شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصيام

ابن تيمية

كتاب الصيام جماع معنى الصيام في أصل اللغة: الكف والإمساك والامتناع, وذلك هو السكون, وضده الحركة, ولهذا قرن الله تعالى بين الصوم والصلاة؛ لأن الصلاة حركة إلى الحق, والصوم سكون عن الشهوات, فيعم الإمساك عن القول والعمل من الناس والدواب وغيرها. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقال الخليل: الصيام قيام بلا عمل, والصيام الإِمساك عن الطعام, وقد قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]؛ أي: صمتاً, ويقال: صام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف, ويقال: هو الذي أمسك عن

الصهيل, قال النابغة الذبياني: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحتَ العجاجِ وخيلٌ تعلك اللُّجَما ومصام الفرس ومصامته موقوفه, وصامت الريح إذا ركدت فلم تتحرك, وصامت البكرة إذا لم تَدُرّ, وصام النهار صوماً إذا قام قائم الظهيرة واعتدل كأن الشمس سكنت عن الحركة في رأي العين. ثم خُصَّ في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه, وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع, ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ فإن الإمساك عن هذه الأشياء في زمن الصوم أوكد منه في غير زمن الصوم, [و] إذا كان هذا الوقت قد حظر فيه المباح في غيره؛ فالمحظور في غيره أولى؛ كالحرم والإحرام والشهر الحرام, وقد يتبعه الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس في مكان مخصوص؛ فهو من جنس الصوم, يقال منه: صام يصوم صوماُ وصياماً. وسُمي الصيام الصبر.

1 - ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر». وقد قيل: إنه عني بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن شهواتها. وسُمي أيضاً السياحة.

مسألة: ويجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم, ويؤمر به الصبي إذا أطاقه

والصوم خمسة أنواع: الصوم المفروض بالشرع وهو صوم رمضان أداءً, وقضاءً, والصوم الواجب في الكفارات, والواجب بالنذر, وصوم التطوع. مسألة: ويجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم, ويؤمر به الصبي إذا أطاقه. في هذا الكلام فصول: أحدها: أن صيام رمضان فرض في الجملة, وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف, وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...} الآيات [البقرة: 183 - 185]. 2 - وأما السنة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت». 3 - وقوله في حديث جبريل: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً».

4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس, فأتاه رجل, فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر». قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: «الإسلام: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان». قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإنك إن لا تراه؛ فإنه يراك» ... وذكر الحديث. متفق عليه. 5 - وعن أبي هريرة: أن أعرابيّاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته؛ دخلت الجنة. قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان». قال: والذي نفسي بيده؛ لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه. فلما ولَّى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا». متفق عليه. 6 - وعن طلحة بن عبيد الله؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دَوِيَّ صوته ولا نفقه ما يقول, حتى دنا؛ فإذا هو يسأل عن الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة». فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" «وصيام

رمضان». قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة, فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا؛ إلا تطَّوع». قال: فأدبر الرجل, فقال: والله؛ لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق». 7 - وعن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من القوم (أو: من الوفد؟»). قالوا: ربيعة. قال: «مرحباً بالقوم (أو: بالوفد) غير خزايا ولا ندامى». فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام, وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر؛ فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربع وأنهاهم عن أربع, أمرهم بالإيمان بالله وحده, وقال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تعطوا من المغنم الخمس». ونهاهم عن أربع, عن الجنتم والدباء والنقير والمزفت, وربما قال: المقير. قال: «احفظوهن, وأخبروا بهن من ورائكم». رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وقد أجمعت الأمة إجماعاً ظاهراً على وجوب صيام شهر رمضان, وأنه الشهر التاسع من شهور العام بين شعبان وشوال, والأفضل أن يقال: جاء شهر

رمضان, وصمنا شهر رمضان؛ موافقة للفظ القرآن وأكثر الأحاديث. فأما إطلاق رمضان عليه: فقال القاضي وغيره: يكره إطلاق هذا الاسم عليه من غير قرينة تدل على أن المراد به الشهر؛ لأن الله سبحانه قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. 8 - ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ [قال]: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».

رواه أحمد بن عدي. وفي رواية: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان». 9 - وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان؟ فقال: «أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم». 10 - وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل؛ فانسبوه إليه كما نسبه لكم في القرآن». رواه ابن شاهين. وظاهر الأثر المذكور يقتضي كراهة إطلاق رمضان عليه بكل حال؛ لأنه نهى أن يقال: جاء رمضان, ومعلوم أن هذه قرينة, ونهى عن تسمية رمضان.

11 - وقد روى أبو سعيد الأشج وغيره عن مجاهد: أنه كره أن يقول: رمضان, ويقول: شهر رمضان؛ كما سمى الله شهر رمضان. ولعل وجه هذا 'ن كان له أصل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما كان يرمض الذنوب في هذا الشهر على الشهر فيحرقها ويفنيها؛ كان هذا من أسمائه, لكن على هذا التقدير لا يُسمى الشهر رمضان, لا مطلقاً ولا مقيداً؛ لأن الاسم لله سبحانه, اللهم إلا أن يُقال: الاسم مشترك يُسمَّى به الله سبحانه ويسمى به الشهر, فيجوز مع القرينة أن يُعنى به الشهر؛ كما قد قيل مثل هذا في الرب والملك والسيد ونحو هذا. وقال غيره من أصحابنا [كـ] ابن الجوزي: لا يكره تسميته رمضان بحال. 12 - وهذا هو المعروف من كلام أحمد؛ فإنه دائماً يطلق رمضان ولا يحترز عن ذلك؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان؛ فتحت أبواب الجنة». متفق عليه. 13 - وعنه أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً؛ فليصمه». رواه الجماعة.

14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه. 15 - وعمن سمع في فلق فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من صام رمضان. متفق عليهما. 16 - 18 - وعن أبي أيوب وجابر وثوبان, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من

صام رمضان, ثم أتبعه بست من شوال ...» وذكر الحديث. رواه مسلم وغيره. 19 - وعن سلمة بن المحبق؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». وفي لفظ: «من أدركه رمضان في السفر». رواهما أبو داوود. 20 - 21 - وعن أبي هريرة وعن عائشة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أصبت أهلي في رمضان. متفق عليهما. وهذا كثير في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما عن أصحابه؛ فأكثر من أن يُحصى.

قالوا: ولأنه لم يذكر أحد في أسماء الله رمضان, ولا يجوز أن يُسمى به إجماعاً. والحديثان المتقدمان لا أصل لهما: أما الأول؛ فإن مداره على أبي معشر, والثاني مداره على إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن هشام بن عروة. وأما قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضانَ}؛ فكقولهم: شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر, وهو من باب إضافة الاسم العام إلى الخاص؛ كما يقال: يوم الأحد ويوم الخميس. قال بعض أهله. . .: ما كان في أوله رأس الشهور؛ فإن الغالب أن يذكر بإضافة الشهر إليه دون ما لم يكن كذلك, فيقولون: المحرم, وصفر, وشهر ربيع الأول, شهر ربيع الآخر, رجب, شعبان, شهر رمضان.

وأما اشتقاقه: فقال القاضي: قيل: سُمي رمضان لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها ويهلكها. وقد تقدم الرواية بذلك. 22 - وعن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون لأي شيء سُمي شعبان؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «لأنه يتشعب فيه خير كثير, وإنما سُمي رمضان لأنه يرمض الذنوب (يعني: يحرق الذنوب)». رواه ابن شاهين وغيره. وهذا المعنى لا يخالف ما يذكره أهل اللغة؛ فإنهم يزعمون أن أسماء الشهور لما نقلوها عن اللغة القديمة؛ سموها بالأزمنة التي وقعت فيها, فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر, فسُمي بذلك؛ كما سموا شوالاً؛ لأن الإِبل تشول

بأذنابها, وسموا شعبان؛ لانشعاب القبائل فيه, وغير ذلك. وهذا لأن الرمض شدةُ وقعِ الشمس على الرمل وغيره, والأرض رمضا, ورمِضَ يومنا يرمض رمضاً: اشتد حرُّه, ورمضت قدمي, ورمض الفصيل: أصابه حرُّ الرمضا. فاجتمع في رمضان أن وقت التسمية كان زمن حر, ثم إن الله فرض صومه, والصوم فيه العطش والحرارة, ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتهلكها, وقد يُلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه هو [ويبينه فيما بعد] وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية؛ كما سموا النبي صلى الله عليه وسلم محمداً. وغير مستنكر أن يكون ما اشتق منه الاسم قد تضمن معاني كثيرة, يفطن بعض لبعضها. وأيضاً؛ فإن هذه التسمية لغوية شرعية, فجاز أن يكون له باعتبار كل واحد من التسميتين معنى غير الآخر, وقد قيل: هو اسم موضوع لغير معنى؛ كسائر الشهور. وقيل: شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه, وقد سمي بذلك لأن الله حين فرضه كان وقت الحر. وهذا ضعيف؛ لأن تسميته رمضان متقدمة على فرضه, ولأنه لما فُرض؛ كان في أوائل الربيع الذي تسميه العرب الصيف؛ فإن أول رمضان فُرض كانت فيه وقعة بدر, وقد أنزل الله عليهم فيها ماءً من البسماء, والقيظ العظيم لا ينزل فيه مطر.

* فصل: ويستحب لمن رأى الهلال -هلال رمضان أو غيره- أن يدعو

* فصل: 23 - ويستحب لمن رأى الهلال - هلال رمضان أو غيره - أن يدعو بما روي عن طلحة بن عبيد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ قال: «اللهم! أهله علينا باليمن والإيمان, والسلامة والإسلام, ربي وربك الله». رواه احمد والترمذي, وقال: حسن غريب. 24 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى

الهلال؛ قال: «الله أكبر, اللهم! أهله علينا بالأمن والإيمان, والسلامة والإسلام, والتوفيق لما تحب وترضى, ربي وربك الله». رواه الأثرم. 25 - وعن أبي حرملة؛ قال: «خرجت مع سعيد بن المسيب, وهو آخذ بيدي, فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بالهلال, فقلت: الهلال يا أبا محمد! فرفع رأسه, فقال: آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك. ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا». رواه أبو داوود في «المراسيل». 26 - وعن قتادة: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ قال: «هلال خير ورشد, آمنت بالذي خلقك»؛ ثلاث مرات. ثم يقول: «الحمد لله

الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا». رواه أبو داوود في «السنن» و «المراسيل» , وقال: روي: روي متصلاً, ولا يصح. 27 - ورواه عبد الرزاق في «الجامع»: أنبأنا معمر عن قتادة؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال؛ كبر ثلاثاً, ثم هلل ثلاثاً, ثم قال: «هلال خير ورشد»؛ ثلاثاً. ثم قال: «آمنت بالذي خلقك ثلاثاً». ثم قال: «الحمد لله الذي ذهب بسهر كذا وجاء بشهر كذا». 28 - وعن قتادة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال؛ صرف وجهه عنه» , رواه أبو داوود.

فإذا جمع بين هذا كله؛ كبر ثلاثاً, ثم هلل ثلاثاً, ثم قال: هلال خير ورشد؛ ثلاثاً, ثم قال: هلال خير ورشد؛ ثلاثاً, ثم قال آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك؛ ثلاثاً, ثم قال: الحمد لله الذي جاء بشهر كذا وذهب بشهر كذا, اللهم! أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام. 29 - وأما رمضان؛ فقد روي عن أبي جناب الكلبي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رمضان قد جاء؛ فقولوا: اللهم! سلمه لنا وسلمنا له في يسر وعافية وتقبله منا». رواه عباد بن يعقوب الأسدي. 30 - وعن يحيى بن أبي كثير؛ قال: «كان من دعائهم: اللهم! سلمني لرمضان, وسلم لي رمضان, وتسلمه مني متقبلاً». رواه محمد بن كثير عن الأوزاعي عنه. 31 - وعن أبي جعفر الباقر؛ قال: «كان إذا أهل رمضان؛ قال: اللهم أهله علينا بالسلامة, والإسلام, ودفع الأسقام, والعون على الصلاة والصيام,

والرزق الواسع, والعفو والعافية, اللهم! سلمه لنا وسلمنا له». رواه عباد بن يعقوب. * الفصل الثاني: أنه يجب على كل مسلم عاقل بالغ قادر- فيدخل في هذا المقيم والمسافر, والصحيح والمريض, والطاهر والحائض, والمغمى عليه - فإن هؤلاء كلهم يجب عليهم الصوم في ذِمَمِهم, بحيث يخاطبون بالصوم ليعتقدوا الوجوب في الذمة, والعزم على الفعل, إما أداءً وإما قضاءً, ثم منهم من يخاطب بالفعل في نفس الشهر أداءً, وهو الصحيح المقيم؛ إلا الحائض والنفساء, ومنهم من يخاطب بالقضاء فقط, وهو الحائض والنفساء والمريض الذي لا يقدر على الصوم أداء وقد يقدر عليه قضاء, ومنهم من يخير بين الأمرين, وهو المسافر والمريض الذي يمكنه الصوم بمشقة شديدة من غير خوف التلف. * الفصل الثالث: أنه لا يجب على الكافر, بمعنى أنه لا يخاطب بفعله, ولا يجب عليه قضاؤه إذا أسلم, وسواء كان أصليّاً أو مرتداً في أظهر الروايتين, وقد تقدمت فروع ذلك في الصلاة. ولا يصح من الكافر ابتداءً ولا دواماً؛ فلو ارتد في أثناء يوم؛ بطل صومه؛ لأن الصوم عبادة, والكفر ينافي العبادة, ولأنها عبادة؛ فبطلت بالردة كالصلاة,

وطرده الإحرام والطهارة, ويتخرج؛ فعلى هذا إذا عاد إلى الإِسلام؛ فإنه يجب عليه القضاء في المشهور, وإن عاد إلى الإسلام في أثناء النهار؛ فهو أولى بوجوب القضاء. فأما إن قلنا: إن الإِسلام في بعض النهار لا يوجب الإِمساك والقضاء, وقلنا: إنه يقضي ما تركه قبل الردة. . . . وقال ابن أبي موسى: من ارتد عن الإِسلام؛ أفطر وحبط عمله؛ فإن عاد إلى الإِسلام في بقية رمضان؛ صام ما بقي, وهل يلزمه قضاء ما أفطر منه بعد الردة أم لا؟ على روايتين: * الفصل الرابع: أنه لا يجب على المجنون في المشهور من المذهب, نص عليها في

رواية الأثرم, وفرق بينه وبين المغمى عليه, وعليها أصحابنا, حتى من أوجبه على الصبي, وروي عن حنبل أنه يقضيه إذا أفاق كالحائض. والقضاء هنا أوجه من قضاء الصلاة؛ لأن ما أسقط أداء الصلاة في الغالب فإنه يسقط قضاءها؛ بخلاف الصوم؛ فإنه يقضى مع الحيض والسفر والمرض وغير ذلك, وإن لم يجب الأداء مع هذه الأسباب, ولأن إيجاب القضاء عليه لا مشقة فيه هنا بخلاف إيجاب قضاء الصلاة, ولأن الصوم قد لا يتكرر مثله في حال الإِفاقة فيفضي إلى تركه بالكلية بخلاف الصلاة, وذلك لأنه زوال عقل, فلم يمنع وجوب القضاء كالإِغماء والسُّكر. فعلى هذه الرواية يجب عليه القضاء, سواء كان الجنون طارئاَ عليه بعد البلوغ أو مستداماً من حين البلوغ, وسواء استغرق الشهر أو بعضه؛ فأما إن توالت عليه رمضانات في حال الجنون؛ فعلى ما ذكره القاضي إنما يقضي الرمضان الذي أفاق بعده؛ فأما ما قبل ذلك الرمضان؛ فلا يقضيه؛ لأن أحسن أحواله أن يكون كالحائض, والحائض لا بد أن يتخلل بين الرمضانين زمن لقضائها, وكلام غيره يصام, وهو ظاهر كلامه في هذه الرواية؛ لأنه عذر توالى في عدة رمضانات, فلم يسقط القضاء كالمرض والسفر. 32 - ووجه الأول أن قوله: «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق»:

.................................

* مسألة: فإن نوى الصوم وجن في بعض اليوم

يقتضي الرفع عنه مطلقاً, وإيجاب القضاء يحتاج إلى دليل, وليس في الشرع ما يوجب القضاء على المجنون من نص ولا قياس؛ إذ لا نص في المسألة. والفرق بينه وبين الحائض والمغمى عليه ظاهر؛ فإن الحائض من أهل التكليف حين انعقاد سبب الوجوب, وهو استهلال الشهر, فثبت الوجوب في ذمتها كما يجب غيره من الفرائض, والمجنون ليس من أهل التكليف؛ فلا يصح الإيجاب عليه. ولا فرق في ذلك بين الجنون المطبق والذي يعرض أحياناً؛ فإنه لا يجب عليه الصوم إلا في حال الإِفاقة. وهل يصح منه الصوم بنية وليه له كالصبي وكما في الإِحرام؟ على وجه. * مسألة: فإن نوى الصوم وجُنَّ في بعض اليوم؛ لم يبطل صومه إذا أفاق في جزء

* فصل: فأما من زال عقله بغير جنون

منه, وجمهور أصحابنا - كابن عقيل وأبي الخطاب فيما ذكره القاضي -[أنه] كالإغماء, وقال جدي رحمه الله: يبطل صومه. فأما الصرع - وهو الخنق الذي يعرض وقتاً ثم يزول -؛ فينبغي أن يلحق بالإغماء والغشي؛ لأنه يزيل الإِحساس من السمع والبصر والشم والذوق, فيُغطى, فيزول العقل تبعاً لذلك؛ بخلاف الجنون؛ فإنه يزيل العقل خاصة, فيلحقه بالبهائم. * فصل: فأما من زال عقله بغير جنون من إغماء أو غيره؛ فإنه يجب عليه الصوم بغير خلاف في المذهب, ويصح صومه إذا نواه في وقت تصح فيه النية وأفاق بعض النهار, سواء أفاق في أحد الطرفين أو في الوسط. فأما إن أغمي عليه جميع النهار؛ لم يصح صومه. ولو نام جميع النهار؛ صح صومه. هذا هو المنصوص المشهور في المذهب, وإن كان سكراناً أو مبنجاً أو زال عقله بشرب دواء, وذلك لأن الإِغماء مرض من الأمراض, فلم يمنع صحة الصوم كسائر الأمراض, وإنما اشترطنا أن يفيق في جزء من النهار؛ لأن الصوم لا بد فيه من الإِمساك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه في صفة الصائم:

33 - «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي». والإِمساك لا يكون إلا مع حضور العقل, ولم يشترط وجود الإِمساك في جميع النهار, بل اكتفينا بوجوده في بعضه؛ لأنه دخل في عموم قوله: «يدع طعامه وشهوته من أجلي». فعلى هذا: إن نوى الصوم من الليل, ثم أغمي عليه في أثناء النهار, واتصل أياماً؛ صح له صوم الأول دون ما بعده؛ لفوات الإِفاقة فيه والنية. قال ابن أبي موسى: وقال بعض أصحابنا: ويجيء على قولنا: يجزيه نية لجميع الشهر: أنه إذا صح له صوم الأول؛ صح له ما بعده. كأن صاحب هذا القول شبه جعل إفاقة واحدة كافية في جميع الشهر كما أن نية واحدة تكفي على هذه الرواية. نعم لو أغمي عليه أياماً, فأفاق في أثناء النهار؛ فإنه هنا يجزيه ذلك الصوم على قولنا: إنه يصح [أن] يكفي لجميع الشهر نية واحدة. * الفصل الخامس: أنه لا يجب على الصبي حتى يبلغ في إحدى الروايتين. قال في رواية حنبل: إذا احتلم في بعض الشهر؛ لا يقضي, ويصوم فيما يستقبل.

واليهودي والنصراني إذا أسلما يصومان ما بقي ولا يقضيان ما مضى إنما وجبت الأحكام عليهما بعدما أسلما. وقال في رواية المرُّوذي: إذا حاضت في بعض الشهر؛ تصوم الباقي, وقال في رواية ابن إبراهيم: تصوم إذا حاضت, فإن أجهدها؛ فلتفطر ولتقض. وقال في رواية حرب: وقال له: غلام احتلم لثلاثة عشرة, فقيل له: صم, فقال: لا أقدر. قال: إذا احتلم الصائم لا يترك. قلت: فالجارية. قال إذا حاضت. وعنه أنه يلزمه الصوم إذا أطاقه, حتى لو أطاق بعضه في أثناء الشهر؛ لزمه صوم ما يستقبله, ولو تبين له في أثناء النهار, وأنه يطيق صوم ذلك اليوم؛ كان بمنزلة إسلام الكافر. وهذا اختيار أبي بكر. قال في رواية أبي داوود: يؤمر الغلام بالصوم إذا أطاقه.

وقال في رواية المروذي في غلام ابن اثني عشر سنة لم يحتلم: أرى عليه الصيام, فإن لم يصم يضرب على الصوم والصلاة. وقد تأولها القاضي فقال: وذكر ابن أبي موسى هذه الرواية إذا أطاق صيام ثلاثة أيام تباعاً لا يضر يصبر فيه أخذ بصيام رمضان, فيكون صوم ثلاثة أيام متتابعة تفسير للطاقة المذكورة في الرواية الأخرى. 34 - لأن أحمد رضي الله عنه قال في رواية عبد الله. قال: ورواه ابن جريج, قال: أخبرت عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة؛ فقد وجب عليه صيام شهر رمضان». قال أبو عبد الله: يؤمر الصبي بالصيام إذا أطاق. فهذا يبين أنه أخذ بالحديث في تفسير الطاقة. 35 - وروى عبد الرزاق في «كتابه» , عن ابن جريج, عن محمد

ابن عبد الرحمن بن لبيبة, عن أبيه, عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة؛ فقد وجب عليه صيام رمضان». وبكل حال؛ فإنه يؤمر به إذا أطاقه, ويضرب عليه ليعتاده, هكذا ذكر جماعة من أصحابنا, منهم أبو الخطاب, وعليه تأول القاضي قول أحمد بالضرب. وقال ابن عقيل: هل يلزمه الصوم ويضرب عليه؟ على روايتين. فعلى هذا لا يضرب على ترك الصوم قبل الوجوب, وإن ضرب على الصلاة, بناء على أن رواية المروذي فيمن وجب عليه. ويصح صومه إذا بلغ حد التمييز كما تصح منه الصلاة. فأما قبل ذلك؛ فهل يصوم وليه. . .؟ وعلى هذا فقال الخرقي وغيره: إذا كان للغلام عشر سنين, وأطاق الصيام؛ أخذ به. فجعل السن الذي يضرب عليه عشر سنين مع الطاقة قياساً على الصلاة, لكن تعتبر هنا الطاقة؛ بخلاف الصلاة؛ فإنه لا مشقة فيها.

وقد قال في رواية المروذي: ابن اثنتي عشرة سنة. وأطلق بعضهم الطاقة. * الفصل السادس: أنه لا يجب الصوم إلا على القادر؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] , وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. فإن كان عاجزاً عنه في وقته قادراً عليه بعد خروج الوقت كالمريض والحامل؛ فإنه يجب عليه القضاء كما سيأتي. وإن كان عاجزاً في الوقت وبعد الوقت - وهو الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة-؛ فإنهما يفطران ويطعمان كما سيأتي إن شاء الله. وإن كان به عطاش أو شبق. . . . وإذا أفاق من إغمائه في أثناء اليوم؛ فهو كما لو أفاق المجنون. ذكره ابن عقيل. وينبغي. . . .

* فصل: فإن صار من أهل الوجوب في أثاء النهار

* فصل: فإن صار من أهل الوجوب في أثاء النهار, مثل أن يسلم الكافر أو يفيق مجنون أو يبلغ صبي أو يطيق, ولم يكن نوى الصوم؛ ففيه روايتان ذكرهما أبو بكر والقاضي وغيرهما: إحداهما: أنه يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويقضيه, سواء كان قد أكل أو لم يكن, نص عليه في الكافر في رواية صالح وابن منصور غي اليهودي والنصراني يسلمان؛ [قال:] يكُفَّان عن الطعام ويقضيان ذلك اليوم. والثانية: لا يجب عليه إمساك ولا قضاء. قال في رواية حنبل في اليهودي والنصراني إذا أسلما والصبي يحتلم؛ [قال:] «يصومان ما بقي ولا يقضيان ما مضى إنما وجبت الأحكام بعد الإِسلام». 36 - لأن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله من الفطر؛ ف يجب عليه أداءً ولا

قضاءً. وإيجاب بعض يوم لا يصح؛ لأن أقل الصوم الصحيح يوم, ولأن مَنْ جاز له الأكل أول النهار ظاهراً وباطناً؛ جاز له الأكل كما لو دام به المانع. 37 - والأولى اختيار القاضي وأصحابه؛ لما روي عن الرُّبَيِّع بنت معوذ قالت: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً؛ فليتم صومه, ومن كان أصبح مفطراً؛ فليتم بقية يومه, فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم [إن شاء الله] , ونذهب إلى المسجد, فنجعل لهم اللعبة من العهن, فإذا بكى أحدهم من الطعام؛ أعطيناها إياه عند الإِفطار». أخرجاه. 38 - وعن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه: أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «صمتم يومكم هذا؟». قالوا: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم واقضوه».

................................

رواه أبو داوود. فابتداء الأمر به في أثناء النهار إيجاب له في أثناء النهار, وقد أمر بالإِمساك والقضاء؛ لأنه طرأ عليه في بعض نهار رمضان ما لو كان موجوداً في ابتداء النهار لوجب عليه الصوم, فيجب أن يؤمر بالإِمساك والقضاء, كما لو أكل في أول النهار, أو نوى الفطر فلا يعتقد أنه آخر شعبان, ثم علم في أثناء النهار أن ذلك اليوم كان أول رمضان؛ فإن هذا يجب عليه القضاء رواية واحدة. وكذلك الإِمساك يجب رواية واحدة فيما ذكر عامة أصحابنا, حتى القاضي وأكثر أصحابه قالوا: «بلا خلف في المذهب» , وهو منصوص أحمد في غير موضع, وخرَّج أبو الخطاب فيه روايتين. ولو افطر متعمداً؛ وجب عليه الإِمساك والقضاء بغير خلاف. ولو نسى أن ذلك اليوم من رمضان, فلم ينو صومه, ثم ذكر في أثناء النهار. . . . ولو أكل يعتقد الليل, ثم تبين أنه كان نهاراً؛ أمسك بقية يومه, ولم يجزه عن فرضه, فيقضيه بعد خروج الشهر, ولأن إدراك بعض وقت العبادة كإدراك جميعها في الإيجاب, ولهذا نقول: لو طهرت الحائض قبل طلوع الفجر بمقدار تكبيرة؛ لزمها قضاء العشاءين, فإذا أدرك من اليوم بعضه؛ فقد أدرك بعض وقت

العبادة. 39 - والأوجه أنه يجب عليه الإِمساك دون القضاء؛ لحديث عاشوراء. ولا فرق في هؤلاء* بين أن يكونوا أكلوا قبل وقت الوجوب أو لم يأكلوا؛ لأن الحيض والجنون والكفر يمنع صحة الصوم كما يمنعه الأكل. فأما الصبي إذا لم يكن أكل؛ فقال القاضي: يجب عليه الإِمساك رواية واحدة؛ لأن الرخصة زالت, ووقت العبادة باقٍ يقبل الصوم الصحيح في الجملة. فأما إن أصبح الصبي صائماً, ثم بلغ في أثناء اليوم بالسن أو الاحتلام؛ فقال أبو الخطاب: هو كما لو لم ينو الصيام؛ لأن نية الفرض لا تسقط بنية النفل؛ كما لو بلغ في أثناء الصلاة؛ فإنه يجب عليه قضاؤها. فعلى هذا يحب عليه القضاء والإِمساك في أحد. . . . وقال القاضي: يتم صومه ولا قضاء عليه هنا؛ لأن ما مضى صوم صحيح فعله قبل وجوبه, فلم يجب عليه إعادته, وما يفعله بعد البلوغ هو الصوم الواجب عليه, وقد أمكن أن يأتي به صوماً صحيحاً؛ فإن كون بعض اليوم فرضاً وبعضه نفلاً غير ممتنع؛ كما لو نذر في أثناء النفل أن يتمه؛ بخلاف من لم ينو الصوم؛ فإنه وجب عليه هناك صوم ما أدركه, وصوم بعض يوم غير صحيح ممكن, فوجب أن يصوم يوماً؛ لأن أداء الواجب لا يتم إلا به.

* فصل: فأما من يجب عليه القضاء إذا زال عذره في أثناء اليوم

والفرق بين هذا وبين الصلاة أنه قد خوطب هناك بالفعل في المستقبل, ولهذا لو بلغ بعد الفعل؛ لزمه القضاء, فلم يجزه ما فعله قبل الوجوب, وهنا لا يخاطب بالإِمساك لزمن ماض, وما فعله قبل الوجوب لا نقول: إنه وقع واجباً, وإنما نقول صحيحاً, وبصحته صح فعل الواجب بعد البلوغ, فأشبه ما لو توضأ قبل وجوب الصلاة أو أحرم بالحج أو العمرة قبل وجوبهما ثم بلغ قبل التعريف. قال بعض أصحابنا: ولا يجوز له الفطر هنا رواية واحدة؛ كما لو قدم المسافر صائماً, فأما ما قبل يوم الوجوب من الشهر؛ فلا يقضونه على ظاهر المذهب كما تقدم. وذكر ابن عقيل رواية أخرى في الصبي والمجنون أنهما يقضيان من أول الشهر تنزيلاً لإِدراك بعض الشهر بمنزلة إدراك كله على قولنا: يجزئ صومه بنية واحدة. * فصل: فأما من يجب عليه القضاء إذا زال عذره في أثناء اليوم مثل: الحائض تطهر, والمسافر المفطر يقدم, والمريض يصح؛ فإن القضاء يجب عليه رواية واحدة؛ وجود الفطر في بعض اليوم, وينبغي لهم الإِمساك أيضاً.

قال في رواية الأثرم وأبي منصور: إذا قدم من سفره في بعض النهار وهو مفطر؛ فينبغي أن يتوقى الأكل في الحضر, وكذلك الحائض لا تأكل بقية النهار, وإذا قدم من سفره وامرأته قد طهرت؛ فلا أحب أن يغشاها. 40 - وجابر بن زيد زعموا أنه قدم من سفر, فوجد امرأته قد طهرت من حيضها, فوقع عليها. وفي وجوبه روايتان, هذه طريقة القاضي وأصحابه. وقال ابن أبي موسى: إذا قدم المسافر مفطراً؛ أحببنا له أن يمسك عن الأكل والشرب بقية يومه, فإن أكل أو جامع مَنْ طهرت من حيضها؛ أساء, ولا كفارة عليه, ولا يلزمه سوى القضاء, والحائض إذا طهرت في بعض النهار؛ فلها الكل بقية يومها. وعنه رواية أخرى: أنها تمسك بقية يومها كالمسافر. فجعل المسافر يمسك رواية واحدة على سبيل الاستحباب المؤكد, بحيث يكون أكله مكروهاً, وحمل كلام أحمد حيث أذن على إقراره حيث منع على الكراهة, وجعل في الحائض روايتين. ووجه ذلك أن المسافر كان يمكنه الصوم ويصح منه في أول النهار, وإنما أفطر باختياره, فيصح الإِمساك في الجملة؛ بخلاف الحائض؛ فإن المنافي

لصحة الصوم وقد وجد أول النهار, فامتنع أن تمسك في يوم حاضت فيه, وجعل الإِمساك بكل حال غير واجب؛ لما يأتي. وعلى الطريقة الأولى: ففي الجميع روايتان: إحداهما: لا يجب الإِمساك, بل يستحب. قال في رواية ابن منصور: إذا أصبح مفطراً في السفر, فدخل [أهله] , فأكل؛ ليس عليه شيء, ويعجبني أن لا يأكل؛ لأن الله سبحانه إنما اوجب صوم يوم واحد؛ فإيجاب صوم بعض يوم آخر يحتاج إلى دليل. والثانية: يجب الإِمساك. قال في رواية حنبل: إذا قدم في بعض النهار؛ أمسك عن الطعام, وإذا طهرت الحائض من آخر النهار؛ تمسك عن الطعام. وقال في رواية صالح وابن منصور في المسافر يقدم في رمضان, واليهودي والنصراني يُسلمان: يكفون عن الطعام, ويقضون ذلك اليوم, والحائض كذلك, وهي اختيار القاضي وأصحابه؛ لأن المقتضي للفطر قد زال, فيجب الإِمساك, وإن وجب القضاء, كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار, ولأن الإِمساك. . . هذا إن كان قد أكلوا, فأما إن كانوا ممسكين ولو ينووا في أثناء النهار والصوم؛ فقال القاضي وابن عقيل: يجب عليهم بالإِتمام رواية واحدة؛ كما لو نووا الصوم. فأما إن قدم المسافر أو صح المريض وقد بيَّت الصوم؛ لم يجز الفطر

رواية واحدة, بل لو جامع بعد الإِقامة؛ لزمه الكفارة. نص عليه في رواية صالح. قال: وكذلك الصبي إذا بلغ صائماً. والأشبه الفرق كما في التبييت. وخرَّج أصحابنا أنه لا يلزمه؛ كما لو سافر وهو صائم؛ فإن له أن يفطر على الصحيح؛ فإذا أجاز قطع الصوم للسفر؛ فرفعه أولى. وإذا علم المسافر أو غلب على ظنه أنه [يقدم] في أثناء النهار؛ فإنه يُبَيِّت الصوم تلك الليلة. قال في رواية أبي طالب: إذا كان في سفر, فأراد أن يدخل المدينة إلى أهله من الغد؛ فليجمع الصوم من الليل؛ فإذا دخل المدينة؛ كان صائماً. هكذا كان ابن عمر. 41 - وذلك لما روى مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا كان في سفره في رمضان, فعلم أنه داخل المدينة من أول يومه؛ دخل وهو صائم. وقد ذكر أحمد عن ابن عمر نحوه.

قال ابن عبد البر: هذا هو المستحب عند جماهير العلماء؛ إلا أن بعضهم أشد تشديداً فيه من بعض. قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يجوز له الفطر إذا علم أنه يقدم في بعض النهار؛ لأن من أصله أنه إذا قدم؛ تعين عليه الإِمساك إذا كان مفطراً؛ فإذا علم أن سفره لا يتسع لفطر يوم؛ وجب أن يمتنع منه؛ لأن وجود السفر في أول النهار سبب يبيح الرخصة, فجاز العمل به. وإن علم أنه يزول آخر النهار, كما لو صلى في أول الوقت قاصراً, وهو يعلم أنه [يقدم] في الوقت, أو صلى بالتيمم وهو يعلم أنه يجد الماء في آخر الوقت, وكما لو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن؛ فإنه لا يلزمه التبييت. ووجه الأولى: أن الفطر في الحضر غير جائز في الحضر غير جائز أصلاً, بل يجب الصوم فيه, ولا يمكن الصوم فيه؛ إلا أن يُبيِّت النية من الليل, وما لا يتم إلا به فهو واجب, ولأن الصوم واجب في ذمة المسافر, وإنما أجيز له تأخير الفعل إذا كان مسافراً, فإذا علم أنه يقدم في أثناء اليوم؛ فقد أخَّرَ الصوم بدون سبب الرخصة, وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الصبي؛ فإنه لم يجب عليه شيء قبل البلوغ. فأما الحائض إذا علمت أنها تطهر في أثناء اليوم؛ فهنا لا يجوز تبييت النية؛ لأن الحيض يمنع صحة الصوم.

* فصل: فأما إذا وجد سبب الفطر في أثناء النهار

* فصل: فأما إذا وجد سبب الفطر في أثناء النهار, مثل أن تحيض المرأة؛ فإنها تصير مفطرة؛ لأن الحيض يمنع صحة الصوم, وتأكل ولا تمسك, فيما ذكره ابن المنذر عن أحمد, وهو رواية. قال في رواية عبد الله: فإن كانت امرأة صامت ثم حاضت؛ تمسك عن الطعام إلى آخر النهار, وتعيد ذلك اليوم. وكذلك المسافر إذا قدم المصر وهو مفطر؛ يمسك. قال القاضي: لأن اليوم قد اجتمع فيه ما يوجب الإِمساك وهو الصوم أوله, وما يوجب الأكل وهو الحيض آخره, فغلب الإِمساك؛ [كما] لو حاضت أوله أو قدم المسافر, والأول. . . . وكذلك إذا مرض الرجل؛ فإن له أن يفطر؛ فإن المريض رُخص له في الفطر لأجل المشقة التي تلحقه بالصوم, وهذا لا فرق فيه بين أول النهار وآخره, وكذلك لو ابتدأ الصلاة قائماً ثم اعتل؛ أتمَّها جالساً. لكن هل يجوز له الجماع وتجب عليه الكفارة؟ على الروايتين في المسافر.

أما إذا سافر في أثناء النهار؛ فهل يجوز له الفطر؟ على روايتين: أحدهما: لا يجوز. قال في رواية صالح: إذا أصبح في شهر رمضان, ثم سافر آخر النهار؛ فلا يعجبني أن يفطر. لأن العبادة المختلفة بالحضر والسفر إذا تلبس بها في الحضر, ثم سافر؛ غُلِّب فيها حكم الحضر؛ كالصلاة والمسح, ولأنه قد شَرَع في صوم وجب عليه؛ فلم يجز له الخروج منه لغير ضرورة؛ كما لو شرع. . . ولعل هذه الرواية خاصة فيمن أراد السفر آخر النهار؛ فإنه قد صام معظم يومه, ويدل على ذلك: 42 - ما رواه أبو داوود في «مراسيله» عن طاووس؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر أول النهار؛ أفطر, وإذا سافر حين تزول الشمس؛ لم يفطر». والأخرى: يجوز له الفطر كسائر الأعذار. وقال في رواية الفضل فيمن خرج في سفر هل يفطر؟ قال: اختلفوا فيه, وأرجوا أن لا يكون به بأس. وقال أيضاً فيمن يصوم بعض رمضان ثم يعرض له سفر: يفطر إذا جاوز البيوت. وقال في رواية ابن منصور وابن إبراهيم إذا خرج مسافر متى يفطر؟ قال: إذا برز عن البيوت. وهي أشهر عنه وأصح عند أصحابنا. لكن إتمام الصوم له أفضل. 43 - قالوا: لما روى عبيد بن جبر؛ قال: «كنت مع أبي بصرة الغفاري

في سفينة من الفسطاط في رمضان, فدفع ثم قُرِّب غداؤه, ثم قال: اقترب. فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟». رواه أحمد وابن يونس في «تاريخ مصر». 44 - وفي رواية لأحمد عن يزيد بن أبي حبيب: «أن أبا بصرة الغفاري

خرج في رمضان من الإِسكندرية, فأتي بطعامه, فقيل له: لم تغب عنا منازلنا بعد. فقال: أترغبون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فما زلنا مفطرين حتى بلغوا مكان كذا وكذا». 45 - وعن محمد بن كعب؛ قال: «أتيت أنس بن مالك في رمضان, وهو يريد سفراً, وقد رحلت له راحلته, ولبس ثياب السفر, فدعا بطعام, فأكل, فقلت له: سنة؟ قال: سنة, ثم ركب». رواه الترمذي- وقال: حديث حسن -

والدارقطني - وقال فيه: وقد تقارب غروب الشمس -, والصحابي إذا أطلق السنة؛ فإنما تنصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 46 - وعن أبي الخير, عن منصور الكلبي: «أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مِزَّة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط, وذلك ثلاثة أميال, في رمضان, ثم إنه أفطر, وأفطر معه ناس, وكره آخرون أن يفطروا, فلما رجع إلى قريته؛ قال: والله؛ لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه, إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (يقول ذلك للذين صاموا). ثم قال [عند ذلك]: اللهم! اقبضني إليك». رواه أحمد وأبو داوود.

47 - وقد احتج بعض أصحابنا على ذلك بما رواه خالد الحذاء, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين, والناس مختلفون؛ فصائم ومفطر, فلما استوى على راحلته؛ دعا بإناءٍ من لبن أو ماء, فوضعه على راحلته (أو: راحته) , ثم نظر إلى الناس, فقال المفطرون للصوام: أفطروا». رواه البخاري. قال أبو بكر عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي: صوابه: خيبر أو مكة؛ لأنه قصدهما في هذا الشهر؛ فأما حنين؛ فكانت بعد الفتح بأربعين ليلة. واعلم أن الرواية صحيحة, ولا يجوز أن يعتقد أن ذلك كان إلى خيبر؛ فإنه لا خلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه غزى خيبر مرجعه من الحديبية, وأنها كانت في ذي القعدة سنة ست, وخيبر في أوائل سنة سبع,

فكيف يجوز أن يعتقد أن خيبر كانت في رمضان؛ ثم هم لا يختلفون أنها لم تكن في رمضان؟! نعم ذَكَرَ حنيناً؛ لأنها كانت في ضمن غزوة الفتح, ولم يكن في الفتح قتال, وإنما كان القتال بحنين, وأراد بغزوة حنين غزوة الفتح, ولذلك لما ذكر البخاري هذه الرواية قال: وقال عبد الرزاق: أنا معمر, عن أيوب, عن عكرمة, عن ابن عباس؛ قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح» , لم يزد. ورواه البرقاني وغيره بتمامه قال: 48 - «خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان, حتى مَرَّ بغدير في الطريق, وذلك في نحو الظهيرة. قال: فعطش الناس, وجعلوا يمدون أعناقهم, وتتوق إليه أنفسهم. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء, فأمسكه على يده, حتى رآه الناس, ثم شرب, وشرب الناس في رمضان». وهذا الخروج إما أن يكون خروجه من المدينة إلى مكة, أو خروجه من مكة إلى حنين؛ فإنه لم يزل صائماً في خروجه إلى أن بلغ الكديد؛ كما في حديث ابن عباس المشهور؛ كما تقدم في الرواية الأخرى, وأما خروجه إلى حنين. . . . 49 - ثم قد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح في

رمضان, وقال: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الكديد - الماء الذي بين قديد وسعفان - أفطر حتى انسلخ الشهر». رواه البخاري. وهذا يقتضي أنه لم يشرع في صوم بعد يوم الكديد, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما غزا في رمضان غزوة بدر وغزوة الفتح خاصة. 50 - وعن سيار بن مخراق: أنه سأل ابن عمر عن صيام المسافر؟ فقال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع عشرة مضيت من رمضان, فأناخ راحلته, ووضع إحدى رجليه في الغرز والأخرى في الأرض, فدعا بلبن من لبنها, فشرب».

رواه حرب. 51 - وقد احتج كثير من أصحابنا بما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح, فصام حتى بلغ كراع الغميم, وصام الناس, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام, وإن الناس ينظرون فيما فعلت؟ فدعا بقدح من الماء بعد العصر, فشرب, والناس ينظرون إليه, فأفطر بعضهم, وصام بعضهم, فبلغه أن ناساً صاموا, فقال: «أولئك العصاة». رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه. 52 - وربما احتج بعضهم بحديث ابن عباس؛ قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان, حتى بلغ سعفان, ثم دعا بإناء من ماء, فشرب نهاراً ليراه الناس, وأفطر حتى قدم مكة». وكان ابن عباس يقول: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر؛ فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه.

53 - وفي رواية عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة, ومعه عشرة آلاف, وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة, فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة, يصوم ويصومون, حتى بلغ الكديد, وهو ما بين عسفان وقديد أفطر و [أفطروا]». وقال الزهري: «وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخر فالآخر». متفق عليه. واعتقد من احتج بهذا أنه خرج من المدينة صائماً, وأنه وصل ذلك اليوم إلى كراع الغميم وإلى الكديد! وهذا خطأ؛ فإن عسفان قرية معروفة بينها وبين مكة نحو يومين, وهي اليوم خراب. 54 - ولهذا قال ابن عباس: «يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان».

وجبل قديد قريب منها, وهذا الماء بينهما, فهذا يبين أن الفطر إنما كان بعد عدة أيام من مخرجه من المدينة. وأما كراعُ الغميم؛ فقد قيل إن الأبنية. . . . فتبين بهذا أن هذا الفطر إنما كان في صوم قد أنشأه في السفر, فيدل هذا على أن المسافر إذا نوى الصوم في السفر, ثم بدا له أن يفطر؛ فله ذلك, وهذا لا يختلف المذهب فيه؛ إلا أن يريد الفطر بالجماع؛ ففيه روايتان: أحدهما: ليس له ذلك, وعليه الكفارة إذا أفطر بجماع, نص عليه في رواية مثنى بن جامع. وكذلك إذا قلنا فيمن نوى الصوم ثم سافر: إنه ليس له الفطر, فجامع؛ فعليه الكفارة؛ لأن الموجب الموسع إذا شرع فيه ثم أراد الخروج؛ لم يكن له ذلك؛ كما لو شرع في قضاء رمضان والصلاة في أول الوقت, والصوم في السفر

أدنى أحواله أن يكون بمنزلة الواجب الموسع, فكان القياس أنه لا يجوز الخروج منه بعد الدخول فيه. نعم؛ جاز ذلك بالأكل والشرب لمجيء السنة به, ولأن الحاجة تدعو إليه, فرخص في الخروج منه للحاجة. أما هتك صوم رمضان الواجب بالجماع؛ فلم يجيء فيه رخصة, ولا تدعو الحاجة إليه, وهذا كما أن السفر يبيح الصلاة في السفينة للحاجة, ولا يبيحها على الراحلة, وإن اشتركا في عدم الاستقرار. ولم يذكر القاضي في «المجرد» إلا هذا؛ قال: وعلى هذا الأصل المريض الذي تدعوه الحاجة إلى الفطر بالأكل لا يجوز له الفطر بالوطء؛ فإن وطئ؛ كان عليه الكفارة كالسفر سواء. والرواية الثانية: له الفطر بالجماع وغيره, ولا شيء عليه. قال في رواية ابن منصور: وقيل له: الزهري يكره للمسافر أن يجامع المرأة في السفر نهاراً في رمضان؟ فلم ير به بأساً في السفر, وهي المنصورة عند أصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أصبح صائماً في السفر ثم أفطر كما تقدم. 55 - وعن أبي سعيد؛ قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء, والناس صيام في يوم صائف مشاة, ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له, فقال: «اشربوا أيها الناس!». قال: فأبوا. فقال: «إني لست مثلكم, إني أيسركم, إني راكب». فأبوا. فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه, فنزل, وشرب وشرب الناس, وما كان يريد أن يشرب. رواه أحمد.

وهذا والذي قبله نص ظاهر في أنه قد أصبح المسلمون صياماً, ثم أفطروا بعد ذلك, وكل من جاز له الإِفطار بالأكل؛ جاز له الإِفطار بالجماع؛ كالمسافر الذي لم ينو, وذلك أنه إذا نوى المريض أو المسافر الفطر, وأكلا؛ فلهما فعل كل ما ينافي الصوم من جماع وغيره على إحدى الروايتين, قاله أصحابنا: وذلك لأنه إذا عزم على الإِفطار؛ صار مفطراً, فيقع الجماع من مفطر, والفرق بين هذا وبين العبادة الموسعة أن هنا صوم رمضان عبادة مضيقة, وإنما السفر والمرض جوز تأخيرها عن وقتها, فإذا أثر في التضييق الواجب بالشرع؛ فلأن يؤثر في التضييق الواجب بفعل المكلف أولى وأحرى؛ لأن المقتضي لإِباحة الفطر هنا قائم في جميع الوقت. . . . والفرق بين الصوم والصلاة: أن قصر الصلاة إسقاط لشطرها؛ فليس له أن يتركه بعد أن يلتزمه أو ينعقد سبب لزومه, ولهذا قلنا: لو سافر وقد وجب عليه الصلاة؛ صلاها تامة, والصوم مجرد تأخير للصوم إلى وقت آخر, ليس هو إسقاطاً, ثم المشقة في السفر تلحقه باستدامة الصوم؛ بخلاف تكميل تلك الصلاة؛ فأنه لا مشقة فيه.

