شرح الفتوى الحموية

خالد المصلح

شرح الفتوى الحموية [1]

شرح الفتوى الحموية [1] أول الواجبات معرفة الله تعالى، وقد سئل شيخ الإسلام عن طريقة السلف في التعامل مع آيات وأحاديث الصفات، فبين رحمه الله مذهب السلف، ورد على من خالفهم، وذكر الأدلة على صحة مذهبهم ووجوب اتباعه.

الواجب لزوم أدلة الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في باب الصفات وغيره

الواجب لزوم أدلة الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في باب الصفات وغيره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا هو الدرس الأول من دروس شرح (الفتوى الحموية الكبرى) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى. [سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11] إلى غير ذلك من آيات الصفات وأحاديث الصفات كقوله: صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار) إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى. فأجاب رضي الله عنه ورحمه: الحمد لله رب العالمين؛ قولنا فيها: ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]] . تبين مما تقدم أن هذه الرسالة جواب عن سؤال ورد إلى شيخ الإسلام رحمه الله، عن صفات الله جل وعلا، وما الواجب فيها؟ وهذه الرسالة تدور على الجواب عن إشكالات أوردها السائل، وفصل في جوابها شيخ الإسلام رحمه الله، وابتدأ جوابه بقاعدة مهمة أساسية هي بمثابة التوطئة لجميع الإشكالات التي ترد في هذا الباب، وهو ما بينه رحمه الله في قوله: (قولنا فيها ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء) . فبين رحمه الله أن القول في باب الصفات موقوف على ما جاء عن الله جل وعلا وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمة من القرون المفضلة ومن سار على طريقهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. فهذه القاعدة هي قاعدة أساسية كلية في باب ما يُعتقد في الله جل وعلا؛ لأن الإخبار عن الله جل وعلا إخبار عن أمر غيبي، والخبر الغيبي لا تدركه العقول ولا تستقل بمعرفته، فلابد في هذا الباب من الرجوع إلى ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما قاله السلف الذين أخذوا من هذين -من الكتاب والسنة- وهم أعلم الناس بمراد الله وبمراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وبدأ الشيخ -رحمه الله- في جوابه بهذه المقدمة الأساسية، فذكر في هذه المقدمة ما يجب اعتقاده، ثم استدل له، وذلك ببيان أن طريقة السلف هي أحسن الطرق، وأنها الطريق الذي توصل إلى معرفة الله جل وعلا، وأنها الطريق التي جاءت بها الرسل، وأن كل طريق يسلكه العبد ليتعرف به على الله جل وعلا غير طريق هؤلاء، فإنه لا يصل إلا إلى ضلال ولا يحصل إلا خبالاً.

الدليل على وجوب لزوم طريق السلف

الدليل على وجوب لزوم طريق السلف وقال في الاستدلال لهذه الطريقة، وهي وجوب الوقوف على ما جاء عن الله، وعلى ما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن سلف الأمة من القرون المفضلة ومن بعدهم؛ قال رحمه الله: (وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم) ، وهذا استدلال لصحة هذه الطريقة بإجماع الأمة على صحة طريق هؤلاء. فإن الأمة أجمعت -على اختلاف مشاربها- على أن طريق هؤلاء هو أحسن السبل وهو أحسن الطرق. قوله: (وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره) يعني: في باب الأسماء والصفات وفي باب الغيبيات الذي جاءت الرسل بالإخبار عنه، كالإخبار عما يكون في يوم القيامة وما يتعلق باليوم الآخر وما إلى ذلك من الأمور المغيبة. قوله: (فإن الله سبحانه وتعالى) : هذا هو التعليل، فبعد أن ذكر الإجماع أتى بالتعليل لصحة هذه الطريقة، وأنها هي الطريقة التي يجب سلوكها قال: قوله: (فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) ، فإذا كان بعثه بذلك فإن أعظم ما يحتاج إليه الخلق -كما سيذكره الشيخ- هو ما يتعلق بمعرفة الله جل وعلا، إذ إن العباد خلقوا على الفطرة، والفطرة تقتضي أن يتوجه الخلق إلى رب يعبدونه ويحبونه ويلجئون إليه، فإذا كان كذلك فإن من مقتضيات إخراجهم من الظلمات إلى النور أن يخرجهم من الجهل الذي يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إلى العلم به سبحانه وتعالى الذي هو النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] ، فهو نور والعلم به من أكمل النور الذي يجب على العبد أن يهتم به ويعتنى به، ولذلك لما كان هذا هو أهم المعلومات، كان أول ما يُسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ لأن بمعرفة الرب تستقيم الأمور كلها. قال رحمه الله: [فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] : فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء سراجاً منيراً، داعياً إلى الله جل وعلا بإذنه، ثم وصف طريقته: بأنه صلى الله عليه وسلم على بصيرة فيما يتعلق بما يخبر به عن الله جل وعلا، وفيما يتعلق بما يخبر به من أحكامه وشرعه جل وعلا، فهو على بصيرة في الأمر كله، ولذلك إذا كنا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة، فالواجب الوقوف على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد بعث محمداً؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبعثه داعيا إليه سبحانه وتعالى بإذنه، وبعثه سراجاً منيراً، وأمره أن يخبر الناس بأنه على بصيرة.

بيان الوجوه العقلية الدالة على صحة مذهب السلف

بيان الوجوه العقلية الدالة على صحة مذهب السلف

الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف

الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف قال رحمه الله تعالى: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!] : هذا هو الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف الصالح فيما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، إذ إن من المحال كما قال المؤلف رحمه الله: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي بعثه الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور) أن يترك إخبار الناس وتعليمهم ما يتعلق بالله عز وجل فقال: (محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً) . وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى معلما، وكما أشار الشيخ رحمه الله إلى أن أولى ما يتعلمه الناس وآكد ما يحتاجون إلى معرفته هو ما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأنهم يعبدونه، والخلق لا يعبدون شيئاً مجهولاً، فقد فُطرت قلوبهم ونفوسهم على أن يعبدوا ما يعلمون، فكلما ازداد العبد لله معرفة كلما ازداد له عبودية، ولذلك إذا أردت أن تعرف درجة العبد من العبودية فانظر إلى درجته من المعرفة بالله عز وجل، فإن كان عالماً بالله عالماً بأمره، فإنه في أكمل درجات العبودية؛ ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له) فجعل العلم سبباً للخشية، والخشية إنما تكون بعد العلم بالله وصفاته وأفعاله جل وعلا. فكون الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحال، وكون الله شهد له بأنه أكمل الدين وأتم عليه النعمة، يوجب الوقوف على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دون زيادة ولا نقصان، وإن أي زيادة أو أي نقصان أو أي اختيار غير ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم هو محض ضلال، فإن الله قد سد الطرق الموصلة إليه إلا طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما ينتهي أهل الجنة من العبور على الصراط المضروب على متن جهنم، ويريدون دخول الجنة، فإنه لا يفتح لهم إلا عن طريقه، فيطرق صلى الله عليه وسلم الباب فيقول خازنها: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك، وهذا يدل دلالة واضحة على أن كل طريق يسلكه العبد غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم للوصول إلى مرضاة الله ونعيمه في الدنيا والآخرة، لا يحصل بذلك إلا ضلالاً، وأنه لن يصل إلا عن طريق صراط الله المستقيم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

الوجه الثاني من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة! وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ، وقال فيما صح عنه أيضا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم) ، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) . رواه البخاري] . هذا هو الوجه الثاني في بيان صحة طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ووجوب اتباع هذا السبيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته دقيق الأمور وجليلها، فمحال على من علم أمته كل شيء حتى آداب التخلي أن يتركهم في جهل والتباس واشتباه، فيما يتعلق بمن يعبدونه ويتوجهون إليه ويسألونه ويرغبونه، فمقتضى تعليم النبي صلي الله عليه وسلم أمته دقيق الأمور وجليلها، أن يكون قد بصرهم وعلمهم بما يجب لله عز وجل وما يتعلق به، سواء في أفعاله أو في أسمائه وصفاته، أو فيما يجب له من الألوهية والربوبية.

الوجه الثالث من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

الوجه الثالث من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف قال رحمه الله: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت؛ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه] . وهذا الوجه مبني على ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يترك الأمة في جهل وضلال فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى، مع أن المعرفة بالله عز وجل هي زبدة الرسالة وهي غاية البعثة، وانظر إلى قوله: (الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب) ، فهذا الترتيب ترتيب بديع، فبدأ أولاً بالمعرفة؛ لأنه لا تتم العبادة إلا بعد معرفته، فمن أراد أن يعبد الله حق عبادته فليتعرف عليه حق معرفته، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت عبادته له سبحانه وتعالى، وتعلقه به وحبه له سبحانه وتعالى، ثم إذا حصلت له المعرفة حصلت له العبادة، وإذا حصلت له العبادة المبنية على المعرفة به سبحانه وتعالى حصل له الوصول إليه الذي هو غاية المطالب، ويتم الوصول إليه جل وعلا بدخول جنته التي من أعظم نعيمها أن يتجلى جل وعلا لعباده فيكشف لهم الحجاب فيرونه. قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) يعني: معرفة الله جل وعلا، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً بديعاً جيداً، في أن الرسل إنما جاءوا ليعرفوا الخلق بربهم وليدلوهم عليه، فقال رحمه الله: إن الرسل قد بينوا كل ما يحتاجه الخلق فيما يتعلق بالله عز وجل فبينوا لهم صفاته وبينوا لهم أفعاله سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: حتى غدا من طالع كلام الرسل كأنما يرى الله جل وعلا بعينه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ويرفع ويخفض وذكر كلاماً بديعاً جيداً في أن الرسل أوفوا هذا الجانب حقه وبينوه غاية البيان، وأن هذا الذي جاءوا به واتفقوا عليه، هو بيان ما يجب لله عز وجل في صفاته وأفعاله، ما يجب له في الألوهية والربوبية فصدق ابن تيمية رحمه الله في قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) .

الوجه الرابع من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف

الوجه الرابع من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف قوله: (فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة) أي: بقية (من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام. ثم إذا كان قد وقع ذلك منه -أي: البيان- فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين) . لأن المجادل قد يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ما يجب لله عز وجل وما يتعلق بأسمائه وصفاته غاية البيان، إلا أن الصحابة الذين تلقوا عنه لم يوفوا هذا المقام حقه ولم يقدروه قدره! فيقال له: إن الصحابة رضي الله عنهم أنصح الأمة للأمة، وهم أعبد الخلق لله عز وجل، بل ذكر الشيخ رحمه الله أنهم أفضل خلق الله بعد النبيين، وإذا كانوا كذلك، فمحال على هؤلاء مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالخيرية أن يكونوا قد قصروا في باب الأسماء والصفات، فهذا أيضاً وجه من الوجوه التي تبين صحة طريق السلف، وتبين وجوب سلوك سبيلهم للوصول إلى معرفة الله جل وعلا.

بيان أن معرفة السلف في باب الأسماء والصفات أعظم من معرفة غيرهم

بيان أن معرفة السلف في باب الأسماء والصفات أعظم من معرفة غيرهم ثم قال رحمه الله: [ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين به وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع. أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه -أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته- وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية! فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه أولئك السادة في مجموع عصورهم! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه: فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقل عرف حال القوم] . هذا الوجه في بيان أن الصحابة رضي الله عنهم قد أوفوا هذا المقام حقه, وأنهم أتوا بما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوه عنه، وأنهم لم يقصروا فيه لا في زيادة ولا في نقصان فقال رحمه الله: (ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين) . فقوله: (غير عالمين) هذا الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني: أنهم علموا وكتموا. وهذا معنى قوله: (وغير قائلين) أي: غير معلمين لهذا العلم الذي تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت تقول: إن السلف كانوا على طريقة صحيحة، فإنه يستحيل أن يكونوا غير قائلين بها؛ لأنهم بلغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم دقيق الأمر وجليله. ثم بعد أن ذكر هذين الاحتمالين أبطل هذين الاحتمالين فقال: (لأن ضد ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع) : أي لأنهم إن كانوا على ضد ذلك، أي: العلم، والقول بالحق، فذلك الضد هو إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق. (وكلاهما ممتنع) أي: يمتنع أن يكون الصحابة لم يعلموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ويمتنع أيضاً أن يكونوا قد علموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ثم كتموه ولم يبلغوه للأمة، بل وتواطئوا على الكتم. كما أن الاحتمال الثاني وهو: أن يكونوا قد اعتقدوا نقيض الحق أيضاً هذا ممتنع؛ لأنهم خير القرون ولا يمكن أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرن بأنهم خير القرون، ثم يكون اعتقادهم في أهم الأمور وأجلها وأخطرها وأعظمها -وهو ما يتعلق بأسماء الله وصفاته- أن يكون اعتقادهم في هذا الباب نقيض الحق وخلاف الصدق، فلما كان هذان الاحتمالان ممتنعين رجعنا إلى أن طريقهم هو غاية العلم وغاية الحق وهو سبيل المؤمنين. ولبيان امتناع هذين الوجهين قال:- (أما الأول) وهو: أن يكونوا غير عالمين بالحق. قال: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب) ، يعني باب أسماء الله وصفاته وأفعاله وما يتعلق به والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه (أكبر مقاصده وأعظم مطالبه أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده) في الله جل وعلا، ولذلك جاء كتاب الله عز وجل مليئاً ببيان أفعال الله عز وجل، وبيان صفاته، وبيان ما يجب له سبحانه وتعالى، فمحال على من كان راغباً فيما عند الله عابداً له على الوجه الصحيح، أن يكون غافلاً عن معرفة هذا المعبود. ثم استدرك الشيخ فبين أن المحال هو الجهل بما يجب لله عز وجل، لا بمعرفة كيفية تلك الصفات التي أخبرت بها الرسل عنه، ولذلك قال: (أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته) أي: فإن هذا لم يسأل عنه الصحابة ولم يشتغلوا به؛ وذلك لأنهم أيقنوا واعتقدوا قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] واعتقدوا قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، فمن كان كذلك فإن العقول لا تدرك حقيقة صفاته وكيفيتها. قال: (وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر) أي: ما يتعلق بالله عز وجل (وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو من أقوى المقتضيات -يعني الموجبات للعلم والمعرفة- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم) وهي القرن الأول والثاني والثالث. أما وجه إبطال الثاني وامتناعه، وهو أن يكونوا عالمين بالحق لكن معتقدين بخلافه، فقال: (وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم) ، وهذا حق، فإن المسلم لا يعتقد في القرون الذين شهد الله لهم بالخير، واصطفاهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرون الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية؛ أن يقولوا ويعتقدوا غير الحق، بل هم معتقدون للحق قائلون به.

بطلان قاعدة الخلف في أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم

بطلان قاعدة الخلف في أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم ثم قال رحمه الله تعالى: [ثم الكلام في هذا الباب عنهم: أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف -من المتفلسفة ومن حذا حذوهم- على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان] . الآن الشيخ رحمه الله في هذا المقطع بدأ بكلام جديد، فبعد أن قرر رحمه الله صحة مذهب السلف وسلامة طريقهم، وأنهم قائلون في هذا الباب بالحق المبين، وأنهم مستمسكون بما جاء عن الله وعن رسوله الأمين، أتى رحمه الله بوجه آخر وهو إبطال طريقة الخلف، وأن الخلف لم يقفوا على شيء في باب معرفة الله جل وعلا وأسمائه وصفاته، وأنهم في هذا الباب بين ضال ومتخبط ومتحير، وسينقل عنهم رحمه الله ما يدل على ضلالهم وخطئهم وتحيرهم، ونقل رحمه الله جواب المتأخرين وعذرهم في سلوكهم سبيل غير السلف السابقين. فإن الخلف لما سلكوا طريقاً غير الطريق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرون المفضلة، احتاج هؤلاء إلى الاعتذار عن مخالفتهم لسبيل السلف الصالح، فأتوا بهذه الجملة التي ترددت في كلامهم وكتبهم، وهي كالاعتذار عن مخالفة طريق السلف الصالحين فقالوا: (إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم) . وهذه الجملة متناقضة وقد حوت حقاً وباطلاً. أما كونها قد حوت حقا وباطلا، فالحق هو في قولهم: إن طريقة السلف أسلم. فلا شك أن طريقة السلف أسلم؛ لأنهم أعلم بالله وأعلم بما يجب له سبحانه وتعالى، وأعلم بأسمائه وصفاته. وأما قولهم: (وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فهذا كذب؛ لأن طريقة الخلف لم يصلوا بها إلى علم ولا إلى حكمة، بل وصلوا إلى ضلال وحيرة. ثم إن عجز هذه الجملة يناقض صدرها، فمقتضى أن طريقة السلف أسلم: أن يكون طريقهم أعلم وأحكم؛ لأن السلامة فرع عن العلم والحكمة، ولذلك شُرع لنا في كل ركعة أن نسأل الله الهداية إلى صراطه المستقيم، وصراطه المستقيم أسلم الطرق الموصلة إليه، وقوام هذا الصراط أمران: العلم والعمل الصالح, ولذلك قال جل وعلا في آخر هذه السورة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، لأنهم خالفوا مقتضى العلم، وغير (الضالين) ؛ لأنهم عملوا بلا علم، فطريقة السلف أسلم؛ لأنها قائمة على العلم والحكمة والعمل الصالح، ولا سلامة إلا بعلم وعمل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] . إذاً: هذا أول الأوجه في بطلان هذه العبارة، وأنها ليست بصحيحة، ثم سيذكر الشيخ رحمه الله أوجهاً أخرى لإبطال هذه العبارة، ولابد أن ندرك ونفهم هذه الأوجه للرد على طريق الخالفين من الخلف الذين خالفوا طريق السلف، فإنهم خالفوا في المقدمات، وخالفوا في النتائج؛ ولذلك كانت نتائج طريقهم الحيرة والضلال. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

شرح الفتوى الحموية [2]

شرح الفتوى الحموية [2] ضل كثير من الخلف في باب الأسماء والصفات، وذلك لجهلهم بطريقة السلف أولاً، ثم بزهدهم فيها وظنهم أنها مجرد الإيمان بالألفاظ دون فهم المعاني. ثم ذهبوا يختطون طريقة أخرى وهي تحريف المعاني الظاهرة إلى معانٍ بعيدة، وعدوا طريقتهم هذه طريقة العلم والمعرفة! وقد بنوا باطلهم على مقدمتين كاذبتين بينهما الشيخ ورد عليهما.

سبب ضلال الخلف: جهلهم وسوء ظنهم بمنهج السلف

سبب ضلال الخلف: جهلهم وسوء ظنهم بمنهج السلف الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله: [فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف؛ إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى؛ بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه. فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله!] .

معرفة الله بأسمائه وصفاته هو زبدة الرسالة

معرفة الله بأسمائه وصفاته هو زبدة الرسالة تقدم حكاية قول ابن القيم رحمه الله حول زبدة الرسالة التي جاءت بها الرسل جميعاً، فقد تكلم عن هذا بكلام طيب في مدارج السالكين، فهذا هو الموضع الذي تكلم به رحمه الله فقال: (والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه، فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول، فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلا، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه، يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم، يأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويحب ويسخط، ويضحك، ويجيب دعوة مضطرهم، ويغيث ملهوفهم، ويعين محتاجهم، ويجبر كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويميت ويحيي، ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة من يشاء، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويفك عانياً، وينصر مظلوماً، ويقصم ظالماً، ويرحم مسكيناً، ويغيث ملهوفاً، ويسوق الأقدار إلى مواقيتها، ويجريها على نظامها، ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومدار تدبير الممالك كلها عليه، وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة) . انتهى كلامه رحمه الله. وهو كلام بديع يزيد في الإيمان، ويبين عظم ووجوب الاهتمام بما ذكر الله سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه، وستجد أن الشيخ رحمه الله وافق شيخ الإسلام في هذه العبارة حيث قال: (وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة) ، أي: ما تقدم من التعريف بالله جل وعلا، وبيان أوصافه وأفعاله وما يجب له، وهذا هو زبدة الرسالة ومقصود الدعوة التي جاءت بها الرسل، ولذلك قال الشيخ رحمه الله في الكلام السابق: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب) يعني: باب أسماء الله عز وجل وصفاته (والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده وأعظم مطالبه) ، ثم ذكر بعد ذلك أن هذا هو الذي يعد زبدة الرسالة ومقصودها. فهذا يبين وجوب الاهتمام بهذا الباب، وأن الاهتمام بباب الأسماء والصفات ليس لمجرد الرد على قول المبتدعين والمخالفين من المتكلمين وغيرهم، بل الاهتمام بباب الأسماء والصفات؛ ليزداد الإيمان ولتتم معرفة العبد بربه جل وعلا ليحصل له كمال العبودية، ولذلك لما كان أكثر الخلق علماً بالله عز وجل هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان أعبد الخلق لربه، ولذلك قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له) ، فالعبادة والخشية وسائر المقامات هي فرع عن تمام العلم به سبحانه وتعالى.

تنفيذ كلام الخلف في عدولهم عن طريقة السلف

تنفيذ كلام الخلف في عدولهم عن طريقة السلف أما كلام الشيخ رحمه الله -المتقدم- فهو في تفنيد العبارة التي يذكرها المتكلمون في بيان اعتذارهم عن مخالفة طريق السلف الصالحين، وسلوكهم طريق المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في باب أسماء الله وصفاته، فبدأ في الرد عليهم ببيان سبب هذا الضلال الذي وقعوا فيه فقال: (فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم، على طريق السلف إنما أتوا) يعني: إنما وقعوا فيما وقعوا فيه؛ (لأنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك) ، فهذا هو السبب الأول الذي أوقع المتكلمين في الضلال في باب الأسماء والصفات: حيث ظنوا أن السلف رحمهم الله لم يفقهوا آيات الصفات ولم يعلموا ما فيها، وأن غاية ما عندهم هو المعرفة لألفاظها دون الوقوف على حقائقها ومعانيها، ولا شك أن ما ظنوه من طريقة السلف خطأ وضلال وجهل، فإن السلف هم أعلم الناس بالله عز وجل؛ لأنهم تلقوا ذلك عمن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، ولكن السلف لم يدخلوا في باب الأسماء والصفات، وفي باب ما يتعلق بالله عز وجل بآرائهم وخيالاتهم وعقولهم، بل قبلوا ما جاء عن الله وعن رسوله على ما تقتضيه اللغة، دون الدخول في تكييف ذلك والبحث عن كنهه وحقيقته؛ لأن الباب قد أغلق بقوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . فالسبب الأول والركيزة الأولى التي بنى عليها المتكلمون مخالفتهم لطريق أهل السنة والجماعة: أنهم ظنوا أن عقيدة السلف التفويض، ولذلك فهم يرون أن التفويض هي عقيدة القرون المفضلة، وأنهم يؤمنون بالألفاظ ويقفون عن المعاني فلا يقولون فيها شيئاً، بل يقولون: أمروها كما جاءت! والسلف لاشك أنهم يقولون: أمروها كما جاءت، ولكن هذا اللفظ المنقول عنهم لا يدل على أنهم لم يقفوا على معاني هذه الأسماء والصفات، فإنهم وقفوا على معانيها وأجروها على ظاهرها، ولم يدخلوا فيها بالرأي والخيال والقول على الله بغير علم، ولا شك أن القول بنسبة السلف رحمهم الله إلى التفويض من أسوأ النِسب ومن أردئها ومن سوء الظن بهم رضي الله عنهم؛ لأن مقتضى التفويض التجهيل، ولذلك سيشير الشيخ رحمه الله إلى رداءة هذا القول وإلى بيان ضلاله وأن السلف لم يكونوا على هذه الطريقة. ثم قال: (بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم) أي: فهؤلاء قد جعلوا السلف بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، والأميون: جمع أمي، وهو من انتسب إلى أمه لعدم قراءته وكتابته. وقد اختلف المفسرون في معنى الأميين في هذه الآية على قولين: القول الأول: أن الأميين في هذه الآية هم من لا يقرأ ولا يكتب. فيكون معنى الآية {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] أي: لا يقرءون ولا يكتبون {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] يعني: إلا بالخرص والكذب واختلاق القول على الله عز وجل. والقول الثاني: أن معنى الأميين: من يقرءون الكتاب لفظاً دون فهم معناه، وهذا القول أشار إليه ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة، وهو ظاهر مراد الشيخ رحمه الله؛ لأن المتكلمين يقرون أن السلف كانوا يقرءون الكتاب، لكنهم يقولون: إنهم يقرءونه دون فهم لمعانيه.

حقيقة ما يقول المتكلمون نبذ الإسلام

حقيقة ما يقول المتكلمون نبذ الإسلام ثم قال: (وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقيقتها بأنواع المجازات وغرائب اللغات) : أي: فلما فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف ظنوا أن طريقة الخلف هي الوقوف على المعاني، ولكن الحقيقة أن وقوفهم على المعاني ليس على ما تقتضيه الألفاظ من المعاني الظاهرة المتبادرة إلى الأذهان، وإنما هو صرف لهذه المعاني عن حقائقها والمتبادر منها، وسلكوا في هذا الصرف طريقين: الأول: أن يحملوا الآيات على المجاز، وعلى غرائب اللغة. وستمر معنا نماذج لتأويلاتهم الباطلة وشبههم المنحرفة التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعه، وحملوا ظواهر النصوص على معان غريبة ومجازات بعيدة. قال: (فهذا الظن الفاسد) أي: ظنهم أن السلف لم يقفوا على المعاني إنما وقفوا وأجروا الألفاظ دون النظر إلى معانيها، (أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء والظهر) ، لأن حقيقة الأمر أن يكون الإسلام له ظاهر وباطن، فعلى هذا يكون له ظاهر يلغى، وباطن يختلف الناس في الوقوف عليه وفي بيان حقيقته، ومقتضاه أيضاً أن الله سبحانه وتعالى خاطب الخلق وخاطب الناس بما لا يعقلون، أو خاطبهم بألفاظ مجردة عن معانيها، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن كثيرة عن سوء بدعة التفويض وأنها من شر البدع؛ لأن فيها التهمة لله جل وعلا التهمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم البيان (وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويبهم طريقة الخلف) فجمعوا بين سوءتين: الكذب والضلال؛ الكذب على السلف بأن طريقهم لم يكن فيه الوقوف على المعاني، والضلال في تصويب طريقة الخلف على طريقة السلف (فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم، وبين الجهل والضلال في تصويب طريقة الخلف) .

اعتقاد الخلف أن الله لا يوصف في نفس الأمر بما وصفته الآيات

اعتقاد الخلف أن الله لا يوصف في نفس الأمر بما وصفته الآيات (وسبب ذلك) يعني: سبب هذا القول، وهذا ثاني ما بنى عليه المتكلمون طريقتهم وتصويبهم لطريقة الخلف: أنهم قالوا: (إنه ليس في نفس الأمر صفة) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة، فلما اعتقدوا أن الصفات ممتنعة على الله جل وعلا وأنه لا يوصف بصفة، احتاروا في النصوص التي أُثبتت فيها الصفات، فذهبوا إلى تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فاجتمع عندنا أمران سبّبا الضلال عند المتكلمين: الأمر الأول: طعنهم وجهلهم بطريقة السلف. السبب الثاني: اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة؛ لأن الصفة تقتضي التجدد والحدوث والله سبحانه وتعالى لا تحل فيه الحوادث. وسنتعرض لهذه الشبه في تفصيل ما يثبت من الأجوبة على أعيان المسائل التي سأل عنها السائل في سؤاله للشيخ. قال: (وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين) أي: الذين عطلوا الله سبحانه وتعالى عن أوصافه فقالوا: لا يوصف بصفة. قوله: (فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين) ، أي: بين أن يسيروا على طريقة السلف؛ فيجروا الألفاظ دون الوقوف على معانيها -كما زعموا- وبين أن يدخلوا في هذه الألفاظ التي وردت بها النصوص بآرائهم فيؤولولها ويصرفوها عن ظاهرها. قوله: (مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض هذا المعنى) وهذا بزعمهم طريقة السلف، كما قال: (وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع) . وهذا (من فساد العقل) ؛ لأنهم قالوا: إنه لا يوصف بصفة أي: إن الله لا يتصف بصفة، ومن (الكفر بالسمع) : إذ إنهم اعتقدوا أن ظاهر الألفاظ كفر؛ لأنها تثبت الصفات فاجتمع عندهم باطلان: فساد العقل، حيث ظنوا أن الله لا يوصف بصفة، والكفر بالسمع، حيث قالوا: إن ظاهر القرآن وظاهر النصوص كفر؛ لأنها تثبت الصفات التي يحيلها العقل.

اعتماد الخلف في نفي الصفات على شبهات ظنوها بينات

اعتماد الخلف في نفي الصفات على شبهات ظنوها بينات قال: (فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه. فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين: كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم) أي: فاستبلهوا السلف واستجهلوهم بناء على أن السلف لم يقفوا على المعاني وإنما أجروا الألفاظ على ظاهرها، وظنوا أن طريقتهم هي الطريقة الصواب، فلما أصبحوا في مفترق الطرق: إما أن يسيروا على طريق السلف وهي طريق الجهال والبلهاء -في نظرهم- أو طريق الخلف التي هي طريق العلماء والحكماء؛ فسلكوا طريق الخلف وذموا طريق السلف، وقالوا: إن طريق السلف أسلم؛ لأن حقيقتها الإيمان الخالي عن المعاني، وطريقة الخلف أحكم وأعلم؛ لأنها تؤدي إلى الإيمان المبني على العلم والحكمة، وكذبوا في ذلك وضلوا. قوله: (واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا على قصب السبق في هذا كله) . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [3]

شرح الفتوى الحموية [3] لما كانت طريقة الخلف مبنية على مقدمات خاطئة، كانت النتيجة التي وصلوا إليها: الحيرة والشك، لذلك نرى كثيراً منهم اضطرب في آخر أمره ورجع إلى منهج السلف، وأخبر أنه سيموت على عقيدة أمه، وبهذا نعلم عظمة ما كان عليه السلف من علم ومعرفة بالله سبحانه، ونعلم سوء ما عليه الخلف من تخبط وجهل وحيرة.

فساد النتيجة التي وصل إليها الخلف

فساد النتيجة التي وصل إليها الخلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد: فإن الشيخ رحمه الله استمر في بيان ضلال طريقة الخلف وخطورتها فقال رحمه الله تعالى: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة] الآن الشيخ رحمه الله يبين ضلال هذه النتيجة التي وصل إليها الخلف متعددة، فأولها وأبينها وأظهرها في إبطال هذه الطريقة: أنها لا تؤدي إلى العلم والحكمة، قال رحمه الله: [كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم] . إذاً: أول استدلال استدل به الشيخ رحمه الله على إبطال هذه الطريقة هو: النظر إلى ما أوصلته طريقتهم وبدعتهم التي يقولون: إنها أعلم وأحكم، فإنها لم توصلهم إلا إلى اضطراب وضلال وحيرة، وجهل بالله سبحانه وتعالى، فإذا كانت كذلك فإنها طريقة ضالة لا توصل إلى المقصود، بخلاف طريقة السلف التي توصل إلى العلم، والحكمة، والخشية، وكمال العبادة. نقف على إبطال هذه النتيجة التي توصلوا إليها وأول ما ذكر شيخ الإسلام هو الاستدلال بحال هؤلاء على إبطال طريقتهم، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

شهادة كبار علماء الكلام على بطلان طريقتهم

شهادة كبار علماء الكلام على بطلان طريقتهم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم. نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] . مازال الكلام في هذه المقدمة المباركة حول تقرير صحة مذهب السلف وبيان بطلان ما سلكه الخالفون من الخلف؛ فيما غايروا فيه طريقة السلف وخالفوهم فيه في باب أسماء الله تعالى وصفاته، فذكر الشيخ رحمه الله بطلان طريقة الخلف، وأنها لا توصل إلى علم، وأن قولهم: (إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) ، غير صحيح، وأن ما وصل إليه هؤلاء وما حصلوه من سعيهم وسبيلهم وطريقهم ضلال، فقال رحمه الله: (كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم) ، ثم ساق من الأقوال التي نطقوا بها وتكلموا بها واستشهدوا بها على بيان سوء حالهم، وأنهم لم يصلوا بعد سعيهم ونظرهم إلا إلى ضلال وعطب، فيكون هذا دليلاً على بطلان طريقتهم. وأما قوله رحمه الله (من المتكلمين) فالمتكلمون: هم كل من تكلم في أسماء الله وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهذا ضابط أو تعريف ينتظم المتكلمين. وذكر الشيخ رحمه الله نقولاً منها: النقل الأول والثاني وما سينقله أيضاً، وكلها تبين سوء حال هؤلاء وسوء عاقبتهم، فقال رحمه الله بعد ذلك: (وأقروا على أنفسهم بما قالوه) يعني بما أخبروا به مما حصلوه (متمثلين به) أي: منزلين تلك الأقوال على حالهم، (أو منشئين له) أي: إنهم قالوا قولاً مبتدعاً في بيان سوء عاقبتهم، وأنهم لم يصلوا في بحثهم وطلبهم معرفة الله عز وجل إلى شيء.

شهادة الرازي على بطلان طريقة أهل الكلام

شهادة الرازي على بطلان طريقة أهل الكلام ثم قال نقلاً عن أحدهم وهو الفخر الرازي: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً) أي: مريضاً يطلب الشفاء (ولا تروي غليلاً) أي: طلب شفاء صدره في هذه الطرق. (فرأيت أقرب الطرق طريقة القرآن) وطريقة القرآن طريقة واضحة فيها إثبات صفات الله عز وجل، وهو إثبات مفصل، وفيها نفي ما لا يليق بالله عز وجل، وهو نفي مجمل، ولذلك قال: (أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] وهذا نفي مجمل، والنفي هنا نفى إحاطة العلم به سبحانه وتعالى، وبحقائق هذه الأسماء والصفات، وبأفعاله جل وعلا، فالخلق لا يحيطون به علماً سبحانه وتعالى لا حساً ولا علماً، أي: من جهة الأخبار والإحاطة بوصفه سبحانه وتعالى بالعلم، فيوم القيامة لا تدركه الأبصار جل وعلا، وهذا فيه نفي الإحاطة الحسية، وأيضاً: فيه نفي الإحاطة الخبرية، أي: أن الأخبار لا تحيط بوصفه جل وعلا. ولذلك كان من أسمائه ما استأثر به فلم يظهره ولم يخبر به خلقه، وكذلك من صفاته؛ لأن الأسماء تتضمن الصفات، فإذا كان من الأسماء ما لم يخبر به سبحانه وتعالى فكذلك الصفات، فإن منها ما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه ولم يخبر بها خلقه. ثم قال الرازي: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) ، ولاشك أن السعيد من اعتبر بغيره، ولا يلزم أن نسلك طريقهم حتى نرى ونقف على ما وصلوا إليه وما أصابوه، إنما يكفينا في العبرة والعظة أن نقرأ ما كتبوه وقالوه أو استشهدوا به في بيان سوء عاقبتهم وما وصلوا إليه.

شهادة الجويني على بطلان طريقة أهل الكلام

شهادة الجويني على بطلان طريقة أهل الكلام قال رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي] اهـ. وهذا النقل نقل مهم، وهو عن إمام كبير من أئمة المتكلمين، وهو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني فيقول: (لقد خضت البحر الخضم) وهو ما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، (وتركت أهل الإسلام وعلومهم) ، يشير بذلك إلى علماء السلف من أهل القرون المفضلة ومن سار على هديهم من بعدهم، (وخضت في الذي نهوني عنه) وهو علم الكلام الذي نهى عنه السلف. (والآن) يعني: بعد هذه الجراءة بخوض هذا البحر وترك ما كان عليه سلف الأمة (إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي) . وهذا يفيدك فائدة عظيمة: أنه على طول بحث المتكلمين وعلى عظم خوضهم في هذا الباب، أنهم لا يصلون إلى شيء يصح أن يعتقد، وعلى أحسن الأحوال تنتهي بهم الأمور إلى أن يعتقدوا ما يعتقده العجائز اللواتي لم يتفقهن تفقهاً تاماً فيما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته. إذاً: نهاية ما يصل إليه أهل الكلام في بحثهم ودراستهم ونظرهم هو أول نقطة يبتدئ منها أهل السنة والجماعة، والعلماء الذين سلكوا طريق السلف؛ فعلماء السلف يبتدئون من النقطة التي ينتهي إليها أولئك، وشتان بين من كانت خاتمته هي بداية غيره وأن يعتقد عقيدة عوام أهل الإسلام، وبين من كان ابتداؤه أن يعتقد عقيدة عوام أهل الإسلام ثم يصل إلى المعارف والعلوم التي يفتح الله بها عليه مما أدركه سلف هذه الأمة وعلموه.

شهادة الإمام الغزالي على أهلا لكلام بأنهم متشككون

شهادة الإمام الغزالي على أهلا لكلام بأنهم متشككون قال رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام] والكلام الذي نقله الشيخ عن شك المتكلمين عن الموت هو كلام الغزالي رحمه الله.

أفضلية علم السلف وبيان جهل الخلف بالله تعالى

أفضلية علم السلف وبيان جهل الخلف بالله تعالى (ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون؛ أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟!] . إذاً: من أسباب رد طريقة هؤلاء، أولاً: أنهم حجبوا عن معرفة الله عز وجل بما سلكوه من طرق، وأنهم مسبوقون بالسلف الصالحين الذين هم ورثة الأنبياء، والذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا ثاني الأمور، والثالث: أنهم حيارى متهوكون فلم يصلوا في باب العلم بالله وبأسمائه وصفاته إلى شيء، إنما وصلوا إلى ضلال وحيرة واضطراب، وكل هذا مما يؤكد أن طريقهم لا توصل إلى معرفة الله عز وجل ولا توصل إلى خير، بل هي ضلالات وشبهات وتقولات على الله بغير علم. قوله: [والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة] يعني: لاستحيا من يطلب الموازنة بينما حصله السلف الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وما حصله غيرهم في مجموع الأمم ممن لهم كتاب ومن لا كتاب لهم.

صفاء المشرب السلفي وتلوث المشرب الفلسفي الخلفي

صفاء المشرب السلفي وتلوث المشرب الفلسفي الخلفي قال رحمه الله: [ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟! أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم؛ أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟] . وهذا أيضاً استدلال آخر في بيان صحة ما عليه السلف، وهو: النظر إلى من أخذ عنه هؤلاء ومن أخذ عنه أولئك، فالسلف أخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمحال أن يكون من أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنقص طريقة ممن أخذ عن المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس، فإن المتكلمين ورثوا ما ورثوا من خيالات وشبهات ظنوها علماً؛ ورثوها عن اليونان والهند وغيرهم من المتفلسفة وغيرهم ممن ينطق بالخيالات ولا يعتمد في ذلك على وحي من السماء، فشتان بين أصحاب هاتين الطريقتين، وهذا من الأدلة على صحة طريقة السلف وسلامتها وضلال طريقة هؤلاء وبعدها عن صراط الله المستقيم.

أفضلية السلف إنما كانت بأفضلية علمهم بالله تعالى

أفضلية السلف إنما كانت بأفضلية علمهم بالله تعالى ثم قال رحمه الله: [ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -في الجملة- لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته] ، أي: لأن غاية ما اهتم به الأنبياء والنبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً هو: تعليم الخلق وتعريفهم بربهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بهذا الأمر غاية العناية وتلقاه عنه الصحابة، فهم أعلم الخلق بالله عز وجل بعد الأنبياء، ولذلك كانوا أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، وفضلهم تابع لعلمهم بالله عز وجل، وذلك أن تحقيق العبادة إنما هو فرع عن تمام المعرفة بالله عز وجل فكلما ازدادت المعرفة به كلما زادت العبودية له وتحققت في الشخص. ثم قال رحمه الله: [وإنما قدمت هذه المقدمة؛ لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين] . بين الشيخ رحمه الله سبب ذكر هذه المقدمة، وهي أنها تنفع في باب الأسماء والصفات وفي غيره من أبواب العلم، وأن الخير كل الخير فيما كان عليه السلف رحمهم الله، وأن كل طريقة في باب الأسماء والصفات أو في غيرها من الأبواب خالفت طريقة السلف؛ فهي طريقة ضلال ولا يصل صاحبها إلى خير.

سبب استيلاء الضلال على كثير من المتأخرين

سبب استيلاء الضلال على كثير من المتأخرين ثم بعد ذلك بين الشيخ رحمه الله -تلخيصاً لما مضى- بين أسباب الضلال عند أهل الكلام فقال: [وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم] ، فالسبب الأول هو: نبذ كتاب الله وراء ظهورهم. ثم قال رحمه الله: [وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى] ، وهذا هو السبب الثاني في ضلال هؤلاء. قال: [وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين] ، وهذا هو السبب الثالث في ضلالهم. قال: [والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه وبشهادة الأمة على ذلك] وهذا السبب الرابع، والإقرار الذي ذكره هو في النقول التي تقدمت، وشهادة الأمة على ذلك، أي: على أن كتبهم لا توصل المطالع فيها إلى خير، بل توصله إلى شك وضلال وحيرة، قال: [وبدلالات كثيرة] يعني: غير هذه المذكورة. ثم قال: [وليس غرضي واحداً معيناً] يعني: ليس غرضي بكلامي هذا واحداً معيناً من أئمة الكلام، أو تحديد سبب من هذه الأسباب، [وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء] يعني: أسباب ضلال هؤلاء في الجملة وليس سبب ضلال واحد منهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [4]

شرح الفتوى الحموية [4] إن مسألة علو الله على خلقه واستوائه على عرشه من أعظم المسائل التي بينها القرآن والسنة وأجمع على القول بها سلف الأمة، بل هي مركوزة في الفطر السليمة، والعقول المستقيمة، إلا أن المعطلة خالفوا فيها فنقوها؛ لشبهات ظنوها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة جهليات؛ لما تضمنته من لوازم فاسدة تأتي على الإسلام من أصله، بل إن حقيقة قولهم: إبطال الإسلام واتهام القرآن.

أدلة إثبات العلو والاستواء على العرش

أدلة إثبات العلو والاستواء على العرش

الأدلة القرآنية على علو الله واستوائه على عرشه

الأدلة القرآنية على علو الله واستوائه على عرشه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم. أما بعد: فيقول رحمه الله: [وإذا كان كذلك: فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة: مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وعلى كل شيء، وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء. مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55] ، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] ، {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) في ستة مواضع: [الأعراف:54] ، [يونس:3] ، [الرعد:2] ، [الفرقان:59] ، [السجدة:4] ، [الحديد:4] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36-37] ، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة] . بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان سبب ضلال هؤلاء، كأنه أجاب على شبهة مقدرة، وهي ما يدعيه أهل الكلام من أن السلف الصالح لم يهتموا بهذا الباب، وأنهم لم يشتغلوا به، بل كان شغلهم بالعبادة وبالجهاد ونشر الدين، فلم يكونوا مهتمين بتقرير ما يتعلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته. فأجاب الشيخ رحمه الله عن هذه الشبهة: بأن كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة؛ مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى. وذكر هذه الصفة بالذات؛ لأن السائل سأله عن مسألة الاستواء والعلو، والاستواء من أدلة علو الله عز وجل كما سيأتي مفصلاً, وذكر الشيخ رحمه الله أن في كلام الله عز وجل ما يدل على هذه الصفة، وأنها صفة من صفاته التي أخبر بها من النصوص ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، فإذا كان هذا في صفة واحدة من الصفات؛ فكيف بسائر صفاته سبحانه وتعالى، وهذا فيه نقض صريح، ودليل واضح بين على أن هؤلاء قد كذبوا على السلف بقولهم: إن السلف لم يهتموا بهذا وإنهم انشغلوا عن هذا بالجهاد والدعوة والعبادة. وليس مقصود الشيخ في هذا الموضع تقرير صفة العلو بذاتها؛ لأنه سيأتي لها كلام مستقل، وإنما مراده أن يبين أنه جاء في هذه الصفة من الآيات ما سمعنا، ومن الأحاديث ما سيذكر، ومن النقول عن السلف أيضاً ما سيذكر، وهذا يبين كذبهم وضلالهم.

