهُم بذكرِ معاويةَ بنَ أبي سفيان رضي الله عنه، فقال: «وَلإبْنِ هِنْدٍ» قطع همزة «ابن» للوزن، ونَسَبَهُ النَّاظمُ لأُمِّهِ هند بنتِ عُتْبَةَ رضي الله عنها، وأما أبوه فهو أبو سفيانَ صَخْرُ بنُ حَرْبٍ سيِّدُ قريشٍ. وهندُ بنتُ عُتْبَةَ امرأةٌ فاضِلةٌ عاقِلَةٌ، وهي التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعَ النساءَ على ألاَّ يُشْرِكن بالله شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ: «أَوَتَزْنِي الحُرَّةُ؟»، وهي أيضاً التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي من النَّفَقَةِ ما يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إلا ما أَخَذْتُ من مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذلك من

جُنَاحٍ؟ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذِي من مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ ما يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ» (1). ومعاوية رضي الله عنه من الذين أسلموا بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، بخلاف أبيه فإنَّه لم يُسْلِم إلا في فتح مكة، وقد اشتهر رضي الله عنه بجملةٍ من المناقبِ والأخلاقِ الفاضلةِ، فقد استَكْتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم واتخذه أحدَ كُتَّابِ الوحي، وأمَّرَه عمرُ رضي الله عنه على الشام، فكان أميراً على الشام عشرين سنة حتى آل إليه أمرُ الخلافة سنة 40 هـ، فصار أميراً للمؤمنين عشرين سنة، فكانت مدة إمارته الخاصة والعامة أربعين سنة. وقوله: «ولإبنِ هِنْدٍ في الفُؤادِ» يعني في القلب، «مَحَبَّةٌ وَمَوَدَّةٌ» المحبة والمودَّة معناهما واحدٌ أو متقاربٌ. وقوله: «فَلَيَرْغَمَنَّ» اللام هنا لام القسم، يعني: فوالله لَيَرْغَمَنَّ من «الرَّغَام» الذي هو التُّراب. وقوله: «مُفَنِّدِي» (2) يعني من يُنْكِرُ عليَّ، ويَعِيبُني على محبتي لمعاوية رضي الله عنه، ووقع في نسخةٍ: «فَلَيَرْغَمَنَّ المُعْتَدِي» وهي قريبةٌ في المعنى من سابقتها، فالمُفَنِّدُ للنَّاظِم على حُبِّهِ ومودتِه لمعاويةَ رضي الله عنه هو معتدٍ في تفنيده له، وهو أيضاً معتدٍ في بغضِه لمعاويةَ رضي الله عنه، وكأنَّ

_ (1) متفقٌ عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (2/ 769 رقم 2097)، ومسلم (3/ 1338 رقم 1714). (2) الفَنَدُ -بالتحريك-: الخَرَفُ وإِنكارُ العَقْلِ لِهَرَمٍ أَو مَرَضٍ، والفَنَدُ الخَطَأُ في القولِ والرَّأْيِ، والفَنَد الكَذِبُ، يقال: فَنَّدَه تَفْنِيداً إذا كَذَّبَهُ وعَجَّزَهُ وخَطَّأ رَأْيَهُ وضَعَّفَهُ. ينظر: «لسان العرب» (3/ 338)، و «تاج العروس» (8/ 505 - 506).