مسألة: ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان, ورؤية هلال رمضان, ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه

فعلى هذا يجوز له الفطر, سواء كان قد نوى السفر من الليل أو نواه في بعض النهار, على رواية الجماعة, ونقل عنه صالح: إذا كان قد حدث نفسه من الليل بالسفر؛ فيفطر, وإن أدركه الفجر في أهله؛ إلا أن يكون نوى السفر في بعض النهار؛ فلا يعجبني أن يفطر. ويحتمل أن تكون هذه الرواية مثل الرواية الأولى التي نقلها صالح, فيكون فيما إذا نوى السفر من الليل يجوز له الفطر قولاً واحداً, ويحتمل أن يجمع في هذا بين الروايتين في الأصل. قال القاضي: وظاهر هذا يقتضي جواز نية الفطر في أهله قبل خروجه من بلده؛ لأنه إذا كان من نيته السفر من يومه والفطر في سفره؛ لم يصح له نية الصوم. ويفارق هذا الفطر بالأكل والشرب أن يتأخر حتى يفارق البيوت؛ ففي الموضع الذي يجوز [له] القصر يجوز [له] الفطر. . . . وإذا نوى المقيم الصوم, فأراد السفر ليفطر حيلة للفطر؛ لم يستبح الفطر. قاله ابن عقيل بناء على أصلنا: أن الحيل لا تسقط الزكاة ولا تبيح الفروج ولا الأموال. مسألة: ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان, ورؤية هلال رمضان, ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه: وجملة ذلك أن الموجب لصوم رمضان أحد ثلاثة أشياء:

أحدها: إكمال عدة شعبان؛ فمتى أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً؛ لزمهم الصوم, سواء رأوا الهلال أو لم يروه, وسواء حال دون منظره سحاب أو قتر أو لم يحل؛ لتواتر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, ولأن الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يوماً؛ فمتى كمل شعبان؛ فقد تيقنَّا دخول شهر رمضان. ثم إكمال شعبان مبني على ابتدائه؛ فإن كان أوله قد رئي بالرؤية العامة؛ فآخره قد تيقن انصرامه بكمال العدة, وإن كان بشهادة عدلين. . . . الثاني: رؤية الهلال؛ فإذا رئي رؤية عامة؛ فقد وجب الصوم, سواء رأوه بعد إكمال عدة شعبان أو لتسع وعشرين خلت منه, وهذا أيضاً من العلم العام. وقد قال الله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] , وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الصوم لرؤيته. الثالث: أنه يحول بيننا وبين مطلعه غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان. وذلك أنه إذا لم يُرَ ولم تكمل العدة؛ فإما أن يكون هناك مانع يمنع من رؤيته لمن أرادها وقصدها, أو لا يكون هناك مانع:

فإن لم يكن هناك مانع؛ لم يجز صومه من رمضان, ومنه يوم الشك المنهي عن صومه؛ كما سيأتي إن شاء الله. وإن كان هناك حائل يمنع من رؤيته, وهو أن يكون دون مطلعه ومنظره سحاب أو قتر؛ يجوز أن يكون الهلال تحته قد حال دون رؤيته؛ فالمشهور عن أبي عبد الله رحمه الله: أنه يصام من رمضان, ويجزئ إذا تبين أنه من رمضان, ولا يجب قضاؤه. نقله عنه الجماعة, منهم ابناه والمرُّوذي والأثرم وأبو داوود ومهنى والفضل بن زياد. وهل يقال: يجوز على هذا أن يُسمى يوم شك فيه, فيه روايتان: إحداهما: يسمى يوم شك, نقلها المروذي؛ فعلى هذا يرجح جانب التعبد. والثانية: لا يُسمى يوم شك, بل هو يوم من رمضان من طريق الحكم, وهو ظاهر ما نقله مهنى, وهو قول الخلال والأكثرين من أصحابنا. فعلى هذا لا يتوجه النهي عن صوم يوم الشك إليه إذا قلنا: هو من رمضان, وعليه جماهير أصحابنا. وروى عنه حنبل: إذا حال دون منظر الهلال حائل؛ أصبح الناس متلوِّمين ما يكون بعد, وإذا لم يحل دون منظره شيء؛ أصبح الناس مفطرين, فإن جاءهم خبر؛ كان عليهم يوم مكانه, ولا كفارة. فعلى هذا لا يصام من رمضان, وهذا اختيار طائفة من أصحابنا, منهم ابن عقيل والحلواني وأبو القاسم وابن منده؛ فعلى هذه الرواية يستحب له أن يصبح ممسكاً متلوماً, وإن لم يحل دونه شيء؛ أصبح مفطراً. وروى عنه حنبل في موضع آخر وقد سئل عن صوم يوم الشك, فقال:

صم مع جماعة الناس والإمام، فإن السلطان أحوط في هذا وأنظر للمسلمين وأشد تفقداً، والجماعة؛ يد الله على الجماعة، ولا يعجبني أن يتقدم رجل الشهر بصيام؛ إلا من كان يصوم شعبان؛ فليصله برمضان. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لا أرى صيام يوم الشك إلا مع الإمام ومع الناس. قال أبو عبد الله: وأذهب إلى حديث ابن عمر؛ لأن الصلاة والصيام والجهاد إلى الإمام. 56 - يعني ما رواه حنبل عن ابن عمر: أنه قال: «صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة». 57 - ووجه عدم الصوم ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم (أو: غبي، أو: غمي) عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عنه. 58 - 59 - ورواه مسلم من حديث معاذ بن معاذ عن شعبة، والنسائي من حديث ابن علية وورقاء عن شعبة، وقالا: «فإن غُمِّي (غُمَّ) عليكم الشهر؛ فعدوا ثلاثين».

60 - ورواه مسلم من حديث الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، وقال: «فأكملوا العدد فعدوا ثلاثين يوماً». 61 - ورواه أحمد من حديث شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته؛ فإن غبي عليكم؛ فعدوا ثلاثين يوماً». 62 - وعن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال؛ فصوموا، وإذا رأيتموه؛ فأفطروا، فإن غم عليكم؛ فصوموا ثلاثين يوماً». رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. 63 - ورواه أحمد بهذا اللفظ عن أبي سلمة عن أبي هريرة بإسناد صحيح. 64 - وعن أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم؛ فعدوا ثلاثين يوماً، ثم أفطروا». رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الدارقطني من

حديث إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة؛ قال: ورواه أبو بكر بن عياش وأسامة بن زيد عن محمد بن عمرو بهذا. قال: وهي أسانيد صحاح. 65 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن حال بينكم وبينه سحاب؛ فكملوا العدة ثلاثين, ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً». رواه أحمد والنسائي.

66 - وفي رواية للنسائي: «فأكملوا العدة عدة شعبان». 67 - ورواه أبو داوود والطيالسي؛ قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة؛ فأكملوا شهر شعبان ثلاثين, ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان». 68 - وعن محمد بن حنين, عن ابن عباس؛ قال: [عجبت] ممن يصوم قبل الشهر [وقد] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال؛ فصوموا, وإذا

رأيتموه؛ فأفطروا, فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين». رواه النسائي. 69 - وفي رواية للنسائي والترمذي: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛

فإن حالت دونه غيابة؛ فأكملوا العدة ثلاثين يوماً. قال الترمذي: حدي حسن صحيح. 70 - ورواه أبو داود ولفظه: «لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين؛ إلا أن يكون شيئاً يصومه أحدكم, ولا تصوموا حتى تروه, ثم صوموا حتى تروه؛ فإن حال دونه غمامة؛ فأكملوا العدة ثلاثين يوماً, ثم أفطروا». هكذا رواه أبو داوود من حديث زائد عن سماك, وقال: رواه حاتم بن أبي صغيرة وشعبة والحسن بن صالح عن سماك بمعناه, ولم يقولوا: «ثم أفطروا».

71 - وقد روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله تعالى قد أمده لرؤيته؛ فإن أغمي عليكم؛ فأكملوا العدة». 72 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره؛ يصوم لرؤية رمضان؛ فإن غم عليه؛ عد ثلاثين يوماً ثم صام». رواه احمد وأبو داوود, وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن صحيح.

73 - وعن ربعي عن حذيفة بن اليمان؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة, ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة». رواه أبو داود والنسائي.

74 - ورواه النسائي عن ربعي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضاً مرسلاً. 75 - وعن ربعي بن حراش: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم؛ فعدوا شعبان ثلاثين, ثم صوموا؛ فإن غم عليكم؛ فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا؛ إلا أن تروا قبل ذلك». رواه الدارقطني. 76 - وعن عمار بن ياسر؛ قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم». رواه الأربعة, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

77 - وذكره البخاري تعليقاً, فقال: وقال صلة عن حذيفة: «من ضام يوم الشك؛ فقد عصى أبا القاسم». 78 - وعن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون ليلة؛ فلا تصوموا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين». هكذا رواه البخاري بهذا الإسناد واللفظ. . . . 79 - والذي في «الموطأ» بهذا الإسناد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهر تسع وعشرون؛ فلا تصوموا حتى ترو الهلال, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين».

80 - ثم روى مالك عن ثور بن زيد عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى ترو الهلال, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين». فلعل. . . . 81 - وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان, فضرب بيده, فقال: «الشهر هكذا وهكذا (ثم عقد إبهامه في الثانية) , صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم؛ فاقدروا ثلاثين». رواه مسلم. فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه: أحدها أن قوله: «فأكملوا العدة»: يقتضي إكمال العدة في هلال الصوم وفي هلال الفطر؛ فإن الصوم والفطر قد تقدم ذكرهما جميعاً في قوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم - في أحد هذين الموضعين -؛ فأكملوا العدة؛ لأن اللفظ مطلق؛ فلا يجوز تقييده, ولأنه لو اختلف حكم الهلالين؛ لبينه, ولا يجوز حمله على أنه إن غم فيهما جميعاً؛ لأن غمه أغم من أن يُغم فيهما أو في أحدهما, فيجب حمله على الصور [تين] جميعاً, وأن لا يحمل على واحد منهما.

الثاني: أن قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة»: صريح في هذا الحكم. الثالث: أن قوله في حديث أبي هريرة: «فأكملوا عدة شعبان» , وكذلك في حديث ابن عباس وفي حديث ابن عمر: «لا تصوموا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فأكملوا العدة ثلاثين»: خاص في عدة شعبان, وفي أنه لا يُصام حتى يُرى الهلال. الرابع: حديث عائشة نصٌّ مفسر بقولها: «عدَّ ثلاثين يوماً ثم صام». الخامس: أن حديث عمار مفسر بالنهي عن صوم يوم الشك, وهذا يوم شك؛ لأنه يحتمل أن يكون من شعبان ويحتمل أن يكون من رمضان, ولا معنى للشك إلا التردد بين الجهتين. وأما رواية من روى: «فاقدروا له»؛ فمعناها: احسبوا له وعدوا له حتى يعلم الوقت الذي يتيقن فيه طلوعه, وهو عند إكمال العدة؛ كما جاء مفسراً: «فاقدروا ثلاثين». 82 - وكما روى أيوب: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل البصرة: «بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, زاد: وإنَّ أحسن ما يقدر له: أنَّا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا؛ فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا؛ إلا أن يروا الهلال قبل ذلك». رواه أبو داوود في «سننه». فقوله: «إلا أن تروا الهلال قبل ذلك»: دليل على أنهم فهموا من قوله:

«فاقدروا له»: كمال العدة؛ لأن الهلال لا يُرى قبل ليلة الثلاثين, وإنما يُرى قبل الحادية والثلاثين. وقد زعم بعضهم أن حديث ابن عمر منسوخ؛ لأن التقدير هو حساب الوقت الذي يطلع فيه, وهذا إنما يعلمه أهل الحساب, ونحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقد يكون القدر بأن ينظر إلى طلوعه صبيحة ثمانٍ وعشرين؛ فإن رئي تلك الغداة؛ علم أن الشهر تام, وأنه لا يطلع ليلة الثلاثين, وإن لم يُرَ فيها؛ عُلم أن الشهر ناقص, وأنه يطلع ليلة الثلاثين, لكن يضيق اعتبار هذا على الناس, وقد لا ينضبط, فنسخ بإكمال العدة. وأيضاً؛ فإنها عبادة يتيقن دخول وقتها, فلم تفعل في وقت الشك؛ كالصلاة والحج, ولأنه شك في طلوع الهلال؛ فلا يشرع معه الصوم؛ كالشك في الصحو. . . . وأما من جعل الناس تبعاً للسلطان؛ فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .} [الحجرات: 1]. 83 - ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون».

84 - وقال ابن عمر: «صم مع الجماعة, وأفطر مع الجماعة». رواه حنبل. 85 - وقال أبو سعيد: «إذا رأيت هلال رمضان؛ فصم, وإذا لم تره؛ فصم مع جماعة الناس, وأفطر مع جماعة الناس». رواه الأثرم. ولأن الإِمام أحوط في هذا وأشد مراعاة, فوجب اتباعه في هذا كما يتبع فيما يأمر به من الجهاد وغيره, وكما لو قال ثبت عندي صوم أول يوم من رمضان, وكان ثبوته بشاهد واحد؛ وجب اتباعه على مَنْ لا يوجب الصوم بشاهد واحد. ذكره القاضي. 86 - ووجه الأول: ما رواه أحمد, حدثنا إسماعيل, أنبأ أيوب, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشهر تسع وعشرون؛ فلا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم؛ فاقدروا له». قال نافع: فكان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون؛ يبعث مَنْ ينظر, فإن رأى؛ فذاك, وإن لم يُرَ ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطراً, وإن حال دون منظره سحاب أو قتر؛ أصبح صائماً. رواه الجماعة إلا

الترمذي؛ إلا أن قوله: قال نافع. . . إلى آخره؛ فإنما رواه أحمد وأبو داوود. 87 - وفي رواية أبي داوود: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. 88 - وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبيد الله, حدثني نافع, عن ابن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهر تسع وعشرين, هكذا وهكذا, فإن غم عليكم فاقدروا له». وكان ابن عمر إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً. قال أصحابنا: فوجه الدلالة من وجوه: أحدها: أن ابن عمر قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «فاقدروا له» , وفسر ذلك بأن كان يصوم يوم الثلاثين مع إغماء السماء, والصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً مجملاً, وفسره بمعنى؛ وجب الرجوع إلى تفسيره؛ لأنه أعلم باللغة ولأنه يدري بقرائن الأحوال من النبي صلى الله عليه وسلم ما يعلم به قصده, وقرائن الأحوال في الغالب لا يمكن نقلها, ولأنه شهد التنزيل وحضر التأويل وشاهد الرسول, فيكون أعلم بما ينقله ويرويه؛ فكيف بما قد نقله ورواه؟!

89 - ولهذا رجع ابن عمر في تفسيره التفرق أنه التفرق بالأبدان لما روى حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» , لا سيما والراوي هو ابن عمر, وكان في اتباعه للسنة وتحريه لدينه بالمكان الذي لا يخفى, وتفسيره مقدم على تفسير غيره ممن هو بعده في الفقه واللغة. الثاني: من جهة اللغة؛ فإنهم يقولون: قدرت الشيء أقدُره وأقدِره قدراً بمعنى قدَّرته أقدِّره تقديراً, يقولون: قَدَر الله هذا الأمر وقَدَّره من القضاء, وقَدَرْت الشيء وقَدَّرْته من الحساب, وقَدَر على عياله قَدْراً مثل قَتَر وقُدِر على الإنسان رزقه مثل قُتِر, قال جماعة من أهل اللغة: قَدَر يَقْدِر بمعنى ضيق, ومنه قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]؛ أي: نضيق, وقوله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] أي: يضيق, فإن كان قوله: «فاقدروا له»؛ بمعنى: ضيقوا له؛ فالتضييق لا يكون إلا بأن يحسب له أقل زمان يطلع فيه, وهو طلوعه ليلة الثلاثين, وإن كان بمعنى: قدروا له؛ فإن التقدير الحساب والعدد, وذلك يطلق على التقدير بالثلاثين وعلى التقدير بالتسع والعشرين؛ فالقدر بالثلاثين هو القدر في آخر الشهر, وعلى ذلك تحمل الرواية المفسرة إن صحت فإن مدارها. . .؛ فإن الراوي لها ابن عمر, ومحال أن يروي: «فاقدروا له» في أول الشهر ثلاثين ويقدر هو تسعاً وعشرين. 90 - وقد روي ذلك مفسراً من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدَّموا الشهر (يعني: رمضان) بيوم ولا يومين؛ إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم, صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم

عليكم فاقدروا ثلاثين يوماً ثم أفطروا» , رواه أحمد, والقدر بالتسع والعشرين يكون في أول الشهر؛ لتفسير ابن عمر, ولأنه أحوط للصوم؛ فالقدر في كل هلال بما يقتضيه, كما كانت البينة في كل هلال بحسبه؛ ففي أوله يقبل قول الواحد وفي آخره لا بد من اثنين. الثالث: قوله: «إنما الشهر تسع وعشرون. . .» إلى قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له»؛ فلولا أنه أراد التقدير له بالتسع والعشرين لم يكن لذكرها هنا معنى, بل أعلمهم أن الشهر الذي لا بد منه تسع وعشرون, واليوم الموفي ثلاثين قد يكون وقد لا يكون, فإذا غم الهلال؛ فعدوا له الشهر المذكور, وهو التسع والعشرون. ويوضح ذلك أنه أتى بقوله: «فلا تصوموا حتى تروه, ولا تفطروا حتى تروه» عقب قوله: «إنما الشهر تسع وعشرون» بحرف الفاء المشعرة بالسبب؛ فكأنه قال: الشهر الذي لا بد منه تسع وعشرون؛ فاقدروا له هذا العدد إذا غم عليكم. الرابع: قد قيل: معناه: فاقدروا له زماناً يطلع في مثله الهلال: 91 - كما في حديث عائشة: «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن

المشتهية للنظر»؛ أي: اقدروا زماناً يقف في مثله جارية حديثة السن. 92 - وأيضاً؛ فما روى أحمد في «مسائل الفضل بن زياد» بإسناده عن أبي عثمان؛ قال: قال عمر: «ليتق أحدكم أن يصوم يوماً من شعبان, ويفطر يوماً من رمضان؛ فإن تقدم قبل الناس؛ فليفطر إذا أفطر الناس». [فـ] نهى من احتاط بالصوم في أول الشهر أن يبني على ذلك في آخره, فيفطر يوماً من رمضان, وأمره أن يجعل احتياطه في الطرفين. 93 - وعن الزهري, عن سالم؛ قال: «كان أبي إذا أشكل عليه شأن الهلال؛ تقدم قبله بصيام يوم». وقد تقدم رواية نافع عنه بالفَصْل بين الصحو والغيم. 94 - و [عن] معاوية بن صالح, عن أبي مريم؛ قال: سمعت أبا هريرة يقول: «لأن أتعجل في صيام رمضان بيوم أحب إلي [من] أن أتأخر؛ لأني إذا تعجلت؛ لم يفتني, وإذا تأخرت؛ فاتني». وفي لفظ آخر: «تقدم رمضان بيوم من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». 95 - وعن عبد الله بن هبيرة, عن عمرو بن العاص: «أنه كان يصوم

[اليوم] الذي يشك فيه من رمضان». 96 - وعن مكحول وابن [حلبس]: أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: «إن رمضان يوم كذا وكذا, ونحن متقدمون؛ فمن أحب أن يتقدم؛ فليتقدم, ولأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان». 97 - وعن يحيى بن أبي إسحاق؛ قال: «[رأيت] هلال الفطر: إما عند الظهر, وإما قريباً منها, فأفطر ناس من الناس, فأتينا أنس بن مالك, فأخبرناه برؤية الهلال, وبإفطار من أفطر, فقال هذا اليوم يكمل لي واحد وثلاثين يوماً, وذلك أن الحكم بن أيوب أرسل إليَّ قبل صيام الناس: إني صائم, فكرهت الخلاف عليه, فصمت, وأنا متم صوم يومي هذا إلى الليل».

98 - وعن عبد الله بن أبي موسى عن عائشة: «أنها كانت تصوم اليوم الذي تشك فيه من رمضان». 99 - وعن [فاطمة بنت المنذر عن أسماء]: «أنها كانت تصوم اليوم الذي يُشك فيه من رمضان». 100 - وروى أحمد في «المسند» عن عبد الله بن أبي موسى؛ قال:

«أرسلني مدرك (أو: ابن مدرك) إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أسألها عن أشياء, وذكر الخبر. . .» إلى أن قال: «وسألتها عن اليوم الذي يختلف فيه من رمضان؟ فقالت: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان. قال: فخرجت, فسألت ابن عمر وأبا هريرة, فكل واحد منهما قال: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منَّا». 101 - وروى سعيد, عن يزيد بن خمير, عن الرسول الذي أتى عائشة رحمها الله في اليوم الذي يُشك فيه من رمضان؛ قال: قالت عائشة: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحبُّ إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». 102 - وعن فاطمة بنت المنذر؛ قالت: «ما خلق الله هلال رمضان كأن يُغم على الناس؛ إلا كانت أسماء تتقدمه وتأمرنا أن نتقدمه». 103 - وروى أبو حفص عن مكحول: أن عمر بن الخطاب كان

يصوم يوم الشك إذا كانت السماء في تلك الليلة متغيمة, ويقول: «ليس هذا بالتقدم ولكنه بالتحري». وذكر أبو بكر عبد العزيز عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة: أنهم أوجبوا صومه في الغيم. 104 - وروى يونس بن عبد الأعلى, عن عبد الله بن عكيم؛ قال: كان عمر بن الخطاب في الليلة التي تشك من رمضان يقوم بعد المغرب, فيحمد الله, ثم يقول: ألا إن شهر رمضان شهر كتب الله عليكم صيامه, ولم يكتب عليكم قيامه, ألا ومن استطاع منكم أن يقوم؛ فليقم؛ فإنها من نوافل الخير التي قال الله عز وجل, ومن لم يستطع؛ فلينم على فراشه, ولا يقولنَّ قائل: إن قام فلان قمت, وإن صام فلان صمت؛ فمن قام أو صام؛ فليجعل ذلك لله, أقلوا اللغو في بيوت الله, وليعلم أحدكم أنه في صلاة ما انتظر الصلاة, ألا لا يتقدمن الشهر منكم. . . على الظراب. 105 - كذا روى سعيد هذه الخطبة عن عبد الله بن عكيم؛ قال: كان عمر بن الخطاب إذا دخل [شهر رمضان]؛ صلى لنا صلاة المغرب, ثم تشهد بخطبة خفيفة, ثم قال: «أما بعد؛ فإن هذا الشهر [شهر] كتب الله عليكم صيامه. . .» وساق الخطبة إلى أن قال: «ألا يتقدمنَّ الشهر منكم أحد (ثلاث

مرات) , ألا ولا تصوموا حتى تروه, ثم صوموا حتى تروه, ألا وإن غمي عليكم, فلن يُغمَّ عليكم العدد, فعدُّوا ثلاثين ثم أفطروا, ألا ولا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب». فهذا يبين أنه أراد بأول رمضان ليلة الإِغماء. 106 - وعن فاطمة بنت الحسين: أن رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية الهلال, هلال رمضان, فصام, وأحسبه قال: ومر الناس أن يصوموا, وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان».

فهذه الآثار من الصحابة رضي الله عنهم قالوها وفعلوها في أوقات متفرقة, وأكثر هؤلاء مثل أبي هريرة وابن عمر وعائشة هم الذين رووا أحاديث إكمال العدة وأحاديث النهي عن التقدم, وقد روي عنهم وعن غيرهم النهي عن صوم يوم الشك والأمر بإكمال العدة. 107 - فروى سعيد والنجاد عن عبد العزيز بن حكيم؛ قال: ذكر عند ابن عمر اليوم الذي يشك فيه من رمضان, فقال ابن عمر: «لو صمت السنة؛

لأفطرت اليوم الذي بينهما». 108 - وروى حنبل عن ابن عمر؛ قال: «صوموا مع الجماعة, وأفطروا مع الجماعة». 109 - وروى الأثرم عن مسروق؛ قال: «دخلنا على عائشة في اليوم

الذي يشك فيه من رمضان, فقالت: يا جارية! خوضي له عسلاً. قالت: خوضوه, فإن رابكم منه شيء؛ فمروها فلتزد, فإني لو كنت مفطرة؛ لذقته لكم. فقلت: أنا صائم, يريد إن كان اليوم من رمضان أدركنا وإلا كان تطوعاً. قالت: إن الصوم صوم الناس, والفطر فطر الناس, والذبح ذبح الناس». 110 - وعن محمد بن سيرين: «أنه دخل على أنس بن مالك في اليوم الذي يشك فيه من رمضان, فوجده قد شرب خزيرة وركب». 111 - وعن الشعبي؛ قال: «كان عمر وعلي ينهيان عن صوم [اليوم] الذي يشك فيه من رمضان». 112 - وعن أبي الطفيل؛ قال: جاء رجل إلى علي, فسأله عن صيام يوم الشك؟ فقال له علي: «إن نبيكم كان ينهى عن صيام ستة أيام من السنة:

يوم الشك, ويوم النحر, ويوم الفطر, وأيام التشريق». 113 - وعن عبد الله بن مسعود؛ قال: «لأن أفطر يوماً من رمضان ثم أقضيه أحب إليَّ من أن أزيد فيه ما ليس منه». 114 - وعن ابن عباس؛ قال: «لا تصوموا اليوم الذي يشك فيه لا تشق فيه الإِمام». 115 - وعن أبي سعيد؛ قال: «إذا رأيت هلال رمضان؛ فصم, وإذا لم تره؛ فصم مع جماعة الناس وأفطر مع جماعة الناس». 116 - وعن حذيفة: «أنه كان ينهى عن صوم [اليوم] الذي يشك فيه».

117 - وعن عمار: «أنه أتى بشاة مصلية في اليوم الذي يقول القائل: هو من شعبان, فاعتزل رجل من القوم, فقال: أما أنت بمؤمن بالله واليوم الآخر؛ فادن فكل». فإذا كان الأمر هكذا؛ وجب أن تحمل آثار الصوم على حال الغمام والضباب, وآثار الفطر على حال الصحو والانقشاع لوجوه: أحدها: أنه إن لم يفعل ذلك؛ لزم تهاتر الآثار وتعارضها, وأن يكون الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وعملوا بخلافه في مثل هذه القضية التي لا تنسى ولا تخفى, حتى يقول أبو هريرة وابن عمر: أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منَّا في قضية رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها نصّاً, وأن يخالفوا إلى ما نهوا عنه, ومثل هذا لا يجوز أن يظن بهم ويعتقد فيهم. الثاني: أن الآثار في الشك مجملة, ليس فيها نص بيوم الغيم, والآثار في الصوم كثير, منها مفسرة مبينة بصوم يوم الغيم, وفيها ما فُرِّق فيه بين الغيم والصحو, وهو حديث ابن عمر, مع أنه قد صرح عن نفسه بأنه يفطر اليوم الذي يشك فيه, فعلم أن مقصوده بيوم الشكِّ: الشكُّ في حال الصحو, وإذا علم أن مقصود بعض الصحابة بيوم الشك هذا؛ جاز أن يكون مقصود الباقي ذلك. ويوضح ذلك: أن الشك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان والله أعلم في حال الصحو؛ لأنه صام تسع رمضانات وكانت في الصيف.

يُبيِّنُ ذلك: أنه خرج في غزوة الفتح في سنة ثمان من رمضان في حَرٍّ شديد, وخرج إلى بدر في رمضان من السنة الثانية, وهو أول رمضان فرض, وكانت في الربيع الذي تسميه العامة الخريف, وذلك لأنهم أمطروا عام بدر كما دل عليه القرآن, والمطر إنما يكون في الربيع الذي قبل الشتاء المسمى بالخريف, وفي الصيف الذي بعده سمي بالربيع, لكن العادة أن رمضان في السنة الثانية يكون قبل الوقت الذي كان فيه من السنة الأولى بنحو أحد عشر يوماً, فلما كان في غزوة الفتح رمضان في حرٍّ شديد؛ عُلِمَ أنه كان قبل ذلك فيما بين الخريف والحر الشديد, لا فيما بين الربيع الذي بعد الشتاء وبين الحر الشديد؛ لما ذكرنا أن السنة إنما تدور وراء, وهو أول رمضان فرض, والسنة إنما تدور في ثلاثة وثلاثين سنة, يقع منها نحو ستة عشر في الصيف وما يقاربه. الثالث: أن السماء إذا كانت مصحية وتقاعد الناس عن رؤية الهلال أو ادعى رؤيته مَنْ لا يقبل خبره أو جاز أن يكون قد رئي في موضع آخر أو تحدث به الناس ولم يثبت؛ كان شكّاً مرجوحاً؛ لأن الغالب الظاهر أنه لو كان هناك هلال لرآه بعض المقبولين, والأصل عدم الهلال, فاعتضد على عدم الهلال الأصل النافي المبني عليه استصحاب الحال والظاهر الغالب, فلم يكن لتقدير طلوعه بعد هذا إلا مجرد وهم وخيال, وأحكام الله لا تبنى على ذلك, فكان الصوم والحال هذه مجرد غلو في الدين وتعمق؛ كالمتورع عن مال رجل مسلم مستور, وكتقدير الشبهات والاحتمالات التي لا أمارة عليها, وهذا مما لا يُلتفت إليه. ثم إنه في حال الصحو للناس طريق إلى العلم به, وهو ترائي مطلعه والتحديق نحوه؛ فإذا لم يروه؛ جاز نفيه بناء على نفي رؤيته؛ فإن الباحث عن

الشيء الطالب له بحسب الوسع والطاقة إذا لم يجده جاز أن ينفيه, وعلى هذا يبنى عامة الأحكام الشرعية المبنية على عدم الدليل الموجب, مثل أن يقال: لا يجب الشيء الفلاني أو لا يحرم؛ لأن الأصل عدم الوجوب والتحريم, لا دليل على ثبوتها. أما إذا حال دون منظره سحاب أو قتر؛ فهناك لا سبيل إلى ترائيه ولا نفي طلوعه, فانقطع العلم بالهلال من جهة الرؤية, ولم يبق إلا العدد. ويحتمل أن يكون طالعاً, ويحتمل أن لا يكون, ومثل هذا لا يأتي الشرع بتحريم الاحتياط وإزالة الشك فيه. 118 - وهو القائل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

بل مثل هذا في الشرع: إما أن يجب الاحتياط فيه أو يستحب كما سنذكره إن شاء الله, وهذا معنى قول من قال من الصحابة: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». ولا يخالف هذا قول ابن مسعود: «لأن أفطر يوماً من رمضان ثم أقضيه أحب إليَّ من أن أزيد فيه ما ليس منه»؛ لأنه جعل الفطر والقضاء خيراً من الزيادة؛ لأن الفطر والقضاء غالباً إنما يكون مع الصحو بأن يكون بعض الناس قد رآه ولم يثبت ذلك بعد, أما مع الغيم؛ فيتعذر الرؤية غالباً. ثم هذا الشك قد يرجح فيه الصوم من وجهين: أحدهما: أن الغالب على شعبان أن يكون تسعاً وعشرين, وإنما يكون ثلاثين في بعض الأعوام, فإن غُم الهلال؛ كان إلْحاق الفرد بالأعم الأغلب أولى مِنْ إِلْحاقهِ بالأقل. الثاني: أن الشهر المتيقن تسع وعشرون, وما زاد على ذلك متردد بين الشهور, وقد كمل العدد المتيقن, وقد نَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله: «إنما الشهر تسع وعشرون» , بصيغة (إنما) التي تقضي إثبات المذكور ونفي ما عداه, فعلم أن ما زاد على التسع والعشرين ليس من الشهر بيقين, فإذا مضت من شعبان تسع وعشرون ليلة؛ فقد مضى الشهر الأصلي. وأيضاً ما احتج به بعض أصحابنا, وهو: 119 - ما روى مطرف بن الشخير عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (أو: قال لرجل وهو يسمع): «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟».

قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أفطرت؛ فصم يومين مكانه». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي رواية للبخاري: «أما صمت سرر هذا الشهر؟». قال: أظنه يعني رمضان. وفي رواية ثابت: «من سرر شعبان». قال البخاري*: - «وهو أصح». وفي رواية لأحمد ومسلم, عن شعبة, عن ابن أخي مطرف, عن مطرف: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً «يعني: شعبان)؟». قال؛ لا. قال: «فإذا فطرت رمضان؛ فصم يوماً أو يومين (شك شعبة. قال: وأظنه قال: يومين»). وفي رواية لأحمد وأبي داوود والنسائي, عن حماد بن سلمة, عن ثابت عن مطرف وسعيد الجريري, عن أبي العلاء, عن مطرف, عن

عمران: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟». قال: لا. قال: «فإذا أفطرت؛ فصم يوماً (وقال أحدهما: يومين»). وفي رواية: وقال الجريري: «صم يوماً». وقد رواه أحمد عن يزيد عن الجريري, وقال: «فصم يومين». وكذلك رواه سليمان التيمي عن أبي العلاء, وغيلان بن جرير عن [مطرف]. 120 - وعن أبي الأزهر المغيرة بن فروة؛ قال: قام معاوية بالناس بدير مسحل الذي على باب حمص, فقال: يا أيها الناس! إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا, وأنا متقدم بالصيام؛ فمن أحب أن يفعله؛ فليفعله. قال: فقام إليه مالك ابن هبيرة السبئي, فقال: يا معاوية! أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء من رأيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صوموا الشهر وسرّ». رواه أبو داوود.

121 - وروي عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أنهما قالا: «سره أوله».

122 - وعن القاسم بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر قبل شهر رمضان: «الصيام يوم كذا وكذا, ونحن متقدمون؛ فمن شاء؛ فليتأخر». رواه ابن ماجه. قال أهل اللغة: السر والسرار - بالفتح والكسر ــ آخر الشهر ليلة يستسر هلال, فربما استسر ليلة, وربما استسر ليلتين إذا تم الشهر؛ لأنه لا بُدَّ أن يُرى صبيحة ثمان وعشرين ثم يستسر ليلة تسع وعشرين ثم يستهل ليلة الثلاثين أو يستسر أيضاً. وقد ذكرنا عن الأوزاعي وسعيد: أن سِرَّه أوله. قال من احتج بهذا: لا وجه لهذا الحديث إلا أن يكون أمر بصوم السرار مع الغيم, فلما لم يصم ذلك الرجل السرار؛ أمره بالقضاء؛ لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ إلا أن يكون صوماً يصومه أحدكم؛ فليصمه». ثم أمر بصوم السرر وقضائه, وهو يوم أو يومين, فيحمل هذا على حال الصحو وهذا على حال الإِغمام توفيقاً بينهما.

ويؤيد ذلك أن معاوية هو ممن روى حديث الأمر بصوم السِّر, وكان يتقدم رمضان, ويعلل بأني أن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان, وهذا الاحتراز لا يشرع إلا في الغيم. ومطرف بن الشخير هو الذي روى حديث عمران بن حصين, وكان يصوم هذا الصوم, ويقول: 123 - «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان». رواه النجاد وغيره. وقد فسر سعيد والأوزاعي سره بأنه أوله, وهذا إنما يكون مع الغيم؛ لأنه يجعل يوم الإِغمام أول الشهر حكماً واجباً مضى؛ فهو سرار لشعبان من وجه, وأول لرمضان من وجه. فإن قيل: هذا محمول على أن الرجل كانت له عادة يصوم السرار, وكان قد نذره. قلنا: هذا لا يصح؛ لأن اعتياد صوم السرار دون ما قبله في الصحو هو التقدم المنهي عنه في حديث أبي هريرة؛ فلا يجوز أن يحمل على أن عادته صوم أيام منها السرار؛ لأنه إنما أمره بقضاء السرار فقط, ولذلك أيضاً يكره أن ينذر صوم السرار مفرداً أو يحرم؛ لأنه تقدم وجوبه يوم الشك, وما كان مكروهاً في الشرع كان مكروهاً وإنْ نذره. ثم هذا ليس له في الحديث ذكر, وإنما المذكور حكم, وهو الأمر بالقضاء, وسبب, وهو فطر ذلك السرار, فيجب تعلق الحكم بذلك السبب,

ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء سوى ذلك. ثم معلوم أن النذر يجب قضاؤه, ولا اختصاص للسرار بذلك. ثم راوي الحديث عمران وصاحبه مطرف فهما من ذلك العموم في حق ذلك الرجل وغيره. ثم حديث معاوية عام صريح بالأمر بصوم السر, وقد فهم منه معاوية التقدم. فإن قيل: فقد أمره بقضاء يومين, وإنما يقضي مع الإِغمام يوماً واحداً. قيل: أما حديث معاوية؛ فليس فيه عدد, وإنما فيه السرار والسرار المتيقن هو ليلة واحدة. قال غير واحد من أهل اللغة: سرر الشهر آخر ليلة منه. وأما حديث عمران؛ فقد ذكر بعض الرواة أنه إنما أمره بقضاء يوم فقط؛

........................

فإن كان هذا هو الصواب؛ فلا كلام, وإن كان الصواب رواية الأكثرين؛ فقد حمله القاضي على ما إذا غُم هلال شعبان وهلال رمضان, فعدَّ كل واحد من رجب وشعبان ثلاثين يوماً, وحصل صوم رمضان ثمانية وعشرين يوماً. قال: فليعلم أن الخطأ حصل بيومين من شعبان, وهذا الذي قاله يقتضي أنه غُم هلال شعبان ثم غُم هلال رمضان ليلتين: أن يؤخذ بالاحتياط؛ لأنه يجوز أنه كان هلال شعبان تحت الغمام, فتكون الليلة التي يظن أنها تسع وعشرون من شعبان ليلة الثلاثين منه والسماء متغيمة, فيقدر له ويصام, وأنه لو أكمل العدتين وصام ثم رأى الهلال بعد ثمانية وعشرين من رمضان: أنه يقضي يومين, وعلى قياس [هذا]؛ فلو توالت ثلاثة أشهر أو أكثر مغيمة. . . والأشبه. . . , وذكر في موضع آخر أن لا يحكم بدخول شهر من الشهور بمجرد الإِغمام إلا شهر رمضان كما لا يثبت بشهادة الواحد إلا رمضان خاصة. وأيضاً؛ فإن من حيل بينه وبين رؤية الهلال فإنه يعمل بالتحري والاجتهاد. أصله الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى, والتحري يوجب الصوم؛ لأنه أحوط للشهر, ولأنه الأغلب. وأيضاً فإن الصوم ثابت في ذمته بيقين, ولا يتيقن براءة ذمته إلا بصوم الإِغمام, فصامه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, كما يجب عليه إمساك جزء قبل الفجر؛ لأنه لا يتم صوم اليوم إلا به, وكما لو كان عليه فوائت لا

يعلم عددها, أو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها, أو أصاب ثوبه نجاسة جهل محلها؛ فإنه يلزمه فعل ما يتيقن به براءة [ذمته] , كذلك ها هنا. ولأنه إغمام في أحد طرفي الشهر فأخذ فيه بالاحتياط كالطرف الثاني. والذي يدل على الأخذ بالاحتياط في أول الشهر قبول خبر الواحد فيه مع أنه لا يقبل في سائر الشهور إلا بشهادة اثنين, فلولا رعاية الاحتياط فيه لقيس على سائر الشهور. فإن قيل: في هذه الأصول المقيس عليها قد تيقن الوجوب, ولا تيقن البراءة من الواجب إلا بفعل الجميع, وهنا يشك في وجوب صوم ذلك اليوم, والأصل عدم وجوبه, والأصل بقاء شهر شعبان, فيجب العمل باستصحاب الحال؛ كما لو شك في مقدار الزمان الذي فوت صلاته, مثل أن يقول: لم أصلِّ منذ بلغت, ولا أدري هل بلغت من سنة أو سنتين, أو شك في طريان النجاسة على الثوب, وكما لو شك في طلوع الفجر؛ فإنه يجوز له الأكل حتى يتيقن طلوعه, وكما يستصحب الحال مع الصحو. قيل: وقد تيقن وجوب صوم الشهر بكماله, وشك في هذا [اليوم] هل هو من الشهر أم لا؟ مع أن الأغلب أنه منه, وليس معه قرينة تنفي كونه منه. وأما كون الأصل بقاء شعبان؛ فقد عارضه كون الغالب طلوع الهلال في هذه الليلة, وأن هذا الأصل متيقن الزوال, وإنما التردد في وقت زواله. ثم الفرق بين هذا وبين الأكل والوقوف مع الشك في طلوع الفجر: أنه قد وجد منه الإِمساك هنا والوقوف, فلم تسقط العبادة بالبناء على الأصل, وهنا البناء

على الأصل يسقط صوم يوم. وأيضاً؛ فإن إيجاب الاحتياط هناك فيه مشقة عظيمة؛ فإن طلوع الفجر يخفى على كثير من الناس, وتفويت الحج أشق وأشق, وليس في صوم يوم الإِغماء مشقة. وأيضاً؛ فإنه هناك يجوز الأكل مع قدرته على معرفة طلوع الفجر. 124 - كما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولو كانت السماء مصحية وأراد التغافل عن رؤية الهلال لئلا يصوم ذلك اليوم؛ لم يجز. فعُلِم الفرق بينهما. ولأن الله سبحانه قال في الفجر: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] , فعلق الحكم بالتبيين, وقال هنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة: 189] , فعلق الحكم بنفس الهلال, لا بمجرد رؤيته. وأيضاً؛ فإن الصوم عبادة مقدرة بوقت وجوبها, فوجبت مع الاشتباه؛ كالصلاة في آخر الوقت, والشك في آخر الشهر, وهذا لأنه إذا شك تضايق وقت الصلاة؛ وجب [عليه] فعلها حذر الفوات, مع أن الأصل بقاء الوقت؛ فكذلك الصوم مثله سواء. فعلى هذا صوم يوم الغيم [واجب] في المشهور عند أصحابنا ويتوجه. . . .

وأما الأحاديث المتقدمة؛ فقد أجاب أصحابنا عنها أنها بين صحيح لا دلالة فيه, أو ظاهر الدلالة لكن في إسناده مقال ويقبل التأويل. قالوا: فكل موضع جاء فيه: «فأكملوا العدة»؛ فالمراد به إكمال عدة رمضان؛ لأنه أقرب المذكورين, ولأنه جاء مصرحاً به في حديث أبي هريرة: من رواية مسلم التي إسنادها أصح الأسانيد: «فإن غم عليكم؛ فصوموا ثلاثين يوماً». وفي رواية الترمذي التي صححها هو وغيره: «فعدوا ثلاثين يوماً ثم أفطروا». وكذلك في حديث ابن عباس: «فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ثم أفطروا». رواه أبو داوود. ولأنا قد قدمنا عن أبي هريرة وعائشة وابن عمر أنهم أمروا بصوم يوم الغيم, فلو كانت أحاديثهم تقتضي إفطار يوم الغيم, لم يخالفوا ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن مثل هذا لا يجوز أن ينسب الراوي فيه إلى نسيان أو تأويل, وتأولوا أيضاً إكمال العدة على وجهٍ آخر سيأتي. فأمَّا الأحاديث الظاهرة في إكمال عدة شعبان؛ فأجابوا عنها بجوابين: أحدهما: القدح: أما حديث أبي هريرة؛ فقال أبو بكر الإِسماعيلي: قد رواه البخاري عن آدم عن شعبة, فقال: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». قال: قد رويناه عن غندر وعبد الرحمن بن مهدي وابن علية وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم بن علي والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي داوود وآدم, كلهم عن

شعبة, لم يذكر أحد منهم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين. قال: وهذا يجوز أن يكون من آدم, رواه على التفسير من عنده للخبر, وإلا؛ فليس لانفراد البخاري

عنه بهذا من بين من رواه عنه [ومن بين] سائر مَنْ ذكرنا ممن يرويه عن شعبة [وجه] , ورواه المقبري عن ورقاء عن شعبة على ما ذكرناه أيضاً. فإن قيل: هذه زيادة من الثقة فيجب قبولها. قلنا: هذا لا يصح لوجوه: أحدها: أن من لم يذكر هذه الزيادة عدد كثير لا يجوز على مثلهم في عددهم وضبطهم أن يغفلوها ويضبطها واحد لا يقاربهم في الفضل والضبط, وقد اختلف عليه فيها, فروي أنه ذكرها, وروي عنه أنه تركها, وعلى هذا عامة أهل الحديث وأكثر محققي أصحابنا, لا سيما وقرينة الحال تقتضي أنه روى الحديث بالمعنى الذي فهمه منه. الثاني: أن الزيادة إنما تقبل إذا زاد الواحد على لفظ الجماعة, أما إذا غيَّر لفظ الجماعة؛ علم أنه خالف لفظهم, ولم يزد عليهم, وسائر الجماعة رووا هذا الحديث: «فأكملوا العدة» , وبعضهم قال: «فعدوا ثلاثين يوماً» , ولا شك أن هذا اللفظ لا يزاد عليه شعبان إلا بتغييره, وحذف أداة التعريف؛ فمن قال: عدة شعبان, لا يقال: إنه قد زاد على لفظ من قال: فأكملوا العدة, لكن خالف لفظُهُ لفظَهُ, وأما المعنى؛ فقد يكون متفقاً, وقد يكون مختلفاً. الثالث: إن الروايات الصحيحة التي لا علة فيها عن أبي هريرة تثبت أن المراد: أكملوا عدة رمضان ثلاثين يوماً كما تقدم, فتحمل الروايات المطلقة على المفسرة, وتكون هذه الرواية تفسيراً من عند الراوي؛ كما شهد به عليه أهل المعرفة بعلل الحديث.

الرابع: أنه تقدم عن أبي هريرة أنه كان يقول: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان» , وأن عائشة أفتت بذلك, وأقرها عليه؛ فلو سمع من فلق فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً صحيحاً بإكمال عدة شعبان وابتداء الصوم بعدها في مثل هذا الخطب الذي لا يكاد يغفل ويهمل بهذا اللفظ الذي لا يعدل عنه ويتأول؛ لما استجاز خلافه. ونحن إذا قلنا: مخالفة الراوي للحديث لا يمنع الاحتجاج به؛ فإنا ننسب مخالفته إلى نسيان أو اعتقاد نسخ أو تأويل, وهذه الاحتمالات مندفعة هنا. ثم لا ريب أن مخالفته علة في الحديث تؤثر فيه؛ فإذا اعتضد بمخالفته انفراد واحد عن الإِثبات بهذا اللفظ الذي فيه المخالفة, ومخالفته للفظ الجماعة؛ كثرت الشهادات القادحة في هذا اللفظ, فوقف. ويتوجه فيه شيء آخر, وهو أن اللفظ المشهور: «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» , وهذا يكون في حال الصحو إذا تراءاه فغبي عليه ولم يره ولم يعرفه؛ لأنهم. . . غبي على الشيء إذا لم يعرفه مع إمكان معرفته, وفي لفظ: «فإن غمي عليكم الشهر» , وهذا محتمل للصحو. وأما حديث ابن عباس؛ فقد رواه أبو داوود: «فأتموا العدة ثلاثين يوماً, ثم أفطروا» , وهي زيادة محضة لا تخالف المزيد كالزيادة الأولى.

125 - وروي أيضاً: «فأكملوا العدة عدة شعبان». وفي السياق ما يدل على هذا المعنى. وهذا الاختلاف وإن لم يكن موهياً للحديث؛ فإنه نوع علة فيه يحطه عن درجة القوة, وتعرضه للتأويل الذي يأتي. وأما حديث حذيفة مسنداً ومرسلاً؛ فقال أحمد: سفيان وغيره يقولون: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليبين قوله: حذيفة, [ليس] بمحفوظ. [و] قوله: «لا تصوموا حتى تكملوا العدة أو تروا الهلال»: محمول على حال الصحو, وأكثر ما فيه تخصيص العام, وذلك جائز بالدليل. وأما الرواية المفسرة؛ فمدارها على الحجاج بن أرطانة, وضعفه مشهور, ثم هي مرسلة؛ فلا تعارض المسند. وأما حديث عائشة؛ ففي إسناده معاوية بن صالح, وقد تُكلم فيه, والذي يضعفه أن المشهور عن عائشة أنها كانت تصوم هذا اليوم وتقول: «لأنْ أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان»؛ فكيف تروي الحديث في مثل هذا وتعمل بخلافه؟! وهذا علة ظاهرة فيه. الجواب الثاني: تأويا أبي إسحاق بن شاقلا وابن حامد والقاضي وغيرهم, وهو أن تحمل الأحاديث في إكمال عدة شعبان على ما إذا غُم هلال

رمضان وهلال شوال؛ فإنه هنا يجب إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً, وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً, فيصوم, فيقدر أن يوم الغيم لم يكن من رمضان حتى يصوم أحداً وثلاثين يوماً, فدل على ذلك أن قوله: «فإن غم عليكم» , وبعد الجملتين, فيعود إليهما جميعاً, ويكون فائدة الحديث التحذير من أن يحتسب بيوم الغيم من رمضان بكل حال, فبنى على ذلك تمام ثلاثين يوماً, فيفضي إلى فطر آخر يوم من رمضان, وهذا المعنى هو الذي قصد عمر رضي الله عنه بقوله: «ليتق أحدكم أن يصوم يوماً من شعبان ويفطر يوماً من رمضان» , وكذلك أنس بن مالك في قوله: «هذا اليوم يَكمُلُ لي واحداً وثلاثين يوماً» , ولعل يوم الشك واستقبال الشهر ونحوه إنما نهي عنه حذراً من هذا المعنى؛ فإنه يفضي إلى إفطار يوم من رمضان. وأما حديث يوم الشك؛ فالمشهور عند أصحابنا أن هذا ليس بيوم شك كما تقدم عن ابن عمر وغيره: أنه كان يكره صوم الشك, ولا يرى هذا [شكاً] , كما لو شهد به واحد, فإنه ليس بيوم شك, وإن كان كذبه ممكناً, وكذلك هنا الظاهر أنه من رمضان, وإن كان الآخر محتملاً, وعلى قول مَنْ يسميه يوم الشك, لما فيه من التردد باللفظ العام, فيحمل على الشك في حال الصحو؛ فإنه هو الذي يقع فيه الشك, واحتمال الرمضانية والاختلاف فيه مرجوح. يبين صحة هذا أن يوم الشك يقع على أنواع: منها الشك في [حال] آخر الشهر وصومه واجب بالإِجماع, ومنها الشك إذا رآه الرجل أو أخبره ثقة عنده

فإنه يجب صومه عليه دون غيره, ومنها الشك في الغيم, ومنها الشك في الصحو, والعموم ليس مراداً قطعاً, فيحمل على الشك المعهود الذي جاء مفسراً في عدة روايات. ثم عمار رضي الله عنه لم يحكِ عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً, وإنما ذكره أنه من صام يوم الشك فقد عصاه, وذلك يدل على أنه سمع منه نهياً عن صوم يوم الشك في الجملة, أو فهم من قوله: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته»: النهي عن صوم يوم الشك؛ فإنه ظاهر في ذلك, أو سمع منه لفظاً غير ذلك, ففهم منه هذا المعنى. وفي الجملة؛ فقول الصاحب: نزلت في كذا, أو: هذا حكم الله ورسوله, أو: هذا مما حرمه الله ورسوله, أو: من فعل هذا فقد عصى أبا القاسم: محتمل لأنه أخبر به عن فهم واعتقاد. ولهذا لم يرو أحمد وأمثاله في مسند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان غيره من العلماء يدخلون مثل هذا في الحديث المسند. ولم يصرح عمار بأن يوم الغيم يوشك, ولو صرح به؛ لما كان الرجوع إلى ما فهمه بأولى من الرجوع إلى ما رواه ابن عمر وفهمه, وما قاله أبو هريرة وعائشة وغيرهما مع روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد رضي الله عنه في رواية المروذي, وقد سئل عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك, فقال: «إذا كان صحو؛ لم يصم, فأما إن كان في السماء غيم؛ صام». ونقل أبو داوود عنه: «الشك على ضربين؛ فالذي لا يصام إذا لم يحل

دون منظره سحاب ولا قتر والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر». ونقل الأثرم عنه: «ليس ينبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غير. . .». ويمكن جواب ثالث: وهو أن تحمل الأحاديث في الصوم على الجواز والاستحباب, وتحمل أحاديث الفطر على عدم الوجوب, ويكون التغليظ فيهما على مَنْ يجزم بأنه من رمضان ويعتقد وجوب صومه كوجوب صوم الذي يليه حتى يلحق برمضان ما لم يتيقن أنه منه, وعلى من يعتاض بصومه عن صوم آخر يوم من رمضان كما نهى عنه عمر. فإن أحاديث الصوم تدل على أن الناس كلهم لم يكونوا يصوموا يوم الغيم, وإنما كان يصومه جماعات من الصحابة والتابعين, ولم يجئ نص عن أحد منهم بأنه أنكر صوم يوم الغيم, وكان عامة الناس لا يؤمرون بالصوم إلا بعد الرؤية أو إكمال العدة, وفي حديث ابن عمر أنه كان يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. وقوله: وفعله يدل على أنه كان يرى هذا حسناً لا واجباً, وكذلك فعل معاوية, وقول غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان»: إنما يدل على الاستحباب. والقياس يقتضي صحة هذا القول؛ فإن إيجاب ما لم يتقن وجوبه خلاف القياس, وكراهة التحري والاحتياط في العبادات خلاف القياس أيضاً.