أدلة إثبات العلو والاستواء على العرش من السنة

أدلة إثبات العلو والاستواء على العرش من السنة قال رحمه الله: [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم) . وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء! يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً) ، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء) وذكره. وقوله في حديث الأوعال (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقوله في الحديث الصحيح للجارية (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) ، وقوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) إسناده على شرط الشيخين] . المقصود من هذه النصوص هو بيان كثرة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين كثرة ما ورد في الكتاب في هذه الصفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال: (آمن شعره وكفر قلبه) ؛ حيث قال: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر العيـ ن ترى دونه الملائك صورا وقوله في الحديث الذي في المسند: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) ، وقوله في الحديث: (يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب) ، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية -أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين: أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء] .

دلالة الفطرة وإجماع الأمم على علو الله تعالى

دلالة الفطرة وإجماع الأمم على علو الله تعالى قال: [كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته] . فما ذكره الشيخ من الآثار دل على ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا المقام بيانا عظيماً وهو استواء الله جل وعلا على عرشه وعلوه على خلقه, فعلو الله جل وعلا واستواؤه على عرشه جاء متواتراً لفظاً ومعنى، وهذا يورث (علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية) يعنى: من آكدها؛ أنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه وأنه عال على خلقه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ أمته علو الله جل وعلا على خلقه، وأنه سبحانه على عرشه. ثم بعد أن فرغ من ذكر الأدلة على علو الله عز وجل -الأدلة السمعية من الكتاب والسنة- ذكر الدليل الثالث الدال على علو الله جل وعلا، وهو دليل الفطرة، فقال: (كما فطر الله على ذلك) أي: على علوه سبحانه وتعالى وأنه بائن من خلقه؛ فطر على ذلك (جميع الأمم: عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام) ، ولذلك فعلو الله جل وعلا مما أجمعت عليه الأمم , على اختلاف عصورها وعقائدها، ولذلك كان إنكاره من أمحل المحال، والمعارضة فيه من أكبر ما حصل من التناقض عند المتكلمين، لذلك تخبطوا فيه تخبطاً بيناً كما سيتبين لنا إن شاء الله في عرض مذاهبهم. ثم قال: (إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته) ، وهذا استثناء، ولكن هذا الاستثناء القليل باعتبار الجمع الغفير من الخلق لا يعد خارقاً للإجماع؛ لأنه حصل بعد استقرار فطرة الخلق على علو الله جل وعلا، وما طرأ من خلاف بعد الإجماع لا يعد مخالفاً أو معارضاً للإجماع.

إجماع السلف على علو الله تعالى واستوائه على عرشه

إجماع السلف على علو الله تعالى واستوائه على عرشه قال: [ثم عن السلف] ، وهذا إجماع أخص من الإجماع السابق؛ فبعد أن ذكر إجماع الأمم ذكر إجماع السلف -خصوصاً وهم خير القرون وخير الخلق بعد النبيين- على أن الله سبحانه وتعالى عال على العرش. قال رحمه الله: [ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفاً، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن واحد من سلف الأمة -لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرفٌ واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً] . بعد أن ذكر إجماع السلف قال: إنه لم ينقل عن أحد من السلف رحمهم الله حرف واحد يخالف هذا، وانظر حيث قال: (ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن واحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان) أي: كل هؤلاء لم ينقل عنهم مخالف في هذا ولا في حرف واحد. ثم قال: (ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك) ، فقيد ذلك بأن الأئمة أدركوا زمن الأهواء والاختلاف؛ ليجيب على شبهة عند المتكلمين حيث قالوا: إن السلف لم يتكلموا بهذا؛ لأن المسألة لم تطرأ في عصرهم وهي مستقرة عندهم فأراد أن يبين خطأهم في ذلك. وقوله: (إن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف لم ينقل عنهم حرف واحد يخالف ذلك) يعني: يخالف تقرير علو الله عز وجل (لا نصاً ولا ظاهراً) ، أي: لا بالنص ولا بدلالة الظاهر، فدل ذلك على أنهم رحمهم الله مُطبقون على الإقرار بعلو الله جل وعلا. ثم قال: [ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه لا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها] .

أقسام الجهمية

أقسام الجهمية بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله عقيدة السلف ذكر أنه لم ينقل عنهم حرف في ذلك يخالف النصوص ولم يقل أحد منهم قط بخلاف ذلك، ثم حكى أقوال المبتدعة المتكلمين في مسألة العلو فقال: (لم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء) كما تقوله الجهمية، واعلم أن هذه الأقوال في مجموعها ترجع إلى قولين صدرا عن الجهمية، الذين هم أصل الضلال في باب الأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالله عز وجل مما يجب له من التعظيم والإجلال. هؤلاء الجهمية انقسموا إلى قسمين:جهمية معطلة، وجهمية حلولية. الجهمية المعطلة: ساروا على قاعدتهم في نفي صفات الله عز وجل, حيث إنهم أخلوا الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين قالوا: إن الله ليس في السماء وإنه ليس على العرش، ومن أقوالهم أيضاً: (إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، وإنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع) . وأما القسم الثاني وهم الجهمية الحلولية: فقالوا: إن الله في كل مكان، ولذلك حكى قولهم في قوله: (ولا أنه بذاته في كل مكان) ، وهذا يناقض القول الأول، والسبب في هذا كما يشير بعض الباحثين, أن الجهمية في أول أمرهم كانوا حلولية، ثم لما اطلعوا على ما كتبه اليونان وما ذكره الفلاسفة من وجود شيء مجرد لا داخل العالم ولا خارجه انتقلوا إليه عن مقولتهم الأولى، ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الجهمية عندهم انفصام, فتجدهم في مسألة البحث والنظر يقولون: إن الله ـ جل وعلا تعالى عما يقولون ـ ليس داخل العالم أو خارجه، ولا هو متصل ولا منفصل، وإنه ليس فوق السماء، وإنه ليس على العرش. هذا من جهة البحث والنظر، أما من جهة التعبد فإنهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وبرّر هذا القول وبين علته فقال: إنهم في البحث والنظر لا يحتاجون إلى إثبات شيء، فلو توصلوا إلى إثبات العدم الذي وصفوه بأنه هو الله لم يكن ذلك محرجاً لهم، لكن في العبادة لابد من التوجه إلى معبود مقصود ولذلك قالوا: إنه موجود في كل مكان. وعن هؤلاء الجهمية المعطلة والجهمية الحلولية أخذت الفرق الكلامية عقيدتها في باب علو الله عز وجل، فالمعتزلة والأشاعرة والكلابية أتباع للجهمية في هذا الباب فلم يأتوا بمزيد، وإنما انقسموا في المسألة على هذين القولين: قول الجهمية المعطلة وقول الجهمية الحلولية. وأما قولهم: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع، فهذا تتفق عليه كل الفرق الكلامية، وقد أبطله الشيخ رحمه الله بما استدل به من ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: [بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ جعل يقول: (ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم! فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد) غير مرة، وأمثال ذلك كثير] .

ما يلزم على قول المتكلمين من الطعن على الوحي والسلف

ما يلزم على قول المتكلمين من الطعن على الوحي والسلف ثم قال رحمه الله: [فإن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها , دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً, فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم على أخير الأمة؛ أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟! ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط! ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهرا! حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة، يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها!! لئن كل ما يقوله هؤلاء المتكلمون والمتكلفون هو الاعتقاد الواجب -وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً- لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين] . لماذا؟ لأن ظاهر الكتاب والسنة سيكون دالاً على خلاف ما يجب أن يعتقد في الله سبحانه وتعالى، في حين أن العقول والأقيسة هي التي دلت على الله سبحانه وتعالى الدلالة الصحيحة، وعلى هذا هل يكون الكتاب والسنة قد زاد الناس هدى وبصيرة في ربهم أم أنه زادهم ضلالاً وحيرة في ربهم؟! لازم قول المتكلمين: أن يكون الكتاب والسنة زادهم حيرة وضلالة؛ لأنه لم يدلهم على الحق ولا على ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، وهذا كذب وضلال، ومن أعظم التهمة لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

حقيقة قول المتكلمين النهي عن الاهتداء بالقرآن والسنة

حقيقة قول المتكلمين النهي عن الاهتداء بالقرآن والسنة ثم قال رحمه الله: [فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً؛ لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به!!] . أي أن حقيقة أمر هؤلاء أن المرجع في إثبات ما يجب لله عز وجل وفي نفي ما يمتنع عليه سبحانه وتعالى هو العقل، وأما الكتاب والسنة فلا حاجة إليهما! ولذلك من تأمل ما وصلت إليه مقدماتهم: علم خطورة بدعتهم وأنها كفر كما قال الشيخ رحمه الله, فهي من أعظم الطرق الموصلة إلى الكفر بالله ورسوله.

مآل المتكلمين إلى تحكيم العقل في نفي وتأويل ما لا يراه موافقا له من النصوص

مآل المتكلمين إلى تحكيم العقل في نفي وتأويل ما لا يراه موافقاً له من النصوص ثم هؤلاء الذين اعتمدوا على عقولهم انقسموا إلى فريقين, في طريقة إثبات ما يجب لله سبحانه وتعالى ويشير إليهما الشيخ في قوله: [ثم هم هاهنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه. ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من أي اختلاف على وجه الأرض- فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم -لا لتعلموا- بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه: لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين] . لخص الشيخ رحمه الله في هذا المقطع حقيقة أمرهم في النصوص وكأنه يقول: إن الله سبحانه وتعالى أمرهم في باب الأسماء والصفات أن يرجعوا إلى عقولهم، فينظروا إلى ما أثبتته العقول فيثبتوه، وما لم تثبته العقول فينفوه؛ هذا هو الطريق الأول؛ فما أثبتته العقول أثبتوه جميعاً, وما لم تثبته العقول افترقوا فيه إلى فريقين: فريق نفاة وفريق توقفوا، وهذا مجمل طريقهم، وهو في الحقيقة طريق التعطيل والتفويض، وسيأتينا في كلام الشيخ أن الناس انقسموا في باب ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه من الأسماء والصفات إلى طرق, طريق التجهيل وطريق التأويل وطريق التخييل. الطريق الأول طريق التأويل: وهو صرف الألفاظ عن ظاهرها لغير مقتضي، وهو طريق المتكلمين. الطريق الثاني: طريق التجهيل: وهؤلاء هم المفوضة الذين قالوا: إن الله خاطب الناس بألفاظ لا حقيقة لها ولا معاني لها, أو أن معانيها غير معلومة. الطريق الثالث: وهو طريق التخييل: وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن الله أخبر بخيالات؛ ليجذب الناس ويحملهم على العبادة مع أنه لا حقيقة، حتى تعدى أمرهم إلى إنكار البعث وقالوا: إنه لا بعث وإنما أخبرت الرسل بذلك؛ حتى يحملوا الناس على فعل الخير وعلى ترك الشر. وقد يشير الشيخ رحمه الله فيما يأتي إلى هذه الطرق. والطريق الرابع: هو طريق السلف: وسيذكره الشيخ رحمه الله في الفصل القادم؛ وهو أن يقف المؤمن في هذا الباب على ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف.

إلزام المتكلمين على قواعدهم التحاكم إلى الجاهلية

إلزام المتكلمين على قواعدهم التحاكم إلى الجاهلية ثم قال رحمه الله: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه، ومضمونه: أن كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزولٌ عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء، كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم] . الطواغيت: جمع طاغوت، وهو ما يطغى به الإنسان عن الحق زيادة أو نقصاً، ويشير هنا إلى القواعد التي قرروها، والشبه الكبار التي أصلوها, فتجد أحدهم يقول: لا نثبت هذا لله وهذا محال عليه عقلاً، والآخر يقول: هذا واجب له عقلاً. وسر الاختلاف بين هذا وهذا أن كلاً منهم نصب عقله حاكماً فيما يجب لله، وما يجب أن تصرف إليه النصوص، وهذا لا يوصلهم إلا إلى عطب واختلاف وتنازع، إذ إن العقول مختلفة، ولذلك سينقل الشيخ رحمه الله عن سلف الأمة ما يبين أن اعتماد العقل في باب إثبات الأسماء والصفات منهج ضال، إذ بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فهو يشير في قوله: (الطواغيت) إلى الشبه والأصول التي أصلتها كل فرقة من هذه الفرق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

شرح الفتوى الحموية [5]

شرح الفتوى الحموية [5] إن من شناعة بدعة أهل الكلام أنهم شابهوا المنافقين، وذلك بإعراضهم عن التحاكم إلى الكتاب والسنة، وافتتانهم بكلام المشركين من يونان وصابئة ويهود ونصارى، وقد استلزمت بدعتهم هذه أموراً شنيعة من الطعن في الكتاب والسنة وسلف الأمة، وقد وضحها شيخ الإسلام رحمه الله وشرحها الشيخ حفظه الله هنا.

شبه المتكلمين بالمنافقين

شبه المتكلمين بالمنافقين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة، ولا يرتفع الخلاف به؛ إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:60-62] ، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية] . في هذا المقطع يشبه الشيخ -رحمه الله- هؤلاء المتكلمين بالمنافقين الذين ذكر الله جل وعلا عنهم في كتابه: إعراضهم عن التحاكم إليه والرجوع إليه فيما يقع بينهم من نزاع، وذلك أن هؤلاء رأوا أنهم إذا اختلفوا في شيء لا يرجعون إلى الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة لا يدلان على الله! بل يرجعون في نزاعهم وخلافهم إلى ما تقتضيه العقول والأقيسة، وما قعدوه من قواعد في باب أسماء الله وصفاته وفي غيرها من القضايا التي خالفوا فيها سلف الأمة. فهؤلاء معهم شعبة من شعب النفاق الكبيرة التي يُخشى على صاحبها الكفر؛ لأن من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على العقول وأقوال الرجال فقد ضل ضلالاً بعيداً، والواجب على كل مؤمن يريد إصابة الحق والتزام الصراط المستقيم أن يسلك ما سلكه السلف الصالحون من اتباع كتاب الله وسنة رسوله. ثم بين الشيخ رحمه الله أن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: (إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريقة التي سلكناها) أي: طريقة التأويل وطريقة اعتماد العقول في تقرير ما يجب لله عز وجل وما يمتنع عليه في باب الأسماء والصفات. ثم قال: (والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية) ، وكأنهم بهذا يقولون: إن أدلة النقل تخالف أدلة العقل فلابد من توفيق، ولا يتم التوفيق إلا بصرف النصوص عن ظواهرها حتى تستقيم مع العقول، وهذا من أكذب الكذب ومن أعظم البهتان؛ فإن الشريعة لم تأت بما تحيله العقول وتمنعه, بل جاءت بما قد تحار فيه العقول وقد لا تدركه. فينبغي أن يوقن المؤمن أن ما في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يخالف العقل بالكلية، بل هو موافق للعقل، وأن أي عقل خالف الكتاب والسنة فإنه عقل فاسد إنما أتي من خطأ في قياسه. ثم بين الشيخ رحمه الله: أن الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته ووفاته إلى سنته صلى الله عليه وسلم.

استبدال أهل الكلام كلام الله بكلام المشركين

استبدال أهل الكلام كلام الله بكلام المشركين ثم قال رحمه الله: [ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل، إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم؛ لتشابه قلوبهم. قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وقال: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]] . ذكر الشيخ رحمه الله في هذا المقطع أن هؤلاء لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، استعاضوا عنهما قواعد قررها أهل الكفر والشرك وأهل الضلال والبدعة، وجعلوها حاكمة على نصوص الكتاب والسنة، وجعلوها مرجعاً في الخلاف الذي وقع بينهم، وهذا خلاف الصواب وخلاف ما أمر الله به؛ إذ إن الله جل وعلا أمر بالرجوع إلى كتابه وإلى سنة رسوله قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، وكذلك الآية الأخرى التي فيها: أن الله أنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فمن عطل الكتاب عما أنزل لأجله فقد ضل ضلالاً مبيناً. ثم عاد الشيخ رحمه الله مرة أخرى لذكر لوازم هذا القول الباطل ولوازم هذه الطريقة الفاسدة -وهي طريقة النفاة- فقال رحمه الله: [ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً، ولا شفاء لما في الصدور ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون: إنه الحق الذي يجب اعتقاده، لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً] . من اللوازم الكبرى على قولهم وفعلهم ونفيهم لصفات الله عز وجل، أن الكتاب والسنة ليس فيهما هدى للناس ولا بيانٌ ولا شفاءٌ لما في الصدور، قال: (لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء من نفي الصفات وتعطيلها لم يدل عليه الكتاب ولا السنة لا نصاً ولا ظاهرا) أي: وإذا كان الأمر كذلك علم بذلك ضلال طريقهم.

أقسام العلم

أقسام العلم وقوله: (نعلم بالاضطرار) العلم ينقسم إلى قسمين: علم ضروري وعلم نظري. العلم الضروري: هو ما لا يحتاج في تحصيله إلى نظر وتأمل, فيدركه المتعلم دون كبير نظر ولا تأمل. وأما العلم النظري: فهو الذي يتوقف تحصيله على النظر والبحث والتأمل. فنصوص الكتاب والسنة ظاهرة ظهوراً بيناً في بطلان طريقة هؤلاء، وأقل ما في الكتاب والسنة أن طريقة الكتاب والسنة مخالفة لطريقة هؤلاء في تقرير ما يجب لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات.

الرد على تمسك النفاة بآية: (هل تعلم له سميا) ونحوها

الرد على تمسك النفاة بآية: (هل تعلم له سمياً) ونحوها ثم قال الشيخ رحمه الله مبيناً شبهةً لهم في باب الأسماء والصفات: [وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]] . المتحذلق: هو المتشبع بما ليس عنده من العلم والنظر في الكتاب والسنة، فغاية ما عند هذا: أن يستنتج ويستدل لسلامة هذه الطريقة التي هو عليها من نفي الأسماء والصفات، أو من تأويل صفات الله عز وجل وتعطيل الله سبحانه وتعالى عما يجب له في باب الأسماء والصفات؛ بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، ومعلوم أن هذين الدليلين ليس فيهما متمسك له، والشيخ الآن يجيب عن تمسك هؤلاء بهذين الدليلين وما في معناهما على نفي الصفات، أو على صحة الطريق الذي سلكوه من النفي في باب الأسماء والصفات، فقال رحمه الله: [وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ؛ لقد أبعد النجعة، وهو إما ملغز وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين] . هذا إبطال لقولهم في مسألة علو الله عز وجل، وأنه ليس على العرش، وأنه ليس عالياً على خلقه بائناً منهم، وإبطال لطريقتهم في الاستدلال على ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فهذه الآية وما في معناها لا تدل على ما ذهبوا إليه، بل من استدل بهذه الأدلة أو بهذا الدليل ونظائره على نفي العلو وغيره من صفات الله عز وجل فقد (أبعد النجعة) أي أبعد المرعى، (وهو إما ملغز وإما مدلس) ، وبهذا نعود إلى اللازم السابق: أن من لازم قولهم في نفي الصفات: أن كتاب الله عز وجل ليس فيه هدى ولا نور ولا بيان ولا شفاء لما في الصدور، وهذا كذب وافتراء، فإن مقتضى الاستدلال بهذه الآية على نفي الصفات: أن يكون الله جل وعلا قد خاطب الناس بغير اللسان العربي المبين، وذلك أن أصحاب الأفهام وأصحاب اللسان يفهمون من قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، أنه جل وعلا لا نظير له في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس من ذلك أن ينفي عنه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، كما سيأتي تقرير مذهب السلف في ذلك في الفصل القادم من هذه الرسالة. قال رحمه الله: [ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم] : المقالة هي: مقالة أن قوله تعالى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، يدلان على نفي الصفات، فيلزم على هذه المقالة [أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالة] . ما هو المرد قبل الرسالة وبعدها؟ العقل، فإذا كان مردهم إلى العقل قبل الرسالة وبعدها، وجاءت النصوص مضللة بظاهرها المخالف لباطنها، وكان ظاهرها يدل على ما لا يجوز على الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا يدلك على أن الكتاب لم يزد الناس إلا ضلالاً وبعداً عن الحق، وعمىً في باب أسماء الله وصفاته!! ثم قال رحمه الله: [يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر, ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه؟!] . هذا مع كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وأنه ما ترك خيراً إلا دلها عليه ولا شرّاً إلا حذرها منه، ومع ذلك لم يقل -لا هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من سلف الأمة-: إن هذه الآيات لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه, فدل هذا على كذب مقالتهم وأنهم قد أبعدوا عن الصواب ولم يصيبوا إلا خبالاً وتخبطاً.

حديث الافتراق ودلالته على منهج السلف

حديث الافتراق ودلالته على منهج السلف قال: [ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة] . قوله: (ثم) هنا تكملة للاستدلال السابق، أي: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل للأمة: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص، مع إخباره أن الأمة ستفترق، فيكون ما دلت عليه ظواهر النصوص هو الحق الذي يجب التمسك به؛ لأنه لو لم تكن هذه الظواهر هي الحق، لكان يجب عليه -مع إخباره بالافتراق وكثرة الضلال مع كمال تبليغه ونصحه لأمته- أن يبين لهم كيف يتعاملون مع هذه النصوص؛ فلما لم يرد بيان يوافق ما قاله هؤلاء دل ذلك على أن ما كان عليه السلف من إجراء النصوص على ظواهرها، وإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله, هو الطريق الصحيح، وأن طريقة السلف هي أصوب الطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى وما يجب له. قوله: [فقد علم ما سيكون ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال! وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم!! بعد القرون الثلاثة -في هذه المقالة- وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين] . وهذا واضح، فإنه لما لم يكن الأمر كما ذكر الشيخ رحمه الله دل ذلك على صحة طريق السلف، وأن الاعتماد على العقل مخالف لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح. والحديث الذي استدل به أو الذي أشار إليه: بأن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، هو حديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد وجاء من طرق عديدة. وأما قوله: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، فقد جاء في بعض الروايات متمماً لحديث الافتراق، وقد اختلف أهل العلم في إثبات هذه الزيادة ونفيها، والصواب أنها ثابتة، فقد جاءت عن ابن عمر وعن أنس رضي الله عنهما، وهي وإن لم تصح من جهة السند على قول بعض أهل العلم إلا أن معناها صحيح، فإن السلف سلكوا الطريقة الصحيحة في باب أسماء الله عز وجل وصفاته وفي جميع أبواب الدين والإيمان، وهي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون. وأما قوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) فهذا جزء من حديث جابر في صحيح مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.

أصل مقالة التعطيل ومنشؤها وأول من قال بها

أصل مقالة التعطيل ومنشؤها وأول من قال بها قوله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين] . هذا المقطع يبين فيه الشيخ رحمه الله منشأ هذه البدعة، وذكر المنشأ يبين لك فساد الطريقة؛ لأنه إذا كانت هذه المقالة إنما نشأت عن أهل الضلال؛ فذلك يدل على أنها ليست بصحيحة، ففائدة بيان المنشأ: أولاً: التعرف على منشأ هذه البدعة. وثانياً: الاستدلال بمنشئها على فسادها. ثم قال رحمه الله: [فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى بمعنى: استولى ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم , وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها؛ فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم] . بين الشيخ رحمه الله منشأ هذه المقالة وأنها مأخوذة من تلاميذ اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وسيبين من هم الصابئون بعد قليل، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة -وهي نفي الصفات- الجعد بن درهم، والجعد بن درهم ظهر في القرن الثاني وقتله خالد القسري رحمه الله لما أظهر بدعته وقال: إن الله سبحانه وتعالى ليس مستوياً على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقتله لما أظهر هذه البدعة الشنيعة التي مقتضاها تكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فتلقاها عن الجعد بن درهم الجهم بن صفوان وأظهرها، فله شر إظهار هذه البدعة التي جرت على أهل الإسلام وسببت فُرقة عظيمة، ولما أخذها الجهم بن صفوان وأظهرها نسبت مقالة الجهمية إليه. (وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم) . لبيد بن الأعصم اختلف فيه: فقيل إنه يهودي، وقيل إنه منافق، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بسحره وأنه هو الذي سحره ولم يقتله. قوله: (وكان الجعد بن درهم هذا من أرض حران) ؛ هذا فيه بيان لصلة هذه البدعة بالمشركين والصابئة، فبعد أن بين التسلسل لهذه البدعة وذكر أن الجعد أخذها من أبان , ثم ذكر منتهى البدعة إلى لبيد بن الأعصم , قال: (وفوق هذا) وكأنه يشير إلى سبب آخر في ابتداع الجعد وهو أنه من أرض حران (وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة) . والصابئة: هم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، وهم قوم من المشركين الذين كانوا يعتقدون في الكواكب والنجوم، ويقولون: إن الكواكب السبعة هي التي تصرف الكون وإليها مرجع تدبير الخلق، فهؤلاء عندهم بدع مغلظة وكفرية فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى. والفلاسفة: جمع فيلسوف وهي كلمة يونانية تتكون من فيلسوفيا ومعناها: محبة الحكمة. فهؤلاء الذين نشأ فيهم الجعد بن درهم فيهم صابئة وفلاسفة، قال: (بقايا دين أهل نمرود والكنعانيين) وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام وحاجهم، فالنمرود هو الملك الذي جرت بينه وبين إبراهيم المحاجة المذكورة في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] . قوله: (والنمرود هو ملك الصابئة الكلدانية) ، هذا استطراد في بيان أن النمرود ليس علماً لشخص، بل هو اسم جنس لمن ملك الكلدانيين، كما أن كسرى اسم جنس لكل من ملك فارس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك الأقباط في مصر، والنجاشي لمن ملك الحبشة من النصارى.

حال الصابئة الذين أخذت الجهمية عنهم دينهم

حال الصابئة الذين أخذت الجهمية عنهم دينهم بعد أن بين صلة بدعة نفي الصفات بالمشركين والصابئة, انتقل الشيخ رحمه الله إلى بيان حال الصابئة فقال: [فكانت الصابئة -إلا قليلاً منهم- إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69] ؛ لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين؛ كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك، كانوا كفاراً مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل] . قال الشيخ رحمه الله: (كانت الصابئة -إلا قليلاً منهم- إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة) ، فإذا كان منشأ هذه البدعة قوماً مشركين وعلماؤهم هم الفلاسفة؛ دل ذلك على بطلان هذه الطريقة وأنها لا توصل إلى معرفة الله تعالى؛ لأن المشركين هم أجهل الناس بربهم، والفلاسفة هم أبعدهم عن معرفة ما يجب لله عز وجل؛ لأنهم اعتمدوا على عقولهم في إدراك الغيبيات، والاعتماد على العقل في إدراك الغيبيات لا يوصل إلى سلامة. ثم بعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله حال هؤلاء الصابئة، كأنه يجيب على سؤال مطروح، وهو أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن من الصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون, فبين الشيخ رحمه الله أنه ليس كل صابئ مشركاً، فمنهم من آمن بالله واليوم الآخر، وهل هم من أولئك القوم أو من غيرهم؟ الله أعلم بذلك، ولكن ظاهر كلام الشيخ أنهم من أولئك؛ لأنه قال: لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، أي: فمنهم قوم قلائل على الإيمان والتوحيد ولكن أكثرهم على الكفر والشرك، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كفاراً أو مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، هؤلاء هم عمدة الجهمية وأهل الكلام فيما ذهبوا إليه من نفي صفات الله عز وجل، ونفي ما يجب له من التعظيم وكمال الأسماء والصفات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [6]

شرح الفتوى الحموية [6] ظهرت بدعة الجهمية في أواخر المائة الثانية، وذلك لما ترجمت كتب فلاسفة اليونان، ثم انتشرت في المائة الثالثة على يدي بشر المريسي وعنه أخذها الناس، وقد تصدى لها السلف وحذروا منها ومن أهلها، لكن جاء من تأثر بالفلاسفة وعاد ليحيي ما كان عند المريسي من الشبهات، وقد فضحهم شيخ الإسلام ورد على أباطيلهم.

مذهب النفاة في الصفات

مذهب النفاة في الصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين؛ أما بعد: قال شيخ الإسلام رحمه الله: [ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة. وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية- بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات؛ فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين] . في هذا المقطع يبين الشيخ رحمه الله مذهب النفاة أي: نفاة الصفات فقال: (ومذهب النفاة من هؤلاء) أي: المتكلمين، (في الرب سبحانه وتعالى: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة) . فالصفات السلبية: هي التي تصدر بالنفي، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا حي ولا قيوم وما إلى ذلك، وهذه الصفات نفوها عن الله عز وجل؛ لما اعتقدوه من أن إثبات الصفات يقتضي التمثيل والتشبيه عندهم. والصفات الإضافية: هي الصفات التي لا يعقل معناها إلا بغيرها فلا تفهم إلا بواسطة، وقيل: إن الصفات الإضافية هي كل صفة فعلية يكون الفعل فيها متعدياً إلى مفعول. فقالوا: لا نفهم صفة السمع إلا بأثرها وهو أنه يسمع، ولا البصر إلا بأنه يبصر. قوله: (أو مركبة) أي: من الصفات السلبية والإضافية، وهذا أيضاً جمع بين النفي والإثبات.

أقسام نفاة الصفات

أقسام نفاة الصفات وهؤلاء النفاة لصفات الله عز وجل ينقسمون في الجملة إلى أربع طوائف: الطائفة الأولى: الذين أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا حقائق أكثرها، وهؤلاء هم الأشاعرة والماتريدية والذين يسميهم بعض أهل العلم: مثبتة الصفات. والطائفة الثانية: هم من يثبت الأسماء دون الصفات، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهؤلاء هم المعتزلة. والطائفة الثالثة: هم الذين يصفون الله عز وجل بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون: إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق أي: لا يوصف بصفة وإنما يوصف بالنفي، فلا موجود، ولا حي، ولا خارج العالم ولا داخل العالم، وهؤلاء هم الجهمية. والطائفة الرابعة: هم غلاة الجهمية الذين سلكوا مسلك الجمع بين النفي والإثبات في وصف الله عز وجل، فيقولون: موجود ولا موجود. هذا مجمل أقوال هؤلاء في باب الأسماء والصفات، وهؤلاء المتكلمون عملوا على تقسيم الصفات إلى أقسام كثيرة، فيقسمون الصفات إلى صفات سلبية، وصفات ثبوتية، وإلى صفات معنوية، وصفات ذاتية، وصفات اختيارية، وتقسيماتهم كثيرة جداً لمن طالع كتبهم, وهذا خلافُ منهج السلف رحمهم الله، فإن السلف لم يسلكوا هذا المسلك في صفات الله عز وجل، إذ إن طريقتهم في باب الأسماء والصفات واحدة لا يختلف، لكن هؤلاء لما فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا بعضها وأولوا بعضها، احتاجوا إلى هذه التقسيمات؛ ليبرروا تصرفاتهم وتحريفهم في باب الأسماء والصفات.

أسانيد الجهم في الصفات

أسانيد الجهم في الصفات ثم قال الشيخ رحمه الله: (وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: الصابئة, فمذهب النفاة مأخوذ عن هؤلاء الصابئة (فيكون الجعد قد أخذها) ، يعني: قد أخذ مذهبه في باب الأسماء والصفات وما يجب لله عز وجل في ذلك (عن الصابئة والفلاسفة) (وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته) يعني: كمالها وتقعيدها وتنظيرها (وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السمنية: بعض فلاسفة الهند) وهي فرقة في الهند تعتقد ما ذكره الشيخ (وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات) ، فما لا تدركه الحواس لا يثبتونه، فهم على هذا ينكرون جميع الغيبيات، ومن عقائدهم: تناسخ الأرواح وإنكار الصانع وما إلى ذلك من العقائد المنحرفة. (فهذه أسانيد جهم!) يعني: هذه أسانيده في العلم وما ذهب إليه من نفي صفات الله عز وجل، ومخالفة السلف فيما ذهبوا إليه، قال: (ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين!) . ثم قال: (والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين) ، وبهذا يتبين ضلال طريق هؤلاء، وأنهم قد أخطئوا سبيل الرشاد.

تاريخ ظهور بدعة الجهمية في الأسماء والصفات

تاريخ ظهور بدعة الجهمية في الأسماء والصفات قال رحمه الله: [ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداءً من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبى يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم. وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم، هي بعينها التأويلات الذي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً. ولهم كلام حسن في أشياء، وإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري , صنف كتاباً سماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد) ، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي، علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم] . بعد أن قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أصل مقالة التعطيل للصفات، وأنها مأخوذة عن اليهود والمشركين وضلال الصابئين والفلاسفة، وبين مذهب الصابئين في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، وبين صلة أئمة الضلال والانحراف في باب أسماء الله عز وجل بهذه الفرق والطوائف الضالة. فانتقل إلى بيان التسلسل التاريخي لهؤلاء فقال: (ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء) فاجتمع شر إلى شر، الشر الأول: وهو التلقي عن هؤلاء قبل أن تعرب الكتب، والشر الثاني: هو تعريب كتب اليونان والروم فيما يتعلق بالعلوم الإلهية، فزاد البلاء (مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء) ، يعني ما كان في قلوبهم من الشبه والريب التي جاءت هذه الكتب فقعدتها وقررتها ونظرتها؛ فكانت هذه الكتب بمثابة التقرير والتقعيد والتنظير لتلك الشبه التي قرت في قلوبهم وتلقوها عن الضلال من الصابئين واليهود والمشركين والفلاسفة وغيرهم. قال: (ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة) ، وهي مقالة التعطيل ومقالة الجهل والنفي والتحريف في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، (التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية) نسبة إلى الجهم بن صفوان (بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته) ممن سار على طريقته وسلك منهجه في باب تعطيل الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته.

ذم السلف لبدعة الجهمية وتأثر المتأخرين بها

ذم السلف لبدعة الجهمية وتأثر المتأخرين بها قال: (وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف -صاحب أبي حنيفة - والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم) : فالأئمة تصدوا لهم في أوان بزوغهم وفي أوائل ظهورهم؛ وذكر ذلك ليبين أن السلف رحمهم الله قد حذروا الأمة وبينوا لها ضلال هذه الطريقة، وأنها لا توصل في باب معرفة الله عز وجل إلا إلى الحيرة والاضطراب والضلال. ثم قال: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم في أيدي الناس) : تكلم الشيخ رحمه الله عن التأويلات الموجودة في زمانه فقال: (مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات) ، وهذا كتاب مطبوع بأسماء كثيرة من أشهرها: مشكل الحديث وبيانه, ذكر فيه أحاديث صحاحاً وضعافاً وأولها على طريقته فيما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته، (وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس)) ، وهذا الكتاب كتاب له شأن كبير عند المتكلمين، قرر فيه الفخر الرازي فيه ضلالات كثيرة وانحرافات عديدة مخالفة لطريقة السلف، فرد عليه شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب جليل عظيم النفع اسمه (نقض التأسيس) ، وهو كتاب مخطوط ويعمل على تحقيقه الآن، ويوجد كثير منها، أي من هذه التأويلات التي في أيدي الناس في ذلك الوقت وإلى وقتنا هذا.

بيان الصلة بين المريسي وبين الخلف وتأثرهم بشبهاته

بيان الصلة بين المريسي وبين الخلف وتأثرهم بشبهاته قوله: (ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل: أبي على الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي) وهؤلاء كلهم ضلال في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، فـ الجبائي والهمداني والبصري معتزلة بل هم من أئمة المعتزلة، وابن عقيل تمذهب بمذهب الأشعري إلا أنه مال في كثير من أقواله إلى المعتزلة كحال أكثر الأشاعرة، فإن متأخري الأشاعرة سلكوا في كثير مما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته مذهب المعتزلة (وأبي حامد الغزالي وغيرهم) فهو ممن عرف عنه التأويل. (والتأويلات المذكورة في كتب هؤلاء هي بعينها تأويلات بشر المريسي) ، فهي مأخوذة عنه متلقاة منه، وهو قد أخذها من كتب اليونان وورثها عن الأئمة الضلال كـ جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم. قال: (وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء) ما يفهم منه (رد التأويل) أو بعض التأويلات التي نقلت عن المتقدمين، (ولهم كلام حسن في أشياء) ؛ وهذا من الإنصاف والعدل، فهؤلاء لهم حسنات في بعض الجوانب إلا أن ما أتوا به من الشر وما قرروه كثير. قال: (فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي) ؛ ليبين الصلة بين ما انتشر في أيدي الناس من الضلال في باب أسماء الله وصفاته، وبين الضلال الذي كان في عهد السلف الذي أتى به الجعد والجهم ومن سار على طريقهم وسلك مسلكهم.

رد عثمان بن سعيد على المريسي

رد عثمان بن سعيد على المريسي قوله: (ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري صنف كتاباً سماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله من التوحيد)) ، وهذا الكتاب مشهور معروف مطبوع فيه خير كثير، رد فيه على شبهات المريسي، وبه يتبين أن أكثر التأويلات التي شاعت في كتب المتأخرين من المتكلمين متلقاة عنه مأخوذة منه. قال: (حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها) أي: أحكم وأرسخ في هذه الشبه، وهذه التأويلات وهذه الضلالات، (وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم) يعني: هذه التأويلات (من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم. [ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا عل ذم المريسية، وهي الطريقة التي سلكها بشر ومن بعده- وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي: تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتوى -يعني: هذه الفتوى التي يكتبها الشيخ- لا تحتمل البسط في هذا الباب] ، يعني في باب تقرير شبه هؤلاء وتأويلاتهم وبيانهم والرد عليهم، [وإنما أشير إشارات إلي مبادئ الأمور] . وقد أحسن رحمه الله في بيان أصل هذه المقالة وكيف استقرت وانتشرت بين المسلمين، وهذا كلام نفيس قد لا تجده في غير هذا الموضع، فهو تتبع تاريخي دقيق لبدعة التعطيل في باب أسماء الله عز وجل وصفاته [وإنما أشير إشارة إلى مبادئ الأمور، والعاقل يبصر فينظر] .

الكتب التي تنقل كلام السلف وعقيدتهم

الكتب التي تنقل كلام السلف وعقيدتهم ثم قال رحمه الله تعالى: [وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه: مثل كتاب السنن للالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة ل أبي ذر الهروي والأصول لـ أبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي. وقبل ذلك السنة للطبراني، ولـ أبي الشيخ الأصبهاني، ولـ أبي عبد الله بن مندة، ولـ أبي أحمد العسال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلال، والتوحيد لـ ابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، والرد على الجهمية لجماعة، وقبل ذلك السنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة لـ أبي بكر بن الأثرم، والسنة لـ حنبل، وللمروزي، ولـ أبي داود السجستاني، ولـ ابن أبي شيبة، والسنة لـ أبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب الرد على الجهمية لـ عبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، وكتاب خلق أفعال العباد لـ أبي عبد الله البخاري. وكتاب الرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي وكلام عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي، وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيي بن سعيد ويحيي بن يحي النيسابوري وأمثالهم. وقبل ذلك لـ عبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة. وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره. وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى , فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير، وإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس المؤمن -بل نفس عاقل- أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين؟!] . في هذا المقطع قال الشيخ رحمه الله: (وكلام السلف في هذا الباب) أي: في باب الأسماء والصفات (موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منها) وذكر جملة من الكتب، وأكثر هذه الكتب -ولله الحمد- مطبوع موجود بين أيدي الناس ليقف من خلالها المؤمن على صحة طريقتهم وسلام منهجهم ومخالفته لمنهج هؤلاء المتكلمين.

الإشارة إلى صحة مذهب السلف بالأدلة السمعية والعقلية

الإشارة إلى صحة مذهب السلف بالأدلة السمعية والعقلية وبعد أن ذكر رحمه الله كلام السلف قال: (وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره) في تقرير صحة ما ذهبوا إليه وفي تقرير بطلان طريق النفاة، فاجتمع للشيخ من الأدلة: السمع، وإجماع السلف، والأدلة العقلية. ثم قال: (وأنا أعلم) وهذا فيه تنبيه أن هذه الأدلة التي ذكرها من السمع، ومن كلام السلف، ومن الأدلة العقلية، لا تسلم عند هؤلاء؛ لبعض الشبهات التي يوردونها على هذه الأدلة, قال: (وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة) يعني: قائمة يثيرونها ويرددونها (ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى) ؛ لأن الفتوى صغيرة, وليس المقصود بسط كلام هؤلاء وتقريره؛ لأن الشيخ قد قام بذلك في كثير من مؤلفاته، (فمن نظر فيها) يعني: في هذه الشبهات (وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير) . وقد بسط رحمه الله هو وغيره من الأئمة هذه الشبه والرد عليها وتفنيدها، وكان له في هذا رحمه الله قصب السبق. والواجب على المؤمن أن يبعد عن شبه هؤلاء، ولكن إن طرأت عليه وألجئ إلى النظر فيها، فلا بأس أن ينظر فيها وأن يفندها، وإلا فالأصل أن يقي المؤمن نفسه هذه الشبه وألا ينظر إليها إلا إذا دعت الحاجة, كأن يكون في مقام مناظرة أو في مقام بيان ضلال هؤلاء وشبههم، وإلا فالأصل الابتعاد عن الشبه؛ لأن الشبه خطافة والقلوب ضعيفة، لاسيما إذا لم ترسخ قدم المرء في العلم بما كان عليه السلف من إثبات ما يجب لله عز وجل من الصفات والأسماء، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. وبعد هذا العرض لطريقة هؤلاء أتى بالخلاصة والعلة في سياق هذا التسلسل التاريخي وبيان أصل هذه المقالة فقال: (فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن -بل نفس عاقل- أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين؟!) ، المغضوب عليهم: الذين علموا ولم يعملوا. والضالون: الذين عملوا بلا علم واعتقدوا بلا بينة ولا هدى، وقد أمرنا أن نستعيذ بالله من طريق هؤلاء، (ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!) وهو الصراط المستقيم المسئول في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] وهذا الصراط لا يقوم إلا على العلم الصحيح والعمل الصالح، فهذا هو صراط الذين أنعم الله عليهم. وبهذا يكون الشيخ رحمه الله قد فرغ من المقدمة، التي قرر فيها صحة ما ذهب إليه السلف وبطلان ما سلكه الخلف في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

شرح الفتوى الحموية [7]

شرح الفتوى الحموية [7] قاعدة أهل السنة في باب الأسماء والصفات، هي الإيمان بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تحريف. وبهذا يتميز أهل السنة عن غيرهم.

قاعدة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات

قاعدة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله والتابعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة: [فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث؛ قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث. ومذهب السلف: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعلم أن ما وُصِفَ الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم به، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله تعالى منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث؛ لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث في سابقة العدم؛ ولافتقار المحدث إلى محدث؛ ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى] . بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من الفصل الأول الذي قرر فيه بطلان طريقة المتكلمين في باب أسماء الله وصفاته، وبين أوجه بطلان هذا القول، ومنشأ قولهم، وبين أيضاً صحة طريقة السلف، واستدل لذلك، جاء بهذا الفصل ليشرح منهج أهل السنة والجماعة وطريق السلف في هذا الباب، وبدأ الشيخ رحمه الله بذكر قاعدة كلية في باب الأسماء والصفات، وفي غيره مما يتعلق بالله تعالى ومعرفته, فقال: (ثم القول الشامل في جميع هذا الباب) يعني: باب الأسماء والصفات وما يجب له سبحانه وتعالى (أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله) وهذه قاعدة كلية، وهو بيان مجمل لعقيدة السلف في باب الأسماء والصفات، وأنهم رحمهم الله ورضي عنهم كانوا في هذا الباب واقفين على ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل لهذه القاعدة وأنها منهج السلف بقول للإمام أحمد رحمه الله فقال: (وما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث) أي: لا يتجاوز في باب وصف الله عز وجل وفي باب ما يجب له، ما جاء في القرآن والحديث. قال: (وبما وصفه به السابقون الأولون) وهذا ليس على أنه طريق ثالث لإثبات ما يجب لله سبحانه وتعالى في هذا الباب، وإنما ليبين أنهم وقفوا على ما وقف عليه السلف الصالح في هذا الباب فهم سالكون في طريقهم ناهجون لسبيلهم، والسلف الصالح قد وقفوا في هذا الباب على الكتاب والسنة، وهم لا يتكلمون فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى من قبل آرائهم ولا من قبل عقولهم، وإنما يتكلمون في هذا الباب بما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علموه من كتاب الله جل وعلا، فهم في وصفهم وفيما يخبرون به عن الله عز وجل لا يخرجون عن هدي الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. (قال الإمام أحمد رضي الله عنه: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث) بل يجب الوقوف عندهما؛ لأن الله جل وعلا أعلم بنفسه وبغيره، فهو سبحانه وتعالى أحسن حديثاً وأصدق قيلاً، ورسله صادقون مصدقون فيما يخبرون به عن الله جل وعلا، وهذه التعليلات ذكرها الشيخ رحمه الله في الرسالة الواسطية؛ لبيان صحة هذه القاعدة. فالله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره، فإذا كان كذلك فيجب الوقوف عند ما أخبر عن نفسه وما أعلمنا في كتابه من صفاته وأسمائه؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وهو جل وعلا أعلم بغيره، ثم مع كمال علمه سبحانه وتعالى فهو أكمل بياناً وأكمل صدقاً، فهو سبحانه وتعالى أحسن حديثاً، وأصدق قيلاً، فهذه الصفات الثلاث توجب الوقوف على ما في كتاب الله عز وجل، وأنه لا يجوز للعبد أن يتجاوز كتاب الله فيما وصف به نفسه.