الناظم رحمه الله يشير بهذا إلى الرافضة؛ لأنَّهم يبغضون معاوية رضي الله عنه بسبب غلوِّهم في عليِّ رضي الله عنه. فالناظمُ رحمه الله عَمَدَ إلى التنْصِيصِ على فضل الخلفاء الرَّاشدين، ثم فضل معاوية رضي الله عنه، وفي هذا إرغامٌ ومُرَاغَمَةٌ للرَّافِضَة التي تُضْمِرُ العِدَاء والكيد والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لكلِّ مَن جاء بعدهم ممن سَارَ على أَثَرِهِم وسلك سبيلَهُم من أهلِ السنَّة والجماعة. فهؤلاء الرَّوَافض يُبغِضُون خِيَارَ الأُمَّةِ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وسائرَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم، ولذا فبُغضهم لمعاوية ليس أمراً خاصاً به، لكنَّ بعض الشيعة من غير الرافضة يُبغِضُ معاويةَ أيضاً وإن كان لا يُبْغِضُ أبا بكرٍ وعُمَرَ؛ وذلك لما كان بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من خِلافٍ، فهم يُبغِضُون معاويةَ بسبب غلوهم في حُبِّ عليٍّ رضي الله عنه، والواجب العدل، فمعاوية رضي الله عنه صحابيٌّ جليلٌ، لكنه ليس بمعصومٍ من الخطأ والزلل، بل ولا أحد من الصحابة كذلك، بل كلهم تجوز عليهم الذنوب، لكن لهم من الحسنات ما يُرجى أن تكون ذنوبهم مغمورةً فيها. فالواجبُ هو معرفةُ فضلهِم وإنزالهم منزلتهم، والتماس العذر لهم فيما صدر منهم، وهم في ذلك إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فهو يتلخص في أمرين: أولاً: الكف عن الخوض فيما شجر بينهم. والثاني: التماسُ العذر لهم، وإذا كان هذا واجباً في حق جميع المسلمين فهو في حقِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آكَدُ وأَوجَبُ (1).

_ (1) ومن جميل ما يُسَطَّرُ في هذا المقام ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطية» حيث قال -متحدِّثاً عن منهج أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم-: (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقةِ الرَّوَافِض الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ، وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ المَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ، وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُون. وَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِه، بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِم الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَة، وَلَهُمْ مِن السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِن السَّيِّئَاتِِ مَا لاَ يُغفرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ، وَأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلََ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِه، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ. ثُمَّ القَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ القَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِن الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالِجهَادِ فِي سَبيِلِهِ، وَالْهِجْرَةِِ، وَالنُّصْرةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ, وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِن الفَضَائِلِ، عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لاَ كَانَ وَلاَ يَكُونُ مِثْلهُمْ، وَأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى الله جَلَّ شَأْنُهُ) انتهى.

42. ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... ـوحي المنزل ذو التقى والسؤدد

قال الناظمُ رحمه الله: 42. ذَاكَ الأَمِينُ المُجْتَبَى لِكِتَابَةِ الـ ... ـوَحْيِ المُنَزَّلِ ذُو التُّقَى وَالسُّؤدَد ذكر الناظم رحمه الله في هذا البيت بعضاً من المناقب والفضائل التي اشتهر بها معاوية رضي الله عنه، فقال: «ذَاكَ» إشارة إلى مَن سماه «ابنَ هِنْدٍ» وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، «الأَمِينُ المُجْتَبَى» وصفه هنا بالأمانة، وحقاً إنَّه لأمينٌ، ودلَّل على ذلك بأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم اجتباه واختاره «لِكِتَابَةِ الوَحْيِ المُنَزَّلِ» وهو القرآن، وهذا أدلُّ دليلٍ على أمانته رضي الله عنه، وهذه فضيلةٌ عظيمةٌ لمعاوية رضي الله عنه تدل على عظيم صِلَتِهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وعلى منزلتِه عنده، ولهذا اختاره لهذا الشأنِ العظيمِ، ثم صار بعد ذلك بمنزلةٍ عاليةٍ عند أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وقوله: «ذُو التُّقَى وَالسُّؤدَدِ» هذا تأكيدٌ لما قبله، فهو رضي الله عنه من المؤمنين الصالحين المتقين، وهو -أيضاً- ذو سؤدَدٍ ومكانةٍ عاليةٍ بين قومه وعشيرته، وله من الأخلاقِ الكريمةِ والصفاتِ الحميدةِ ما اشتهر به، من الحِلم وحُسن النَّظَرِ والحنكة والقدرة العظيمة في سياسة الأمة، حتى ذُكِر عنه أنه قال: «لو كان بيني وبين النَّاس شَعْرَةٌ لم تنقطع، إن أرخوها شَدَدْتُها وإن شدُّوها أَرْخَيتُهَا». وقد أثبت رضي الله عنه بإمرته إدارةً عظيمةً، ومن خير ما حصل في عهده أنَّه جيَّشَ الجيوش وركبوا البحر، ففي عهده وقعت أولى الغزوات البحرية، حيث غزا بلاد الروم مرتين، وهذا مما يُحتسب له رضي الله عنه.