* فصل: وإذا أوجبنا صومه

* فصل: وإذا أوجبنا صومه؛ ترتب عليه جميع أحكام الصوم, ولزم تبييت النية له وتعيينها في إحدى الروايتين نقلها الأثرم, وفي الأخرى يكفي مطلق نية الصوم, رواها المروذي وصالح, وفرق في رواية صالح بين الغيم وغيره؛ فإنه هنا لا سبيل لها إلى اعتقاد الرمضانية مع عدم العلم بخلاف غيره واعتقاد الفرضية على أحد الوجهين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولو جامع فيه لزمته الكفارة, ذكره القاضي؛ لأن من أصلنا أن كل يوم واجب تجب الكفارة بالوطء فيه, سواء اتفق في وجوبه وعُلم أنه من الشهر بطريق مقطوع أو لا.

هل تصلى التراويح ليلتئذٍ؟ على وجهين: أحدهما: لا تصلى, وهو قول أبي حفص العكبري والتميميين وابن الجوزي, والآثار إنما جاءت في الصوم, ولا يلزم من الاحتياط للصوم الواجب أن يُعلَّق به جميع الأحكام الرمضانية, ولذلك لا يعلق به [انقضاء] العدد والآجال في الديون وغيرها, ولأن الصلاة قبل تيقن دخول الوقت لا تجوز؛ بخلاف الصوم؛ فإن الإِمساك قبل دخول الوقت مشروع في الجملة. والثاني: تُصلى, وهو قول كثير من أصحابنا, منهم ابن حامد والقاضي وابنه, وهو أقيس. قال أبو الفرج بن الجوزي: وهو اختيار أكثر مشايخنا المتقدمين. قال: جرت هذه المسألة في زمن شيخنا فصلى. قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الفضل بن زياد: القيام قبل الصيام. 126 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه؛ فمن صامه وقامه».

فقرن بين الصيام والقيام, ولا يتيقن أنه صام الشهر حتى يقوم ليلة الإِغمام. ولأنه لا فرق في الاحتياط بين الصيام والقيام, ولا يصح إلحاق هذا بسائر الصلوات؛ بخلاف من يصلي تلك الليلة وسائر الليالي؛ فإنه بمنزلة من يصوم ذلك اليوم وسائر الأيام.

ولأنه قد تقدم في خطبة عمر أنه خطبهم ليلة الغيم وذكر الصيام والقيام. وأما إذا علق طلاق نسائه وعتق عبيده بدخول شهر رمضان أو كان عليه دين محله شهر رمضان أو استأجر الدار شهر شعبان ونحو ذلك من الأحكام؛ فإنه لا يحل الدين ولا يقع الطلاق ولا تنقضي مدة الإِجارة في أصح الوجهين, وفي الآخر تثبت الأحكام التي بين الناس تبعاً لوجوب الصوم, كما تثبت شهادة الواحد تبعاً, وليس بجيد؛ لأن في ذلك إسقاط لحق ثابت بمجرد الشك, وذلك لا يجوز, ولأن الصوم إنما وجب احتياطاً, وليس في حقوق الآدميين احتياط, ولأن الوقوع والحلول مما لا يتكرر, وما لا يتكرر لا يشرع فيه الاحتياط كالصلاة والوقوف, ولهذا لو شهد واحد بهلال رمضان؛ وجب الصوم. وقد ذكر القاضي وأبو الحسين: هل يصام هذا اليوم حكماً من رمضان أم قطعاً؟ على وجهين: أصحهما حكماً, اختاره الخلال وصاحبه والخرقي والقاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى. قال الخلال: يصام بعزيمة من رمضان في الحكم, لا قطع عين في الحقيقة. والوجه الثاني: ذكر القاضيان أن بعض أصحابنا قال: يصوم قطعاً, وصاحب هذا الوجه إن أراد به أن يقطع النية؛ فهذا صحيح عند هؤلاء؛ كما أن الأسير إذا اشتبهت عليه الأشهر؛ تحرَّى وصام جازماً بالنية, وإن لم يجزم بوجود المنوي, وإن عنى أنه يقطع بدخول الشهر؛ فلا وجه لهذا. ولو حلف أن الهلال تحت الغيم أو أنه لم يطلع؛ لم يحنث؛ كما لو حلف أن هذا الطائر غراب, وطار ولم يعلم ما هو, ذكره القاضي. ويتخرج: أن يحنث. ولو حلف ليفعلن كذا أول يوم من رمضان, فقال القاضي: لا يبرأ حتى يدخل يوم الإِغمام والذي يليه؛ لأن كل واحد من اليومين يحتمل أن يكون أول الشهر؛ فلا يبرأ إلا بالفعل فيهما؛ كما لو حلف ليفعلن كذا عقب الصلاة التي في ذمته, وقد نسي

مسألة: وإذا رأى الهلال وحده؛ صام

صلاة من خمس لا يعلم عينها؛ فإن عليه أن يفعله في عقب كل صلاة. وعلى هذا: إذا غم هلال سائر الشهور. . . . ولو نذر أن يصوم رجباً أو شعبان, فغم أوله, فقال ابن عقيل: قال أصحابنا: يلزمه أن يصوم يوم الإِغمام؛ لأن النذور تبنى على أصولها من الفروض. مسألة: وإذا رأى الهلال وحده؛ صام. هذا إحدى الروايتين عن أحمد, وعليه عامة أصحابنا: أنه إذا رأى الهلال وحده؛ لزمه الصوم, وإن ردت شهادته, وإن كان فاسقاً. وكذلك لو كان عدلاً, وقلنا: لا يقبل في هلال رمضان إلا عدلان؛ فإنه يلزمه الصوم. قال في رواية صالح وقد سأله: إذا رأى هلال شوال وحده هل يفطر أو رأى هلال رمضان أيصوم؟ فقال: أما الصوم؛ فأعجب إليَّ أن يصوم, وأما الفطر؛ فيتهم نفسه. فقد أمره بالصوم, ومنعه من الفطر. وقال في رواية صالح: من رأى هلال رمضان وحده؛ يصوم ولا يفطر, وأما شوال؛ فلا.

وأما رمضان؛ فتجوز شهادة رجل واحد, وحمل أصحابنا هذا على الإيجاب. والرواية الثانية: لا يصوم إذا انفرد برؤيته وردت شهادته, أو قلنا: لا يقبل إلا اثنان. قال في رواية حنبل في رجل رأى هلال رمضان وحده: هل ترى له أن يصوم إذا لم ير غيره؟ فقال: لا يصوم إلا في جماعة الناس, ولا يفطر حتى يفطر الإِمام. وحملها أصحابنا على أنه لا يلزمه, وظاهر الرواية أن يكره له الصوم, ويكون في حقه يوم شك. فأما إذا رآه في موضع ليس فيه غيره؛ فيلزمه الصوم رواية واحدة, وإن انفرد برؤيته بين الرفقة أو في قرية صغيرة ونحو ذلك: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. 127 - ولما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الصوم يوم تصومون, الفطر يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون». رواه الترمذي وقال:

حسن غريب. وقال: «صومكم يوم تصومون, وفطركم يوم تفطرون». رواه الدارقطني من حديث الواقدي عن رجال من أهل المدينة, ورواه الترمذي. ولحديث ابن عمر وأبي سعيد. 128 - ولأن «يد الله على الجماعة, ومن شذ شذ في النار».

قد يجوز أن يكون عرض له غلط في الرؤية؛ فلا ينفرد عن الجماعة بمجرد ذلك, ولأنه أحد طرفي الشهر, فجاز أن يطرح فيه رؤية نفسه المردودة كالطرف الثاني؛ فإنه منهي عن الصوم في الطرف الأول؛ كما أنه منهي عنه في الطرف الآخر, ولأنه محكوم بأنه من شعبان في حق الكافة؛ فلا يلزمه صومه كما لو شك في الذي رآه هل هو هلال أم لا؟

مسألة: فإن كان عدلا صام الناس بقوله

ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته». الرؤية موجودة, ولأن ثقته برؤية نفسه أبلغ من ثقته بخبر غيره, ثم لو أخبره شاهدان؛ لوجب الصوم بخبرهما؛ فأن يجب بعلمه أولى وأحرى, ولأن العبد إنما يعامل الله بعلمه؛ فإذا لم يكن له علم قبل قول غيره, وهو يعلم أن هذا اليوم من رمضان. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون»؛ فهو في حق العامة. وتلزم الحقوق المتعلقة به من وقوع الطلاق المعلق برمضان, وحلول الدين المؤجل عليه, وانقضاء مدة الإِجازة إلى رمضان, فيما بينه وبين الله تعالى, ذكره القاضي وابن عقيل؛ كمن علم أن عليه حقّاً لا يعلمه صاحبه ويتوجه. . . . ولو وطئ في هذا اليوم؛ لزمته الكفارة عند أصحابنا؛ لأنا لا نعتبر في وجوبها أن يعلم الشهر بطريق مقطوع به, ولا أن نجمع على وجوبه. مسألة: فإن كان عدلاً صام الناس بقوله:

هذا هو المشهور عن أبي عبد الله, وعليه أكثر أصحابه, وسواء كانت السماء مصحية أو متغيمة, وسواء رآه بين الناس أو قدم عليهم من خارج. وعنه: لا يقبل إلا عدلان كسائر الشهور. رواها الميموني. 129 - لما روى حجاج بن أرطاه عن حسين بن الحارث الجدلي؛ قال: خطب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في اليوم الذي يشك فيه, فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم, وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته, وانسكوا لها, فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين, فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا». رواه أحمد والنسائي.

فعلق الصوم على شهادة عدلين. 130 - ولأن عثمان كان لا يجيز شهادة الواحد في الهلال. ذكره أحمد واستشهد به.

ولأنه هلال من الأهلة, فلم يثبت إلا بشاهدين كسائر الأهلة. ولأنه إيجاب حق على الناس, فلم يجب إلا بشاهدين كسائر الحقوق. ولأن رؤية الواحد معرضة للغلط, ولا سيما إنْ كان بين الناس والسماء مصحية, وربما يتهم في ذلك, فلا بُدَّ من إزالة الشبهة باثنين. وجمع أبو بكر بين الروايتين فقال: إذا قدم الواحد من سفر على مصر, فخبرهم بالصيام؛ قبلوا وصاموا, وإذا كان شاهداً لهم, وحَوَاس الجميع سالمة؛ لم يقبل منه؛ إلا أن يكون شيئاً مثله يمكن أن ينفرد به الواحد, فيقبل. ولم يختلف القول في. . . لا يقبل فيه إلا اثنين؛ فعلى هذا اعتمده؛ لأن في هذا جمعاً بين الآثار, ولأن انفراد الواحد في الصحو بين الجم الغفير بعيد جدّاً. ووجه الأول: قوله تعالى: {. . . إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]؛ فإنه يقتضي أن لا يُتبين عند مجيء العدل, وفي رد شهادة الواحد يبين عند مجيء العدل, وفي سائر المواضع, إنما توقف في شهادة الواحد لأجل التهمة, ولكونه قد عارضها شيء آخر, وهو منتفٍ هنا. 131 - ولما روى ابن عمر؛ قال: «تراءى الناس الهلال, فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته, فصام, وأمر الناس بصيامه». رواه أبو داوود والدارقطني,

وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب, وهو ثقة. فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه عن رؤيته؛ لأنه ذكر ذلك بحرف الفاء, ولأنه لم يذكر شيئاً غير رؤيته, والأصل عدمه, ولأنه ذكر سبباً وحكماً, فيجب تعليقه به دون غيره. 132 - وعن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني رأيت الهلال (يعني: رمضان). فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟». قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟». قال: نعم. قال: «يا بلال! أذن في الناس فليصوموا غداً». رواه الأربعة.

.........................

وعن حماد بن سلمة, عن سماك, عن عكرمة: أنهم شكُّوا في هلال رمضان مرة, فأراد أن لا يقوموا ولا يصوموا, فجاء أعرابي من الحرة, فشهد أنه رأى الهلال, فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله, وأني رسول الله؟». قال: نعم. وشهد أنه رأى الهلال, فأمر بلالاً, فنادى في الناس أن يقوموا وان يصوموا». رواه أبو داوود, وقال: رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلاً, ولم يذكر [القيام] أحد إلا حماد بن سلمة. وهذا نص مبين أنهم إنما صاموا بمجرد شهادة مسلم واحد. 133 - وأيضاً ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: «كنت مع البراء ابن عازب وعمر بن الخطاب في البقيع ننظر إلى الهلال, فأقبل راكب, فتلقاه عمر, فقال: من أين جئت؟ أمن المغرب؟ وفي رواية: قال: من الشام. فقال: أهللت؟ قال: نعم. قال عمر: الله أكبر, إنما يكفي المسلمين رجل

واحد». رواه أحمد في «المسند» وسعيد وحرب.

وعن فاطمة بنت حسين عن علي: أنه أجاز شهادة رجل على هلال رمضان وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». رواه سعيد وحرب. وذكر أحمد عن ابن عمر ونحوه. ومثل هذا يشتهر ولم ينكر, فصار إجماعاً. وما نقل عن عثمان؛ فهو مرسل, ولعله أراد هلال الفطر. 134 - وعن عبد الملك بن ميسرة؛ قال: «شهدت المدينة في عيد, فلم يشهد على الهلال إلا رجل واحد, فأمرهم ابن عمر أن يجيزوا شهادته». رواه حرب.

وذكره أحمد, وقال: ابن عمر أجازه وحده أمره وأمر الناس بالصيام. ولأنه إخبار بعبادة لا يتعلق بها حق آدمي, فقبل فيها قول الواحد؛ كالإِخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكالإِخبار عن مواقيت الصلاة, وجهة الكعبة, وعكسه هلال الفطر والنحر؛ فإن يتعلق بها حق آدمي من إباحة الأكل والإِحلال من الإِحرام. ولأنه خبر عما يلزم به عبادة؛ يستوي فيها المخبر, فقبل فيها قول الواحد

* فصل: ويقبل فيه شهادة الواحد

كالأصل. ولأنه إنما اعتبر العدد في الشهادات خوف التهمة, وهي منتفية هنا, لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره. ولأن قبول قوله هنا فيه احتياط وتحري فيجب اتباعه. وعكسه هلال الفطر, وكذلك هلال النحر؛ فإنما يخاف مِنْ رد خبره ما يخاف في قبوله؛ لأن الوقوف له وقت واحد, ولأن المرئي بعيد لطيف, ونفس مطلعه غير معلوم لأكثر الناس, والأبصار مختلفة بين حديد وكليل. وكل هذه الأسباب توجب جواز اختصاص بعض الناس برؤيته. وحديث ابن عمر دليل على مَنْ رآه بين الناس, وهو وحديث ابن عباس دليل على حال الصحو؛ لأن عامة الرمضانات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الصيف, وقول عمر وعلي نص في قبول قول الواحد مطلقاً. وتصلى التراويح ليلتئذٍ إذا صمنا, وإذا ثبت ذلك عند الإِمام؛ فقال القاضي: يلزم الصوم لكل أحد, سواء قلنا: يقبل فيه قول الواحد أو لا. فأما سائر حقوق الآدميين من الآجال والإِجارات والطلاق والعتق المعلق ونحو ذلك؛ فإنه يثبت تبعاً على ما ذكره القاضي. * فصل: ويقبل فيه شهادة الواحد سواء كان حرّاً أو عبداً, أو سواء كان رجلاً أو امرأة, في المشهور عند أصحابنا, ذكره أبو بكر وغيره من أصحابنا, كما يقبل أخبارهم, ولا تقبل شهادة الفاسق ولا الكافر ولا الصبي. قال القاضي: وهذا يدل على أنه خبر؛ لأن ما يطلع عليه الرجال لا تقبل فيه شهادة النساء.

مسألة: ولا يفطر إلا بشهادة عدلين

فعلى هذا لا يعتبر لفظ الشهادة؛ لأنه خبر عن عبادة لا يتعلق بها حق آدمي, فكانت خبراً كالإخبار بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي موسى: يجب الصوم على من رأى الهلال وعلى مَنْ لم يره بشهادة رجل عدل في إحدى الروايتين, والأخرى: لا يلزمه الصوم إلا أن يراه أو يشهد على رؤيته رجلان فصاعداً. وفيه وجه آخر: أنه لا تقبل شهادة المرأة كالشهادة على هلال شوال, فعلى هذا يُعتبر لفظ الشهادة. مسألة: ولا يفطر إلا بشهادة عدلين: قال الترمذي: «ولم يختلف أهل العم في الإِفطار أنه لا يُقبل فيه إلا شهادة رجلين». وكذلك هلال ذي الحجة. 135 - لما روى حسين بن الحارث الجدلي - جديلة قيس -: أن أمير مكة خطب ثم قال: «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية, فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما». فقيل للحسين بن الحارث: مَنْ أميرُ

مكة؟ فقال: الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب. ثم قال الأمير: إن بكم من هو أعلم بالله ورسوله منِّي, وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأومأ بيده إلى رجل. قال الحسين لشيخ إلى جنبي: مَنْ هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر, وصدق, كان أعلم بالله منه. فقال: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه أبو داوود والدارقطني, وقال: هذا إسناد متصل صحيح. فهذا الحديث يدل بمنطوقه على قبول شهادة الاثنين بكل حال, سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة, ومفهومه مفهوم الشرط الذي هو أقوى المفاهيم, على أنه لا ينسك إلا شهادة شاهِدَيْ عدلٍ؛ لأن الحكم المعلق بشرط؛ معدوم عند عدمه, ولو كان الحكم يثبت بشاهد واحدٍ؛ لما احتاج إلى ذكر الاثنين, وإذا ثبت هذا في هلال النحر؛ فهلال الفطر أولى وأحرى, وقد تقدم قوله: «فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا»؛ فإن مفهومه أن الصوم والفطر لا يجتمعان إلا بشهادة اثنين, وهو كذلك. ولا ينتقض هذا بقبول الواحد في الصوم لوجهين: أحدهما: أن المفهوم عارضه نص, والمنطوق مقدم على المفهوم, فإن المفهوم أحسن أحواله أن يكون كالعام والخاص, وكالقياس مع النص, وهذا

يترك من غير نسخ, والنص يترك بناسخ. الثاني: أن منطوقه ثبوت الصوم والفطر معاً بشهادة الاثنين, وتخصيص المنطوق بالذكر يقتضي أن المسكوت عنه يخالفه ولو من وجه. فاقتضى ذلك أن الصوم والفطر لا يثبت إلا باثنين, وهذا صحيح, فإن الواحد لا يثبت به الفطر لا ضمناً ولا أصلاً كما سنذكره إن شاء الله. ولم يتعرض الحديث للصوم بدون الفطر بأي شيء يثبت لا بمنطوق ولا بمفهوم. وأيضاً؛ فإن الأهلة غير رمضان تتضمن حقوقاً للناس من إباحة الأكل والإِحلال, وربما يخاف من دخول التهمة, وليس في التقدم بها احتياط, فلا يقبل فيها قول الواحد. ويثبت بشاهدين مع الصحو والغيم؛ لما تقدم من قوله: «فإن لم يره وشهد شاهدا عدل؛ نسكنا بشهادتهما» , وقوله: «فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا». 136 - وعن ربعي بن حراش, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «اختلف الناس في آخر يوم من رمضان, فقدم أعرابيان, فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلاَّ الهلال أمس عشية, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم». رواه أحمد وأبو داوود والدارقطني, وقال: هذا صحيح.

........................

مسألة: (وإذا صاموا بشهادة اثنين وثلاثين يوما؛ أفطروا, وإن كان بغيم أو قول واحد؛ لم يفطروا؛ إلا أن يروه أو يكملوا العدة)

وقال أبو بكر: ولا تقبل شهادة رجل وامرأتين, ولا شهادة النساء المنفردات؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال, وليس بمال, ولا يقصد به المال, وتقبل شهادة العبيد. مسألة: (وإذا صاموا بشهادة اثنين وثلاثين يوماً؛ أفطروا, وإن كان بغيم أو قول واحد؛ لم يفطروا؛ إلا أن يروه أو يكملوا العدة). أما إذا صاموا بشهادة اثنين ثم أكملوا العدة ولم يروا الهلال؛ أفطروا؛ لأن أكثر ما فيه الفطر بمضمون شهادة اثنين, وذلك جائز. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن شهد شاهدان مسلمان؛ فصوموا وأفطروا» يقتضي ذلك, ولا يقال قد تبين غلطهما؛ لأن هلال التمام لا يخفى على الجميع؛ لأنه لو شهد اثنان أنهما رأياه وهو هلال تمام؛ قُبِل؛ فكذلك إذا تضمنت شهادتهما طلوعه. وأما إذا صاموا لإِغمام الهلال لم يفطروا إذا صاموا ثلاثين يوماً حتى يروا الهلال؛ بأن يشهد به شاهدان أو يكملوا عدة شعبان ورمضان ثلاثين ثلاثين قولاً واحداً؛ لما تقدم من الحديث والأثر, ولأنه لم يثبت بذلك شهر, إنما صيم احتياطاً.

وأما إذا صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يوماً؛ لم يفطروا حتى يروا الهلال؛ بأن يشهد به شاهدان أو يكملوا العدة عدة شعبان ورمضان سواءً أصحت السماء في أجزاء الشهر أو [أغامت] في أصح الوجهين كما ذكره الشيخ, وهو أشبه بكلامه. وفي الآخر: يفطرون, وهو قول أبي بكر. ولم يفرق بين أن تكون مصحية أو مغيمة؛ لأن الصوم إذا وجب؛ وجب الفطر لاستكمال العدة, وقد [ثبت] تبعاً ما لا يثبت أصلاً؛ كما يثبت النسب بشهادة النساء على الولادة الموجبة للنسب بشهادة النساء, وإن لم يثبت بها نفس النسب. قال أبو بكر: لا يجب الإِفطار؛ إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما برؤية, أو بشهادة شاهدين, أو بعدل على شهادة الواحد. والأول أصح؛ لأن الصوم إنما يثبت بقول الواحد احتياطاً للصوم: كما علل به علي رضي الله عنه لما قبل شهادة الواحد في الهلال وقال: «لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان». فمن الاحتياط: أن لا نفطر بناءً على شهادته, ولأنه إن صحت السماء

لتمام الثلاثين, ولم يُر الهلال؛ كان ذلك أمارة على خطئه أو كذبه. وإن غامت السماء, فكأنه قد أخبر أن تحت الغيم هلال, وهو لو أخبر بذلك صريحاً لم يقبل منه فلا يقبل منه تضمناً, وإنما يثبت الشيء تبعاً إذا كان. . . . فإن أخبرهم عدل بالهلال بعد أن أصبحوا مفطرين لزمهم القضاء بقوله, لم يجز لهم الفطر بناء على شهادته وجهاً واحداً, لأنهم لم يصوموا بقوله, فلم يثبت الفطر أصلاً ولا ضمناً. وإن صاموا ثمانية وعشرين يوماً, وكانوا قد أكملوا عدة شعبان لإِصحاء السماء وكونهم لم يروه؛ فإنهم يقضون يوماً. 137 - قال أحمد عن الوليد بن عتبة: «صمنا على عهد علي ثمانية وعشرين يوماً, فأمرنا علي أن نقضي يوماً». قال أبو عبد الله: العمل على هذا؛ لأن الشهر لا يكون ثمانية وعشرين؛ فمن صام هذا الصوم؛ قضى ولا كفارة عليه؛ لما روى الوليد بن عتبة الثقفي قال: «صمنا على عهد علي ثمانية وعشرين يوماً, فأمرنا فقضينا يوماً».

138 - وعن أبي إدريس الأزدي: أنهم صاموا على عهد علي بن أبي طالب, على رؤية الهلال, وأفطروا على رؤيته, فكان صومهم ثماني وعشرين, فقال علي عليه السلام: «إن هذين الشهرين تتابعا تسع وعشرين تسع وعشرين, وإن الشهر لا يكون أقل من تسع وعشرين, فأصبحوا بعد الفطر صياماً تقضون يوماً». رواهما سعيد. قال أبو بكر عبد العزيز في حديث علي: إنهم صاموا في عهده ثمانية وعشرين يوماً, فأمرهم بقضاء يوم, قال: يكون شعبان تسعةً وعشرين يوماً, ويكون صحواً, ولا يُرى الهلال, يصبحون مفطرين؛ لأن هكذا عليهم مع الصحو, ثم يتبين يوم الثلاثين من شعبان الذي أفطروه كان أول رمضان, ويكون أيضاً رمضان تسعة وعشرين يوماً, فيحصل صومهم ثمان وعشرين يوماً, فيؤمرون حينئذ بقضاء يوم. فأما إن أكملوا العدة مع تغيم هلال رمضان وحده, وصاموا ثمانية وعشرين؛ فعليهم قضاء يوم أيضاً. وإن صاموا تسعة وعشرين؛ فعليهم قضاء يوم الغيم, إذا قلنا بوجوب صومه أو يستحب. وإن صاموا ثلاثين, ثم رأوا الهلال؛ لم يكن عليهم قضاء؛ لأنا تبينَّا أنه لم يكن تحت الغمام هلال؛ فإن الشهر لا يزيد على ثلاثين يوماً.

وإن تغيم هلال شعبان ورمضان, فأكملوها, وصاموا ثمانية وعشرين؛ فقال القاضي: يقضون هنا يومين. وإذا رأى هلال الفطر وحده؛ لم يجز له أن يفطر. نص عليه: فقال في رواية صالح وابن منصور والأثرم: «من رأى هلال الفطر وحده يصوم ولا يفطر». وقال في رواية صالح: «من رأى هلال رمضان وحده يصوم ولا يفطر, وأما شوال فلا, وأما رمضان؛ فيجوز شهادة رجل واحد». وقال في روايته فيمن رأى هلال الصوم أو الفطر وحده: «أما الصوم؛ فأعجب إليَّ أن يصوم, وأما الفطر؛ فيتهم نفسه». فقد نص على الفرق, وهذا قول أكثر أصحابه مثل الخرقي وابن حامد وأبي حفص والقاضي وأكثر أصحابه. قال ابن أبي موسى: ولا يجوز الفطر لمن رآه وحده ولا لمن لم يره إلا بشهادة عدلين قولاً واحداً. وقال أبو بكر ... وكذلك ابن عقيل: إنه يفطر سرّاً. وحمل كلام أحمد على أنه قصد النهي عن المظاهرة بالإِفطار لأجل التهمة والفتنة ومخالفة الإِمام والسواد الأعظم, وليس بجيد؛ لأن أحمد قال: يصوم ولا يفطر؛ فقد أمره بالصوم ونهاه عن الفطر؛ فكيف يقال: أراد أنه يفطر

سرّاً ولا يتظاهر بالفطر؛ لأنه يوم من شوال, فلم يجب صومه كسائر الأيام, [لأنه يوم] من شوال, فلم يجز صومه كسائر الأيام. وهذا لأنه يتيقن أنه أول يوم من شوال أعظم مما يتيقنه لو شهد به شاهدان, وهو فيما بينه وبين الله مأمور بما يعمله, لكن لما كان إظهار الفطر فيه تعريض نفسه لسوء الظن وإثارة الفتنة؛ لأن الناس إنما يحكمون بما ظهر, ولأنه لا يجوز أن يمكن أحد من الفطر بما يدعيه من الرؤية؛ وجب عليه إخفاؤه, ولأنه ليس الاحتياط بالصوم في الوقت الواجب بأكثر من الاحتياط بالفطر في الوقت الواجب؛ فإن الفطر في رمضان كالصوم في العيد. فعلى هذا يكفيه أن لا ينوي الصوم سواء أكل أو لم يأكل. ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون». رواه الترمذي. 139 - وعن أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ قال: «وفطركم يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون, وكل عرفة موقف, وكل منى منحر, وكل فجاج مكة منحر, وكل مزدلفة موقف». رواه أبو داوود.

140 - وعن أبي قلابة: «أن رجلين قدما المدينة, وقد رأيا الهلال, وقد أصبح الناس صياماً, فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فذكرا ذلك له, فقال لأحدهما: أصائم أنت أم مفطر؟ قال: مفطر. قال: ما حملك على ذلك؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر: فأنت؟ قال: إني صائم. قال: ما حملك على أن تصوم وقد رأيت الهلال؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا (يعني: الذي صام) لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس أن اخرجوا». رواه سعيد. فبين عمر رضي الله عنه إنما دفع العقوبة عن الذي أفطر لأجل شهادة الآخر معه, وأنه لو أفطر برؤية نفسه فقط لضربه.

وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «إنما الفطر يوم يفطر الإِمام وجماعة المسلمين». رواه أبو حفص. وعن مسروق ومالك: «أنهما دخلا على عائشة في اليوم الذي يُشك فيه, فقالت للجارية: خوضي لهما سويقاً فإني صائمة. فقالا: إن الناس يرون أنه الأضحى. فقالت: إنما الأضحى إذا أضحى الإِمام هو وعلم الناس». رواه الفريابي. وهذا يقتضي أن من رأى هلال النحر فإن له أن يصوم اليوم العاشر في رؤيته, ولأنه يجوز أن يكون غالطاً في الرؤية, ومخالفة عامة الناس له يقوي هذا الغلط, والفطر ليس مما يحتاط له, ولهذا لا تقبل إلا بشهادة اثنين؛ بخلاف الصوم؛ فلا ينبغي له أن يقدم على ذلك بمجرد رؤيته, ولأن يوم الفطر هو اليوم الذي يفطر فيه الناس, وإن كان الهلال قد رئي في غيره, فلو كان الهلال طالعاً, ولم يره من تقبل شهادته وحده؛ لم يكن في هذا الحكم يوم عيدٍ, فيجب صومه ولا يجب فطره. وإذا رأى هلال شوال وحده في موضع لا يمكن أن يخبر به غيره, فقال القاضي وابن عقيل: يلزمه صيامه, ولا يجوز له الفطر برؤيته وحده؛ كما لو أخبر به فلم يحكم بقوله, والأشبه هنا. . . . ولو صام برؤية نفسه ثلاثين يوماً؛ لم يفطر إلا مع الإِمام والناس, فيصوم واحد وثلاثين؛ كما لو رأى شوال وحده على المشهور, وهو ظاهرها. وقال أبو الخطاب: يحتمل أن يفطر هنا.

* فصل: وإذا شهد بالرؤية واحد أو اثنان أو أكثر من ذلك عند بعض الناس ولم يثبت عند الإمام

ولو كان عليه دين مؤجل أو علق عتق عبده أو طلاق امرأته بهلال شوال؛ فقال القاضي: لا يُعرف الرواية فيه. * فصل: وإذا شهد بالرؤية واحد أو اثنان أو أكثر من ذلك عند بعض الناس ولم يثبت عند الإِمام: إمَّا لكونهم لم يشهدوا عنده, أو لكونه لم يعرف عدالتهم, ونحو ذلك؛ فإنه يجب على مَنْ سمع خبرهم وعرف عدالتهم أن يصوم بخبرهم. ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا, حتى لو كان المخبر [امرأةً أو عبداً]؛ كما تقدم. وقال في رواية حنبل فيمن رأى هلال رمضان وحده: لا يصوم إلا في جماعة الناس, وكذلك لا يفطر حتى يفطر الإِمام. فعلى هذا لا يصوم ولا يفطر إلا مع الإِمام. وعلى الأول: إذا شهد بهلال الفطر اثنان, ولم يثبت عند الحاكم: إمَّا لعدم شهادتهما عنده, أو لردها لعدم معرفته بعدالتهما| جاز لمن سمع شهادتهما الفطر بقولهما, ولكل منهما الفطر بقولهما؛ بخلاف ما إذا لم يعرف أحدهما عدل صاحبه؛ لأن هذا إخبار ديني, فلا يعتبر الثبوت عند الحاكم, ورده للشهادة ليس بحكم, وإنما هو توقف عن ذلك لعدم علمه هذا قول. . . . لكن ينبغي أن يستسرَّ بالفطر إذا لم يثبت عند الإِمام. والأشبه بنصه. . . , والإِمام الذي يصام بقوله. . . .

مسألة: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير؛ تحرى وصام؛ فإن وافق الشهر أو بعده أجزأه, وإن وافق قبله لم يجزئه

مسألة: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير؛ تحرى وصام؛ فإن وافق الشهر أو بعده أجزأه, وإن وافق قبله لم يجزئه. وجملة ذلك أن من عمي عليه الشهر مثل الأسير الذي في بلاد ليس يعلم من جهته؛ أن الهلال لأي شهر هو, ربما كان هذا لا يرى الأهلة ونحوه, ومن هو في بادية وطرف الإِسلام, والنائي عن الأمصار؛ فإنه يجتهد ويتحرى في معرفة عين الشهر ودخوله, كما يتحرى في معرفة وقت الصلاة, وجهة القبلة, وغير ذلك عند الاشتباه؛ لأنه لا يمكنه أداء العبادة إلا بالتحري والاجتهاد, فجاز له ذلك كما يجوز في الصلاة, فإن لم يغلب على ظنه شيء؛ فإنه يؤخر الصوم حتى يتيقن أن الشهر قد دخل؛ فإن صام مع الشك؛ لم يجزه, وإن تبين أنه أصاب, قاله بعض أصحابنا, وقد تقدم فيما إذا صام ليلة الشك بنية رمضان هل يجزيه على وجهين وإن غلب على ظنه بغير دلالة؛ فإنه يصوم. وفي وجوب الإِعادة مع الإِصابة أو بقاء الجهل وجهان: أشبههما بكلام أحمد أنه لا قضاء عليه. وإن غلب على ظنه بدلالة صام, ثم إن [لم يتبين] له شيء, فصومه صحيح؛ لأنه صام باجتهاد لم يتبين له خطؤه, فأجزأه كما يجزئ من اجتهد في الوقت والقبلة. وإن تبين له أن صومه صادف الشهر أو صادف ما بعد الشهر؛ أجزأه. نص عليه؛ لأن أكثر ما فيه أنه قضاء, وقد نواه أداء, وهذا يجوز في حال الاشتباه

كالصلاة, وإن تبين له أن القضاء كان في الرمضان الثاني أو بعده. . . . وإن تبين له أنه صام قبل الوقت؛ لم يجزه. نص عليه؛ لأنها عبادة يصح قضاؤها في غير وقتها, فلم يجز فعلها قبل وقتها كالصلاة. وعكسه الحج إذا وقف الناس يوم الثامن؛ فإنه يجزيهم؛ لأنه يخاف مع التأخير من التفويت ما يخاف مع التقديم, ولأن تفويت الحج فيه ضرر عام على الناس, ولهذا لو أخطأه نفر منهم لم يجزهم. وإن تبين أنه صام بعضه في الشهر وبعضه قبله؛ أجزأ ما صام فيه دون ما صام قبله, ولا فرق بين أن يخطئ في رمضان واحدٍ أو في رمضانات, إذا تبين له الخطأ؛ فإنه يعيد ولا يحسب الرمضان الثاني عن قضاء الأول, لأنه إنما نوى به الرمضان الثاني, وإنما لامرئ ما نوى. وقال أحمد في رواية مهنا في أسير في بلاد الروم مكث ثلاث سنين يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان, ثم علم: يعيد شهراً على إثر شهر كما يعيد الصلاة إذا فاتته. فإن صام شوال وهو يرى أنه رمضان؛ يجزيه. . . . وعلى هذا؛ فعليه أن يبدأ بقضاء الأول. . . . فإن أطلق النية, ولم ينوه عن رمضان سنته. . . .

* فصل: وإذا رأى الهلال بعد زوال الشمس فهو لليلة المقبلة

فإن صام ثلاثين يوماً, وكان شهره تامّاً أو ناقصاً, أو صام تسعة وعشرين, وكان شهره ناقصاً؛ أجزأه. وإن صام تسعة وعشرين من شهرين, وكان شهره تامّاً؛ فعليه صيام واحد. فإن صام شهراً هلاليّاً ناقصاً؛ أجزأه عن الكامل في أحد الوجهين. قاله القاضي. وفي الآخر: لا يجزيه. قاله أبو محمد؛ لأنه قد وجب في ذمته ثلاثون يوماَ, فوجب أن يقضيها بعدتها كالمريض والمسافر إذا أفطرا. ولو عين اليوم الذي يصومه أو الشهر أو العام, وغلط في وقته, مثل أن يكون عليه رمضان سنة ست, فينويه يقصد به سنة خمس, أو يكون عليه يوم الاثنين, فيقصد ما عليه يعتقده يوم الأحد ونحو ذلك؛ أجزأه؛ لأنه قصد الواجب, وإنما أخطأ في وقته. * فصل: وإذا رأى الهلال بعد زوال الشمس فهو لِلَّيلة المقبلة. وعنه إن رئي قبل الزوال فكذلك في إحدى الروايات. اختارها الخرقي, وفي الأخرى هو لليلة ماضية, فإن كانت الرؤية أول الشهر

أمسكوا وقضوا, وإن كانت آخر الشهر أفطروا وعيَّدوا, لأن وقت العيد باق, نقلها هارون بن عبد الله, وهذا اختيار أبي بكر وابن عقيل, وذكره أبو بكر عن ابن مسعود. 141 - وقد روي عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عتبة بن فرقد: «إذا رأيتم الهلال في آخر النهار؛ فأتموا صومكم؛ فإنه لليلة المقبلة, وإذا رأيتموه في أول النهار؛ فأفطروا؛ فإنه لليلة الماضية». رواه

142 - وعن. . .؛ قال: «كتب عمر إلى سعد وإلى أهل جلولاء: أن إذا رأيتم الهلال في الصوم من آخر النهار؛ فلا تفطروا, وإذا رأيتموه في أول النهار؛ فأفطروا؛ فإنه كان بالأمس». ذكره سيف في الفتوح. ولأنه. . . . وفي الثالثة: إن رئي قبل الزوال في أول الشهر؛ فهو لليلة الماضية فيمسك ويقضي, وإن رئي كذلك في آخر الشهر؛ فهو للمقبلة, فيتم صومه احتياطاً للصوم في الطرفين. نقلها الأثرم والميموني. ولفظ الأثرم: «رؤية الهلال قبل أو بعد في الصوم يصومون هو أحوط, وأما في الفطر؛ فلا يفطرون». وهذا يقتضي أنه إذا رئي بعد الزوال في أول الشهر يكون للماضية. ونقل عنه حرب أيضاً أنه إذا رئي قبل الزوال في آخر الشهر لا يفطرون. 143 - لما روى أبو وائل؛ قال: «كنا مع عتبة بن فرقد في أناس بالجبل, فرأينا هلال شوال نهاراً فأفطرنا, فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب, فكتب عمر: الأهلة بعضها أعظم من بعض, فإذا أصبحتم صياماً؛ فلا تفطروا حتى تمسوا؛ إلا أن يشهد رجلان مسلمان؛ يشهد [أن] أن لا إله إلا الله وحده لا

شريك له أن محمداً عبده ورسوله: أنهما أهلاه بالأمس عشيّاً». رواه إسحاق

................

ابن راهويه وسعيد وغير [هما] بإسناد صحيح. وقال أحمد في رواية عبد الله عن أبي وائل: «أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أعظم من بعض؛ فإذا رأيتم الهلال من أول النهار؛ فلا تفطروا, حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس». 144 - وعن القاسم بن عبد الرحمن: قال عبد الله: «إذا رأيتم الهلال

نهارا؛ فلا تفطروا؛ فإنما مجراه في السماء, ولعله أن يكون قد أهلّ ساعتئذٍ, وإنما الفطر الغد من يوم يرى الهلال». 145 - وعن ابن عمر؛ قال: «لا تفطروا حتى تروه من حيث يُرى». وقد تقدم عن أنس: أنهم رأوا الهلال عند صلاة الظهر أو قريبا منها, فقال: «أنا متم صومي إلى الليل». رواهن سعيد.

وعن ابن عباس. . . . قال إسحاق: «قد صح عن عمر أن الأهلة بعضها أعظم من بعض ظهوراً, فإذا أصبحتم صياماً؛ فما لم يشهد مسلمان أنهما أهلاَّه بالأمس عشياً فلا تفطروا». فهذا الحق إن شاء الله, وهو الذي نعتمد عليه, وهو أكثر في الروايات. فهذه الآثار في آخر الشهر, ولأن صوم يوم الثلاثين قد دخلوا فيه, والهلال يجوز أن يكون هلال الليلة التي قبله وهلال الليلة التي بعده؛ فلا يجوز الفطر مع الشك؛ بخلاف ما إذا رئي في أول الشهر؛ فإنه يصام احتياطاً؛ كما يصام بقول واحد, ويصام مع الغيم, ولأن الهلال المرئي قبل الزوال يجوز أن يكون للماضية, ويجوز أن يكون للمستقبلة؛ كما يجوز أن يكون. . . . ووجه الأول: ما علل به عمر رضي الله عنه من قوله: «إن الأهلة بعضها أعظم من بعض» , وما علل به ابن مسعود من قوله: «لعله أن يكون قد أهل ساعتئذٍ». فإن هذا يعم أول الشهر وآخره, ولأن ما لا يكون هلالاً في آخر الشهر لا يكون هلالاً في [أوله]؛ كما لو رئي بعد الزوال, ولأن التفريق بين رؤيته قبل الزوال وبعده لا يستند إلى كتاب ولا سنة ولا عادة مطردة, ولأن رؤيته نهاراً بمنزلة رؤيته في الليل [كثيراً]؛ فإن ما يُرى نهاراً كبيراً, وما يرى كبيراً هو الذي يرى نهاراً, ولا يجوز الاستدلال بكبره على أنه ابن ليلتين؛ فلا يجوز الاستدلال

بظهوره نهارا على انه ابن الليلة الماضية. 146 - لما روى طلحة بن أبي حدرد؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أشراط الساعة أن يروا الهلال يقولون: ابن ليلتين». رواه البخاري في «تاريخه». 147 - وعن أبي هريرة؛ قال: «من أشراط الساعة أن يُرى الهلال الليلة, فيقول القائل: إنه لابن ليلتين». رواه سعيد الأشج.

* فصل: وإذا رأى الهلال أهل بلد؛ لزم سائر البلدان الصوم, وإن لم يروه

ولأن هلاله. . . . فعلى هذا إذا رئي قبل الزوال يكون يوم شك فيكره صومه. وإذا رأى الهلال ودام إلى مغيب الشفق؛ فهل يستبين بذلك أنه ابن ليلتين فيقضي اليوم الذي قبله؟. . . . وإذا رأى آخر الليل, ثم أخبر مخبر في المستقبلة أنه رآه؛ علم كذبه. * فصل: وإذا رأى الهلال أهل بلد؛ لزم سائر البلدان الصوم, وإن لم يروه. قال أصحابنا: سواء كان البلدين متقاربين لا يختلف مطالع الهلال فيهما أو متباعدين يختلف. قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا رأى أهل المصر الهلال, ولم نره نحن, ولم يكن سحابة في السماء, فصاموا أولئك وأفطرنا؛ نقضي يوماً, والنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل أولئك الذين جاؤوه وقالوا رأيناه, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رآه. 148 - وذلك لما احتج به أحمد, وهو ما روى أبو عمير بن أنس؛ قال:

أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: «غُمِّ علينا هلال شوال, فأصبحنا صياماً, فجاء ركب من آخر النهار, فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم رأوا الهلال بالأمس, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا ثم يخرجوا لِعيدهم من الغد». رواه الخمسة إلا الترمذي, وقد تقدم عن ربعي بن حراش

عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قوم قد رأوا الهلال في غير المدينة, وبينهم وبينها نحو من يومين؛ لأن شهادتهم كانت آخر النهار, والمطالع قد تختلف في الأمكنة المتقاربة, ولأن حكم البلدين في هذه الرؤية حكم البلد الواحد؛ بدليل انقضاء الأجل وحلول الدين وغير ذلك؛ فلذلك يجب أن يكون في باب الصوم, ولأنه لو لم يكن حكم البلاد في ذلك واحداً؛ لكان يجب أن يجد ما تختلف به المطالع بحدٍّ مضبوط, وليس في ذلك حد مضبوط؛ لأن رؤية الهلال قد تكون تارة لارتفاع المكان, وتارة لصفاء الهواء, وتارة لزوال المانع, وتارة لِحدَّةِ البصر, ثم ذلك أمر يحتاج

إلى حساب, ونحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب, فوجب أن نجعل الرؤية واحدة. فإن قيل: طلوع الهلال يختلف باختلاف الأمكنة, فوجب أن يكون لكل قوم حكم أنفسهم؛ كطلوع الشمس وغروبها. قيل: طلوع الشمس وغروبها يتكرر في كل يوم, ويشق مراعاته, ويلحق المشقة في اعتبار طلوعه وغروبه؛ بخلاف الهلال, ولهذا يختلف ذلك بارتفاع المكان وانخفاضه, حتى يفطر من يكون في الوادي, وإن لم يفطر م نْ هو في أعلى الجبل, والهلال بخلافه. . . ولأنه مطالعه تختلف إما با. . . . وقد قال ابن عبد البر في البلاد المتباعدة جدّاً. . . . 149 - فإن قيل: قد روى كريب مولى ابن عباس: «أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام, فقضيت حاجتي, واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام, فرأيت الهلال يوم الجمعة, ثم قدمت بالمدينة في آخر الشهر, فسألني عبد الله بن عباس, ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم, ورآه الناس, وصاموا, وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت, فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال: لا؛ هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.

قيل: ابن عباس أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يفطروا في مثل هذه الواقعة, ولم يذكر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون ذلك لأن كريباً هو الذي أخبرهم بالرؤية المتقدمة وحده, وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا بشهادة اثنين؛ لأنهم لو علموا بخبره؛ لأفطروا وليس فيه تعرض لقضاء ذلك اليوم, وشهادة الواحد إنما تقبل في الهلال إذا اقتضت الصوم أداءً أو قضاءً, فأما إذا اقتضت الفطر؛ فلا. ويجوز أن يكون ذك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصوموا لرؤيته ويفطروا لرؤيته, ولا يفطروا حتى يروه ويكملوا العدة؛ كما قد رواه ابن عباس وغيره مفسراً, فاعتقد ابن عباس أن أهل كل بلد يصومون حتى يروه أو يكملوا العدة وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أنه قصد رؤية بعض الأمة في الجملة؛ لأن الخطاب لهم, وهذا عمل برؤية قوم في غير مصره. يوضح ذلك. . . . 150 - فإن قيل: فقد روى ابن المظفر عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفت أعيادهم, فضحى أهل كل بلد خلاف هذا البلد, وأهل هذا البلد خلاف أهل هذا البلد». قال: «يا عائشة! عيد كل قوم يوم يعيدون».