وجوب الأخذ عن الرسل

وجوب الأخذ عن الرسل وأما وجوب الوقوف على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلأن رسل الله صادقون فيما يخبرون به عنه سبحانه وتعالى، وهم مصدقون أي: مصدقون فيما يخبرون به عنه، سبحانه وتعالى فلو أخبروا عنه بالكذب؛ لما أقرهم ولبين كذبهم، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] . فالله جل وعلا مطلع على ما تخبر به الرسل عالم به، وهم صلوات الله وسلامه عليهم صادقون فيما يخبرون، فإذا كان الأمر كذلك -وهذا ما يعتقده العبد المؤمن الصادق في كلام الله وفي كلام رسله صلوات الله وسلامه عليهم- وجب على المؤمن أن يقف على ما جاء عن الله في كتابه وما جاء عن رسله صلوات الله وسلامه عليهم، لا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الخلق بربه وأكملهم معرفة به سبحانه وتعالى، وهذه حجة قوية لصحة هذه القاعدة وسلامتها، وأشار الله سبحانه وتعالى إليها في قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182] . فهذه الآية بينت كمال ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، وأنه جل وعلا مستحق لكل كمال وأنه منزه -جل وعلا- عن كل نقص، وفيها الشهادة لصحة طريقة الأنبياء والمرسلين، حيث سلم عليهم فقال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181] ، وفيه بيان خطأ كل طريق يخالف طريق المرسلين حيث قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} [الصافات:180] ؛ لأنهم لا يصلون إلى وصفه كما ينبغي وإلى تعريف الخلق به إلا عن طريق الرسل {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181-182] وهذا -كما مر معنا في الواسطية- فيه إثبات كمال الأسماء وكمال الأفعال وكمال الصفات له جل وعلا، فهذه الآية من أجمع الآيات الدالة على صحة هذه القاعدة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في ابتداء حكايته وذكره لمنهج السلف في باب الأسماء والصفات.

القيود التي يتميز بها مذهب السلف عن غيره

القيود التي يتميز بها مذهب السلف عن غيره ثم بعد أن ذكر المنهج إجمالاً، فصل فيه فقال رحمه الله: (ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) ، وهذه قاعدة كبرى في هذا الباب، فأهل السنة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم في وصفهم هذا لا يكيفون، ولا يمثلون، ولا يؤولون، ولا يعطلون، فهذه أربعة قيود تخرج طرائق المبتدعين الذين ضلوا في باب أسماء الله عز وجل وصفاته. قوله: (من غير تحريف) . التحريف لغة: هو الإمالة والتغيير، وفي الاصطلاح: العدول باللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى مرجوح يحتمله النص. وأراد الجهمية تلطيف هذا السبيل فسموه تأويلاً؛ ليضلوا الناس وليموهوا باطلهم، فالتحريف المذكور هنا المقصود به التأويل عند المتكلمين، وهو: أنهم يصرفون ألفاظ الكتاب وألفاظ السنة عن ظاهرها المتبادر إلى معان مرجوحة يحتملها النص، لكنها ليست هي المعنى الظاهر من النصوص. أما التعطيل فهو في اللغة: التخلية والتفريغ، وفي الاصطلاح: تخلية الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الأسماء والصفات إما كلياً وإما جزئياً. كلياً: كقول الجهمية الذين عطلوا الله عن الأسماء والصفات فلم يثبتوا له الأسماء ولم يثبتوا له الصفات، وجزئياً: كالمعتزلة والأشاعرة والماتردية وغيرهم، فهؤلاء تعطيلهم لصفات الله عز وجل تعطيل جزئي. قوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) التكييف في اللغة: هو التصوير. وفي الاصطلاح: هو بيان حقيقة الشيء. ويقول بعضهم: هو بيان كنه الشيء، والكنه هو الحقيقة، فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات دون طلب تصوير لها؛ لأن التصوير لصفات الله عز وجل فرع عن معرفة الذات أو فرع عن معرفة كيفية الذات، فلما كانت ذاته جل وعلا غير معروفة وغير مدركة الكنه والحقيقة، فكذلك الصفات، ولذلك القاعدة في رد طلب تكييف هؤلاء أن يقال لهم: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمن أراد أن يكيف الصفات فليكيف لنا -أولاً- الذات ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . قوله: (ولا تمثيل) التمثيل: هو التشبيه. وهو في الاصطلاح: إلحاق الصفات الثابتة أو تنظير الصفات الثابتة لله عز وجل بصفات المخلوقين. وهذا من أعظم الضلال، وهو قسيم الضلال السابق في التقييد الأول، فالتقييد الأول: من غير تحريف ولا تعطيل، وهذا رد على الفرقة الأولى من الفرقتين اللتين ضلتا في باب أسماء الله وصفاته، وهي فرقة المعطلة، وقوله: ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا رد على الممثلة؛ لأن مرد الضلال في باب أسماء الله وصفاته يرجع إلى هاتين الطائفتين، إما معطلة وإما ممثلة، فبهذه القيود تميز منهج أهل السنة والجماعة عن طريق التعطيل والتمثيل. ثم قال: (ونعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك) أي: من الأسماء والصفات (فهو حق ليس فيه لغز) يعني: ليس فيه تعمية وتضليل وإخفاء (ولا أحاجي) ، والأحاجي: هي إظهار الشيء على غير وجهه. فليس في هذه الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله لغز ولا أحاجي، بل هي ظاهرة بينة لمن شرح الله صدره ووفقه لسلوك طريق السلف الصالح في هذا الباب.

معنى الكلام يعرف من خلال ألفاظ المتكلم

معنى الكلام يعرف من خلال ألفاظ المتكلم قال: (بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه) أي: معنى ما ثبت في باب الأسماء والصفات يعرف ويدرك من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، يعني: يعرف من الألفاظ كما يعرف كلام المتكلمين من كلامهم، والله عز وجل قد خاطبنا بكلام وصفه بأنه مبين، ولا يمكن أن يكون هذا الكلام المبين غير دال على صفاته سبحانه وتعالى، فمن أراد أن يفهم ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فلينظر إلى كلام الله وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. (لاسيما) يعني: ويتأكد هذا في أنه يجب علينا أن نفهم الكلام كما يفهم سائر الكلام الذي يتكلم به المتكلمون (إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول) ، فرسله أعلم الخلق به سبحانه وتعالى، فإذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، فالرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله في كتابه أو في سنته صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بما يقول (وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد) فإذا كانت كل هذه الصفات قائمة في المخبر، دل ذلك على وجوب قبول خبره وتصديقه وعدم صرفه عن ظاهره، وهذا شبيه بالعبارة التي ذكرناها قبل قليل في بيان أو في تعليل صحة طريق السلف رحمهم الله. قال: (وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء) ، يعني: مع إثباتنا لما في كتاب الله وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، فنحن نقر ونعتقد ونؤمن أنه (ليس كمثله شيء) كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه، فليس له مثيل ولا نظير ولا سمي في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في كل ما يجب له، فهو سبحانه وتعالى كما وصف نفسه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] في شيء مما يختص به سبحانه وتعالى. (لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه وتعالى له ذات حقيقة -كما نقر بذلك ونؤمن- وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة) لا نحتاج فيها إلى تأويل، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، بل يجب إثباتها على الوجه الذي وردت به.

كل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه

كل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه قوله: (وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه) فيه رد على طريقة هؤلاء، ورد على إلزامهم؛ حيث قالوا: إن إثبات الصفات -وبعضهم قال: إن إثبات الأسماء- يستلزم أن الله سبحانه وتعالى ناقص أو أنه جل وعلا حادث، قال: (فكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة) لكن نناقشكم في أن من لازم إثبات الصفات أن الله كان متصفاً بالنقص أو أنه سبحانه وتعالى حادثاً بعد أن لم يكن، فالحدوث الذي أشار إليه الشيخ هنا هو الحدوث الذي يسبقه العدم، وإلا فالصفات قسمان: منها ما هو صفات ثابتة لازمة وهي الصفات الذاتية وهي التي اتصف الله سبحانه وتعالى بها أزلاً وأبداً فهو لا يزال متصفاً بها: كالعلم والحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات الذاتية. ومن الصفات ما يتجدد، أي: يحدث بعد أن لم يكن، كالاستواء، والغضب، والفرح، فهذه صفات فعلية والصفات الفعلية تحدث بعد أن لم تكن. قوله: (فكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً) أي: حدوثاً بعد أن لم يكن، يعني لو كانت هذه الصفات من لازمها أن الرب جل وعلا كان بعد أن لم يكن أو حدث بعد أن لم يكن؛ لكان ما تقولونه صواباً، ولكن هذه الصفات لا تدل على زعمكم. وهذه من أكبر الشبه التي يعتمدها الضلّال في نفي الصفات: وهي أن الصفات تستلزم الحدوث، والحدوث ممتنع عن الله جل وعلا. قال: (فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه) فلا يرام كمال أكمل من كماله جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] (ويمتنع عليه الحدوث) لامتناع العدم عليه) والحدوث المقصود هنا هو: حدوث الذات والصفات التي لم يزل متصفاً بها أزلاً وأبداً؛ لأن الحدوث قسمان: حدوث الموصوف، وحدوث الصفة، فأما حدوث الموصوف فمحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء جل وعلا، وأما حدوث الصفة: فمن الصفات ما يحدث بعد أن لم يكن كما مثلنا قبل قليل بالصفات الفعلية. قوله: (ويمتنع عليه الحدوث؛ لامتناع العدم عليه) جل وعلا؛ لأن من حدث بعد أن لم يكن جاز عليه العدم، فلما كان الله سبحانه وتعالى الآخر الذي ليس بعده شيء والأول الذي ليس قبله شيء، فالحدوث ممتنع عليه؛ لأن من لوازم حدوث الموصوف أن يكون مسبوقاً بعدم أو ملحوقاً بعدم. (واستلزام الحدوث سابقة العدم) يعني: وثبوت صفة الحدوث لذاته سبحانه وتعالى يستلزم أن يكون مسبوقاً بالعدم. قال: (ولافتقار المحدث إلى محدِث؛ ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى) كل هذه التعليلات عقلية، جارى فيها الشيخ رحمه الله المتكلمين؛ ليبين بطلان شبهتهم، وليستعمل الألفاظ التي يستعملونها ليموهوا بها على الناس، ولذلك برع الشيخ رحمه الله في هذا الجانب حيث إنه ناقش هؤلاء بلغتهم وبقواعدهم، وبين أن قواعدهم لا توصلهم إلى النتائج التي وصلوا إليها، بل العقل دال على إثبات الصفات كما دل عليه الكتاب والسنة. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [8]

شرح الفتوى الحموية [8] أهل السنة وسط في منهجهم بين أهل البدع، فهم وسط بين المعطلة والمشبهة، فإنهم يثبتون الصفات كما أثبتها الله ولا يعطلونها، ومع إثباتهم للصفات فإنهم ينفون عن الله المثيل والمشابه، أما أهل البدع فإن بدعتهم تركبت من التمثيل ثم التعطيل، وهذا هو منشأ ضلالهم.

مذهب السلف بين التعطيل والتمثيل

مذهب السلف بين التعطيل والتمثيل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته. وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل؛ فهو جامع بين التعطيل والتمثيل: أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش؛ للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام؛ فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم من سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، وكلاهما محال؛ إذ لا يعقل موجود إلا هذان. أو قوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثَّل وكليهما عطَّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين. والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك. ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها] . بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله في هذا الفصل القاعدة الشاملة فيما يجب لله عز وجل في باب الأسماء والصفات، وذكر ذلك بعد الإجمال تفصيلاً، فبين رحمه الله في هذا المقطع أن أهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل في باب أسماء الله وصفاته، فوسطية أهل السنة والجماعة بينة في هذا الباب؛ لأن كلاً من أهل التعطيل وأهل التمثيل نزع إلى جانب وغلا فيه. فأهل التعطيل هم الذين أخلوا الله جل وعلا عما يجب له من الأسماء والصفات إما كلياً وإما جزيئاً لشبه عندهم. وأهل التمثيل هم الذين قابلوهم فقالوا: كل ما أثبته الله لنفسه من الصفات فهو كما هي للمخلوق، فصفات الخالق كصفات المخلوق، فيده كيدنا، واستوائه كاستوائنا، وما إلى ذلك من الصفات التي أثبتها لنفسه وهي للمخلوق، فهؤلاء غلوا في جانب الإثبات. وأهل السنة والجماعة بين هؤلاء فهم طريق وسط بين أهل الضلالات، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، وهذا فيه إشارة إلى القاعدة الكبرى في باب الأسماء والصفات وهي: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أنا نتفق جميعاً أن ذات الخالق جل وعلا ليست كذوات المخلوقين، فكذلك صفاته سبحانه وتعالى ليست كصفات المخلوقين، وهذا فيه أعظم الرد على أهل التعطيل وأهل التمثيل.

أهل السنة والجماعة لا ينفون الأسماء والصفات ولا يعطلونها

أهل السنة والجماعة لا ينفون الأسماء والصفات ولا يعطلونها قال في بيان طريق أهل السنة والجماعة: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله) وبهذا نعلم أنهم خالفوا أهل التعطيل في نفيهم ما وصف الله به نفسه، وأنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل. وأنهم كما ذكر في المقطع الأول: (فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه) ، وبهذا أيضاً تميزوا عن منهج أهل التمثيل الذين يكيفون ويمثلون صفات الله عز وجل، وبهذين المقطعين من كلامه رحمه الله تمت الضوابط المذكورة سابقاً في طريقة أهل السنة والجماعة، وهي: أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال: (ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه وصفاته العلى) لأن مقتضى النفي التعطيل (ويحرفوا الكلم عن مواضعه) أي: ويقعوا أيضاً في التحريف؛ لأن سلم التعطيل التحريف، فهم إذا عطلوا فلا يصلون إلى التعطيل إلا بالتحريف أو بالإلحاد.

أنواع الإلحاد وسلامة أهل السنة والجماعة من الإلحاد في الأسماء والصفات

أنواع الإلحاد وسلامة أهل السنة والجماعة من الإلحاد في الأسماء والصفات ولذلك قال: (فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته) فذكر التعطيل والتحريف والإلحاد. والإلحاد هو نظير التحريف؛ لأن التحريف هو: الميل والعدول بأسماء الله عز وجل وصفاته عن ظواهرها، والإلحاد هو كذلك، لكن الإلحاد أعم من التحريف، فالإلحاد في اللغة: هو الميل والعدول. وفي الاصطلاح يطلق على أشياء كثيرة: منها -أي: من الإلحاد في أسماء الله عز وجل-: تسميته بغير ما يليق به سبحانه وتعالى كما يسميه بعض أهل الملل: (الأب) وغير ذلك من الأسماء التي لا تليق به. ومن الإلحاد في أسمائه: إنكار بعض ما سمى به نفسه سبحانه وتعالى كما وقع من أهل الجاهلية الذين أنكروا اسم الرحمن. ومن الإلحاد في أسمائه: صرفها عن ظواهرها التي دلت عليها النصوص إلى معان مرجوحة، وهذا هو التحريف الذي أشار إليه في قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] . ومن الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى: تسمية غير الله عز وجل بأسمائه سبحانه وتعالى، أو اشتقاق أسماء الآلهة الباطلة من أسمائه، كاللات والعزى ومناة، فاللات مشتقة من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. فهذه أربع صور من صور الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى، وكلها قد سلم منها أهل السنة والجماعة فلم يلحدوا في أسمائه جل وعلا ولا في آياته.

تركيب بدعة المعطلة من التعطيل والتمثيل والعكس

تركيب بدعة المعطلة من التعطيل والتمثيل والعكس قال: (وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل) فبدعة المعطلة مركبة من بدعة التعطيل ومن بدعة التمثيل، كما أن بدعة الممثلة أيضاً مركبة من تمثيل وتعطيل. ثم بين الشيخ رحمه الله كيف هذا فقال: (أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق) فهم أولاً وقعوا في التمثيل والتشبيه، فلم يفهموا من الاستواء إلا ما عرفوه من المخلوق، ولم يفهموا من السمع والبصر والعلم وغير ذلك من الأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه إلا ما يليق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ لأنها تقتضي التمثيل والتشبيه، والله سبحانه وتعالى لا يشبه خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل؛ فأول خطوة في طريق التعطيل هي التمثيل. قال: (فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم) وهذا غلط؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في غير ما موضع من كتابه: أنه لا نظير له ولا كفء له ولا ند {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . قوله: (وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى) فلما مثلوا واعتقدوا التمثيل: نفوا ظواهر هذه الأسماء وهذه الصفات فعطلوا ما يجب له سبحانه وتعالى من الكمال وما يجب له سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات.

ذكر شبهة المعطل للاستواء وأن منشأها التمثيل

ذكر شبهة المعطل للاستواء وأن منشأها التمثيل يضرب الشيخ رحمه الله مثالاً للجمع في بدعة التعطيل بين التمثيل والتعطيل فيقول: (فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش) والعرش: هو سرير الملك وهو من أعظم المخلوقات التي خلقها الله جل وعلا وهو من أولها. قوله: (لو كان الله فوق العرش) أي: وقد أخبر سبحانه وتعالى بذلك في كتابه (للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً) هذه لوازم عقلية ناشئة عن تمثيل الله بخلقه، قالوا: استواء الله كاستواء أحدنا على كرسيه أو على دابته أو على سريره، فلما وقعوا في ذلك قالوا: إما أن يكون أكبر -كما هو الحال في المخلوق- من العرش أو أصغر أو مساوياً، (وكل ذلك من المحال) في حقه سبحانه وتعالى فهو الكبير المتعال. قال: (ونحو ذلك) من الإلزامات الباطلة التي منشؤها تمثيل الله بخلقه (فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان) أي: فلم يَعقل المبتدع ويدرِك من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] إلا أنه كاستواء أي جسم على أي جسم. (وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم) أي: هذا اللازم الباطل تابع لهذا المفهوم وهو التمثيل، (أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة) ؛ لأنه سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فإذا اعتقد العبد أن الاستواء الثابت له سبحانه وتعالى في كتابه ليس كأي استواء، وأن ذاته ليست كأي ذات، علم بذلك أنه لا يلزم على إثبات ما أثبته الله لنفسه في هذه الصفة أي لازم باطل، بل الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] (فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام) .

ذكر شبهة الممثل في الاستواء وأن منشأها التعطيل

ذكر شبهة الممثل في الاستواء وأن منشأها التعطيل وبعد أن فرغ من بيان أن أول طريق التعطيل هو التمثيل أتى إلى الجانب الآخر وهو: أن الممثلة معطلة فقال: (وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع) أي: خالق، فهذا الصانع: (إما أن يكون جوهراً أو عرضاً) الجوهر في كلام العرب هو: حقيقة الشيء وذاته. ومعناه عند المتكلمين قريب من هذا، وأما العرض فهو: الصفة، وهو ما لا يدوم ولا يبقى ولا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره. يقول: (إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون الصانع جوهراً) له حقيقة وذات، (وإما أن يكون عرضاً) لا يقوم بذاته ولا يدوم، (إذ لا يعقل موجود إلا هذان) لا يعقل موجود إلا عرض أو جوهر. (وقوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك) ؛ لأن العرش هو السرير والفلك هي البواخر، فلا يعقل من الاستواء إلا استواء الإنسان على سريره أو استواؤه على البواخر. (إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا) أي: في حق المخلوقين. قوله: (فإن كليهما مثّل وكليهما عطّل حقيقة ما وصف الله به نفسه) ، فوقع التمثيل عندما اعتقد المعطل أنه لا يتصور معنى للاستواء الثابت له سبحانه وتعالى إلا كالاستواء الثابت للمخلوق على السرير أو على الفلك أو على غير ذلك مما يستوي عليه، فهو في الحقيقة مثّل صفة الله عز وجل بصفة خلقه، فأدى به هذا إلى أن عطل الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الكمال إذ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فكان الممثل معطلاً.

بيان وجه تمثيل المعطلة وتعطيل الممثلة في الاستواء

بيان وجه تمثيل المعطلة وتعطيل الممثلة في الاستواء ولذا قال: (فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي) فالمعطل امتنع من إثبات أي اسم من الأسماء الحقيقية للاستواء بالنسبة لله عز وجل، وذهب يطلب معاني بعيدة للاستواء، ففسر الاستواء بالاستيلاء، أو بالإقبال، أو بالملك، أو بغير ذلك من البدع والتفاسير التي وقعوا فيها، وأولوا فيها الاستواء الثابت في كتابه، فالمعطلة أولوا قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بأنه خلقه أو ملكه أو استولى عليه وكل هذه تأويلات وتعطيلات لاسم الاستواء عن معناه الحقيقي. قوله: (وامتاز الثاني) وهو الممثل (بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) فعطل الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الكمال.

القول الفصل في الاستواء

القول الفصل في الاستواء ثم بعد أن فرغ من ذكر هاتين البدعتين في هذه الصفة، قرر طريقة أهل السنة والجماعة في هذه الصفة كالممثل بها حتى تقاس بقية الصفات عليها قال: قوله: (والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط: من أن الله مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به) فأهل السنة والجماعة يثبتون الاستواء لله سبحانه وتعالى، لما مر في أول هذه الرسالة من الأدلة الدالة على استواء الله عز وجل على عرشه. والاستواء في كلام السلف له أربع معان: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار، فكلام السلف في تفسير الاستواء المذكور في كتاب الله عز وجل -الذي هو صفة له- دائر على هذه المعاني الأربع، وهم بذلك يثبتونه على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى دون أن يمثلوا أو يكيفوا أو يعطلوا أو يحرفوا. وذكرنا في شرح العقيدة الواسطية بيان انحرافات المتكلمين في هذه الصفة وأن أكثرهم ينفيها أو يؤولها بالاستيلاء، وأجبنا على أقوالهم في تلك الرسالة.

القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر ثم قال الشيخ: (فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك) أي: فكما أن هذه الأوصاف لا يلزم منها تمثيل ولا تعطيل، فكذلك صفة الاستواء، فالاستواء صفة فعلية من صفات الله عز وجل. وقوله: (كما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير) ذكر فيه صفات ذاتية: العلم والقدرة والسمع والبصر، وهذا يشير إلى الأصل في باب الأسماء والصفات، وهو: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فلا نفرق بين الصفات الفعلية والصفات الذاتية والصفات الخبرية بل قولنا في صفة من الصفات هو كقولنا في سائر الصفات، فكما أننا نقول: بأنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير وأنه سميع بصير، ولا نخترع لوازم باطلة على هذا الإثبات؛ فكذلك في الاستواء؛ لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. فباب الصفات باب واحد لا نميز بينه في اللوازم فنثبت بعضاً وننفي بعضاً، ولذلك ما سلم من ناحية اللوازم إلا من نفى كل الصفات، أما من أثبت بعضاً ونفى بعضاً فقد احتج عليه المبتدع الذي نفى الجميع، وقال: كيف تثبت بعضاً وتنفي بعضاً مع أن الباب واحد، واللازم فيما نفيت يلزم فيما أثبت؟ فوقع هذا المثبت في اضطراب وخطأ، وعلى هذا فكما نثبت هذه الصفات على الوجه الذي يليق به، فنحن نثبت الاستواء وغيره من الصفات الفعلية على الوجه الذي يليق به. قال: (ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها) ، وهذا جيد وبين، أي: فكما أنكم تقولون يلزم على إثبات الاستواء مماثلة المخلوق، فكذلك العلم والقدرة فإن الله وصف المخلوق بالعلم والقدرة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات، فكما أن قيام هذه الصفات في المخلوق لا يلزم منه أن تكون الصفات الثابتة للخالق مماثلة لها، فكذلك في صفة الاستواء وغيرها من الصفات التي نفيتموها، والقاعدة في هذا: أن القول في بعض الصفات كالقول في بقيتها. وبعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان تلازم شبهتي التعطيل والتمثيل، ناقش الأصل الذي اعتمد عليه هؤلاء وهؤلاء فيما ذهبوا إليه من البدع، وهو اعتمادهم العقل في باب الأسماء والصفات، وسيبين الشيخ رحمه الله فيما يأتي أن اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات غير صحيح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [9]

شرح الفتوى الحموية [9] إن من الخطأ اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة صفات الله، وإنما هو تابع للسمع في ذلك، لكنه لا يحيل إثبات الصفات إلا إذا كانت المقدمات التي اعتمد عليها فاسدة؛ فإن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح بل يوافقه.

بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات

بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير. ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله، فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء] .

وجوه بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات

وجوه بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات قرر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع بطلان اعتماد العقل في باب أسماء الله وصفاته، بل وفي سائر أبواب الاعتقاد كما سيذكر ذلك في نهاية كلامه، وبطلان اعتماد العقل في باب الإخبار عن الله عز وجل بين من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن المعتمدين على عقولهم في باب الأسماء والصفات في أمر مريج وفي أمر مضطرب، فمن أدلة بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات: الاضطراب والتناقض، والتناقض في الشيء دليل على فساده، ولذلك ذكر الشيخ رحمه الله أنهم في أمر مريج، ثم بين اضطرابهم وتناقضهم، وضرب لذلك أمثله من البدع عند أهل الكلام: (فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها -يعني: يمنعها- وأنه مضطر فيها إلى التأويل) إلى أن النصوص التي جاء فيها إثبات الرؤية تؤول، ثم يختلفون في تأويلها، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: (إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل) ، كذلك أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ممن ينفي هذه الصفات يقولون: إن الذي حملهم على ذلك أن العقل أحال أن يوصف الله بهذه الصفات. والشيخ رحمه الله تدرج فبدأ بالرؤية التي ينكرها مثبتة الصفات كالأشاعرة والماتردية والكلابية ومن سار على طريقهم، ثم ذكر بدعة الذين ينفون الصفات بالكلية كالمعتزلة والجهمية، ثم أتى ببدعة مغلظة وهي بدعة الفلاسفة الذين ينكرون البعث. قال: (بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد) يعني: من ينكر أن الأجساد تحشر يوم القيامة وتبعث، (والأكل والشرب الحقيقي في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك!) وكل هذه من أقوال ابن سينا وهي من أقوال الفلاسفة الذين ينكرون البعث ويقولون: ما أخبرت به الرسل مما يقع في الآخرة إنما هي خيالات؛ ليحملوا الناس على الطاعة ويزجروهم عن المعصية، والذي حمل أولئك على هذا قولهم: إن العقل أحال ذلك وهم مضطرون إلى التأويل (ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل) . ثم قال: (ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء) وهم الذين اعتمدوا العقل في باب الأسماء والصفات، فأثبتوا ما أثبته العقل؛ ونفوا ما نفاه العقل؛ فيكفيك دليلاً على فساد قولهم: (أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل) فليس هناك قاعدة ثابتة يرجع إليها. (بل منهم من يدعي أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله) فبعضهم يقول: العقل يوجب أن يوصف الله بكذا، ومقابله يقول: العقل يمنع ويحيل أن يوصف الله بكذا، ويأتي ثالث ويقول: إن العقل لا يوجب ولا يحيل، بل العقل يجيز أن يوصف الله بكذا، فعقول الناس متفاوتة، بل الواحد منهم -كما ذكر ذلك بعض أهل العلم- تجده في الكتاب الواحد من كتبه يذكر في موضع أن العقل يوجب أن يوصف الله بكذا، وفي نفس الكتاب يقول: يمتنع عقلاً أن يوصف الله بكذا، فهذا التناقض يدل دلالة واضحة على أنه لا يعتمد العقل فيما يجب لله من الكمال والتنزيه إثباتاً ولا نفياً، بل يرجع في ذلك إلى السمع، ويستضاء بالعقل في فهم ما ورد به السمع، أما أن يستقل العقل فيما يتعلق بالله عز وجل إثباتاً ونفياً، فهذا ليس بصحيح. ثم قال الشيخ رحمه الله بعد أن بين هذا الوجه: (فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟!) فأي العقول التي تحتمل أن يوزن بها كلام الله وكلام رسوله، فقوله: (فيا ليت شعري) أي: ليتني أعلم أي العقول نرجع إليها في فهم كلام الله وكلام رسوله، (فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء وعقولهم) لا شك أن هذا من الضلال المبين والخطأ العظيم. هذا الوجه الأول من الأوجه التي يبطل بها اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات. الوجه الثاني: أن اعتماد العقل في هذا الباب مخالف لطريقة السلف، فالسلف رحمهم الله اقتصروا في هذا الباب على ما جاء عن الله وعن رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. الوجه الثالث من الأوجه التي تبطل اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات: أنه من المحال أن يستقل العقل بمعرفة ما يتعلق بالله عز وجل، فالعقل يحيل الاعتماد على العقل في معرفة ما يجب لله عز وجل من الأسماء والصفات. إذاً: الوجه الثالث هو إحالة العقل أن يكون مستنداً ومعتمداً في معرفة ما يجب لله عز وجل وما يجوز له وما يمتنع عليه؛ وذلك أن باب الأسماء والصفات من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل، فلا يستقل العقل بمعرفة ما يجب لله عز وجل وما يمتنع عليه. وما يجوز عليه، فهذه ثلاثة أدلة تدل على بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات. ثم بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من ذكر أدلة بطلان اعتماد العقل في باب الأسماء والصفات ذكر أن من أدلة البطلان: التناقض الذي وقع فيه المتكلمون.

وجوه نقض أدلة المتكلمين ببعضها

وجوه نقض أدلة المتكلمين ببعضها قال رحمه الله تعالى: [وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه: أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك. والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل. والثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات. الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص، وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك تفصيله، وإنما يعلمه مجملاً إلى غير ذلك من الوجوه. على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، فإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه] . هذا المقطع بين فيه الشيخ رحمه الله أن هؤلاء المختصمين فيما يجب لله عز وجل في الأسماء والصفات كل منهم اعتمد فيما ذهب إليه على العقل والتأويل، فبين الشيخ رحمه الله أن كل واحد من هؤلاء يحتج عليه بما احتج به على صاحبه، فالحجة التي اعتمدها أحدهم في إبطال صفة من الصفات يحتج عليه بهذه الحجج التي استند إليها في إبطاله الصفات في إثبات الصفة التي احتج على إبطالها. فمثلاً من يقول: إن العقل يحيل أن يكون الله جل وعلا مستوياً على العرش، أو أن يكون سبحانه وتعالى مريداً، أو موصوفاً بالصفة الفلانية، يقال له: إن إحالتك هذه باطلة ومنقوضة بدليلك، أي: بالدليل الذي استدللت به على إبطالها، فنبين من هذا الدليل أن ما قلته باطل، وهذا من بديع أساليب الرد على الخصوم أن ينقض قولهم من قولهم، ولذلك اعتمد شيخ الإسلام رحمه الله على هذا في كثير من ردوده على المنحرفين في هذا الباب، فاعتمد على كلامهم في إبطال كلامهم؛ لأن كلامهم اشتمل على حق وباطل، فهم تمسكوا بالباطل في إبطال ما يجب لله عز وجل وغفلوا عن الحق الذي في كلامهم، فاستعمل الحق في إبطال كلامهم، وهذا طريق بديع لإقناع الخصم ببطلان ما هو عليه، فمن احتج بهذه التأويلات التي ذكرها الشيخ رحمه الله أو احتج بالعقل على إبطال ما يجب لله عز وجل يقال له: إن اعتمادك على العقل في إبطال هذه الصفات باطل من وجوه:

العقل لا يحيل إثبات الصفات

العقل لا يحيل إثبات الصفات (أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك) العقل لا يحيل ما زعمت أنه محال، فالعقل لا يحيل أن الله سبحانه وتعالى مستو على العرش، وإنما جاءت الإحالة العقلية عندكم بسبب المقدمات الباطلة الفاسدة التي جعلتموها سبيلاً للتوصل إلى هذه النتيجة، فلما كانت المقدمات -أو بعضها- مقدمات فاسدة غير صحيحة كانت النتائج تابعة لها في الفساد والبطلان، فيقال لهم: إن العقل لا يحيل ما ذكرتم أنه محال، وإنما الإحالة جاءت ناتجة عن مقدمات فاسدة إذا أبطلتموها ورفضتموها زالت الإحالة العقلية. لماذا منعوا الاستواء؟ قالوا: لأن الاستواء يقتضي التمثيل، فإذا قيل لهم: إن الاستواء أصلاً لا يقتضي التمثيل، فإثبات الاستواء لله عز وجل لا يقتضي المشابهة والتمثيل، فتكون المقدمة التي استدلوا بها على إبطال هذه الصفة منقوضة، فإذا نقضت المقدمة بطلت النتيجة التي توصلوا إليها وهي نفي الاستواء عنه سبحانه وتعالى. إذاً: أول هذه الوجوه التي يحتج بها عليهم: أن العقل لا يحيل ذلك.

نصوص الصفات لا تحتمل التأويل

نصوص الصفات لا تحتمل التأويل (الثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل) : النصوص الواردة في باب الأسماء والصفات كثيرة يعسر أن تصرف عن ظاهرها، فهي لا تحتمل التأويل ولا تحتمل الصرف، فالاستواء جاء في آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، ولم يأت في موضع واحد ما يدل على أنه مصروف عن ظاهره فكيف مع هذه الكثرة نقول إن النص يحتمل التأويل؟!

مشابهة المعطلة للباطنية

مشابهة المعطلة للباطنية (الثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار) لكثرة ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الإخبار عنها وفي ذكرها (كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان) يعني: كما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلوات الخمس وجاء بصيام شهر رمضان وأقررنا بذلك وأثبتناه ولم ندخل في ذلك متأولين، بل ننكر جميعاً على الباطنية الذين يؤولون هذه العبادات بتأويلات فاسدة، فكذلك حالكم في تأويلكم صفات الله عز وجل، فكما أنكم أنكرتم على أهل التأويل من القرامطة والباطنية الذين أولوا هذه العبادات بأمور باطلة لم يأت ما يؤيد ما ذهبوا إليه في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكذلك نقول في باب الأسماء والصفات، فالأمر كله من باب واحد. فإذا كنا لا نقبل تأويل القرامطة والباطنية في قولهم: إن الصلوات الخمس ليست على ظاهرها بل يراد بها كذا وكذا، وكذلك الحج لا يراد به ما فهم منه عوام المسلمون بل يراد به كذا وكذا، وكذلك نقول لكم في باب الأسماء والصفات: إنها على ظاهرها ويجب الإيمان بها كما أخبر بها الله سبحانه وتعالى وأخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتأويل الذي يحيلها، أي: التأويل الذي اعتمدتموه في إحالة الأسماء والصفات بمنزلة تأويل القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات، فالباب واحد ولا فرق، فكما أنكم تنكرون على أولئك تأويلاتهم الباطلة فيجب عليكم أن تنزعوا عن هذه التأويلات الفاسدة التي أولتم بها نصوص الصفات.

العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح

العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح قال: (الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص) . العقل الصريح السليم يوافق ما جاءت به النصوص الصحيحة الثابتة، وهذه قاعدة ذهبية تحل إشكالات كثيرة، فالعقل الصريح السليم لا يمكن أن يخالف نصاً صحيحاً ثابتاً؛ لأن الشريعة لم تأت بما تحيله العقول، بل جاءت بما تحار فيه العقول، وقد تعجز عن إدراكه إدراكاً تاماً، ولهذا فكل ما تبادر لك من النصوص الصحيحة أنه يخالف العقل الصريح فاعلم أنك إنما أتيت من قبل أمرين: الأمر الأول: فساد في العقل، بأن يكون العقل الذي اعتمدته -في مصادمة النصوص- عقلاً فاسداً، إما في أصله أو في مقدماته، أو أن يكون النص الوارد غير صحيح، فهذان تبريران أو تعليلان للمصادمة التي قد ترد بين العقل والنص. فإما أن يكون سبب ذلك فساداً في العقل أو ضعفاً في النصوص، فإذا اجتمع عقل صريح ونص صحيح فلا يمكن أن تكون معارضة، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تقريراً بيناً جلياً في كتابه المبارك: (درء تعارض العقل والنقل) ، وهو كتاب جليل فيه تقعيد لأصول أهل السنة والجماعة في باب أصول الدين والرد على المبتدعة وقواعدهم في هذا الباب. قال: (وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك التفصيل وإنما يعلمه مجملاً) وهذا ما ذكرناه قريباً من أن الشريعة قد تأتي بما تحار فيه العقول وتعجز عن إدراكه إدراكاً تاماً، لكن لا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول وتمنعه، (إلى غير ذلك من الوجوه) في إبطال طريقتهم. (على أن الأساطين من هؤلاء) أي: كبراء القوم وعظماؤهم ومنظروهم (معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية) ، وذلك أن العقل لا يدرك الغيبيات إدراكاً تاماً، فقد يدركها في الجملة لكن لا يدرك تفاصيل هذه المغيبات، (فإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه) يعني: على ما جاءت به الرسل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل, فالواجب الوقوف على ما جاءوا به من غير زيادة ولا نقصان، وأن من دخل في ذلك بعقله فقد ضل ضلالاً مبيناً.

ما اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من كمال بيان ونصح يبطل ما عليه المعطلة

ما اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من كمال بيان ونصح يبطل ما عليه المعطلة قال رحمه الله: [ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر. والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث، كما جمع بينهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] ، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27] . وقد بين الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده وكشف به مراده. ومعلوم للمؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره بذلك، وأنصح من غيره للأمة، وأفصح من غيره عبارة وبياناً، بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة. ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه، وإما من عجزه عن بيان علمه، وإما لعدم إرادته البيان. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين، والغاية في قدرته على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المراد، فعلم قطعاً أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم. فكل من ظن أن غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بهذا منه، أو أكمل بياناً منه، أو أحرص على هدى الخلق منه؛ فهو من الملحدين لا من المؤمنين] . هذا الوجه أيضاً يضاف إلى الوجوه السابقة في بيان إبطال ما اعتمده هؤلاء من تأويل أسماء الله عز وجل وصفاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الله عز وجل خبراً تاماً اجتمع فيه تمام العلم بالمخبر، وكمال المخبر من حيث البيان، وتمام إرادته للبيان، وهذه الصفات إذا توفرت في المخبر عن الشيء علم أن خبره من أصدق الأخبار؛ لاشتماله على العلم والقدرة على البيان وإرادة البيان. وقد سبق تقرير هذا في أول الرسالة، وأن التأويل غير مقبول في باب الأسماء والصفات؛ لأن الرسل إنما جاءت لبيان ما يجب لله سبحانه وتعالى وجاءت بذلك مفصلاً، وقد صدقوا فيما أخبروا وصدقوا من الله جل وعلا في خبرهم، فدل ذلك على سلامة ما جاءوا به وصحته، وأن كل من سلك غير طريقهم فقد ضل ضلالاً مبيناً، وزاغ عن الطريق الذي يوصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا الوجه واضح وسبق تقريره. والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [10]

شرح الفتوى الحموية [10] اختلفت آراء المنحرفين عن الصراط المستقيم في التعامل مع نصوص الوحي وتشعبت طرقهم، فانقسموا إلى ثلاث فرق رئيسة: أهل التخييل وهم أضل الناس، وأهل التأويل، وأهل التجهيل. أما أهل التخييل فكفرهم أظهر وأشهر، وأما أهل التأويل فقد خالفوا الرسل، وعجزوا عن كسر الفلاسفة، وقد بين الشيخ في هذه المادة ضلال أهل التخييل ومشابهة أهل التأويل لهم في تحريف نصوص التنزيل.

طوائف المنحرفين عن الصراط المستقيم

طوائف المنحرفين عن الصراط المستقيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب على سبيل الاستقامة. وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.

الكلام على القسم الأول من المنحرفين عن الصراط المستقيم وهم أهل التخييل

الكلام على القسم الأول من المنحرفين عن الصراط المستقيم وهم أهل التخييل فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم، ومتصوف، ومتفقه، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق؛ لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق ولا هدى به الخلق ولا أوضح به الحقائق. ثم هم على قسمين: منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية. ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق. ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر. وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة الإسماعيلية ونحوهم] . عاد الشيخ رحمه الله -بعد كلامه السابق- إلى تصنيف الطوائف المنحرفة في باب أسماء الله وصفاته أو في باب الإخبار عنه سبحانه وتعالى، وضم إليه الانحراف في باب ما أخبر به سبحانه وتعالى مما يقع في اليوم الآخر، فقال مبيناً منهج السلف: (والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب) أي: في باب ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى على سبيل الاستقامة، من غير غلو ولا تفريط. ثم قال: (وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف في الجملة: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل) ثم شرع رحمه الله في الكلام على كل طائفة على سبيل الإجمال؛ لأن هذه القسمة التي ذكرها الشيخ رحمه الله هي قسمة عامة تندرج فيها أكثر من فرقة، فمثلا أهل التأويل يدخل فيهم الأشاعرة، والكلابية، ويدخل فيهم المعتزلة، ويدخل فيهم الجهمية، ويدخل فيهم غلاة الجهمية أيضاً. وكذلك أهل التخييل وأهل التجهيل مراتب، فهو يتكلم عن أصول هذه البدع، ويذكر الجامع في كل بدعة.

قول أهل التخييل فيما جاء به الرسل من الأخبار

قول أهل التخييل فيما جاء به الرسل من الأخبار فذكر أولاً: أهل التخييل فقال: (فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه) . المتفلسفة هم الذين اشتغلوا بالفلسفة وما جاء عن اليونان، وما ورثوه عن أرسطو وغيره من الضلال. (ومن سلك سبيلهم من متكلم) يعني: ولو لم يكن مصنفاً منهم إلا أنه سلك سبيلهم في بعض ما ذهبوا إليه (ومتصوف ومتفقه) . ثم بين ما يقوله المتفلسفة فقال: (فإنهم يقولون: إن ما ذكر الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور) . تخييل للحقائق، أي: تصوير وتكييف لأمر لا واقع له، فهم يخيلون حقائق لا واقع لها لينتفع بهذا التخييل الجمهور، وهم عموم الناس، (لا أنه بين به الحق) يعني: لا أنه بين بما جاء به من الإخبار عن الله عز وجل أو الإخبار عن اليوم الآخر بالحق المبين، إنما جاء بأمور تخييلية لا واقع لها، لا أنه بين به الحق، (ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق) .

أقسام أهل التخييل في موقفهم من علم الرسل بما أخبروا به

أقسام أهل التخييل في موقفهم من علم الرسل بما أخبروا به ثم هؤلاء الضلال المكذبون لله ورسوله على قسمين: (منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من المتفلسفة الإلهية من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله وباليوم الآخر من المرسلين) ، ومن الكفر المبين أن يُجعل هؤلاء الضلال أعلم بالله من الرسل الصادقين المصدقين، (وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية) ، قال: (باطنية الشيعة وباطنية الصوفية) ؛ فالباطنية: منها ما يوجد عند الشيعة ومنها ما يوجد عند الصوفية ومنها ما يوجد عند غيرهم. فمن باطنية الشيعة: الإسماعيلية الذين يقولون إن ما أخبر الله سبحانه وتعالى به إنما هو تخييل لا حقيقة له، فلا بعث ولا نشور ولا صحة لما ذكر الرسل عن الله عز وجل من الأسماء والصفات وغير ذلك من الأقوال الباطلة. وباطنية الصوفية: كـ ابن عربي والحلاج وغيرهم من الذين ضلوا واعتقدوا الكذب من الرسل فيما أخبروا، وأنهم يتلقون عن الله عز وجل، وأن ما تخبر به الرسل ليس على الحقيقة إنما هو لأجل نفع الناس. قال: (ومنهم من يقول) وهذا القسم الثاني: (بل الرسول علمها) يعني: علم حقائق ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه أو أخبر به سبحانه وتعالى عما يكون في اليوم الآخر، (لكن لم يبينها وإنما تكلم بما يناقضها) وهذا من أعظم الافتراء والكذب على الرسل، وهذه بدعة مغلظة، وهي أشد من الأولى؛ لأن الأولى فيها تهمة الأنبياء بعدم العلم، والثانية فيها تهمتهم بالعلم والتضليل، وهذا هو سبيل المغضوب عليهم الذين علموا وكتموا ولم يعملوا بما علموا، وأما القسم الأول فهو سبيل الضالين الذين لم يعلموا. والأنبياء منزهون عن هذين الطريقين، فطريقهم تام العلم تام العمل؛ ولذلك شرع الله لأهل الإيمان أن يسألوه سبحانه وتعالى أن يهديهم صراطه المستقيم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، وهم الرسل والأنبياء والصالحون والشهداء، ولتوضيح هذا السبيل استثنى طريقين، فالمغضوب عليهم: هم الذين علموا ولم يعملوا، والضالون: هم الذين عملوا بلا علم، فالفلاسفة جعلوا الأنبياء والرسل إما من المغضوب عليهم أو من الضالين، وهذا فيه أعظم التكذيب لهم والفرية عليهم، والتنقص لله جل وعلا الذي أقر هؤلاء وأيدهم ونصرهم.