43. فعليهم وعلى الصحابة كلهم ... صلوات ربهم تروح وتغتدي

قال الناظمُ رحمه الله: 43. فَعَلَيهِمُ وَعَلَى الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ... صَلَوَاتُ رَبِهِمُ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي قوله: «فَعَلَيهِمُ» إشارةٌ إلى كلِّ مَن تقدَّم ذكره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم. وقوله: «وَعَلَى الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ» يعني: ممن لم يُذْكَر ولم يَصَرَّح باسمِه. وقوله: «صَلَوَاتُ رَبِهِمُ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي» «الرَّوَاح»: هو الذَّهابُ في المساء، و «الغُدُوّ»: هو الذَّهابُ في الصباح، فقوله: «تَرُوحُ وَتَغْتَدِي» يعني: عليهم صلوات الله صباحاً ومساءً، وهذا يساوي أن يقول: عليهم صلوات الله دائماً وأبداً؛ لأنَّه يُعبَّر عن دوام الشيء بوُرُودِهِ وحُصُولِهِ صباحاً ومساءً. قال الناظمُ رحمه الله: 44. إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَفُوزَ بِحُبِّهِمْ ... وَبِمَا اعْتَقَدْتُ مِنَ الشَّرِيعَةِ في غَد ختم الناظم رحمه الله هذه المنظومة بقوله: «إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَفُوزَ بِحُبِّهِمْ» يعني: إني لأرجو أن أفوز بسبب حُبِّي لهم رضي الله عنهم؛ لأنَّ «حُبَّهم دِينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وَبُغْضَهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ» كما يقول الطَّحَاوي رحمه الله في «عقيدته» المشهورة. فحُبُّهُم رضي الله عنهم من أعظمِ مراتبِ الحُبِّ في الله عز وجل. وقوله: «وَبِمَا اعْتَقَدْتُ مِنَ الشَّرِيعَةِ» يعني: وبسبب ما اعتقَدتُ من الاعتقادات الشرعية الصحيحة في الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله -مما نصَّ عليه فيما سبق- وغيرِه من عقائد الدِّين.

45. قالوا: أبان الكلوذاني الهدى ... قلت: الذي فوق السماء مؤيدي

وقوله: «في غَدِ» يعني في يوم المعاد، فإنَّه يُعَبَّر عن اليوم الآخر بـ «الغَد»، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18]، وهو اليوم الموعود الآتي لا محالة، وهو اليوم الذي من فاز فيه فاز بالسعادة الأَبَدِيَّة، ومن شقي فيه باءَ بالحَسْرَةِ والشَّقَاء الدَّائِم. وهذا الذي ذكره الناظمُ رحمه الله هنا هو اللائق بكل مَنْ مَنَّ اللُه عليه بالإسلامِ أن يجعل هِمَّتَه في الفوز في ذلك اليوم الموعود، وذلك بدخول الجنة، والنجاة من النار، والفوز بمغفرة الله ومرضاته، فإنَّ الفوزَ في ذلك اليوم هو الفوزُ العظيم، وهو الفوزُ الكبير. ولا ريب أنَّ حُبَّ الصحابةِ رضي الله عنهم، وحُبَّ مَن يُحِبُّه الله من أنبيائِه وعبادِه الصالحين، والإيمانَ بشرعِهِ ظاهراً وباطناً أنَّه سَبَبُ الفوزِ في ذلك اليوم العظيم يوم القيامة. قال الناظمُ رحمه الله: 45. قَالُوا: أَبَانَ الكَلْوَذَانِيُّ الهُدَى ... قلتُ: الَّذِي فَوقَ السَّمَاءِ مُؤيِّدِي (1) «قَالُوا» يعني: أولئك الذين ألقوا إليه هذه المسائل يشكرونه ويقولون: «أَبَانَ الكَلْوَذَانِيُّ الهُدَى» يعني: بأجوبته المتقدِّمة، قد بيَّن لنا الهدى والصواب في هذه المسائل التي سألوه عنها. فرَدَّ عليهم بقولِه: «قلتُ: الَّذِي فَوقَ السَّمَاءِ مُؤيِّدِي» يعني أنَّ الذي فوق السماء -وهو الله سبحانه وتعالى- هو الذي مَنَّ عليَّ وأيّدني وعلَّمني ووفقني، فهذا من إضافة النعمة إلى مُوْلِيْها، يعني ما أجبتُ به من الصواب والهدى والبيان إنما كان بتأييده وتعليمه وفتحه سبحانه وتعالى، فإنَّه ما

_ (1) قوله: «فَوقَ السَّمَاءِ» وقع في بعض النسخ: (رَفَعَ السَّمَاءَ).