* فصل: ولا يصح الصوم إلا بنية كسائر العبادات

قيل: قوله: «عيد كل قوم يوم يعيدون»؛ كقوله: «صومكم يوم تصومون, وفطركم يوم تفطرون, وأضحاكم يوم تضحون» , وذلك لا يمنع وقوع الخطأ في الهلال؛ فإنه قد يفطر الناس بعد الرؤية بيوم أو قبلها إذا شهد به شاهد, وإنما المقصود به أن الحكم مبني على ما ظهر, وأن العيد هو الاجتماع للصلاة والنسك؛ ففي أي يوم حصل هذا؛ فهو يوم عيد, واليوم الذي يخلو عن هذا ليس يوم عيد, وإن كان عاشر الشهر. فيفيد هذا أن أهل مكة إذا اخطؤوا فوقفوا في الثامن أو العاشر؛ صح نسكهم, وأما سائر الأمصار إذا رأى الهلال أهل بلد, ولم يره الآخرون إلا بعد يوم؛ فأكثر ما فيه أنهم أخروا التضحية إلى ثاني النحر, وذلك جائز, والحديث لم يجئ إلا في عيد النحر, ثم لو عيد قوم اليوم, وآخرون غداً؛ لم يكن فيه إلا صوم يوم خطأ, وذلك لا محذور فيه؛ بخلاف الخطأ في فطر يوم؛ فإنه يوجب القضاء. * فصل: ولا يصح الصوم إلا بنية كسائر العبادات؛ لقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. 151 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات». 152 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصوم؛ فإنه لي, وأنا

أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي». فمن لم يذر طعامه وشهوته لله؛ فليس بصائم. والنية. . . . وفيها مسألتان: تبييت النية وتعيينها. أما تبيت النية: فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل, سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين, وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق. قال أحمد في رواية أبي طالب: الفرض والقضاء والنذر يجمع عليه من الليل, فإن لم يجمع عليه من الليل؛ فلا صوم. وقال في رواية الميموني: ويحتاج في رمضان أن يبيت الصيام من الليل, فلو أن رجلاً حمق, فقال: لا أصوم غداً, ثم أصبح, فقال: أصوم! لا يجزيه عندي. وسواء ترك التبييت لغير عذر كالمستحمق أو لعذر مثل أن يغمى عليه أو يجهل ن ذلك اليوم من رمضان. قال في رواية الأثرم: إذا لم يعزموا الصيام في أول الشهر, فأصبحوا على غير صوم, م تبين لهم أنه من رمضان, فصاموا بقية يومهم, فيقضون يوماً مكانه, وإن كانوا لم يأكلوا؛ لأنه لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل. وهذا إنما هو في الفرض, وابن عمر إنما أصبح صائماً حين حال دون منظره, ويعتد به ويجزيه, وإذا لم يكن علة؛ قال: يصبح عازماً على الفطر.

وقال في الأسير إذا صام في أرض الحرب وهو لا يعلم أنه شهر رمضان ينوي به التطوع: لا يجزيه من شهر رمضان إلا بعزيمة أنه من رمضان. وهؤلاء يقولون: يجزيه, وكيف يجزيه وهو لا يجزيه في يوم الشك إذا أصبح ولم يأكل, ولا يجزيه يوم الشك إلا بعزيمة من الليل؟! وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن يجمع الصيام من الليل قبل الفجر الزهري عن سالم عن ابن عمر عن حفصة. 153 - وذلك لما روى يحيى بن أيوب, وغيره عن عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه, عن حفصة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له». رواه الخمسة. وفي لفظ للنسائي: «من لم يبيت الصيام». وفي لفظ لعبد الله بن أحمد وابن ماجه والدارقطني: «لا صيام لمن لم يفرضه من الليل». وفي لفظ لهم: «لمن يورضه». قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله, وهو أصح. وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري, وهو من الرفعاء. وقال ابن عبد البر: هذا حديث مُرِّض في إسناده, ولكنه أحسن ما روي مرفوعاً في هذا الباب اهـ. وقد رواه النسائي من حديث ابن جريج عن الزهري مرفوعاً كذلك. ورواه حرب من حديث إسماعيل, عن الزهري, عن حمزة بن عبد الله ابن الزبير, عن حفصة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(لا صيام لمن لم يوجبه بالليل». ورواه أيضاً من حديث عبيد الله بن عمر, عن الزهري, عن سالم, عن أبيه, عن حفصة: أنها كانت تقول موقوفاً. ورواه أيضاً من حديث معمر بن [راشد و] يونس وابن عيينة, عن الزهري, عن حمزة بن عبيد الله بن عمر, عن أبيه, عن حفصة موقوفاً. ورواه مالك, عن الزهري, عن عائشة وحفصة قولها.

.......................

.........................

...........................

ورواه مالك وعبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر: أنه كان يقول: «لا يصوم إلا من اجمع الصيام قبل الفجر». والذي يقوي رفعه أشياء: أحدها أن الذي رفعه عن الزهري رجل جليل القدر سمع منه قديماَ, وقد تابعه وغيره, والذين وقفوه سمعوه منه بعد ذلك, ومعلوم أن رفعه زيادة, والزيادة من الثقة مقبولة, لا سيما وسماع صاحب الزيادة متقدم, فعلم أن الزهري ترك رفعه في آخر عمره, إما نسياناَ أو شكاَ أو غير ذلك. ومنها: أن هذا الحديث كان عند الزهري عن عائشة وعن حفصة, حمزة عن ابن عمر, ولهذا ليس بغريب من الزهري؛ فإن الحديث كان يكون عنده من عدة جهات, يرويه كل وقت عن بعض شيوخه, وإذا كان كذلك؛ أمكن أن يكون عنده مرفوعاً وموقوفاَ. ومنها: أن احتجاج أحمد به يدل على صحة رفعه عنده. قال أبو بكر عبد العزيز: صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام الليل». ومنها: أنه قول عائشة وحفصة وابن عمر ولا يُعرف لهم مخالف من الصحابة.

154 - وعائشة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان ينشئ صوم التطوع نهاراً»؛ كما سيأتي. فلولا أن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لما فرقت بين الفرض والنفل. قال الميموني سألت أحمد عنه؟ فقال: أخبرك ما له عندي ذاك الإِسناد؛ إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان. 155 - وقد روى الدارقطني, عن يحيى بن أيوب, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر؛ فلا صيام له». وقال: كلهم ثقات.

156 - وروى أيضاً عن ميمونة بنت سعد؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أجمع الصيام من الليل؛ فليصم, ومن أصبح ولم يجمعه؛ فلا يصم». وفي إسناده الواقدي. وأيضاً: فإن الصوم الواجب هم الإِمساك من أول النهار إلى آخره؛ فإذا خلا أوله عن النية؛ فقد خلا بعض العبادة الواجبة عن النية؛ ذكراً واستصحاباً, وذلك لا يجوز, ولأنه إذا لم يعتقد الصوم أول النهار؛ لم يكن ممتثلاً للأمر بصومه؛ لأن امتثال الأمر بدون القصد لا يصح؛ فإذا لم يكن ممتثلاً للأمر؛ بقي في عهدة الأمر قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ. . .} [البقرة: 187] , وكونه معذوراً لا يقتضي أن يحكم له بما لم يفعله, لكن يقتضي سقوط الإِثم عنه, ويجزيه القضاء؛ كما لو لم يعلم به إلا بعد الزوال. ولأنه: صوم واجب, فلم يصح إلا بنية من الليل؛ كصوم الكفارة والقضاء والنذر المطلق, ولا يصح أن يقال: هناك لم يتعين زمانه فلا بد من النية, بخلاف صوم رمضان والنذر المعين؛ لأن التعيين لو كان كافياً؛ لكفى مجرد الإِمساك بدون النية, ولم تفترق الحال بين ما قبل الزوال وبين ما بعده. فإن قيل: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء أن يصوموا بنية من النهار, وكان صوماً واجباً, ولولا أن الواجب يصح بنية من النهار؛ لم يجزهم. قيل: لا نسلم أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً على ما يختاره كثير من أصحابنا على القول الآخر؛ فذاك إنما ابتدأ الله إيجابه من النهار, ولم يكن

واجباً عليهم بالليل؛ بخلاف صوم رمضان؛ فإنه واجب من أول النهار, وإن لم يعلم بالزمان, وليس لنا صوم يوجبه الله ابتداءً في أثناء النهار. نعم؛ أشبه شيء بهذا أن يسلم الكافر أو يفيق المجنون أو يحتلم الصبي في أثناء النهار؛ فيجب عليه الصوم من حينئذٍ؛ إذ في المشهور عنه. وأيضاً: فإن هذا لو ثبت؛ لكان في صوم عاشوراء, وذاك صوم ومنسوخ؛ فلا يلزم من ثبوت الحكم فيه ثبوته في الصوم المحكم؛ لجواز أن يكون ثبت وجوبه بصفة تخالف صوم رمضان, لا سيما وقد كانوا في أول ما فرض رمضان عليهم يُخيَّر أحدهم بين أن يصوم وبين أن يفتدي بطعام مسكين عن كل يوم؛ لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا الصوم, فخفف عنهم في أول الأمر, ثم أحكمت الفرائض. فإن كان الواجب قد يجزئ بنية من النهار؛ فلعله في ذلك الوقت. ثم إن قوله: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»: حديث متأخر عن صوم عاشوراء, فيكون ناسخاً له لو اجتمعا في صوم واحد؛ فكيف إذا كان ذلك في الصوم المنسوخ؟! لأن راويه حفصة, وإنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. . . , وحديث عاشوراء كان في السنة الثانية من الهجرة. فأما صوم التطوع؛ فيجزئ بنية من النهار. نص عليه في غير موضع. 157 - لما روي عن عائشة؛ قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هل عندكم من شيء؟». فقلنا: لا. قال: «فإني إذاً صائم». ثم أتانا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس, فقال: «أدنيه؛ فلقد أصبحت

صائماَ». رواه الجماعة إلا البخاري, وفي بعض الروايات: فقال: «فغني صائم» , ولم يقل: «إذاً». وهذا يدل على أنه أنشأ الصوم من النهار؛ لأنه قال: «فإني صائم» , وهذه الفاء تفيد السبب والعلة؛ فيصير المعنى: إني صائم؛ لأنه لا شيء عندكم. ومعلوم أنه لو كان قد أجمع الصوم من الليل؛ لم يكن صومه لهذه العلة. وأيضاً: فقوله: «فإني أذاً صائم» , وإذاً أصرح في التعليل من الفاء. وأيضاً: فإن الظاهر من حال مَنْ أجمع الصيام من الليل أن لا يجيء سائلاً عن الغداء, وإنما يسأل عن الغداء المفطر أو المتلوم. وذكر إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هذا الحديث, فقال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة, فقال: «أطعمينا شيئاً». فقالت: ما عندنا. قال: «فأشهدكم إني صائم يومي هذا». قال: فنوي الصيام بعد مضي بعض اليوم. 158 - وأيضاً: قال البخاري: وقالت أم الدرداء: [كان أبو الدرداء] قول: عندكم [طعام]؟ فإن قلنا: لا. قال: فإني صائم يومي هذا.

159 - 160 - قال: وفعله أبو طلحة وأبو هريرة. 161 - 162 - وابن عباس وحذيفة.

163 - 165 - وذكر ابن عبد البر عن علي وابن مسعود وأنس. 166 - وذكره إسحاق عن معاذ بن جبل. . . .

[و] عن سعيد بن المسيب؛ قال: «رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق, ثم يأتي أهله, فيقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا. قال: فأنا صائم. رواه

أبو عاصم. وهذا يفسر حديث حفصة. أن المراد بذلك الحديث الصوم الواجب, لا سيما وعائشة يروي هذا الحديث وهي تقول: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل». ولأن صيام عاشوراء لم يكن واجباً في المشهور لأصحابنا, وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصومه من النهار, ولأن بعض الواجبات يجوز أن يكون بتطوع به؛ كما بتطوع بالقراءة والتسبيح من أركان الصلاة والطواف من أركان الحج, ولأن النافلة

يخفف فيها ما لا يخفف في الفريضة؛ بدليل أن نفل الصلاة يصح قاعداَ أو على الراحلة توسعة للنافلة, فجاز أن يوسع التنفل بالصوم بنية من النهار. فعلى هذا يجوز التطوع بنية من النهار قبل الزوال وبعده, نص عليه في رواية الميموني, وقد سأله عن الذي ينوي الصيام بعد الفجر: أليس يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاهم فقال: «هل عندكم طعام؟» بعدما تعالى النهار؟ قال: نعم. ويتأول حديث حذيفة بعدما زالت الشمس ورأيته يذهب إلى هذا ما لم يكن فرضاَ. ولذلك أطلق الإِجزاء بنية من النهار في رواية أبي طالب وغيره, وأطلقه الخرقي وغيره, وعلى هذا أصحابنا مثل ابن أبي موسى والقاضي في آخر قوليه. وذكر ابن عقيل وغيره في هذه المسألة روايتين: إحداهما: كذلك, والثانية: لا يجزئ نية بعد الزوال. قال: وهي أصح في الروايتين. وهذا اختيار القاضي في «المجرد»؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في صدر النهار. ولا يمكن إلحاق ما بعد الزوال به؛ لأنه إذا نوى أول النهار؛ فقد حصل معظم اليوم منويّاً, فجاز أن يقوم مقام الجميع, كما لو أدرك الإِمام راكعاً؛ فإنه يحسب له جميع الركعة, بخلاف ما إذا نوي بعد الزوال, ولأن الإِمساك أول النهار أمرٌ معتادٌ؛ فإذا لم يصادفه النية؛ لم يقدح ذلك فيه؛ بخلاف الإِمساك

آخره؛ فإنه بخلاف المعتاد؛ فإذا لم ينو؛ ذهب الإِمساك المقصود في الصوم باطلاَ, لهذا يكره للصائم الاستياك بالعشي, ولم يكره له أول النهار. فعلى هذا يصح قبل الزوال قولا واحداَ على ما ذكره القاضي وعامة أصحابنا. ومنهم من قال: إنما يصح قبل انتصاف النهار الذي أوله طلوع الفجر, وذلك قريب من آخر الساعة الخامسة؛ لأن النهار الذي يجب صومه من طلوع الفجر؛ فإذا لم تقع النية قبل مضي نصفه؛ لم يكن أكثر زمان الصوم منويّاً. ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام بنيةٍ من النهار, ولا فرق بين أوله وآخره. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: الأكثرون على أنه يجوز, وإن لم ينو إلا بعد نصف النهار, منهم ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل, رأوا إن لم ينو ليلاً أن يصوم في نهاره؛ يعني: ينوي أي وقت شاء, ولو كان بعد الزوال أيضاً, وهذا أعدل الأقوال عندنا وأشبه بسنة محمد صلى الله عليه وسلم. 167 - عن المستورد بن الأحنف: أن رجلاً صلى مع عبد الله بن مسعود الظهر, فسأله, فقال: إني جئت في طلب غريم لي, فأصبحت, فلا أنا صائم ولا أنا مفطر. فقال: «أنت بالخيار, إن شئت فصم, وإن شئت فافطر». رواه حرب.

* فصل

* فصل: قال أحمد في رواية أبي طالب: من صام فرضاً أو قضاءً أو نذراً؛ أجمع عليه من الليل, ابن عمر وحفصة يقولان: من أجمع من الليل صام, ومن لم يجمع من الليل فلا صوم. وحديث طلحة بن يحيى عن مجاهد عن عائشة: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فقال: «هل عندكم من شيء؟». قلنا: لا. قال: «فإني صائم». ثم جاءنا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس, فخبأنا لك منه, فقال: «أدنيه؛ فقد أصبحت صائماً» , فأكل. فهذا في التطوع يكتب له بقية يومه. وإذا أجمع من الليل؛ كان له يومه, وسواء على هذا نوى قبل الزوال أو بعده, وهذا قول. . . . وقال القاضي وأبو الخطاب: يحكم له بالصوم الصحيح الشرعي المثاب عليه من أول النهار, لا من وقت النية, سواء نوى قبل الزوال أو بعده؛ لأن صوم

بعض النهار لا يصح, بدليل ما لو نواه بعد الأكل, أو أراد الفطر في أثناء اليوم. فإذا صح نيته من أثناء النهار؛ علم أن صومه تام, فيكتب له ثواب يوم تام. وقد تنعطف النية على ما مضى؛ كالكافر إذا أسلم؛ فإنه يثاب على ما تحمله من الحسنات حال كفره, ولأنه لو كان صومه من حين النية؛ لوجب أن يجوز الأكل قبلها؛ بدليل أن وقت الفجر لما كان أول وقت الصوم الذي يثاب عليه؛ جاز له الأكل قبل طلوعه, فلما ثبت أنه لا يجوز أن يأكل ضحوة لم ينو الصوم الآكل؛ فثبت أن ما مي من النهار قبل الصوم صوم صحيح. والمنصوص أصح, وهو اختيار أبي محمد؛ لأن الإِمساك صدر النهار كان بغير نية, وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فكيف يثاب على إمساك ما لم يقصده ولم ينوه, وكونه صام اليوم كله لا يوجب أن يثاب عليه كله, وإنما يثاب فيما ابتغي وجه الله منه, هذا إذا سلمنا انه صام أوله, وإلا؛ فالحقيقة أنه لا يوقع اسم الصوم إلا من حين النية, ونجعله قد صام بعض يوم, وما تقدم من الإِمساك يشرط بصوم بعضه, وإن سمي فيه صائماً؛ فعلى المعنى اللغوي لا على المعنى الشرعي. أما إذا أكل؛ فقال أصحابنا: لا يصح صومه بحال. وقال القاضي: قول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء: «ومن أكل فليمسك» على طريق الاستحباب, وقولهم: الإِمساك في يوم لا يجب صومه لا يكون قربة ليس بصحيح؛ لأن هذا يوم شريف فيه فضل؛ فالإِمساك فيه قربة. . . فعلى هذا من أكل معتقداً أنه ليس بيوم شريف, ثم تبين له بخلافه؛ فإنه

* فصل: وتصح النية في جميع ليلة الصوم

يمسك ويثاب. . . , فإن كان أول النهار ممن لا يصح صومه كالكافر والحائض؛ لم يصح صومه إذا أسلم أو انقطع الدم؛ كما لو كان قد أكل في أول النهار. * فصل: وتصح النية في جميع ليلة الصوم, ولا يجب استصحاب ذكرها, بل يكفي استصحاب حكمها إلى آخر النهار, ما لم يفسخها. فإن فسخها ليلاً؛ صار كأنه لم ينو, وإن أكل بعدها أو جامع؛ لم تبطل عند أكثر أصحابنا. وقال ابن حامد: تبطل؛ لأنه تخلل بين العبادة وبينها ما ينافيها, فأشبه ما لو أحدث بعد نية الصلاة وقبل فعلها. قال ابن عقيل: وكما لو نوى الإِحرام فوطئ, وكما لو نوى الزكاة بطعام بعينه ثم طحنه وخبزه. وإن فسخها نهاراً, بأن نوى الفطر؛ صار مفطراً بمنزلة مَنْ لم ينو ولم يأكل, هذا منصوص أحمد. وذكر الشريف عن ابن حامد انه لا يكون مفطراً. . . . وإن تردد في قطع الصوم, أو نوى أنه يقطعه فيما بعد؛ فهو على الخلاف في الصلاة. قال القاضي وابن عقيل: إن اعتقد الخروج منه, أو اعتقد أنه سيخرج؛ خرج. نص عليه أحمد, وكذلك الصلاة؛ بخلاف الحج.

وظاهر كلامه أنه يصير مفطراً. قال في رواية الأثرم: لا يجزيه إذا أصبح صائماً ثم عزم على أن يفطر فلم يفطر حتى بدا له, ثم قال: لا بل أتمُّ صيامي, من الواجب, فلا يجزيه حتى يكون عازماً على الصوم يومه كله, وإن كان تطوعاً كان أسهل. وإن نوى أنه إن وجد طعاماً أفطر وإلا فلا؛ فوجهان. وجميع الليل محل للنية, حتى لو نوت الحائض, وقد عرفت من حالها الطهر قبل الفجر, ولا بد أن يكون قبل الفجر, ولا يصح معه, نص عليه. . . . وإن نوى نهاراً قبل يوم الصوم بليلة؛ ففيه روايتان. أحدهما: لا يجزيه. قال في رواية حنبل: يحتاج الرجل في شهر رمضان أن يجمع على الصيام في كل يوم من الليل. وهذا اختيار أصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل». والثانية: يجزيه. قال ابن منصور: قلت لأحمد: إذا نوى الصوم بالنهار أن يصوم غداً من قضاء رمضان, ثم لم ينوه من الليل. قال: قد تقدم منه نية, لا بأس به, إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك. وقد تأولها القاضي في «المجرد» على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل. وتأولها ابن عقيل على قولنا بأنه يكفي لجميع الشهر نية واحدة.

* فصل: وهل يشترط أن ينوي نية الفريضة؟

وكلاهما ضعيف, وهو الذي يقتضيه كلام أحمد؛ فإنه قد نص على أن الصوم يصح مع الأكل إلى طلوع الفجر, وأن النية يجب أن تكون قبل الفجر؛ كما دل عليه نص الرواية, وأقرها القاضي في آخر أمره على ظاهرها, وهو الصواب؛ لأن ليلة الصوم تابعة له, فجاز تقديم النية عليها؛ كما يجوز تقديمها على النوم, ولأن النية إذا لم تفسخ؛ فإن حكمها باق؛ وإن تقدمت على العبادة بزمن طويل؛ ما لم يفصل بينهما عبادة من جنسها. ولهذا قال كثير من أصحابنا: إن نية الصلاة تصح من أول الوقت, بخلاف ما إذا نوى في ليلة صيام اليوم الذي يلي يومها؛ إنه قد تخلل بين وقت النية ووقت العبادة ووقت يصلح لأداء مثل تلك العبادة. فإن قوله: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل»: ليس بنص, فإن مَنْ نوى من النهار واستصحب النية إلى الفجر؛ فقد أجمع الصيام من الليل؛ لأن الإِجماع أعم من أن يكون مبتدأ أو مستصحباً أو ذكراً أو حكماً. ولهذا إنما ذكر ذلك لبيان. . . الذي تقدم النية عليه, لا لبيان تأخير النية عنه. * فصل: وهل يشترط أن ينوي نية الفريضة؟ على وجهين. أحدهما: لا يشترط. قاله القاضي وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد؛ لأنه اعتبر أن ينوي رمضان ولم يذكر نية الفريضة؛ لأن نية رمضان من المكلف تتضمن نية الفرض؛ فإن رمضان منه لا

يقع إلا فرضاً, وهذا أبلغ من الصلاة. والثاني: يشترط. قاله ابن حامد. وأما نية الأداء؛ فأشبه ما لو نوى صلاة في وقت التي قبلها. وتشترط النية لكل يوم على انفراده في المشهور عنه الذي عليه عامة أصحابه. قال في رواية الجماعة صالح وعبد الله وإبراهيم وابن منصور: يحتاج في شهر رمضان أن يجمع في كل يوم على الصوم. وروي عن حنبل في بعض المواضع قال: سألت أبا عبد الله: هل يحتاج في شهر رمضان إلى نية كل ليلة؟ قال: لا, إذا نوى من أول الشهر؛ يجزيه, وهذه التي نصرها ابن عقيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم [قال]: «وإنما لكل امرئ ما نوى» , وهذا قد نوى جميع الشهر. 168 - وعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهل رمضان: «قد دخل عليكم هذا الشهر المبارك فقدموا فيه النية». ولأن شهر رمضان بمنزلة العبادة الواحدة؛ لأن الفطر في لياليه عبادة أيضاً يستعان بها على صوم نهاره, ولهذا شملت البركة لياليه وأيامه, وسمي الفطر ليلة العيد فطراً من رمضان, فعُلم أن الفطر الذي يتخلل أيامه ليس فطراً من رمضان,

* فصل: ولا يجزئ الواجب من الكفارة والقضاء والنذر المطلق إلا بتعيين النية

ويزكون صومهم ويوفون أجرهم في آخره, فعلم أنه عبادة واحدة, فأجزأت فيه نية واحدة كسائر العبادات. وكون الفساد يختص ببعضه إذا صادفه؛ لا يمنع كونه عبادة واحدة؛ كالحج؛ فإنه يشتمل على إحرام ووقوف وطواف وسعي, ثم لو فسد الطواف لكونه على غير طهارة, أو قد اخترق الحجر, ونحو ذلك لم يتعد الفساد إلى غيره, ومع هذا؛ فهو عبادة واحدة, بحيث تكفيه نية واحدة؛ لأن النية وقعت لهذا الصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم, من غير أن يتخلل النية والصوم المنوي زمان يصلح جنسه لصوم سواه, فجاز ذلك, كما لو نوى لكل يوم من ليلته. فأما القضاء والنذر؛ فلا يجزيه إلا تبييت النية في كل ليلة قولاً واحداً, ولم يفرق أصحابنا بين النذر المعين والكفارة المتتابعة وغيرها. ووجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجمع الصيام من الليل قبل الفجر؛ فلا صيام له» , ولأن كل يوم عبادة مفردة, بدليل أنه لا يفسد بعضها بفساد بعض. والعبادة المفردة تفتقر إلى نية مفردة كسائر العبادات. والحج عبادة واحدة؛ بدليل أنه لو وطئ في آخره؛ فسد أوله, ومع هذا؛ فلا بد للطواف من نية تخصه, ولا تكفيه نية أصل الحج, وإنما يجزئ ذلك في الوقوف خاصة؛ لأنه من خصائص الحج, وفي ضمنه, بخلاف الطواف؛ فإنه عبادة مفردة بنفسه. * فصل: ولا يجزئ الواجب من الكفارة والقضاء والنذر المطلق إلا بتعيين النية

والنذر المعين

والنذر المعين. فأما رمضان؛ فلا يجزئ إلا بتعيين النية في إحدى الروايات. قال في رواية صالح فيمن صام شهر رمضان وهو ينوي به تطوعاً: أيجزيه؟ فقال: أو يفعل هذا مسلم؟ وكذلك الأثرم وقد تقدمت. ونقل عنه من يحج ينوي به التطوع, ويصوم ينوي به التطوع؛ فالحج والصوم سواء, لا يجزيه العمل فيه إلا بنية, نص عليه فيمن صام رمضان ينوي به تطوعاً لا يجزيه, سواء تعمد ذلك أو لم يدر؛ كيوم الشك والأسير وغيرهما. قال: لا يجزيه يعزمه أنه من رمضان. والثانية: يجزيه. قال في رواية المروذي: إذا حال دونه حائل؛ فإنه يصوم. فقيل له: يصومه على أنه من رمضان؟ فقال: نحن اجمعنا على أن نصبح صياماً, ولم نعتقد أنه من رمضان؛ فهو يجزينا من رمضان. فقيل له: أليس تريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال: لا, إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه. فقد نص بأنه لا يجب تعيين النية, حتى لو نوى الصوم مطلقاً, أو نوى نذراً أو قضاء أو تطوعاً؛ أجزأه من رمضان. قال القاضي: فظاهره أنه لو نوى صوماً مطلقاً؛ أجزأه عن فرضه. ومن أصحابنا مَنْ جعل هذا رواية بكل حال, وهذا اختيار الخرقي في «شرحه». قال: من أصلنا لو نوى أن يصوم تطوعاً, فوافق رمضان؛ أجزأه؛ لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والنفل لما يصلح لهما, وشهر رمضان لا يصلح.

والرواية الثالثة: أن تعيين النية برمضان يجب مع الغيم دون الصحو. قال في رواية صالح: إذا حال دونه شيء, فأصبح صائماَ؛ أجزأه, وإن لم يحل؛ لم يجزه, حتى ينوي أنه من رمضان. واختار جَدي رحمه الله: أنه يجزيه مع الإِطلاق على رواية المروذي, ولا يجزيه مع تعيين غير رمضان؛ كما نص عليه في رواية الجماعة. وذلك لأن التعيين إنما يفتقر إليه للتمييز بين العبادتين, لجواز أن ينوي كل واحدة منهما, والوقت هنا لا يصلح لغير رمضان, ولا يصح فيه غيره؛ فإنه لو صام في رمضان قضاءً أو نذراً أو نفلاًَ؛ لم يصح وفاقاً. وإذا كان متميزاً بنفسه؛ لم يفتقر إلى التعيين؛ كما لا يفتقر المقيم أن ينوي الظهر أربعاً, ولأنه متى قصد الصيام وأراده؛ فقد أتى بالصوم الشرعي؛ لأنه عبارة عن الإِمساك والنية, وإذا أتى بالصوم الشرعي؛ أجزأه عن صوم شهر رمضان؛ لأنه لا يصح في هذا الوقت غيره, ولأنها عبادة تعين لها هذا الوقت شرعاً, فإذا وقع غيرها من جنسها, وقع [عينها]؛ كما لو أحرم بالحج نفلاً أو نذراً؛ فإنه يقع عن حجة الإِسلام؛ لأن الشارع عَيَّن أول حجة لحجة الإِسلام بقوله: 169 - «هذه عنك, ثم حج من شبرمة».

..................

.................

بلى هذا أولى من الحج؛ لأن هذا الزمان تعين بتعيين الشارع. وقد أجمع الناس أنه لا يجوز أن يوقع فيه غيره. والحج, وإن تعين له ذلك العام؛ فقد كان يجوز أن يوقع في غيره. وقد اختلف في جواز إيقاع غيره فيه: . . والأول هو المذهب الذي عليه عامة الأصحاب؛ مثل أبي بكر

وأبي حفص والقاضي وأصحابه؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؛ فإنه أمر بصوم هذا الشهر متضمن للأمر بنيته, فإن من صام فيه تطوعاً أو قضاءً أو صوماً مطلقاً؛ لم يصمه, وإنما صام فيه, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» , وهذا لم ينو صوم رمضان أصلاً ولا ضمناً؛ فلا يجزيه, ولأنها عبادة. . . . وإن قال ليلة الشك: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي, وإن لم يكن منه فهو نفلي؛ أجزأه إن كان منه على قولنا: يصح بنية [من] الليل لا يشترط تعيين النية, وعلى قولنا: يشترط, لا يجزيه. . . فيمن أصبح متلوماً إذا كان من رمضان, وإلا؛ فهو شعبان نافلة, فإذا صام على هذا, قضى يوماً مكانه, ولا يكون صائماً حتى يجمع عليه من الليل. وإن قال: وإن لم يكن من رمضان؛ فصومي عن واجب آخر سماه لم يجزه عن ذلك الواجب بحال, وهل يجزيه عن رمضان إن بان أنه منه؟ على روايتين.

وإن قال: إن كان من رمضان؛ فأنا صائم, وإلا؛ فأنا مفطر؛ لم يجزه بحال, نص عليه في رواية الأثرم. قال: سألت أحمد: تقول: إذا كان في السماء سحابة أو علة أصبح صائماً, فإن لم يكن في السماء علة أصبح مفطراً. ثم قال: كان ابن عمر إذا رأى في السماء سحاباً؛ أصبح صائماً. قلت لأبي عبد الله: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به, فإذا أصبح عازماً على الصوم؛ اعتد به ويجزيه. قلت لأبي عبد الله: فإن أصبح متلوماً يقول: إن قالوا: هو من رمضان صمت, وإن قالوا: ليس من رمضان أفطرت. قال: هذا لا يعجبني, يتم صومه ويقضيه؛ لأنه لم يعزم. وكذلك نقل حرب في يوم الشك إن لم يجمع الصيام ولكنه أصبح يقول: أصوم إن صام الناس, وأفطر إن أفطر الناس, ولم يجمع الصيام, وصام ذلك اليوم؛ فإذا هو من رمضان, يعيد يوماً مكانه. وإن قال: أنا غداً صائم من رمضان أو من نقل؛ لم يجزه عن رمضان؛ إنْ تبين أنه منه؛ إلا على القول بإجزاء الفرض بنية النفل؛ لأنه شرَّك بين الفرض والنفل في النية. وإن قال في سائر الأيام: أنا صائم غداً قضاءً أو تطوعاً, وقع تطوعاً.

باب في أحكام المفطرين في رمضان

باب في أحكام المفطرين في رمضان مسألة: ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام: أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له الفطر؛ فالفطر لهما أفضل, وعليهما القضاء, وإن صاما أجزأهما. في هذا الكلام فصول: أحدها: أن المريض والمسافر يباح لهما الفطر: لقوله سبحانه وتعالى: {. . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} [البقرة: 183 - 185]. وقد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى اله عليه وسلم بإباحة الصوم للمسافر؛ فالمريض أولى, وهذا مما أجمع عليه المسلمون في الجملة. الفصل الثاني: أن السفر المبيح للفطر هو السفر المبيح للقصر على ما مضى؛ لأن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران في أربعة برد فما فوق ذلك. ولأن السفر المطلق هو السفر الذي يتكرر فيه الشد والحل, وذلك هو مسافة القصر, وأما المريض المبيح؛ قال ابن أبي موسى والخرقي: هو الذي يزيد في مرضه. وكذلك المريض الذي لا يطيق الصيام أو الذي يزيد الصوم في مرضه؛ له أن يفطر, وإن تحمَّل وصام وأجزأه. قال في رواية صالح: والمريض يفطر إذا لم يستطع. قيل: مثل الحُمَّى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ وقال في رواية عبد الله: إذا كان تخاف المرأة اللوزتان تفطر إذا كانت تخاف على نفسها. وقال أبو بكر: والمريض إذا خشي على نفسه أو على بعض أعضائه التلف

يفطر. وإذا احتاج إلى أن يفطر ببعض أسباب الفطر جاز له غيره مثل أن يحتاج إلى كحل عينه أو إلى الجماع لإزالة الشبق. وهل يُخرَّج على هذا فطر المسافر بالجماع ويفرق بين من جاز له الفطر وحرم عليه؟ قال فيما إذا احتاج إلى مداواة عينه: يفطر ويعالجها. وفي معنى المريض الصحيح الذي يخاف من الصوم مرضاً أو جهداً شديداً, مثل مَنْ به عطاش لا يقدر في الحر على الصوم, وهو يقدر عليه في الشتاء, أو امرأة قد حاضت والصوم يجهدها. قال في رواية ابن هانئ: الجارية تصوم إذا حاضت, فإن أجهدها فلتفطر ولتقض. قال أصحابنا: ولا كفارة في ذلك بخلاف الحامل. قال القاضي: إن كانت تخاف المرض بالصيام؛ جاز لها الفطر, وإن لم تخف من المرض, لم يبح لها الفطر؛ لأن هذا نادر ليس بمعتاد لخوف المشقة فيه, وكلام أحمد يقتضي. . . . وإن خاف من الصوم ضعفاً عن عدوه في الحضر أو لم يقدر على تحصيله. . . . الفصل الثالث: أن المريض يستحب له الفطر, ويكره له الصوم, فإن صام؛ أجزأه.

170 - عن أبي العلاء بن الشخير, عن عائشة: «أنه أجهدها العطش وهي صائمة, فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفطر وتقضي مكانه يومين». رواه حرب بإسناد جيد, وكذلك المسافر يستحب له الفطر ويجزيه. قال أبو عبد الله في رواية المروذي: قد سافروا مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا: كان منا الصائم ومنا المفطر. والذي نختار أن يفطر, وإن صام في السفر؛ أجزأه. قال أبو سعيد: «سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فمنا الصائم ومنا المفطر, ولم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». وحديث عمر ليس له إسناد. ولكن حديث ابن عباس: «لما بلغ الكديد أفطر» , وهو آخر الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا بأمره بالإِفطار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر». وقال في رواية حنبل: لا يعجبني الصيام في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

171 - 172 - «ليس من البر الصوم في السفر» , وكان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإِعادة.

ويتوجه أن لا يكره إذا لم يكن فيه مشقة, ولا فعله تعمقا, وإنما جاز له الأمران. 173 - لما روى أبو سعيد وجابر؛ قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض». رواه مسلم. 174 - وعن أبي سعيد؛ قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة

مضت من رمضان, فمنا من صام, ومنا من أفطر, فلم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». رواه أحمد ومسلم والترمذي. وفي رواية: «كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان, فمنا الصائم, ومنا المفطر, فلم يجد الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن, ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن. 175 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: «كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم». أخرجاه في «الصحيحين». 176 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال: «إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر». وفي رواية: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصوم, فقال: «إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر». رواه الجماعة.

وفي رواية؛ قال: يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم. 177 - وعن أبي الدرداء؛ قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد, حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر, وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة». رواه الجماعة إلا النسائي والترمذي. ولأنه صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح صام في رمضان حتى بلغ الكديد, ثم أفطر حتى قدم مكة, فصام في السفر وأفطر. وقد تقدم. 178 - ولهذا قال ابن عباس: «لا يعب على من صام في السفر, ولا على من أفطر؛ فقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر». وفي لفظ: «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه. وإنما اخترنا له الفطر لقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] , ولأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أفطر في أثناء غزوة الفتح, ثم لم يزل مفطراً, ثم لم يسافر بعدها في رمضان, وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا كانت الأحوال التي في آخر عمره أفضل من الأحوال التي في أول عمره.

179 - وعن معمر بن أبي حبيبة: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصيام في السفر, فحدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في شهر رمضان يوم بدر ويوم الفتح, فأفطرنا فيهما». رواه أحمد والترمذي, وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه. 180 - وعن حمزة بن عمرو الأسلمي؛ أنه قال: يا رسول الله! أجد مني قوة على الصوم في السفر, فهل عليَّ جناح؟ فقال: «هي رخصة من الله, فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه». رواه مسلم والنسائي. ورواه أبو داوود ولفظه: قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظهر

أعالجه, أسافر عليه وأكريه, وإني ربما صادفني هذا الشهر (يعني: رمضان) , وأنا أجد القوة, وأنا شاب, فأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخره فيكون ديناً, أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال «أي ذلك شئت يا حمزة». فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه به قوة على الصوم, وأنه أيسر عليه من الفطر, وخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «هي رخصة من الله, من أخذ بها فحسن» , والحسن هو المستحب, «ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه» , ورفع الجناح إنما يقتضي الإباحة فقط, وهذا بين لمن تأمله. 181 - وعن جابر بن عبد الله؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فرأى زحاماً, ورجل قد ظلل عليه, فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم. فقال: «ليس من البر الصيام في السفر». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي رواية النسائي: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها». 182 - وعن كعب بن عاصم الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس

من البر الصيام في السفر». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. قال سفيان بن عيينه: تفسيره: ليس من صام بأبر ممن فطر. 183 - وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «ليس من البر الصوم في السفر». رواه الأثرم.

والبر هو العمل الصالح, فقد بين أن الصوم في السفر ليس بعمل صالح, بل هو من المباح؛ فلا حاجة بالإنسان إلى أن يجهد نفسه به. 184 - وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر؛ يقول الله عز وجل لملائكته: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح مقيم». رواه البخاري: فإذا سافر في رمضان وأفطر؛ كتب له صوم رمضان, ثم إذا قضاه؛ كتب له صوم القضاء؛ فلا يكون في الصوم زيادة فضل. ولا يصح أن يقال: إنما هذا فيمن شق عليه الصوم في السفر, لأن الحديث خارج على هذا السبب؛ لأنه قد روي مبتدأ غير خارج على سبب. ولأن اللفظ عام, لا يجب قصره على سببه؛ بل يحمل على عمومه. ولأن التظليل ليس فيه دليل على المشقة التي تضره حتى يجب معها الفطر. ولأنه لو كان ذلك لأجل المشقة خاصة؛ لكان الصوم إثماً, ولقيل: إن من الإِثم الصوم في السفر, فإن نفي البر ليس يلزم منه وجود الإِثم, لأن بينهما مرتبة ثالثة. ولأنه قد قال في الحديث: «عليكم برخصة الله التي أرخص لكم فاقبلوها» , والرخصة عامة لجميع الناس.

ولأنه لما كان الصوم في الجملة مظنة المشقة؛ بيَّن أنْ لا برَّ في الصوم فيه لإِفضائه إلى هذا الضر, وإن تخلف عنه في بعض الصور. 185 - وأيضاً؛ تقدم ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره تؤتى معصيته». رواه أحمد وابن خزيمة في

.................

«صحيحه». 186 - وعن محمد بن المنكدر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يحب أن تؤتى فريضته». 187 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه». 188 - وعن ابن عمر وابن عباس؛ قالا: «إن الله يحب أن تؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه». رواهن ابن أبي شيبة. 189 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «ما خُيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم

بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما, ما لم يكن إثماَ؛ كان أبعد الناس منه». 190 - وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ وأبي موسى: «يسرا ولا تعسرا». 191 - وعن بشر بن حرب؛ قال: سألت عبد الله بن عمر, قلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ قال: تأخذ إن حدثتك؟ قلت: نعم. قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من هذه المدينة؛ قصر الصلاة, ولم يصم حتى يرجع إليها». رواه أحمد. 192 - وعن أبي طعمة؛ قال: كنت عند ابن عمر, إذ جاءه رجل, فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أقوى على الصيام في السفر. فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه الإِثم مثل جبال عرفة». رواه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة.

193 - وأيضاً: ما روى أنس بن مالك الكعبي؛ قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانتهيت [أو قال:] فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل, قال: «اجلس فأصب من طعامنا هذا». فقلت: إني صائم. قال: «اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام, إن الله وضع شطر الصلاة (أ: نصف الصلاة) والصوم عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى» , والله لقد قالهما جميعاً أو احدهما, فتلهفت نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه

.................

......................

الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لأحمد والنسائي: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى وعن المرضع». فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم موضوع عنه؛ استدعاء منه للفطر بعد أن أخبره أنه صائم, ودعاه بعد أن أخبره أنهه صائم. 194 - 195 - وعن أبي أمية الضمري وعبد الله بن الشخير عن النبي

................

..................

صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إن الله وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة». رواهما النسائي. 196 - وأيضاً: عن عبد الرحمن بن حرملة, عن سعيد بن المسيب؛ قال: سمعت رجلاً سأله: أتمُّ الصلاة والصوم في السفر؟ فقال: لا. قال: إني أقوى على ذلك. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى منك, قد كان يفطر ويقصر الصلاة في السفر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر». رواه سعيد والأثرم وغيرهما. وهذا مع أنه من مراسيل سعيد؛ فقد احتج به, واحتجاجه يدل على صحته عنده. 197 - ورواه النجاد عن جابر مسنداً.

198 - وعن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فنهاه, فقال: إن ذلك عليَّ يسير. فقال: «أنت أعلم باليسير أم الله؟ يقول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} , إن الله تصدق برمضان على مرضى أمتي ومسافريهم؛ فأيكم يحب أن يتصدق بصدقة ثم ترد عليه؟!». رواه أبو حفص. 199 - وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في القصر: «صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته». رواه مسلم. وأيضاً؛ فإن عامة الصحابة على ذلك: 200 - عن أبي جمرة؛ قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر؟ فقال: «عسر ويسر, خذ بيسر الله تعالى». رواه أبو سعيد الأشج.

201 - وعن أبي سلمة؛ قال: «نهتني عائشة أن أصوم في السفر». رواه سعيد.

وقد تقدم عن ابن عمر الأمر بالفطر. 202 - وعن سعيد بن جبير؛ قال: كان ابن عمر لا يستأذنه في السفر, فصحبه رجل, فدعاه إلى طعامه, قال: إني صائم. قال: «من صحبنا؛ فليقتد بنا, ومن لا؛ فليعتزلنا؛ فإن في الأرض سعة». رواه البغوي. 203 - وعن ابن عمر: «أنه كان لا يصوم في السفر رمضان ولا غيره, وإذا أقام قلما فطر».

204 - وعنه: «أنه جاء إليه رجل, فقال: أصوم في السفر؟ قال: لا. قال: إنه صوم كنت أصومه. قال: إن هذا يريد أن يتبع هواه, إني لأظنك عراقيّاً».

205 - وعن مجاهد؛ قال: قال ابن عمر: «يا مجاهد! لا تصم في السفر؛ فإنهم يقولون: كفوا صاحبكم, أعينوا صاحبكم, حتى يذهبوا بأجرك». 206 - وعن عمرو بن دينار؛ قال: «سمعت رجلاً من بني تميم يحدث عن أبيه أنه صام رمضان في السفر, فأمره عمر أن يقضيه». وعن محرر بن أبي هريرة؛ قال: «صمت رمضان في السفر, فأمرني أبو هريرة أن أعيد في أهلي». 207 - وعن عمار مولى بني هاشم, عن ابن عباس رضي الله عنهما: فيمن صام رمضان في السفر: «لا يجزيه». رواه أبو إسحاق الشالنجي.

208 - 209 - وعن عثمان بن أبي العاص وأنس: «الصوم أفضل». رواه سعيد.

ولأن الفطر جائز بغير خلاف من غير كراهة, والصوم قد كرهه جماعة من الصحابة, وأمروا بالقضاء كما تقدم, ولأن الفطر أيسر وأخف, والله يريد اليسر ولا يريد بنا العسر, ويجب أن يؤتى ما أرخصه, والمفطر يجمع له أجر الصائم وأجر القضاء كما تقدم, ولأنه رخصة من رُخَص السفر, فكان اتباعها أولى من الأخذ بالثقيل؛ كالقصر والمسح. فإن قيل: هذا يبقى الصوم في ذمته بخلاف الذي يقصر الصلاة. قلنا: إذا قام واتسع له وقت؛ قضاه, وإلا؛ فلا شيء عليه. ولأن الصوم في السفر مظنة سوء الخلق والعجز عن مصالح السفر, وأن يصير الإِنسان كَلاًّ على أصحابه, ولو لم يغيره, لكن الفطر بكل حال أعون له على السفر, وسعة الخلق, وإعانة الرفقاء, وغير ذلك من المصالح التي هي أفضل من الصوم. وبهذا يتبين أن الفطر أرفق له بكل حال, ولأن في الفطر قبولاً للرخصة, وبراءة من التعمق والغلو في الدين, وشكر الله على ما أنعم به من الرخصة. فإن من صام؛ فهل يكره له الصوم؟ على روايتين: إحداهما: يكره. كما نقله حنبل. وقال في رواية الأثرم: أنا أكره أن يصوم في السفر؛ فكيف بقضاء رمضان في السفر؟ وهو اختيار الخرقي وأبي طالب وغيرهما: لقوله: «ليس من البر الصوم في السفر» , وما ليس ببر لا يكون عبادة, فيكره أن يشغل زمانه بغير عبادة. ولما تقدم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «صام حتى بلغ كراع

الغميم, فصام الناس معه, فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت, فدعا بقدح من ماء بعد العصر, فشرب, والناس ينظرون إليه, فأفطر بعضهم, وصام بعضهم, فبلغه أن أناساَ صاموا, فقال: أولئك العصاة». رواه مسلم وغيره. ولأن من الصحابة من يأمره بالإِعادة. والثانية: لا يكره. كما نقله المروذي. وهو اختيار ابن عقيل؛ لما تقدم من أنه لم يكن يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم, والكراهة عيب, وأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر هو وابن رواحة في يوم شديد الحر, وأنه لو كره له الصوم؛ لعادت الرخصة مشقة. والصحيح: أنه إن شق عليه الصوم, بأن يكون ماشياَ أو لا يجد عشاءً يقويه أو بين يديه عدو يخاف الضعف عنه بالصوم أو يصير كَلاَّ على رفقائه أو يسوء خلقه ونحو ذلك؛ كره له الصوم, وكذلك إن صام تعمقاً وغلواً, بحيث يعتقد أن الفطر نقص في الدين ونحو ذلك, وعلى هذا يحمل على ما روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة من أمر الصائم بالإِعادة على سبيل الاستحباب

عقوبة له, وكذلك حديث ابن عمر وغيره. وأما من صام وهو مرفه من غير تغير في حاله؛ فلا بأس بصومه, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالفطر وسماهم عصاة حين شق عليهم الصوم مشقة شديدة ولم يفطروا. 210 - وعن أبي سعيد؛ قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء, والناس صيام في يوم صائف مشاة, ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له, فقال: اشربوا أيها الناس! قال: فأبوا, فقال: إني لست مثلكم, إني أيسركم, وإني راكب. فأبوا, فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه, فنزل وشرب وشرب الناس, وما كان يريد أن يشرب». رواه أحمد. فقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الراكب والماشي. 211 - وعن سلمة بن المحبق الهذلي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». رواه أحمد وأبو داوود. وفي رواية لأبي داوود: «من أدركه رمضان في السفر». فأمر بالصوم من له زاد وراحلة دون غيره.

212 - وعن أبي سعيد؛ قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة, ونحن صيام. قال: فنزلنا منزلاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم, والفطر أقوى لكم». فكانت رخصة, فمنا من صام, ومنا من أفطر, ثم نزلنا منزلاً آخر, فقال: «إنكم مصبحو عدوكم, والفطر أقوى لكم, فافطروا». فكانت عزيمة, فأفطرنا, ثم رأيتنا نصوم بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. رواه أحمد ومسلم وأبو داوود, ولفظه: قال أبو سعيد: لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفطر لما أرادوا أن يصبحوا العدو, وكانت عزيمة. وأما الإِعراض عن الفطر تعمقاً وتنطعاً أو استعظاماً للفطر وإكباراً له؛ فمثل: 213 - ما روت عائشة قالت: «رخص رسول الله في أمر, فتنزه عنه ناس من الناس, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, فغضب حتى بان الغضب على وجهه, فقال: ما بال أقوام يرغبون عن ما رخص لي فيه؛ فوالله؛ إني لأعلمهم بالله, وأشدهم له خشية». متفق عليه. 214 - كما أراد جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبتَّلوا, وقال أحدهم:

أما أنا فأصوم لا افطر. وقال الآخر: أما أن أقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم, فقال: «لكني أصوم وأفطر, وأقوم وأنام, وآكل اللحم, وآتي النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني». وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. والأكل في السفر من طيبات ما أحل الله لنا؛ فمن اجتنبه تنزهاً عنه كالذي يجتنب اللحم والنساء كان داخلاً في هؤلاء, وبهذا وشبهه مرقت الخوارج من الدين, وعلى هذا الوجه أنكر دحية بن خليفة الكلبي وأبو بصرة على الذين رغبوا عن الفطر, ورأوه مكروهاً, وكذلك ابن عمر أنكر على من رأى به قوة على الفطر؛ فلا يشرع في حقه.

ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لأواصلنَّ وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم». ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور. 215 - وعلى هذا يخرج ما روى أسامة بن زيد, عن الزهري, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر». رواه ابن ماجه. 216 - ورواه النجاد من حديث يزيد بن عياض, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة وأبيه عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صائم رمضان في السفر كمفطره في الحضر».

217 - ورواه النسائي موقوفاً على عبد الرحمن.

يعني: من صامه معتقداً وجوبه, والتشبيه به في الإِثم لا في وجوب القضاء.