تعليل أهل التخييل ما زعموه من كذب الأنبياء أنه للمصلحة

تعليل أهل التخييل ما زعموه من كذب الأنبياء أنه للمصلحة ثم قال: (وأراد من الخلق فهم ما يناقضها) أي: الرسول، (لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق) وأي مصلحة يزعمون؟! إنما هي خيالات وشبه! قال: (ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل) أي مع أنه لن يكون وأنه كذب، (ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل، قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق) هذا بيان للمصلحة التي زعموها (لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد) ، فلو جاءت الرسل تدعو إلى الله وتبين للناس حقائق الأمور على ما هي عليه دون هذه الكذبات ودون هذه الافتراءات التي زعموها؛ لما صدقهم أحد ولما تبعهم أحد، فكذب الرسل في الإخبار بأن الله يبعث الناس، وأن أهل الجنة يتنعمون بالأكل والشرب وغير ذلك؛ إنما كان لمصلحة كبرى، وهي أن ينقاد الناس إلى الخير وينصرفوا عن الشر. قال: (فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر) يعني: فيما يتعلق بالعقائد. (وأما الأعمال) أي: وأما ما جاءت به الرسل من الأعمال: كالأمر بالصلاة، والأمر بالزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من العبادات، (فمنهم من يقرها) ويثبتها على ما جاءت (ومنهم من يجريها هذا المجرى) أي: مجرى الأمور الخبرية الاعتقادية فيقول فيها: إن الرسل قد ضللوا، وإنما أمروا بهذا لمصلحة العباد، وإلا فإن المقصود بالصلاة ليست الصلاة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، إنما هي أمور باطنة لا يعلمها إلا الخواص! وهذا من أعظم النقض والكذب على الشريعة. قوله: (ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، يؤمر بها العوام) ، أي: أما الخواص الذين يفهمون معنى هذه العبادات على حقيقتها، فيفهمون معنى الحج ومعنى الصيام ومعنى الزكاة ومعنى الصلاة الحقيقي، فلا حاجة إلى أن يصلوا ولا أن يحجوا ولا أن يصوموا ولا أن يزكوا الزكاة التي فرضت على العامة. ثم قال: (ويؤمر بها العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة: الإسماعيلية ونحوهم) وهذه الطريق مستنكرة مكذبة مكروهة، ظاهرة البطلان عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ولذلك لم يطل الشيخ رحمه الله في نقض هذه الطريق وإنما اكتفى بذكر طريقتهم دون النقض لها؛ لأنها بينة العوار لا تلتبس على من في قلبه إيمان بالله واليوم الآخر.

الكلام على القسم الثاني من المنحرفين عن الصراط المستقيم وهم أهل التأويل

الكلام على القسم الثاني من المنحرفين عن الصراط المستقيم وهم أهل التأويل ثم انتقل الشيخ رحمه الله إلى الطائفة الثانية فقال: [وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها! ومقصوده: امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته. وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك -يعني: مثبتة الصفات- والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء؛ إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً، بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا] .

صحة القصد وحفظ جناب الرسالة مع الضلال

صحة القصد وحفظ جناب الرسالة مع الضلال بين الشيخ رحمه الله قول أهل التأويل فقال عنهم: (فيقولون: إن النصوص الورادة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل) ، فهؤلاء حفظوا جانب الرسالة من التضليل والكذب، يقولون: إن الرسل لم تبين هذه المعاني بياناً واضحاً لا لقصد التضليل، ولكن لتعبد الناس بالوصول إلى هذا المقصود، ولذلك قال: (ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا) يعني بأنفسهم ويستقلوا بعقولهم في معرفة المراد (فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها) إلى ذلك الحق المراد. وفي هذا طعن في الرسل من جهة أنهم لم يبينوا للناس الهدى، وإنما أتوا بما زادهم التباساً واضطراباً؛ لأن العقول إذا كانت تستقل بمعرفة ما يجب لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات، فما الحاجة إلى الإتيان بالنصوص؟! فالإتيان بالنصوص التي ظواهرها يخالف المراد منها في الحقيقة زيادة عناء وتطويل وتعب وتضليل، ولا فائدة في هذا، وهذا فيه تنقص للرسل من هذه الجهة، فهم سلموا من اتهام الرسل بكونهم من المغضوب عليهم أو الضالين، لكنهم لم يسلموا من أن جعلوا الرسل سبباً في حيرة الناس وتناقضهم واضطرابهم واختلافهم والتباس الأمر عليهم. قال: (ومقصوده امتحانهم) أي: تعبدهم، (وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه ويعرفوا الحق من غير جهته) أي: من غير الجهة التي يجب أن يعرف منها، وهي جهة الرسل. (وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة) ؛ لأنهم من أضل الناس في باب الأسماء والصفات، وهم من أعتى أهل التأويل ضلالاً وأشدهم بعداً عن طريق أهل السنة والجماعة. ثم قال: (ومن دخل معهم في شيء من ذلك) ويريد من ذلك مثبتة الصفات الذين دخلوا معهم في بعض ما ذهبوا إليه من البدع، بإنكار بعض ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، أو بتأويله عن الحق.

مخالفة أهل التأويل للأنبياء وعجزهم عن الظهور على الفلاسفة

مخالفة أهل التأويل للأنبياء وعجزهم عن الظهور على الفلاسفة قال: (والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء) ؛ لأن شبهتهم مضللة تلتبس على الناس وقد تقبلها بعض العقول، بخلاف أصحاب التخييل الذين عوارهم وضلالهم، وبعدهم عن الحق وتكذيبهم للرسل ظاهر بين، (إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً، بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة) يعني: بالرد على أهل التخييل وغيرهم من أهل البدع المغلظة. قوله: (وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا) يعني: لا نصروا الإسلام الذي جاءت به الرسل؛ لأنهم اضطروا إلى مخالفة الرسل في بعض ما جاءوا به، (ولا للفلاسفة كسروا) أي: بينوا ضلال طريقهم؛ لأنهم أخذوا عنهم في جوانب كثيرة مما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى. ويبين عدم كسرهم للفلاسفة بقوله: [لكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات] فأهل التأويل أولوا نصوص الصفات وأثبتوا نصوص المعاد على ما جاءت دون تأويل، وأهل التخييل أولوا نصوص المعاد وأولوا نصوص الصفات، فاحتج أهل التخييل على أهل التأويل بقولهم: أنتم أولتم في الصفات فلماذا لا تؤولون في المعاد؟ فهم شاركوهم في بعض ضلالهم، فألزموهم بأن يطردوا القاعدة في جميع النصوص حتى يسلموا من التناقض؛ لأن التناقض دليل الفساد، وأي قول تجد فيه تناقضاً فهو دليل على فساده، فهؤلاء تناقضوا فأولوا شيئاً، وأثبتوا شيئاً فدل ذلك على فساد طريقهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [11]

شرح الفتوى الحموية [11] ألزم الملاحدة منكري الصفات أن ينكروا المعاد على قواعد مذهبهم، وهذا يدل على بطلان إنكار الصفات الثابتة، فإن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. ثم إن هناك فرقة شريرة تدعي على رسول الله وعلى جبريل الجهل بمعاني آيات الصفات، وتنسب ذلك إلى السلف، وقد بين الشيخ مخالفتها للسلف وجهالتها فيما تذهب إليه.

ألزام الملاحدة لمنكري الصفات بإنكار المعاد

ألزام الملاحدة لمنكري الصفات بإنكار المعاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها، فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟] . بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من ذكر الطائفتين، وبين أن أهل التأويل لم يأتوا بما يردوا به على أهل التخييل في ضلالهم، وإنما شاركوهم في بعض الضلال الذي سلط عليهم أهل التخييل فألزموهم إلزامات باطلة، فقال الشيخ رحمه الله: (لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات) أي: من التأويل، فلما أول أهل التأويل نصوص الصفات ألزمهم أولئك في نصوص المعاد ما فعلوه في نصوص الصفات. وبين رد أهل التأويل على هذا الإلزام فقال: (فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن السنة جاءت بإثبات الصفات) فإذا كانت السنة قد جاءت بإثبات الصفات، وجاءت بإثبات المعاد، وتبين لنا ولكم يا أهل التأويل فساد الشبهة التي جعلت أهل التخييل يؤولون نصوص المعاد، فكذلك الأمر في نصوص الصفات، فكما أن الشبهة التي اعتمدها أهل التخييل في تأويل نصوص المعاد باطلة، فكذلك الشبهة التي اعتمدتموها في تأويل نصوص الصفات. ثم أضاف أمراً آخر يبين أن الذين أولوا في الصفات وقعوا في خطأ أكبر من أولئك الذين أولوا في نصوص المعاد، من حيث إن نصوص المعاد تحتمل التأويل أكثر من نصوص الصفات، وبيان ذلك في قوله: (ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد) فالكتب الإلهية ذكرت نصوص الصفات أكثر وأعظم من ذكرها لنصوص المعاد، ومع ذلك لم يؤول أهل الكتاب في نصوص الصفات، فإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها ومجيء الرسل بها في جميع شرائعهم لم تقبل التأويل؛ فكذلك هي في هذه الشريعة لا تقبل التأويل، وتأويل من أول في نصوص المعاد أقرب من تأويل من أول في نصوص الصفات، أي: أقرب إلى الاحتمال، وإن كان الجميع باطلاً، لكن نحن نلزمهم على قاعدتهم في التأويل. ثم بين وجهاً آخر يبطل تأويل هؤلاء لنصوص الصفات فقال: (معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول، وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها) مع أنهم طلبوا إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال رسالته، وطلبوا تكذيبه صلى الله عليه وسلم بكل طريق ومن كل سبيل، ومع ذلك لم يؤولوا نصوص الصفات، وإنما تسلط تكذيبهم وإنكارهم على نصوص المعاد. قال: (فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) تبين من هذين الوجهين أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وما هما الوجهان؟ الوجه الأول: أن الشرائع جاءت بنصوص الصفات أكثر وأعظم من مجيئها بنصوص المعاد. الوجه الثاني: أن مشركي العرب وغيرهم لم ينكروا نصوص الصفات كما أنكروا نصوص المعاد. ثم قال: (فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به؟) يعني: ليس على الوجه الذي أخبر به، وإنما يؤول أو يعطل، أو يقال كما في البدعة الثالثة: إنه لا معنى له. (وما أخبر به في المعاد هو على ما أخبر به) فالواجب على هؤلاء أن يلتزموا في الصفات ما التزموه في نصوص المعاد، حتى تطرد قاعدتهم وتسلم من التناقض.

تصديق النبي لما ذكره أهل الكتاب من الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى

تصديق النبي لما ذكره أهل الكتاب من الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى قال رحمه الله: [وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما بدل وحرف لكان إنكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات ضحك تعجباً وتصديقاً لها، ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات على لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك؛ بل عابهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ، وقولهم: إنه استراح لما خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:8] ، والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن، فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان] . استمراراً في إلزامهم بطريقتهم قال الشيخ رحمه الله: (وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه) ومع ذلك لم يرد أنه ذمهم في نصوص الصفات إلا من حيث إنهم نسبوا إلى الله عز وجل النقص فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ، وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لما خلق السماوات والأرض استراح في اليوم السابع، أما ماعدا ذلك فإنه لم ينكر عليهم، فدل ذلك على أنه لم يقع في نصوص الصفات التي جاءت في كتب الأنبياء السابقين وفي التوراة خاصة تحريف، ولم يقع تبديل، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ما يذكرونه من الصفات التي توافق الحق، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات الثابتة حقاً له سبحانه وتعالى ضحك إقراراً لهم، وتعجباً من إثباتهم إياها، وتصديقاً لهم، وذلك كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبراً من أحبار يهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً منه، ثم قرأ قوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ) فأقره صلى الله عليه وسلم على هذا، فلما أقره على إثبات الصفات، ولم ينكر عليه ذلك، دل أن نصوص الصفات يجب أن تثبت دون تحريف ولا تعطيل، ودون تكييف ولا تمثيل.

أهل التجهيل (المفوضة) وهم القسم الثالث ممن انحرف عن الصراط المستقيم

أهل التجهيل (المفوضة) وهم القسم الثالث ممن انحرف عن الصراط المستقيم قال رحمه الله: [وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل، فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك. وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول تكلم بها ابتداء، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه] . وهذا القسم الثالث من الطوائف الضالة في باب العلم بالله وأسمائه وصفاته، فهم أهل التجهيل، وهم المفوضة الذين قالوا: إن نصوص الصفات لا يعقل معناها ولا يعلم، بل تقرأ دون علم لما تضمنته من المعاني، هؤلاء بين الشيخ أنهم: (كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف) وذلك أن هؤلاء ظنوا أن مذهب السلف هو التفويض، وهو الجهل بمعاني النصوص، وتعطيل النصوص عن معانيها، والألفاظ عن دلالاتها. ومستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه ما سيذكره الشيخ رحمه الله فيما يأتي، والمراد والمقصود في هذا بيان هذه الطائفة وماذا تقول.

إنكار المفوضة لمعاني آيات وأحاديث الصفات

إنكار المفوضة لمعاني آيات وأحاديث الصفات قال: (يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات) فنفوا معرفة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل البشر، وعن جبريل الذي هو أشرف الملائكة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ذلك، ولا جبريل يعرف ذلك فمن يعرفه؟ لا يعرفه أحد، فالواجب -إذاً- الوقوف على الألفاظ دون النظر إلى معانيها ولا إلى دلالاتها. قال: (ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك) ؛ لأن السابقين الأولين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الذي جاء به جبريل من رب العالمين، فإذا كان جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفان ذلك، فالسابقون المتلقون عن الكتاب والسنة لم يعرفوا ذلك. ثم قال: (وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول تكلم بها ابتداء) يعني: تكلم بها ابتداء في وصف الله سبحانه وتعالى، فذكر في الحديث ما لم يذكره القرآن، وذكر في السنة من صفات الله عز وجل ما لم يأت به القرآن، هذا معنى قوله: (تكلم بها ابتداء) ، فعلى قولهم يكون قد تكلم بكلام لا يعرف معناه، ولا يعرف دلالاته. وإنما أضاف هذا ليبين أنه إذا ساغ أن نقول: إنه لم يعرف ما نقله جبريل إليه، فكيف يسوغ أن نقول: إنه تكلم بكلام في وصف الله عز وجل ابتداءًَ ثم لا يعرف معناه، فهذا أغلظ في التهمة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في المرتبة الأولى يسوغ على قولهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل وبلغ ما لم يعلم معناه، لكن كيف يبتدئ كلاماً في وصف الله عز وجل، وهو لا يعقل هذه المعاني التي يتكلم بها؟ وهذا فيه أعظم الفرية على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصف شيخ الإسلام رحمه الله أهل التجهيل بأنهم من شر أهل البدع؛ لأن مقتضى بدعتهم أن الله خاطب الناس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في حق الله عز وجل، بما لا يعقل معناه ولا يفهم ولا يعرف، وأن الكتاب لم يأت هدىً ولا بياناً ولا موعظةً ولا إرشاداً للناس، إنما جاء لتضليلهم والتضييق عليهم، ومخاطبتهم وتكليفهم بما لا يعقلون ولا يعرفون.

شبهة المفوضة

شبهة المفوضة ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك دليل هؤلاء فيما ذهبوا إليه فقال: [وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، فإنه وقف أكثر السلف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ، وهو وقف صحيح، لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه؛ وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك] أشار رحمه الله في هذا المقطع إلى أصل ضلال هؤلاء، فهؤلاء لما لم تعقل عقولهم النصوص، واعتقدوا منها خلاف الحق، وظنوا أن فيها نسبة الباطل والنقص لله عز وجل؛ قالوا: إن النصوص لا يعلم معناها إلا الله، واستدلوا لهذا بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران:7] . والآية في سورة آل عمران قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وقد اختلف السلف رحمهم الله في الوقف في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ، فبعضهم وقف على قوله: (إِلا اللَّه) ، وهو قول جمهور أهل العلم، وقال آخرون: الوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، والقول الثاني هو قول جماعة من السلف، وكلا القولين في الوقف حق كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، لكن الذي أورد الإشكال عند هؤلاء هو الاشتراك في معنى التأويل، فمن رأى أن الوقوف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فإنه يحمل نفي العلم في هذه الآية على ما استأثر الله بعلمه من علم حقائق الأمور، وما تئول إليه وترجع، وهذا لا شك أنه لا يعلمه إلا الله، فحقائق الأمور وما تئول إليه الأخبار، هذا لا يعلمه إلا الله. فمثلاً: أخبر الله جل وعلا عن يوم القيامة بأخبار كثيرة، ونحن نعلم ما أخبر به سبحانه وتعالى، لكن حقيقة ما أخبر به واقعاً هل نعلمه؟ لا نعلمه، الله سبحانه وتعالى ذكر نعيم أهل الجنة في كتابه من الأكل والشرب والنكاح والنظر إليه وغير ذلك، لكن حقيقة هذا لا نعلمه؛ ولذلك جاء في القرآن قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن} [السجدة:17] أي: لا تعلمه علماً واقعاً وحقيقةً وتاماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي: (أعددت لعبادي مالا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فالعلم المنفي على قول جمهور أهل العلم هو علم حقائق المغيبات وكنهها، سواء في الأخبار التي تتعلق بالله عز وجل، أو في الأخبار التي تتعلق باليوم الآخر، وعلى هذا يكون الوقف صحيحاً.

شرح الفتوى الحموية [12]

شرح الفتوى الحموية [12] التأويل له معانٍ كثيرة، وقد أخطأ المفوضة في مذهبهم في الصفات بسبب عدم تفريقهم بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في القرآن هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين.

معنى التأويل ووجه ضلال أهل التجهيل

معنى التأويل ووجه ضلال أهل التجهيل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء؛ وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه المتأولون. ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم. والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام -سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه- وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ، كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق. والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يئول الكلام إليها وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك؛ هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] ، وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله. وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول، فالاستواء معلوم يعلم معناه، ويفسر ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى] . قد تقدم الكلام على أول هذا المقطع المترابط في بيان معنى التأويل، والذي ساق الشيخ رحمه الله إلى ذكر هذا هو أن الذين أولوا في صفات الله، والذين قالوا: إن صفات الله لا يعلم معناها؛ اعتمدوا واستدلوا على باطلهم بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فذكر الشيخ رحمه الله الخلاف في الوقف في هذه الآية، وأن كلا القولين في الآية حق، ولكن المعنى في كل قراءة يختلف عن القراءة الأخرى، فقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إذا وقف على هذا فيكون معناه: لا يعلم حقيقة ما يئول إليه إلا الله سبحانه وتعالى، كما ذكره الشيخ رحمه الله في بيان هذا المعنى، وسيأتي المزيد من التفصيل في المقطع القادم. وأما الوقف الثاني: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] فعلى هذا الوقف يكون معنى الآية: ما يعلمه إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه، وتميزوا عن غيرهم برسوخهم في العلم، فعلموا ما جهله غيرهم، فيكون هذا من المتشابه الإضافي، يعني: المتشابه النسبي الذي يعلمه أناس ولا يعلمه آخرون، فيعلمه الراسخون في العلم ولا يعلمه غيرهم.

التأويل في اصطلاح المتأخرين

التأويل في اصطلاح المتأخرين ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن التأويل في كلام السلف يراد به ثلاثة معان: الأول: ما ذكره بقوله: (فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك) ، هذا التأويل هو الذي استعمله أكثر المتأخرين، والأصل في الألفاظ أن تجرى على ظاهرها، وأن تؤخذ دلالاتها من ألفاظها، والأصل إعمال اللفظ على ظاهره والمتبادر منه، لكن إذا جاء دليل يدل على أن ظاهر اللفظ غير مراد، ففي هذه الحالة يصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى المعنى المرجوح الذي يحتمله اللفظ لهذه القرينة أو لهذا الدليل الصارف، لكن الأصل في اللفظ أن يعمل على ظاهره، وألا يصرف عن ظاهره إلى معنى مرجوح يحتمله النص إلا بدليل. يقول: (فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء) يعني: المعنى المفهوم من ظاهر اللفظ لا يكون تأويلاً، فإذا نظرت إلى قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، فظاهر هذه الآية يدل على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وهذا تفسير وليس تأويلاً على كلام هؤلاء؛ لأنهم جعلوا التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل، فلا يكون على قول هؤلاء تفسير القرآن تأويلاً؛ لأن التأويل عندهم هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر أو الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. (وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك) أي: في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بمعنى: أنهم هم الذين يعلمون أن المراد باللفظ غير ظاهره الراجح، وأن المراد ظاهره المرجوح لدليل يقترن به، ولا يفهم هذه الأدلة ولا يعرفها إلا الراسخون في العلم. يعني: يظن أهل التجهيل أن مراد الله تعالى في قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} أي: لا يعلم معناه المرجوح إلا الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك يقفون عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ؛ لأنهم يقولون: لا يعلم تأويل كلام الله إلا هو سبحانه وتعالى ولا يعلمه أحد. قال: (وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه المتأولون) فنفوا العلم عن المتأولين، وأثبتوه لله سبحانه وتعالى، وهذا على قراءة الوقف. ثم قال: (ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله) أي أنهم يقولون: لها معنى وتجرى على ظاهرها، لكن لا يعلم معناها إلا الله، فهؤلاء وقعوا في التناقض، حيث يقولون: إن لها معنى وهو غير معلوم، فعندهم أنه لا يدرى ولا يعلم معنى كلام الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء وقعوا في التناقض حيث أثبتوا لها معنى ونفوا علم هذا المعنى، مع أن الكلام كلام عربي مبين، ومقتضى كونه مبيناً أن يفهمه كل من تكلم بهذا اللسان؛ ولذلك قال: (وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم) ومراده بهذا الكلام أهل التفويض وهم أهل التجهيل. الآن عرفنا المعنى الأول الذي يقصد به التأويل، وهو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح لدليل يقترن به.

التأويل في اصطلاح المفسرين

التأويل في اصطلاح المفسرين المعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام سواء وافق ظاهره أم لم يوافق، قال: (وهذا هو معنى التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم) يعني إذا قال المفسرون: تأويل هذه الآية، فمعنى كلامهم تفسيرها، وليس مرادهم بذلك صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح يحتمله النص لدليل. قال: (وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ) ، فالراسخون في العلم يعلمون تأويله، ولكن العطف هنا لا يقتضي المشاركة من كل وجه في العلم، بل علم الله سبحانه وتعالى تام لا يلحقه نقص، وأما علم الراسخون في العلم فهو علم قاصر، يشتمل على علم المعاني دون علم الحقائق الذي يشير إليه في المعنى الثالث. يقول: (كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق) مقصوده كلا القولين في الوقف: فمن وقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)) أصاب ومن وقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أصاب، لكن الأول هو قول الجمهور وقول أكثر السلف، والثاني قال به بعضهم. قال الشيخ: (وكلا القولين حق باعتبار) يعني: بالنظر إلى جانب (كما بسطناه في موضع آخر؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا) يعني: نقل عنه الوقف على لفظ الجلالة، ونقل عنه الوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وكلاهما حق، فما المعنى الصحيح في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) ؟ العلم المثبت لله وحده دون غيره هو علم الأمور على حقائقها، وكيفيتها، وما تئول إليه وترجع، وعلى القول الآخر في الوقف يكون معنى العلم التفسير، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في دعائه له (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) أي: علمه التفسير.

التأويل في لغة القرآن الكريم

التأويل في لغة القرآن الكريم قال: (والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يئول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها) وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أي: حقائق هذه المخبرات من الأكل والشرب والنعيم في الجنة ورؤية الله سبحانه وتعالى، وجميع ما أخبر به الله سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. قال: (لا ما يتصور معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان) فهذا شيء آخر. قال: (وهذا هو التأويل في لغة القرآن) أي: التأويل في لغة القرآن هو ما يئول إليه الأمر ويرجع، يعني: حقيقة ما يئول إليه الكلام، واستدل لذلك بقوله: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} [يوسف:100] ، يعني: هذا حقيقة ما رأيت، ومآل ما رأيت، وهذا لما سجد له أبوه وإخوته قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] ، وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] يعني: يوم يأتي حقيقة ما وعدوا به ويقع ما أخبروا به {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] ؛ لأنه تطابق الخبر مع المخبر فقالوا: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] أي: أحسن عاقبة. ثم قال: (وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله) . قال: (وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله سبحانه وتعالى بعلمها) ، تأويل الصفات يعني حقيقتها، وأما تفسيرها ومعرفة معانيها الظاهرة فهذا يعرفه كل صاحب لسان. (وهو الكيف المجهول، فالاستواء معلوم يعلم معناه، ويفسر ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله) ، وبهذا يتبين المعنى الصواب على كلا الوقفين. نلخص ما مضى: التأويل له ثلاث معان: المعنى الأول: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل. المعنى الثاني: تفسير الكلام وبيان معناه. المعنى الثالث: حقيقة ما يئول إليه معنى الكلام. وهذا الاصطلاح الأخير هو لغة القرآن.

تفسير القرآن على أربعة أوجه

تفسير القرآن على أربعة أوجه قال رحمه الله: [وقد روي عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، فمن ادعى علمه فهو كاذب، وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه، كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]] . فالقرآن له معان تفهم وتدرك؛ ولذا عاتب الله عز وجل من لا يتدبر القرآن في قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فلما كان له معان ظاهرة تدرك وينتفع بها أنكر الله عز وجل على من ترك التدبر، والقرآن إنما نزل ليتدبر ويتأمل فيه وينظر {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29] ، فالمقصود من إنزال القرآن التدبر، فمن عطل القرآن عن هذا فقد عطله عما أنزل لأجله.

الحث على تدبر القرآن ومعرفة معانيه ومنها صفات الله سبحانه

الحث على تدبر القرآن ومعرفة معانيه ومنها صفات الله سبحانه قال رحمه الله: [وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] فأمر بتدبر القرآن لا بتدبر بعضه. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأسأله عنها. وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها. وقال مسروق: ما سئل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه. وهذا باب واسع قد بسط في موضعه. والمقصود هنا: التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى ولا بياناً للناس. ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوماً عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا الملاحدة من وجوه متعددة] . الذين ينكرون العقليات هم أهل التجهيل، فهم لا يعتمدون النصوص والسمع في إثبات ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنهم يقولون: هي نصوص لا معاني لها، ولا يعتمدون العقل؛ لأن العقل ليس بحجة في النظر في باب الغيبيات، فهؤلاء أغلقوا الباب بالكلية، فهم ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، يعني: لا تبعاً للنص ولا استقلالاً، بخلاف أهل التأويل الذين اعتمدوا العقليات، وجعلوها حججاً قاطعة تحكم على النصوص، فكلا الفريقين وقع في ضلال، أولئك عطلوا النصوص واعتمدوا العقل، وهؤلاء عطلوا النصوص وعطلوا العقول. والصواب هو ما عليه أهل السنة والجماعة من النظر في النصوص واعتمادها والرجوع إليها، وجعل العقل تابعاً لها في الإثبات، وفي إدراك معانيها، فهم لم يعطلوا العقول ولم يعطلوا النصوص. قال: [وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة، وسائر أصناف الملاحدة] : أهل التأويل جهّلوا النبي صلى الله عليه وسلم والسلف في آيات الصفات وغيرها، وهؤلاء أيضاً جهلوا النبي صلى الله عليه وسلم والسلف في آيات الصفات وفي جميع السمعيات والغيبيات، فهم متفقون على ذم صدر هذه الأمة.

شرح الفتوى الحموية [13]

شرح الفتوى الحموية [13] مذهب السلف في صفات الله إثباتها من غير تمثيل ولا تكييف، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وقد تواتر النقل عنهم بذلك، وفي معرفة أقوالهم في الصفات زيادة طمأنينة ويقين على صحة معتقد أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وقد نقل الشيخ ابن تيمية عنهم ما يبرهن على ذلك.

نقل مذهب السلف في الصفات والرد على المفوضة والمؤولة

نقل مذهب السلف في الصفات والرد على المفوضة والمؤولة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: شرع الشيخ رحمه الله في ذكر النقول الكثيرة المستفيضة التي تدل دلالة لا مرية فيها على أن أهل السنة والجماعة كانوا يثبتون الأسماء والصفات، وسائر ما يتعلق بالله عز وجل من العلوم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنهم فهموا وعقلوا معاني الكتاب والسنة، فقال رحمه الله تعالى: [ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم إلى غير ذلك من الوجوه، بحسب ما يحتمله هذا الموضع؛ ما يعلم به مذهبهم. روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته. وقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا. وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية: قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة؛ وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما. وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه. ومنها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج. فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى؛ إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضاً: فقولهم أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معنى، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول] .

شرح كلام ربيعة ومالك

شرح كلام ربيعة ومالك في هذا الفصل ذكر الشيخ رحمه الله نقولاً عن السلف يستبين بها لكل من نظر فيها مذهبهم وطريقهم في باب الأسماء والصفات، وإنما احتاج إلى هذه النقول، وإلى ما سيأتي من النقول؛ لقطع كل ريبة أو شك في أن السلف رحمهم الله أثبتوا الصفات على الوجه الذي جاء في الكتاب وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. وفي ثنايا نقله نقل قول ربيعة ومالك في الاستواء، وهو أن الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب. ونقل أيضاً قول بعض السلف في الصفات: أمروها كما جاءت، فلما كان في هذين القولين متمسك لبعض الذين قالوا: إن السلف لم يثبتوا الصفات، وإنما مذهبهم التفويض، استدل بهذا القول على أن السلف ليسوا من أهل التجهيل الذين يقولون: إن نصوص الصفات لا معنى لها. فقال رحمه الله: (فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف) فلا تعارض بينهما، يقول: (فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة) فهذه الأقوال إنما نفى فيها السلف رحمهم الله علم الكيفية؛ لأن العلم بكيفية الشيء فرع عن العلم به، فلما كان العلم بالذات ممتنعاً فكذلك العلم بكيفية الصفات، إذ إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.

الرد على المفوضة من كلام السلف

الرد على المفوضة من كلام السلف (ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد) أي: بألفاظ نصوص الصفات من غير فهم لمعاني هذه النصوص وهذه الألفاظ على ما يليق بالله؛ لما قالوا: الاستواء غير مجهول؛ لأن مقتضى قولهم: إن الاستواء غير مجهول أنهم علموا المراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وآيات الاستواء الأخرى، فلما قالوا: غير مجهول؛ دل أنهم يثبتون معنى هذه الألفاظ، وأن هذه الألفاظ مرادة المعاني. ثم قال: (ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً) يعني: على قول من قال بأنها نصوص لا معاني لها، (يكون الاستواء غير معلوم، بل مجهول بمنزلة حروف المعجم) وذلك كما لو أنك صففت ألفاً وباءً وجيماً ودالاً، أو أنك نظرت في أفرادها ولا معنى لها، فالألف إذا جاءت مجردة عن الكلمة لم يعرف لها معنى، إنما تعرف بما انضافت إليه مما تتركب منه الألفاظ التي تدل على المعاني. قال: (وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ المعنى) ، وهذا وجه آخر من الأوجه التي تدل على أن هذه العبارات تدل على أن السلف رحمهم الله أثبتوا الصفات، (فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إلا إذا كان للفظ معنى) وإلا لما احتجنا إلى أن ننفي الكيفية، قال: (إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات) .

وجه آخر للرد على المفوضة والمؤولة

وجه آخر للرد على المفوضة والمؤولة ثم قال في وجه آخر: (وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف) ؛ لأنها لا حقيقة لها حتى يحتاج أن ينفي الكيف، فإذا كانت الصفات غير مرادة وهي منفية، إما نفياً جزئياً أو نفياً مطلقاً فذلك لا يحتاج إلى أن يقيد ما جاء في الكتاب والسنة بأن يقال: أمروها كما جاءت بلا كيف، ولا احتاج أن يقول: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول؛ لأن مقتضى قوله هذا أن يكون للصفات معان، وأنها ثابتة. قال: (فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف) ؛ لأنه لا يثبت أصلاً استواءه على العرش حتى يحتاج إلى نفي التكييف، فنفي التكييف فرع عن إثبات الصفة، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف، فرد الشيخ بهذا على المؤولة وعلى المفوضة.

إمرار الصفات يقتضي إبقاء دلالتها على الظاهر

إمرار الصفات يقتضي إبقاء دلالتها على الظاهر قال: (وأيضاً: فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه) وإبقاء دلالتها على ما هي عليه يقتضي إثبات الصفات؛ لأن دلالة الألفاظ تدل على أن لله سبحانه وتعالى صفات ثابتة. قال: (فإنها جاءت ألفاظ دالة على معانٍ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقول: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد) ، وهذا لم ينقل عن أحدهم مع كثرة النقل عنهم في هذا الباب، فدل ذلك على أن مراد الألفاظ مقصود، وأن اعتقادها هو الذي كان عليه سلف الأمة. أو لقالوا: (أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول) ، وهذه أدلة قوية بينة في إبطال ما ادعاه هؤلاء من أن السلف رحمهم الله لم يثبتوا لله الصفات اللائقة به التي جاءت في الكتاب والسنة.

قول ابن الماجشون في صفات الله

قول ابن الماجشون في صفات الله قال رحمه الله: [وروى الأثرم في السنة وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب وقد سئل عما جحدت به الجهمية: أما بعد: فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة] . هذا كلام سليم وصحيح، فالمرء كذلك مهما بلغ عمله بالله وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله جل وعلا. قال: [وإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال (كيف) لمن لم يكن مرة ثم كان. فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغراً يجول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر؛ لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم، وسيد السادة وربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]] . هذا من أعظم الأدلة على أن العقل لا يدرك صفات الله عز وجل ولا يحيط بها، وإذا كان المخلوق لا يدرك حقيقة بعض المخلوقات على صغرها وإحاطته بها، فكيف بالله رب العالمين؟ قال: [اعرف -رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟] . هذا الكلام مهم جداً، وينبغي الاهتمام به، وهو أن دراسة الأسماء والصفات والنظر فيها إنما هو ليثمر العبادة، فالرسل جاءت معرّفة بالله عز وجل تمام التعريف؛ حتى يقوم الناس بالعبادة حق القيام، ولذلك قال فيمن طلب صفات لم يصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه: (إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته؟) يعني: هل بحثك في هذا يزيدك طاعة له أو تنزجر به عن شيء من معصيته؟ وهذا يفيد أن معرفة الأسماء والصفات إنما هو لأجل تحقيق كمال العبودية لله سبحانه وتعالى. قال: [فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً فقد {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] ، فصار يستدل -بزعمه- على جحد ما وصف الرب وما سمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا] . هذه من اللوازم التي يقولها المتكلمون: إذا أثبتنا أنه سميع أو أنه بصير أو أثبتنا الصفات؛ فهذا يقتضي الحدوث، ويقتضي أن تحله الحوادث، وما حلته الحوادث فهو حادث، وما إلى ذلك من اللوازم الباطلة، والخيالات الفاسدة. قال: [فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه] . البين هو ما أثبته الله لنفسه في كتابه، والخفي هو هذه الخيالات والمقدمات الفاسدة التي تنقض من أصلها، فعموا عن البين يعني: عما ذكره الله في كتابه ذكراً بيناً بالخفي الذي استندوا فيه إلى عقولهم الفاسدة. [فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت عما لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]] . جحد أن يراه سبحانه وتعالى أهل الإيمان، وهذا عليه أكثر أهل الكلام. [فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد -والله- أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] ، قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينضرون. إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحداً. وقال المسلمون: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك) . ] .

شرح الفتوى الحموية [14]

شرح الفتوى الحموية [14] العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حد لك، ومن ذلك إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، أو أثبته له أعلم الخلق به، رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه هي عقيدة السلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم، وفي هذه المادة من النقل عن أئمتهم ما يدلك على ذلك.

حث ابن الماجشون على اتباع الكتاب والسنة في الإخبار عن الله

حث ابن الماجشون على اتباع الكتاب والسنة في الإخبار عن الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فقال ابن الماجشون رحمه الله تعالى: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض) ، وقال لـ ثابت بن قيس: (لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة) وقال فيما بلغنا: (إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم، قال لا نعدم من رب يضحك خيراً) ، إلى أشباه هذا مما لا نحصيه. وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [طه:75] ، وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، فوالله! ما دلهم على عظم ما يوصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف] . هذا تكملة لما سبق من كلام ابن الماجشون رحمه الله، ومراد الشيخ من نقل هذا الكلام عنه رحمه الله أن السلف يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صفات ذاتية أو فعلية أو خبرية. فقوله: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه) هذا فيه إثبات صفة خبرية له سبحانه وتعالى. وقوله: (لقد ضحك الله مما فعلت) هذا فيه إثبات صفة فعلية من صفات الله سبحانه وتعالى. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا فيه إثبات الصفات الذاتية له سبحانه وتعالى. وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه إثبات الصفة الخبرية، وكذا {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كل هذا فيه إثبات الصفات الخبرية له سبحانه وتعالى. ثم قال ابن الماجشون رحمه الله: (فوالله ما دلهم على عظم ما يوصفه من نفسه) أي: في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم) أي: مما جعله الله فيهم عندهم، فما دلهم على عظمة الله سبحانه وتعالى وأنه كبير عظيم جل وعلا إلا صغر ما عندهم، ولكن قوله: (إلا صغر نظيرها) لا يعني المماثلة التامة، إنما المقصود بالنظير هنا ما فيه مشاركة ومشابهة من وجه، أما المماثلة فلا، فيد الله سبحانه وتعالى ليست كيد المخلوقين، بل يده سبحانه وتعالى على ما تليق به، ويد المخلوقين على ما يليق بهم، فلا مماثلة في صفات الله سبحانه وتعالى، وإثبات هذه الصفات له لا يقتضي ما يزعمونه من التشبيه، ولا يقتضي ما يزعمونه من التمثيل والتبعيض له سبحانه وتعالى، فهو كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . ثم قال: (إن ذلك الذي ألقى في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه) فما وصف به نفسه من الصفات كالسمع والبصر والعين واليد والرجل والقبضة وما إلى ذلك، تسمى كما جاءت ولا تؤول ولا تصرف عن ظاهرها، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، يعني: لا نطلب أكثر مما جاءت به النصوص، (لا هذا ولا هذا، ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف) ، وهذا فيه غاية العدل، وتمام الامتثال لما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، نقف حيث وقف، ونقول كما قال دون زيادة ولا نقصان. وليكن على بالنا أن الغرض من سياق هذه النقول هو بيان مذهب السلف، وأنهم يثبتون لله عز وجل الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأما أفراد ما ذكروا من الصفات فسيأتي لبعضها ذكر فيما نستقبل، وبعضها يكتفي الشيخ رحمه الله بما نقله عن السلف فيها.

العصمة في الدين بالوقوف والانتهاء عندما حده الله ورسوله

العصمة في الدين بالوقوف والانتهاء عندما حده الله ورسوله قال رحمه الله: [اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة؛ فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً؛ ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً، وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك؛ فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصفه الواصفون مما لم يصف منها. فقد -والله- عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر؛ يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما بلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه. والراسخون في العلم، الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمي منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقاً؛ لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] وهب الله لنا ولكم حكماً، وألحقنا بالصالحين] . هذا الكلام الجليل، العظيم الفائدة، فيه خير كبير، وفيه قواعد كثيرة، وفيه صد ورد لمذهب الضالين الذين يدعون أن طريقهم يوصل إلى معرفة الله ومعرفة رسوله. قال رحمه الله: (اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك) يعني: تقف عند ما وقفت النصوص، لا تزيد على ما جاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأمر، لا في باب الغيبيات ولا في غيرها. قال: (ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر) ثم قال: (فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة؛ فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً) وهذا مهم وله شأن، وهو أن تعرف أن ما جاء في الكتاب والسنة لا يمكن أن يلزم عليه لوازم باطلة، فمن ادعى فيما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله لوازم فإنما أتي من قبل فهمه ورأيه وعقله، وأما ما في الكتاب والسنة فلا تلزم عليه اللوازم الباطلة بحال؛ ولذلك قال: (فلا تخافن في ذكره وإثباته وذكرك من ربك ما وصف من نفسه عيباً) أي: نقصاً، وذلك كما يقولون: إنه يلزم من إثبات الصفة كذا، ويلزم من إثبات كذا كذا، وهذا كله خيالات، ولا تدل عليه النصوص ولا يلزمها، قال: (ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً) . قال: (وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك، فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك) وأما منعه أن يتكلف ذلك بالعقل فقد تقدم بيان ذلك، وهو أن العقل لا مجال له في أمور الغيبيات، ودللنا على ذلك وذكرناه. قال: (ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها) ؛ لأن الباب واحد، وهو أن الزيادة كالنقص في دين الله، فلذلك جعل الزيادة وتكلف ما لم يَثبُت كالنقص مما ثبت، (فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها) . ثم قال: (فقد -والله- عز المسلمون) أي: ندر وقل، (الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته) يعني: إثباته وذكره لله عز وجل (قلب مسلم) المراد أنه لا يلحق المؤمن بإثباته النصوص شيء من المرض، ولا شيء من الجفوة، ولا شيء من القسوة، بل إثباتها يئول بالمرء إلى تمام المعرفة بالله عز وجل. قال: [وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفى علم الكيفية] . مقصود الشيخ من سياق هذا الكلام أن تتدبره. [موافقاً لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقول الجهمية: إنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً] . الجمهية هنا يريد بهم المعطلة بالجملة، ويشمل هذا كل من نفى وعطل صفة من صفات الله عز وجل، سواء كان تعطيله كلياً كالجهمية أو جزئياً كغيرهم.

إثبات الإمام أبي حنيفة للصفات

إثبات الإمام أبي حنيفة للصفات قال رحمه الله: [وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنف أحداً من الإيمان به، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توال أحداً دون أحد؛ وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل. قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير. قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله: قلت: أخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة، وذكر مسائل الإيمان، ثم ذكر مسائل القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه. ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلال الحرام، قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وعرشه فوق سبع سماوات. قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل -وفي لفظ- سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. قال: قد كفر. قال لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماوات. قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفّر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: وعرشه فوق سبع سماوات] . وهذا كله في إثبات أن الأئمة رحمهم الله كانوا على طريقة واحدة في إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وكتاب الفقه الأكبر جزم الشيخ رحمه الله بنسبته إلى أبي حنيفة رحمه الله، وفي نسبته نظر عند بعض أهل العلم، فقد تكلم في نسبته إلى أبي حنيفة الذهبي وغيره، وعلى كل حال هو منقول عن أبي حنيفة وإن كان لم يكتبه، إنما هو من أمالي أبي حنيفة لتلاميذه، وقد نقله عنه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، ونقله عنه أيضاً حماد بن أبي حنيفة، فيكون قد جاء من طريقين: جاء من طريق حماد، وجاء من طريق أبي مطيع، وغالبه من كلام أبي حنيفة، إلا أن فيه مسائل ليست من كلامه، بل هي من زيادات الرواة أو من زيادات غيرهم؛ لأنه تكلم في مسائل لم يكن الخلاف قد وقع فيها في عصره رحمه الله. قال رحمه الله: [وبين بهذا أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يبين أن الله فوق السماوات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش، ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل] . احتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، هذه الحجة الأولى، والثانية: أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، أما الأولى: فهي فطرية بلا إشكال؛ لأن القلوب تجد ميلاً إلى العلو عند سؤال الله عز وجل وطلبه، والثانية: عقلية؛ لأنه لو كان الله سبحانه وتعالى ليس في العلو لما توجه الداعي إلى جهة العلو، فهي فطرية عقلية.