من نعمةٍ للعباد إلا من الله عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وهكذا ينبغي للمسلم في جميع ما أنعم الله به عليه من النعم الدينية والدنيوية أن يضيف ذلك كله إلى الله عز وجل، كما جاء في حديث سَيِّدِ الاستغفار: «أَبُوءُ لك بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ» (1) يعني أعترف لك بالإِنْعَامِ والإِفْضَال، فكلُّ ما عندي من نعمةٍ فهي منك يا ألله، وبهذا يكون العبدُ شاكراً لنعمة الله عليه، فإنَّ أوَّلَ الشكرِ الاعترافُ بحقِّ المُنعِمِ وعظيمِ فَضْلِهِ. وقد أحسن الناظمُ رحمه الله في هذا الخِتَام من حيث بيَّن مقصوده، وبيَّن كذلك فضل الله عليه ولم ينسب ذلك إلى نفسه وعلمه وقدرته، بل أضاف ذلك إلى ربه عز وجل، وأنه هو الذي أمدّه وأيّده، نسأله سبحانه وتعالى أن يمدنا بتوفيقه وتأييده. فجزى الله الناظم خيراً على ما بيَّنَه وقَصَدَ إليه في هذه القصيدة من بيان الحق، وما قرَّره من مذهب أهل السنَّة والجماعة في الإيمان وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع في بعض المواضع من هذه القصيدة من ملاحظة أو استدراك أو نحو ذلك، سواء أكان في ما أجمله الناظم، أم في ما صرَّح به ونصَّ عليه فله أسوةٌ بغيرِه من أهلِ العلم، وكثيرٌ من أهل العلم دَخَلَت عليهم هذه المذاهب الكَلاَمِيَّة ووقعوا فيها عن اجتهادٍ وحسنِ نِيَّةٍ فغفر الله لهم ورحمهم ورضي عنهم. وعلى كلِّ حالٍ فأبو الخطَّاب أحدُ العلماءِ المعروفين بالفقه والدِّين والصلاح فرحمه الله وجزاه الله خيراً.

_ (1) أخرجه البخاريُّ (5/ 2323 رقم 5947) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

فيجب أن يكون الحقَّ ضالةُ المؤمن، وأن نعرف الرِّجَالَ بالحقِّ، لا أن نعرف الحق بالرجال، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرَدُّ، ومذهبُ أهلِ السنَّة والجماعة إنما يُتَلَقَّى عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئِمَّة المَرْضِيِّين كالإمامِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ بنِ حنبل وغيرِهم من أئمَّةِ أهلِ السنَّة كالبخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهم من أئمَّةِ الحديث. فهؤلاء هم الأصلُ في معرفةِ مذهبِ أهلِ السنَّة والجماعة في هذه المسائل التي اضطرب فيها النَّاسُ، كمسألة «الأسماء والصفات»، ومسألة «القدر»، ومسألة «الإيمان»، ومسألة «الصحابة»، فهذه هي المسائل الكبار التي افترقت فيها الأمة، والله تعالى حافظٌ دينَه. فلا بد أن يبقى لهذا الدِّين مَن يحفَظُه ويُجَلِّيه، ويبقى للسُنَّة مَن يحيي ما اندَرَسَ منها، ويزيح الغشاوة عنها، ويقمع البدع والمحدثات. ومن أعلام أولئك شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة، الذي أحيى اللهُ به كثيراً من السُّنَن التي أُمِيتَت، وقَمَعَ الله به بِدَعَ المبتدِعِين، ونفع الله به من جاء بعده ومن كان في عصره من المسلمين. ولا يزال المسلمون -ونحن منهم- يتفيئون ظلال هذه الجهود والدَّعَوات المباركة لسلفنا الصالح، فجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين أحسن الجزاء، ونفعنا وإياكم بما علمنا، وثبتنا على دينه، إنه سميعُ الدُّعَاء. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1