مسألة: والثاني: الحائض والنفساء يفطران ويقضيان, وإن صامتا لم يجزئهما

فإن قيل: فهلاَّ أوجبتم عليه القضاء, لا سيما وقد استشهد أحمد في رواية حنبل بقول عمر وأبي هريرة. قلنا:. . . . مسألة: والثاني: الحائض والنفساء يفطران ويقضيان, وإن صامتا لم يجزئهما. والأصل في هذا السنة المستفيضة المتلقاة بالقبول والإِجماع على أن الحائض لا تصوم, وقد تقدم ذكر هذا في الحيض, ولا يصح صومها, ولا يجوز لها أن تنوي الصوم وتكف عن الأكل, ومتى حاضت في أثناء يوم؛ بطل صومها, وهل يجب عليها الإِمساك بقية النهار؟ على روايتين. وكذلك [لو] انقطع دمها في أثناءِ يومٍ؛ وجب عليها قضاؤه, وفي وجوب الإِمساك روايتان. وإن انقطع دمها قبل الفجر, [وبيتَّت] النية؛ صح صومها, وإن لم تغتسل. نص عليه, وأنكر على مَنْ قال بخلافه, وقاسه على الرجل إذا أصبح جنباً. مسألة: والثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما؛ أفطرتا وقضتا وأطعمتا

عن كل يوم مسكينا, وإن صامتا؛ أجزأهما

عن كل يوم مسكيناً, وإن صامتا؛ أجزأهما. في هذا الكلام فصلان: أحدهما: أن المرأة الحامل إذا خافت من الصوم على ولدها: إما لأن الجوع يضرُّ به, أو لاحتياجه إلى دواء تشربه؛ فإنه يجوز لها أن تفطر؛ لأنها أحوج إلى الفطر من المسافر وبعض المرضى؛ فإنه يخاف هلاك الولد بصومها. وقد تقدم حديث أنس بن مالك الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الله وضع الصوم عن المسافر (وفي رواية: وعن الحبلى والمرضع»). لقد قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً أو أحدهما». [وفي رواية]: «وعن الحامل وعن المرضع». وعليهما مع الفطر القضاء؛ لأنها ترجو القدرة عليه, فإذا قدرت؛ صامت كالمريض والمسافر, وعليها أيضاً الفدية, وهو أن تطعم عن كل يوم مسكيناً. 218 - وعن نافع: أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها, فقال: «تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مُدّاً من حنطة». رواه

219 - وعن عكرمة: أن ابن عباس قال: «أثبتت للحبلى والمرضع»؛ يعني: قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. رواه أبو داوود. 220 - وروي عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]؛ قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً,

والحبلى والمرضع إذا خافتا» قال أبو داوود: يعني: على أولادهما. رواه أحمد في «الناسخ والمنسوخ» مستوفى.

221 - عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}؛ قال: «رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم, ورخص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً, ثم نسخ ذلك في هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وثبتت الرخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم, والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليهما». 222 - وعن عطاء ابن عباس: «أنه كان يرخص في الإِفطار في رمضان للشيخ الكبير والحامل المتم والمرضع, ولصاحب العطاش أن يفطروا ويطعموا لكل يوم مسكيناً». رواه سعيد.

قال أحمد في رواية صالح: المرضع والحامل تخاف على نفسها تفطر وتقضي وتطعم, أذهب إلى: 223 - حديث أبي هريرة. 224 - 225 وأما ابن عباس وابن عمر يقولان: تطعم ولا تصوم. 226 - وكان ابن عباس يقرأها: (يطوقونه). قال: يكلفون, ومن قرأ: {يُطِيقُونَهُ}؛ فإنها منسوخة, نسخها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}؛ فقد ثبت وجوب الفدية عن ثلاثة من الصحابة, ولا يعرف لهم مخالف. واختلفوا في القضاء, وأشبه القولين وجوب القضاء.

227 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: «أن الله وضع الصوم عن المسافر والحامل والمرضع» , ولم يرد إلا وضع الأداء دون القضاء؛ لأنه ذكر المسافر, وإنما وضع عنه الأداء فقط, ولأنها ترجو القدرة على القضاء؛ فهي كالمريض. وأما إن خافت على نفسها: فقال أصحابنا: تفطر وتقضي ولا تكفر. قال بعضهم: هذا بغير خلاف؛ لأنها بمنزلة المريض أو بمنزلة من يخاف حدوث مرض به, وإنما وجبت الفدية إذا خافت على جنينها, لأنها هناك أفطرت للخوف على غيرها, وهو أغلظ من الفطر خوفاً على نفسها, فغلظ بوجوب الفدية, ولأن الفطر يرتفق به هنا شخصان الحامل وجنينها, فكان القضاء عنها والفدية عن جنينها, بخلاف فطر المريض والمسافر؛ فإنه لا يرتفق به إلا شخص واحد. وقال أحمد في وآية الميموني: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولدهما يفطران ويطعمان ويصومان إذا أطاقا. وقد تقدمت رواية صالح: الحامل والمرضع تخاف على نفسها تفطر وتقضي وتطعم. وقال في رواية حرب في الحامل والمرضع يشتد عليهما الصيام: يفطران ويقضيان ويكفران لكل يوم مدًّا لمسكين, والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم مدًّا أيضاً. وتأل القاضي هذا على أنها تخاف على ولدها مع خوفها على نفسها؛ فإن خافت على نفسها فقط؛ فلا فدية, ولذلك قيَّد الخرقي وغيره أن تخاف على جنينها فكأنها تارة تخاف على ولدها فقط, وتارة تخاف على نفسها وعلى ولدها.

وهذا الذي قاله ليس بجيد؛ لأن أحمد فرَّق بين خوفها على نفسها وخوفها على ولدها, ولأنها إذا خافت على نفسها وولدها؛ لم يجب عليها الفدية في قياس قول مَنْ لا يوجبها بالخوف على النفس. ولو أفطرت وهي حامل مريضة أو وهي حامل مسافرة؛ فإنها تفطر للمرض والسفر ولا كفارة عليها؛ لأنه قد وُجد سبب يبيح الفطر من غير كفارة. وهذا الذي قاله أحمد يجمع قول ابن عمر وابن عباس؛ لأنه أطلق الخوف, وجعلها من الذين يطيقونه, فكأن إيجاب الفدية لأجل طاقتها في الحال لا لأجل ولدها, وابن عمر ذكر خوفها على ولدها, ولأن خوفها على نفسها بسبب الحمل؛ فإن المسألة إنما هي إذا كان كذلك, أما لو خافت من الفطر لأمرٍ آخر غير الحمل, بأن تكون مريضة؛ فإنه لا كفارة عليها ألبتة, وإذا كان بسبب الحمل؛ لم تكن مثل المريض الذي خوفه من جهة نفسه؛ فإنه إذا كان وجود الحمل يمنعها الصوم والحمل في الأصل باختيارها؛ صارت كأنها ممتنعة عن الصوم باختيارها, فناسب ذلك وجوب الفدية, وصارت من وجهٍ قادرة على دفع الحمل فلا تصوم. ويحتمل أن أحمد قال ذلك لأنها إذا خافت على نفسها فإنه يخاف على جنينها؛ لأن الحامل إذا مرضت خيف على الجنين, وقد يخاف على جنينها من غير خوف على نفسها. . . . فعلى هذا يكون قول من أطلق الحامل إذا خافت على جنينها صحيح كالخرقي وابن أبي موسى, وأحمد رضي الله عنه فَصَّلَ الخوف؛ لأنها تارة تخاف على جنينها فقط, وتارة تخاف على نفسها, فتخاف على جنينها.

وأما قول من قال: إذا خافت على نفسها؛ فلا فدية عليها؛ فهو مخالف لنص أحمد ولأقوال السلف. 228 - قال مسلم بن يسار: أدركت أهل المدينة وهم يخيرون المرضع والحامل في شهرها الذي تخاف على نفسها يفطران ويطعمان كل يوم مسكيناً. 229 - وقال سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: «وهو الكبير الذي كان يصوم فيعجز, والمرأة الحبلى التي يعسر عليها الصيام؛ [فعليهما] إطعام مسكين كل يوم حتى ينقضي شهر رمضان». رواهن سعيد. *الفصل الثاني: في المرضع: وهي كالحامل وأولى منها بوجوب الفدية؛ لأنها ترضع الطفل باختيارها في الجملة؛ بخلاف الحامل؛ فإنها لا تستطيع مفارقة الجنين, وحكمها حكم الحامل في جميع أمورها كما تقدم؛ فإنها تخاف على ولدها إذا صامت بتغير اللبن أو نقصه, وقد تخاف على نفسها إذا صامت وأرضعته بأن يضعفها إرضاعه. وجوب الفدية هنا إذا خافت على نفسها ظاهر؛ فإنها قادرة على الصوم, وإنما إرضاعها الذي يضعفها, وهو فعل لها.

ومن استباح المحظورات بفعله؛ وجبت عليه الكفارة, وإن كان جائزاً. ولهذا تجب الكفارة بالحنث في اليمين إذا فعله, وإن كان واجباً, ولو فعل به؛ لم يكن عليه الكفارة, وكذلك محظورات الإِحرام, والفرق بينها وبين المسافر. ثم لا يخلوا إما أن تكون والدة أو ظئراً بأجرة أو غيرها. فأما الأم فقال. . . إن قبل غيرها, وقدرت أن تستأجر له, أو كان له مال تستأجر منه؛ فلتفعل ذلك ولتصم, وإلا جاز لها الفطر. وهذا فيما إذا كان الخوف على نفسها, أما إذا خيف عليه. . . . وأما الظئر التي ترضع ولد غيرها بأجرة أو بدونها؛ فذكر ابن عقيل: أنها تستبيح الإِفطار كاستباحته لولدها؛ لأنه أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق, فهو كالمسافر في المضاربة يستبيح بسفره ما يستبيح بالسفر لنفسه. وطرده العمل في الصنائع الشاقة إذا بلغت منه الجهد. والكفارة في الحال التي تبيح في حق نفسه أباحت في حق غيره, وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإِفطار؛ لم يبح في حقه, ولا في حق غيره. ومن لم يمكنه إنجاء شخص من الهلكة إلا بالفطر, مثل أن يكون غريقاً أو يريد أحد أن يقاتله. . . .

مسألة: الرابع: العجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه؛ فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكين

* فصل: ولو أحاط العدو ببلد, وكان الصوم المفروض يضعفهم؛ فهل يجوز لهم الفطر؟ على روايتين ذكرهما الخلال في كتاب السير. مسألة: الرابع: العجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه؛ فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. هذا القسم هو الذي يعجز عن الصوم في الحال, ولا يرجى قدرته عليه في المآل, مثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذين لا يطيقان الصوم, والمريض مرضاً لا يرجى برؤه, مثل صاحب العطاش الذي لا يصبر عن شرب الماء شتاءً ولا صيفاً, أو من لا يصبر عن النكاح يخاف إن قطعه تشققت أنثياه. قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فيمن به شهوة غالبة للجماع: يجزيه أن يطعم ولا يصوم إذا كان لا يملك نفسه, وذلك أنه يؤمن عليه عند ذلك أن تنشق أنثياه. قال القاضي: يجب أن تحمل المسألة على أنه حصل به ذلك كالمرض الدائم الذي لا يمكنه الصيام معه, فيكون حكمه حكم الشيخ إذا عجز عن الصايم, فيسقط الصيام, وينتقل إلى الإِطعام, ولا يكون عليه كفارة الجماع؛ لأن الصيام غير متعين عليه؛ فهو كالمسافر إذا وطئ, وكل من كان به هذا الشبق الذي يخاف من الصوم معه أن ينشق أنثياه يفطر, لكن إن أمكنه القضاء؛ قضى

ولم يكفر, وإن لم يكن القضاء؛ أطعم, والعبرة بإمكان القضاء أن يكون ممن يرجى برؤه أو لا يرجى برؤه. قال ابن عقيل وغيره من أصحابنا: هذا الذي به الشبق يستخرج ماءه بما لا يفسد صوم غيره: إما استمناء بيده, أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة التي يخاف أن يحرك ذلك شهوتها, فإن كان له زوجة أو أمة صغيرة أو كافرة؛ استمنى بيدها, ويجوز أن يستخرجه بوطئها دون الفرج. فرخصا له في المباشرة دون الفرج مطلقاً. فأما وطؤها في الفرج مع إمكان إخراج الماء ودفع ضرورة الشبق بما دون الفرج؛ فقال ابن عقيل وغيره: لا يجوز؛ لأن الضرورة إذا دفعت؛ حرم ما وراءها؛ كما يمنع من الشبع من الميتة إذا سدَّ رمقه, فإن جامع؛ فعليه الكفارة, فأما إن لم يندفع إلا بوطئ غير صائمة؛ جاز له وطؤها. وكلام أحمد والقاضي يقتضي أنه يباح له الجماع مطلقاً؛ فإنهما إنما ذكرا إباحة الجماع, ولم يتعرضا لغيره؛ لأن مَنْ أبيح له استخراج الماء بالمباشرة دون الفرج أبيح له الجماع في الفرج؛ كالمسافر, وذلك لأن الفطر يحصل بهما جميعاً, والكفارة أيضاً في إحدى الروايتين, ولأنه من أبيح له الفطر لعذر؛ صار في حكم المفطرين, وجاز له ما يجوز لهم مطلقاً؛ كالمريض والمسافر وغيرهما, ولأن من أبيح له الفطر لحاجته إلى الأكل, وهو الشيخ الكبير والمريض؛ جاز له أن يأكل ما شاء, ولم يختص ذلك بقدر الضرورة؛ فكذلك مَنْ أبيح له لحاجته إلى الجماع, وقياسه عليه أولى من قياسه على المضطر إلى الميتة إن سلم الحكم فيه؛ فإن المانع هناك في معنى الغذاء, وهو موجود في كل جزء منه, والمانع هنا الصوم الواجب, وهذا قد زال بإباحة الفطر. ثم الفطر هنا له بدل, وهو القضاء أو الكفارة, بخلاف الأكل هناك,

وقياس المذهب يقتضي أنه يباح له الأكل إذا أبيح له الجماع, كما أنه يباح الجماع لمن يباح له الأكل؛ إلا أن يُخرَّج من منع المسافر من الجماع وجه. وأما تفطيره غيره؛ فهذا لا يجوز إلا عند الضرورة بلا ريب؛ لأنه إفساد صوم صحيح لغير حاجة, وذلك لا يجوز. فإن أراد وطئ زوجته أو أمته الصائمة؛ لم يحل له ولا لها تمكينه. قال ابن عقيل لأن الوطء لا يستباح بالضرورة, وإنما يباح إخراج الماء, ولا ضرورة إلى ما وراءه؛ لأن الضرورة تندفع بما دون الفرج والاستمناء باليد, فلا يجوز التعدي إلى ما يضر بالغير. وقال أبو محمد: إذا لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم الغير؛ أبيح ذلك؛ لأنه مما تدعو إليه الضرورة, فأبيح الفطر, كفطر الحامل والمرضع للخوف على ولديهما. فإن كان له امرأتان أحدهما صائمة, والأخرى حائض؛ فهل وطء الصائمة أولى أو يتخيَّر بينهما؟ على وجهين. قال أصحابنا: لسنا نريد بالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة من بلغ حدّاً إن ترك الأكل هلك, وإنما نريد به من يلحقه مشقة شديدة في الصيام, وإنما يسقط عن هؤلاء الصيام؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها, وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. 230 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم».

231 - وجبت الكفارة لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن معاذ ابن جبل؛ قال: «أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} إلى هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال: فكان من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً؛ أجزأ ذلك عنه. قال: ثم إن الله عزَّ وجل أنزل الآية الأخرى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض والمسافر, وثبت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام». مختصر من حديث طويل رواه أبو داوود.

232 - ورواه البخاري عن ابن ليلى؛ قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: «نزل رمضان, فشق عليهم, فكان من أطعم كل يوم مسكيناً؛ ترك الصوم ممن يطيقه, ورُخِّص لهم في ذلك, فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} , فأمروا بالصوم». 233 - وعن عطاء, سمع ابن عباس يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} , قال ابن عباس: «ليست بمنسوخة, هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً». رواه البخاري. 234 - وفي رواية أخرى صحيحة رواها ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عنه؛ في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}؛ قال: «يتكلفونه ولا يستطيعونه {طَعَامُ مِسْكِينٍ} , {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فأطعم مسكيناً آخر, {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} , وليست بمنسوخة». قال ابن عباس: «ولم يرخص في هذه الآية إلا للشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام والمريض الذي علم أنه لا يشفى» , وقد تقدم عنه مثل هذا.

235 - وعن أيوب, عن ابن سيرين, عن ابن عباس؛ قال في هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: «نسختها الآية الأخرى, {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}». 236 - قال أيوب: وسمعت عكرمة يقول ابن عباس: «ليست منسوخة, هي في الشيخ الذي يكلف الصيام ولا يطيقه, فيفطر ويطعم». رواهما أحمد في «الناسخ والمنسوخ».

فالرواية الأولى أراد أن قراءة العامة المنسوخة في الجملة, والرواية الثانية أراد بها أنها ليست منسوخة على الحرف المشدّد. 237 - وعن أنس بن مالك: «أنه ضعف عن الصوم قبل موته بعام أو عامين, فأفطر وأطعمهم». قال: «[فـ] كان يجمعهم ويطعمهم». رواه سعيد. 238 - وذكر الليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد؛ في الشيخ إذا كبر

ولم يطق الصيام: «افتدى بطعام مسكين كل يوم مُدّاً مِنْ حنطة». قال ذلك أبو بكر بن حزم عن أشياخ الأنصار. 239 - وعن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال: «هو الكبير الذي كان يصوم فيعجز, والمرأة الحبلى التي يعسر عليها الصيام؛ فعليها طعام مسكين كل يوم حتى ينقضي شهر رمضان». رواه سعيد. 240 - وعن إبراهيم؛ قال: «كان الرجل يفتدي بطعام يوم, ثم يظل مفطراً, حتى نزلت: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. قال: فنسخت وكانت الرخصة للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم». 241 - وعن الزهري: أنه سئل عن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}. قال: «إنها منسوخة, وقد بلغنا أن هذه الآية للمريض الذي تدارك عليه الأشهر, يطعم مكان كل يوم أفطر مدّاً م~نْ حنطة». رواهما أحمد.

242 - وعن قتادة في هذه الآية: «كانت فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة, وهما لا يطيقان الصيام: أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً ويفطرا, ثم نَسَخَ تلك الآية التي بعدها, فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ. . .} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فنسختها هذه الآية, فكان أهل العلم يرون ويرجون أن الرخصة قد ثبتت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً, وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها, والمرضع إذا خشيت على ولدها». رواه محمد بن كثير عن همام عنه. فهذا قول ثلاثة من الصحابة, ولم يعرف لهم مخالف. وأيضاً؛ فإن الصحابة والتابعين أخبروا أن الله رخص في هذه الآية للعاجز عن الصوم أن يفطر ويطعم, وأن حكم الآية باقٍ في حقه, وهم أعلم بالتنزيل والتأويل. وأيضاً؛ فإن ذلك تبين من وجهين: 243 - أحدهما: أن ابن عباس وأصحابه قرؤوا (يُطَوَّقونه)

و {يُطِيقُونَهُ} , وهي قراءة صحيحة عنه, والقراءة إذا صحت عن الصحابة؛ كان أدنى أحوالها أن تجري مجرى خبر الواحد في اتباعها والعمل بها؛ لأن قارئها يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك, فإما أن يكون حرفاً من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها, ويكون بعد النسخ يقرأ الآية على حرفين: (يُطَوَّقونه) و {يُطِيقُونَهُ} , أو يكون سمعها على جهة التفسير وبيان الحكم, فاعتقد أنها من التلاوة, وعلى التقديرين؛ فيجب العمل بها, وإن لم يقطع بأنها قرآن, ولهذا موضع يستوفى فيه غير هذا الموضع. ومعنى (يطوقونه)؛ أي: يكلفونه فلا يستطيعونه؛ فكل من كلف الصوم فلم يطقه؛ فعليه فدية طعام مسكين, وإن صام مع الجهد والمشقة؛ فهو خير له, وهذا معنى كلام ابن عباس في رواية عطاء عنه. الثاني: أن العامة تقرأ: {يُطِيقُونَهُ} , فكان في صدر الإِسلام لما فرض الله الصوم خير الرجل بين أن يصوم وبين أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً؛ فإن صام ولم يطعم؛ كان خيراً له, ثم نسخ الله هذا التخيير في حق القادر بقوله:

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , فأوجب الصوم ومنع من الفطر والإِطعام, وبقي الفطر والإِطعام للعاجز عن الصوم؛ لأنه لما أوجب على المطيق للصوم أحد هذين الأمرين, وهو الصيام والإِطعام, لقدرته على كل منهما؛ كان القادر على أحدهما مأموراً بما قدر عليه؛ فمن كان إذْ ذاك يقدر على الصيام دون الإِطعام؛ لزمه, ومن يقدر على الإِطعام دون الصيام؛ لزمه, ومن قدر عليهما؛ خُيِّر بينهما؛ فإن هذا شأن جميع ما خُير الناس بينه؛ مثل خصال كفارة اليمين, وخصالة فدية الأذى, وغير ذلك, ثم نسخ الله جواز الفطر عن القادر عليه, فبقي الفطر والفدية المستفاد من معنى الآية للعاجز. ويُبيِّن ذلك أن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم؛ فإنهما كانا يكونان مخيران بين الصيام والإِطعام, فإذا عجز بعد ذلك عن الصوم؛ تعين عليهما الإِطعام, ثم نسخ ذلك التخيير, وبقي هذا المعين, وهذا ما تقدم عن معاذ وابن عباس من رواية سعيد بن جبير وغيره من التابعين. ومنهم من يوجهه بوجه آخر, وهو أن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}: عام فيمن يطيقه بجهد ومشقة, وفين يطيقه بغير جهد ومشقة, فنسخ في حق مَنْ لا مشقة عليه, وبقي في حق مَنْ لا يطيقه إلا بجهد ومشقة. 244 - فإن قيل: فقد رُوي عن جماعة من السلف أنها منسوخة, منهم ابن عباس كما تقدم. 245 - وعن سلمة بن الأكوع؛ قال: «لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها». وفي رواية: «حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ

مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}». رواه صاحبا الصحيح وأصحاب السنن الأربعة. 246 - وعن ابن عمر: أنه قرأ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِساكِينَ)؛ قال: «هي منسوخة». رواه البخاري. 247 - وعن عَبيدة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ قال: «نسختها التي بعدها والتي تليها». 248 - وعن علقمة: أنه كان يقرؤها {يُطِيقُونَهُ}؛ قال: «كانوا إذا أراد أحدهم أن يفطر؛ أطعم مسكيناً وأفطر, فكانت تلك كفارته, حتى نسختها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}». 249 - وعن الشعبي؛ قال: «لما نزلت هذه الآية, فكان الأغنياء

* فصل: وإن قوي الشيخ أو العجوز بعد ذلك على القضاء, أو عوفي المريض الميؤوس من برئه, بأن زال عطاشه وزال شبقه ونحو ذلك بعد إخراج الفدية

يطعمون ويفطرون, فصار الصيام على الفقراء, فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. . .}؛ قال: «فوجب الصوم على الناس كلهم». رواهن أحمد. قيل: هي منسوخة في حق الذي كان قد خُيِّر بين الأمرين, وهو القادر على الصيام؛ كما دل عليه نطق الآية, وكما بيَّنُوه, فأما من كان فرضه الطعام فقط كما دل عليه معنى الآية؛ فلم يُنسخ في حقه شيء, وعلى هذا يُحمل كلام من أطلق القول بأنها منسوخة؛ لأنه قد روي عن ابن عباس التصريح بذلك. * فصل: وإن قوي الشيخ أو العجوز بعد ذلك على القضاء, أو عوفي المريض الميؤوس من بُرئه, بأن زال عطاشه وزال شبقه ونحو ذلك بعد إخراج الفدية, فقال أصحابنا: لا قضاء عليه؛ كما قالوا في المعضوب إذا حج عن نفسه ثم قوي؛ لأن الاعتبار بما في اعتقاده, ولأنه لو اعتقد أنه يقدر على القضاء, ثم مات قبل القدرة عليه؛ لم يكن عليه شيء؛ فكذلك إذا اعتقد أنه لا يقدر عليه ثم قدر. وخرَّج بعضهم وجهاً بوجوب القضاء إذا قدر عليه؛ لدخوله في عموم قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا. . .} [البقرة: 185]. ولأنها بدل إياس, وقد تبينا زوال اليأس, فأشبه من اعتدَّت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت. وإن عوفي قبل إخراج الفدية؛ فينبغي هنا أن يجب عليه القضاء رواية واحدة.

مسألة: وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير؛ إلا من أفطر بجماع في الفرج؛ فإنه يقضي ويعتق رقبة؛ فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكينا؛ فإن لم يجد؛ سقطت عنه

مسألة: وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير؛ إلا من أفطر بجماع في الفرج؛ فإنه يقضي ويعتق رقبة؛ فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكيناً؛ فإن لم يجد؛ سقطت عنه. في هذا الكلام فصول: أحدها: أن المفطرين قسمان: أحدهما: ومَنْ يباح له الفطر, وهم الأربعة المذكورون أولاً المريض والمسافر والحائض والنفساء والمرضع والحامل والعاجز عن الصوم, وقد تقدم حكمهم, وهؤلاء ليس عليهم كفارة, سوى الكفارة الصغرى المذكورة. الثاني: من أفطر بغير هذه الأعذار, وسيأتي أنواع المفطرات؛ فهؤلاء يجب عليهم القضاء عن كل يومٍ يوماً؛ كما يجب القضاء على مَنْ فوَّت الصلاة؛ لأنه إذا وجب القضاء على المعذور؛ فعلى غير المعذور أولى, مع أن الفطر متعمداً من الكبائر, وفوات العين باقٍ في ذمته, وعليه أن يتوب منه, وهو أعظم من أن يمحوه كفارة مقدرة أو تكرار الصيام أو غير ذلك. 250 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في رمضان أن يقضي يوماً مكانه ويستغفر الله. رواه أبو داوود وابن ماجه.

251 - وهذا معنى ما يُروى عن أبي المطوس, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة؛ لم يجزه صيام الدهر». وفي لفظ: «لم يقض عنه صيام الدهر». رواه الخمسة, وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال البخاري في «صحيحه»: ويُذكر عن أبي هريرة رفعه: «من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض؛ لم يقضه صيام الدهر, وإن صامه». وبعه قال ابن مسعود. 252 - 253 - قال ابن عبد البر: وعن علي وابن مسعود مثله.

وقال: 254 - 259 - سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم

وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه. 260 - وقد روى النسائي, عن علي بن الحسين, عن أبي هريرة: أن رجلاً أفطر في شهر رمضان, فأتى أبا هريرة, فقال: «لا يقبل منك صوم سنة».

261 - وعن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة؛ قال: «من أفطر يوماً من رمضان؛ لم يقضه يوم من أيام الدنيا». وإنما كان كذلك لأن الله سبحانه أوجب عليه صوم ذلك اليوم المعيَّن, وذلك اليوم لا يكون مثله إلا في شهر رمضان, لكن صوم ذلك المثل واجب بنفسه أداءً, فلا يمكن أن يُصام قضاءً عن غيره, فلو صام الدهر كله؛ لم يقض عنه حق ذلك المعين, لكن وجب عليه صوم يوم؛ لأنه أحد الواجبين والتعيين هو الواجب الآخر؛ ففوات أحدهما لا يوجب سقوط الآخر, وهذا معنى كلام أحمد, وسواء أفطر بجماع أو أكل أو غيره. *الفصل الثاني: أنه لا كفارة بالفطر في رمضان إلا بالجماع وأسبابه؛ كما سيأتي إن شاء الله, هذا هو المنصوص عنه في مواضع, وهو المذهب. قال في رواية إسماعيل بن سعيد وإبراهيم بن الحارث والمروذي وأبي طالب وأبي الصقر وغيرهم: من أفطر يوماً من رمضان تعمداً؛ فعليه بالقضاء بلا كفارة, ولو كان كلما أفطر؛ كان عليه الكفارة؛ لكان إذا تقيأ كفَّر, ولكن ذهبنا إلى الحديث في الجماع خاصة. وقال في رواية المروذي فيمن نذر صيام عشرة أيام فاحتجم فيها: عليه القضاء والكفارة, وإن احتجم في رمضان؛ فعليه القضاء.

فأوجب كفارة النذر في صيام النذر لفوات التعيين, ولم يوجب في فطر رمضان إلا القضاء. وقال حرب: سألت أبا عبد الله: قلت: الصائم يحتجم؟ قال: «أما في رمضان؛ فأحب إليَّ أن لا يحتجم, وأما في غير رمضان؛ فإن شاء احتجم إذا لم يكن فريضة. قلت: فإن احتجم في رمضان يكفر أو يقضي يوماً؟ قال: يقضي يوماً مكانه ولا يكفر. وقال مرة: يقضي يوماً مكانه وليست عليه كفارة. لكن يستحب له الكفارة؛ قال في رواية حرب: من افطر يوماً من رمضان متعمداً؛ صام يوماً مكانه, ولم يوجب عليه الكفارة وقال: الكفارة على مَنْ أتى أهله. وقال مرة: إن كفر فهو أفضل. ويقضي يوماً عند أصحابه. وروى حنبل: تكره الحقنة للصائم وغير الصائم؛ إلا من علة وعلاج؛ فإن فعل؛ فعليه الكفارة والقضاء. وروى عن محمد بن عبد ك الفزار فيمن احتجم في شهر رمضان: فإن كان قد بلغه الخبر؛ فعليه القضاء والكفارة, وإن لم يبلغه؛ فعليه القضاء. فقد أوجب الكفارة على العالم دون الجاهل, وعلى قياس هذا كل من أفطر عامداً عالماً يجب عليه الكفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على الذي أصاب امرأته في رمضان؛ لعموم كونه مفطراً لا بخصوص كونه مجامعاً؛ لأنه روي من طرق صحيحة أن رجلاً أفطر في رمضان, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة.

262 - 264 - هكذا رواه مالك وابن جريج ويحيى بن سعيد وخلق عظيم, عن الزهري, عن حُميد بن عبد الرحمن.

ولا يخالف هذا رواية من روى: «واقعت أهلي» , أو: «أصبت أهلي»؛ فإن ذلك الفطر لا شك أنه بجماع, لكن هذا يدل على أن الحكم ثبت لكونه مفطراً لا مجامعاً؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يبين أنه علة. 265 - 266 - كما في قوله: «زنى ماعز فرجم» , «وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد». . . ونحو ذلك.

267 - ولما روى الدارقطني من طريق الواقدي عن سعد؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أفطرت يوماً من رمضان متعمداً. قال: «اعتق رقبة, أو صم شهرين متتابعين, أو أطعم ستين مسكيناً». وهذا نص في أنه أمره بالكفارة لما أخبر أنه أفطر عامداً, ولم يستفصل بأي المفطرات كان. 268 - وروى أيضاً من طريق أبي معشر, عن محمد بن كعب, عن أبي هريرة: «أن رجلاً أكل في رمضان, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً». 269 - وذكر بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أفطر في رمضان؛ فعليه ما على المظاهر».

لكن لا يعرف له إسناد ولا أصل. ولأن الكفارة إذا وجبت بالوطء مع قلة الداعي إليه في الصوم؛ [فلأن] يجب بالأكل أولى وأحرى, ولأن الكفارة إنما تجب زاجرة عن المعاودة وماحيةً للسيئة وجابرةً لما دخل من النقص على العبادة, وهذا يستوي فيه الأكل والوطء, ولأن الأكل مما تدعو إليه الطباع وتشتهيه النفوس كالجماع, وما كان من المحرمات تشتهيه الطباع كالزنى وشرب الخمر؛ فلا بد من زاجر شرعي, والزواجر إما حدود وإما كفارات؛ فلما لم يكن في الأكل حد؛ فلا بد فيه من كفارة. فعلى هذه الرواية تجب بكل فطر [تعمده] , سواء كان مما يشتهى أو لا يشتهى؛ لأن الحجامة لا تشتهى, وقد أوجب بها الكفارة؛ لأن تعمد إفساد الصوم لا يقع غالباً إلا عما للنفس فيه غرض, فألحق النادر بالغالب؛ كما يجب الحد بوطء العجوز الشوهاء. والأول هو الصحيح: لأن لفظ الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: 270 - «إن الآخِر وقع على امرأته في نهار رمضان». وفي رواية قال: «أصبت أهلي في رمضان»؛ كما سنذكره. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة عقيب ذلك, فهذا مفسر في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالكفارة لأجل الجماع.

فمن قال: «إن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم»؛ فقد صدق, وإفطاره كان بجماع, وترتيب الحكم على الوصف ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما المحدث يقول: إنه أفطر فأمر بكذا, وقد علم أن الإفطار كان بالجماع؛ فلو صرح المحدث بذلك, وقال: إنما أمره بالكفارة لمجرد الإِفطار؛ لم يجب قبول ذلك منه؛ لأنه رأي واجتهاد؛ فكيف إذا دل عليه كلامه, مع إمكان أنه لم يقصد بذلك؟! قال الدارقطني: روى مالك ويحيى بن سعيد وابن جريج وسمى نحو عشرة من المحدثين: أن رجلاً أفطر, وخالفهم أكثر منهم عدداً, منهم عبيد الله بن عمر ومعمر ويونس وعقيل والأوزاعي وشعيب بن أبي حمزة وسمى أكثر من ثلاثين من المحدثين, كلهم رووا عن الزهري هذا الحديث بهذا الإِسناد, وأن إفطار ذلك الرجل كان بجماع. وأما الحديثان الآخران؛ فلا يجوز الاحتجاج بهما على وجه الانفراد لضعف إسنادهما. وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالكفارة لما أخبره أنه وقع على امرأته وأصابها؛ لم يجز أن تلحق سائر المفطرات بالجماع؛ لأنه إجماع الصحابة. 271 - فروى عبد الله بن أبي الهذيل؛ قال: «أتي عمر بشيخ سكران في رمضان, فقال للمتحرين: ويلك! صبياننا صيام وأنت مفطر؟! فجلده ثمانين».

272 - وعن علي: أنه أتى بالنجاشي وقد شرب الخمر في رمضان, فضربه ثمانين, ثم أعاده إلى السجن, ثم أخرجه من الغد, فضربه عشرين, فقال: «ثمانين في الخمر, وعشرين جرأتك على الله في رمضان». رواهما سعيد. وهاتان قضيتان مثلهما يشتهر. فهذا عمر رضي الله عنه قد جلده, ولم يخبره أن عليه كفارة, وكذلك علي رضي الله عنه جلده عشرين لأجل الفطر, ولم يخبره أن عليه كفارة, ولو كان ذلك عليه؛ لبيَّناه له؛ كما قد أقاما عليه الحد؛ لوجوه:

أحدها: أن الأصل براءة الذمة من هذه الكفارة, والحديث إنما يوجبها في الوقاع؛ فإلحاق غيره به يحتاج إلى دليل, والقياس فيها ليس بالبيِّن؛ لجواز أن يكون الجماع قد تضمن وصفاً فارق به غيره, فما لم يقم دليل على أن الموجب الكفارة مجرد الفطر؛ لم يجز الإِيجاب بمجرد الظن. الثاني: أنه لو وجب لأجل الإِفطار؛ لاستوى فيه جميع المفطرات؛ فإن تخصيص بعضها دون بعض نوعٌ تشريعٍ يحتاج إلى دلالة الشرع. الثالث: أن الجماع يفارق غيره بقوة داعيه وشدة باعثه؛ فإنه إذا هاجت شهوته؛ لم يكد يزعها وازع العقل ولم يمنعها حارس الدين. 273 - ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فما يحكى عن ربه: «كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي, وأنا أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي. فسمى النكاح شهوة, وسمى المأكل طعاماً, وإن كان يشتهى في الجملة. ولهذا كان الحد المشروع فيه القتل, وأدناه الجلد والتغريب, وحدُّ المطعوم إنما هو جلد دون ذلك, وقد يصيب المبتلين بشهوتهم في عقولهم وأديانهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ما يجل عن النعت. والأكل إن [كانت] الضرورة إليه أشد, وعند شدة الجوع يقدم على كل مطلوب, لكن إنما هو جوع يوم, ومثل هذا لا يكاد يبلغ بكل أحد من الناس إلى شيء من البلاء.

274 - ولهذا ظاهر سلمة بن صخر من امرأته, واعتقد أن وطأها حرام, ثم إنه أصابها, وكذلك الأعرابي وقع على امرأته مع ما يعلم فيه من التحريم.

ولم يبلغنا أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل في رمضان. نعم دعية الأكل أكبر وأعم, لكن داعية الجماع إذا وقعت؛ كانت أشد وأقوى؛ فلو سوى بين الأكل وبين الجماع في الكفارة؛ لسوَّى بين شيئين قد فرقت الأصول بينهما؛ بحيث لم يسو بينهما في موضع واحد من الشريعة؛ فكيف يصح مثل هذا القياس؟! وليس في المطعومات حد سوى المسكر؛ لقوة الداعي الطبعي إلى نوعه, وفي رمضان داعية الأكل لا تختص بنوع دون نوع.

الرابع: أن هذه الكفارة العظمى لا تجب إلا في نوع النكاح المحرم لعارض, ولهذا وجبت على المظاهر لمَّا حَرُم عليه فرج امرأته بالظهار؛ كما حُرم على الصائم فرج امرأته بالصيام, ووجب نحوها على المحرم لما حرم عليه فرج

امرأته بالإِحرام. الخامس: أن هذه الكفارة لو كانت واجبة بالفطر؛ لكان من أبيح له الفطر من غير قضاء؛ تجب عليه هذه الكفارة؛ كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة, ولكان الناس مخيرين في أول الإِسلام بينها وبين الصوم, وذلك لأن ما وجب الكفارة في محظوره ومباحه لم يختلف جنسها, وإنما يختلف الإِثم وعدمه, [و] دليله كفارة الإِحرام؛ فإن الكفارة التي تجب في اللباس والطيب والحلق والتقليم للعذر وغيره من جنس واحد, فعلم أنها إنما وجبت لخصوص وصف الجماع المحرم. ولهذا قلنا فيمن عجز عن النوم لشبقه: إنه يطعم يوماً؛ لأن الجماع لم يبق في هذه الصورة محرماً ليوجب كفارة, وإنما تجب كفارة الإِفطار, والإِفطار كفارته إطعام المساكين. *الفصل الثالث: أن الجماع في الفرج يوجب الكفارة, وهذا كالمجمع عليه, ليس فيه إلا خلاف شاذ. 275 - والأصل فيه ما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم, إذ جاء رجل, فقال: يا رسول الله! هلكت. قال: «وما أهلكك؟». قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم (وفي رواية: في نهار رمضان). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟». قال: لا. قال: «اجلس». فمكث النبي صلى الله عليه وسلم, فبينا نحن على ذلك؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر –والعرق المكتل الضخم-, فقال: «أين السائل؟». قال: أنا. قال: «خذ هذا فتصدق به». فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله؛ ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي

صلى الله عليه وسلم حتى بدأت أنيابه, ثم قال: «أطعمه أهل بيتك». رواه الجماعة. 276 - وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داوود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً». 277 - ورواه أبو داوود من طريق هشام بن سعد, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة؛ قال فيه: فأتي بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعاً, وقال فيه: «كله أنت وأهل بيتك, وصم يوماً, واستغفر الله».

.................

.......................

........................

278 - وفي رواية ابن ماجه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعتق رقبة». قال: لا أجد. قال: «صم شهرين متتابعين». قال: لا أطيق. قال: «أطعم ستين مسكيناً».

279 - وفي رواية له: «ويصوم يوماً مكانه». 280 - وعن عائشة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه احترق. قال: «ما لك؟». قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق, فقال: «أين المحترق؟». قال: أنا. قال: «تصدق بهذا». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي رواية لمسلم: أصبت امرأتي في رمضان نهاراً. قال: (. قال: ما عندي شيء. فأمره أن يجلس, فجاءه عرقان فيهما عام, فأمره أن يتصدق به.

...............

281 - وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داوود: فبينا هو على ذلك؛ أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المحترق آنفاَ؟». فقام الرجل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدق بهذا». فقال: يا رسول الله! أعلى غيرنا, فوالله؛ إنا لجياع ما لنا شيء. قال: «فكلوه». 282 - وفي رواية لأبي داوود: «فأتي بعرق فيه عشون صاعاَ». وفي رواية لبعضهم: «من تمر».

وهذه الكفارة على الترتيب في الرواية المنصورة. وفي الأخرى هي على التخيير بين الخصال الثلاثة؛ لما تقدم من رواية مسلم, وقد رواه كذلك مالك وابن جريج, وهما من أجلِّ من رواه عن الزهري.

وكذلك في حديث عائشة أمره بالصدقة, ولم يذكر العتق الصيام, فعلم أنها مجزئة عنه ابتداءً, ولأنها كفارة وجبت.

ووجه الأول: ما تقدم من الرواية المشهورة, وقول النبي صلى اله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟». قال: لا. قال: «هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟». قال: لا. قال: «هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟». قال: لا. وعامة أصحاب الزهري يروونه هكذا. وأما الرواية الأخرى؛ فلم يذكر فيها لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما ذكر أنه أمره بهذا أو بهذا, وهذا مجمل يحتمل أنه أمره به على وجه الترتيب, ويحتمل أنه أمره به على وجه التخيير, والرواية الأخرى ذكر فيها لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وهو دليل ظاهر في الترتيب. ولهذا أنكر أحمد على من فهم التخيير, فقال في رواية ابن القاسم: مالك يقول في حديثه: إنه خيَّره في الكفارة, وليس أحد يقول في الحديث: إنه خيره, إنما قال له شيئاً بعد شيء, ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أعتق أو صم أو تصدق؛ فرواه بالمعنى من حيث الجملة؛ فإن الرجل قد يقول: افعل كذا أو كذا, ومعناه الترتيب. وأما حديث عائشة: فإنها حكت ما استقر عليه الحال, وهو أمره بالصدقة؛ فإنه كان عند العجز عن العتق والصيام, ولهذا لم يذكر العتق والإِطعام. ثم هي قضية في عين, فذلك المأمور بالصدقة إن كان هو غير الذي في حديث أبي هريرة؛ فربما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حاله العجز عن العتق والإِطعام, ولهذا لم يذكرهما له, ولا ريب في أنهما يُذكران للمستفتي كما في حديث أبي هريرة. ثم هي أكثر رواة وأشد استقصاء وأحوط وأشبه بالقياس. فإن هذه الكفارة لم تجب في الشرع إلا على وجه الترتيب, ولأنها إذا

* فصل: فإن عجز عن الكفارات الثلاثة

وجبت على المظاهر على وجه الترتيب؛ فعلى المجامع في رمضان أولى؛ فإن ذنب هذا أعظم؛ لأن التحريم في الظهار ثبت بقول المكلف, وهنا ثبت بتحريم الله ابتداء, ولأنه إمساك عن محظورات تجب بالوطء فيه الكفارة, فكانت على الترتيب؛ ككفارة المجامع في إحرامه. * فصل: فإن عجز عن الكفارات الثلاثة: قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أطعمه عيالك» , أتقول به؟ قال: نعم إذا كان محتاجاً, ولكن لا يكون في شيء من الكفارات؛ إلا في الجماع في رمضان وحده, لا في كفارة اليمين, ولا في كفارة الظهار. قيل له: أليس في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ووقع عليها نحو هذا؟ قال: ومن يقول هذا؟ إنما حديث سلمة تفرد بهذا: «واستعن بسائره على أهلك» , وإنما أمر له بما بقي. قلت له: فإن كان المجامع محتاجاً فأطعمه عياله؟ قال: يجزئ عنه. قلت: ولا يكفر إذا وجد؟ قال: لا؛ إلا أنه خاص في الجماع وحده. فذكر أصحابنا هل تسقط عنه أو تبقى في ذمته: على روايتين: أصحهما تسقط عن ذمته؛ كما ذكره الشيخ؛ لحديث الأعرابي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يطعم العرق أهل بيته, ولم يأمره أن يقضي إذا أيسر, وكان عاجزاً؛ لأن التكفير إنما يكون بما يفضل عن حاجته, ولأنه حق مالي يجب لله على وجه الطهرة للصائم, فلم يجب على العاجز كصدقة الفطر, بخلاف بقية الكفارات؛ فإنها تجب على وجه الطهرة في الصيام.

الثانية: تبقى في ذمته كسائر الكفارات في الأصح من روايتين: [قال الزهري لما روى الحديث: وإنما كان هذا رخصة له خاصة, فلو أن رجلاً فعل ذلك اليوم؛ لم يكن له بدٌّ من التكفير]؛ لأنها كفارة وجبت بسبب من المكلف, فلم تسقط بالعجز؛ ككفارة اليمين وغيرها, ولأن الأعرابي لو سقطت الكفارة عنه؛ لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير بعد أن أتي بالعرق؛ فإنه حين وجوب الكفارة كان عاجزاً, وعكسه صدقة. وأما الكفارة الصغرى في الصيام, وهي فدية المرضع والحامل والشيخ الكبير والعجوز الكبيرة؛ فقال ابن عقيل في «التذكرة»: جميعها تسقط بالعجز ولا تثبت في الذمة ككفارة الجماع [و] أولى؛ لأنها تجب بغير فعل من المكلف؛ فهي بصدقة الفطر أشبه. وقال القاضي في «خلافه» وغيره: تسقط كفارة المرضع والحامل, ولا تسقط فدية العاجز عن الصيام لكبر أو مرض؛ لأنها بدل عن الصيام الواجب, فلما لم يسقط الصيام بالعجز عنه؛ فكذلك بدله لا يسقط بالعجز عنه إذا قدر عليه في الثاني, وعلى هذا؛ فلو قدر بعد الصيام على الصيام والإِطعام. . . . وظاهر كلام أحمد أنه لا يسقط شيء من ذلك بالعجز إلا كفارة الجماع. وكذلك ذكر في «المجرد والفصول»؛ لأن كفارة المرضع والحامل بدل عن الصوم الواجب أيضاً.

فإن كان عاجزاً حين وجوب الكفارة ثم قدر على ذلك فيما بعد بقريب كالأعرابي وسلمة بن صخر, وقلنا: تسقط. . . . فإن قلنا: تسقط؛ فلا كلام. وإن قلنا: لا تسقط؛ فكفر عن المظاهر رجل بإذنه لفقره, أو كان عنده ما يكفر به أو دفع إليه, وهو محتاج إليه, أو هو أحوج إليه من غيره؛ فهل يجوز صرفه إلى نفسه؟ على روايتين. فقال القاضي: لا يجوز صرف الكفارة عنه إلى نفسه حملاً لحديث الأعرابي على أنه لم يكن كفارة, وإنما أكلها صدقة محضة؛ لأنه ليس في الأصول أن الواجبات تصرف إلى مَنْ وجبت عليه من غير خروج عن ملكه. وهذا على قولنا: سقطت الكفارة عنه. فأما إن قلنا: تبقى في ذمته: فقال بعض أصحابنا: يجوز صرفها إليه لحديث الأعرابي. وقال بعضهم: هل يجوز ذلك أم يكون خاصّاً بالأعرابي؟ فيه وجهان. [وهل يجوز ذلك في بقية الكفارات؟ على روايتين]. والمنصوص عن أحمد في رواية الأثرم وقد ذكر له حديث أبي هريرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أطعمه عيالك» , فقال: يكون هذا في شيء من الكفارات؛ إلا في الجماع خاصة؛ فإنه يجزيه ولا يكفر مرة أخرى.