عقيدة هشام الرازي وابن المديني ويحيى بن معاذ والترمذي في الصفات

عقيدة هشام الرازي وابن المديني ويحيى بن معاذ والترمذي في الصفات قال رحمه الله: [فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق. وروى أيضاً ابن أبي حاتم: أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد الله على التوبة، فامتحنه فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه؛ ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وروى أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. وروي أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المجادلة:7]] . هذا رد لدعوى هؤلاء بأن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وأنه ليس على العرش، فرد عليهم بالآية نفسها، حيث أن الآية صدرت بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ثم ذكر {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} أي: بعلمه جل وعلا، وإلا فهو كما أخبر عن نفسه مستو على عرشه بائن من خلقه. قال رحمه الله: [وروي أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه؛ وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروي أيضاً عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما يقرأ هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله] . كل هذه النقول كما ذكرنا لتأكيد هذه القضية، وهي من أوضح ما يكون؛ ولذلك فأقوى الكتب في الرد على أهل البدع هذا الكتاب؛ لما فيه من النقول الكثيرة الوفيرة الدالة على أن أهل السنة والجماعة يثبتون الأسماء والصفات لله عز وجل كما جاء في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وفيه أيضاً شدة كلام السلف رحمهم الله في هؤلاء الذين ينكرون علو الله سبحانه وتعالى، وأن إنكار العلو كفر وقوله رحمه الله: (كفر) يبين عظم هذه البدعة، وأنها من البدع الكبيرة التي تتضمن تكذيب ما في الكتاب وما في السنة، غفر الله للسلف ورحمهم، وصلى الله على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [15]

شرح الفتوى الحموية [15] منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات: أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهم يرون أن الكيف مفوض إلى الله سبحانه وتعالى، دون المعنى الظاهر الحقيقي الذي دلت عليه الصفة، فإنه مراد ومفهوم عند السلف قاطبة.

ذكر بعض الآثار الواردة عن السلف في الصفات

ذكر بعض الآثار الواردة عن السلف في الصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد:

قول محمد بن الحسن الشيباني

قول محمد بن الحسن الشيباني فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري؛ صاحب أبي حامد الإسفرائيني في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم -من المشرق إلى المغرب- على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل: من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء. ومحمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكى هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالباً أو دائماً. وقوله (من غير تفسير) ، أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات] . هذا الكلام من الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وهو أحد صاحبي أبي حنيفة اللذين تلقيا كلاماً بيناً واضحاً في أن السلف رحمهم الله جروا في باب الأسماء والصفات على الإثبات لما جاء في الكتاب والسنة، دون تعرض لتأويل هذه الصفات، وتحريف لها عن معناها الظاهر. وأما قوله: (فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا) فقد فسره الشيخ رحمه الله في كلامه، فالتفسير المنفي عن السلف هو التفسير الذي سلكه الجهمية والمعطلة من التأويل والتحريف للكلم عن مواضعه، بصرفه عن ظاهره المتبادر إلى معانٍ مرجوحة، ولذلك فقوله: (لم يصفوا ولم يفسروا) أي: لم يؤولوا التأويل الباطل الذي سلكه المتكلمون المفارقون لطريقة أهل السنة والجماعة.

قول أبي عبيد القاسم بن سلام

قول أبي عبيد القاسم بن سلام [وروى البيهقي وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) ، (وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه) ، (والكرسي موضع القدمين) وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركنا أحداً يفسرها] . التفسير المنفي هنا هو تفسير الكيفية، وإلا فالمعاني ظاهرة، وهذه النصوص وأشباهها هي التي تمسك بها المفوضة فيما ذهبوا إليه من عدم إثبات المعاني للأسماء والصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، ولا شك -كما تقدم بيانه- أن هذا الطريق ليس هو طريق السلف، بل طريق السلف هو الإثبات، والتفسير المنفي في هذه النقول هو تفسير المبتدعة أو تفسير الكيفية. قال: أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل: ما هو أشهر من أن يوصف. [وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحداً من العلماء يفسرها -أي: تفسير الجهمية] .

قول عبد الله بن المبارك

قول عبد الله بن المبارك قال: [وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك: أن رجلاً قال له: يا أبا عبد الرحمن! إني أكره الصفة -يعني صفة الرب - فقال له عبد الله بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهيةً لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، ونحو هذا. أراد ابن المبارك: أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار] . هذا الذي يجب أن يحمل عليه كلام ابن المبارك؛ لأن صفة الرب سبحانه وتعالى تعرف الخلق به، فهي من أحب الأشياء إليه؛ لأن فيها مدحه، وهي من أحب الأشياء لعباده المؤمنين؛ لأن بها يعرفون الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يكرر سورة الإخلاص في ختام كل قراءة في كل ركعة وقد ذكر أنه يكررها لأنها صفة الرحمن فيجب أن يكررها: (أخبروه بأن الله يحبه) فدل ذلك على أن محبة الصفات هي الواجبة؛ لأنها تعرف بالله عز وجل، ويجب حمل كلام ابن المبارك على ما ذكر الشيخ رحمه الله؛ لأن كراهية صفة الرب سبحانه وتعالى كراهية له، فلا يستقيم الكلام إلا بالمعنى الذي ذكره الشيخ رحمه الله، وهو أن الذي كرهه ابن المبارك رحمه الله هو أن يبتدع الإنسان أو يبتدع المرء في صفات الله عز وجل ما لم يذكره جل وعلا في كتابه ولا في سنة رسوله. [وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض، وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام، سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علماً وديناً، من شيوخ الإمام أحمد - أنه ذكر عنده الجهمية فقال: أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء] . لأن اليهود والنصارى في إثبات النقص الذي أثبتوه لله عز وجل -أي: أثبتوه في أسماء الله وصفاته- إنما هو لكونهم شبهوه بالموجودات فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وقالوا مما نسبوه إليه ووصفوه به ما هو في نهاية الأمر أنه تشبيه له بالمخلوقات الموجودات، وأما قول الجهمية فهو إما أن يكون تشبيهاًَ له بالمعدومات أو بالممتنعات، فالذين وصفوا الله من الجهمية بالسلب فقط شبهوه بالمعدومات، والذين نفوا عنه السلب والإيجاب فقالوا: لا نقول موجود ولا نقول: لا موجود، فهؤلاء شبهوه بالممتنعات، وما من شك بأن الذين شبهوه بالموجودات أكمل تنزيهاً من الذين شبههوه بالمعدومات أو بالممتنعات، فليتنبه إلى هذا.

قول ابن خزيمة وابن مهدي وابن أبي حاتم وغيرهما

قول ابن خزيمة وابن مهدي وابن أبي حاتم وغيرهما [وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح. وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي -إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد - قال: كلمت بشراً المريسي وأصحاب بشر، فرأيت آخر كلامهم أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى والله ألا يناكحوا ولا يوارثوا. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا] . هذه الأخبار هي التي جعلت بعض أهل العلم يذهب إلى إخراج الجهمية من الثنتين والسبعين فرقة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الثلاث والسبعين فرقة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، وجعلوا الجهمية -لشناعة قولهم وتكذيبهم بما جاءت النصوص متوافرة في الدلالة عليه- خارجين عن الثلاث والسبعين فرقة؛ لكونهم كذبوا ما جاء في الكتاب والسنة تكذيباً واضحاً وصريحاً. [وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين، فقال رجل عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود،فقال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة. وعن عاصم بن علي بن عاصم -شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما- قال: ناظرت جهماً فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء رباً. وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال: أخبرنا سريج بن النعمان قال: سمعت عبد الله بن نافع الصايغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان. وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء، وجمع عليه قلوب عباده. وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات) ، وهذا مثل قول الشافعي، وقصة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة مشهورة في استتابته لـ بشر المريسي، حتى هرب منه لما أنكر الصفات، وقال بقول جهم، وقد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره] . الشافعي قال: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء أي: على السماء، وكذا في قول أنس بن مالك رضي الله عنه في الحديث الذي ساقه عن زينب كانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات) .

قول أهل السنة في العرش

قول أهل السنة في العرش [وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه: (باب الإيمان بالعرش) قال: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} [الحديد:4] فسبحان من بعد وقرب بعلمه فسمع النجوى. وذكر حديث أبي رزين العقيلي: (قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء) قال محمد: العماء السحاب الكثيف، المطبق -فيما ذكره الخليل -وذكر آثاراً أخر] . قوله: (باب الإيمان بالعرش) ، هذا من كلام الشيخ رحمه الله، ومحمد بن عبد الله من أئمة المالكية، وهنا إثبات العرش لله عز وجل، وتقدم بيان معنى العرش، وأنه في اللغة سرير المُلك، وأن الله جل وعلا خلق العرش واستوى عليه سبحانه وتعالى بعد أن خلق السماوات والأرض، والعرش: هو من أعظم مخلوقات الله جل وعلا، وهو من أولها خلقاً، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه، واستواؤه سبحانه وتعالى حق على حقيقته كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه، ولا نحرف ذلك ولا نؤوله، ومن أثبت هذه الصفة من الأشاعرة ومثبتة الصفات يقولون: إنه استوى على عرشه، ويؤولونه بالاستيلاء، ولا يثبتون الاستواء الذي أثبته أهل السنة والجماعة على المعاني التي سبق ذكرها، وهي المعاني الأربعة وهي: (العلو والاستقرار، والارتفاع، والصعود) . قوله: (ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ط:5] وقوله: {ثم اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} [الحديد:4] فسبحان من بعد وقرب بعلمه فسمع النجوى) هذا جمع بين النصوص، وأن قربه سبحانه وتعالى من خلقه ليس منافياً لعلوه؛ لأن كثيراً ممن يتكلمون في نفي العلو يقولون: إن النصوص قد دلت على أنه قريب وقربه ينافي علوه، وهذا إنما دُخل عليهم فيه، وأتوا من قبل عقولهم الفاسدة، وإلا فإن الشيء يكون عالياً ويكون قريباً، والقرب الذي أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته هو قرب خاص، فقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، فهو ليس قرباً عاماً من جميع المخلوقات، أو من جميع الخلق، بل قربٌ خاص في أحوال خاصة، فهو سبحانه وتعالى قريب من الداعي إذا دعاه، وقريب من أهل الموقف في يوم عرفة، وما أشبه ذلك من النصوص التي تفيد قربه. أما معيته فهو جل وعلا كما أخبر عن نفسه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فهو جل وعلا مع كل أحد بعلمه، لا تخفى عليه خافية. ثم قال: (وذكر حديث أبي رزين العقيلي قال: (يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: في عماء) ، وفسر الشيخ رحمه الله العماء بأنه السحاب الكثيف: (ما تحته هواء، وما فوقه هواء) والهواء هنا المقصود به الفراغ كقوله جل وعلا: {وأفئدتهم هواء} [إبراهيم:43] أي: خالية فارغة. ثم قال: (ثم خلق عرشه على الماء) ، قال محمد: العماء السحاب الكثيف المطبق فيما ذكره الخليل) ، يعني: في تفسير معنى العماء، (وذكر آثاراً أخر) في إثبات علو الله جل وعلا على خلقه.

شرح الفتوى الحموية [16]

شرح الفتوى الحموية [16] من الإيمان بالله الإيمان بنزوله إلى السماء الدنيا كيفما شاء، وأن عال على خلقه بائن منهم، وأنه له صفات تليق بجلاله كالوجه والنفس والسمع والرؤية والمعية، والكلام، والأصل في هذا كله أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.

عقيدة أهل السنة في الكرسي

عقيدة أهل السنة في الكرسي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها) وذكر ما ذكره: يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور: حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه) . وذكر من حديث أسد بن موسى، ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) ] . اختلف أهل العلم في الكرسي على قولين: القول المشهور هو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه أنه موضع القدمين، والأثر الذي جاء عن ابن عباس في هذا أثر ضعيف؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الكرسي خلق عظيم من مخلوقات الله جل وعلا الله أعلم به، وهو كما وصف الله سبحانه في كتابه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] ولكن هل هو موضع القدمين أم لا؟! هذا جاء في أثر عن ابن عباس وهذا الأثر فيه نظر.

الإيمان بالحجب

الإيمان بالحجب [ثم قال في باب الإيمان بالحجب قال: ومن قول أهل السنة: إن الله بائن من خلقه، يحتجب عنهم بالحجب، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] وذكر آثاراً في الحجب] . الحجاب المذكور هو ما ورد في الحديث من أن: (حجابه النور جل وعلا، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فهو جل وعلا محتجب بهذا الحجاب العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عنه، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ ! قال:نور أنى أراه؟!) .

الإيمان بالنزول

الإيمان بالنزول [ثم قال في باب الإيمان بالنزول قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره. إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع كانوا يقولون: إن النزول حق، قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال: نعم أومن به، ولا أحد فيه حداً، وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أقر به ولا أحد فيه حداً] . ما ذكره أهل السنة هو أن لا يكيفوه بكيفية معينة، وإلا فهم يعلمون معنى النزول الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، ولكن حد ذلك وحقيقته لا يعلمها إلا الله، والنزول صفة من الصفات الفعلية، وهي لا تستلزم اللوازم الباطلة التي يذكرها المتكلمون، بل يثبتها أهل السنة والجماعة على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى.

ما ورد من الأدلة الدالة على علو الله

ما ورد من الأدلة الدالة على علو الله [قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضاً بين في كتاب الله، وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] . فالنزول يقتضي أنه في العلو، ولذلك كان من أدلة علو الله سبحانه وتعالى أنه سبحانه وتعالى على عرشه. [قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أم أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16-17] وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وقال سبحانه: {يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [النساء:158] وقال: {بلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]] . كل هذا دال على علو الله سبحانه وتعالى، وقد تقدم ذكر أدلة العلو، وأن العلو دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل، فاجتمعت في إثباته جميع الدلائل، والشيخ رحمه الله إنما ذكر بعض الآيات الدالة على علوه سبحانه وتعالى، وإلا فالآيات -كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله- أكثر من أن تحصى. [وذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها) قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جداً، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض لا إله إلا هو العلي العظيم. وقال قبل ذلك في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً] . فمن كمال علمهم بالله عز وجل أنهم يسكتون عما سكت، وأن العلم فيما لم يذكره الله سبحانه وتعالى عن نفسه أو لم يذكره عنه رسوله هو السكوت والجهل، وهو تمام الانقياد والعبودية لله عز وجل؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يحيطون به سبحانه وتعالى علماً، ومن تمام كماله أن عجزت العقول عن إدراك حقيقة ما أخبر، فضلاً عن أن تدرك كل صفاته وأسمائه جل وعلا.

ما ورد من الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى

ما ورد من الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى قال: [يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً، والعجز عما لم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه وعلى لسان نبيه.

صفة الوجه

صفة الوجه وقد قال وهو أصدق القائلين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]] . صفة الوجه من الصفات الخبرية، والمؤولة يؤولون هذه الصفة يقولون: إن الوجه يراد به الذات فأطلق الوجه وأراد به الذات فيكون الكلام (كل شيء هالك إلا ذاته) وهذا وإن كان صحيحاً أن الوجه يطلق ويراد به الذات، ولكن هذا لا ينفي أن تكون الآية دالة على إثبات صفة الوجه لله عز وجل؛ لأنه لا تضاف هذه الصفة إلا لمن كان له وجه، أما من لم يكن له وجه فلا تضاف إليه. وبعضهم قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلا جهته يعني: كل شيء فان وذاهب إلا ما قصد به الله جل وعلا، هذا من تأويلاتهم وهو معنى صحيح، لكن هذا أيضاً لا ينفي ما فروا منه من إثبات هذه الصفة.

صفة النفس لله سبحانه وتعالى

صفة النفس لله سبحانه وتعالى [وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ، وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]] . يؤخذ من قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} إثبات النفس لله سبحانه وتعالى، وقد جاء ذلك في بعض كلام أهل العلم، وبعضهم يقول: إن (نفسه) في هذا الموضوع وأمثاله إنما يراد بها الذات يعني: (يحذركم الله ذاته) .

صفة اليد لله سبحانه وتعالى

صفة اليد لله سبحانه وتعالى [وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وقال سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]] . {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فيه إثبات التسوية له سبحانه وتعالى، وقد جاءت الآيات مبينة أنه سبحانه وتعالى سواه بيده، وفيه إثبات النفخ له سبحانه وتعالى. وأما قوله (مِنْ رُوحِي) فـ (من) هنا ليست للتبعيض بل هي (من) البيانية أي: من الأرواح، والإضافة ليست إضافة صفة، وإنما هي إضافة تشريف وإضافة خلق، يعني: من الأرواح التي خلقها. [وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقال سبحانه: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] . ] . اليدان يؤولها المؤولة بأنها النعمة، ويجاب عليهم بأن التثنية تنفي هذا المعنى، هذا وجه. الوجه الآخر: أن اليد لا تضاف إلا لمن كان متصفاً بها، فهذان وجهان في بيان دلالة هذه الآية على إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى، وهي صفة خبرية.

إثبات المعية والسمع والرؤية

إثبات المعية والسمع والرؤية [وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]] . هذه ثلاث صفات له سبحانه وتعالى: المعية، والسمع، والرؤية.

صفة الكلام

صفة الكلام [وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]] دل على أن الله سبحانه تعالى يتكلم، وأكد هذا الفعل بالمصدر لتأكيد معناه، وقد أول أهل التعطيل هذه الآية فذكروا لها نوعين من التأويل: قالوا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} فجعلوا المُكِلم هو موسى، والمُكَلم هو الله جل وعلا؛ حتى ينفوا عنه سبحانه صفة الكلام, وأولها آخرون فقالوا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} أي: جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً، فأولوا (كَلَّمَ) وهذا من التأويل المذموم؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وحملوا اللفظ على معنىً مرجوح يحتمله النص لغير قرينة، فالأصل أن يحمل الكلام على التكليم، وهم حملوه على الجرح.

إثبات الإحاطة المكانية والزمانية لله تعالى

إثبات الإحاطة المكانية والزمانية لله تعالى [وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1] وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] ومثل هذا في القرآن كثير] . هذه الآية فيها إثبات الإحاطة المكانية والإحاطة الزمانية له جل وعلا، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وبهذا يصدق قوله جل وعلا: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] زماناً ومكاناً. قوله: (ومثل هذا في القرآن كثير) أي: الآيات التي فيها إثبات الصفات له سبحانه وتعالى.

أصول الفرق الضالة في باب الأسماء والصفات

أصول الفرق الضالة في باب الأسماء والصفات [فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه، ونفْس، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى، ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن، بطن علمه بخلقه فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم. وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لم تره العيون فتحده كيف هو؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان. وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم، مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في الغنية عن الكلام وأهله، قال: (فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف) ] . أصول الفرق الضالة في باب الأسماء والصفات: المعطلة والممثلة، المعطلة نفوا ما أثبته الله لنفسه، فعطلوه جل وعلا عن صفاته، والممثلة غلوا في الإثبات فمثلوه سبحانه بخلقه، وكذبوا بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقالوا: سمعه كسمعنا، وبصره كبصرنا، وما إلى ذلك مما قالوه مما يتعالى الله جل وعلا عنه. والقصد هو ما سلكه أهل السنة والجماعة، الذين قصدوا إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهذا يبين لك وسطية أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات بين الممثلة والمعطلة.

إثبات الصفات فرع عن إثبات الذات

إثبات الصفات فرع عن إثبات الذات [وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه، والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات] . هذه قاعدة كلية في باب الأسماء والصفات تأتينا إن شاء الله في التدمرية: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمن قال لك: كيف صفته؟ قل كيف ذاته؟ [ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف] . هذا كلام جيد في تفصيل هذه القاعدة والتدليل لها، يقول: فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجوده لا إثبات كيفيته، فالخلق كلهم إلا من شذ يثبتون رباً يعبد، يقصدونه فيما يحتاجون, يثبتون له الملك والرزق والخلق والتدبير، ولكنهم لا يكيفون هذا الوجود، فما منهم أحد قال: كيف وجوده؟ فكذلك أسماؤه وصفاته، وهي فرع عن ذاته جل وعلا، فكما أنه لا يسأل: كيف وجوده؟ فكذلك لا يسأل: كيف أسماؤه وصفاته؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. [فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي وبالأسماع وبالأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، على هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. هذا كله كلام الخطابي] . كثير من القواعد التي يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في باب الأسماء والصفات وفي غيره إنما يحكي فيها قول من سبق، وهذا يفيد طالب العلم في محاجة المبتدعين؛ لأن بعض المبتدعة ينكر هذه القواعد، فإذا قيل له: إن فلاناً من العلماء -الذين يجلهم ويعرف مكانتهم- هو الذي قالها، كان ذلك داعياً إلى قبوله وإلى نزوعه عن الضلال الذي هو فيه، فمعرفة أصول الأقوال والقواعد مهم في مناظرة ومناقشة أهل البدع؛ لأنك لو قلت لهم: قال شيخ الإسلام قد يردونه يردون هذا القول ويقولون: شيخ الإسلام ابتدع وأتى بكلام من عنده كما يقوله بعض المبتدعة، لكن إذا بين أن ما جاء به الشيخ رحمه الله من القواعد إنما أخذه من كلام المتقدمين كان ذلك أدعى إلى القبول وأقوى في الحجة. [وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك، وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحواً منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل: أبي بكر الإسماعيلي والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين وذم الكلام، وهو أشهر من أن يوصف، ومثل أبي عثمان الصابوني شيخ الإسلام، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم. وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها: (طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة] . أهم ما في هذه النقول معرفة أن مذهب السلف هو مذهب واحد في هذا الأمر لا خلاف فيه، بل هم متفقون وإن تنوعت عباراتهم، إلا أن مدلولاتها متفقة في أنهم يثبتون الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

شرح الفتوى الحموية [17]

شرح الفتوى الحموية [17] طريقة أهل السنة والجماعة المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

كلام أبي نعيم الأصفهاني في عقيدة السلف

كلام أبي نعيم الأصفهاني في عقيدة السلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة: [وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب (الحلية) في عقيدة له قال في أولها: (طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال: فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها، ويثبتونها، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه) . وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه (محجة الواثقين ومدرجة الوامقين) : (وأجمعوا أن الله فوق سماواته، عالٍ على عرشه مستوٍ عليه لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية: إنه بكل مكان؛ خلافاً لما نزل في كتابه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] له العرش المستوي عليه، والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسماوات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية، بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاً صفاً، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] . وزاد النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء، كما قال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18] ) ] . هذا هو ما سبق تقريره من كلام السلف رحمهم الله في إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وأنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، وفيه إبطال قول من أول الاستواء بالاستيلاء، حيث قال: (لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية: إنه بكل مكان) ، والسلف يذكرون الجهمية ويريدون بهم المعطلة في الجملة، يعني: كل من أول في الصفات. وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي: على السماء: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فهذه وغيرها من الآيات دالة على علوه سبحانه وتعالى واستوائه على عرشه. وقوله: (له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السماوات والأرض) ، ذكرنا فيما سبق أن الكرسي هو موضع القدمين في قول، وهذا مبني على أثر ابن عباس، ولكن في ثبوته نظر. والقول الثاني: أنه خلق عظيم، وهو الذي أشار إليه بقوله: (وكرسيه جسم) ولم يذكر ما ورد عن ابن عباس: أنه موضع القدمين. وفيه إثبات الصفات الفعلية له سبحانه وتعالى وذلك في قوله سبحانه {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ففيه إثبات المجيء له سبحانه وتعالى. وأيضاً إثبات صفة المغفرة، وهي صفة فعلية له سبحانه وتعالى، وذلك في قوله سبحانه: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:129] .

كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في عقيدة السلف

كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في عقيدة السلف [وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده، قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: (وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل) ] . وهذه المعاني هي التي تقدم ذكرها، بلا كيف أي: من غير تكييف، ولا تشبيه أي: التمثيل الذي ذكره الشيخ رحمه الله في أول هذه الرسالة. والتعبير بالتمثيل أدق من التعبير بالتشبيه؛ لأنه هو الذي ورد به الكتاب كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، ولأن التشبيه هو الاشتراك ولو بأقل معنى، وهذا موجود بين صفة الخالق وصفة المخلوق، لكن للخالق ما يليق به وللمخلوق ما يليق به من الصفات، وإنما المنفي هو المماثلة لا التشبيه. وقوله: (ولا تأويل) هذا يشمل التحريف والتعطيل؛ لأن المحرف معطل، والمعطل محرف، وكلاهما لم يصل إلى ما وصل إليه من تحريف وتعطيل إلا بالتأويل. (والاستواء معقول والكيف فيه مجهول) يعني: علم حقيقته مجهول، فعلم الحقيقة لا سبيل إليه، وكما تقدم أن الكلام في كيفية الصفات كالكلام في كيفية الذات. قال المؤلف رحمه الله: [وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق. وإن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى، ويسخط ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر) ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا ا. هـ.

نقل كلام للفضيل بن عياض عن الكيف في الصفات

نقل كلام للفضيل بن عياض عن الكيف في الصفات وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في (كتاب السنة) ، حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا إبراهيم بن الحارث يعني: العبادي حدثنا الليث بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث -قال أبو بكر هو صاحب الفضيل - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه] . الله تعالى أعلم بنفسه وبغيره، فهو جل وعلا عالم بأوصافه وأسمائه وما يجب له على التمام والكمال، فلا يجوز اجتياز أو تعدي ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه إلى غيره. قال المؤلف رحمه الله: [وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء] . يعني: أنه من لوازم النزول عندهم أنه يزول عن مكانه، وهذه لوازم باطلة، والواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه دون النظر إلى هذه الإلزامات التي هي خيالات لم يدل عليها الكتاب ولا السنة، والله جل وعلا ليس كمثله شيء، وهو جل وعلا قد تنزه عن النقص، واتصف بالكمال على أتمه وغايته، فلا يلحقه نقص بإثبات شيء مما أثبته لنفسه سبحانه وتعالى أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله: [ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في (أفعال العباد) ، ونقله شيخ الإسلام بإسناده في كتابه (الفاروق) ] . هو أبو إسماعيل الهروي. [فقال: حدثنا يحيى بن عمار حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل. وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه (التعرف بأحوال العباد والمتعبدين) ، قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين) ، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل، فقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم -رحمك الله- أن كل ما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء، أو ضياء أو إشراق أو جمال، أو شبح مائل، أو شخص متمثل فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] أي: لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته، وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفؤ، فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تعالى وتقدس في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا، أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد، فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، -إلى أن قال- خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق] . لا كما يقول المعتزلة: إنها أسماء لا معاني لها.

صفات الله عز وجل أزلية الوجود حادثة الآحاد

صفات الله عز وجل أزلية الوجود حادثة الآحاد قال المؤلف رحمه الله: [لم يستحدث تعالى صفة كان منها خلياً، واسماً كان منه برياً تبارك وتعالى، فكان هادياً سيهدي، وخالقاً سيخلق، ورازقاً سيرزق، وغافراً سيغفر، وفاعلاً سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل؛ فهو يسمى به في جملة فعله] . هذا يبين لك معنى قوله: (لم يستحدث سبحانه وتعالى صفة كان منها خلياً) يعني: كانت ممتنعة عليه، هذا هو معنى كلامه، وإلا فالاستواء حادث بعد أن لم يكن، لكن لم يكن ممتنعاً عليه، إنما اتصف به لما كان الكمال مقتضياً لاتصافه بهذه الصفة، فليقيد كلامه هنا في قوله: (لم يستحدث سبحانه صفة كان منها خلياً) أي: كانت ممتنعة عليه؛ ولذلك قال: (ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفته أنه سيكون ذلك الفعل) بمعنى: أنه جل وعلا قادر عليه. [كذلك قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] بمعنى: أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجوداً بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين لا معطلاً ولا مشبهاً، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلماً مستسلماً مصدقاً، بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير] . هي طريقة الممثلة؛ لأنها تنفر العبد عن أن يعبد الله جل وعلا إذا كان الخالق كالمخلوق، فما الذي جعله يستحق العبادة؟! قوله: (ولا مناسبة التنقير) الظاهر أنه يشير إلى طريقة المعطلة الذين ينقرون ويدققون ويتمحلون في أسماء الله وصفاته ليصرفوها عن ظاهرها الذي دلت عليه النصوص والألفاظ. وهذا الكلام من أحسن الكلام، لا سيما النقل الأول الذي فيه مداخل الشيطان على الخلق في باب الأسماء والصفات، فإنه أولاً يأتيهم بالتمثيل، ثم يأتيهم بعد ذلك بالتعطيل، فكلامه رحمه الله وغفر له جيد. [إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله، لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائياً؛ لا أمره، المتجلي لأوليائه في المعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليماً وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قربه نجياً، تقدس أن يكون كلامه مخلوقاً أو محدثاً أو مربوباً] . وهذا بعكس المخلوق الذي لابد أن يكون مربوباً، فكل مخلوق مربوب، ولابد له من خالق يحدثه. [الوارث بخلقه لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره- تعالى وتقدس أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، الشائي له المشيئة، العالم له العلم] . فيه رد على الذين يثبتون الأسماء دون معانيها، ويقولون: عالم بلا علم, سميع بلا سمع, بصير بلا بصر، فهذا من أجود الكلام في الرد عليهم، رحم الله المؤلف وغفر له. قال المؤلف رحمه الله: [الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس -إلى أن قال-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، القائل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16-17] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علواً كبيراً. اهـ

الاعتقاد بعدم حصول النسخ فيما يتعلق بصفات الله عز وجل

الاعتقاد بعدم حصول النسخ فيما يتعلق بصفات الله عز وجل وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى: (فهم القرآن) قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأن النسخ لا يجوز في الأخبار، قال: لا يحل لأحد أن يعتقد] . النصوص جاءت على قسمين: أخبار وأحكام، والأخبار هي: ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه أو ما أخبر عما وقع في سالف الزمان، أو ما سيقع فيما يستقبل من الزمان، وهذه الأخبار لا يجوز فيها النسخ؛ لأن مقتضى النسخ التكذيب لها، وإنما يكون النسخ في الأحكام، فالله يحدث من أمره ما يشاء في الأحكام، أما في الأخبار فقد تمت كلمته جل وعلا صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام. [قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته، ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء -إلى أن قال- وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له ولا يتكلم، ولا كلاماً كان منه، وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك. فإذا عرفت ذلك واستيقنته: علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:90] وقال: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] وقال: قد تأول قوم: أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ لأنه آمن عند الغرق، وقال: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] ولم يقل بفرعون. قال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النازعات:25] كذلك قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:3] فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علماً بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه] . يعني: في قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] فأقر التلاوة على الاستئناف أو فاقرأ، المقصود أنها تقرأ: (حَتَّى نَعْلَمَ) على الاستئناف، والعلم المذكور في هذه الآية ليس هو العلم الأزلي السابق، فالله جل وعلا عالم بكل شيء قبل حدوثه، وإنما هذا العلم الذي يكون عند حدوث الفعل، فالعلم صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى أزلاً وأبداً، فهو جل وعلا بكل شيء عليم، لكنه سبحانه وتعالى يعلم علماً خاصاً عند حدوث الحدث والواقعة، وهذا لا ينفي أنه الله سبحانه وتعالى عالم بالشيء قبل حدوثه. وقال بعض أهل العلم: إن العلم في هذه الآية هو علم الظهور الذي تظهر به مراتب الناس وتحصل به المجازاة، كما في قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] . [لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه، لم يقدر أن يصنعه -نجده ضرورة- قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، قال: وإنما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} [محمد:31] إنما يريد: حتى نراه، فيكون معلوماً موجوداً] . يسميه بعض أهل التفسير علم الظهور أو علم المجازاة، يعني: العلم الذي تترتب عليه مجازاة. [لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوماً من قبل أن يكون، ويعلمه موجوداً كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معلوماً موجوداً وإن لم يكن، وهذا محال، وذكر كلاماً في هذا في الإرادة] . والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [18]

شرح الفتوى الحموية [18] صفات الله عز وجل لا تنسخ، والله سبحانه متصف بها أزلاً وأبداً، ولا يعارض بعضها بعضاً، ومن رام تأويلها وقع في التناقض والاضطراب ولابد؛ لأنه ليس أعلم بالله من الله ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا ينقل الشيخ كلام الحارث المحاسبي الذي يرد به على أهل البدع.

مواصلة كلام الحارث المحاسبي في عدم النسخ في آيات الصفات ونحوها

مواصلة كلام الحارث المحاسبي في عدم النسخ في آيات الصفات ونحوها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] ليس معناه أن يحدث له سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه من الصوت. وكذلك قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] لا يحدث بصراً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً، كما لم يزل يعلمه قبل كونه. إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] . وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55] وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:206] ، وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً حيث هو، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] أي: طلبه، وقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك لهذا أبداً. كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الآية، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك] . هذا النقل عن الحارث المحاسبي له صلة بما تقدم من النقل السابق الذي بدأه رحمه الله بقوله: (وأن النسخ لا يجوز في الأخبار) وسبب سياق هذه القاعدة أن بعض المشبهين يتمسكون ببعض النصوص التي يضربون بعضها ببعض، ويحتجون بها على إبطال ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات. فذكر رحمه الله قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} ثم ذكر آيات العلو التي يثبت بها علو الله سبحانه وتعالى، وذكر ما قد يشكل عليها من الآيات التي قد يفهم منها أن الله سبحانه وتعالى غير مستوٍ على عرشه، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} التي يستدل بها من يستدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان. ثم بين أن هذه الآيات ليست بناسخة للتي فيها إثبات العلو، أو فيها إثبات أنه سبحانه وتعالى بصير وأنه سميع. فإذا كانت ليست بناسخة فيجب أن تفهم على الوجه الذي وردت به، فصفة السمع والبصر صفات ذاتية له سبحانه وتعالى، فهو ما زال سميعاً بصيراً أزلاً وأبداً، وهو سبحانه وتعالى السميع البصير في الأزل والأبد، وهو لا ينفك عن هذه الصفة.

السمع صفة ذاتية باعتبار الأصل حادثة عند حدوث المسموع

السمع صفة ذاتية باعتبار الأصل حادثة عند حدوث المسموع وما أخبر به من استماعه سبحانه وتعالى لحديث معين كقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} وكقوله جل وعلا في سورة المجادلة: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ) فهذا كما تقدم بيانه وأن السمع حادث عند حدوث المسموع، فالسمع صفة ذاتية باعتبار الأصل، وأما باعتبار أفراد المسموعات وأفراد المبصرات فإن السمع صفة فعلية، وقد قررنا مثل هذا أيضاً في الإرادة والعلم، وفي غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا تنافي بين هذا وبين ما أثبته الله لنفسه مطلقاً، فقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، لا ينافي قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ) وقوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وقوله أيضاً: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) وما إلى ذلك من الآيات، فلا تعارض بين هذه الآيات. وأما الآيات التي ذكرها بخصوص العلو فالآيات الدالة على علوه سبحانه وتعالى كثيرة، وقد تقدم ذكر أدلة العلو، وأن العلو دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وأما الآيات التي شغبوا بها على هذه الصفات كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فلا تعارض بينها وبين بقية الآيات، فهو جل وعلا إله من في السماوات وإله من في الأرض، وقوله: (في) هنا ليست مكانية، يعني: لا تدل على أن الله سبحانه وتعالى حالٌّ في الأرض تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فأنت تقول: زيد أمير البصرة وأمير الكوفة وهو في أحدهما. ولا يفهم من قولك: إنه أمير للبصرة والكوفة أنه حالٌّ في البصرة وحالٌّ في الكوفة، وهذا أسلوب عربي لا إشكال فيه، ولا يبطل ما ثبت في النصوص من أن الله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه، بائن من خلقه.

الكلام على نصوص قرب العباد من الله

الكلام على نصوص قرب العباد من الله وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هذه الآيات اختلف أهل التفسير في مرجع الضمير هنا، هل هو عائد إلى الله جل وعلا أم إلى ملائكته؟ والراجح عوده إلى الملائكة، وأن قوله: (ونحن) هنا للتعظيم وهو قرب العبيد، كقوله سبحانه وتعالى في الآيات التي أخبر سبحانه وتعالى فيها بإرجاع الضمير إليه والفاعل فيها غيره سبحانه وتعالى. ويدل على هذا التوجيه أن القرب هنا مقيد، فالآية التي سبقتها هي قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16-17] أي: والعامل في الظرف (إذ) هو في الجملة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فإذا كان كذلك فإن هذا القرب قرب خاص، وهو قرب الملائكة الذين أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنهم يكتبون على العبد ويحصون عليه أعماله. والقرب المذكور في كتابه سبحانه وتعالى وفي سنة رسوله ليس كالمعية، فالمعية معية عامة، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] ، وأما القرب فهو قرب خاص، وهو قرب في أحوال محددة وفي أوصاف محددة، فمن الأحوال التي يكون جل وعلا فيها قريباً لعبيده: قربه سبحانه وتعالى من أهل الموقف يوم عرفة، وأما قرب الأوصاف فكقربه من الداعي، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فهو قريب من الداعي، وكقربه أيضاً من الساجد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وكقربه أيضاً من المستغفر، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [المائدة:61] ، فهذه الآيات والنصوص كلها تدل على أن القرب الذي أثبته الله لنفسه قرب خاص وليس قرباً عاماً. وهذه الآية فيها أنه قرب عام، وهذا ليس له سبحانه وتعالى، وإنما لجنده من الملائكة الذين يحصون ويكتبون ما يحصل ويكون من الخلق، فلا تعارض هذه الآية دلالة النصوص الأخرى الدالة على علوه جل وعلا. وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] على القول بوصل القراءة وأن الوقف فيها في آخرها ليس في قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) ؛ لأن بعض القراء يقف على قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) ثم يقول (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، وبعضهم يقول: الوقف عند قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وعلى كلا القراءتين لا إشكال، والثانية قد بين معنى كونه جل وعلا في الأرض، وأنه مع الخلق في الأرض بعلمه جل وعلا، وأما هو سبحانه وتعالى فهو العالي على خلقه البائن منهم. وكذا في قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) هذه آية المعية، وهي معية العلم، كما فسرها بذلك سلف الأمة.

آيات المعية لا تنسخ آيات العلو ولا توجب أن الله في كل مكان

آيات المعية لا تنسخ آيات العلو ولا توجب أن الله في كل مكان قال رحمه الله: [واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك] فمقتضى كونه جل وعلا في كل مكان أن يكون متبعضاً، وأن ينتقل فيها بانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فناءها. وهذا من لوازم القول بأنه سبحانه وتعالى في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولذلك اشتد نكير أئمة السلف على من قال: إن الله جل وعلا في كل مكان، وجعلوه من الأقوال الكفرية البينة؛ لتكذيبه ما في القرآن وما في السنة، ولما يلزم عليه من اللوازم الباطلة. قال رحمه الله: [وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائناً كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئاً في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائناً، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء] . أي: أنهم يقولون: إن الله في كل مكان، ثم يقولون: هو في كل مكان لا كالشيء في الشيء؛ حتى يتخلصوا من أن تحله الحوادث أو أن يحل الحوادث، ولذلك لما تناقضوا في قولهم كان تناقضهم دليلاً على فساد قولهم. قال المؤلف رحمه الله: [قال: أبو عبد الله لنا قوله: (حَتَّى نَعْلَمَ) وقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ) وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} إنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجوداً، ويسمعه مسموعاً ويبصره مبصراً، لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر] هذا معناه: لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر. قال المؤلف رحمه الله: [وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:16] إذا جاء وقت كون المراد فيه. وأن قوله: (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) ، (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ، (إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) فهذا وغيره مثل قوله: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] يعني: فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء] . يريد أن يبين أن (في) في قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) بمعنى (على) . قال رحمه الله: [وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] يعني: على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26] يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] يعني: فوقها عليها. وقال: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم فصل فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ) ولم يصل، فلم يكن لذلك معنى -إذا فصل قوله: (مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم استأنف التخويف بالخسف- إلا أنه على عرشه فوق السماء] لو كان في الأرض كما هو في السماء على قولهم: إنه في كل مكان لكان مخسوفاً به، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. هذا معنى قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم فصل فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ) فذكر جل وعلا علوه ثم ذكر تهديده، وهو خسفه سبحانه وتعالى لمن خالف أمره. ثم قال رحمه الله: [وقال تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) وقال: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فقال: صعودها إليه، وفصله من قوله ((إليه)) كقول القائل: أصعد إليّ فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه، ولم يساووه في الارتفاع في علوه، فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ولم يقل: عنده] . لو كان سبحانه في غير العلو لما احتاجت الملائكة إلى الصعود، ولا الأعمال إلى صعود، ولا أن يقول جل وعلا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إذا كان في كل مكان.

تناقض أهل البدع المؤولين لصفة العلو

تناقض أهل البدع المؤولين لصفة العلو قال المؤلف رحمه الله: [وقال فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ثم استأنف الكلام فقال: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) فيما قال لي: إن إلهه فوق السماوات، فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب، ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه -فتعالى الله عن ذلك- ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح. قال أبو عبد الله: وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها، ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)) [المجادلة:7] فأخبر بالعلم، ثم أخبر أنه مع كل مناجٍ، ثم ختم الآية بالعلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]] . هذه الآية فيها أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه بأنه مع كل مناج فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فبدأ هذه الآية التي فيها الإخبار بمعيته سبحانه وتعالى لكل مناجٍ بالعلم فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فدل ذلك على أن المعية المذكورة في هذه الآية هي معية العلم. قال المؤلف رحمه الله: [فبدأ بالعلم وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مناجاتهم، ولو اجتمع القوم في أسفل وناظرٌ إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقاً، ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق] . أي: إذا كان هذا ليس ممتنعاً في حق الخلق فكيف نقول: إنه يمتنع في حق الخالق؟ قال رحمه الله: [فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا: هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة] . الآن يلزمهم على قولهم بأن الآية تدل على أنه في كل مكان، فبعد أن أجاب بالمنع الآن يجيب بالتسليم، فيقول:نسلم أن الآية تدل على ما تقولون، ثم يناقشهم فيقول: [خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه، وهذا خروج من قولهم] . أي: أن كونه مع الشيء لا يستلزم أن يخالطه وأن يكون ممازجاً له، فقد يكون مع الشيء وهو بعيد عنه، فعلى قولكم بأن الآية تدل على هذا نقول: إن ظاهر التلاوة يدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع كل أحد إلا أنه بعيد عنه سبحانه وتعالى. وكذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد، وكذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} لم يقل: (فِي السَّمَاءِ) ثم قطع كما قال: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم قطع فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} ] . وقوله: (ومن كان مع شيء خلا جسمه) هناك كلام بعد هذا، وهذه النقول موجودة في (درء تعارض العقل والنقل) المجلد الثاني والثالث، فلو يؤتى بها أو أحد يتكفل بمراجعة بعضها، فما زال الكلام للحارث المحاسبي أبي عبد الله فيراجع المقطع هذا لعله يتبين لنا ما سقط. ظاهر التلاوة: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وما قرب من الشيء ليس هو في الشيء. فقرب الشيء من الشيء لا يلزم حلوله فيه، وهم قد ادعوا أن ظاهر التلاوة يدل على أنه في كل شيء، لكنه ما قال: إنه في حبل الوريد، بل هو قد أخبر سبحانه وتعالى على القول بأن المقصود بالضمير هو الله جل وعلا أنه أقرب إليه من حبل الوريد، ولم يقل إنه سبحانه وتعالى في حبل الوريد كما يزعمون؛ لأن من لازم قولهم: إنه في كل شيء، أن يكون في حبل الوريد أيضاً. ثم فسر الآية فقال: [يعني: إله أهل السماء وإله أهل الأرض، وذلك موجود في اللغة، تقول: فلان أمير في خراسان وأمير في بلخ وأمير في سمرقند، وإنما هو في موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء؟! لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما إذ كان مدبراً لهما، وهو على عرشه، وفوق كل شيء، تعالى عن الأشباه والأمثال] تبين بهذا أن الآيات التي شبهوا بها في إنكار ما أثبته الله لنفسه لا تدل على ما ذهبوا إليه من التأويل، وإنما هي خيالات تمسكوا لتقريرها بشبه، وقد قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فالواجب التمسك بالمحكم، وحمل المتشابه عليه، لا يجوز الإعراض عن المحكم والتمسك بالمتشابه، فإن هذا سبيل الذين زاغت قلوبهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [19]

شرح الفتوى الحموية [19] اتفقت أقوال السلف الصالح من المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، فلم يختلفوا في مسائل الاعتقاد كاختلافهم في مسائل الفروع، فجاء من بعدهم خلف فارقوهم في المنهج مخالفة للآثار ولما تقتضيه العقول الصحيحة، فوجب على المسلم اتباع السلف ومجانبة هؤلاء الخلف، وقد نقل الشيخ هنا من كلام ابن خفيف ما يبين ذلك.

نقل كلام أبي عبد الله محمد بن خفيف في مذهب السلف

نقل كلام أبي عبد الله محمد بن خفيف في مذهب السلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اتفاق المهاجرين والأنصار في التوحيد

اتفاق المهاجرين والأنصار في التوحيد نقل المؤلف رحمه الله تعالى قائلاً: [وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات) . قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه قولاً واحداً وشرعاً ظاهراً، وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال: (عليكم بسنتي) ، وذكر الحديث. وحديث: (لعن الله من أحدث حدثاً) ، قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف، فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرناً بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة] . فكلام الشيخ رحمه الله في هذا بين واضح أن السلف لم يختلفوا في مسائل الاعتقاد كاختلافهم في مسائل الفروع، وهذا لا إشكال فيه، فإن أهل السنة والجماعة من السلف الصالحين من الصحابة التابعين ومن بعدهم رضي الله عنهم كانوا على اتفاق في باب الاعتقاد، ولم ينقل عنهم خلافه، وهذا من حيث الأصل، وإلا فهناك بعض المسائل التي لا تعد من أصول الاعتقاد وقع فيها اختلاف، كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا. هذا وقع فيه اختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم: بأنه رآه. وقال بعضهم: بأنه لم يره. وهذا الخلاف لا يعد شيئاً، فإنهم اتفقوا في مسائل الاعتقاد وأصول الدين ولم يقع بينهم خلاف، وإنما الخلاف في بعض المسائل الفرعية التي لا يعد الخلاف فيها مؤثراً على اتفاقهم في جملة ما يجب لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات، ومن الكمال الواجب له سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: [ثم إني قائل -وبالله أقول-: إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد، وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معوّلهم على أحكام هوى النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس؛ فتأولوا على ما وافق هواهم، وصححوا بذلك مذهبهم. احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفاً من الوقوع في جملة أقاويلهم، التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ومنع المستجيبين له حتى حذرهم] . ما ذكره رحمه الله تقدم لنا في بيان مفارقة منهج المتأخرين لمنهج المتقدمين في باب الإيمان وأحكام التوحيد والدين، ولا حاجة للتعليق عليه، إلا أنه تأكيد لما تقدم من مخالفة هؤلاء للآثار، ولما تقتضيه العقول الصحيحة من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، أو إثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث: (لا ألفين أحدكم) ، وحديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ، فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه؛ ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرناً بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة. إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجله: ذكر أسماء الله عز وجل في كتابه، وما بين صلى الله عليه وسلم من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له] .

إثبات صفة النفس لله تعالى

إثبات صفة النفس لله تعالى [إلى أن قال: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد عليه السلام بقوله: فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله -إلى أن قال-: بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل] . بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من النقل الأول انتقل إلى أن ذكر صلة كلامه في أن الله سبحانه وتعالى تعرف لعباده، بعد أن أقروا بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى فبينها لهم، وبين ما يجب له من الأسماء وما يجب له من الصفات؛ لأنه بها يكتمل تحقيق العبودية له سبحانه وتعالى كما تقدم ذكر ذلك. ثم قال (إلى أن قال) فبدأ بذكر صفة جاءت النصوص بذكرها فقال: (بإثبات نفسه) أي: بإثبات صفة النفس له، كما يقول الشيخ وسنذكر الخلاف في هذا. [إلى أن قال بإثبات نفيه بالتفصيل من المجمل فقال: لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ، ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] . وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: (يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) ، وقال: (كتب كتاباً بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي) ، وقال: (سبحان الله رضا نفسه) ، وقال في محاجة آدم لموسى: (أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه) ، فقد صرح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك. فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]] . إثبات هذه الصفة التي ذكرها الشيخ رحمه الله واستدل لها بالآيات السابقة، يجب أن يكون على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فعلى القول أن النفس صفة لذاته سبحانه وتعالى، فإنها ليست كنفوس المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فهي كسائر الصفات يثبتها من أثبتها من أهل السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. إلا أن صفة النفس اختلف أهل العلم من أهل السنة في إثباتها على قولين:

اختلاف أهل السنة في إثبات صفة النفس

اختلاف أهل السنة في إثبات صفة النفس القول الأول: أن النفس المذكورة في الآيات هي الذات نفسها، وليست صفة لها، فقوله سبحانه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك. {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أي: لي، ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) أي: يحذركم الله ذاته، وهذا ليس من التأويل حتى يقال: كيف تؤولون؟ لكن يقال: إن لسان العرب يطلق النفس ويريد به الذات، فتقول: سقط الجدار نفسه، ومعلوم أن الجدار ليس له نفس والمقصود ذاته. فهذا جار على لسان العرب، أن يطلق لفظ النفس ويراد به الذات نفسها، وهذا القول مال إليه شيخ الإسلام رحمه الله وقال: إنه قول جماهير أهل العلم. والقول الثاني: أن النفس صفة للذات كالسمع والبصر وغيرها من الصفات. وهذا القول قال به جمع من أهل السنة، من أبرزهم إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتابه: التوحيد، وكذا الشيخ ابن خفيف رحمه الله في كلامه. فهذان قولان في المسألة، والراجح منهما القول الأول، وهو قول الجماهير كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

إثبات صفة النور لله سبحانه وتعالى وذكر الاختلاف فيها

إثبات صفة النور لله سبحانه وتعالى وذكر الاختلاف فيها قال رحمه الله: [ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل؛ حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم. وإن مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك، أن قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] ثم قال عقيب ذلك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] ، وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السموات والأرض) ، ثم ذكر حديث أبي موسى: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، وقال: سبحات وجهه جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد. وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه] . النور صفة لله سبحانه وتعالى، وهو يذكر في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نحوين: النور المضاف إلى الله سبحانه وتعالى نوعان في الكتاب والسنة: نور يضاف إليه سبحانه وتعالى وهو صفته سبحانه وتعالى، ونور يضاف إليه سبحانه وتعالى وهو خلقه. وهذا معنى قول من فسر قوله جل وعلا: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: منور، فجعل النور المضاف هنا إضافة خلق لا إضافة صفة، فيضاف النور إلى الله جل وعلا ويراد صفته، ويضاف إليه النور ويراد به خلقه.

إثبات الصفات الخبرية

إثبات الصفات الخبرية [ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1] والحديث: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) . قال: ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجهاً، وذكر الآيات. ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال في هذا الحديث: من أوصاف الله عز وجل لا ينام موافق لظاهر الكتاب: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وأن له وجهاً موصوفاً بالأنوار، وأن له بصراً كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير. ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت، ثم ذكر حديث: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله) ، وهي رواية البخاري، وفي رواية أخرى: (يضع عليها قدمه) . ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله، وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي، وقول وهب بن منبه، وأبي مالك، وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول: واضع رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا أن لا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس وكفر المتقدمين، وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل] . ما ذكره في الروايات السابقة غالبه في الصفات الخبرية، وهي الصفات التي أخبر الله سبحانه وتعالى بها عن نفسه، وهي كالوجه، والأصابع، واليدين، والأنامل، والقدم أو الرجل، وما أشبه ذلك من الصفات التي جاءت الأخبار بها، أثبتها أهل السنة والجماعة له سبحانه وتعالى على الوجه الذي يليق به، وليس في ذلك تنقص؛ لأن ما جاء في الكتاب والسنة أحق أن يتبع، ولا يلحقه نقص بوجه من الوجوه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . المهم أن الشيخ رحمه الله أخبر بأن سلف الأمة المتقدمين ومن تبعهم ممن سار على طريقهم من المتأخرين يثبتون هذه الصفات الخبرية، ويثبتون أيضاً الصفات التي فيها نفي النقص عنه جل وعلا، فالصفات جاءت على نحوين: صفات مثبتة، وصفات منفية. الصفات المثبتة: جاءت مفصلة وجاءت مجملة، لكن الأكثر في صفات الإثبات التفصيل كقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:22] كل هذه صفات ثبوتية مفصلة، وغيرها كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى. وأما الصفات المنفية: فجاءت مجملة وجاءت مفصلة، والأكثر فيها الإجمال؛ لأن التفصيل في صفات النفي لا يدل على الكمال، وإنما أتى النفي إما لبيان كمال الصفة، أو لنفي ما نسب إليه من النقص، وإلا فالأصل في صفات النفي أن تأتي مجملة: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، أما قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهذا نفي مفصل لإثبات كمال الحياة والقيومية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهنا لبيان كمال الصفة المذكورة، وكنفي العجز عنه سبحانه وتعالى، فنفي العجز لبيان كمال قدرته جل وعلا. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [20]

شرح الفتوى الحموية [20] عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات صفات الله عز وجل كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وقد خالف في ذلك كثير من أهل الفرق الضالة.

إثبات ابن خفيف صفة الصورة لله جل وعلا

إثبات ابن خفيف صفة الصورة لله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق نقله لكلام أبي عبد الله بن خفيف: [ثم ذكر المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما وجوابه لـ نجدة الحروري، ثم حديث الصورة، وذكر أنه صنف فيه كتاباً مفرداً، واختلاف الناس في تأويله] . حديث الصورة هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) ، مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (صورته) هل هو إلى آدم أو إلى الله جل وعلا؟ الصحيح أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى، وإثبات الصورة لله سبحانه وتعالى كإثبات سائر الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ولا يقتضي إثبات الصورة ما ادعاه المؤولة من أنه جسم أو ما شابه ذلك من التأويلات التي يقولونها. والذي جعل أهل العلم يختلفون في مرجع الضمير أن هذه الصفة ليست كسائر الصفات التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة كالوجه والعين واليد، وقبلها أهل العلم ولم يكن عندهم إشكال فيها كسائر الصفات، وأما صفة الصورة فلم يأت لها ذكر في كتاب الله جل وعلا، وإنما جاء ذكرها في الحديث، فاختلفوا في مرجع الضمير، والصواب رجوعه إلى الله، وأن له صورة جل وعلا، وهو في صورته وفي سائر صفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] سبحانه وتعالى.

ذكر ابن خفيف جملة من أصول السنة المخالفة لأهل الزيغ والضلال

ذكر ابن خفيف جملة من أصول السنة المخالفة لأهل الزيغ والضلال ثم قال رحمه الله: [وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ، وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة إن شاء الله. ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق، وأنه أفضل الأمة. ثم قال: وكان الاختلاف في (خلق الأفعال) هل هي مقدرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها: إن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر. ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر، ومسألة الأسماء والأحكام] . الأسماء: مؤمن, فاسق, كافر. والأحكام: ما يترتب على هذه الأسماء من الأحكام في الدنيا والآخرة، ومسألة الأسماء والأحكام من مباحث الإيمان.

الرد على المعتزلة في جملة من المسائل

الرد على المعتزلة في جملة من المسائل وقال رحمه الله: [قولنا فيها: أنهم مؤمنون على الإطلاق، وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه. وقال: قولنا أنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقاً وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه صفة الله منه بدأ قولاً وإليه يعود حكماً. ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد: أن الله يرى في القيامة، وذكر الحجة. ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجُمل من العقود. فنقول ونعتقد أن الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سماوات بكل أسمائه وصفاته، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ولا نقول: إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجري على عباده {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} . إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء. إلى أن قال: ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى. إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار) ، ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضاً، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع، وذكر الصراط والميزان والموت، وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه] خلافاً للمعتزلة في هذه المسألة لأنهم قالوا بأن المقتول قطع أجله، وإلا فأجله الذي كتبه الله هو وقت موته بدون قتل، لكن القاتل قطع أجل المقتول، وهذا مبني على قولهم بأن الله لم يخلق أفعال العباد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يعلم ما الخلق عاملون إلا بعد أن يعملوه.

إثبات صفة النزول واليد لله سبحانه وتعالى

إثبات صفة النزول واليد لله سبحانه وتعالى قال رحمه الله: [إلى أن قال: ومما نعتقد أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: (ألا هل من سائل) الحديث] علوه جل وعلا فيه إثبات نزوله، وفيه إثبات صفة اليد، وأنه يبسط يده، وأنه جل وعلا يتكلم؛ كل هذا في هذا الحديث. [وليلة النصف من شعبان، وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك] ، ذكر ليلة النصف من شعبان بناء على الأحاديث التي وردت، وهي أحاديث ضعيفة لا تثبت، وأما نزوله جل وعلا عشية عرفة فهذا ثابت في صحيح مسلم.

إثبات صفة الخلة

إثبات صفة الخلة قال رحمه الله: [قال: ونعتقد أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الخلة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع] . يعني: أن الخلة التي نثبتها له لا يلزم فيها نقص وحاجة، ومقصوده بالفقر: حاجة الخليل إلى خليله. إذاً: الخلة صفة له سبحانه وتعالى نثبتها -وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً- دون أن نثبت ما يذكرونه من لوازم، فإنه لا يلزم على كلام الله عز وجل نقص، ولا على كلام نبيه صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه قال رحمه الله: [ونعتقد أن الله تعالى خص محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية، واتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً] قوله: (نعتقد أن الله تعالى خص محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية) هذا يحتمل أنه يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه التي في رأسه صلى الله عليه وسلم في الدنيا. وهذا القول قول مرجوح، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وإنما رأى جبريل عند سدرة المنتهى على الصفة التي خلقه الله عليها دون أن يتمثل له بهيئة غير الهيئة التي خلقه الله عليها، وهذا هو القول الصحيح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فإنه لم يره بعينه وإنما رآه بفؤاده ورآه في المنام حيث قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة) .

اختصاص الله بمفتاح خمس من الغيب

اختصاص الله بمفتاح خمس من الغيب قال رحمه الله: [ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] الآية. ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوماً وليلة للمقيم] . هذه المسألة من مسائل الفروع، وإنما ذكرها الشيخ رحمه الله وغيره من المصنفين في الاعتقاد مخالفة لما عليه المبتدعة من الروافض الذين لا يرون ذلك، فذكرها لأنها من علامات أهل السنة، وإلا فهي ليست من مسائل الأصول بل هي من مسائل الفروع.

الصبر على السلطان وعدم الخروج عليه

الصبر على السلطان وعدم الخروج عليه قال رحمه الله: [ونعتقد الصبر على السلطان من قريش؛ ما كان من جور أو عدل ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة] . قوله (الصبر على السلطان) خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على السلاطين إذا رأوا منهم الجور والظلم. قال رحمه الله: [والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمداً فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً حتى يكون الله ينزلهم] قوله: (لا ننزل أحداً) ظاهر كلامه أنه يشمل أهل القبلة وغيرهم، وغير أهل القبلة هم الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم، فظاهر قوله: (ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً) أي: بعينه. فلا نجزم أن هذا من أهل الجنة أو أن هذا من أهل النار، وفي بعض كلام أهل العلم تقييد ذلك بأهل القبلة كما في السنة للإمام أحمد، وغيره من أهل العلم، أي: لا ننزل أحداً من أهل القبلة لا جنةً ولا ناراً حتى يكون الله ينزله. أي: حتى يأتينا النص بأن فلاناً من أهل الجنة وأن فلاناً من أهل النار، وكلام أهل السنة في هذا محتمل، فيحتمل العموم. يعني: لا يشهد لأحد بعينه أنه من أهل النار حتى ولو كان من الكفار.

المراء والجدل في الدين بدعة

المراء والجدل في الدين بدعة قال رحمه الله: [والمراء والجدال في الدين بدعة] . ويعني به: المراء والجدال بالباطل، وإلا فإن مقارعة أهل البدع والرد عليهم وبيان بطلان أقوالهم ليس من البدع، بل قد يكون واجباً، وقد قال الله عز وجل في شأن كتابه في أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فنهى عن الجدال السيئ، وأمر بالجدال الذي يكون بالحسنى، وهذا الذي يوصل إلى الحق ويدفع الباطل.

السكوت عما شجر بين الصحابة وعن الاسم والمسمى واللفظ والملفوظ

السكوت عما شجر بين الصحابة وعن الاسم والمسمى واللفظ والملفوظ قال رحمه الله: [ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها؛ والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة] . هذه المسائل أحدثها المتكلمون فيما بعد القرون المفضلة: هل لفظي بالقرآن مخلوق أو لا؟! وهذه لم تكن في عهد الصحابة ولا في القرون المفضلة من التابعين وتابعيهم، وإنما حدثت بعد بدعة الجهمية في إنكار كلام الله سبحانه وتعالى، والأولى الصد عن هذا وعدم الحديث فيه. وكذا الاسم والمسمى: هل الاسم عين المسمى أم زائد عليه، كل هذا إنما حدث بعد ما أدخله المتكلمون على أهل الإسلام من بدعة الكلام، واتباع الفلاسفة والآراء الباطلة في باب أسماء الله وصفاته.

نسبة خطأ الفرد إلى الجملة ظلم منهي عنه

نسبة خطأ الفرد إلى الجملة ظلم منهي عنه قال رحمه الله: [والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة، واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملاً من غير استقصاء، إذ تقدم القول من مشايخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة، إلا أني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك. إلى أن قال: وقرأت لـ محمد بن جرير الطبري في كتاب سماه: التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة. ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة] . هذه مسألة مهمة تفيد طالب العلم في التعامل مع الطوائف والفرق والقبائل وأهل البلدان، أنه إذا أحدث أحد منهم خطأً فإنه لا ينسب إلى الجملة، بل النسبة إلى الجملة من الظلم الذي ينهى عنه.

الاهتمام بمعرفة مصطلحات العلوم

الاهتمام بمعرفة مصطلحات العلوم قال رحمه الله: [كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين. واعلم أن لفظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئ وحسير] . يعني: لم يفهم مرادهم، وينصرف عنهم وعما عندهم من خير. هذا معنى قوله: (رجع عنهم وهو خاسئ وحسير) . وعلى كل حال فالواجب على كل من دخل في هذه العلوم على تنوعها أن يتقن مصطلحات القوم ومرادهم بألفاظهم وكلماتهم؛ لأن الحكم على أقوالهم فرع عن فهمها وتصورها وإدراكها، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة اصطلاحاتهم ومرادهم من هذه الألفاظ التي يستعملونها.

الرد على من زعم أن الصوفية يقولون برؤية الله في الدنيا

الرد على من زعم أن الصوفية يقولون برؤية الله في الدنيا قال رحمه الله: [ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد، فقال: كثيراً ما يقولون: رأيت الله. يقول: وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان. ثم قال: وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم] . هذا يبين أن الصوفية الذين يدافع عنهم ويبين طريقهم لا يقولون بنفي الرؤية، وأنهم يثبتونها ولا يفهم من قول هذا الذي سئل أنه لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان أن هذا نفي للرؤية، بل هذا مراده في الدنيا، ولا شك أن الدنيا لا يمكن أن يرى فيها جل وعلا، كما قال الله لموسى عليه السلام: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، ولكنه سبحانه وتعالى يرى رؤية قلبية، يرى في قلب العبد، وتكون هذه الرؤية بحسب ما عنده من الإيمان، ولهذا كانت أعلى مراتب الدين: الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .

إثبات الصفات لله عز وجل دون الشطط فيها من منهج السلف

إثبات الصفات لله عز وجل دون الشطط فيها من منهج السلف قال رحمه الله: [هذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا. وإن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين -إلا المضطر على حال يلزمه إحياء للنفس لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات- فذلك كفر بالله، وقائل ذلك قائل بالإباحة، وهم المنسلخون من الديانة. وإن مما نعتقده ترك إطلاق تسمية العشق على الله تعالى، وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه ولعدم ورود الشرع به. وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية. وإن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق -حيث ما تلي ودرس وحفظ- ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً وحبيباً، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة: إن الخلة الفقر والحاجة. إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط] . رحمه الله وغفر له، وهذا كلام جيد، وتحقيق هذه المنقولات فيها خير كثير؛ لأن كثيراً من المبتدعين لا يقبلون ما يذكره أئمة أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده، يقولون: هذا مذهب محدث ولا يعضده نقل عن السلف، ولكن مثل هذه النقول تؤكد لكل من طلب الحق أن طريق السلف هو إثبات الصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى، وأنه مخالف لطريق المبتدعين المؤولين الذين يصدق عليهم قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] .

شرح الفتوى الحموية [21]

شرح الفتوى الحموية [21] على المسلم أن يسلك طريق الكتاب والسنة في كل شيء، من فروع أو أصول، وقد انحرف عن هذا الطريق كثير من المتأخرين من الصوفية وغيرهم، رغم أن متقدميهم كانوا متمسكين بالكتاب والسنة، وقد نقل شيخ الإسلام عن أئمة الصوفية المتقدمين ما يدل على ضلال المتأخرين فيما انتهجوه.

تابع كلام ابن خفيف في اعتقاد السلف

تابع كلام ابن خفيف في اعتقاد السلف

الاعتقاد الصحيح في المكاسب والتجارات

الاعتقاد الصحيح في المكاسب والتجارات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق نقله لكلام أبي عبد الله بن خفيف: [ومما نعتقده: أن الله تعالى أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد، لا الكسب والتجارات، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة، جائز إلى يوم القيامة. وإن مما نعتقده أن الله تعالى لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا إنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض. ومما نعتقده: أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط؛ جاز إلا من داخل الظلمة، ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك، فالسؤال والتوقي، كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه، فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة، والناس طبقات، والدين: الحنيفية السمحة] . هذا المقطع فيه بيان ما يتعقد في المكاسب والتجارات، وأن الله تعالى أباحها، ولا شك في هذا، والأصل في المعاملات الحل، دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، ومصادر التحريم في المعاملات ثلاثة: الربا والغرر والظلم، ويضاف أمر رابع وهو: كل ما أدى إلى هذه الأمور من المعاملات فإنه يمنع؛ لأنه وسيلة إلى المحرم، ووسيلة المحرم محرمة، وإنما ذكر الشيخ رحمه الله هذا؛ ليرد على بعض الصوفية الذين يتورعون عن أكل أموال الناس من سبيل مشروع مباح، ويعتذرون في التنزه عن أموال الناس بأنها محرمة، أو أنه امتنع الحلال في هذه الأعصار؛ لكثرة المعاملات المحرمة في زمانهم، وفي زماننا من باب أولى. لكن هذا الكلام غير صحيح، فالأصل في أموال الناس الإباحة، أي: أنها مباحة ويباح التعامل معهم فيها بالتجارات وغيرها، ولكن إذا علم أن المال الفلاني محرم، كأن يكون قد غصبه أو سرقه، فحينئذٍ لا يجوز التعامل معه لعلمه بتحريم هذا المال. وأما من اشتبه ماله فاختلط فيه الحلال والحرام فالأصل إباحة معاملته إلا إذا علم أن المعاملة تقوم على محرم، كأن يدفع إليه عوضاً من مال يعلم أنه كسبه من محرم، فهنا يمتنع من أخذه، على أن بعض أهل العلم كما ذكر الشيخ رحمه الله أجاز معاملتهم حتى فيما علم أنهم كسبوه من محرم؛ لأن إثم كسب المحرم عليهم، وأما هذا فقد أخذه من طريق مباح قال الله سبحانه وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، فلم يتشرط في التجارات وفي سائر المعاوضات إلا أن تكون على التراضي، وذكر هذا في هذه الرسالة استطراداً، وإلا فليس له صلة في باب الاعتقاد، إلا في الرد على من اعتقد تحريم المكاسب، فهو يبين له أنه مخطئ.

لا تسقط التكاليف عن أحد في دار الدنيا ما دام عاقلا قادرا

لا تسقط التكاليف عن أحد في دار الدنيا ما دام عاقلاً قادراً قوله: [وإن مما نعتقد: أن العبد ما دام أحكام الدار جارية عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عن نفسه {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك. ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية؛ فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوهاً أو مجنوناً أو مبرسماً، وقد اختلط عقله] . يتكلم الشيخ رحمه الله في هذا المقطع في الرد على الصوفية الغلاة الذين يقولون: إن الإنسان يبلغ درجة من العبودية يسقط فيها عنه التكليف، وهذا كذب وبهتان، فالتكليف لا يسقط عن أحد، بل لقد قال الله لنبيه الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، أي: حتى يأتيك الموت، فالعبادة لا تنقطع إلا بانقطاع الأجل، أما ما دام العرق ينبض والعين تلحظ، والنفس يتردد فإن العبادة لازمة للعبد لا ينفك عنها بحال، (ومن ادعى أنه يخرج عن العبودية إلى فضاء الحرية) يعني: إلى عدم العبادة فهو كافر بإجماع أهل العلم. وأما قوله: (إلى أحكام الأحدية) فهذا ما يعتقده بعض الصوفية من اتحاد الله جل وعلا ببعض خلقه، فيكون العابد معبوداً والمعبود عابداً، وهذا كذب وبهتان وضلال مبين، نسأل الله السلامة والعافية. قوله: [وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة] . أي: ومن ادعى سقوط أحكام الشريعة عمن توفرت فيه شروط التكليف: فذلك خارج عن الملة.

لا يعلم الغيب إلا الله

لا يعلم الغيب إلا الله قوله: [ومن زعم الإشراف على الخلق: يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الملة] . لا شك أنه كفر؛ لأن من ادعى علم مقامات الخلق ومقاديرهم فقد ادعى علم الغيب، وقد قال الله جل وعلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] ، فعلم الغيب لله وحده لا شريك له، إلا ما أظهره سبحانه وتعالى وبينه فهذا يرجع فيه إلى بيانه وما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلا فالواجب الوقوف في ذلك على ما أخبر به سبحانه وتعالى.

ليست الفراسة من أمر الفقه

ليست الفراسة من أمر الفقه قوله: [ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم، وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم -بغير الوحي من قول الله وقول رسوله- فقد باء بغضب من الله، والفراسة حق على أصول ما ذكرناه] . إنما ذكر هذا الكلام؛ لأن بعض الناس يزعم معرفة هذه الأمور، فيزعم أنه يعرف مقامات الخلق ومقاديرهم ومنقلبهم ومآلهم بالفراسة، والفراسة أمر غير علم الغيب، فعلم الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وأما الفراسة: فهي تأمل ونظر وكشف يؤتيه الله سبحانه وتعالى بعض خلقه، لكنهم لا يجزمون ولا يدعون علم ما لم يعلمون، بل يستأنسون بها ويعرفون بها بعض أحوال الرجال وأحوال الناس، فهي معرفة الشيء بمقدماته، بخلاف الغيب فلا مقدمات في الغيب، وهذا العلم استأثر الله به، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) وذكر العكس صلى الله عليه وسلم، فعلم الغيب أمره إلى الله لا يعلمه أحد. والفراسة: هي نظر في أحوال الناس بمقدمات يستأنس بها لكن لا يجزم بها، وقد ذكرت في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ، قال المفسرون: للمتفرسين أهل الفراسة، وذكرت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ، وبه يعلم أن الفراسة أمر غير علم الغيب؛ لأنها مستمدة من إلهام الله عز وجل، وما يقذفه في قلب العبد، ولا يجزم بها، والحديث هذا اختلف أهل العلم في ثبوته على قولين: منهم من ضعفه، ومنهم من أثبته، وقد حسنه الشوكاني لكثرة طرقه. قوله: [وليس ذلك ما رسمناه في شيء، ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاتهم -ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية- وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة: فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام، وذلك كفر لا محالة] . (من زعم أن صفاته) يعني: صفات الله جل وعلا (بصفاتهم) يعني: مشتركة مع صفات البشر، فالضمير الأول مرجعه إلى الله، والثاني إلى البشر. قوله: (ويشير بذلك إلى آية العظمة والتوفيق والهداية وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة فهو حلولي) يعني: من قال إن صفاته تحل فيه (فهو حلولي، قائل باللاهوت والالتحام) وهو قول النصارى الذين يقولون: إن الله يحل في بعض خلقه. (وذلك كفر لا محالة) نعوذ بالله منهم.

الأرواح مخلوقة وليس من صفات الله شيء مخلوق ولا حال في خلقه

الأرواح مخلوقة وليس من صفات الله شيء مخلوق ولا حال في خلقه قوله: [ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال: إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى -النسطورية- في المسيح، وذلك كفر بالله العظيم] . هذه فرقة من فرق النصارى عدلت أئمتهم وبدلت في الإنجيل على حسب أهوائهم وآرائهم، وهم من جملة النصارى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: [ومن قال: إن شيئاً من صفات الله حال في العبد، أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، ولا حال في مخلوق، وأنه كيفما تلي وقرئ وحفظ فهو صفة الله عز وجل، وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر] .

حكم القراءة الملحنة

حكم القراءة الملحنة [ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة] . يجيب شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة على كثير من بدع الصوفية، ومنها ما ذكره هنا وهي: القراءة الملحنة، وهي التي يعتاضون بها عن كلام الله وعن كلام رسوله، وهي القراءة التي يتكلف لها التلحين، فتكون على إيقاعات معينة وحركات مدروسة، ويتفرغون لذلك ويتعلمونه، وليس المراد: القراءة الملحنة التي ليس فيها تكلف ولا تعلم، وقد تكلم على هذه المسألة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد كلاماً مطولاً، وانتهى في نهاية بحثه إلى أن القراءة الملحنة قسمان: الأول: ما لم يكن فيه تكلف ولا تعلم، وإنما هو موافق للسجية والطبيعة فهذا لا بأس به. والثاني: ما فيه تكلف وتعلم وتحديد إيقاعات وحركات معينة، فهذا ممنوع، وقد تكلم على هذا في المجلد الأول، ببحث مفيد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [22]

شرح الفتوى الحموية [22] من بدع الصوفية التعبد بالقصائد والقراءة الملحنة والغناء، ومن المعلوم أن الغناء ينبت النفاق في القلب كما جاء ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام. ومن ضلالات أهل البدع عموماً: تحريف الصفات عن معناها الحقيقي الذي تدل عليه النصوص، لكن الله ألهم أهل السنة والجماعة السداد في القول، والصواب في الاعتقاد في صفات الله على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، وقد نقل ابن عبد البر عن السلف ما يؤكد ذلك.

حكم القصائد والقراءة الملحنة

حكم القصائد والقراءة الملحنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وتعالى، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته الحموية: [ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة، وأن القصائد بدعة، ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه وإظهار نعت الصالحين، وصفة المتقين، فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر، واستماع الغناء والربعيات على الله كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق، وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب، وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة -الجائي بين أهل الأطباع- على أحكام الذكر إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] ، وكل من جهل ذلك، وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز، إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة على استماع الغناء. والربعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين، وبلغني أنه قيل لـ بشر بن الحارث: إن أصحابك قد أحدثوا شيئاً يقال له: القصائد. قال: مثل أيش؟ قال: مثل قوله: اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل فقال: حسن! وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد، فقال: كذبوا والله الذي لا إله غيره لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك. قال أبو عبد الله: ومما نقول -وهو قول أئمتنا-: أن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله) الحديث. ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح فهو مذموم في الحقيقة خارج. ونقول: إن المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال عليه السلام: (الغناء ينبت النفاق في القلب) وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة] . فقد تقدم التعليق على هذه الصفحة من كلام ابن الخفيف رحمه الله، وهو في إبطال ما عليه الصوفية من الإقبال والانكباب على القصائد الملحنة، وعلى الغناء، وجعل ذلك من القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن ما عليه أهل التصوف من التعبد لله سبحانه وتعالى بسماع الغناء والتلحين -وما إلى ذلك- أنه منكر في الدين، وليس مما جاء به المرسلون، بل هو مما أحدثه البطالون من أتباع الهوى الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وقد أنكر أهل العلم على هؤلاء قديماً وحديثاً، وبينوا أن الله جل وعلا لم يأمر عباده بأن يتقربوا إليه بالأغاني الملحنة؛ لا بسماعها، ولا بالإقبال عليها، ولا بغير ذلك مما اخترعه هؤلاء وابتدعوه، ويخشى على من اعتقد أن سماع الغناء قربة أن يكون داخلاً في قول الشيخ رحمه الله: (وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله) أي: قصد استماعه تقرباً لله جل وعلى (على غير تفصيله؛ فهو كافر لا محالة) . فالواجب على المرء أن يعلم أن الدين ما شرعه الله سبحانه، فإن الله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا بما شرع، وقد رد على هؤلاء الشيخ ابن القيم رحمه الله في كتابه (السماع) وابن رجب وغيرهما من أهل العلم، ردوا على الصوفية هذه البدعة المحدثة، كما أن شيخ الإسلام رحمه الله رد عليهم رداً مفصلاً في كتابه (الاستقامة) .

الوسائط بين الله وخلقه نوعان

الوسائط بين الله وخلقه نوعان [والذي نختار: قول أئمتنا: إن ترك المراء في الدين والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي، وأن المرسل إليهم أفضل؛ فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة؛ فقد كفر ا. هـ] . هذا قول بعض الصوفية، وهو ضلال وكفر بالله العظيم، حيث زعم هؤلاء المبتدعون أن منهم من يبلغ درجة من التقوى والإيمان يزيد فيه على خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر بالله جل وعلا، وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أقسم بالله فقال مخاطباً خير القرون: (والله إني لأعلمكم بالله، وأتقاكم له) . فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وهو صلى الله عليه وسلم أخشاهم له، ولا يبلغ أحد من الناس -لا من الأولين ولا من الآخرين- ما بلغه صلى الله عليه وسلم من خوف الله تعالى وخشيته ومراقبته، والتعبد له بأنواع القربات والعبادات. أما قوله: (من قال بإسقاط الوسائط على الجملة؛ فقد كفر) فهذا صحيح؛ لأن الوسائط بين الله جل وعلا وبين خلقه نوعان: وسائط يجب إثباتها والإيمان بها: وهم الرسل الذين اصطفاهم الله جل وعلا؛ ليبلغوا رسالاته سبحانه وتعالى، ويدلُّوا الناس عليه. والقسم الثاني: هم الوسائط المزعومة الذين اتخذهم أهل الكفر وأهل الشرك، وهم أولئك الذين ذكرهم الله جل وعلا في كتابه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، فهؤلاء وسائط منكرة أنكرها الله سبحانه وتعالى، بل حرّم الجنة على من اتخذوا وسائط يتوصلون بهم إلى الله جل وعلا بزعمهم، فقال جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ؛ فالواجب على العبد أن يثبت الوسائط الذين أرسلهم الله للدلالة عليه ولهداية الخلق، وأن يكفر بالوسائط الذين جعلهم هؤلاء المشركون أنداداً من دون الله؛ يتقربون لهم، ويذبحون لهم، ويصرفون لهم أنواع العبادة.

الكلام عن بعض صفات الله تعالى الخبرية

الكلام عن بعض صفات الله تعالى الخبرية [ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني، قال في كتاب (الغنية) : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار؛ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وذكر آيات وأحاديث. إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا] . قوله رحمه الله: (محتو على الملك) أي: محيط علمه به، أو أنه سبحانه وتعالى منفرد به لا شريك له فيه، وليس معناه أنه قد حل فيه شيء من خلقه، أو أن خلقه فيه، فهذا لا يقوله أحد من أهل الإسلام، وليس مراداً من كلام الشيخ رحمه الله، إنما المراد هنا بقوله: (محتو على الملك) ، إما أن يقال: إنه محيط به؛ كقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] ، أو إنه منفرد به سبحانه وتعالى.

ذكر كلام ابن عبد البر في الصفات

ذكر كلام ابن عبد البر في الصفات [ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جداً. قال أبو عمر ابن عبد البر: روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، قال أبو عمر: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات، أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم؛ فهو علم يدان به، وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم؛ فهو بدعة وضلالة. وقال في (شرح الموطأ) لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت النقل صحيح الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله في السماء {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة. قال: والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله -وذكر بعض الآيات- إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم. قال أبو عمر بن عبد البر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] : هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله. وقال أبو عمر أيضاً: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع: الجهمية، والمعتزلة كلها، والخوارج؛ فكلهم ينكرونها، ولا يحملون شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة، فهذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب] . ومن هذا يعلم أن علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على عرشه أنزله الله في كل كتاب أنزله على نبي مرسل، وبه يتبين صدق ما ذكر من أن علو الله جل وعلا دل عليه إجماع الأمم، فإن الأمم أجمعت على علوه سبحانه وتعالى، وهذا أحد الأدلة التي دلت على علوه، وإلا فإن علو الله سبحانه وتعالى دل عليه الكتاب السنة، ودل عليه إجماع الأمة -كما دل عليه إجماع الأمم- ودلت عليه الفطرة والعقل. وأما قول المعتزلة وأهل البدع من أن الله سبحانه وتعالى في مكان بذاته المقدسة، فهذا قول باطل فاسد، إنما يقوله من لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، وذلك أن الكتاب والسنة وإجماع السلف والفطرة والعقل؛ كل هذه الأدلة دلت على علوه جل وعلا، وأنه بائن من خلقه عال عليهم، وأما من قال بأن الله جل وعلا في كل مكان؛ فإنه لم ينزه الله جل وعلا التنزيه الواجب، إذ إن من لازم قوله بأن يكون الله جل وعلا في أحشائه، وأن يكون الله جل وعلا في الحشوش والأماكن المستقذرة، وهذا في غاية الفساد والبطلان، كما أنه يلزم عليه أن يزيد بزيادة المكان وأن ينقص بنقصانه، وهذه كلها لوازم باطلة تدل على فساد هذا القول، وأما إثبات العلو فلا يلزم عليه باطل بوجه من الوجوه، فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه من العلو وأثبته له رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة، ودلت عليه الفطرة والعقل الصحيح، نسأل الله أن يوفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح.

شرح الفتوى الحموية [23]

شرح الفتوى الحموية [23] لم يزل الناس ينقلون مذهب الإثبات للصفات عن السلف، حتى من خالفهم في بعض ذلك من المتأخرين، وقد نقل المصنف رحمه الله عن البيهقي والقاضي أبي يعلى والأشعري ما يدل على ذلك.

الأشاعرة وتأويل الصفات بين القديم والحديث

الأشاعرة وتأويل الصفات بين القديم والحديث بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول: شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم، قال في كتابه (الأسماء والصفات) : باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين -لا من حيث الجارحة- لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: (يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه) ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده) وفي لفظ: (وكتب لك التوراة بيده) . ومثل ما في صحيح مسلم: (أنه سبحانه غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده) ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة) ، وذكر أحاديث مثل قوله: (بيدي الأمر) ، (والخير في يديك) ، (والذي نفس محمد بيده) (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ، وقوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) ، وقوله: (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) ، وقوله: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط، يخفض ويرفع) ، وكل هذه الأحاديث في الصحاح. وذكر أيضاً قوله: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة) ، وحديث: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده) ، إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع. ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين] . نقل الشيخ رحمه الله هذا الكلام عن أبي بكر البيهقي -بعد أن فرغ من النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة على اختلاف عصورهم- وهو من الأشاعرة رحمه الله وغفر له، وأراد الشيخ بهذا أن يثبت أن إثبات الصفات يلزم من ذهب إلى التأويل وقال به، فإنه مضطر إلى إثبات بعض الصفات، ومن ذلك ما نقل الشيخ رحمه الله عن أبي بكر البيهقي في إثبات صفة اليدين، وهي من الصفات الخبرية التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه، وقد أولها كثير من المتكلمين، إلا أن الأشاعرة -وهم من جملة المتكلمين- سلكوا في هذه الصفات طريقين: فالمتقدمون منهم أثبت هذه الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كاليدين والعين والوجه. ثم هؤلاء المتقدمون انقسموا إلى فريقين: فمنهم من أثبت معناها، ومنهم من فوَّضها. وأما أصحاب الطريق الثاني، وهو طريق المتأخرين من الأشاعرة -وهو طريق التأويل-: فأولوا هذه الصفات ولم يثبتوها لله سبحانه وتعالى؛ فأولوا اليدين بالنعمة، وأولوا العين بالرعاية والعناية، وأولوا الوجه بأنه الذات أو الجهة، وما أشبه ذلك من التأويلات التي ذكروها في كتبهم. والبيهقي سار في هذه الصفات على طريقة المتقدمين من الأشاعرة، إلا أنه يظهر في آخر النقل عنه أنه فوض معناها، حيث قال: (وأما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب) ، فكأنه أثبتها دون التعرض لمعناها؛ لكونه قد نقل عن المتقدمين عدم تفسيرها. والناظر في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين: يعلم أنهم رحمهم الله قد فسروا هذه الآيات، وأنهم تكلموا عليها كسائر الآيات التي في كتاب الله سبحانه وتعالى، إلا أنهم أعرضوا عن ذكر الكيفية على القاعدة التي سلكوها في هذا الباب من عدم البحث في الكيفية، وأن الكيفية لا يمكن الوقوف عليها؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما لا تعلم كيفية ذاته جل وعلا؛ فكذا لا تعلم كيفية صفاته.

ذكر كلام بعض من خالف السلف في بعض الصفات

ذكر كلام بعض من خالف السلف في بعض الصفات [وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل) : لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة. وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب، وفي حكاية ألفاظهم طول. إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه، ورفع الشبهة] . هذا نقل آخر عن بعض المتأخرين الذين خالفوا طريقة السلف في إثبات الصفات، وهو القاضي أبو يعلى رحمه الله -وهو من كبراء الحنابلة- إلا أنه في باب الأسماء والصفات لم يسلك مسلك المتقدمين من أهل السنة والجماعة، بل كان له أغلاط ناشئة عن جهله بمعاني الآيات والأحاديث، وفهم طريقة السلف رحمهم الله، وقد نقل عنه الشيخ رحمه الله هذا النقل الذي فيه أنه أثبت الصفات، وهو ينزع إلى التفويض أكثر منه إلى التأويل، فمرة يفوض ومرة يؤول، ولكن أكثر كلامه يميل فيه إلى التفويض. وقد يفهم هذا من قوله: (ولم يتعرضوا لتأويلها) ؛ فقد يقول قائل: إن (تأويلها) هنا المراد به تفسيرها، ولكن قد يكون هذا المعنى بعيداً لقوله: (ولا صرفوها عن ظاهرها) أي: بمعنى أنهم أجروها على معناها الظاهر دون تعرض لتأويلها -التأويل الذي سلكه المأولة- من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى يحتمله النص مرجوح.