وهذا بيان من أحمد أن الذي أطعمه الأعرابي لأهله كان كفارة أجزأت عنه؛ لقوله: «يجزيه» , والإِجزاء لا يكون إلا لشيء قد فعل وامتثل فيه الأمر, ولقوله: «ولا يكفر مرة أخرى» , فدل على أنه قد كفر أول مرة. وقال في رواية مهنا: في رجل عليه عتق رقبة, وليس عنده ما يكفر, فقال له رجل: أنا أعتق عنك هذه الجارية؟ قال: لا يجوز؛ إلا أنه يملكه إياها, فيعتقها هو؛ فإذا لم يملكها؛ فلا تجزيه؛ لأن ولاءها للذي أعتقها, وفي الإِطعام يجوز أن يطعم عنه غيره, فأما في الرقبة؛ فلا. وقال في رواية الأثرم: فإذا لم يكن عنده, وأطعم عنه غيره؛ يكون له ولعياله؟ قال: نعم؛ على حديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر: قد روي عن أبي عبد الله أن ذلك خاص في الواطئ إذا كفر عنه غيره, رواه إبراهيم بن الحارث: أنه يأكلها إذا أطعم عنه غيره, ويمتنع في غير كفارة الوطء في الصيام أن يأكل منها شيئاً. وروى عنه أبو الحارث: أن كل الكفارات لا بأس بأكلها إذا كفرت عنه. وبما روى الأثرم وإبراهيم بن الحارث. أقول: وهذه طريقة ابن أبي موسى؛ قال - ولم يختلف قوله-: إن من وطئ في رمضان فقدر على الكفارة من ماله؛ أنَّ عليه أنْ يكفر واجباً؛ فإن كان فقيراً, فتصدق عليه بالكفارة؛ فهل له أن يأكلها كما جاء الحديث؟ أم كان ذلك مخصوصاً لذلك الرجل, وعليه أن يتصدق بذلك, ولا يجوز له أكله؟ على روايتين. فعلى هذا يجوز له أن يصرف هذه إلى نفسه, سواء كفر هو عن نفسه أو

* فصل: ويجب العتق إذا وجد الرقبة أو ثمنها فاضلا عن حوائجه الأصلية

كفر عنه غيره بإذنه, وهذا ظاهر الحديث؛ فإن الأعرابي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد ما يطعمه, ثم بعد هذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بالعرق الذي جاءه, فعلم أن الكفارة لم تسقط عنه, وإنما كفر بإطعام ذلك العرق لنفسه وعياله. * فصل: ويجب العتق إذا وجد الرقبة أو ثمنها فاضلاً عن حوائجه الأصلية؛ كما يستوفى إن شاء الله تعالى في موضعه. فإن كان عادمها وقت الوجوب, ثم وجدها قبل الصوم؛ فقال بعض أصحابنا: يلزمه العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالعتق, ولم يسأله عن حاله حين الجماع. . . . *الفصل الرابع: أن الكفارة تجب بالجماع في الفرج, سواء كان قبلاً أو دبراً, من ذكر أو أنثى, وسواء أنزل الماء أو لم ينزل؛ رواية واحدة. وكذلك إذا ولج في فرج بهيمة في المشهور عن أصحابنا, وحكاه أبو بكر عن أحمد في رواية ابن منصور. وخرَّج القاضي في الخلاف وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب رواية أخرى: أنه لا كفارة عليه, من إحدى الروايتين في الحد بوطء البهيمة؛ تخريجاً للكفارة على الحد. فإن قلنا: فيه الحد؛ ففيه الكفارة, وإن قلنا: فيه التعزيز؛ فلا كفارة فيه. ومنهم من أوجب الكفارة قولاً واحداً, وإن لم يوجب الحد, وهو قول

القاضي في «المجرد»؛ لأن سبب وجوب الكفارة أوسع من سبب وجوب الحد؛ بدليل أنها تجب في الإِنزال عن الوطء دون الفرج, والحد ليس كذلك. ويفطر بالجماع في هذه المواضع قولاً واحداً, سواء أنزل أو لم ينزل؛ لأنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم, وأوجب الكفارة؛ كجماع المرأة. وسواء كان الوطء بعقد نكاح أو شبهه أو ملك يمين أو زنى. ذكره أصحابنا. ويتوجه في الزنى. . . وجماع الميتة. . . . أما المباشرة فيما دون الفرج بقبلة أو جسّ أو وطء دون الفرج أو غير ذلك بحيث يمس بدنه بدن امرأة لشهوة, إذا لم ينزل بها؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة. وفي «زاد المسافر» رواية حنبل: إذا غشي دون الفرج؛ فعليه القضاء والكفارة. وفي «التعليق»: فأنزل. وإن انزل الماء الأعظم؛ فسد صومه. رواية واحدة. وفي الكفارة فيه ثلاث روايات: إحداهن: لا كفارة عليه كما ذكره الشيخ: إذا لامس امرأته, فأنزل وأنزلت, يقضي يوماً مكانه. هذا لم يجامع, إنما لمس فأنزل. وحمله القاضي على الجماع دون الفرج أيضاً. وظاهره أنه لم يجامع الجماع المعروف؛ لأن الوطء في الفرج يفارق غيره في ثبوت الإِحصان والإِحلال ووجوب الغسل بمجرده, والحد والمهر والعدة

والصهر اتفاقاً, وهو الاستمتاع التام, فلا يلزم من وجوب الكفارة فيه وجوبها فيما دونه. والثانية: عليه الكفارة. نقلها حنبل وأحمد بن إبراهيم الكوفي. وهي اختيار القاضي وأصحابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى الأعرابي بوجوب الكفارة لما أخبره أنه أصاب امرأته, ولم يستفصله كما استفصل الذي أقر بما يوجب الحد, والاستمتاع أفسد الصوم فأوجب الكفارة كالوطء. فعلى هذا إذا لمس صبياً. . . . والثالثة: إن جامع دون الفرج, فانزل فعليه الكفارة. فأما المعانقة والقبلة المباشرة؛ فلا كفارة فيه. نقلها الأثرم. وقال في رواية حرب: الجماع في الفرج وغير الفرج سواء, إذا أنزل فعليه الكفارة. وهي اختيار قدماء الأصحاب كالخرقي وأبي بكر وابن موسى. والجماع دون الفرج أن يباشرها بفرجه في موضع من بدنها على أي وجهٍ كان فيما ذكره ابن عقيل, سواء أولج بين فخذيها ونحوها من بدنها أو لم يولج. وفرق أحمد بين المجامعة دون الفرج وبين المعانقة, وقال: هو جماع؛ لأن استمتاعه فيما دون الفرج جماع, فأشبه الإِيلاج في الفرج. [فأما إذا مس امرأته, فأنزل وأنزلت؛ يقضي يوماً مكانه. هذا لم يجامع, إنما لمس فأنزل, وحمله القاضي على الجماع دون الفرج أيضاً, وظاهره أنه لم يجامع الجماع المعروف].

وإن استمنى بيده؛ فعليه القضاء دون الكفارة فيما ذكره أصحابنا, وفرَّق القاضي بينه وبين الإِنزال عن مباشرة أو نظر. وأما ابن عقيل؛ فخرجها على روايتين, وجعل النص على رواية التي تقول: لا يفطر بالإِنزال عن مباشرة, لا سيما إذا قلنا: الإِنزال عن دوام النظر يوجب الكفارة؛ فالاستمتاع أبلغ في إنزال الماء وتسكين الشهوة. والمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب في صائم وجد شهوة, فخشي أن يمذي, فجعل ينثر ذكره لكي يقطع المذي, فأدفق الماء الأعظم؛ فعليه القضاء دون الكفارة. وأخذ القاضي من هذا أن الاستمناء لا كفارة فيه. ويتوجه الفرق بين هذا وبين الاستمناء؛ فإن هذا لم يقصد إلا تكسير الذكر لئلا يخرج المذي؛ فأين هو ممن يستخرج المني؟ وكذلك لو حكَّ ذكره بشيء ناعم حتى أنزل؛ لأنه أنزل الماء الأعظم باختياره, ولأنه لم يستمتع. وإن أمذى بالمباشرة؛ فعليه القضاء دون الكفارة. نص عليه في رواية حنبل والأثرم. وربما ذكر بعض أصحابنا رواية حنبل: أن عليه القضاء والكفارة؛ لأنه جزء من المني يجري في مجاريه, ويخرج بأسبابه, وهو دونه؛ لأنه لم يكمل, ولا يحصل معه كمال لذة, فجعل فوق البول ودون المني؛ كما وجب به غسل الذكر والأنثيين, فأفسد الصوم ولم يوجب الكفارة. وكذلك إن أمذى بالعبث بذكره؛ فهو كما لو أمذى بالمباشرة. ذكره ابن أبي موسى.

وإن تساحقت امرأتان فأنزلتا؛ وجب القضاء. وفي الكفارة إذا كان عبثاً وجهان؛ كالروايتين فيمن باشر بالفرج فيما دونه. هذا قول ابن عقيل وغيره. وقال أبو محمد: يخرَّج الوجهان على أن جماع المرأة هل يوجب الكفارة؟ قال: وأصح الوجهين أنه لا كفارة عليهما؛ فإن أنزلت إحداهما؛ فحكمها كذلك. والمحبوب إذا ساحق النساء أو فاخذ الرجال فأنزل؛ فسد صومه. وفي الكفارة روايتان. فأما الخصي؛ فإنه بمجرد إيلاجه يفسد صومه وتجب الكفارة كما يجب عليه الحد. وأما النظر؛ فإن نظر الفجأة معفو عنها, فإن خرج منه الماء في عقبها؛ فلا شيء عليه. وإن تعمد النظر لشهوة؛ لم يحل له, وإن أنزل بذلك: فقال أبو بكر والقاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب وغيرهما: يفسد صومه ولا كفارة عليه, وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل في رجل نظر إلى امرأته في شهر رمضان لشهوة, فأمنى من غير أن يكون أحدث حدثاً غير ذلك؛ فعليه القضاء ولا كفارة؛ إلا أن يكون قبل أو لمس أو عمل عملاً يدعو إلى أنْ جاء الماء الدافق, فتجب عليه الكفارة. وقال الخرقي وابن أبي موسى وأبو محمد: إذا كرر النزر فأنزل؛ فعليه القضاء بلا كفارة. وكذلك ذكر القاضي في «المجرد» أنه لا يفسد صومه إلا إذا كرر النظر, فأما إن نظر ثم صرف بصره في الحال؛ فصومه صحيح, ويتخرَّج

على الحج. قال: لأنه أنزل بسبب لا يأثم فيه. فإن كرر النظر فأمنى؛ لزمه القضاء رواية واحدة؛ لأنه أنزل باستمتاع محرم, فأشبه الإِنزال بالمباشرة, وذلك لأن استدامة النظر تحت قدرته. 283 - قال جرير عن عبد الله البجلي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك». 284 - وعن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية».

وفي وجوب الكفارة روايتان منصوصتان: إحداهما: تجب عليه. وهو اختيار ابن عقيل؛ لأنه أنزل باستمتاع محرم, فأشبه الإِنزال عن الملامسة. والثانية: لا تجب عليه الكفارة, وهي اختيار أكثر أصحابنا. وإن أمذى بنظر؛ فقال أبو بكر وأبو حفص البرمكي: يفطر ولا كفارة عليه. وقال بعض أصحابنا: ظاهر كلامه أنه لا يفطر بذلك. وعلى الأول: هل يفطر بمطلق النظر المتعمد أم بالمستدام المتكرر؟ على وجهين. وأما إن تفكر في شيء حتى أنزل؛ فقال أحمد في رواية أبي طالب في

محرم نظر فأمنى؟ قال: عليه دم. قيل له: فإن ذكر شيئاً فأمنى؟ قال: لا ينبغي أن يذكر شيئاً. قيل: فوقع في قلبه شيء؟ قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء. فعلى هذا: إن غلبه الفكر لم يفطر؛ لأنه يصير كالإِنزال بالاحتلام, وهو لا يفطر إجماعاً؛ فإنه لا يدخل تحت قدرته. وأما إن استدعاه أو قدر على دفعه عن قلبه فلم يفعل؛ ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطر, وهو قول ابن أبي موسى, وذكر أن أحمد أومأ إليه والقاضي وأكثر أصحابه؛ بناءً على أنه من جنس ما لا يملك صرفه عن نفسه. والثاني: يفطر, وهو قول أبي حفص البرمكي وابن عقيل. حتى قال أبو حفص: من تفكر في شهوة, فأمذى, ليس عن أبي عبد الله فطور, ولكن يجيء والله أعلم أن يفسد صومه. وذكر ابن عقيل أن كلام أحمد يقتضيه؛ لأنه نهاه عن أن يذكر ذلك؛ لأن هذا إفطار بسبب من جهته, داخل تحت قدرته؛ فهو كالإِنزال بإدامة النظر؛ فإن التفكر يؤمر به تارة وينهى عنه أخرى؛ كما في الحديث. 285 - «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله».

قال ابن عقيل: فإن الصائم لو سألنا: هل يجوز أن أخلو بنفسي مستحضراً للصور الشهية وللفعل فيها والمباشرة؟ لأفتيناه بتحريم ذلك والمنع منه. وقال بعض أصحابنا: لا يحرم إذا وقع بأجنبية, ولا يكره إذا وقع بالزوجة؛ بخلاف المباشرة, وإن فكر فأمذى من غير أن يمس ذكره فهو كما لو أمنى. قال ابن أبي موسى والقاضي وغيرهما: لا يبطل صومه.

* فصل: ولا تجب الكفارة إلا في شهر رمضان

قال ابن أبي موسى: ويحتمل أن يبطل, وهذا قول أبي حفص. * فصل: ولا تجب الكفارة إلا في شهر رمضان, فلو جامع في القضاء أو النذر أو الكفارة؛ لم تجب عليه الكفارة. نص عليه. وتجب الكفارة بكل صوم في نهار رمضان, سواء كان ذلك اليوم مقطوعاً بأنه من رمضان أم لا, وسواء كان صومه مجمعاً على وجوبه أم لا. فلو رأى الهلال وحده, وردت شهادته, فصام, ثم وطئ؛ لزمته الكفارة؛ لأنه تيقن أنه من رمضان, وذلك لأن الكفارات لا تسقط بالشبهات كالحدود؛ فإنها ليست عقوبة, بل قد توجب محواً للخطيئة, وجبراً للفائت, وزجراً عن الإِثم. ولو وطئ في أول النهار, ثم مرض أو جُنَّ أو سافر أو حاضت المرأة؛ لم تسقط عنه الكفارة. نص عليه في رواية صالح وابن منصور. ونص في رواية ابن القاسم وحنبل على أنه لو أكل ثم سافر وحاضت المرأة؛ فإنهما يمسكان عن الطعام ويقضيان ذلك اليوم؛ لأنهما تعمدا الفطر بالمعصية. ولو وطئ في آخر يوم من رمضان, فتبين له أنه شوال؛ لم يكن عليه كفارة؛ لأنه تبين أن الصوم لم يكن واجباً عليه. ذكره القاضي. مسألة: فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية؛ فكفارة واحدة. وإن كفر ثم جامع؛ فكفارة ثانية.

وكل من لزمه الإمساك في رمضان, فجامع؛ فعليه كفارة

وكل من لزمه الإِمساك في رمضان, فجامع؛ فعليه كفارة. وجملة ذلك أنه تجب الكفارة في الصوم الصحيح والفاسد؛ فكل من وجب عليه الإِمساك؛ وجبت عليه الكفارة إذا جامع, وإن لم يكن معتداً به, مثل أن يأكل ثم يجامع, أو يترك النية ثم يجامع, أو يجامع ويكفر ثم يجامع. قال أحمد: إذا أكل ووطئ في رمضان؛ فعليه مع القضاء الكفارة للوطء, فإن كفر في يومه, ثم عاد؛ يكفر أيضاً؛ لأن حرمة اليوم لم تذهب, فإن فعل مراراً؛ فإنما عليه كفارة واحدة ما لم يكفر, فإذا كفر ثم وطئ؛ فعليه كفارة أخرى, وهو مذهبي, وذلك لأن هذا الإِمساك صوم واجب في نهار رمضان, فأوجب الكفارة؛ كالصوم الصحيح. ودليل الوصف: ما روى سلمة بن الأكوع؛ قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم: أن أذن في الناس أن من كان أكل؛ فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل؛ فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء» متفق عليه. ولأن الكفارة إنما وجبت لما انتهك من حرمة الزمان بالجماع فيه. ومن أكل ثم جامع, أو جامع ثانية بعد أولى؛ فهو أشد انتهاكاً للحرمة, وأعظم من الاجتراء على الله, وربما اتخذ هذا حيلة إلى إسقاط الكفارة بالجماع, ولأنها عبادة يجب إتمام فاسدها, فوجبت الكفارة فيه؛ كالحج الفاسد. وهذا لأن الله سبحانه قال في الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}

[البقرة: 196] وقال تعالى في الصوم: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وزمان الحج يتعين ابتداؤه بفعل المكلف, وزمان رمضان يتعين ابتداؤه وانتهاؤه بالشرع, وكلاهما لا يخرج منه بالإِفساد؛ بحيث لو أراد في الحج أن يصير بالوطء حلالاً يباح له المحظورات؛ لم يكن له ذلك, ولو أراد بالإِفطار في رمضان أن يباح له الإِفطار في سائر النهار؛ لم يبح له. ولو تبين له وجوب الصوم في أثناء النهار ببينة تقوم؛ أثيب على صيامه مع وجوب القضاء؛ فليس بينه وبين الإِحرام فرق, هذا فيمن ترك النية, مع العلم بوجوب الصوم, حتى لو افطر يوم الإِغماء وهو يعتقد. . . . فأما إن ترك النية لعدم العلم أنه من رمضان وأمسك؛ لم يلزمه الكفارة؛ لأنه ليس بإمساك مأمور به. وإذا علم في أثناء النهار أن اليوم من رمضان؛ فإنه يجب عليه الإِمساك على المذهب المعروف؛ فلو وطئ فيه؛ لزمته الكفارة. وإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو عقل المجنون أو طهرت الحائض أو قدم المسافر, وقلنا: يجب عليهم الإِمساك: فقال القاضي وابن عقيل: إذا وطئ؛ وجبت عليه الكفارة. والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: لا كفارة عليه. وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره. وحمل القاضي على ذلك الرواية التي لا يوجب فيها الإِمساك.

وقد قال في رواية حنبل في مسافر قدم في آخر النهار فواقع أهله قبل الليل: عليه القضاء والكفارة. فإذا وطئ مرات في يوم واحد, ولم يكفر؛ فكفارة واحدة, نص عليه. كما أنه لو أكل مرات في يوم؛ لم يجب عليه إلا قضاء يوم واحد. وإن وطئ في يومين ولم يكفر: فقال حرب: سئل أحمد عن رجل جامع في رمضان أساماً متتابعة: كم كفارة؟ قال: قد اختلف الناس في هذا. فلم يجبه. واختلف أصحابنا في ذلك: فقال ابن حامد والقاضي وأصحابه: عليه الكفارة لكل يوم وإن لم يكفر. وحكي هذا عن أحمد نفسه, حكاه ابن عبد البر؛ لأن كل يوم عبادة منفردة بنفسه, فلم يدخل كفارة أحدهما في كفارة الآخر؛ كما لو وطئ في رمضانين أو حجتين أو عمرتين, وذلك لأنه لا يفسد صوم أحدهما بفساد الآخر, ولا يجب أحدهما بوجوب الآخر؛ فإنه لو سافر في أثناء الشهر؛ فهو مخير بين الصوم والفطر, ولو أقام في أثنائه؛ لتحتَّم عليه الصوم, ويحتاج كل منهما إلى نية منفردة في المشهور من المذهب. وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يكفيه كفارة واحدة, وإن وطئ كل يوم؛ ما لم يكفر؛ لأن الكفارات بمنزلة الحدود في أنها عقوبات, والحدود بمنزلة الكفارات في أنها كفارات لأهلها, ثم لو زنى مرات أو شرب مرات أو سرق مرات؛ لم يجب عليه إلا حدٌّ واحد؛ فكذلك إذا أفسد عبادات. . . .

* فصل: ولا فرق في الجماع بين المعذور وغير المعذور

وإذا جامع في رمضانين أو في حجتين أو عمرتين. فقياس قول أبي بكر. . . . * فصل: ولا فرق في الجماع بين المعذور وغير المعذور؛ فلو وطئ ناسياً أو جاهلاً بوجوب الصوم لاعتقاده أنه واطئ في غير نهار رمضان, أو جاهلاً بأن الوطء يحرم في الصوم, مثل أن يعتقد أن الفجر لم يطلع, أو أن الشمس قد غربت, فجامع, ثم يتبين بخلافه, أو يجامع معتقداً أنه آخر يوم من شعبان, فتبين أنه من رمضان. . . . هذا أشهر الروايتين, ذكرهما أبو حفص وسائر الأصحاب, نقلها ابن القاسم والأثرم وحنبل وحرب. قال في رواية القاسم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: هلكت, وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «أعتق رقبة». ظاهره على النسيان والجهالة, ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم, إنما أفتاه على ظاهر الفعل. وهذا اختيار جمهور الأصحاب. والرواية الثانية: عليه القضاء دون الكفارة. قال في رواية أبي طالب: إذا وطئ ناسياً؛ يعيد صومه. قيل له: عليه كفارة؟ قال: لا.

وإذا كان عامداً؛ أعاد وكفَّر. وهذا اختيار ابن بطة. 286 - لأن الله قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان؛ بدليل قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] , فقال الله: قد فعلت. حديث صحيح. 287 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان».

ولأن الكفارة إن كانت لجبر الصوم؛ فإنه مجبور بالقضاء, وإن كانت لمحو الخطيئة أو عقوبةً للواطئ؛ فالناسي والجاهل لا إثم عليهما؛ بخلاف

كفارة القتل والصيد ونحوهما؛ فإنها وجبت جبراً لما فوته؛ فأشبهت ضمان الأموال. ومن أصحابنا من يحكي رواية ثالثة في الناسي والمكره: أنه لا قضاء عليه ولا كفارة. وكقول أحمد في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه الصائم؛ فليس عليه قضاء ولا كفارة. وقال أبو داوود: سمعته غير مرة لا ينقل له فيها قول. يعني: مسألة من وطئ ناسياً. ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالكفارة, ولم يستفصله: هل كان ناسياً أو جاهلاً؟ مع أن هذا الاحتمال ظاهر, بل هو الأظهر؛ فإن الرجل المسلم لا يكاد يفعل مثل هذا عالماً عامداً, لا سيما في أول الأمر, والقلوب مقبلة على رعاية الحدود, والجهل بمثل هذا خليق أن يكون في الأعراب؛ فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. وليس في قوله: «هلكت»: ما يدل على أنه فعل ذلك عالماً عامداً؛ لجواز أنه لما ذكر أو أخبر أن هذا محرم في الصيام؛ خاف أن يكون هذا من الكبائر,

وقد كانوا يخافون مما هو دون هذا. 288 - كما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أتيت اليوم أمراً عظيماً, قبلت وأنا صائم».

ولهذا لم يعتبه النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يلمه كما لام سلمة بن صخر لما جامع بعد الظهار, وكما لام الذي جامع امرأته ليلة الصيام قبل أن يبيح الله الرفث ليلة الصيام, ومثل هذا لا بد فيه على العامد العالم من تعزيز أو توبيخ؛ فهذه قرينة تبين أن الرجل قد كان له بعض العذر في هذا الوقاع. ولأنها كفارة وجبت بالوطء مع العمد فوجبت بالسهو؛ ككفارة الوطء في الظهار والإحرام. ولأن الوطء في الشرع يجري مجرى الإِتلاف؛ بدليل أنه لا يخلو من غرم أو حدٍّ أو غرم وحد, وباب الإِتلاف يستوي فيه العمد والخطأ؛ كالقتل للإِنسان والصيد والحلق والتقليم. وإذا اعتقد أنه آخر يوم من شعبان, فجامع فيه, ثم تبين أنه من رمضان؛ فإنه يمسك ويقضي, ولم تجب عليه الكفارة هنا. ذكره ابن عقيل. لأنه لم ينو صومه على وجه يعذر فيه, والكفارة إنما تجب بالوطء في إمساك واجب؛ بخلاف من أكل فإنه مأمور يظنه ليلاً فبان نهاراً؛ فإنه مأمور بالإِمساك ذلك الجزء, والاحتياط فيه مشروع, وهو داخل في ضمن اليوم الذي نواه, ولهذا لا يفرد بنية. وإذا أكل ناسياً, فظن أنه قد أفطر, فجامع, أو ذرعه القيء, أو قطر في إحليله, ونحو ذلك, فظن أنه قد أفطر, فجامع. فقال بعض أصحابنا: في وجوب الكفارة وجهان؛ لأنه مثل الجاهل والناسي.

وكذلك قال القاضي: قياس المذهب أن الكفارة تجب عليه؛ لأن أكثر ما في هذا ظنه إباحة الفطر, وهذا لا يسقط الكفارة؛ كما لو وطئ يظن أن الفجر لم يطلع؛ فإن الكفارة لا تسقط هناك على المنصوص. فعلى هذا: إذا قلنا هناك: إنه لا كفارة عليه. . . . وإن وطئ يعتقد أنه آخر يوم من شعبان, ثم بان أنه أول يوم من رمضان. والصواب: أن هذا تجب عليه الكفارة قولاً واحداً؛ لأن أكثر ما فيه أنه وجب عليه, وكل مفطر وجب عليه الإِمساك إذا جامع؛ لزمته الكفارة عندنا؛ فإنه ليس معذوراً بالجماع؛ كما لو أكل عمداً, ثم جامع؛ لزمته الكفارة. نص عليه. اللهم؛ إلا أن يعتقد جواز الأكل والوطء, فيلحق [بالمعذور]. فإن قيل: أما إيجاب القضاء على الجاهل؛ فهو القياس؛ لأنه لو أكل جاهلاً؛ للزمه القضاء؛ فالواطئ أولى. وأما إيجابه على الناسي؛ فهو مخالف لقياس الصوم؛ فإن الأكل ناسياً لا يفطر الصائم. قلنا: الفرق بينهما أن الأكل بالنهار معتاد؛ فالشيء الخفيف منه ما قد يفعله الصائم لنسيانه صومه فعذر فيه. أما الجماع؛ فأمر عظيم, وليست العادة فعله في النهار؛ فوقوعه مع النسيان إن وقع نادر جدّاً.

289 - وهذا معنى ما ذكره ابن جريج؛ قال: «كنت إذا سألت عطاء عن الرجل يصيب أهله ناسياً, لا يجعل له عذر, يقول: لا ينسى ذلك ولا جهله». فيأبى أن يجعل له عذراً, لا سيما. . . . وأما مقدمات الجماع التي لا توجب الكفارة مثل القبلة واللمس والنظر إذا فعلها ناسياً فأمنى أو أمذى: فقال أصحابنا: هو على صيامه, ولا قضاء عليه. لأنه أمر يوجب القضاء فقط, ففرقٌ بين عمده ونسيانه؛ كالآكل. فعلى هذا: ما أوجب عمده الكفارة؛ أوجب سهوه القضاء في المشهور, وفي الكفارة الخلاف المتقدم, وما أوجب عمده القضاء فقط؛ لم يُبطل الصوم سهوه؛ لأن ما أوجب جنسه الكفارة؛ تغلظ جنسه فألحق بالجماع, بخلاف ما لا يوجب إلا القضاء فقط؛ فإنه كالأكل. وإن أكره الرجل على الجماع: فقال ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيل وغيرهم: عليه مع القضاء الكفارة قولاً واحداً؛ بخلاف الناسي؛ لأن الجماع لا يتأتَّى إلا مع حدوث الشهوة, ولهذا وجبت الكفارة على المكره على الزنا في المنصوص؛ لأنه لا يطأ حتى ينتشر, ولا ينتشر إلا عن شهوة.

* فصل: وأما المرأة؛ فلا تخلو: إما أن تكون مطاوعة, أو مستكرهة

قال ابن عقيل: وإن كان منتشر العضو, فاغتفلته امرأة, ووقعت عليه, فغلبته, واستدخلت عضوه؛ فلا كفارة عليه هنا؛ لعدم العلة, وفي إفساد الصوم وجهان. وذكر أبو الخطاب وغيره فيه الروايتين في الناسي. وإن استدخلت ذكره وهو نائم: فقال القاضي: لا يفطر؛ لأنه كالمحتلم, لم يصدر منه فعل ولا لذة. وهذا قياس قول من يفرق بين النائمة والمكرهة, وليس هو قول القاضي. وذكر ابن عقيل وجهاً أنه يفطر؛ قال: كما لو جرع الماء؛ كان فيه الروايتان, والأشبه أن لا يبطل؛ كما لو قُطِّرَ في حلقه وهو نائم. قال ابن عقيل: فإن كشفته واستيقظت عضوه بان عبثت به حتى انتشر, ثم استدخلته؛ أفطرا جميعاً, ولا كفارة عليه. وهل عليها كفارة؟ على روايتين, وكأنه جعله في هذه الصورة مكرهاً, فيكون كقول أبي الخطاب. وقال غيرهما: ظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء؛ لأن القضاء وجب على المرأة المغصوبة على نفسها فالرجل أولى. وهذا أصح؛ فإن المقهور على نفسه أقوى من المقهورة على نفسها, والنائم أقوى من النائمة. * فصل: وأما المرأة؛ فلا تخلو: إما أن تكون مطاوعة, أو مستكرهة: فإن كانت مطاوعة في الصيام أو الإِحرام؛ ففيها ثلاث روايات:

إحداهن: أن عليها الكفارة فيهما. وهي المنصورة عندهم مثل أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه. قال في رواية ابن إبراهيم في الرجل يستكره امرأته على الجماع: ليس عليها كفارة وعليه, وإذا طاوعته؛ فعليها وعليه كفارة, كفارة في الصوم. ونقل عنه إسحاق بن إبراهيم ويعقوب بن بختان في المحرمة إذا وطأها: عليها الهدي. والثانية: لا كفارة عليها. نقله عنه أبو داوود وأبو الحارث ومهنا والمروذي: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان. فعلى هذا تجب الكفارة عليه وحده, وليس عليها كفارة يتحملها الزوج عنها, وتعتبر الكفارة بحاله في الحرية والعبودية, واليسر والعسر, وغير ذلك. ونقل عنه ابن منصور في الذي يصيب أهله مهلاَّ بالحج: يحجان من قابل ويتفرقان, وأرجو أن يجزيهما هدي واحد. فمن أصحابنا من يجعل هذا رواية واحدة في أنه لا كفارة عليها, وإنما الكفارة عليه وحده. ومنهم من يجعل هذا رواية أخرى بأن الكفارة الواحدة تكون عليهما في مالهما وتجزئ عنهما. وهل تجب عليهما في مالهما؟ أو في ماله وتقع عنهما, أو في ماله وتقع عنه وحده؟ فعلى هذا: إن كفر بالصوم؛ لزم كل واحد منهما صوم شهرين.

والثالثة: عليها الكفارة في الحج دون الصوم. فقال في رواية أبي طالب: ليس على المرأة كفارة, إنما هي على الرجل؛ إلا أن يكونا محرمين, فيكون عليهما كفارة. كذا قال ابن عباس, ولم أسمع على المرأة هدي إلا في الحج. ولهذا أكثر نصوصه في الحج بالوجوب, وفي الصوم بعدمه, وذلك لأن الذي واقع أهله في رمضان؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً؛ في معرض جواب سؤاله عن هذه الواقعة, فعلم أنه لا يجب في الجماع شيء غير هذا؛ لأنه لو كان؛ لذكره؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, ولأن السؤال كالمُعاد في الجواب؛ فتقديره: من أصاب امرأته في رمضان فعليه هذه الكفارة. ولو قيل مثل ذلك؛ لدل على أن هذا جزاء هذا الفعل ولا شيء فيه غير ذلك. 290 - ولهذا لما قال له ذلك الرجل: إن ابني كان عسيفاً على هذا, وإنه زنى بامرأته, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على ابنك جلد مئة وتغريم عام, واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت؛ فارجمها». فذكر في الحد حكم الواطئ والواطئة, وفي الكفارة اقتصر على حكم الواطئ فقط. 291 - وفي الحج: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم المتجامعين أن يهديا هدياً».

292 - 293 - وكذلك عمر وعلي. ولأن الكفارة هنا إنما وجبت لأجل الإِصابة والوقوع على المرأة وجماعها, والجماع إنما يفعله الرجل وحده, وإنما المرأة ممكنة من الفعل ومحل له,

والكفارة لم توجب لذلك, ولأن الجماع فعل واحد لا يتم إلا بهما, فاجزأت فيه كفارة واحدة؛ لأن تعدد. . . , ولأنه حق مالي يجب بالوطء؛ فاختص بوجوبه [على] الواطئ كالمهر في وطء الشبهة. وهذا لأن الأصل فعل الرجل, والمرأة محل فعله, فاندرج فعلها في فعله, وصار تبعاً له؛ كما تدخل دية الأطراف في دية النفس, وكما لو جامع مرة ثم مرة ولم ينزل, وكما لو قبَّل المحرم ثم أولج, ولأنها كفارة تجب بالوطء, فاختصت بالرجل دون المرأة؛ ككفارة الظهار, أو نقول: إصابةُ فرجٍ حرم لعارض, فاختصت كفارته بالرجل؛ كإصابة المظاهر منها. فعلى هذا لو لم تجب الكفارة على الرجل بأن تستدخل ذكره وهو نائم, أو تستدخل ذكر مجنون أو صبي؛ فإنه بطل صومها. هكذا ذكره القاضي وابن عقيل. وهل تجب الكفارة؟ على روايتين. فيما إذا وطئها الرجل. ذكره القاضي وابن عقيل. وكذلك لو وطئها وهو مسافر أو مريض, وهي مقيمة صحيحة؛ ففي الكفارة عليها الروايتان. ومن فرق بين الحج والصوم؛ قال: إن الحج جاء في الأثر عن ابن عباس, والصوم بخلافه, ولأن الحج أغلظ؛ فإن الكفارة تجب فيه بالقبلة والمباشرة وإن لم ينزل

ولأن حرمة الحج متعددة بالنسبة إليهما فإن كل منهما يصير حراماً بإحرام يعقده لنفسه؛ فإذا جامع؛ فقد هتك إحراماً منفصلاً عن إحرام غيره, وهنا الحرمة للشهر الذي يوجب صومه, لا لنفس الصوم المجزئ, ولهذا تجب الكفارة سواء كان صائماً أو مفطراً إذا كان الإِمساك واجباً عليه, ولا تجب إلا في شهر رمضان, وحرمة الشهر واحدة يشملها؛ فإذا هتكاها؛ فإنما هتَّكا حرمة واحدة, فأشبه ما لو اشتركا في قتل صيد. ولأن الكفارات في الحج تجب مع الانفراد والاشتراك كما تجب بالحلق واللبس؛ فإذا وقع الاشتراك؛ جاز أن يجعلا في حكم المنفردين, وهنا لا تجب إلا بالفعل المشترك. فعلى هذا, لو استدخلت ذكر نائم أو مكنت من نفسها مجنوناَ أو مسافراَ ونحوه. . . . وذكر ابن عقيل في موضع آخر أن الوطء إذا تردد بين اثنين لا تجب الكفارة على أحدهما, ووجبت على الآخر وحده؛ كالمسافر إذا وطئ. ووجه الأول: أن المرأة هتكت حرمة شهر رمضان بالجماع, فوجبت الكفارة عليها كالرجل, وذلك لأنها إذا طاوعته على الجماع؛ كان كل منهما فاعلاً له ومشاركاً فيه, وإن جاز أن ينفرد أحدهما به إذا استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم؛ فما وجب عليه لله من الكفارة والعقوبة وغير ذلك وجب عليها مثله. ولهذا يجب الحدُّ عليها كوجوبه عليه, وتفطر بهذا الجماع كما يفطر هو, وتستحق العقوبة في الآخرة كما يستحقه, وتسمى باسمه, فيقال: زان وزانية,

ويسمى جماعاً وحلامة ومباشرة, وصيغة الفعال والمفاعلة في الأصل إنما تكون بين شيئين يفعل كل منهما بصاحبه ما يفعل الآخر به؛ كالقتال والخصام. ولهذا؛ لو استدخلت ذكره وهو نائم؛ وجبت الكفارة. ذكروا فيه الروايتين, ولأنها كفارة, فوجبت على كل واحد منهما؛ كالحد؛ فإن الحدود كفارات لأهلها. وهذا لأن الكفارة ماحية من وجه وزاجرة من وجه وجابرة من وجه, والمرأة محتاجة إلى هذه المعاني حسب احتياج الرجل. ولا يصح التفريق بأن الكفارة في المال, والحد على البدن؛ لأن من الكفارات ما هو على البدن, وهو الصيام. وكذلك لو حلف كل منهما لا يجامع الآخر؛ كان على كل منهما كفارة [إذا] حنث كل منهما في يمينه؛ كهتك كل منهما لحرمة صومه وإحرامه. وأما حديث الأعرابي؛ فقد أجاب أصحابنا عنه بوجوه: أحدها: أن بيانه لحكم الأعرابي بيان لحكم مَنْ في مثل حاله؛ إذ من المعلوم أنها تشاركه في الجماع فتشاركه في حكمه, ولهذا لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء والاغتسال, وقد أمر الأعرابي بالقضاء؛ لعلمه بأن حكمها حكمه, فما حمل عليه ترك ذكر القضاء؛ حمل عليه ترك ذكر الكفارة. ثانيها: أن هذه قضية في عين, فلعل المرأة كانت مكرهة أو نائمة؛ فإنه قد. . .

294 - روي في بعض الألفاظ: أنه قال: «هلكت وأهلكت». رواه الدارقطني.

ونسبة الإِهلاك إليه وحده, وإن كان يحتمل التسبب والدعاء إلى الفعل, لكنه ظاهر في انفراده بالإِهلاك, وسماه إهلاكاً للمرأة؛ لتفطيرها وإيجاب القضاء عليها. وثالثها: أن المرأة كانت غائبة, ولم تستفه, وإنما سأله الأعرابي عن حكم نفسه فقط, فلم يجب بيان حكم المرأة, وإنما بينه في قصة العسيف؛ لأن له أن يبينه وألاّ يبيِّنه؛ فإن الزيادة على السؤال جائزة. 295 - كقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

ثم الفرق بينهما: أن في قصة العسيف حضر زوج المرأة, وكان سائلاً عن حكمها؛ كما حضر أبو العسيف يسأل عن حكم ابنه. ثم حكم الرجل في الزنى كان مخالفاً لحكم المرأة؛ فإن حدّها كان الرجم, وحدُّه الجلد, فلم يكن بيان أحدهما بياناً للآخر؛ بخلاف الجماع. ثم الحدُّ حق الله, يجب استيفاؤه على الإِمام؛ بخلاف الكفارة؛ فإنها حق فيما بين العبد وبين ربه. ورابعها: أن الرجل أقر بما يوجب الكفارة, والمرأة لم تقر بذلك, وقوله غير مقبول عليها. وخامسها: أنه يمكن أنه ذكر حكمها فلم ينقل, ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم أراد ذكر حكمها فشغل عنه؛ فإنه عدم محض, والعدم المحض لا دلالة فيه. وأما قياس هذا على الظهار؛ فلا يصح, لأنها إن كانت مظاهرة منه كما هو مظاهر منها؛ وجبت الكفارة على كل منهما, وإن لم تكن هي مظاهرةً, وقلنا: إنه لا كفارة عليها بظهارها منه؛ فلأن سبب وجوب الكفارة - وهو الظهار-مختص به, كما لو حلف لا يطأها؛ فإن كفارة اليمين تجب عليه خاصة, وكما لو كان هو وحده محرماً أو صائماً؛ فإنه لا ينبغي أن تمكنه من نفسها؛ لما فيه من إعانته على المعصية, ولأن فرجها حرام عليه في هذه الحال, ثم لو مكَّنته؛ لم تجب الكفارة إلا عليه؛ لأنها هي ليست محرمة ولا صائمة.

* فصل: وإن كانت مستكرهة

* فصل: وإن كانت مستكرهة بأن يضطجعها ويطأها, ولا تقدر أن تمتنع منه, أو يقيدها ونحو ذلك؛ فسد صومها. نص عليه في رواية مهنا في محرمة غصبها رجل نفسها فجامعها وهي كارهة؛ قال: أخاف أن يكون قد فسد حجها. فقيل له: فإن غصبها رجل نفسها وهي صائمة فجامعها؟ قال: هو كذلك. وفي لفظ: إذا أكرهها فوطئها؛ فعليها القضاء. قلت: وعليها الكفارة؟ قال: لا. قلت: فإن كانت اشتهته؟ قال: لم أسمع على المرأة كفارة. وهذا قول ابن أبي موسى والقاضي وأكثر أصحابنا. وعنه: لا يفسد. ذكرها أبو الخطاب وابن عقيل. قال في رواية ابن القاسم في الرجل يتوضأ فيسبقه الماء فيدخل حلقه: لا يضره ذلك, وكذلك الذباب يدخل حلقه, والرجل يومئ بالشيء فيدخل حلق الآخر, وكل أمر غلب عليه الصائم؛ فليس عليه قضاء ولا غيره. فإن هذا يقتضي أنه لا يفسد الصوم بالإِكراه على الجماع؛ لقوله: «ليس عليه قضاء ولا غيره» , وغير القضاء هي الكفارة, وإنما تجب الكفارة في الجماع, فعلم أنه إذا غلب على الجماع؛ لم يكن عليه قضاء ولا غيره. وهذا اختيار ابن عقيل؛ لأن الله تعالى عفا للأمة عما استكرهوا عليه, ولأن هذه المرأة لم يصدر منها فعل ألبتة. ولهذا لا يجب عليه حدٌّ ولا إثم ولا تعزير ولا ضمان؛ فإنه لو ألقى إنسانٌ إنساناً على آخر, فقتله؛ لم يضمنه؛ فإذا لم يجب الضمان مع وجوبه مع السهو وغيره؛ فأن لا يفسد العبادة أولى.

ولأنه لو حلق رأس محرم أو قلم ظفره بغير اختياره؛ لم يكن عليه جزاء؛ فكيف يفسد إحرامه وصيامه بذلك؟! فعلى هذا: إن أكرهت بالضرب أو الحبس أو الوعيد, حتى اضطجعت أو مكَّنت؛ ففيه وجهان كالوجهين فيما إذا أكره حتى أكل بيده. ووجه الأول: أنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم والحج؛ كجماع المطاوِعَة, ولأنها عبادة تبطل بجماع المختارة فبطلت بجماع المستكرهة كالطهارة؛ إلا أن الأسباب الموجبة للوضوء لا تفريق بين عمدها وسهوها؛ بخلاف الأسباب المفسدة للإِحرام, ولأن الجماع يشبه الإِتلاف. . . . فعلى هذا لا كفارة عليها. نص عليه في الصائمة في رواية مهنا, وفي المحرمة المستكرهة في رواية ابن إبراهيم ويعقوب بن بختان وحنبل. وفرق بينها وبين المطاوعة. وسواء قلنا: تجب الكفارة على الناسي والجاهل والرجل والمكره أو لا تجب في المشهور عند أصحابنا. قال القاضي في «المجرد»: لا كفارة عليها روايةً واحدةً؛ لأن المكره لا فعل له, ولهذا لو أكره على قتل الصيد وإتلاف مال الغير؛ لم يكن عليه ضمان, وإنْ وجب الضمان على الناسي. وذكر القاضي في خلافه فيها روايتين: إحداهما: كذلك. والثانية: عليها الكفارة كالناسي والجاهل.

وقد نص أحمد في رواية الأثرم: إذا أكرهها في الحج؛ على كل واحد منهما هدي. ولا ترجع به عليه على هذه الرواية كالناسي. وقال ابن أبي موسى: قيل: عنه كفارة ترجع بها عليه؛ لأنه حق لزمها بسببه, فكان استقراره عليه؛ كما لو أكره رجلاً على إتلاف المال أو غرَّه في نكاح أو بيع أو غيرها أو حلق رأس المحرم بغير اختياره؛ فإن ضمانه عليه. والإِكراه الذي لا ريب فيه أن يقهرها على نفسها, وسواء كان إكراه غلبة مثل إنْ قهرها على نفسها, أو كان إكراه تمكين مثل إنْ ضربها حتى مكَّنت من نفسها؛ فالحكم سواء. هذا قول القاضي وأبي الخطاب. فعليها الكفارة هنا؛ لأن لها فعلاً صحيحاً وقصداً واختياراً, وإن كانت معذورةً فيه؛ فإن العذر لا يمنع وجوب الكفارة؛ كالنسيان والجهل. لأنه لو دفعه على إنسان فقتله؛ لم يكن على المدفوع دية ولا كفارة, ولو أكرهه حتى قتله؛ لوجب عليه دية القود, وكان هذا الفعل محرماً بالإِجماع. وعلى الوجهين متى قدرت على الدفع عن نفسها, فلم تفعل؛ فهي كالمطاوعة. وإن مانعته في أول الفعل, ثم استلانت في أثنائه؛ فهي كالمطاوعة؛ لأن استدامة الوطء كابتدائه في إيجاب الكفارة؛ بدليل مَنْ طلع عليه الفجر وهو مجامع. هكذا ذكره ابن عقيل. فأما إن وطئها وهي نائمة, ولم تستيقظ إلا بعد مفارقته للفعل: فقال ابن أبي موسى: ليس عليها قضاء ولا كفارة, وعليه القضاء والكفارة قولاَ واحداً؛ لأنها لم تشعر بالجماع, ولم تجد طعمه, ولم تذق عسيلته.

قال: وقال بعض أصحابنا: عليها القضاء وجهاً واحداً؛ يعني: كالمستكرهة؛ فإنه لم يذكر فيها خلافاً, وعليها الكفارة في أحد الوجهين, ترجع بها عليه. هذا قول القاضي وأصحابه, لا فرق عندهم بين النائمة والمستكرهة. قال القاضي: قياس المذهب أنها تفطر؛ كما لو أكرهها على الوطء أنها تفطر؛ بخلاف ما لو أكره على الأكل, أو أكل وهو نائم؛ فإنه لا يفطر؛ كالناسي إذا أكل وأولى؛ لأن أكثر ما فيه أنها جومعت بغير اختيارها, فأشبه المقهورة, ولأنه جماع يوجب الغسل, فأفسد الصوم كسائر أنواع الجماع. قال ابن أبي موسى: ولو ألزمناه كفارتين عنه وعنها؛ كان وجهاً. فعلى هذا يطالب هو بالتكفير؛ كما قلنا فيمن حلق [رأس] محرم وهو نائم. وعلى الوجه الذي نقول فيه: ترجع عليه بالكفارة, تطالب هي بها, وترجع عليه. وإن لم تمكنه؛ فهي كالمستكرهة؛ لأنها تشعر بالجماع. قال ابن أبي موسى: عليها القضاء والكفارة, ترجع بالكفارة عليه؛ فإنه على الرواية التي توجب الكفارة على المستكرهة. وأما الموطوءة بعذر غير الاستكراه؛ مثل الناسية والجاهلة والممكنة تظنه ليلاً فبان نهاراً ونحو ذلك: فذكر أبو الخطاب أنه يفسد صومها, ولا يلزمها الكفارة مع العذر, والعذر

الإِكراه والنسيان, وسوّى بين الأعذار, وألحق المكرهة بالناسية, وجعل في الرجل المعذور روايتين. وخرَّج بعض أصحابنا وجهاً: أنه لا يفسد صومها أيضاً. لأن ما لا يوجب الكفارة لا يفسد الصوم مع النسيان؛ كالأكل. وأما المنصوص عن أحمد, والذي ذكره عامة الأصحاب: الفرق إنما هو بين المطاوعة والمستكرهة فقط, وأن المطاوعة إذا نسيت أو جهلت؛ فإنها كالرجل سواء. وقد صرح القاضي بالفرق بين الناسية والمستكرهة. وهذا أصح؛ لأنه لا فرق بين عذر المرأة وعذر الرجل في غير الاستكراه, وإنما فرق بينهما في الاستكراه؛ لأن المرأة لا فعل لها هنالك, ولأن الرجل يمتنع إكراهه على الجماع. . . . وإذا وطئ أمته مطاوعة, [وأوجبنا] الكفارة؛ كفَّرت بالصوم. وإن استكرهها؛ فقال ابن أبي موسى: الكفارتان عليه. وهذا إذا قلنا: لا كفارة على المستكرهة؛ فيحتمل أن تكون كذلك؛ لأنها إنما سقطت عنها تخفيفاً, وهنا تجب ابتداءً على السيد, وليس أهلاً للتخفيف عنه. وإن قلنا: تجب عليها, ولا يحلها عنها على الرواية التي ذكرها القاضي. . . .

* فصل: إذا جامع ونزع قبل الفجر, ثم أمنى بذلك بعد طلوع الفجر

والموطوءة في الدبر كالموطوءة في القبل في لزوم الكفارة, ذكره القاضي. وعلى قياسه المفعول به لواطاً؛ لأنهما يشتركان في الإِفطار بذلك, ووجوب الحدّ به؛ فكذلك في لزوم الكفارة له. ويتوجه: أن لا كفارة بهذا, لأنه لا شهوة لها فيه. فأما المستمتع بها من مباشرة أو وطء دون الفرج إذا أنزلت الماء؛ فإنها. . . . * فصل: إذا جامع ونزع قبل الفجر, ثم أمنى بذلك بعد طلوع الفجر؛ فصومه صحيح. لأن أكثر ما فيه خروج المني بغير اختياره, وخروج المني بغير اختياره لا يفطره؛ كالاحتلام. وإن شك هل نزع قبل الفجر أو بعده. . . . وإن طلع عليه الفجر وهو مولج, وعلم به, واستدام الجماع؛ فهو مفطر, وعليه الكفارة. قال ابن أبي موسى: إن تحرك لغير انتزاعه؛ فعليه مع القضاء الكفارة قولاً واحداً؛ لأن استدامة الجماع بمنزلة ابتدائه. ولهذا؛ لو حلف لا يجامعها, وهو مجامعها, فاستدام الجماع؛ حنث. وأما إذا طلقها ثلاثاً وهو مولج, فاستدام ذلك؛ هل يجب عليه الحد

والمهر؟. . . . ولو أحرم وهو مجامع, فاستدام الجماع؛ فسد إحرامه. ولأن صومه يفسد بهذه الاستدامة بالإِجماع, ولولا أنَّ استدامة الجماع جماع؛ لم يفسد به الصوم. وإذا كان جماعاً, وقد وجد في نهار رمضان؛ وجبت به الكفارة كغيره. فإن قيل: لكن هذا الجماع لم يبطل به صوماً, وإنما منع صحة الصوم, والكفارة إنما تجب لإِفساد الصوم. قيل: لا فرق عندنا بين جماع الصائم وجماع المفطر في نهار رمضان, بل كل جماع وُجد ممن يجب عليه الإِمساك؛ ففيه الكفارة. وأيضاً؛ فإنه لا فرق فيما يبطل العبادات بين المقارن والطارئ, ولهذا استويا في وجوب القضاء, ولأن منع صحته في هتك الحرمة بمنزلة إبطاله بعد انعقاده وأشد؛ لأنه هناك أفسد بعض الصوم, وهنا أبطل جميعه. وإن استدام الجماع بعد طلوع الفجر, ولم يعلم, ونزع قبل أن يعلم؛ وجب عليه القضاء والكفارة في إحدى الروايتين. نقلها عبد الله. وفي الأخرى: عليه القضاء بلا كفارة. وقد تقدم ذلك. فإن قلنا: لا كفارة عليه فنزع حين علم؛ ففي الكفارة روايتان, ويقال: وجهان؛ كما سيأتي. وإن طلع عليه الفجر, وهو مخالط أصل ذكره, فنزع حين طلع, وأمكن ذلك برعايته للفجر, أو بإخبار مخبر حين طلوعه, أو بأنه حين تبين له طلوعه؛

نزع: قال ابن أبي موسى: لم يتحرك بغير انتزاعه, ولم يتيقن أنه استدام الجماع بعد طلوعه. ففي هذه المواضع لم يوجد منه استدامة الجماع بعد طلوع الفجر وبعد استيقانه طلوع الفجر, وإنما وجد النزع. فقال ابن أبي موسى: عليه القضاء قولاً واحداً, وفي الكفارة عنه خلاف. وخرَّجها القاضي على وجهين بناء على الروايتين في النزع: هل هو وطء أم لا؟ وفيه روايتان. نص عليهما فيمن قال لامرأته: إن وطأتك؛ فأنت عليَّ كظهر أمي, ومثله: إن وطأتك؛ فأنت طالق ثلاثاً: هل يجوز له وطأها؟ على روايتين؛ لأن النزع يقع بعد انعقاد الظهار والطلاق. ولو حلف وهو مجامع: لا وطئتك, فنزع في الحال؛ لم يحنث؛ لأنه إنما يحلف على ترك ما يقدر عليه, ولأن مفهوم يمينه لا استدمت الجماع. . . إحداهما: هو جماع فعليه القضاء والكفارة. قاله ابن حامد والقاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي جعفر وابن عقيل في «الفصول» , وقد قال أحمد في رواية حنبل: إذا كان واطئاً, فطلع الفجر؛ نزع وعليه القضاء والكفارة. لأن النزع جماع؛ بدليل أنه يلتذ بالإِيلاج والانتزاع. نعم؛ هو معذور في هذا الجماع؛ فإنه لا يقدر على ترك الجماع إلا بالنزع, فيكون بمنزلة من استدام الجماع بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم.