عقيدة الأشعري عليه رحمة الله

عقيدة الأشعري عليه رحمة الله [وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في (اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين) ، وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال: (ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث) : جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون شيئاً من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] ، وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] . وذكر مذهبهم في القدر. إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق، ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] . وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات، عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم. إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الآثار، والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة، والسعاية، وتفقد المآكل والمشارب. قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان] . الأشعري رحمه الله وغفر له هو من أصحاب الطرق الكلامية، كان في أول أمره معتزلياً، ثم بعد ذلك عدل عن هذه الطريق وانتقل إلى الرد عليهم، ثم بعد ذلك سلك طريقة أهل السنة، إلا أنه لعدم فهمه ولطول مكثه على طريقة أهل البدع؛ لم يفهم أقوال أهل السنة والجماعة الفهم التام الصحيح، فبقيت عنده رواسب كثيرة ناشئة عن عدم معرفته لمراد أهل السنة والجماعة، فمثلاً ما سيذكره بعد قليل من إثباته العرش أو استوائه على العرش، فهو يثبت الاستواء كما يثبته أهل السنة والجماعة، إلا أنه يفسره بغير ما فسره به أهل السنة والجماعة، من أنه فعل يقوم بالله جل وعلا، فهو فسره بأنه فعل يقوم بالعرش، بخلاف طريقة أهل السنة والجماعة. وما نقله عنه الشيخ في هذا المقطع موافق لأهل السنة والجماعة، وفي آخره ذكره رحمه الله (ويرون مجانبة كل داعٍ إلى البدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه) يعني: والإعراض عن طريق غيرهم ممن اشتغلوا بكلام الفلاسفة واليونان، قال: (مع الاستكانة والتواضع وحسن الخلق مع بذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المآكل والمشارب) ليبين أيضاً أن طريق السلف ليس فقط مقصوراً على التقرير النظري للأسماء والصفات، بل يشمل أيضاً التقرير العملي لهذه الأسماء والصفات، والتعبد لله عز وجل بمقتضاها. (فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.. .. . )

رجوع الأشعري إلى مذهب أهل السنة والجماعة

رجوع الأشعري إلى مذهب أهل السنة والجماعة [وقال الأشعري أيضاً في اختلاف أهل القبلة في العرش: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وإنه استوى على العرش، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} ، وأن له يدين كما قال: ((خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) ، وأن له عينين كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، وأنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى، وذكر مقالات أخرى. وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة) : (وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: (فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة) . فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، فنحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم] وهذا يبين أنه رجع عن قوله السابق الواضح في كلام المتقدمين، إلا أنه رحمه الله وغفر له لم يوفق كما ذكرنا إلى إصابة ما كان عليه الإمام أحمد والسلف إصابةً تامةً.

شرح الفتوى الحموية [24]

شرح الفتوى الحموية [24] من لازم الإيمان بالله عز وجل الإيمان بما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تعطيل ولا تمثيل، وقد أثبت الأشعري كثيراً من الصفات التي خالفهم فيها أتباعه فيلزمهم إثباتها.

إلزام الأشاعرة بإثبات الصفات

إلزام الأشاعرة بإثبات الصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة في سياق نقله لكلام أبي الحسن الأشعري من كتابه الإبانة: [وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] . وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق. إلى أن قال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً، وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً]

الأطوار التي مر بها الأشعري

الأطوار التي مر بها الأشعري هذا له صلة بما بدأه الشيخ رحمه الله من النقل عن أبي الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة) والشيخ رحمه الله لا زال في سياق النقول عن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطرائقهم، في أن جميعهم يلزمه إثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه من الأسماء والصفات، ونقله عن أبي الحسن الأشعري رحمه الله هو في بيان أن من المتكلمين من التزم منهج أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه مما اعتقدوه وقرروه في باب الأسماء والصفات، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله كان في أول أمره معتزلياً، ثم إنه ترك الاعتزال وتخلى عنه إلى مذهب الكلَّابية، ثم إنه ترك ذلك إلى مذهب السلف، فمر رحمه الله وغفر له بثلاثة أطوار، إلا أنه لما كان غير ملم ومدرك لما ذهب إليه السلف وقع في أخطاء في تفصيل وفهم كلام السلف رحمهم الله، وما نقله عنه في كتاب الإبانة وهو من آخر كتبه يبين أنه رجع عما كان يقوله من الاعتزال ومذهب ابن كلاب في باب الأسماء والصفات، وأنه نزع إلى مذهب السلف في آخر أمره رحمه الله وغفر له.

من لوازم الإيمان بالله وملائكته الإيمان بالصفات

من لوازم الإيمان بالله وملائكته الإيمان بالصفات وذكر في جملة ما نقل عنه جملة من الأمور وابتدأها بقوله: (وجملة قولنا أن نقر بالله، وملائكته، وكتبه ورسله) وفي هذا أن الإيمان بالأسماء والصفات وبالأخبار التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عن نفسه، أو ذكرها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بذلك والاعتقاد به هو من لازم الإيمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله؛ لأن الله تعالى أخبر عن نفسه، ونقلت ذلك الملائكة، وما أخبر به عن نفسه هو موجود في كتبه، وقد نطقت به رسله وبلغته إلى الخلق، فمن لازم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله أن نؤمن بما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، أو أخبرت به عنه رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وذكر في جملة ما ذكر صفة الاستواء، وأن الله مستوٍ على عرشه، وهذا أمر دلت عليه نصوص الكتاب والسنة دلالة واضحة، والاستواء صفة فعلية ضل فيها من ضل من المتكلمين، وذهب فيها مذاهب باطلة، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الاستواء صفة فعلية من صفات الله سبحانه وتعالى تليق به، وتفسيرهم لها دائر على أربع كلمات: الصعود، والاستقرار، والارتفاع، والعلو. وأما المؤولة فقد سلكوا في ذلك مسالك، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، وأولوا العرش بتأويلات باطلة، وكل هذه التأويلات أولوها ليصدوا الناس عن اعتقاد استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه. والعرش هو خلق من مخلوقات الله عظيم تقدم الكلام عليه.

بعض الصفات التي أثبتها الأشعري فيلزم أتباعه الإقرار بها

بعض الصفات التي أثبتها الأشعري فيلزم أتباعه الإقرار بها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة في سياق نقله لكلام أبي الحسن الأشعري من كتابه الإبانة: [وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] . وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق. إلى أن قال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً، وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً]

صفة الوجه واليدين والعينين

صفة الوجه واليدين والعينين ومما ذكر أيضاً إثبات صفة الوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ووجه الله سبحانه وتعالى صفة له سبحانه وتعالى صفة ذاتية خبرية أثبتها لنفسه، ويثبتها أهل السنة والجماعة كما يثبتها بعض المتكلمة، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] .

هل أسماء الله ذاته أو غيره

هل أسماء الله ذاته أو غيره (وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً) وهذه المسألة حدثت بعد القرون المفضلة، وأثارها المتكلمة، وهي هل أسماء الله ذاته أو أنها غيره، ومثل هذا الإطلاق لا يطلق لا إثباتاً ولا نفياً، بل يستفصل ويثبت منه المعنى الصحيح، ويُنفى منه المعنى الباطل؛ لأن الألفاظ المجملة يسلك فيها هذا المسلك عند أهل السنة والجماعة.

الإيمان عند أهل السنة وإثبات الأصبع لله

الإيمان عند أهل السنة وإثبات الأصبع لله قال: (ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان) وليس كل إسلام إيماناً، فالإسلام يشمل الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً؛ لأن الإيمان أخص من الإسلام، (وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعيه) وهذا فيه إثبات صفة الأصبع له سبحانه وتعالى، وهي صفة ذاتية خبرية. (وأنه عز وجل يضع السماوات على إصبع كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أن قال: (وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) وهذا من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، وهي مسألة الإيمان، وقد اختلفوا فيها في عدة أمور: منها تعريف الإيمان، فاختلف أهل السنة مع غيرهم في تعريف الإيمان، والصواب: أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، واختلفوا أيضاً في زيادته ونقصه على أقوال، والصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، وأن نقصانه بالزلل.

صفة النزول

صفة النزول قال: (ونسلم بالرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى أن قال: (ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل في النزول إلى السماء الدنيا) . وهذه صفة اختلف فيها أيضاً أهل السنة مع غيرهم، أو خالف فيها أهل السنة غيرهم، فأهل السنة يثبتون النزول صفة فعلية له سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، وأولها المؤولون من المتكلمة فحرفوها وقالوا: إن النزول المضاف إلى الله هو نزول أمره، أو نزول قضائه وقدره، أو نزول ملائكته، وما أشبه ذلك. (وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) ، وسائر ما نقلوه وأثبتوه أي: نصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول وسائر ما نقلوه وأثبتوه (خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل، ونعود فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه) يعني: ما كان في معنى الإجماع مما توافر عليه النقل ولم يذكر فيه مخالف.

صفة المجيء والقرب

صفة المجيء والقرب قال: (ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به ولا نقول على الله مالا نعلم، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة) وهذا فيه إثبات صفة المجيء وهي صفة فعلية. (كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، وأن الله يقرب من عباده كيف شاء) وهذا فيه إثبات صفة القرب له سبحانه وتعالى، واستدل لها بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، وهذه الآية فيها أن القرب صفة عامة كالمعية، تكون مع كل إنسان، إلا أن في هذا نظراً؛ لأن القرب على الصحيح ليس صفة عامة، وليس من كل أحد، بل هو قرب خاص، فإن الله سبحانه وتعالى قريب من أهل الموقف يوم عرفة، وقريب ممن دعاه، وقريب من العبد حال سجوده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فهو قرب خاص وليس قرباً عاماً لكل أحد. وأما قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فقد اختلف أهل العلم في تأويلها على قولين: منهم من جعل الضمير عائداً إلى الله جل وعلا، ومنهم من جعل الضمير عائداً إلى الملائكة، وهذا الثاني هو الصحيح، فالضمير في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} عائد إلى الملائكة لا إلى الله جل وعلا، ويدل على هذا ما بعد هذه الآية من الآيات التي تفسر وتبين القرب المذكور، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] * {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] فبين معنى القرب المذكور في هذه الآية، وهو قرب الملائكة التي تسجل وتكتب ما يصدر عن العبد من أقوال. (وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] ) وهذا لو قلنا بدلالته على قربه سبحانه وتعالى فإنه ليس عاماً بل هو قرب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن هذه الآية في تأويلها نزاع، فمن أهل العلم من يقول: إن القرب والدنو المذكور في هذه الآية هو قرب النبي من الله جل وعلا، ومنهم من يقول: إن الدنو والقرب المذكور في هذه الآية هو قرب جبريل، وهذا هو الصحيح وأن الذي دنا وتدلى هو جبريل. قوله: (إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرنا من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً) هذا أيضاً في إثبات صفة القرب. قال المؤلف رحمه الله: [ثم تكلم على أن الله يُرى، واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال: لا أقول: إنه مخلوق ولا غير مخلوق، ورد عليه] أي: وأن هذا ابتداع في الدين وعدم سلوك لطريق أهل السنة والجماعة الذين يثبتون أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى منه بدأ وإليه يعود.

إثبات صفة الاستواء عند الأشعري

إثبات صفة الاستواء عند الأشعري قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش. فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] * {أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:37] كذَّب موسى في قوله: إن الله فوق السماوات. وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] ، فالسماوات فوقها العرش، ولما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ؛ لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:16] ولم يرد أن القمر يملأهن وأنه فيهن جميعاً. ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على عرشه الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض] .

شرح الفتوى الحموية [25]

شرح الفتوى الحموية [25] الاستواء صفة فعلية لله عز وجل، تواترت النصوص من الكتاب والسنة في إثبات هذه الصفة، وقد أثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى، وقد نقل المصنف رحمه الله هنا كلام الأشعري والباقلاني الذي يلزم الأشاعرة اتباعه وعدم مخالفته.

رد الأشعري على الذين أولوا الاستواء

رد الأشعري على الذين أولوا الاستواء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين، أما بعد: [فصل: وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه استولى وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى: الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء، الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل] .

ذكر مذهب أهل البدع في الاستواء

ذكر مذهب أهل البدع في الاستواء ذكر المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي الحسن أن المعتزلة والجهمية والحرورية خالفوا فيما تقدم من ذكر الاستواء, والاستواء -كما ذكرنا- صفة فعلية، أثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه الذي يليق به، وقد دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، بل إن إثبات استواء الله عز وجل من المتواتر الذي جاءت به النصوص. واستواء الله عز وجل على العرش ذكرنا أن أهل السنة والجماعة أطلقوا في تفسيره أربع كلمات، وهذه المعاني الأربعة هي: العلو، والصعود, والاستقرار, والارتفاع، هذه الكلمات هي التي وردت عن السلف في تفسير معنى الاستواء، وهي تفسير وليست تأويلاً، أي: وليست تحريفاً للكلم عن مواضعه كما سلك أرباب الكلام. وقد بين الشيخ فيما نقله عن أبي الحسن تأويلات المتكلمين لهذه الصفة فقال: (وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية -والحرورية: فرقة من فرق الخوارج- إن معنى قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أنه استولى وقهر وملك) أي: أن استوى بمعنى استولى وقهر وملك، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن استوى جاء تفسيرها في كلام السلف بالمعاني المتقدمة، وأما تأويلها بأنه استولى وقهر وملك فهذا باطل لا يصح من حيث اللغة، ولا من حيث المعنى. ومن تأويلاتهم أيضاً: أن الاستواء بمعنى الإقبال، فقالوا: استوى على العرش بمعنى: أقبل عليه أو أقبل إليه، وكل هذه تأويلات باطلة لم ترد عن السلف، وهي مضادة لما فهم من كلام الله سبحانه وتعالى. قال: (وإن الله عز وجل في كل مكان) وهذا أمر لا يتعلق بالاستواء فحسب، بل يتعلق أيضاً بالعلو، فإن الاستواء دليل خاص من أدلة علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ولذلك استدل به أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى. وأما أدلة العلو فهي كثيرة، وقد اجتمعت عليه جميع الدلالات من الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة صفة لله سبحانه وتعالى هو علو الذات وعلو القهر وعلو القدر، فعلو القهر وعلو القدر لا خلاف فيهما بين أهل القبلة، فكلهم يثبت علو القهر وعلو القدر، لكنهم اختلفوا في علو الذات، فأثبت أهل السنة والجماعة علو الله سبحانه وتعالى بذاته على خلقه، وخالف في ذلك أهل الكلام، فقالوا: إنه سبحانه ليس عالياً على خلقه، وأولوا النصوص التي فيها إثبات علوه بأنها علو القهر أو علو القدر؛ ليفروا من إثبات علو الذات. وهؤلاء الذين نفوا العلو اختلفوا بعد ذلك في: هل الله سبحانه وتعالى في كل مكان أو أنه ليس في مكان؟ فمنهم من قال: إنه في كل مكان، وهذا قول المعتزلة والأشاعرة، وقال آخرون: إنه ليس في مكان، وهو مقتضى قول الجهمية الذين يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، وما إلى ذلك من تفصيلاتهم الباطلة.

إبطال تأويل الاستواء

إبطال تأويل الاستواء فلما اختلفوا في هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمه الله في كلامه فقال: (وإن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق) ويلزم على القولين: على قول من نفى أنه داخل العالم وخارجه، وقول من أثبت أنه في كل مكان؛ يلزم على القولين لوازم باطلة، وهم إنما فروا من إثبات العلو؛ لأنهم ادعوا أنه يلزم على إثبات العلو لوازم باطلة، لكن يقال لهم في الجواب: إن ما فررتم إليه من أنه سبحانه وتعالى ليس في مكان أو أنه في كل مكان يلزم عليه من اللوازم الباطلة أكثر مما توهتموه في إثبات العلو، فإن إثبات العلو لله عز وجل لا يلزم عليه أي لازم باطل, إذ إن كلامه سبحانه وتعالى هو كما قال عنه سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] فكلامه محكم لا باطل فيه. ثم قال الشيخ: (وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة) يعني: في تفسير الاستواء إلى قدرته، (وقالوا: إنه استوى على العرش، يعني: قدر عليه) وهذا معنى قولهم: استولى, ثم قال الشيخ في مناقشة هذا التأويل الباطل: (فلو كان كما ذكروه) يعني: لو كان معنى الاستواء الاستيلاء فـ (لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء) أي: على العرش وعلى الأرض السابعة، فهو مستولٍ على العرش وعلى غيره فلا فرق. قال: (فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، وعلى الأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها) فلا معنى لتخصيص الاستواء بالعرش في سبع آيات من كتابه. قال: (وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: -يعني: أن يقول القائل- إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في كل شيء، فلما كان من الممكن عند أهل الإسلام أن يقولوا: إن الله مستوٍ على الحشوش وعلى الأخليه دل ذلك على أن معنى الاستواء المذكور في كتابه والذي خص به العرش ليس هو معنى الاستيلاء الذي هو ثابت على كل شيء، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل) يعني: على ما قرره من أن الاستواء ليس معناه: الاستيلاء، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء باطل.

تقرير الأشعري لصفة اليدين والرد على من أولها

تقرير الأشعري لصفة اليدين والرد على من أولها قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين، وذكر الآيات على ذلك. ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقوله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته) وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده) وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي، ويعني: بها النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى: (بِيَدَيَّ) النعمة. وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه] . وهذا كما ذكر في هذا النقل، أن الصواب إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى وهي صفة اليدين، وهما ثابتتان له سبحانه وتعالى على الوجه الذي يليق به، وأما تأويل المؤولين لهذه الصفة بأنها القدرة أو النعمة فهذا تأويل غلط، لا تدل عليه النصوص، بل النصوص دالة على خلافه. وأجاب على تأويل اليدين بالنعمة بأجوبة، فبعد أن ذكر الآيات والنصوص الدالة على إثبات صفة اليدين له سبحانه وتعالى قال: (وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويريد بها النعمة) ؛ لأن التثنية لا يراد بها إلا عين المعدود، ومعلوم أن نعمة الله سبحانه وتعالى لا حصر لها ولا إحصاء؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فيستحيل إحصاؤها إن عدت. إذاً: هذا الوجه الأول في إبطال تفسير اليدين بالنعمة: وهو أن اللفظ جاء بصيغة التثنية، والتثنية لا ترد إلا ويقصد منها العدد المذكور، بخلاف الجمع فقد يرد للتعظيم، وبخلاف المفرد فقد يراد به الجنس، ولذلك كانت هذه الصيغة التي وردت في إثبات صفة اليدين من أقوى الأدلة على إثبات هذه الصفة؛ لأنه لا مجال للتأويل فيها، بخلاف الإفراد والجمع، فقد يقال: إن الجمع للتعظيم، وقد يقال: إن الإفراد لجنس النعمة وليس المراد اليد الحقيقية، مع أن الأدلة التي فيها الإفراد والجمع دالة أيضاً على إثبات صفة اليد له سبحانه وتعالى؛ لأنه لا تنسب هذه الصفة إلا لمن له يد، إذ لا تذكر الصفة وتضاف إلى شيء إلا لمن كان متصفاً بها، فلا يقال: هذا ما عمله بيده إلا لمن كان له يد، بل لابد أن يكون من أضيفت إليه اليد موصوفاً بها. قال: (وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي ويعني بها النعمة, بطل أن يكون معنى قوله تعالى: (بيدي) النعمة. وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه) والكلام في تقرير هذه الصفة طويل، والمراد أن صفة اليد ثابتة لله سبحانه وتعالى وقد وردت في كتابه تعالى على ثلاثة أوجه: وردت بالإفراد، ووردت بالتثنية، ووردت بالجمع. الإفراد كقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وكقوله: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ، والتثنية كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] , والجمع كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وكلها دالة على إثبات هذه الصفة له سبحانه وتعالى.

الباقلاني يثبت من الصفات أكثر مما تثبت الأشاعرة

الباقلاني يثبت من الصفات أكثر مما تثبت الأشاعرة [وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب (الإبانة) تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً، أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائماً بذاته أن يكون جوهراً؛ لأنا وإياكم لم نجد قائماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته، وكلامه، وسمعه، وبصره، وسائر صفات ذاته عرضاً، واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله! بل مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] . قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض] . (أن يرغب إليه) معناه: التوجه إليه، وأن يطلب ويدعى، فيسأل ويتوجه إلى الخلف وإلى الأمام وإلى السفل، ومعلوم أن فطر الناس إذا رغبت ودعت وسألت تتوجه إلى العلو. قال رحمه الله: [وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. وقال أيضاً في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والبقاء] . هذه صفات المعاني (صفات الذات) . [والوجه، والعينان، واليدان، والغضب، والرضا] . وهذه صفات فعلية، وإنما جعلها في صفات الذات لأن الأشاعرة لا يقرون بالصفات الفعلية، ولا يثبتونها، ولذلك ذكر هذه الصفات الفعلية في صفات الذات. [وقال في كتاب (التمهيد) كلاماً أكثر من هذا -لكن ليست النسخة حاضرة عندي- وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه] . وهذا من الشيخ رحمه الله يدل على أمانته في النقل، وقد وجد هذا الكتاب وحققه بعض أهل الزيغ والضلال، ولم يجد فيه هذا المقطع من الكلام الذي نقله شيخ الإسلام ونقله كذلك ابن القيم عن الباقلاني، وهو من أئمة الأشاعرة، بل هو المجدد الثاني الذي سعى في تقعيد مذهب الأشعري ونشره بين الناس، فقالوا: إن ما نسبه إليه شيخ الإسلام من هذا الكلام ليس صحيحاً وليس موجوداً في كتاب (التمهيد) المذكور، وأبطل الله كيدهم وكذبهم حيث إن الكتاب حققه مستشرق من نسخة أخرى، ووجد فيه ما نقله الشيخ بنصه، وهذا من توفيق الله ونصرته لأهل الحق.

سبب نقل المؤلف لكلام المتكلمين مع أن الكتاب والسنة والإجماع مغنية عن كلام كل أحد

سبب نقل المؤلف لكلام المتكلمين مع أن الكتاب والسنة والإجماع مغنية عن كلام كل أحد قال المؤلف رحمه الله: [وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام] . وهذا ليقر به من يعظم هؤلاء من المتكلمة، وهذا احتجاج على هؤلاء بكلامهم؛ لأنك إذا قلت: قال الباقلاني استسلم الخصم؛ لأنه يجله ويقدره، ويعده من كبار الأئمة، وكذلك إذا قلت: قال الجويني أو قال الأشعري تجده يستسلم في هذه الحالة، وما من إنسان ذهب مذهباً من مذاهب المتكلمين إلا وجدت في كلامه ما ينقض قاعدته، ولذلك كان أسلم الطرق وأحكمها وأضبطها وأبعدها عن الاضطراب طريق أهل السنة والجماعة، فهو المطرد في باب أسماء الله عز وجل وصفاته. قال رحمه الله: [وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيماناً، بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين، ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء، ولكن كثيراً من الناس قد صار منتسباً إلى بعض طوائف المتكلمين، ومحسناً للظن بهم دون غيرهم، ومتوهماً أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم. ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى] . أسلافهم تخبطوا وضلوا، وضربوا في طرق عديدة، ثم رجعوا في آخر أمرهم إلى طريق السلف، فلو أن هؤلاء ابتدءوا من حيث انتهى أئمتهم لكان خيراً لهم، ولو وفقوا مع الصدق في طلب الحق لازدادوا هدىً وخيراً، ولكن هؤلاء أعرضوا عن نهاياتهم وابتدءوا ببداياتهم، أي: ببدايات أئمتهم، فتخبطوا وضلوا، وكان خاتمة كثير منهم أن وصل إلى حيث يبتدىء أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله: [ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة، ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] ، فإن اليهود قالوا: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا. قال الله تعالى لهم: {فَلَمْ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم، يقول سبحانه وتعالى: لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يتبع الحق لا من طائفته ولا من غيرهم، مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان] . رحم الله المؤلف ما أصدق بيانه! وأجمل كلامه! فهو يبين لهؤلاء ويقول لهم: إنكم إذا لم تقبلوا كلام السلف وقلتم إنهم لم يخوضوا بهذه المعاني، فاقبلوا كلام أئمتكم، ولا تكونوا كالذين ذمهم الله بأن تركوا كلام أنبيائهم وتركوا كلام الأنبياء غير أنبيائهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح الفتوى الحموية [26]

شرح الفتوى الحموية [26] الجويني من كبار الأشاعرة، لكنه خطا بالمذهب الأشعري خطوات غير قليلة نحو الاعتزال، ثم لازم مذهب السلف -في نظره- وهو التفويض، وقد نقل عنه المصنف رحمه الله ما يقرر مذهب السلف، ويرد على الأشعرية المتأخرين.

ذكر اعتقاد الجويني في الأسماء والصفات

ذكر اعتقاد الجويني في الأسماء والصفات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه (الرسالة النظامية) : اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب. فقال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة، وهو حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل؛ كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الله عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه] . هذا آخر نقل ينقله الشيخ رحمه الله من النقول التي حشدها لتقرير مذهب أهل السنة والجماعة، وبيان أن طريقة أهل السنة لازمة حتى للمتكلمين، فإن كثيراً منهم قال فيما كتب وألف كلاماً يوافق فيه الصواب الذي جاء عن السلف الصالح رحمهم الله. والنقل هنا عن أبي المعالي الجويني، وهو من أئمة الأشاعرة الكبار، إلا أنه تميز عن سائر الأشاعرة بأنه خطا بالمذهب الأشعري خطوات غير قليلة نحو الاعتزال، فهو من أئمتهم الذين نزعوا إلى الطريقة الاعتزالية، والذي حمله على ذلك تناقض الطريقة الأشعرية واضطرابها. والجويني كان في أول أمره مؤولاً، أي: محرفاً على طريقة المتكلمين، ثم إنه بعد أن رأى أن طريقته لا توصل إلى معرفة بالله سبحانه وتعالى، ولا إلى علم بما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه؛ انصرف عن هذه الطريقة إلى ما اعتقده أنه طريق السلف وهو التفويض، فترك التأويل إلى التفويض، ولذلك قال: (وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل) ومقصوده بالتأويل: التحريف الذي عليه المتكلمون (وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب) ، وهذا غلط منه كما غلط غيره في فهم منهج السلف، حيث ظن أن منهج السلف التفويض، وأن طريقهم عدم التعرض لمعاني هذه الأسماء والصفات، وقد تقدم إبطال هذا الطريق وإبطال هذا الأمر، وبيان أن أهل السنة والجماعة يفسرون كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي تحتمله اللغة، والوجه الظاهر منها، والذي يفهمه أهل اللسان، ومع ذلك فهم فيما يثبتونه لله سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات لا يحرفون ولا يعطلون ولا يمثلون ولا يكيفون، بل يثبتون كل ذلك على قاعدتهم التي أخذوها من كتاب الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . ثم قال: (والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك) أي: في صحة هذا وهو وجوب اتباع السلف؛ (إجماع الأمة، وهو حجة متبعة) ، فالأمة أجمعت على أن أفضل الطرق وأن خير السبل في جميع الأبواب العلمية والعملية الاعتقادية؛ هو طريق السلف، فلما كان الإجماع على ذلك، وكان طريقهم في باب أسماء الله وصفاته تختلف عن طريق المؤولين والمتكلمين، وجب الرجوع إليها. ثم قال: (وهم صفوة الإسلام) ذكر بعد ذلك دليلاً عقلياً على صحة طريقهم الذي ثبت، وهو أنهم يثبتون ما أثبتوه لله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال: (درج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها) ، والمقصود الصحيح من هذا الكلام أي: ترك تحريفها، وإلا فهم فسروا آيات الصفات وبينوا معانيها. قال: (وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظه) ، ولا شك أن من ظن غير هذا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التابعين وتابعيهم رضي الله عنهم ورحمهم الله؛ فقد كذب قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محكوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة) ؛ لأن العلم بالصفات هو أصل العلوم، إذ إنه علم بالله سبحانه وتعالى، وإنما جاءت الرسل وبعثت، وأنزلت الكتب لتعريف الخلق بربهم، فإذا كان الصحابة لم يهتموا بهذا -مع شدة الحاجة إليه- كان في ذلك اتهاماً لهم، بل لو كان الطريق الذي سلكه المتكلمون هو الطريق الصحيح؛ لكان اهتمام السلف في بيان صحة هذا الطريق وتقريره أعظم من اهتمامهم بأي أمر آخر. والمتكلمون يعتذرون للصحابة والتابعين عن سلوك طريق المتأخرين، بأنهم كانوا مشغولين بتبليغ الرسالة والدعوة إليها، والجهاد في سبيل الله وما إلى ذلك، فانشغلوا عن الطرق الكلامية والحجج العقلية. وهذا كذب! لأنهم إنما انشغلوا بهذا لدعوة الناس إلى ما جاء به الكتاب والسنة، والكتاب والسنة قد جاءا بما اعتقده الصحابة رضي الله عنهم، ودعوا إليه من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ثم قال رحمه الله: (وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين) يعني: عن كلام المحدثين في باب أسماء الله وصفاته، وغير ذلك من الأبواب الغيبية. قال: (ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى) والصواب في هذا أن يقال: وأن يحمل المشكلات على المحكمات، كما هو منهج الراسخين في العلم، الذين أثنى الله سبحانه وتعالى على طريقهم وسبيلهم. قال: (فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، وما صح من أخبار الرسول؛ كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه) ، يعني: ما ذكره من اعتقاده التفويض بمنهج السلف، ونحن نقول على ما سبق تقريره من القاعدة الكلية في هذا الباب؛ إن الحق هو إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن يعتقد أن كل كمال فالله به أولى، وأنه لا يلزم على كلام الله ولا على كلام رسوله صلى الله عليه وسلم باطل، إذ لو لزم على ذلك باطل لما صدق قوله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ، ولما صدق قوله سبحانه وتعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] . المهم أن أهل الكلام أقروا فيما كتبوه وفي آخر أمرهم وبعد تجوالهم في الطرق الكلامية، بسلامة طريق السلف، وأنه هو الطريق الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذا من فضل الله ونعمته، فالحمد لله الذي هدانا لما أضلهم عنه.

الكتاب والسنة هما المرجع والمتبع

الكتاب والسنة هما المرجع والمتبع [قلت: وليعلم السائل أن الغرض -من هذا الجواب- ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله -من المتكلمين وغيرهم- يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: (اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً -أو قال: فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم! قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً -أو قال كلاماً هذا معناه-) . فأما تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه، فما تتسع له هذه الفتوى، فقد كتبت شيئاً من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب -إن شاء الله- في ذلك ما يحصل به المقصود] . على ما كتب في تقرير هذا الباب وبيانه، فكتبه رحمه الله من أفضل ما كتب في تقرير مسائل الاعتقاد جملة وتفصيلاً، فرحمه الله وجزاه عن الأمة خيراً، والكلام واضح فيما نقله عن أهل العلم، لاسيما المتكلمون الذين لا يوافقون أهل السنة والجماعة، ولا يوافقون ما قرره الشيخ في كل ما قاله وما ذهب إليه، إنما قد يكونون وافقوا في بعض الأمور وخالفوه في البعض الآخر، وهذا فيه فائدة أشار إليها الشيخ: وهي أن الحق يقبل من كل من تكلم به، والحق يعرف بموافقته للكتاب والسنة، وما ذكره معاذ رحمه الله ورضي عنه في قوله: (إن على الحق نوراً) ، فهذا النور الذي على الحق هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في وصف كتابه، فإنه وصف كتابه بأنه نور، والنور الذي في الحق هو من نور كتاب الله جل وعلا. قال أجزل الله مثوبته ورحمه: [وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور، لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته، ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة] . كلام الله جل وعلا لا تناقض فيه، وهذا مقتضى الإحكام الذي وصفه به سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ، أي: صينت وحفظت وأتقنت عن أن يكون فيها شيء من الاضطراب والاختلاف. ثم انظر إلى الشروط التي يحصل بها الاهتداء بالحق، وهذان سطران فيهما إجمال الأسباب التي يهتدي بها الإنسان إلى الصواب. (جماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور -بشرط:- لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه) ، فالواجب التدبر {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، فالتدبر من أفضل ما يعين الإنسان على معرفة وفهم مقاصد الشريعة، والأصول الكلية في هذا الدين العظيم، فإن النية مطية كما قيل، وإنما الأعمال بالنيات، فإذا صدق العبد في نيته وفي طلبه للحق؛ فتح الله له الحق ويسره له، لكن إذا كانت نيته مشوبة، أو غير خالصة؛ فإنه لا يوفق لإصابة الصواب, قال: (وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه) والصواب: أن يحسن الإنسان النية والقصد. قال: (وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته) أي: أعرض عن طريق المخالفين لمن فقه هذا الكتاب والسنة، والذين فقهوه هم السلف رحمهم الله، فإذا اجتمع في الطريق: تدبر وحسن قصد، وإعراض عن سبيل المخالفين للكتاب والسنة؛ وفق إلى خير كبير. ثم أعطى قاعدة ليحل بها ما قد يرد على المؤمن من إشكالات في هذا الباب -في باب الأسماء والصفات وفي غيره-: (أن كلام الله جل وعلا لا يضطرب ولا يختلف) ، فإذا حصل اضطراب أو اختلاف فليتهم الإنسان نفسه ورأيه، وإلا فكلام الله لا اضطراب فيه ولا اختلاف، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فالله سبحانه وتعالى دعا الخلق إلى تدبر هذا الكتاب. ثم أخبر بأن الكتاب لا اختلاف فيه؛ لأنه منه، وهذا يشير إلى أن الاختلاف الذي قد ينقدح في ذهن أحد أو يظنه ظان، إنما أتي وأصيب به من قبل عدم تدبره ونظره {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ، لكن لما كان من عند الله فلا اختلاف فيه, والسبيل إلى الوقوف على أنه لا اختلاف فيه أن يتدبر الإنسان كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يحسب الحاسب أن شيئاً منه يناقض بعضه ألبتة، وبهذا نقف عند هذا المقدار، ثم سيذكر الشيخ مثالاً لذلك لينفي الاضطراب والتناقض. اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.

شرح الفتوى الحموية [27]

شرح الفتوى الحموية [27] نصوص الكتاب والسنة لا تناقض فيها، فلا يعارض الاستواء على العرش كون الله معنا، بل كل ذلك حقيقة لا تعارض فيه، كما بينه الشيخ في هذه المادة.

لا تعارض بين معية الله وعلوه

لا تعارض بين معية الله وعلوه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه) . وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة] . ذكر المؤلف رحمه الله بعد أن قال: (ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه البعض ألبتة) مثالاً لما قد يتوهم من التناقض فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، فقال رحمه الله: (مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك) ، يعني: من الأحاديث أو النصوص سواء من الكتاب أو السنة التي تدل على معيته سبحانه وتعالى، قال: (فإن هذا غلط) أي: اعتبار نصوص المعية مخالفة لنصوص العلو والاستواء (وذلك أن الله معنا حقيقة) ، أي: كما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، (لا نحتاج في ذلك إلى تأويل) أي: لا نحتاج في ذلك إلى تحريف، بل نثبته كما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه في كتابه. (وهو فوق العرش حقيقة) أي: كما أخبر في كتابه، وكما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم (كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، فجمع بين هذين المعنيين وبين هاتين الصفتين في آية واحدة, فدل ذلك على أنه لا تعارض بينهما ولا تناقض، بل إثبات علو الله سبحانه وتعالى على عرشه لا يناقض أنه سبحانه وتعالى مع خلقه حقيقة. ثم قال: (فأخبر أنه فوق العرش) يعني: في هذه الآية، (وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال) وهو حديث مشهور رواه الترمذي بسند لا بأس به وفيه: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) . وأضيف الحديث للأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال, والأوعال: جمع وعل، وهو في اللغة تيس الجبل، ويطلق أيضاً في اللغة على الأشراف والكبراء من كل شيء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعلو السفول وتهلك الوعول، قيل: وما السفول يا رسول الله؟ قال -ما معناه- أنهم أردأ القوم, قيل: وما الوعول يا رسول الله؟ قال: أهل البيوت الصالحة) أي: الأشراف من أهل الخير والصلاح. فالوعول: هم الأشراف وهم من أشرف خلق الله سبحانه وتعالى, كما ثبت أنهم ثمانية يحملون العرش في حديث الأوعال. فالله جل وعلا على عرشه، وهو فوقه سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو يعلم سبحانه وتعالى ما أنتم عليه، وهذا تفصيل وبيان لمعنى المعية المذكورة في الآية، وأنها ليست المعية التي تقتضي المخالطة والممازجة، بل هي معية العلم كما فسرها بذلك المفسرون من أهل السنة والجماعة. قال: (وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال) أو عن أي جهة، فالذي تفيده كلمة (مع) هو المقارنة والمصاحبة، لكن لا يستلزم ذلك وجوب المماسة أو المحاذاة من أي جهة من يمين أو شمال أو فوق أو تحت، (فإذا قيدت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى) ولم تفد المحاذاة والمماسة. يقول في ضرب الأمثال على صحة هذه القاعدة وأن (مع) في اللغة تدل على المقارنة المطلقة لا على المحاذاة والمماسة: (مازلنا نسير والقمر معنا) ، ومعلوم أن القمر ليس مخالطاً ولا محاذياً ولا مماساً لمن قالوا بهذا القول، قال: (أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة) ، فلا تعارض بين معنى العلو ومعنى المعية. ولما كان هناك من يفهم من ذلك المعارضة بين هاتين الصفتين؛ جرى كثير من أهل العلم على ذكر الصفتين مقترنتين، فإذا ذكر بحث العلو أو الاستواء ذكر معه بحث المعية؛ ليبين عدم التعارض بين هاتين الصفتين، كما جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في آية الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

أقسام المعية

أقسام المعية قال رحمه الله: [ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)) إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؛ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] الآية، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا) ، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد] .

المعية العامة

المعية العامة بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان عدم التعارض بين إثبات صفة المعية، وإثبات صفة العلو، بيَّن أن المعية تطلق ويختلف معناها بحسب موردها وبحسب السياق الذي وردت فيه، فهي تدل على معنى مشترك في الجميع، إلا أنها تختص في مواردها بمعان خاصة، فقوله جل وعلا في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وفي سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، فهذه المعية معناها معية العلم، وهي على حقيقتها، وهي التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال (والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه) ، فهي معية العلم التي تقتضي تمام علمه سبحانه وتعالى، وإحاطته بخلقه، وبما يجري منهم، وهذه المعية تسمى (المعية العامة) ، وهو القسم الأول من المعية، وهي مع كل شيء حيث يعلم سبحانه وتعالى به, فهو الظاهر والباطن والأول والآخر، وهو سبحانه وتعالى بكل شيء محيط.

المعية الخاصة

المعية الخاصة القسم الثاني من أقسام المعية: المعية الخاصة التي تدل على معنى زائد على العلم والإحاطة، وهي معية النصر والتأييد والحفظ، وما إلى ذلك من المعاني التي يدل عليها هذا اللفظ في موارده، فمن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه كما قص الله في كتابه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، قال: (كان هذا حقاً على ظاهره لا تأويل فيه ولا تحريف، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية يخالف حكم المعية السابقة) ، فإن حكم المعية في الآيتين السابقتين: الإحاطة والعلم، أما هنا فهو أمر زائد على الإحاطة والعلم، وهي معية الاطلاع والنصر والتأييد والحفظ، وما إلى ذلك من المعاني. قال: (وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} قال: (هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد) ، وهذا هو القسم الثاني من أقسام المعية، وهي المعية الخاصة التي لا تكون إلا لعباد الله الصالحين؛ من المحسنين، والمتقين، والمرسلين. وهي تختلف باختلاف الإحسان التقوى، فعلى قدر تحقق هذه الأوصاف التي أخبر الله سبحانه وتعالى فيها بأنه مع أهلها تتحقق المعية لهم.

اختلاف دلالة المعية بحسب موضعها وسياق ذكرها

اختلاف دلالة المعية بحسب موضعها وسياق ذكرها [وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف؛ أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر، ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه، ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع. فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية؛ فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها] . أي: سواء قلنا: إن المعية في كل موضع تختص بمعنى خاص، أو: إن المعية تشترك في هذه المواضع كلها بمعنى عام مشترك، وفي كل موضع تختص بمعنى خاص بها مع وجود المعنى العام المشترك، فعلى كلا التقديرين ليست هذه الصفة معارضة لما ثبت من علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، (وليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها) .

الألفاظ المتواطئة تشترك في أصل المعنى وإن اختلفت بحسب المورد

الألفاظ المتواطئة تشترك في أصل المعنى وإن اختلفت بحسب المورد

الربوبية العامة والربوبية الخاصة

الربوبية العامة والربوبية الخاصة قال: [ونظيرها من بعض الوجوه: (الربوبية، والعبودية) ، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية، فلما قال: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121-122] ؛ كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره؛ فقد ربه ورباه ربوبية وتربية أكمل من غيره] . أي أن إضافة معنى الربوبية إلى جميع الخلق ليس كإضافته إلى بعض الخلق، فإن الربوبية هي الإصلاح والرعاية والتنمية والتدبير، وربوبية الله للعالمين ليست على درجة واحدة، فربوبيته لعموم الخلق ليست كربوبيته لموسى وهارون ولأوليائه الصالحين من عباده المتقين، بل هي متفاوتة، فكذلك المعية، وهذا وجه ذكر الربوبية هنا، وهو تنظير المعية بها، فالمعية معناها العام مشترك، لكنها تختص في كل موضع بمعنى يقتضيه ذلك المورد أو ذلك الموضع؛ فكذلك الربوبية كما في قوله: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} فالربوبية هنا في موسى وهارون ليست هي الربوبية التي أضيفت للعالمين على العموم، بل هي أمر زائد على ذلك المعنى.

العبودية العامة والعبودية الخاصة

العبودية العامة والعبودية الخاصة قال رحمه الله: [وكذلك قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6] ، وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] فإن العبد تارة يعنى به المعبَّد فيعم الخلق] . وذلك كما يقال: طريق معبَّدة أي: مذللة، فالخلق كلهم عبيد لله عز وجل بهذا المعنى العام، أي: أنهم ذليلون لله لا مناص لهم ولا إمكانية أن يخرجوا عن أحكامه سبحانه وتعالى القدرية الكونية. قال: [كما في قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ،وتارة يعنى به العابد؛ فيختص، ثم يختلفون] . المراد: العابد بالأمر الشرعي الديني، لا العابد بالأمر الكوني القدري، فالعابد بالأمر الكوني القدري يدخل في مثل قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، ويدخل في ذلك الكفار والمشركون وأهل الكتاب والنصارى، والمحادون لله ورسوله، لكن المعنى الخاص في مثل قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} المقصود: أهل العبادة الشرعية الدينية الذين امتثلوا أمر الله عز وجل الشرعي فقاموا به، وكذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} فهنا العبودية التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هي أعلى أنواع العبادة الدينية الشرعية التي تطلق ويراد بها العابد. قال: [فمن كان أعبد علماً وحالاً كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل مع أنها حقيقة في جميع المواضع، ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس (مشككة) ؛ لتشكك المستمع فيها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط؟] . الأسماء المتواطئة هي: ما اتحد لفظه ومعناه، كالإنسان يطلق على زيد وعمرو ومحمد وعلي بمعنى واحد، فاللفظ واحد والمعنى واحد، أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط دون المعنى، فهي مشتركة في اللفظ لكن معناها يختلف باختلاف الأفراد، فتقول مثلاً: نور القمر ونور الشمس ونور المصباح، فمعنى النور في هذه الإضافات مختلف، وذلك من جهة القوة والشدة والضعف، وما إلى ذلك. [والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة] . لأن اللفظ المشكِكِ داخل في الأسماء المتواطئة، وهي ما اتحد لفظه ومعناه. [إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، وإن كانت نوعاً مختصاً من المتواطئة، فلا بأس بتخصيصها بلفظ] . فالعبودية فيها معنى مشترك وهو الذلة، لكن هذا المعنى يختلف، فالعابد لله عز وجل شرعاً تحقق فيه كمال العبودية القدرية التي يشترك فيها جميع المخلوقات، وتحقق فيه العبادة الخاصة وهي العبادة الشرعية التي يتميز بها عباد الله، فالمعنى المشترك موجود بين من تعبد لله شرعاً، وبين من لم يتعبد له شرعاً، أي: أن الكافر والمؤمن يشتركان في أنهما عبدان لله، من جهة أن أمر الله الكوني القدري يمضي عليهما، لكن المؤمن تميز بأنه تعبد لله شرعاً: أطاع أمره ونهيه، فتميزه بالعبادة الشرعية لا يخرجه عن وصف العبودية؛ هذا معنى كلامه.

إضافة المعية إلى المخلوقات والاستواء إلى العرش

إضافة المعية إلى المخلوقات والاستواء إلى العرش قال رحمه الله: [ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات -كإضافة الربوبية مثلاً- وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش] . فالاستواء لا يضاف إلا للعرش، لكن المعية والربوبية والعبودية تضاف إلى عموم الخلق. [وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط لا حقيقة ولا مجازاً؛ علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف] . فإثبات هذه الصفات على الوجه الذي دلت عليه ألفاظ الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنه لا اضطراب بينها ولا تناقض بينها في إثبات ما أثبتته، وما حوته من معان هو الواجب. فاللفظ المتواطئ هو: ما اتحد لفظه ومعناه مثل الإنسان، أنا ذكرت لكم النور في المشترك، وهذا غلط، النور في المتواطئ؛ لأنه متحد لفظاً ومعنىً لكن القدر مختلف، لكن المثال الصحيح للمشترك هو المشتري أو العين, المشتري يطلق على الذي أخذ الشيء بثمن، ويطلق على الكوكب، فاللفظ واحد والمعنى مختلف، والعين تطلق على الذهب، وتطلق على الماء، وتطلق على العين الباصرة, فاللفظ واحد والمعنى مختلف. إذاً: المشترك ما اتحد لفظه فقط، وأما المتواطئ فهو ما اتحد لفظه ومعناه مثل الإنسان، ومثل النور. نقف على هذا والله تعالى أعلم.