والثاني: لا قضاء عليه ولا كفارة. وهو اختيار أبي حفص العكبري وابن عقيل في «خلافه». وهذا ينبني على أصلين: أحدهما: أن النزع ليس بجماع, بل هو ترك كخلع القميص والخروج من الدار. والثاني: أنه وإن كان جماعاً, لكنه مغلوب عليه؛ فلا تجب عليه الكفارة على إحدى الروايتين, وكما لو أوجب الله عليه في هذه الحال أن يترك الجماع؛ فإن تركه إنما يجب بطلوع الفجر. وعلى هذا: لو أولج في جزء من الليل, وهو يتيقن أن الفجر يطلع عليه وهو مولج, ونزع عقب طلوعه, وتصور ذلك؛ وجبت عليه الكفارة على مقتضى كلام ابن عقيل, وهو بمنزلة المقهورة على الوطء, وتلك لا تجب عليها الكفارة في ظاهر المذهب؛ لأنه تعمد أن يفعل النزع في نهار رمضان. وعلى المأخذ الأول: لا كفارة عليه؛ كالمتعمد أن ينزع في فرج المطلقة والمظاهر منها. وعلى الرواية التي ذكرها ابن أبي موسى: يجب القضاء دون الكفارة؛ لأن النزع جماع هو فيه معذور, فيجب القضاء دون الكفارة؛ كالرواية فيمن جامع يظنه ليلاً, فتبين أنه نهاراً. فعلى هذه الرواية: إن تعمد الإِيلاج في وقت يتيقن أن الفجر يطلع عليه فيه؛ لزمته الكفارة.

* فصل: ولو احتلم الصائم في النهار في المنام

* فصل: ولو احتلم الصائم في النهار في المنام؛ لم يفطر. وإن أصبح جنباً من احتلام أو جماع؛ فصومه صحيح, لكن عليه أن يغتسل ويصلي؛ فإن لم يفعل؛ فعليه إثم ترك الصلاة, وصومه صحيح, وكذلك المرأة إذا طهرت قبل الفجر. نص على ذلك كله, وأنكر على من خالفه, وذلك لقوله سبحانه: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. . .} الآية [البقرة: 187] , فأباح المباشرة, وهي الجماع إلى أن يبين الفجر, ومعلوم أن من جامع إلى ذلك الوقت؛ فإنه يصبح جنباً. 296 - وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يصبح جنباً من غير احتلام, ثم يصوم في رمضان». رواه الجماعة إلا النسائي. 297 - وعن عائشة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم». فقال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله؛ إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي». رواه مسلم وغيره.

مسألة: ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر؛ فليس عليه غيره, وإن فرط؛ أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا

مسألة: ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر؛ فليس عليه غيره, وإن فرط؛ أطعم مع القضاء لكل يوم مسكيناً. في هذا الكلام فصلان: أحدهما: أنه يجوز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان, وهو مؤقت بين الرمضانين, يقضي متى شاء, إلى أن يدخل شهر رمضان, وسواء كان قد أفطر لعذر أو لغير عذر فيما ذكره أصحابنا. 298 - لما روي عن عائشة؛ قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان, فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان, وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الجماعة. وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان فكانت تقضيه في شعبان. قال أبو عبد الله: يقضي رمضان كيف شاء, إن شاء متوالياً, وإن شاء متفرقاً, كيف تيسر, ليس هو محدود, إنما هو دين. ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً, إن كان فاته متتابعاً, وإن فاته متفرقاً. . . .

وإن قضاه مفرقاً؛ جاز ولم يكره. وعنه: هما سواء؛ لقوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] , ولم يقيدها بالتتابع, فيجب أن تحمل على الإِطلاق؛ كالمطلقة في قوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 195]. 299 - قال أحمد: قال ابن عباس في قضاء شهر رمضان: «صم كيف شئت, قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}». ولأنه يريد اليسر بعباده, وقد يكون التفريق أيسر. 300 - قال مجاهد في الرجل يكون عليه صيام من رمضان أيفرق صيامه أو يصله؟ فقال: «إن الله أراد بعباده اليسر؛ فلينظر أيسر ذلك عليه, إن شاء وصله, وإن شاء فرقه». ولأنه اعتبر إكمال العدة فقط, وإكمال العدة يحصل بالتقطيع والصلة. 301 - فإن قيل: فقد روى مالك, عن حميد بن قيس؛ قال: «كنت أطوف مع مجاهد, فجاءه إنسان يسأله عن صيام من أفطر في رمضان: أيتابع؟ فقلت: لا. فضرب مجاهد في صدري, ثم قال: إنها في قراءة أبي بن كعب متتابعات».

والقراءة الشاذة تجري مجرى الخبر الواحد. 302 - كقراءة عبد الله (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). قيل: هذا الحرف منسوخ تلاوته وحكمه. 303 - بدليل ما روي عن عائشة؛ قالت: «نزلت (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعاتٍ) , فسقطت متتابعات». رواه عبد الرزاق والدارقطني, وقال: إسناد صحيح. وأن مجاهداً قد صح عنه من غير وجه: أنه يجيز التفريق ويخبر بذلك عن جميع أهل مكة, وهو راوي هذا الحرف, فعلم أنه منسوخ.

عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: «إن شاء فرق وإن شاء تابع». رواه الدارقطني, وقال: لم يسنده غير سفيان بن بشر. 305 - وروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

306 - وعن محمد بن المنكدر؛ قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن تقطيع قضاء رمضان؟ فقال: «ذاك إليك, أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر». رواه الدارقطني, وقال: إسناد حسن؛ إلا أنه مرسل. 307 - وعن جابر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقطيع صيام شهر رمضان؟ فقال: «أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضي الدرهم والدرهمين حتى يقضي, هل كان ذلك قضاء دينه (أو: قاضيه)؟». قالوا: نعم. رواه الدارقطني. ولأنه إجماع الصحابة. 308 - فروى الدارقطني عن أبي عبيدة بن الجراح أنه سئل عن قضاء رمضان متفرقاً؟ فقال: «أحص وصم كيف شئت».

309 - وعن معاذ بن جبل؛ قال: «أحص العدة واصنع كيف شئت». 310 - وعن عمرو بن العاص؛ أنه قال: «فرق قضاء رمضان, إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}». 311 - وعن رافع بن خديج: أنه كان يقول: «أحص العدة وصم كيف شئت». 312 - 313 - وعن ابن عباس وأبي هريرة؛ قالا: «لا بأس بقضاء رمضان متفرقاً». 314 - وروى سعيد عن أنس بن مالك: أنه سُئل عن قضاء رمضان؟

فقال: «إنما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ فإذا أحصى العدة؛ فلا بأس بالتفريق». 315 - وعن مجاهد؛ قال: «أما نحن أهل مكة: فلا نرى بالتفريق بأساً». وهذه الآثار تعضد الأحاديث المتقدمة وتجعلها حجة عند من لا يقول بالمرسل المجرد. 316 - وقد روي عن سالم عن ابن عمر: أنه كان يقول: «صمه كما أفطرته». 317 - 318 - وعن ابن عباس: أنه كان لا يرى بالتفريق بأساً, وكان ابن عمر يقضيه متتابعاً. 319 - وعن الحارث عن علي؛ قال: «من كان عليه صوم من رمضان؛ فليقضه متصلاً ولا يفرقه».

وهذا محمول على الاستحباب؛ لأنه قد تقدم عن ابن عمر خلاف ذلك. وأيضاً؛ فإن القضاء لا يزيد على الأداء, وفعل الصوم أداء لا تجب فيه الموالاة؛ فإنه لو أفطر أثناء الشهر لعذر أو غيره؛ بنى على صومه وقضى ما أفطره؛ إذا لم يشترط الموالاة في الأصل؛ ففي البدل أولى. نعم؛ لما كان صوم الشهر واجباً وأيامه متوالية؛ وجبت الموالاة للفعل تبعاً للموالاة في الوقت؛ فإذا فات الوقت؛ سقطت الموالاة الواجبة فيه. . . . ولأن الصوم وإن وجب جملة؛ فهو دين في الذمة, وقضاء الدين يجزئ متتابعاً. . . , ولأنه إذا جاز تأخيره كله إلى شعبان؛ فتأخير بعضه أولى. الفصل الثاني: أنه ليس له أن يؤخره إلى رمضان آخر إلا لعذر؛ مثل أن يمتد به المرض أو السفر إلى أن يدخل الرمضان الثاني. فإن أخره إليه لعذر؛ صام رمضان الذي أدركه, وقضى الرمضان الذي فاته بعده, ولا شيء عليه. قال حرب: سألت أحمد: قلت: رجل أفطر في رمضان من مرض أو علة, ثم صحَّ ولم يقض حتى جاء رمضان آخر؟ قال: يصوم هذا اليوم الذي جاء, ويقضي الذي ترك, ويطعم لكل يوم مسكيناً. قلت: مُدّاً؟ قال: نعم. قال القاضي: نص عليه في رواية الأثرم والمروذي وحنبل.

وإن امتدَّ العذر إلى آخر الرمضان الثاني؛ صام. . . . وإن أخره إلى الثاني لغير عذر؛ أتمَّ وعليه أن يصوم الذي أدركه ثم يقضي الأول ويطعم لكل يوم مسكيناً. وقيل: له أن يؤخره إلى الرمضان الثالث هنا. . . . وذلك لما احتج به أحمد. قال في رواية المروذي في الرجل يلحقه شهر رمضان وعليه شهر رمضان قبله: إن كان فرَّط؛ أطعم عن كل يوم مسكيناً, وإن كان لم يفرط؛ صام الذي أدركه وقضى بعدد ما عليه. 320 - رواه عن الحكم, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس. 321 - وعن أبي الخليل, عن عطاء, عن أبي هريرة. 322 - وقيس بن سعد, عن عطاء, عن أبي هريرة. 323 - وقد روى الدارقطني عن ابن عمر: أنه كان يقول: «من أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء؛ فليطعم مكان كل يوم مسكيناً مدّاً من حنطة».

324 - وعن مجاهد, عن ابن عباس؛ قال: «من فرّط في صيام شهر رمضان حتى يدركه رمضان آخر؛ فليصم هذا الذي أدركه, ثم ليصم ما فاته, ويطعم مكان كل يوم مسكيناً». 325 - وعن مجاهد, عن أبي هريرة؛ فيمن فرط في قضاء حتى أدركه رمضان آخر؛ قال: «يصوم هذا مع الناس, ويصوم الذي فرط فيه, ويطعم

لكل يوم مسكيناً». 326 - ورواه الدارقطني, عن عطاء, عن أبي هريرة, وقال: إسناد صحيح موقوف. 327 - ورواه مرفوعاً من وجهٍ غير مرضي. 328 - وقد ذكر يحيى بن أكثم: أنه وجد في هذه المسألة الإِطعام عن ستة من الصحابة لم يعلم لهم منهم مخالفاً, ولأن قضاء الرمضان مؤقت بما بين الرمضانين: لوجوه: 329 - أحدها: ما رواه أحمد: عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يتقبل منه».

لأن العبادات إما أن تجب مؤقتة أو على الفور؛ فإنها لا تكون على التراخي عندنا؛ كما نذكر إن شاء الله في الحج, فلما لم يجب قضاء رمضان على الفور؛ علم أنه مؤقت. وبهذا يتبين أن قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لولا حديث عائشة؛ لحُمل على الفور, وحديث عائشة إنما أفاد جواز التأخير إلى شعبان, وما زاد على ذلك؛ لا يعلم جواز التأخير فيه, ومطلق [الأمر] يقتضيه. وقد احتج أصحابنا بأن عائشة ذكرت أنها كانت تقضيه في شعبان؛ لبيان تضييق وقته في شعبان, وأنها كانت تؤخره إلى آخر وقته, فعُلِم أن وقت القضاء كان محصوراً, وأنها إنما أخرت القضاء شغلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم, وشعبان وغيره في الشغل سواء, فلولا تضيّق الوقت؛ لأخّرته. لكن يقال: إنما أخرته إلى شعبان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم في شعبان, فتتمكن من الصوم معه. وكذلك سياق الحديث يدل على ذلك. الثاني: أن الصوم قد وُسِّع وقته على المسافر والمريض, فهو بالخيرة بين أن يصوم فيه أو فيما بعده, وضيق على الصحيح المقيم. والعبادة الموسعة يخرج وقتها بدخول وقت مثلها؛ بدليل الصلاة. 330 - قال صلى الله عليه وسلم: «ليس في النوم تفريط, إنما التفريط في اليقظة: أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى».

فإذا كان هذا في الصلاة؛ فهو في الصوم أولى؛ لأن وقت الصلاة الثانية يتسع للصلاتين, ووقت الصوم الثاني لا يتسع لهما. ولأن الصوم قد استقر في ذمته أعظم من استقرار الصلاة بأول الوقت. الثالث: أنه إذا أخره إلى الرمضان الثاني عمداً؛ فقد أخره إلى وقت لا يمكنه فعله فيه, ويجوز أن يدرك ما بعد رمضان, ويجوز أن لا يُدركه, فأشبه تأخير الحج من عام وجوبه إلى العام الذي يليه. الرابع: أنه إذا أخره إلى رمضان الثاني؛ فإنه يلزمه أن يبدأ بالحاضر قبل الفائت, والعبادات المؤقتة من جنس واحد يجب أن يبدأ بأولها فأولها وجوباً كالصلاتين المجموعتين والفائتتين والجمرات إذا أخَّر رميها اليوم الثالث. الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم سمَّوه مفرطاً كما تقدم. والتفريط إنما يكون فيمن أخرها عن وقتها. وإذا ثبت أنه مؤقت؛ فقد ترك الصوم الواجب في وقته على وجه لا يوجب القضاء, فأوجب الفدية؛ كالشيخ الكبير والعجوز إذا تركا الصوم. ومعنى قولنا: «لا يوجب القضاء»: أنه لا يجب عليه صوم بترك الصوم بين الرمضانين, وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من أفطر عمداً؛ فإن نفس ذلك الترك أوجب القضاء فلا يوجب غيره.

* مسألة: وأما إذا أخر القضاء لعذر

وفوات العين لا سبيل إلى جبرها أصلاً, وهنا الفطر في رمضان أوجب من القضاء, والصوم الواجب بين الرمضانين لا بد له من بدل. فإن قيل: فهلاَّ أوجب صوم يوم آخر. قيل. . . . ولأنها عبادة لا تفعل في العام إلا مرة. * مسألة: وأما إذا أخر القضاء لعذر؛ فإنه لم يجب عليه قضاؤه بين الرمضانين لوجود العذر, والصوم باقٍ في ذمته, فلا يجب عليه أكثر منه. 331 - فإن قيل: فقد روى سعيد, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس: أنه كان يقول فيمن مرض في رمضان فلم يزل مريضاً حتى جاء رمضان آخر؛ قال: «يطعم للأول ويصوم للثاني, فإن كان صح بينهما أو فرط في صيامه؛ صام هذا الذي أدرك, وأطعم للأول وصامه أيضاً». وعن أبي هريرة وابن عباس نحوه. ولأنه قد فوت للعجز عنه على وجه لا يوجب عليه القضاء, فلم يكن عليه إلا الفدية؛ كالشيخ الكبير. قيل: قد تقدم عن أحمد أنه ذكر عنهما خلاف ذلك, ولأن القضاء قد وجب في ذمته, وفوات وقته لا يقتضي سقوطه كفوات وقت الأداء.

* فصل: فإن كان قد أمكنه قضاء بعض ما فاته دون بعض

* فصل: فإن كان قد أمكنه قضاء بعض ما فاته دون بعض؛ لزمه الإِطعام عن قدر ما أمكنه قضاؤه؛ لأنه هو الذي فرط فيه, فلم يلزمه إلا فديته؛ كما لو أفطر في رمضان أياماً؛ لم يلزمه إلا قضاؤها, والإِطعام قبل القضاء. . . . * مسألة: فإن أخره إلى رمضان ثالث؛ لم يلزمه أكثر من كفارة أخرى, مع الإِثم: لأنه قد لزمه كفارة بتأخيره عن وقته, فلم يلزمه كفارة أخرى بزيادة التأخير؛ كمل لو أخَّر قضاء الحج من عام إلى عام. ولأن وقت القضائين رمضان الأول ورمضان الذي يليه, فإذا فات وقته؛ لم يبق للقضاء وقت محصور؛ فلا شيء بتأخيره. فإن لم يفرط حتى أدركه الرمضان الثاني, ثم قدر على القضاء, ففرط فيه حتى دخل الرمضان الثالث؛ فهنا ينبغي أن تلزمه الكفارة. * فصل: ومن عليه قضاء رمضان, لا يجوز أن يصوم تطوعاً. وكذلك مَنْ عليه صوم واجب غير القضاء يجب أن يبدأ به قبل التطوع, فإن اجتمع عليه كفارة وقضاء أو نذر. . . .

وعلى هذا؛ فلا يكره قضاء رمضان في العشر, بل لا يجوز له أن يصوم فيه التطوع قبل القضاء. هذا إحدى الروايتين. قال أحمد في رواية حنبل: يقضي رمضان في العشر. لأنه لا يجوز له أن يصوم تطوعاً [وعليه] فرض, فيقضي رمضان كيف شاء إلا يوم الفطر والأضحى. وإذا نذر أن يصوم وعليه أيام من رمضان؛ يبدأ بالفرض قبل التطوع. وإذا كان عليه نذر؛ صامه بعد الفرض. قال أحمد: رواية ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يقبل منه». ورواه في «المسند»؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه؛ لم يتقبل منه حتى يصومه». والفتيا المذكورة فيما بعد عن أبي هريرة تؤيد هذا المسند, واحتجاج أحمد به يدل على أنه من جيد حديث ابن لهيعة. 332 - ولأن في وصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: «اعلم أنه لا تقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة».

333 - وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما تقدم في الصلاة. لأنها عبادة [لا] يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها ممن عليه فرضها؛ كالحج. ولأنه إنما جاز له تأخير القضاء رفقاَ به وتخفيفاً عنه؛ فلم يجز له أن يشتغل عنه بغيره كالأداء؛ فإنه لو أراد المسافر أن يصوم في رمضان عن غيره؛ لم يجز له ذلك.

فعلى هذا: إذا اجتمع عليه نذر مطلق وقضاء رمضان؛ بدأ بقضاء رمضان. نص عليه لأن وجوبه آكد. ولهذا يبدأ بقضاء الحجة الفاسدة قبل النذر. ونقل عنه أبو الحارث: إذا نذر صيام أيام, وعليه من صوم رمضان؛ بدأ بالنذر. وحمل ذلك القاضي وابن عقيل وغيرهما على أن الأيام المنذورة معينة. ويتوجه: أن يقر على ظاهره؛ لأن وفاء النذر يجب على الفور, وقضاء رمضان مؤقت بما بين الرمضانين؛ فأشبه ما لو دخل عليه الزوال وعليه صلاة منذورة. والثانية: يجوز أن يتطوع قبل القضاء. لأن عائشة أخبرت أنها كانت تقضي رمضان في شعبان, ويبعد أن لا تكون تطوعت بيوم, مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال: لا يفطر, ويفطر حتى يقال: لا يصوم, وكان يصوم يوم عرفة وعاشوراء, وكان يكثر صوم الاثنين والخميس, وكان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. ولأن القضاء مؤقت, فجاز التنفل قبل خروج وقته؛ كما يجوز التنفل أول وقت المكتوبة؛ بخلاف قضاء الصلاة؛ فإنه على الفور, وكذلك الحج هو على الفور. ثم الحج لا يمكنه الخروج من نفله, وليس لبعض الأعوام على بعض مزية, ولا يعود إلى العام المقبل؛ بخلاف التطوع. فعلى هذا: هل يكره رمضان فيه؟ على روايتين. الأولى: يكره.

قال أحمد في رواية أبي طالب: لا يقضي رمضان في العشر. 334 - يروى عن علي: «لا يقضى رمضان في العشر؛ لأنها عبادة». 335 - وقد روى سعيد عن الحارث عن علي: «من كان عليه صوم من رمضان؛ فليقضه متصلاً, ولا يفرقه, ولا يصوم في ذي الحجة؛ فإنه شهر نسك». 336 - وعن الحسن عن علي؛ قال: «كره قضاء رمضان في العشر». ولأن صوم هذه الأيام بمنزلة السنن والرواتب, فكره تفويتها بالفرض الذي لا يخاف فوته؛ كما لو صلى الفجر والظهر قبل سننهما. والثانية: لا يكره. قال حرب: قيل لأحمد: يُقضى رمضان في العشر؟ فقال: «يُروى عن علي كراهته». وكان أحمد يسهل فيه. وتسهيله فيه يقتضي جوازه لا المنع من غيره؛ فإنه لو منع من غيره؛ لأوجب تقديمه. 337 - لما روى عن عثمان بن عبد الله بن موهب؛ قال: «سأل أبي هريرة رجل, فقال: إني كنت أصوم هذه الأيام أيام العشر (يعني: ذي الحجة) , وإني

مرضت في رمضان, وعليَّ أيام من رمضان, أفأصوم هذه الأيام؟ قال: ابدأ بحق الله عليك». رواه سعيد. 338 - وتقدم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر. والأوجه: أن يجوز صومهما تطوعاً وقضاءً, والتطوع أفضل؛ كالسنن الراتبة في أول وقت الصلاة. ومن أصحابنا مَنْ بنى الروايتين في كراهة قضاء رمضان في العشر على الروايتين في وجوب تقديم القضاء على النفل. فإن قلنا: يجب تقديم القضاء؛ لم يكره قضاؤه في العشر. وإن قلنا: لا يجب تقديم القضاء؛ كره قضاؤه في العشر. والطريقة التي ذكرناها أصوب؛ كما دل عليه كلام أحمد وأصوله, وهو أنَّا إذا قلنا يجوز التطوع قبل القضاء؛ ففي كراهة قضاء رمضان فيه روايتان.

مسألة: وإن ترك القضاء حتى مات لعذر؛ فلا شيء عليه, وإن كان لغير عذر؛ أطعم عنه لكل يوم مسكينا؛ إلا أن يكون الصوم منذورا؛ فإنه يصام عنه, وكذلك كل نذر طاعة

وإذا قلنا: يجوز التطوع قبل القضاء؛ فلا معنى لكراهة القضاء فيه. مسألة: وإن ترك القضاء حتى مات لعذر؛ فلا شيء عليه, وإن كان لغير عذر؛ أطعم عنه لكل يوم مسكيناً؛ إلا أن يكون الصوم منذوراً؛ فإنه يصام عنه, وكذلك كل نذر طاعة. في هذا الكلام مسائل: المسألة الأولى: من استمر به العذر من سفر أو مرض حتى مات قبل إدراك رمضان الثاني أو بعده؛ فإنه لا شيء عليه من قضاء ولا كفارة. قال في رواية المروذي فيمن صام من رمضان خمسة عشر يوماً ثم مرض فعاش شهرين ومات: أطعم عنه كل يوم مسكيناً, وإن مات في مرضه؛ فلا شيء عليه». وقال حرب: سألت أحمد: قلت: رجل أفطر في رمضان في السفر, أو مرض, فلم يقضه, فمات؟ قال: إذا توانى في ذلك؛ يطعم عنه؛ إلا أن يكون من نذر. قلت: فإن كان من نذر؟ قال: يصام عنه. قال: أقرب الناس إليه أو غيره؟ قال: نعم. وقال في رواية عبد الله في رجل مرض في رمضان: إن استمر به المرض حتى مات؛ فليس عليه شيء, وإن كان نذر؛ صام عنه وليه إذا هو مات. وقد أطلق في رواية الأثرم: إذا مات وعليه نذر؛ يصام عنه, ولو مات وعليه

صوم رمضان؛ يطعم عنه. لأنه لم يجب عليه الصوم قضاءً ولا أداءً, فلم تجب عليه الكفارة, كالمجنون والصبي. فإن قيل: فالمريض الذي لا يرجى برؤه قد أوجبتم عليه الكفارة, وهذا أسوأ أحواله أن يكون بمنزلته. ثم الوجوب في الذمة لا يشترط فيه التمكن من الفعل كالصلاة والزكاة؛ فإذا استقر وجوب الصلاة والزكاة أيضاً في الذمة قبل التمكن؛ فكذلك الصوم أولى, وإذا استقر في ذمته؛ فلا بد من الكفارة بدلاً عن ذلك الواجب. قلنا: المريض الميئوس منه قد عزم على الفطر في الحال والمآل, ولهذا لم يجب الصوم في ذمته, ولا يجب عليه القضاء البتًّة, ولا بد من البدل, وهو الفدية. وأما المريض المرجو والمسافر؛ فهما عازمان على القضاء بشرط القدرة, فلا يجمع عليهما واجبان على سبيل البدل. . . . وأما استقرار العبادات في الذمة قبل التمكن؛ فكذلك نقول في الصوم: إنه بإدراك الشهر استقر الوجوب في ذمته, لكن هذه الواجبات في الذمة قبل التمكن معناها إيجاب القضاء عند التمكن, فأما إذا لم يتمكن من القضاء؛ فإنه يموت غير آثم بلا تردد. كما لو حاضت في أثناء الوقت وماتت قبل الطهر, أو تلف النصاب قبل التمكن من الإِخراج, وليس له ما يخرج غيره, ومات قبل اليسار, ونحو ذلك. وذلك لأن تكليف ما [لا] يطيقه العبد الطاقة المعروفة غير واقع في

الشرائع, فالتكليف في العبادة لا بد فيه من القدرة في الحال والمآل, وأما مع انتفائهما؛ فمحال. المسألة الثانية: إذا فرط في القضاء حتى مات قبل أن يدركه الرمضان الثاني؛ فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. وهل يأثم ويكون هذا الإِطعام بمنزلة ما لو مات ولم يحج؛ لقوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] , وهذا قد أطاق الصوم ولم يصمه أداءً ولا قضاءً, فتجب عليه الفدية بظاهر الآية؟ يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} , بعد قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فيفيد ذلك أنه يَعمُّ منْ أطاق الصوم في رمضان وأفطر, ومَنْ أطاق الصوم في أيام أخر فلم يصم. ثم نسخ الأول يوجب نسخ الثاني؛ لأنه إنما نسخ التخيير, أما وجوب الفدية مع الفطر الذي لا قضاء فيه, فلم يُنسخ البتَّة. 339 - لما روى أشعث, عن محمد, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام شهر رمضان؛ فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً». رواه ابن ماجه والترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, والصحيح عن ابن عمر موقوف. قال: وأشعث هو ابن سوَّار, ومحمد هو ابن أبي ليلى.

ورواه الأثرم وأبو بكر, [كلاهما عن قتيبة, عن عمر بن القاسم, عن أشعث]. 340 - وعن عبد العزيز بن رفيع, عن عمرة امرأة منهم؛ قال: توفيت أمها وعليها أيام من رمضان, فسألت عائشة رحمها الله أن تقضيه عنها؟ قالت: «لا؛ بل أطعمي مكان كل يوم مسكيناً». رواه سعيد. 341 - وعن ميمون بن مهران: أن ابن عباس سُئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان؟ قال: «أما رمضان؛ فيطعم عنه, وأما النذر؛ فيصام عنه». رواه أبو بكر.

342 - 343 - وعن ابن عباس وابن عمر مثله. ولا يُعرف لهم في الصحابة مخالف. 344 - وعن ابن عباس؛ قال: «إذا مرض الرجل في رمضان, ثم مات ولم يصم؛ أُطعِم عنه, ولم يكن عليه قضاء, وإن نذر؛ قضى عنه وليه». رواه أبو داوود. ولأنه قد وجب القضاء في ذمته, واشترطت له الفدية في المال؛ فإذا قدر عليه لم يكن بدٌّ من إيجاب الفدية؛ لأن الصوم الواجب لا يخلو من فعله أو فعل الفدية. فإن قيل: قضاء رمضان موسَّع, والعبادة الموسعة إذا مات في أثناء وقتها؛ لم يكن آثماً؛ بدليل الصلاة, ومنْ لا إثم عليه؛ لا فدية عليه. قلنا: نعم؛ إذا لم يغلب على ظنه الموت قبل القضاء؛ لم يأثم, وإن غلب على ظنه الموت قبله؛ أثم؛ كما قلنا في الصلاة, لكن الفدية تجب بدون الإِثم؛ كما تجب على الشيخ الكبير والمريض الميؤوس منه؛ لأنه بدل عن الصوم الواجب. وإنما كان البدل هو الإِطعام؛ لما ذكرنا من الآية والحديث وإجماع

الصحابة. 345 - فإن هؤلاء الذين قالوا: يطعم عنه, هم الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الولي يصوم عنه مولِّيه» , وبينوا أنما هو النذر كما سيأتي. ولأن الصوم المفروض قد جعل الله له بدلاً في الحياة, وهو الإِطعام, فوجب أن يكون له بدلاً بعد الموت مثل بدله في الحياة؛ كسائر الفرائض. فإن معنى البدل لا يختلف بالحياة والموت, ولهذا لمَّا كان البدل في الحج عن المعضوب أن يحج عنه غيره؛ كان البدل في الميت أن يحج عنه غيره. ولأن إيجاب الله إنما هو ابتلاء وامتحان للمكلف, وهو المخاطب بهذا الفرض, وكل ما كان أقرب إليه؛ كان أحق بأداء الفرض منه مما هو أبعد منه. فإذا كان قادراً ببدنه؛ لم يجز أداؤه بماله, وإذا كان قادراً بماله؛ لم يجز أداؤه ببدن غيره؛ لأن ماله أحق بأداء الفرض منه منْ بدن غيره. فلو جاز أن يصوم عنه الولي؛ لكان قد أدى الفرض ببدن غيره دون ماله. . . . ولأن الله قد أوجب عليه الصوم, والولي لا يوجب عليه شيئاً يكله إلى غيره, وإذا أوجبنا من ماله؛ كان ديناً في التركة. فعلى هذا: إن كان له تركة؛ أطعم عنه تركته, فإن أطعم رجل عنه من

* فصل: فإن فرط حتى أدركه رمضان الثاني قبل أن يصوم, ومات في أثناء ذلك الرمضان أو بعده قبل أن يصوم

غير ماله بإذن الولي أو بغير إذنه, أو لم يكن له مال, فتبرع رجل بالإِطعام عنه. . . . فإن لم يكن له تركة, فأحب أحد أن يصوم عنه, فقال القاضي: لا يجزئ الصوم عنه, ويحتمل كلام أحمد أنه يجزئ؛ لأنه سمَّاه ديناً. * فصل: فإن فرط حتى أدركه رمضان الثاني قبل أن يصوم, ومات في أثناء ذلك الرمضان أو بعده قبل أن يصوم: فقال القاضي في «المجرد» وأصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب: يطعم عنه لكل يوم مسكيناً؛ لأنه قد وجب عليه القضاء والكفارة لو عاش؛ فإذا مات قبل القضاء؛ لزمه عنه كفارتان: كفارة لتأخير القضاء, وكفارة لتفويته. ولا فرق على هذا بين أن يفوت بين وقت القضاء برمضان واحد أو رمضانات. والمنصوص عن أحمد: أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة؛ لأنه لا يجب في اليوم الواحد بدلان من جنس واحد؛ كما لم يجب في شيء من الأيام صوم يومين, ولأنه إذا أدرك رمضان الثاني؛ فإنما وجبت عليه الكفارة لترك القضاء في وقته, وهذا بعينه هو المقتضي لوجوب الكفارة بالموت, وإذا كان السببان من جنس واحد؛ تداخل موجبهما. المسألة الثالثة: أن الصوم المنذور إذا مات قبل فعله؛ فإنه يصام عنه, بخلاف صوم رمضان وصوم الكفارة, وسواء كان معيناً أو مطلقاً. هذا منصوص أحمد في غير موضع, وهو قول عامة أصحابه.

وقال ابن عقيل: عندي أن الصوم لا يفعل عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة للعجز؛ فكذلك بعد الموت؛ كالصلاة, وعكسه الحج. 346 - لما روى سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر, أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟». قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك». رواه الجماعة إلا أبا داوود. 347 - وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي: أن امرأة ركبت البحر, فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهراً, فأنجاها الله, فلم تصم حتى ماتت, فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكرت ذلك, فقال: «صومي عنها». 348 - وفي رواية ابن ماجه والترمذي؛ قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين؟ قال: «أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟». قالت: نعم. قال: «فحق الله أحق». قال الترمذي: حديث حسن.

349 - وفي رواية متفق عليها: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! أمي ماتت وعليها صوم شهر, أفأقضيه عنها؟ فقال: «لو كان على أمك دين أكنت تقضيه عنها؟». قال: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى». فهذه الرواية المطلقة منهم من يقول: «رجل» , ومنهم من يقول: «امرأة» , وأكثرهم يقول: «أمي»؛ قد فسِّرت في الروايات المتقدمة أن الصوم كان نذراً.

350 - ورواية من روى شهرين متتابعين كأنها وهم. 351 - وعن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس: أن سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه, فقال: «اقضه عنها». رواه الجماعة. وفي لفظ: استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقضه عنها». فكانت سنة بعد.

352 - وعن عائشة؛ قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه». متفق عليه. 353 - وعن بريدة بن الحصيب قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أتته امرأة, فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية, وإنها ماتت. فقال: «وجب أجرك, وردها عليك الميراث». فقالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر, أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها». قالت: إنها لم تحج قط, أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها». رواه أحمد ومسلم وأبو داوود والترمذي وصححه. 354 - وفي رواية لمسلم: صوم شهرين.

فهذه الأحاديث نصوص في أن النذر يصام عن الميت, وظاهر بعضها أن جميع الصوم كذلك؛ لأن حديث عائشة عام, وفي حديث بريدة وبعض ألفاظ ابن عباس: أنها قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر؛ أفأصوم عنها؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم عنها, ولم يستفصل هل من رمضان أو غيره, وذَكر معنى يعم رمضان وغيره, وهو كونه ديناً, فإن صوم رمضان دين في ذمة من وجب عليه, ودين الآدمي يقضى عن الميت؛ فدين الله أحق, وجمع بينه وبين الحج في نسق واحد. لكن هذه الأحاديث إنما هي على وجهها في النذر: أما حديث ابن عباس: فقد صرح فيه بذلك, والمطلق منه محمول على

المفسر؛ فإنه حديث واحد إسناداً ومتناً. وكذلك حديث بريدة: فإن قولها: «صوم شهر» بصيغة التنكير, تشعر بأنه غير رمضان, لا سيما رواية من روى: «شهرين». والذي يدل على ذلك أنه قد تقدم عن عائشة وابن عباس وعن ابن عمر موقوفاً ومرفوعاً: أنهم قالوا في صوم رمضان: لا يقضى عنه, بل يطعم عنه لكل يوم مسكيناً. وابن عباس وعائشة رويا هذين الحديثين وهما أعلم بمعنى ما رويا من غيرهما؛ فلو لم يكن معناه عندهما في غير رمضان؛ لما جاز لهما خلافه. وليس الحديث نصّاً حتى يعارض بين الرأي والرواية. وأما كونه ديناً؛ فصحيح, لكن وفاء الدين من تركة الميت وماله أولى من وفائه من بدن غيره, ولأن صوم رمضان لم يجب فيه الصوم عيناً, وإنما وجب الصوم مع القدرة والإِطعام مع العجز, فصار الدين عليه أحد شيئين. وهذا الواجب يصلح عن قوله: «وعليه صيام»؛ فإن العاجز عن قضاء رمضان ليس عليه صيام, وإنما عليه فدية؛ فالواجب عليه أحد شيئين, وفيه نظر. والفرق بين رمضان والنذر: أن النذر محله الذمة، وقد وجب بإيجابه, وهو

* فصل: ويصام النذر عنه

لم يوجب على نفسه إلا الصوم فقط؛ فإذا فُعل عنه؛ فقد أُدِّيَ عنه نفس ما أوجبه, ولو أُطعِم عنه؛ لم يكن قد أُدِّيَ عنه الواجب. ولهذا يصح أن ينذر ما يطيقه وما لا يطيقه؛ فإذا عجز عنه؛ فهو في عهدته. والصوم إنما أوجبه الله سبحانه على بدن المكلف؛ فإذا عجز؛ ففي ماله, فإذا عجز عن الأصل؛ انتقل إلى البدل الذي شرعه الله سبحانه. ولهذا لم يوجب الله عليه من الصوم إلا ما يطيقه, وكذلك كل صوم وجب بإيجاب الله؛ فإنه بدله الإِطعام, وإن كان سبب وجوبه من المكلف كصوم الكفارة؛ بخلاف النذر. نص عليه احمد في رواية ابن منصور فيمن مات وعليه صيام من دم التمتع أو كفارة يطعم عنه. وكذلك نقل حنبل عنه فيمن مات وعليه نذر صيام شهر؛ صام عنه؛ فإن مات وعليه صيام شهر من كفارة؛ يطعم عنه, النذر فيه الوفاء. وكذلك نقل المروذي صوم السبعة. * فصل: ويصام النذر عنه, سواء تركه لعذر أو لغير عذر. قال القاضي: أومأ أحمد إلى هذا في رواية عبد الله والميموني والفضل وابن منصور. قال في رواية عبد الله في رجل مرض في رمضان: إن استمر المرض

حتى مات؛ ليس عليه شيء؛ فإن كان نذر؛ صام عنه وليه إذا هو مات. لأن النذر محله الذمة, وهو أجبه على نفسه, ولم يشترط القدرة, والله سبحانه قد شرط فيما أوجبه على خلقه القدرة. ولهذا قد يجب على الإِنسان من الديون بفعل نفسه ما يعجز عنه, ولا يجب عليه بإيجاب الله عليه إلا ما يقدر عليه. ولهذا لو تكفَّل من الدين بما لا يقدر عليه؛ لزمه في ذمته. وعلى هذا؛ فلا فرق بين أن ينذر وهو مريض فيموت مريضاً, أو ينذر صوم شهر ثم يموت قبل مضي شهر. وقد ذكر القاضي في موقع من «خلافه» وابن عقيل: أنه لا يلزم أن يقضي عنه من النذر إلا ما أمكنه أن يفعله صحيحاً مقيماً؛ اعتباراً بقضاء رمضان. فأما إذا نذر الحج وهو لا يجد زاداً ولا راحلة بعد ذلك: فقال القاضي: إن وجد في الثاني؛ لزمه الحج بالنذر السابق, وإن لم يجد؛ لم يلزمه؛ كالواجب بأصل الشرع؛ كما قلنا في الصوم سواءً. فإن لم يكن له تركة يصام عنه منها؛ لم يلزمه صوم ولا حج, ويكون بمنزلة مَنْ عليه دين ولم يخلف وفاء. وهذا الصوم لا يجب على الولي, بل يخير بين أن يصوم وبين أن يدفع من [يطعم] عن الميت عن كل يوم مسكيناً إن كان له تركة, فإن لم يكن له تركة؛ لم يلزم الوارث. قاله القاضي في «خلافه».

فعلى هذا: لو تبرع الولي أو غيره بالإِطعام عنه دون الصيام. . . . وقال في «المجرد» وابن عقيل وغيرهما: هذا القضاء لا يلزم الورثة, كما لا يلزمهم أن يقضوا دينه, وإنما الكلام فيه: هل يصح قضاؤه عنه؟ قال ابن عقيل: إذا قضوا عنه؛ صح, لكنه لا يلزمهم القضاء والصوم عنه الأقرب فالأقرب استحباباً. قال أحمد: يصوم أقرب الناس إليه ابنه أو غيره. وقال أيضاً: يصوم عنه واحد. قال القاضي: وظاهر هذا أنه لا يختص القضاء بجميع الورثة, بل يصوم أحدهم, وهو الأقرب فالأقرب. وهل تعتبر الولاية والقرابة؟. . . . ف|إن صام غير الولي عنه بإذنه؛ جاز, وإن صام بغير إذنه؛ جاز أيضاً فيما ذكره القاضي, كما لو كان عليه دين يصح أن يقضيه الولي وغيره, وظاهر كلام أحمد. . . . قال في رواية حنبل: إذا نذر أن يصوم شهراً, فحيل بينه وبين ذلك من مرض أو علة حتى يموت؛ صام عنه مليه النذر, وأطعم لكل يوم مسكيناً لتفريطه. وإن عجز عن الصوم المنذور لكبر أو مرض لا يرجى برؤه: فقال: لا يمتنع أن نقول: يصح الصوم عنه كما نقول في الحج إذا عجز عنه في حال الحياة: يحج عنه. وقال الخرقي: يطعم عنه ولا يصام عنه.

* مسألة: وإن نذر الصوم في حال الكبر واليأس من البرء

وعلى هذا؛ فلا كفارة فيه. والمنصوص عن أحمد: وجوب الكفارة والإِطعام؛ لأن التعيين قد فات. قيل: ليس فيه إلا كفارة يمين فقط * مسألة: وإن نذر الصوم في حال الكبر واليأس من البرء. فقيل: لا ينعقد نذره. وظاهر المذهب: أنه ينعقد موجباً لما يجب إذا نذر ثم عجز عن الكفارة والإِطعام أو عن أحدهما. * فصل: وإذا صام عنه أكثر من واحد في يوم: فقال أحمد في رواية أبي طالب, وقد ذكر له فيمن كان عليه صوم شهر: هل يصوم عشرة أنفس شهراً؟ 355 - فقال: طاووس يقول ذلك. قيل له: فما تقول أنت؟ قال: بصوم واحد. قال القاضي: فمنع الاشتراك؛ كالحجة المنذورة تصح بالنيابة فيها من واحد ولا تصح من الجماعة.

وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يصوم عنه جماعة في يوم واحد, ويجزئ عن عدتهم من الأيام, وحُمِل كلام أحمد على نذر مقتضاه التتابع؛ لأن لفظ الشهر في إحدى الروايتين يقتضي التتابع. المسألة الرابعة: إذا نذر غير الصوم من عتقٍ أو صدقة أو هدي أو حج؛ فإنه يجوز أن يفعله عنه وليه, روايةً واحدة, أوصى أو لم يوص. 356 - لما روى عبد الله بن عمرو: أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مئة بدنة, وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين, وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: «أما أبوك؛ فلو أقرَّ بالتوحيد, فصمت عنه وتصدقت؛ نفعه ذلك». رواه أحمد. 357 - وعن سعيد بن جبير, عن ابن عباس؛ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن أختي نذرت أن تحج, وإنها ماتت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟». قال: نعم. قال: «فاقض الله؛ فهو أحق بالقضاء». رواه أحمد والبخاري.

358 - وفي لفظ للبخاري: إن أمي نذرت أن تحج, فلم تحج حتى ماتت, أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها, أرأيت لو كان على أمك دين؛ ألست قاضيه؟». قالت: نعم. قال: «اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء». ولأن هذه الأمور يجوز أن تفعل عنه من هذه العبادات ما وجب بالشرع بعد موته بدون إذنه؛ فلأن يفعل عنه ما وجب بالنذر أولى وأحرى. وأما الصلاة المنذورة والقرآن والذكر والدعاء؛ فهل يفعل بعد الموت؟ على روايتين: أحدهما: لا يجوز. لأنه لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال, فلم تجب النيابة فيها بعد الموت؛ كالأيمان. ولأنه لا مدخل للبدل في المشروع منها, فلم يدخل في المنذور. ولأن العبادات المنذورة يحتذى بها حذو العبادات المشروعة, ولا يجوز أن تفعل بالنذر ما لم يكن له أصل في الشرع, وعكسه الصوم؛ فإن للبدل فيه مدخلاً؛ كما ذكره الشيخ. والثانية: يفعل عنه بعد الموت. وهو اختيار أبي بكر والخرقي. قال القاضي: وهو الصحيح؛ لما رَوَى ابن عباس. 359 - ولأن سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه توفيت

قبل أن تقضيه؟ قال: «اقضه عنها». رواه الجماعة. ولا يخلو إما أن يكون سعد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى هذا السؤال ولم يستفصله, فيكون كأنه قال: إذا كان عليها نذر؛ فاقضه عنها؛ لأن السؤال كالمعاد في الجواب, وهذا عام مطلق في جميع النذور. أو يكون قد سأله عن نذر معين من صوم ونحوه, فيكون إخبار ابن عباس: أنه أمره أن يقضي عنها النذر, ولم يعين ابن عباس أي نذر, هو دليل على أنه فهم أن مناط الحكم عموم كونه نذراً, لا خصوص ذلك المنذور, وأن كل النذور مستوية في هذا الحكم, وابن عباس أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ومقصوده. وأيضاً؛ فقد جاء مفسراً من حديث ابن عباس: 360 - أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر رجلاً وامرأة أن تقضي نذر صوم كان على أمه وأخته». ووجَّهه النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا دين من الديون, وأن الله أحق أن يوفى دينه, وأحق أن يقبل الوفاء, وهذه علة تعم جميع الديون الثابتة في الذمة لله. وأيضاً؛ فإنه لا فرق بين الصلاة والصيام؛ فإنها عبادة بدنية لا يجوز الاستنابة في فرضها بحال, والصوم كذلك؛ فإذا جاز قضاء الصوم المنذور عينا؛ فكذلك الصلاة المنذورة, نعم؛ الصوم دخلت النيابة فيه بالمال بخلاف

الصلاة, لكن هذا لا أثر له في دخول النيابة ببدن الغير؛ فإنهما مستويان فيه. وأيضاً؛ فإن النذور محلها ذمة العبد, فصارت. . . . وأما الاعتكاف: فالمنصوص عن أحمد في رواية ابن إبراهيم وحنبل: إذا نذر أن يعتكف, فمات قبل أن يعتكف؛ ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه. وكذلك قال أصحابنا, ولم يذكروا خلافاً؛ إلحاقاً له بالصوم؛ فإنه به أشبه منه بالصلاة. وعلى قول ابن عقيل في منع النيابة في الصوم يمتنع في الاعتكاف. 361 - وقد روي عن عامر بن مصعب؛ قال: «اعتكفت عائشة عن أخيها بعدما مات». رواه سعيد. وإذا نذر فعل طهارة: فقال القاضي وابن عقيل: لا تفعل عنه؛ لأنها غير مقصودة في نفسها.

باب ما يفسد الصوم

باب ما يفسد الصوم مسألة: ومن أكل أو شرب أو استعط أو وصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر حتى أنزل أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه؛ فسد, وإن فعله ناسياً أو مكرهاً؛ لم يفسد. في هذا الكلام فصول: أحدها: أن الصوم يفسد بالجماع كما تقدم. ويفسد بالأكل والشرب؛ فإن حقيقة الصوم هو الإِمساك عن الأكل

والشرب والجماع توابع لذلك. وهذا من العلم العام المستفيض الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف. والأصل فيه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ. . .} إلى قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ. . .} الآية [البقرة: 187]. فأذن في الرفث والأكل والشرب إلى تبين الفجر, وأمر بإتمام الصيام عن هذه الأشياء إلى الليل. 362 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به, يدع طعامه وشهوته من أجلي». 363 - وقال: «من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». متفق عليه. وسواء في ذلك جميع المأكولات والمشروبات من الأغذية والأدوية وغيرها؛ مثل الثلج والبرد. وسواء في ذلك الطعام والشراب المعتادان, اللذان يحصل بهما الاقتيات وغيرهما. ولو استفَّ تراباً أو ابتلع حصاة؛ أفطر.

قال أحمد في رواية أبي الصقر: إذا بلع الصائم خاتماً أو ذهباً أو فضة أو جوزة بقشرها أو خرزة أو حبة لؤلؤ أو طيناً متعمداً؛ فعليه القضاء ولا كفارة, ولا قضاء عليه ما لم يتعمد. 364 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتِّقاء الكحل الذي يدخل من العين إلى الحلق, وليس في الكحل تغذية, فعلم أنه لا يشترط في الداخل أن يكون مما يغذي في العادة. الفصل الثاني: أن الواصل إلى الجوف يفطر من أي موضع دخل, لا يختص ذلك بمدخل دون مدخل, كما لم يختص بداخل دون داخل في ذلك. ولا بُد عند أصحابنا: أن يصل إلى البطن أو ما بينه وبين البطن مجرى نافذ. هذا كلام أحمد وعامة أصحابه, وهو الذي حرره القاضي في كتبه المعتمدة: أن المفطر وصول الواصل إلى الجوف من أي وضع كان. فإذا استعط بدهن أو ماء أو غيرها, بأن أدخله في أنفه, فوصل إلى دماغه؛ أفطر, سواء تيقن وصوله إلى حلقه وجوفه أو لم يتحققه؛ بناءً على أن بين الدماغ والجوف مجرى؛ فما يصل إلى الدماغ لا بد أن يصل إلى الحلق ويصل إلى الجوف, والحكمة إذا خفيت؛ أقيمت المظنة مقامها؛ كالنوم مع الحدث. وذكر القاضي في بعض المواضع وغيره: أن نفس الوصول إلى الدماغ مفطر؛ لأنه جوف يقع الاغتذاء بالواصل إليه, فأشبه الجوف.