شرح الفتوى الحموية [28]

شرح الفتوى الحموية [28] عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الله مستو على عرشه حقيقة، واستواءه سبحانه وتعالى لا ينافي معيته لخلقه، ومنهج السلف في صفات الله عموماً نفي الكيف وتفويضه، وإثبات المعنى المتبادر إثباتاً يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، ومن ادعى غير ذلك فهو مخطئ أو كاذب. وقد انتشرت حكاية عن مذهب السلف وهي: (أمروها كما جاءت) وفهم منها غير مرادهم، وقد بين شيخ الإسلام خطأ من يظن أن السلف مفوضة أو مؤولة.

استواء الله على العرش وكونه في السماء لا يفهم منه الحصر والاحتواء

استواء الله على العرش وكونه في السماء لا يفهم منه الحصر والاحتواء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق كلامه على المعية: [ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله (إن الله في السماء) أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا! وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السُفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض] . المؤلف رحمه الله يجيب على ما قد أثاره بعض المتكلمين، أو شكك فيه بعض المشككين، من أن السماء تحويه أو تحيط به إذا قيل بالاستواء، أو أنه تعالى في السماء، فبين أن المقصود أنه سبحانه وتعالى في العلو، فقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: أأمنتم من في العلو؛ لأن السماء اسم جنس لما علا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (إذ السماء إنما يراد به العلو) وليس المراد ما توهمه المتوهمون من أنه سبحانه وتعالى تحيط به السماء، أو ما إلى ذلك من الظنون الكاذبة والأقوال الباطلة. ثم إن هذا الظاهر الذي يزعمونه في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لا يأتي إلا على آراء هؤلاء المشككين، أما أهل اللسان وأهل الإسلام فإنهم لا يقولون بهذا، ولا يوردون هذا على ظنونهم ولا على آرائهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى العلي الكبير، فلا يحيط به شيء، بل هو جل وعلا محيط بكل شيء. قال: [وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه؟] . مخلوقاته جل وعلا تحيط بالسماوات والأرض كما قال في الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وكرسيه إلى عرشه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فكيف به جل وعلا وهو الكبير المتعال؟ فتعالى الله عن هذه الظنون التي ظنها هؤلاء علواً كبيراً، فإنه أبطل هذا المعنى بأنه -أولاً- لا يرد على أذهان أهل الإسلام، بل لو سألت سائر أهل الإسلام لما ورد على أذهانهم هذا. ثانياً: أن اللغة لا تدل عليه، إذ أنه في اللغة يراد بالسماء العلو. ثالثاً: أنه إذا كان بعض مخلوقاته وسع السماوات والأرض فكيف به سبحانه وتعالى. [وقد قال سبحانه: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ، وقال: {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ} [آل عمران:137] بمعنى (على) ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاًَ، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة] . هذا هو المعنى الثاني الذي يمكن أن تفسر به الآية: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي: أأمنتم من على السماء، وليس المراد أن السماء تحويه كقوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ومعلوم أنه لم يشق النخل ويضعهم فيها، وإنما علقهم عليها، وهكذا قوله: {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ} والمراد سيروا عليها لا بداخلها.

الكلام على قول السلف (أمروها كما جاءت) ونحو ذلك

الكلام على قول السلف (أمروها كما جاءت) ونحو ذلك قال: [وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه) الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك -ولله المثل الأعلى- ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخلياً به، فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله! وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلياً به، وهو آية من آيات الله؛ فالله أكبر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابهاً للمرئي، فالمؤمنون إذاً رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه، كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلاً. ومن كان له نصيب من المعرفة بالله، والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد. واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل، فإن قوله: ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يراد بكون أن الله قبل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و (إن الله معنا) ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار معذوراً في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظاً ومعنى] .

المعنى الأول المغلوط في الحكاية عن السلف بأن ظاهر نصوص الصفات غير مراد

المعنى الأول المغلوط في الحكاية عن السلف بأن ظاهر نصوص الصفات غير مراد هذا المعنى الأول من قول القائل: إن مذهب السلف إقرار النصوص على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد, والشيخ رحمه الله فصل الإطلاق في قول القائل: (ظاهرها غير مراد) فإن هذا لفظ مجمل يحتاج إلى تفصيل، وهذا هو شأن الشيخ رحمه الله في كثير من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً، هذا معنى قوله: (مجمل) أي: أنه يشتمل على حق وباطل، ففي مثل هذه الألفاظ المجملة يجب الاستفصال، فلا تُثبت مطلقاً، ولا تنفى مطلقاً، بل يفصل. قال: (فإن قوله: ظاهرها) أي: نصوص الصفات (غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين) يعني: يحتمل أن مراده بظاهرها ما يفهم من هذه النصوص من أنها كصفات المخلوقين، فالسمع الذي أثبته الله لنفسه والبصر الذي أثبته الله لنفسه إذا كان ظاهرها الذي يشير إليه صاحب هذه المقولة أنها كسمع الناس وبصرهم، فلاشك أن إطلاقه صحيح، ثم يقال: يناقش في هل هذا هو ظاهر النصوص أو لا؟ فهذا الذي عناه ليس هو ظاهرها، مع أنه إذا كان هذا مراده فهل هذا إطلاق صحيح أم لا؟ إذا كان يراد أن ظاهر النصوص -في قوله: (وظاهرها غير مراد) - المماثلة فإن نفيه صحيح، أي: فقوله: (ظاهرها غير مراد) صحيح، لكن يناقش في أمرين: يناقش أولاً: في أن هذا لفظ مجمل ينبغي ألا يطلق، بل يفصل ويبين المعنى المراد. ويناقش ثانياً: في أن هذا اللفظ هل ظاهره يقتضي المماثلة أو لا؟ ولا شك أن ظاهر النصوص لا تقتضي المماثلة؛ لأن الخالق له ما يناسبه، والمخلوق له ما يناسبه، وقد بين ذلك بياناً واضحاً في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . (مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و (أن الله معنا) ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلاشك أن هذا غير مراد، ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب المعنى) . انظر إلى دقة كلام الشيخ: (أصاب في المعنى ولم يصب في اللفظ) ، يعني: لم يصب في قوله: (ظاهرها غير مراد) ؛ لأن هذا لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، لكن الخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث. غير مراد، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. ثم استدرك الشيخ رحمه الله فقال: (اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس) كأن يكون هذا في بعض البلدان أو في بعض الأماكن أو في بعض الجماعات، فيظهر لهم من هذا اللفظ ما ذكروه، فهنا يكون الإطلاق صائباً باعتبار؛ لأنه ظاهر بالنسبة لهم، ولذلك قال: (فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار معذوراً في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، فيخفى على شخص ما يظهر لغيره، ويظهر له ما يخفى على غيره) وكان أحسن من هذا أن يبين أن هذا ليس هو الظاهر، ولا تطلق مثل هذه العبارات حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظاً ومعنى.

المعنى الثاني لما يحكى عن السلف من قولهم (ظاهرها غير مراد)

المعنى الثاني لما يحكى عن السلف من قولهم (ظاهرها غير مراد) [وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم، أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً، أو جوازاً خارجياً غير مراد، فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن لأحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة. وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف؛ بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين: أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره. وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف. أما في كثير من الصفات فقطعاً: مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك] . هذا الاحتمال الثاني لهذا الإطلاق الظاهر غير المراد عندهم, وهو: (أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا تختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة) يعني: أن النصوص التي احتوت الصفات التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأنها تليق بالله سبحانه وتعالى، وهي من صفاته الواجبة أو من صفاته الجائزة, من قال: إن هذه النصوص التي احتوت هذه الصفات أن ظاهرها غير مراد فقد أخطأ وقد ضل، لأن ظاهر النصوص في مثل هذا لاشك أنه مراد؛ لأن الله سبحانه وتعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين، فلا يجوز لأحد أن يصرف هذا الظاهر ويقول: إن ظاهر النصوص غير مراد، بل ظاهر النصوص مراد يجب الإيمان به، وإلا لما كان في كلام الله سبحانه وتعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فائدة، إذا كان ظاهر كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم غير مراد.

خطأ من يظن أن السلف مؤولة لكن لم يتكلموا لاحتمال غير تأويلهم

خطأ من يظن أن السلف مؤولة لكن لم يتكلموا لاحتمال غير تأويلهم إذاً: فهمنا المعنى الباطل من قوله: (الظاهر غير مراد) أي: أن المعاني الصحيحة التي اشتملت عليها هذه الآيات وهذه الصفات غير صحيحة, هذا المعنى الباطل الذي احتملته هذه اللفظة والسلف منه براء، ولذلك قال: (فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب) وهذا من العدل، أن تذكر جميع الاحتمالات، إما أن يكون أخطأ فيما نقله بأن وقف على نصوص فهم منها أن السلف لم يتطرقوا للمعاني ولم يثبتوا ظاهرها، أو أنه كذب عليهم بعد مطالعته لما ذكروه رحمهم الله من إثبات معاني الصفات, فما يمكن لأحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع وبصر ويد حقيقة, فذكر رحمه الله الصفات الذاتية، وذكر الصفات الخبرية، وذكر الصفات الفعلية, فقوله: (أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش) هذا فيه إثبات الصفات الفعلية؛ لأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن (ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر) وهذا في الصفات الذاتية، ويد حقيقة هذه من الصفات الخبرية. [وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف] وهذا ليس بصحيح, طريقة أهل التأويل طريقة محدثة مبتدعة، نهى عنها السلف، وهي لا توصل إلى علم ولا إلى معرفة بالله سبحانه وتعالى قال: [بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى] لكنهم اختلفوا في كيفية التعامل مع هذه النصوص، فالمتأخرون خاضوا في هذه النصوص وأولوها وصرفوها عن ظاهرها، وأما السلف -على قول هذا- فإنهم أمسكوا عن هذه النصوص ومعانيها، وفوضوها دون نظر إلى معانيها، وإنما قالوا: الظاهر غير مراد. يقول: [ولكن السلف سكتوا عن تأويلها -وهو مذهب المفوضة- والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره، وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف] وهذا الكلام من الشيخ رحمه الله عود على بدء، عود على ما تقدم في أول الرسالة من إبطال قول من قال: إن السلف يسلكون مسلك التفويض في باب الأسماء والصفات. قال رحمه الله: [وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً] لأنه ورد عنهم رحمهم الله تفسير هذه الصفات, فلما ورد عنهم تفسير هذه الصفات علم منه أن السلف يثبتون هذه الصفات ويثبتون معانيها، وأن من قال: إن السلف أولوا ولم يخوضوا في المعاني فهذا كذب عليهم، وضرب أمثلة لما فسره الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، قال: [مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك] . يعني: صرحوا بحقيقة معانيها وأن معانيها مرادة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

شرح الفتوى الحموية [29]

شرح الفتوى الحموية [29] التزم السلف الصالح رضوان الله عليهم في باب الأسماء والصفات بما جاء في الكتاب والسنة، غير مؤولين ولا محرفين، ومع ذلك اتهموا بالعظائم زوراً من قبل أهل البدع، وما ضرهم ذلك.

الواجب في باب الأسماء والصفات

الواجب في باب الأسماء والصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل -إما نصاً وإما ظاهراً- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحداً منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً، كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. وكانوا إذا رءوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل، وهذا كثير جداً في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً، كذباً منهم وافتراءً، حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155] ، وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا) وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة: مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة] . هذا المقطع الذي سمعناه، فيه أن الشيخ رحمه الله لم يقف على من نفى الصفات الخبرية من السلف رحمهم الله، وذلك في جميع ما أثر وجاء عنهم، لا في نص كلامهم ولا ظاهره، ولا بالقرائن التي تحتف بالنصوص، فمذهب السلف رحمهم الله هو إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى، وهي الصفات الخبرية، كمذهبهم في الصفات الفعلية والذاتية، ونص على الصفات الخبرية؛ لأن كثيراً من المتكلمين يشغبون على أهل السنة والجماعة في إثباتها، ويسمونهم بما وسموهم به ووصفوهم به من التشبيه والتمثيل؛ لأنهم لم يعقلوا من تلك الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين والقدم والأصابع إلا ما عرفوه من المخلوق، فقالوا: إن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم، ويقتضي التركيب، هذه شبهتهم الكبرى التي صرفتهم عن إثبات هذه النصوص، فلما اعتقدوا أن هذه النصوص تقتضي التجسيم والتركيب، وأنها تقتضي التشبيه أو التمثيل، نفوها وسموا من أثبتها مجسمة أو مشبهة أو حشوية، أو غير ذلك من الأسماء التي سموا بها أهل السنة والجماعة. وأهل السنة والجماعة رحمهم الله كما أنهم أثبتوا الصفات على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، وكما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، فإنهم أنكروا على الممثلة الذين قالوا بأن صفات الخالق كصفات المخلوق, أنكروا عليهم ذلك أشد الإنكار، فهم جمعوا في عقدهم الذي دانوا به رب العالمين في باب الأسماء والصفات بين الإثبات الموصوف بأنه من غير تعطيل ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل, فهم نفوا هاتين البدعتين، فهم رحمهم الله وسط بين الممثلة وبين المعطلة، ونقل عن نعيم بن حماد هذا القول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فكلا هذين السبيلين ضلال عن سواء السبيل، وأخذ بنصيب من البدعة في باب الأسماء والصفات، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً، بل تثبت على الوجه الذي وردت به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا الواجب في باب الأسماء والصفات. ثم قال عنهم رحمهم الله: (وكانوا إذا رءوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات، قالوا: هذا جهمي معطل) وهذا الوصف يصف به أهل السنة والجماعة جميع المتكلمة، فاسم الجهمية يطلقه السلف على كل من عطل في باب الأسماء والصفات، سواء كان تعطيله كلياً كالجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات، أو كالمعتزلة الذين ينفون الصفات ويثبتون الأسماء, أو كالأشاعرة الذين يثبتون الأسماء وبعض الصفات، فقولهم: هذا جهمي معطل، أي: هذا متكلم ضل عن طريق السلف في باب الأسماء والصفات، فأول وحرف، ويقولون هذا كثيراً جداً في كلامهم، وذلك أن الجهمية كانوا يغلون في نفي التشبيه، ولكنهم لا يثبتون الصفات، فاستدل أهل السنة والجماعة على من سلك هذه الطريق أنه جهمي معطل. قال: (فإن الجهمية والمعتزلة) ومقصوده بالجهمية هنا من نفى الأسماء والصفات؛ لأنه قرنهم بالمعتزلة، والمعتزلة الذين نفوا الصفات إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً؛ كذباً منهم وافتراء (حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك -أي: بالتشبيه- حتى قال ثمامة بن الأشرس: ثلاثة من الأنبياء مشبهة) فإذا كان طريق الأنبياء هو التشبيه باعترافهم فلا طريق يوصل إلى مرضاة رب العالمين إلا الطريق الذي سلكه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ إذ أنهم الأدلاء على الله جل وعلا، فهم الذين دلوا الخلق على ربهم، وعرفوهم به سبحانه وتعالى. ثم ذكر أن جل المعتزلة يعد أئمة الإسلام الكبار من المشبهة, فدل ذلك على أن المعتزلة يقرون بأن طريق السلف طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وطريق أئمة الدين هو ما كان عليه السلف رحمهم الله من إثبات الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

ما اتهم به أهل السنة من قبل أهل البدع

ما اتُّهم به أهل السنة من قِبَل أهل البدع قال: [وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءاً أسماه: تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة، ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه -يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد- كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها. فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة تسميهم شكاكاً، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية، ونوابت، وغثاء، وغثراً، إلى أمثال ذلك. كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارة شاعراً، وتارة كاهناً، وتارة مفترياً. قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح، والمتابعة التامة، فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقاداً واقتصاداً، وقولاً وعملاً، فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها بناءً على عقيدتهم الفاسدة- فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات، باطناً وظاهراً. وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهراً وباطناً بحسب الإمكان فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصاً يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها- كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر رضي الله عنه وعمر فقد أبغض علياً؛ لأنه لا ولاية لـ علي إلا بالبراءة منهما، ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبياً، بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب. وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات، وخلق أفعال العباد، فقد سلب من العباد القدرة والاختيار، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة. وكقول الجهمي: من قال: إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود، وأنه مشابه لخلقه. وكقول الجهمية المعتزلة: من قال: إن لله علماً وقدرةً، فقد زعم أنه جسم مركب، وأنه مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة. ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها- فهو وربه، والله من ورائه بالمرصاد: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]] . في هذا المقطع ذكر الشيخ رحمه الله التهم التي اتهم بها أهل السنة والجماعة؛ بسبب استقامتهم على الصراط المستقيم في هذه الأبواب التي ذكرها رحمه الله فقال: (ذكر فيه) يعني: في كتاب أبي إسحاق (كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه) ثم شبه حال هؤلاء مع أهل السنة بحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم, وأن ما وصف به أهل السنة والجماعة من هذه الألقاب التي تشمئز منها النفوس وتكرهها وتنفر منها ليس دليلاً على ضلال طريقهم، وخطأ سبيلهم، بل طريقهم صواب، ومقياس ذلك ومعياره هو كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرافضة تسمي أهل السنة ناصبة

الرافضة تسمي أهل السنة ناصبة قال رحمه الله: (فالروافض تسميهم) أي: تسمي أهل السنة (نواصب) يزعمون أن أهل السنة ناصبوا أهل البيت العداء، فسموهم بذلك أي: سموهم بهذا السبب نواصب.

القدرية يسمون أهل السنة مجبرة

القدرية يسمون أهل السنة مجبرة (والقدرية يسمونهم مجبرة) لأن أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية الذين يقولون: إن الأمر أنف، وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، ولما كانت المجبرة تقابلهم فتقول: إن كل ما يصدر عن المرء مجبر عليه لا خيار له فيه ولا إرادة, فلما كان أهل السنة وسطاً بين القولين نسب القدرية أهل السنة والجماعة إلى المجبرة وهم من يقابلهم.

المرجئة تسمي أهل السنة شكاكا

المرجئة تسمي أهل السنة شكاكاً (والمرجئة تسميهم شكاكاً) ؛ لأن المرجئة عندهم الإيمان مجرد المعرفة، ولما كان أهل السنة والجماعة يدخلون الأعمال في الإيمان فإنهم سموهم بالشكاك؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بالعمل، هذا وجه. ووجه آخر لأن أهل السنة والجماعة يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا كان للتبرك، أو إذا كان بالنظر إلى العاقبة والخاتمة، فإنه لا يدري ما يختم له به هل يختم له بالإيمان أو لا، فيستثني، ففي هاتين الحالتين يجوز الاستثناء عند أهل السنة والجماعة, أما المرجئة فلا يجوز عندهم الاستثناء، ولما أجاز أهل السنة والجماعة الاستثناء في هاتين الحالتين سموهم شكاكاً، أي: أنهم شكوا في حصول الإيمان منهم.

الجهمية تسمي أهل السنة مشبهة

الجهمية تسمي أهل السنة مشبهة قال: (والجهمية تسميهم مشبهة) ومقصوده بالجهمية هنا المعطلة من أهل الكلام عموماً من الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وغيرهم على اختلاف درجاتهم, قال: (وأهل الكلام يسمونهم حشوية) والحشوية من الحشو وهو الفضل الذي لا خير فيه, كذا (نوابت) النوابت: جمع نابت وهو النبت الصغير مما لا نفع فيه أيضاً (وغثاء) وهو الرديء من كل شيء (وغثراً) أي: جهالاً لا يفهمون ولا يفقهون إلى أمثال ذلك (كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارة شاعراً، وتارة كاهناً، وتارة مفترياً) .

اتهام أهل البدع لأهل السنة دليل على صحة مذهبهم

اتهام أهل البدع لأهل السنة دليل على صحة مذهبهم ثم قال رحمه الله: (فهذه) أي: تسمية هؤلاء الضلال لأهل السنة والجماعة بما سموهم به ورموهم به، كل هذا دليل على صحة طريقهم وسلامته، فهذا (علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة) ؛ لأن من صدق في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والتزم بسنته فإنه مصيبه ما أصابه. قال: (فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقاداً واقتصاداً) (اعتقاداً) يعني: بالعقل (واقتصاداً) أي: استقامة في السلوك والعمل (وقولاً وعملاً, فكما أن المنحرفين عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة، وكذلك التابعون له على بصيرة، الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطناً وظاهراً) أي: كذلك هم في رميهم وسبهم ونسبتهم وتسميتهم بهذه الأسماء القبيحة.

أقسام الناس في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم

أقسام الناس في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الشيخ رحمه الله قسم الناس في اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أقسام: منهم من يتابع النبي صلى الله عليه وسلم في الباطن والظاهر، ومنهم: من يتابعه في الباطن دون الظاهر، ومنهم: من يتابعه في الظاهر دون الباطن، وأردأ هذه الأقسام هو من تابعه في الظاهر دون الباطن. ثم قال: (والذين وافقوه ظاهراً وباطناً بحسب الإمكان) أي: بحسب ما تبين لهم مع عدم إصابتهم لما كان عليه صلى الله عليه وسلم, يعذرون فيما أخطئوا فيه، ويؤجرون فيما أصابوا فيه، ويكونوا من المجتهدين الذين تدور حالهم بين الأجر والأجرين, قال: (فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصاً يذمونهم به، ويرمونهم به، ويسمونهم بأسماء مذمومة) كما ذكر رحمه الله. ثم فصل ما أجمل فيما تقدم فقال: (كقول الروافض: من لم يبغض أبا بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه فقد أبغض علياً؛ لأنه لا ولاية لـ علي إلا بالبراءة منهما) وهذا كذب وتلازم باطل، فالصحابة وأهل السنة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين يحبون أبا بكر وعمر، ويحبون علياً ولا تعارض في الجمع بين محبة هؤلاء. (ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبياً بناءً على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب، وكقول القدرية: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد فقد سلب من العبد الاختيار والقدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا اختيار) والصواب خلاف هذا كما مر معنا في العقيدة الواسطية، فأهل السنة والجماعة يثبتون أن للمخلوق إرادة، ولكن هذه الإرادة لا تخرج عما أراده الله سبحانه وتعالى، والمخلوق له إرادة معتبرة ليست كالجمادات، وهذه الإرادة لا تخرج عما أراده الله جل وعلا وقدره. قال: (وكقول الجهمي: من قال: إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور) ؛ لأنه فوق العرش، وما كان فوق العرش فلا بد أن يكون محصوراً على زعمه، (وأنه جسم) لأن إثبات الاستواء يقتضي التجسيم, قال: (جسم مركب محدود) ؛ لأن العرش مركب محدود (وأنه مشابه لخلقه) ؛ كل هذه لوازم باطلة وخيالات فاسدة، إنما ألقاها في روعهم الشيطان الرجيم، الذي شبه عليهم بهذه الشبهات حتى يبعدهم عن طريق المرسلين (وكقول الجهمية المعتزلة: من قال: إن لله علماً وقدرة فقد زعم أنه جسم) ؛ لأنه لا يوصف بهذه الصفات إلا ما كان جسماً، (مركب) يعني: من أجزاء, وأنه مشبه، قال: (لأن هذه الصفات) وهذا تعليل ما ذكروه من لازم على إثبات العلم والقدرة، وسائر الصفات، (لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، والجوهر هو حقيقة الشيء وذاته، والعرض هو ما ينتابه ويزول عنه) . ثم قال: (وكل متحيز جسم مركب، أو جوهر فرد) يعني: كل جوهر ينقسم إلى قسمين مركب أو جوهر فرد, المركب: هو المركب من أجزاء، وهو ما كان من جوهرين فردين فما فوق، هذا المركب في اصطلاح المتكلمين, وأما الجوهر الفرد: فهو الشيء الذي لا يقبل القسمة, يعني: إذا جئت بجسم فقسمته وقسمته حتى وصلت إلى جزء لا يقبل القسمة فهذا يسمى عند المتكلمين جوهراً فرداً، يعني: لا يقبل القسمة (ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة) . ثم قال (ومن حكى عن الناس المقالات، وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة، بناء على عقيدتهم التي هم مخالفون فيها فهو وربه) يعني: الله حسيبه، والله جل وعلا على ما يقول رقيب، وهو على ما يقول شهيد، وينبغي على العبد أن يتأنى، وأن يطلب الصواب، وألا يتهم الآخرين الموافقين للكتاب والسنة بهذه التهم الباطلة. ثم قال: (والله من ورائه بالمرصاد {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلابِأَهْلِهِ} وهذا واقع، فإن الذين اتهموا أهل السنة بما اتهموهم به رجعوا إلى طريق أهل السنة والجماعة، هذا في أئمتهم فضلاً عن صغارهم الذين يعدون من الأتباع، ولا عبرة بهم. نقف على هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [30]

شرح الفتوى الحموية [30] الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً حقيقية لا تشبه ذوات المخلوقين، كذلك له صفات حقيقة لا تشبه صفات المخلوقين سبحانه وتعالى، وإذا كان هناك بعض المخلوقات لم يعرف حقيقتها ولا كنهها كالجنة وما فيها من نعيم، والروح التي تحل في جسد المخلوق؛ فمن باب أولى أن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته لا يعلم حقيقتها إلا هو سبحانه.

أقسام الطوائف تجاه الصفات

أقسام الطوائف تجاه الصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد: قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها. وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. وقسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان: أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه توجه الرد بالحق. الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به، فالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضا، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه، واليد، والعين، في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة -وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين- جاز أن يكون وجه الله، ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح] .

من يجعل ظاهر الصفات من جنس صفات المخلوقين

من يجعل ظاهر الصفات من جنس صفات المخلوقين في ختام هذه الرسالة أجمل الشيخ رحمه الله الفرق في باب الأسماء والصفات, فقال: (وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة) أي: من أهل الإسلام الذين ينتسبون إليه، الذين يتوجهون إلى القبلة، وهذه من أوسع الألفاظ التي تشمل الفرق المنتسبة إلى الإسلام (أهل القبلة) كل من توجه للقبلة بغض النظر عما اعتقده في باب الأسماء والصفات، وغيرها من العقائد. (قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها) أي: تجرى الأسماء والصفات وآياتها وأحاديثها على ظواهرها، (وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها, وقسمان يسكتون) ويأتي تفصيل ذلك فيما سمعنا بعضه، (أما الأولون فقسمان: أحدهما من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة) أي: هؤلاء الممثلة الذين يقولون: صفات الله جل وعلا كصفات خلقه لا فرق بينها، فالسمع الذي أثبته الله لنفسه كالسمع الذي ثبت للمخلوقين وسائر الصفات، كذلك البصر وغير ذلك من الصفات، وهؤلاء قلة لنفور النفوس عن تشبيه الخالق بالمخلوق، فإن النفوس مفطورة على إجلال الله وتقديره وتعظيمه، وأنه ليس كخلقه، فلما كان الأمر كذلك كان القائلون بهذا القول قلة لا يذكرون، وقد انقرض مذهبهم، فلا ممثل بعد انقراض مذهب الكرامية.

من يجري الصفات على ظاهرها اللائق بجلال الله

من يجري الصفات على ظاهرها اللائق بجلال الله ثم قال: (ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليه توجه الرد بالحق، أما الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات) فالعليم والقدير والرب والإله كل هذه من أسماء الله سبحانه وتعالى، وأما الموجود والذات فهذه ليست أسماء لله؛ لأن الأسماء مبناها على التوقيف، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الله يسمى بهذين الاسمين، وإنما ذكرهما الشيخ رحمه الله تبعاً، وليس مراده أن الله سبحانه وتعالى يسمى بالموجود أو أنه يسمى بالذات. قال: (ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث) جوهر تقدم لنا تفسيره في الدرس السابق وهو حقيقة الشيء، ويفسره المتكلمون بالمتحيز (إما جوهر محدث وإما عرض قائم به) يعني: قائماً بذلك الجوهر المحدث. هذا بالنسبة للمخلوق، فإثبات هذه الصفات بالنسبة للمخلوق إما جوهر محدث، وإما أعراض تقوم بهذا الجوهر، وأما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فهي ليست كالتي تثبت للمخلوق، بل الذي له سبحانه وتعالى يليق به، ولا يلزم عليه هذه اللوازم التي يذكرونها, قال: (فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه -يعني: في حق المخلوق- أجسام، -أي: جوهر- فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرةً وكلاماً ومشيئةً، وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين, جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوق) وهذا إلزامهم ببعض ما قالوه، فلما قالوا بجواز وصف الله سبحانه وتعالى بالعلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والمشيئة وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية التي يثبتونها؛ جاز وصفه بذلك، ولم يلزم من هذا الإثبات مشابهتها لما اتصف به المخلوق، وكذلك في الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين وما أشبه ذلك، فلا تلازم بين إثبات هذه وبين التمثيل، بل نثبتها على الوجه الذي يليق بالله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال: (فإن كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة وكلاماً ومشيئة، وإن لم يكن ذلك عرضاً يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين؛ جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، وهذا) أي: ما تقدم (من إثبات ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف رحمهم الله، وعليه) أي: على هذا (يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه) وهذا من دقة الشيخ رحمه الله وإنصافه، يدل عليه كلام جمهورهم، يعني: من نقل عنه الكلام في هذا الباب منهم أي: من السلف فإنه يدل عليه، ومن لم ينقل عنه النص على هذا فإن عموم كلامه يدل على صحة هذا المذهب، وهذا أمر واضح.

الأدلة على صحة ما ذهب إليه السلف من إثبات الصفات

الأدلة على صحة ما ذهب إليه السلف من إثبات الصفات قال: [وهو أمر واضح، فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، فمن قال: لا أعقل علماً ويداً إلا من جنس العلم واليد المعهودين، قيل له: فكيف تعقل ذاتاً من غير جنس ذوات المخلوقين؟ ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه] . الاستدلال بالقاعدة الأساسية في باب الأسماء والصفات هي أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فما يثبت في الذات يثبت في الصفات. قال: فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.

الجنة ونعيمها

الجنة ونعيمها قال رحمه الله: [وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تُعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) ، وقد أخبر الله تعالى: أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى؟!! وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم، حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن، والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟] . بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله الدليل الأول على صحة ما ذهب إليه السلف، وأن إثبات الصفات لا يقتضي المماثلة، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وأن الكلام في بعض الصفات كالكلام في باقيها؛ أتى بما يدل على أن من المخلوقات ما لا تدرك حقيقته، وإن كان قد وصف بأوصاف، وذكرت له أحكام، إلا أنه لا تدرك حقيقته للجهل بحقيقة ذلك المذكور، قال: (بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فإذا كان نعيم الجنة هو خلق الله كذلك) يعني: لا تعلم حقيقته، ولا تدركه العقول على الحقيقة، ولا تتصوره على حقيقته (فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟) فالواجب إذا كان هذا في بعض المخلوقات أن يكون الخالق أولى في هذا من خلقه، وألا تصله الظنون، بل يجب على المؤمن أن يثبت ما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

الروح وحلولها في الجسد

الروح وحلولها في الجسد وبعد أن ذكر المثال الأول وهو الجنة وما أخبر من النعيم فيها ذكر مثالاً آخر وهو الروح في الدنيا، وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، مع وجوب إثباتها، والكل يثبت الروح، ويختلفون في حقيقتها، ومع هذا لم يصلوا إلى معرفة كنهها وحقيقتها، بل لما سألوا عنها قال الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [الإسراء:85] فأثبت الروح وبين الجهل بحقيقتها وإدراكها، وهي مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وما أخبر به عن نفسه يجب أن يجرى على هذه الطريقة. قال: (مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع، كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة) أي: لا نغالي في تجريد الروح من هذه الأوصاف كما غلا (المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن، والانفصال عنه، وتخبطوا فيها، حيث رءوها من غير جنس البدن وصفاته) فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها, يعني: بحسب ما يناسبها ويليق بها، إلا أن يفسر كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟ يعني: يبعد أن يفسروا كلامهم الذي خالف النصوص على معنى يوافق النصوص. فالمقصود من هذين المثالين إثبات أن بعض المخلوقات يعرف ولا تدرك حقيقته، ولا تدرك كيفيته أو كيفية صفاته، فكذلك الله جل وعلا وما أخبر به عن نفسه, نؤمن بذلك من غير أن نطلب كيفية، ولا أن نمثل، ولا أن نؤول أو نعطل, وبهذا يكون قد انتهى القسمان الأولان وهم من يقولون: تجرى على ظواهرها. قال رحمه الله: [ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً، أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن، وأنها ليست مماثلة له، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً، فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة، فكيف الظن بصفات رب العالمين؟] . (ولا نقول: إن الروح مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً) يعني: لا نقول: إن الروح هي جزء كالدم والبخار بل هي تختلف؛ لأن الدم والبخار لا قوام له بغير البدن، وأما الروح فإنها تكون قائمة موجودة متأثرة بدون البدن, قال (أو صفة من صفات البدن والحياة، وإنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن) وهذا يجب اعتقاده في الروح: أنها عين، وأنها تقبض، وأنها تصعد وتنزل، هذا الذي يجب اعتقاده، وقد تكلم عليها ابن القيم رحمه الله كلاماً مفصلاً في كتابه الروح، قال: (وإنها ليست مماثلة له) أي: للبدن (وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً، فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة) المعطلة الذين ينفون إثبات الصفات للروح، ويقولون: إنها مجردة عن الصفات, والممثلة الذين يقولون: إنها كالبدن أو كجزء منه كالدم والبخار، (فكيف الظن بصفات رب العالمين؟) فكما أننا في الروح بين الممثلة والمعطلة، فكذلك نحن في صفات الله سبحانه وتعالى وما أخبر به عن نفسه بين الممثلة والمعطلة. نقف على هذا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح الفتوى الحموية [31]

شرح الفتوى الحموية [31] من آثار علم الكلام تكذيب النصوص أو تحريفها وتعطيلها؛ لذا حذر أهل العلم منه أشد التحذير، وأما من خاض فيه فكثير منهم تحسّر أشد التحسر، ومن تتبع مآل من خاض فيه رأى العجائب والعبر.

أقسام نفاة ظواهر نصوص الصفات

أقسام نفاة ظواهر نصوص الصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته الحموية: [وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني: الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته: إما سلبية وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات، وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر، أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، كما قد عرف من مذاهب المتكلمين، فهؤلاء قسمان: قسمٌ يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه إلى غير ذلك من معاني المتكلمين، وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه] .

المؤولة

المؤولة المؤولة من المتكلمين الذين نفوا ظواهر النصوص، وقالوا: إن النصوص لا تدل على صفات نثبتها لله سبحانه وتعالى، هؤلاء انقسموا إلى أقسام -كما هو ظاهر من كلام الشيخ رحمه الله-: فمنهم من قال: (إن الله لا صفة له ثبوتية) , يعني: لا يثبتون له صفة ثبوتية, فلا يثبتون له علماً ولا قدرةً ولا إرادةً، (بل صفاته إما سلبية) ، فيقال مثلاً: لا عليم لا سميع لا بصير، (وإما إضافية) يقولون: إن هذه الصفات المثبتة له هي مضافة إضافة خلق لا إضافة صفة إلى الموصوف، فالذين يقولون: سمع الله وكلام الله، يقولون: نثبت أن لله سمعاً، لكنه ليس صفة له، بل هو مخلوق من مخلوقاته, فيقولون: السمع مضاف إلى الله إضافة خلق لا إضافة صفة، قال: (وإما مركبة منهما) أي: من السلب والإضافة, فيقولون: سميع بلا سمع, بصير بلا بصر، فيجمعون السلب والإثبات، أو يقولون: لا نقول: سميع ولا نقول: ليس سميعاً، فيصفونه بالسلب والإثبات جميعاً، فيجمعون بين النقيضين، يجمعون بين الإضافة وبين السلب, وهؤلاء هم الجهمية. قال: (أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشرة) هذا يشير به إلى مثبتة الصفات من المتكلمة، وهم الأشاعرة ومن شابههم كالكلابية، والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أثبتوا بعض الصفات لله سبحانه وتعالى، واختلفوا فيما يثبتونه له من الصفات، فأثبتت الأشاعرة -وهو قول جمهورهم- سبع صفات، وأضاف البعض صفة ثامنة، وهي صفة البقاء، وزاد بعضهم صفات أخرى, فقالوا: نثبت لله الصفات، وننفي عنه أضدادها فتكون أربع عشرة صفة، ولكن المشهور من مذهب الأشاعرة هو الاقتصار على سبع صفات. قال: (أو يثبتون الأحوال دون الصفات) والأحوال جمع حال، وهي مما يصعب تعريفه وإدراكه؛ لأنه لا حقيقة له، وقد قال بالأحوال النظام من المعتزلة، وهو معدود من الأمور التي لا حقيقة لها، ككسب الأشعري وطفرة النظام، فهذه ثلاثة أمور يذكرها أهل العلم، ويذكرون أنه لا حقيقة لها؛ ولذلك يصعب تعريفها وبيانها. قال: (أو يثبتون الأحوال دون الصفات على ما قد عرف من مذهب المتكلمين، فهؤلاء) أي: هؤلاء الذين ينفون ظواهر النصوص ويؤولونها (قسمان: قسم يتأولونها ويميزون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين) أي: المتأولين المحرفين للكلم عن مواضعه.

المفوضة

المفوضة (وقسم: يقولون: الله أعلم بما أراد، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه) يعني: لا يثبت بهذه النصوص من الآيات والأحاديث صفة خارجية، إنما نثبت أن ظاهرها غير مراد، ومعناها الله أعلم به، وهؤلاء الذين يجعلون آيات الصفات من المتشابه الذي يدخل في قوله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران:7] ويقفون، هؤلاء جعلوا آيات الصفات غير مرادة الظاهر، وأن لها معنى لكن لا يعلم، وهذا من أقسام المفوضة كما تقدم في ذكر أقسامه.

الواقفة

الواقفة قال: [وأما القسمان الواقفان: فقوم يقولون: يجوز أن يكون المراد ظاهرها اللائق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات، فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها] . قال: (وأما القسمان) قسم يقول: إن النص يحتمل هذا، أي: يحتمل ظاهرها ويحتمل التأويل, وقسم لا ينظرون في هذه النصوص أصلاً ويعرضون عنها ولا يتأملونها ولا يتدبرونها، يقبلون على قراءة القرآن وعلى قراءة الأحاديث دون النظر إلى المعاني، وهؤلاء يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي: لا تنفذ معانيه إلى قلوبهم ولا تؤثر فيه؛ لأنهم يقرءونه كما يقرءون حروف الهجاء: ألف باء تاء ثاء لا يعقلون لها معاني, فهؤلاء يصدق عليهم قوله جل وعلا: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ؛ لأنهم لا يعقلون هذه المعاني، وكل هذه الفرق ضالة إلا من أثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

الوقوف مع النصوص في الصفات

الوقوف مع النصوص في الصفات [والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله -سبحانه وتعالى- فوق عرشه، وتعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، دلالة لا تحتمل النقيض] . وتعلم طريقة الصواب في هذا -أي: في نصوص الأسماء والصفات من الآيات والأحاديث- وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالة لا تحتمل النقيض؛ كآيات الاستواء, فإنها دلالة لا تحتمل النقيض من أن مراد الله تعالى إثبات الاستواء لنفسه، وكدلالة النصوص على علوه سبحانه وتعالى، فإنها ظاهرة في معناها لا تحتمل نقيض ما دلت عليه. [وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض] . مثل النصوص التي فيها اليد والعين {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] قالوا: يحتمل أن المراد: عنايتنا وحفظنا، لكن هذا ليس هو الظاهر من النص المتبادر، فهو معنى مرجوح ليس معنى ملغى، والراجح هو إثبات النص على ما دل عليه في إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى، فهذا يغلب على الظن إثبات هذا الوصف الذي دلت عليه الآية مع احتمال النقيض واحتمال عدم دلالته على الإثبات، لكن هذا احتمال ضعيف.

موقف المرء من الصفات متوقف على مقدار علمه وإيمانه

موقف المرء من الصفات متوقف على مقدار علمه وإيمانه [وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان] بين هاتين المرتبتين؛ بين أن تكون دلالة النص لا تحتمل النقيض، وبين أن تكون دلالته غالبة, يختلف باختلاف قدر الناس وعلمهم ومعرفتهم بدلالات النصوص.

اللجوء إلى الله عند عدم القدرة على إدراك الحق

اللجوء إلى الله عند عدم القدرة على إدراك الحق [ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وفي رواية لـ أبي داود: أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك. فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة، ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة لها، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة. ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم، أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان؛ ازداد إيماناً وعلماً بما جاء به الكتاب والسنة، فإن الضد يظهر حسنه الضد، وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً، وبقدره أعرف إذا هدي إليه] . هذا الكلام مفيد جداً في إصابة الصواب في جميع أبواب العلم، وفي جميع أنواع الخير، وإنما يخطىء المرء الخير والصواب في العلم بسبب اختلال أحد الأمور التي ذكرها الشيخ رحمه الله, بعد أن ذكر تفاوت الناس في دلالات النصوص على صفات الله سبحانه وتعالى بين أن تكون دالة دلالة لا تحتمل النقيض، وبين أن تكون دالة دلالة تحتمل النقيض. قال: (ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم) وذكر الدعاء العظيم الذي فيه افتقار العبد لله جل وعلا أن يبلغه الرشاد، وأن يدله إلى الصواب، وبعد أن ذكر الشيخ رحمه الله هذا الحديث قال: (فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر -أي: أدام النظر- في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين؛ انفتح له طريق الهدى) فهذه موجبات الهداية وأسبابها، وهذه مقتضياتها، فمن أخذ بها فقد انفتح له طريق الهدى: الدعاء، والافتقار الذي فيه شدة اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ومطالعة الكتاب والسنة، وإدامة النظر فيهما، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين الذين تلقوا عنهم. ثم إنَّ مما يثبته ويدله على الصواب -بعدما سبق- أن يعلم نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب من -تناقض واضطراب وحيرة وضلال كما تقدم ذلك في النقول عنهم (وعرف [أن] غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة) إذا طالع كلامهم وأدلتهم وحججهم؛ رأى أنها شبه، (ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية) هذه عمدتهم فيما ذهبوا إليه من تأويلات، وكلها أدلة فاسدة باطلة يصدق عليها ما ذكره الشيخ: حجج تهافتُ كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور ثم ختم طرقهم بقول: (وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً، وبقدره أعرف) .

خطورة علم الكلام

خطورة علم الكلام قال: [فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته، فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية، ومن أنهاه فقد عرف الغاية، فما بقي يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً لمعظم هؤلاء. وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان. ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8-9] ؛ يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة] . يعني: هو فيما يقوله في الحقيقة بين شبهة وخيال، بلا حجة يعتمد عليها ويستند إليها وينطلق منها، إنما هو في شبه وخيال؛ ولذلك تجده ينقض ويرد على نفسه بنفسه، ولا يحتاج أن ينقضها خصمه، فتجده يثبت في كلامه ما نفاه، وينفي ما أثبته، وهذا لتناقضه وضعف حججه، ودلالة القول الصحيح والدليل السليم عدم التناقض، فالتناقض دليل فساد القول.

التحذير من علم الكلام

التحذير من علم الكلام قال: [وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها: حجج تهافتُ كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26] ، ومن كان عليماً بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم، حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلموا أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً] . هذا جزاء كل من ترك الكتاب والسنة، فإنه لا يصل إلى هدى، إنما يصل إلى ضلال، ولذلك كانت البدعة لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً، مع أنه يظن أنها تقربه إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا فيه رد العمل، وفيه أنه لا يحصل له مقصوده من العمل، فهو رد من حيث العمل ذاته، من حيث حصول مقصوده. [فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين] . وبهذا نكون قد انتهينا من هذه الرسالة المباركة، التي نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الانتفاع بما فيها، وأن يجعلها في موازين حسناتنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1