والصواب الأول, لو لم يكن بين الدماغ والجوف منفذ؛ لم يفطر بالواصل إليه, وإن أنبت اللحم وغذّى؛ كما يقطر في الإِحليل, وكالكحل الذي تتغذَّى بع العين, وليس له نفوذ إلى الحلق؛ كالمراهم التي توضع في أعماق الجراح ونحوها؛ [فإن أنبت اللحم بها؛ فلا تفطر] , ولأن الغذاء الذي به البنية لا بد أن يحصل في المعدة. قال: في رواية أبي الصقر: إذا استعط, أو وضع على أسنانه دواء, فدخل حلقه؛ فعليه القضاء. وكذلك أطلق كثير من أصحابنا الاستعاط, وقال: إذا استعط بدهن أو غيره, ووصل إلى دماغه؛ أفطر [وعليه القضاء]. 365 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً». فلو لم يكن ما يدخل في الأنف مفطراً [كما يفطر ما يدخل في الفم]؛ لم ينهه عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائماً. ولأن العين تفطر بالداخل منها؛ فلأن يفطر بالداخل من الأنف أولى.

لأن ما يدخل من الأنف يحصل به للبدن اغتذاء ونمو, وإن قلَّ؛ كما يحصل بالقليل من الطعام والشراب. فأما شم الأرواح الطيبة من البخور وغيره؛ فلا بأس به للصائم. قال أبو علي ابن البناء: ويكره أن يشم ما لا يأمن أن يجتذبه نفسه؛ كالمسك والكافور السحيق ونحوه. ومن ذلك الأذن: فإذا قطر في أذنه دهناً أو غيره, فوصل دماغه؛ أفطر. قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يخف أن يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه. ذكره أصحابنا, وهو قياس قول أحمد: فإنه يفطر بما يدخل من العين؛ فمن الأذن أولى. 366 - وعن سعيد بن المسيب, عن علي بن أبي طالب؛ قال: «لا بأس أن يكتحل الصائم, ولكن لا يستعط, ولا يُصَيِّرْ شيئاً». رواه حرب. لأنه واصل إلى الدماغ فيفطر؛ كما لو وصل من الأنف والعين أولى. فعلى هذا: لا يكره أن يغتسل ويغوص [في] الماء ويغيب فيه. قاله القاضي وغيره. وكلام أحمد مقيد بما إذا لم يخف أن يدخل الماء مسامعه, وهو الصواب. ومن ذلك العين: فإذا اكتحل بما يصل إلى حلقه: إما لرطوبته

كالأشياف, أو لحدَّته؛ كالذرور والطيب؛ أفطر. وإن شك في وصوله؛ فالأصل صحة الصوم, لكن لا يكتحل بما يخشى دخوله وقال القاضي وابن عقيل: يكره الكحل مطلقاً. قال في رواية حنبل في الكحل للصائم: إن كان فيه طيب يدخل حلقه؛ فلا. ولا يكتحل نهاراً؛ لأنه ربما وصل إلى حلقه, والطيب كذلك. والذرور يدخل إلى حلقه, فإن خشي على عينه؛ تعالَجَ ويقضي إذا لم يجد بُدّاً. وهذا عندنا على الجهد, ولا يعين على نفسه. وقال في رواية الأثرم: الصائم لا يكتحل بالصبر وما أشبهه, هذا يوجد طعمه, فأما الإِثمد؛ فما خفّ منه وجعله عند الإِفطار؛ فهو أسهل. وقال في رواية أبي الصقر: إذا علم أنه قد دخل؛ فعليه القضاء, وإلا؛ فلا شيء عليه. فقد بيَّن أن القضاء لا يجب إلا مع تيقن الدخول, وأمر باجتناب ما يخشى دخوله. 367 - وذلك لما روى عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بالإِثمد المروَّح عند النوم, وقال: «ليتقه الصائم».

رواه أبو داوود, وقال: قال لي يحيى بن معين: وهو حديث منكر, وعبد الرحمن: قيل: هو ضعيف, [وقال الرازي:] هو صدوق. وقد روي ما يصحح هذا الحديث: 368 - فروى إسحاق بن راهوية, عن أبي نعيم, عن عبد الرحمن بن النعمان, عن أبي النعمان الأنصاري, عن أبيه, عن جده؛ قال: وكان جدي قد أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه, وقال: «لا تكتحل نهاراً وأنت صائم واكتحل ليلاً». قال أبو النعمان: جدي يقول: لا تكتحل نهاراً. قال إسحاق: الأمر فيه على ما قال جد أبي النعمان – وكانت له صحبة -: «لا تكتحل نهاراً وأنت صائم» , وهذا أصح شيء في هذا الباب, وذلك أن معناه حسن.

ورواه [البخاري] , عن عبد الرحمن بن نعمان الأنصاري, عن أبيه, عن جده؛ قال: وكان جدي قد أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه, وقال: «لا تكتحل بالنهار وأنت صائم, واكتحل ليلاً بالإِثمد؛ فإنه يجلو البصر وينبت الشعر». فروايته عنه موقوفاً ومرفوعاً يدل على أن له أصلاً. وأيضاً؛ فإن الكحل الحاد يصل إلى الجوف, ويظهر الكحل بعينه إذا تنخعه الإِنسان على اللسان, فعلم أن في العين منفذاً يصل منه, وإذا كان فيها منفذاً وصل بالداخل منه كسائر المنافذ. وأيضاً؛ فإن الدمع يخرج من العين, والدمع محله الدماغ, فعلم أن في العين منافذ ينزل منها الدمع. فإن قيل: دخول الكحل وخروج الدمع من المسام التي في العين, والمسام ليست كالمنافذ التي يحصل الفطر بالداخل منها, بدليل أنه لو اغتسل بالماء أو دهن رأسه أو طيب بدنه؛ فإنه يجد في حلقه برودة الماء وطعم الدهن ولا يفطر, والعرق يخرج من هذه المسام كما يخرج الدمع من العين. قيل: الداخل من العين جسم الكحل, وهو الذي يوجد عند التَّنخع, فأما الذي يجده من الدهن والماء؛ فإنما هو برده وطعمه, وذلك العرض الذي فيه لا جسمه, والعرق يخرج من ظاهر الجسد لا من باطنه, فصار كما لو كان بدنه مجروحاً, فداواه بدواءٍ؛ فإن المفطر لا بد أن يدخل إلى داخل البدن, والكحل بهذه المثابة؛ بخلاف الدهن والماء ونحوهما. 369 - فإن قيل: فقد روى أبو عاتكة, عن أنس بن مالك؛ قال: جاء

رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: اشتكت عيني, أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: «نعم». رواه الترمذي, وقال: إسناده ليس بالقوي, ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء, وأبو عاتكة ضعيف. 370 - وعن بقية بن الوليد؛ قال: ثنا الزبيدي, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة؛ قالت: «اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم». رواه ابن ماجه.

371 - وقد تقدم عن علي: أنه قال: «لا بأس أن يكتحل الصائم». 372 - وعن عبد الله بن أبي بكر؛ قال: «كان أنس بن مالك يكتحل وهو صائم». رواه أبو داود وغيره. قيل: أما المرفوع؛ فضعيف, وحديث أنس وعائشة قضية في عين. والظاهر أن الكحل كان مما لا يدخل إلى الحلق؛ لأنه فسر في الحديث الذي تقدم أنه أمر بالإِثمد المروح؛ الذي فيه طيب تبدو رائحته, ففرق بين المروح وغيره. قال ابن أبي موسى: وإن اكتحل باليسير من الإِثمد غير المطيب بالمسك ونحوه؛ لم يفطر. 373 - وقد روي عن ابن رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ونزلت معه, فدعا بكحل إثمد غير ممسك, واكتحلت معه في رمضان».

ومن ذلك: الدبر؛ فلو احتقن أو أدخل دهناَ أو غيره إلى مقعدته؛ أفطر. فأما إن قطر في إحليله؛ فقال أصحابنا: لا يفطر. قال أحمد في رواية أحمد بن الحسين في الرجل يصيب في إحليله الدهن بالدواء: أرجو أن لا يكون عليه شيء ما لم يصل إلى البطن. والأشياف في المقعدة يصل إلى البطن, وهذا خلاف ذاك. فعلى هذا يكره أن يكتحل. قاله القاضي؛ لأنه يخاف من الفطر. والصحيح: أنه إذا غلب ظنه أنه لا يصل إلى حلقه؛ لم يكره؛ فقد فرق بين القُبُل والدبر بأن ما يدخل الدبر يصل إلى البطن؛ بخلاف ما يدخل [من] الإِحليل. قال: أصحابنا الفطر إنما هو بما يصل إلى البطن أو إلى ما بينه وبين الطريق طريق؛ لأن الصوم هو الإِمساك عن الأكل والشرب ونحوهما مما يصل إلى المعدة, والواصل من العين والأذن يصل إلى الدماغ, وبين الدماغ والبطن مجرى يصل منه إلى البطن, وليس بين المثانة مجرى إلى الجوف, وما يحصل منها من البول؛ فإنما يحصل بالرشح كالعرق يخرج من البدن, فإذا لم يصل منها إلى الجوف؛ لم يفطر؛ كمن أخذ في فمه ماءً لم يفطره؛ فإن علم أنه رشح منه

شيء إلى البطن؛ فهل يكون كالعين؟. . . . فإن أدخل في دبره عوداً أو بقي طرفه خارجاً, أو ابتلع خيطاً طرفه بيده, ثم أخرجه, فقال أصحابنا: يفطر. وظاهر كلامه في العود يدخل البطن. . . . قال ابن أبي موسى: ومن داوى جرحه بيابس أو رطب, فوصل إلى جوفه؛ أفطر. ومن ذلك أن يداوي المأمومة أو الجائفة بدواء يصل إلى الجوف لرطوبته, فأما [الدواء اليابس]؛ فهو لا يصل إلى الجوف في العادة, فإن وصل إليه؛ فهو والرطب سواء؛ لأنه لا فرق بين الواصل من المخارق المعتادة وغير المعتادة. . . . فإن جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه؛ أفطر, سواء استقر النصل في جوفه أو لم يستقر؛ لأنه ذاكر لصومه وصل إلى جوفه باختياره ما أمكنه الاحتراز منه.

* فصل: فإن تجوف جوف في فخذه أو يده أو ظهره أو غير ذلك, وليس بينه وبين البطن منفذ, فوضع فيه شيء

وإن جرح بغير اختياره, فوصل إلى جوفه؛ لم يفطر. هذا قول [أصحابنا] القاضي وغيره. * فصل: فإن تجوَّف جوف في فخذه أو يده أو ظهره أو غير ذلك, وليس بينه وبين البطن منفذ, فوضع فيه شيء؛ لم يفطره؛ كما لو وضعه في فمه وأنفه. الفصل الثالث: إذا استقاء, وهو أن يستدعي القيء؛ فإنه يفطر. فأما إن ذرعة القيء؛ فلا قضاء عليه. 374 - والأصل فيه ما روى عيسى بن يونس, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ذرعه القيء وهو صائم؛ فليس عليه قضاء, ومن استقاء عمداً؛ فليقض». رواه الخمسة. لكن لم يذكر أبو داوود وابن ماجه: «عمداً».

قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب, لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس, وقال محمد: لا أراه محفوظاً.

375 - قلت: وقد رواه ابن ماجه, عن أبي زرعة, عن علي بن الحسن بن سليمان أبي الشعثاء, عن حفص بن غياث, عن هشام: مثل رواية عيسى بن يونس.

376 - ورواه النسائي موقوفاً على أبي هريرة من حديث الأوزاعي عن عطاء عنه. 377 - وعن أبي الدرداء حدثه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر». فلقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق, فقلت: إنّ أبا الدرداء حدثْني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: صدق, وأنا صببت له وضوءه. رواه الخمسة إلا ابن ماجه.

378 - وفي رواية: «استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأفطر, فأتى بماء, فتوضأ».

379 - وعن ابن عمر؛ قال: «إذا استقاء الصائم؛ فعليه القضاء, وإذا ذرعه القيء؛ فلا قضاء عليه». 380 - وعن زيد بن أرقم؛ قال: «ليس بفطر من ذرعه القيء وهو صائم». رواه سعيد. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عمداً. 381 - فإن قيل: فقد روى البخاري عن أبي هريرة؛ قال: «إذا قاء؛ فلا يفطر, إنما يخرج ولا يولج». قال: ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر, والأول أصح.

382 - 383 - قال: وقال ابن عباس وعكرمة: «الفطر مما دخل وليس مما خرج». 384 - وعن إبراهيم؛ قال: قال: «إنما الصيام مما دخل وليس مما خرج, وإنما الوضوء مما خرج [وليس مما دخل]». رواه سعيد. 385 - وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه عن عطاء ابن يسار, عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة, والقيء, والاحتلام». رواه الترمذي وقال: هو غير محفوظ, وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير

واحد هذا الحديث عن زيد بن اسلم مرسلاً, ولم يذكر فيه: عن أبي سعيد. 386 - وقد رواه الدارقطني من حديث هشام بن سعد عن زيد متصلاً. . . . ضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ويقول: روى هذا الحديث عن أبيه عن عطاء بن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرون الصائم: القيء, والحجامة, والاحتلام». 387 - وقال العمري: عن نافع, عن ابن عمر: «إذا ذرعه القيء؛ فلا قضاء عليه, وإن استقاء؛ فعليه القضاء». 388 - ورواه أبو داوود من حديث سفيان, عن زيد بن أسلم, عن

بعض أصحابه, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفطر من قاء ولا من احتجم ولا من احتلم». قيل: أما الحديث المرفوع؛ فضعيف, ثم قِرانه بالاحتلام قد يحتمل أنه أراد من ذرعه القيء؛ فإنه لو استمنى أفطر, فيحمل هذا على من ذرعه القيء. ثم لو لم يكن في الباب حديث مرفوع, وتعارضت أقوال الصحابة؛ لكان قول من فطَّره أولى بالاتباع؛ لأن التفطير بالاستقاء لا يدرك بالقياس على الأكل والشرب. فمن نفى الفطر به؛ بناه على ما ظهر من أن الفطر إنما هو مما دخل, ومن أوجب الفطر به؛ فقد اطلع مزيد علم وسنة خفيت على غيره. والاستقاء: أن يستدعي القيء بيده أو بجذب نفسه. فأما إن نظر إلى شيء بغتة أو تفكر في شيء بغتة حتى قاء: فقال ابن عقيل: يفطر إذا قصد ذلك. كما اختار أنه يفسد صومه إذا نظر

أو تفكر فأنزل. وذكر عمن خالفه من أصحابنا: أنه إذا نظر فقاء أو تذكر فقاء؛ لم يفطر. والقيء المفطر: هو الطعام ونحوه الذي يخرج من الجوف, فأما ما ينزل من الرأس؛ فلا بأس به. فأما النخامة: التي تخرج من الجوف: فقال في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم؛ إلا أنه لا يعجبني أن يفعل. والنخاعة إذا كانت من الصدر, ليس فيها طعام؛ فلا بأس. وإن استقاء حتى يخرج الطعام؛ فعليه القضاء. وقال في رواية حنبل: إذا تنخم الصائم, ثم ازدرده؛ فقد أفطر. فإن بلع ريقه؛ لم يفطر. لأن النخامة تنزل من الرأس, والريق من الفم؛ فبينهما فرق. ولو أن رجلاً تنخع من جوفه, ثم ازدرده؛ فقد أفطر. لأنه شيء قد بان منه, وكان بمنزلة من أكل شيئاً. ولا ينبغي أن يتنخم ويقلع من جوفه بلغماً أو غيره؛ إلا أن يغلبه أمر, فيقذفه ولا يزدرده؛ فقد نص في استخراج النخامة من الصدر عمداً على روايتين: قال القاضي: وتحقيق المذهب في قدر القيء الذي يحصل به الفطر مبني على قدر ما يحصل به نقض الطهر, وفيه ثلاث روايات: إحداها: ما كان ملء الفم.

* فصل: ويكره للصائم أن يباشر أو يقبل أو ينظر لشهوة

والثانية: ما كان نصفه. والثالثة: قليلة وكثيرة سواء في الفساد. والرواية الأولى؛ قال [في رواية] حنبل: إذا استقاء عمداً أفطر. قيل له: ما القلس؟ قال: إذا كان فاحشاً. قيل له: ما الفاحش؟ قال: ما كان كثيراً في الفم. ونصر القاضي إذا كان فاحشاً على ظاهر رواية حنبل, وتعليله يقتضي أن يخرج إلى فمه مقدار لا يمكنه أن يمسكه حتى يمجه؛ بخلاف ما دونه. والإِفطار بملء الفم اختيار الشريف. . . . . الفصل الرابع: إذا استمنى أو فعل فعلاً فأنزل به مثل أن يباشر بقبلةٍ أو لمسٍ أو نظر, فيمني أم يمذي. وقد تقدم ذلك بحديث عمر لما قبَّل وهو صائم. * فصل: ويكره للصائم أن يباشر أو يقبل أو ينظر لشهوة في إحدى الروايتين. قال في رواية حنبل وقد سئل عن القبلة للصائم؟ فقال: لا يُقبِّل. وينبغي له أن يحفظ صومه, والشاب ينبغي له أن يجتنب ذلك؛ لما يخاف من نقض صومه. وفي الأخرى: لا يكره. لمن لا تحرك القبلة شهوته.

وأما المباشرة باليد: فقال في رواية ابن منصور وقد سُئل عن الصائم يقبل أو يباشر؟ قال: المباشرة شديدة, والقبلة أهون. الفصل الخامس: إذا احتجم؛ فإنه يفطر. نص عليه في رواية الجماعة, وهو قول أصحابه. قال في رواية ابن إبراهيم في الرجل يحتجم على ساقه أو على يده أو على شيء منه: فقد أفطر. وقال في رواية المروذي فيمن نظر صيام عشرة أيام فاحتجم فيها: عليه القضاء والكفارة, وان احتجم في رمضان؛ فعليه القضاء. وقال في رواية ابن عبدك فيمن احتجم في شهر رمضان: فإن كان قد بلغه الخبر؛ فعليه القضاء والكفارة, وإن لم يبلغه الخبر؛ فعليه القضاء. فقد نص في رواية المروذي: أنه لا كفارة فيها, وإنما عليه كفارة ترك النذر, وهذا هو المذهب. وقال في الرواية الأخرى: عليه الكفارة مع العلم. قال ابن عقيل: لم يقدرها, والأشبه أنها كفارة الوطء. قال: ويحتمل أن يجب فدية المرضع والحامل. وأما الذي يحجم غيره: فقال أكثر أصحابنا: يفطر أيضاً. قال أحمد في رواية حنبل: «الحجامة تفطر». وقال في رواية ابن إبراهيم: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم

والمحجوم» , يقولون: إنهما كانا يغتابان؛ فالغيبة أشد للصائم بفطره أجدر أن يفطره الغيبة, ومن يَسْلَم من الغيبة؟ وقال أيضاً في رواية عبد الله من أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»: حديث شداد بن أوس وثوبان؛ لأن شيبان جمع الحديثين جميعاً. فظاهر هذا أنه أخذ به, ولم يذكر الخرقي الحجم في المفطرات. . . . 389 - والأصل في ذلك ما روى ابن قلابة, عن أبي الأشعث, عن شداد بن أوس: أنه مرَّ زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم».

390 - وعن أبي قلابة ومكحول, عن أبي أسماء, عن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواهما الخمسة إلا الترمذي.

391 - وعن رافع بن خديج؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه أحمد والترمذي, وقال: حديث حسن.

قال الترمذي: ذكر عن أحمد بن حنبل: أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج. وذكر عن علي بن عبد الله: أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس. [قال الترمذي: وسألت محمد بن إسماعيل؟ فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس] وثوبان. فقلت له: وكيف ما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن شداد بن أوس الحديثين جميعاً.

وذكر عباس بن عبد العظيم؛ قال: سمعت علي بن عبد الله, وسئل عن أصح حديث في الحجامة للصائم؟ فقال: أصحهما حديث رافع بن خديج. وقال أحمد في رواية عبد الله: من أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»؟ حديث شداد بن أوس وثوبان؛ لأن شيبان جمع الحديثين جميعاً. اهـ. وقال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس: صحيحان هما عندك؟ قال: نعم. وقال ابن إبراهيم: قيل لأبي عبد الله: أي حديث أقوى عندك في الحجامة؟ قال: حديث ثوبان. وقال في رواية الميموني: حديث رافع بن خديج إسناده جيد؛ [إلا أنه لا أحد رواه غير عبد الرزاق]. 392 - وعن الحسن, عن معقل بن سنان الأشجعي: أنه قال: مرَّ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من رمضان, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه أحمد.

393 - 394 - وعن عائشة وبلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواهما أحمد والنسائي.

وعن أبي هريرة مثله. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.

......................................

396 - وعن أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمستحجم». رواه أحمد والنسائي. وقد روى أحمد في «مسائل عبد الله» هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية بضعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم, ومنهم:

397 - علي بن أبي طالب. 398 - وسعد بن أبي وقاص.

399 - وأبو زيد الأنصاري. 400 - وأبو موسى.

401 - وعبد الله بن عمر. 402 - وابن عباس. 403 - وصفية.

قال حرب: سمعت إسحاق يقول: «مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتجم في شهر رمضان؛ فقد أفطر الحاجم والمحجوم» , وصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار متصلة. . . . فإن قيل: يجوز أن يكون قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» ذكره على وجه التعريف لهما بذلك, ويكونان قد أفطرا بسبب غير الحجامة. 404 - فقد قيل: إنهما كانا يغتابان, فقال: أفطرا لذلك السبب, لا لأن الحجامة تفطر.

405 - يدل عليه ما رواه محمد بن حمدون بن خالد, عن الحسن بن الفضل البصري, ثنا غياث بن كلوب, ثنا مطرف بن سمرة, عن أبيه؛ قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل بين يدي حجام – وذاك في رمضان وهما يغتابان رجلاً – فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». رواه القشيري عن عبدوس عنه, وقال: هو صريح في أن الحجامة لا تفطر, والغيبة أيضاً. والخبر محمول على الاستحباب أو هو منسوخ. ويجوز أن يكون قوله: «أفطرا»؛ أي: قاربا الفطر؛ فإنه يخشى على المحتجم أن يضعف فيفطر كما يفطر المريض, وعلى الحاجم أن يمتص من الدم شيئاً فيفطر به فتكون الحجامة مكروهة لا مفطرة. وقد روي عن السلف ما يدل على ذلك: 406 - فروى عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم والمواصلة, ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه, فقيل له: يا رسول الله! إنك تواصل إلى السحر. فقال: «إني أواصل إلى السحر وربي يطعمني ويسقيني». رواه أحمد وأبو داوود.

407 - وعن ثابت البناني: «أنه قال لأنس بن مالك: ألستم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا؛ إلا من أجل الضعف». رواه البخاري وأبو داود, ولفظه: «ما ندع الحجامة للصائم إلا كراهة الجهد». 408 - وعن حميد؛ قال: «سئل [أنس] عن الحجامة للصائم؟ قال: ما كنت [أرى] أنه يكره إلا أن يجهده». رواه أحمد في «مسائل عبد الله». ورواه سعيد ولفظه: «ما كنا نكره منه إلا جهده». 409 - وقال إبراهيم: «كانوا يكرهون الحجامة للصائم مخافة الضعف». رواه سعيد. 410 - ثم هذا الحديث منسوخ بما روى عكرمة, عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وهو محرم, واحتجم وهو صائم». رواه أحمد والبخاري.

............................

.............................

411 - ورواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه, ولفظهم: «احتجم وهو محرم صائم». قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهذا الحديث قد رواه جماعة كثيرة عن أيوب عن عكرمة مرسلاً. 412 - ورواه النسائي أيضاً, عن عطاء, عن ابن عباس: «احتجم بلحي الجمل وهو صائم محرم». قالوا: وهذا الحديث كان في حجة الوداع, والحديث الأول كان في عام الفتح؛ فاحتجامه بعد النهي.

ويدل على ذلك: 413 - ما روي عن أنس بن مالك؛ قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم, فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أفطر هذان». ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الحجامة للصائم. رواه الدارقطني وقال: كلهم ثقات ولا أعلم له علة. 414 - وعن رجل عن أنس؛ قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بعدما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». 415 - وقد روي عن ابن مسعود: «أنه لا يرى بأساً بالحجامة للصائم».

416 - وعن أبي سعيد مثله. 417 - وعن الحسين بن علي: «أنه احتجم في رمضان». 418 - وعن أم سلمة: «أنها احتجمت وهي صائمة». رواهن سعيد. 419 - 420 - قال البخاري: «ويُذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة: احتجموا صياماً».

421 - قال: وقال بكير: [عن أم علقمة]: «كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهانا». 422 - وعن أبي سعيد؛ قال: «رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة». رواه النسائي والدارقطني وقال: كلهم ثقات.

........................

...................

...........................

423 - وعن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة, والقيء, والاحتلام». رواه الترمذي كم حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد, وقال: هو غير محفوظ, وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير واحد هذا الحديث عن زيد بن أسلم مرسلاً, ولم يذكروا: عن أبي سعيد. 424 - ورواه الدارقطني من حديث هشام بن سعد عن زيد مثله. 425 - ورواه أبو داوود من حديث سفيان, عن [زيد بن أسلم] , عن بعض أصحابه, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم».

426 - ورواه عبد الرزاق, عن أبي بكر عن عبد الله, عن زيد بن عطاء, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: وذكره معمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. 427 - وعن [أيمن] بن نابل: أنه سأل القاسم بن محمد: أيحتجم الصائم؟ قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم». رواه عبد الرزاق. واحتجاجه به يدل على أنه لم يفطر. وأيضاً؛ فإن الأصل في الفطر أن يكون مما دخل إلى الجوف دون ما خرج منه, وإنما خرج عن هذا دم الحيض, وهو يخرج بغير اختيار الإِنسان, ولأنه استخراج دم من البدن, فلم يفطر؛ كالفصاد وبط الدماميل والجرح. قلنا: أما كونهما أفطرا بغير الحجامة؛ فلا يصح لوجوه: أحدها: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» , فعلق الحكم باسم مشتق من معنى, فيجب أن يتعلق بذلك المعنى, ولو علَّقناه بغيره؛ كان خلاف ظاهر اللفظ, وذلك لا يجوز؛ إلا أن يعلم أن هناك سبباً آخر, فلو فتح هذا الباب؛ لم يبق حكم معلق باسم من الأسماء إلا ويجوز أن يدعي مدع أن الحكم له سبب غير معنى الاسم. الثاني: أن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»: لفظ عام لم يخصصه بمحجوم بعينه؛ فإنه قد رواه عنه جماعة من أصحابه رواية مطلقة عامة, وبلغوه إلى من بعدهم تبليغ من يعلمهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان ذلك لسبب يختص

بذلك المحتجم؛ لم يكن في رواية هذا الحديث فائدة أصلاً, لا سيما إذا لم يذكر السبب الذي به أفطر. الثالث: أنه قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم. 428 - وروى أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة للصائم وقال لعلي: «لا تحتجم وأنت صائم». وهذا صريح بالنهي عن نفس الحجامة. الرابع: أن الصحابة الذين رووا هذا الحديث, والذين لم يرووه, فهموا منه أنه نهى عن الحجامة. 429 - فروى أحمد في «مسائل عبد الله» بإسناده عن علي: أنه قال: «لا تدخل الحمام وأنت صائم, ولا تحتجم وأنت صائم». 430 - وفي لفظ عن علي: «أفطر الحاجم والمحجوم».

431 - وعن عطاء؛ قال: قال أبو هريرة: «أفطر الحاجم والمحجوم». 432 - وفي رواية عن أبي هريرة: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم, ولو احتجمت؛ لم أبال». 433 - وعن عائشة وصفية: أنهما قالتا: «أفطر الحاجم والمحجوم». 434 - وعن أبي العالية؛ قال: دخلت على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة ممسياً, فوجدته يأكل ثمراً وكامخاً, فقال: «احتجمتُ». فقلت: ألا احتجمتَ نهاراً؟ فقال: «أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم». 435 - وعن ابن عمر: أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم».

436 - وعن سالم: «أن ابن عمر كان يحتجم وهو صائم. قال: فبلغه حديث [أو شيء] , فكان إذا كان صائماً احتجم بالليل». 438 - وروى أحمد, عن الحسن, عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم».

439 - وعن عبد الله بن أيوب المخرمي؛ قال: سمعت روحاً يقول لأبي عبد الله: أدركت الناس بالبصرة منذ خمسين سنة, إذا دخل شهر رمضان؛ أغلق الحجَّامون دكاكينهم». ذكره عنه المروذي. قال البخاري: «وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم, ثم تركه, وكان يحتجم بالليل, واحتجم أبو موسى ليلاً». الخامس: أن السبب الذي زعموا أنهما أفطرا به الغيبة؛ [قال أحمد:] يقولون: إنهما كانا يغتابان, والغيبة أشد للصائم؛ ففطره أجدر أن تفطره الغيبة, ومن يسلم من الغيبة؟ وقال أيضاً: لو كان للغيبة؛ ما كان لنا صوم. وأما حمله على مقارنة الفطر, وأن ذلك يفيد الكراهة؛ فلا يصح أيضاً؛ لوجوه: أحدها: أن قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»: نص في حصول الفطر بهما, ولا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما, والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنهما بالفطر, لا سيما

وقد أطلق هذا القول إطلاقاً, من غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره ليس بمراد؛ فلو جاز أن يراد به مقارنة الفطر دون حقيقته؛ لكان ذلك تلبيساً لا بياناً للحكم. 440 - الثاني: أن ابن بطة روى بإسناده عن عمر بن الخطاب؛ قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فإذا برجل يحتجم. قال: فلما رآه رسول الله؛ قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». فقلت: يا رسول الله! أفلا آخذ بعنقه حتى أكسره؟ قال: «ذره؛ فما [لزمه من] الكفارة أعظم مما تريد به». قال: قلت: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: «يوماً مثله». [قلت:] إذاً لا يجده. قال: «إذاً لا أبالي». الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في مقدمات الفطر, ولم يجعلها بمنزلته. 441 - ولهذا لما سأله عمر رضي الله عنه القبلة للصائم؟ قال: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ففيم».

فإذا كانت القبلة تدعو إلى الإِنزال, والمضمضمة تدعو إلى الابتلاع, ولم يسمِّ النبي صلى الله عليه وسلم فاعلها مفطراً [بذلك]؛ فلأن لا يُسمى المحتجم مفطراً خشية أن يضعف فيحتاج إلى الفطر أولى. وأما اعتقاد من اعتقد أن كراهة الحجامة إنما هي لأجل الضعف؛ فهذا لا يمنع كونها مفطرة. وأما قول من قال: «ولم يحرمها»؛ فهو قد اعتقد ذلك, وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك, والنهي يقتضي التحريم, ولم يعلم الصحابي الذي اعتقد ذلك. وقد خالفه جمهور الصحابة. ومن روي عنه من الصحابة الرخصة في ذلك؛ فأكثرهم قد روي عنه بخلافه, وهذا يدل على أنهم لم يكونوا سمعوا النهي في ذلك, ثم سمعوه كما جاء مفسراً في حديث ابن عمر. ويوضح ذلك أن من قال منهم: لا يفطر؛ فقد بنى قوله على ظاهر القياس. بخلاف من قال: إنها تفطر؛ فإنه لا يقول ذلك؛ إلا لعلم اطلع عليه وخفي على غيره. وكل ما اختلف فيه الصحابة مما يشبه هذا؛ مثل: اختلافهم في انتقاض الوضوء بمس الذكر ونحوه؛ فإن المثبت منهم يجب أن يكون معه علم خفي على الناس؛ لأن هذا ابتداء شريعة, لا يجوز أن يثبت بالقياس؛ بخلاف النفي؛ فإنه يكفي فيه البراءة الأصلية.

442 - وأما حديث ابن عباس؛ فقد قال أحمد في رواية مهنا: حديث ابن عباس «أنه احتجم صائماً»: خطأ من قبل قبيصة, رواه عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. 443 - 444 - وقال في رواية صالح: عمرو عن طاووس وعطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم».

445 - ومعمر عن [ابن خيثم] عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم». هؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صياماً. وقال في رواية حنبل: الذي في [الحديث أن] بلغني عن يحيى ومعاذ أنهما أنكراه عليه. يعني: على الأنصاري. 446 - وقال في رواية الأثرم: هو ضعيف؛ لأن الأنصاري ذهبت كتبه, وكان يحدث من كتب غلامه أبي حكيم.

وأما ادعاء النسخ؛ فلا يصح؛ لوجوه: أحدها: أن الذي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: احتجم وهو محرم صائم, ولم يبين أن هذا الإِحرام كان في حجة الوداع؛ فيجوز أن يكون كان في إحرامه بعمرة الحديبية أو إحرامه بعمرة القضية, وكلاهما قبل الفتح, فيكون احتجامه وهو صائم منسوخاً بقوله بعد ذلك: «أفطر الحاجم والمحجوم». ويؤيد هذا القول وجوه: 447 - أحدها: ما روى أحمد, عن حجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً, فغشي عليه؛ فلذلك كره الحجامة للصائم». رواه أحمد.

448 - وفي لفظ عن ابن عباس: أنه قال: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بالقاحة وهو محرم صائم, فوجد لذلك ضعفاً شديداً, فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجم الصائم». رواه الجوزجاني. 449 - عن الحكم؛ قال: «احتجم رسول الله وهو صائم فضعف, ثم كرهت الحجامة للصائم».

450 - وعن الشعبي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم, وتزوج الهلالية وهو محرم». رواه سعيد. وكان تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية في عمرة القضاء, فعلم أن احتجامه كان في عمرة القضاء, وذلك قبل الفتح, وقبل قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم». فهذا يبين أن الكراهة كانت بعد احتجامه محرماً. ويؤيد ذلك: 451 - ما روى الجوزجاني: «أن ابن عباس كان يعد الحجام والمحاجم., فإذا غابت الشمس؛ احتجم بالليل». ولولا علمه بأن احتجام الصائم جائز؛ لما فعل ذلك. الثاني: لو كان هو المتقدم؛ للزم تغيير الحكم مرتين؛ [لأن الحجامة كانت غير محظورة, ثم نهى عنها؛ فإذا أذن فيها بعد ذلك؛ فقد غير الحكم مرتين]؛ بخلاف ما إذا كان الإِذن قبل النهي. الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم علموا أن النهي آخر الأمرين؛ كما تقدم عن ابن عمر وغيره, ولهذا رجعوا عن القول بالاحتجام إلى تركه, وأبو موسى وابن عباس كانا يكرهان الحجامة للصائم, وهما ممن رويا حجامة

النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم, بل عليهما مدار الحديث. الوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يخالف قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»؛ لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم, وفي لفظ للبخاري: «من وجع به» , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً في رمضان قط؛ لأن إحرامه بعُمرِهِ الثلاثة وبحجة الوداع في ذي القعدة, فيكون هذا الصوم تطوعاً, ثم كان مريضاً, والمريض يجوز له الفطر, ثم كان مسافراً؛ لأنه لم يكن محرماً مقيماً قط. فإذا كان الفطر جائزاً له في هذه الوجوه الثلاثة؛ فيكون قد احتجم, وإن أفطر بالحجامة؛ فإنه ليس في الحديث لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنه بقي على صومه, بل قد أفطر في رمضان لما أصاب أصحابه الجهد؛ فلأن يفطر في مرض أصابه بطريق الأولى. 452 - [لما روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر»]. وقد قيل: يجوز أن يكون ركَّب المحاجم نهاراً واحتجم ليلاً. 453 - لما روى أبو بكر عن جابر: «إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي طيبة

أن يأتيه ليحجمه عند فطر الصائم, وأمره أن. . .». 454 - وأما حديث أبي سعيد؛ فقال: ابن خزيمة: قوله: «والحجامة للصائم»: إنما هو من قول أبي سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم, أدرج في الخبر. وقال عنه الآخر: الصحيح في هذا الخبر أنه منقطع غير متصل, والذي وصله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وعبد الرحمن ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه؛ لسوء حفظه للأسانيد؛ لأنه رجل صنعته العبادة والتقشف والموعظة, وليس من أحلاس الحديث الذي يحفظ الإِسناد. وقال أبو بكر: سمعت محمد بن يحيى يقول: هذا الحديث غير محفوظ عن أبي سعيد, ولا عن عطاء بن يسار, والمحفوظ عندنا حديث سفيان ومعمر. يعني: أنهما روياه عن زيد بن أسلم عن [رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم]. ثم إن صح الحديث؛ فهو منسوخ بحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم». ويدل على ذلك أن فيه القيء والاحتلام, ومعلوم أنه لو استقاء أو استمنى؛ أفطر؛ فكذلك إذا احتجم, أو أنه محمول على ما إذا احتجم ساهياً [أو حُجم] بغير اختياره؛ [فإنه قرنه بالقيء والاحتلام, وهما يخرجان من المرء

بغير اختياره]؛ فكذلك ما ذكر معهما ينبغي أن يكون كذلك. 455 - وأما حديث أنس أن الرخصة بعد النهي؛ فضعيف.

فإن في الذي جوده الدارقطني خالد بن مخلد: قال أحمد: له أحاديث مناكير, ولعل هذا من [أنكرها]. 456 - لأن أنساً ذكر أنهم كانوا يكرهون ذلك لأجل الجهد كما رواه البخاري, وهذه الكراهة باقية.

457 - ولأن أحمد روى بإسناده, عن هشام بن محمد؛ قال: «كان أنس إذا شق عليه الدم في الصوم؛ أرسل إلى الحجام عند غروب الشمس, فوضع المحاجم, وإذا غربت شرط». ولو كان عنده إذن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يفعل مثل ذلك. ومخالفة البصريين له مع أنهم أصحاب أنس. وأن الكراهة بعد موت جعفر. . . . ثم من أصحابنا من سلك فيها مسلك التعبد الصرف, ورأى خروجها عن مسالك القياس, وجعلها موضع استحسان, فقدم فيه النص على القياس. وهذه طريقة ابن عقيل. ومنهم من سلك فيها ضرباً من التعليل. فقال القاضي: استدعاء شيء من بدنه نهى عنه نهياً يختص بالصوم فأفسد الصوم؛ كاستدعاء القيء, [وهو أن الاحتجام] استخراج ما به قوام البدن, فجاز أن يفطر به كاستخراج القيء والمني والمذي ودم الحيض. وهذا لأن الصائم لما مُنع من الأكل والشرب ليحصل حكمة الصوم التي هي التقوى؛ كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] , وللنفس على الإِنسان حق لا بد من رعايته؛ راعى الشرع جانب حق النفس وحفظ القوة؛ حسماً لمادة الغلو في الدين والمروق منه, وتحصيلاً لمصلحة الاغتذاء التي لا بد منها أيضاً. 458 - فنهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال. 459 - 460 - وأمر بتعجيل الفطر, وتأخير السحور. 461 - وجعل أفضل الصيام صيام يوم وفطر يوم. 462 - وقال: «لكنِّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني». 463 - وقال: «من صام الدهر؛ فلا صام ولا أفطر». ومنه جماعة من أصحابه من تكثير الصيام؛ منهم:

464 - عبد الله بن عمرو. 465 - والنمر بن تولب. 466 - والباهلي. وعاب على منْ قال: أما أنا؛ فأصوم لا أفطر. كل ذلك تعديلاً وأخذاً بخيار الأمور التي هي أوساطها. فإذا كان هذا مصلحة جليلة قد شهد الشرع بالاعتبار, وكان الصائم إذا خرج منه [القيء] خلا من الغذاء الذي هو مادته؛ فإذا استخرج منه الدم الذي به قوام بدنه, وإليه استحال الغذاء؛ ضعف بذلك, وإذا خرج منه المني الذي هو صفاوة الدم؛ ضعف أيضاً. وكذلك إذا خرج دم الحيض؛ منعه الشارع من استخراج هذه الأشياء لما منعه من استدخال ما يكون خلفاً منها وبدلاً عنها, وصار المقصود الأصلي من الصوم هو الكف عن الإِدخال, والكف عن الإِخراج تابع له ومطلوب في ضمنه. فأما ما غلب عنه المرء من هذه الأشياء؛ مثل أن يذرعه القيء, أو يرعف, أو يجرح جرحاُ بغير اختياره, أو يحتلم, ونحو ذلك؛ لم يفطر به. لأنه بمنزلة ما يدخل جوفه من الغبار والدقيق ونحو ذلك. ولأن امتناعه من هذه الأشياء لا يدخل تحت قدرته.

* فصل: ويفطر بالحجامة في جميع البدن

وأما دم الحيض: فلما كان له أوقات معلومة يمكن الاحتراز عن الصوم فيها لا تتكرر دائماً؛ صار الامتناع [في] الصوم معه [في] جملة ما يقدر عليه الإِنسان. ولهذا إذا صار دم استحاضة, وهو الخارج عن الأمر المعتاد؛ لم يمنع صحة الصوم, وخرج عن هذا استخراج البول والغائط ونحوهما من وجهين: أحدهما: أن ذلك فضلة محضة, فليس هو من قياس البدن الذي يخاف أن يورث ضعفاً. الثاني: أن خروجه أمر طبيعي لا يمكن الاحتراز منه, وما كان من هذا الباب؛ لا يفطر؛ كذرع القيء والاحتلام وأولى. وهذا معنى حسن, وقد نبه عليه بعض الآثار المتقدمة إلا بذكر فرع المسألة. * فصل: ويفطر بالحجامة في جميع البدن. نص عليه. مثل أن يحتجم في يده أو ساقه أو عضده أو رأسه أو قفاه. وإن شرط بالمشرط ولم يخرج الدم؛ أفطر على ما ذكره ابن عقيل؛ فإنه قال: الحجامة نفس الشرط, يتعلق الإِفطار على الاسم. فعلى هذا الإِفطار يسبق الدم. وإن ركب المحاجم. . .؛ كما لو بل المحرم رأسه قبل التحلل ثم حلقه بعده.

وعلى ذكره القاضي: لا بفطر. وهو أصح؛ لأن الحجامة هي الامتصاص أيضا؛ يقال: ما حجم الصبي ثدي أمه؛ أي: ما مصه. والحِجَام: ما يُجعل في خطم البعير لئلا يعض, يقال: حجمت البعير أو أحجمه: إذا جعلت على فِيْهِ حجاماً. فالقارورة تحجم الدم عن أن يسيل. وأيضاً؛ فإن الشرط أخص. . . . فإن شرط وأخرج الدم من غير محجمة يمتص بها, مثل الشرط في الأذن؛ فقياس المذهب الفكر بها؛ لأن وضع المحجمة على العضو لا أثر له في الفطر. ولهذا يجوز أن توضع المحاجم على العضو ويلين قبل غروب الشمس, ثم يقع الشرط بعد غروبها. قال أصحابنا: لأن التليين وتركيب المحاجم مقدمات. وأما الفصاد وجرح العضو باختياره وبط الدمامل ونحو ذلك؛ فقال أكثر أصحابنا منهم القاضي وابن عقيل: لا يفطر. لأنه لا نص فيه, ولا يمكن إثبات الحكم فيه قياساً؛ لجواز أن يكون في الحجامة معنى يختصه, ولأن الدم منه ما يخرج بنفسه وهو دم الحيض والاستحاضة والنفاس ومنه ما يخرج بالإِخراج. ثم الأول يفطر بعضه دون بعض, فيجوز أن يكون الثاني كذلك, وهو لا يبطل القياس المتقدم؛ لأن التعليل للنوع والجواز, فلا ينتقض بأعيان المسائل. . . .

وقيل: يفطر الفصاد, وهذا أقيس. . . . وأما الجرح والاسترعاف؛ فلا يكاد العاقل يفعله بنفسه, فيحتمل. . . . وأما بط الدماميل والقروح؛ فتلك دماء فضلات لا يضعف خروجها. وأما الحاجم: فظاهر قول الخرقي هو ظاهر القياس فيه؛ فإن ما ذكرنا من المعنى مفقود فيه. لكن المذهب أنه يفطر؛ كما هو منصوص في الحديث؛ فإن الدلالة على فطرهما دلالة واحدة, ويلوح فيه أشياء: أحدها: أن الحجامة لما لم تمكن إلا من اثنين؛ جاز أن يجعل الشرع فعل أحدهما الذي لا يتم فطر الآخر إلا به فِطراً, وأن يجعل تفطير الصائم فطراً؛ كما قيل في الجماع, وهذا بخلاف الإِطعام والإِسقاء؛ فإن ذلك يمكن أن يكون من واحد, فليس فعل الآخر شرطاً في وجوده. 467 - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً؛ فله مثل أجره؛ من غير أن ينقص من أجره شيء». فإذا كان المعين له على صومه بعشائه بمنزلة الصائم؛ جاز أن يكون المفسد لصومه بمنزلة المفطر. 468 - وكذلك قوله: «من جهز غازياً؛ فقد غزا, ومن خلفه في أهله بخير؛ فقد غزا».

وضد ذلك من صدَّ عن سبيل الله بالتثبيط عن الجهاد؛ فإنه بمنزلة المحارب لله ورسوله. 469 - كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله في أمره».

وخص الحاجم بهذا من بين [الطاعم] والمسقي؛ فإنه لو امتنع عن حجمه؛ لم يفطر؛ بخلاف المطعم والمسقي؛ فإنَّ أكْل ذلك وشربه غير منوط بفعل غيره. نعم يشبه هذا ما لو مكنت المرأة زوجها من أن يطأها دون الفرج, فأنزل هو, ولم تنزل هي. وطرد هذا أن منْ حجم من ليس بصائم لا يفطر, وهذا الوجه ليس بذاك. . . . ومنها: أن الحاجم إذا امتص المحجم بعد شرط العضو؛ جاز أن يسبق شيء من الدم إلى حلقه ولا يشعر به, والحكمة إذا كانت خفية؛ أقيمت المظنة الظاهرة مقامها؛ كالنوم مع الحدث, ولهذا لو امتص الحجم عند وضعه قبل الشرط؛ لم يفطر؛ كما جاء في الحديث: «أنه كان وضع المحاجم قبل الغروب, ثم شرط بعد الغروب». . . .

فعلى هذا؛ لو شرط بدون مص مثل ما شرط الأذن, وقلنا. يفطر المشروط؛ فإن الشارط هنا لا يفطر, وكذلك الفاصد. ومنها: أن الحجامة في الأصل لما كانت إخراج دم, وهي من الصناعات الرديئة, ولهذا كره كسبها. الفصل السادس: أن منْ فعل هذه الأشياء ناسياً لصومه؛ لم يفطر. ولا يختلف المذهب في الأكل والشرب ونحوهما مما فيه القضاء فقط, وقد تقدم ذكر المباشرة. والله أعلم. وأما الحجامة إذا فعلها ناسياً. فالمنصوص أنه لا يفطر. قال حرب: قلت لأحمد: فاستحجم ناسياً؟ قال: لا شيء. وذكر ابن عقيل فيها وجهين: أحدهما: كذلك؛ لأنها ليست بأكثر من الأكل. الثاني: يفطر؛ لأن الفطر بها ثبت على خلاف القياس, والنبي صلى الله عليه وسلم لم

يفصل في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» , ولم يستفصل عن حال اللذين مرَّ بهما, وفي الاستقاء. . . . 470 - والأصل في ذلك ما روى محمد بن سيرين, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم, فأكل أو شرب؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه». رواه الجماعة. وفي رواية أبي داوود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم؟ فقال: «الله أطعمك وسقاك». وفي هذا الحديث الدلالة من وجوه: أحدها: أنه أمره بإتمام الصوم تخصيصاً له بهذا الحكم بقوله: «من أكل أو شرب ناسياً» , فعلم أن هذا إتمامٌ لصوم صحيح, إذ لو كان المراد به وجوب الإِمساك؛ لم يكن بين العامد والناسي فرق. الثاني: أنه قال: «فليتم صومه» , وصومه هو الصوم الصحيح المجزئ. وقد أمر بإتمامه, فعلم أن الصوم الذي بعد الأكل تمام للصوم الذي قبله, ولو أراد وجوب الإِمساك [فقط]؛ لقال: فليتم صياماً, أو: فليصم بقية يومه. . . ونحو ذلك؛ كما قال لأهل عاشوراء. الثالث: أنه لم يأمره بالقضاء, وقد جاء مستفتياً له عما يجب عليه شاكّاً في الأكل مع النسيان؛ هل يفسد أو لا يفسد؟ ومعلوم أنه لو كان واجباً؛ لذكره,

لم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة. الرابع: أنه علل أمره بالإِتمام بأن الله أطعمه وسقاه, ولو لم يكن مقصوده إتمام الصوم الصحيح؛ لم يصح التعليل بهذا؛ فإنه إذا أفسد الصوم في رمضان؛ وجب الإِمساك, وإن لم يكن الله أطعمه وسقاه بغير قصد من التعبد ولا إرادة؛ فلا بد أن يكون لهذه العلة أثر في هذا الحكم, ولا يكون لها أثراً؛ إلا أن يكون الصوم صحيحاً. الخامس: أنه قال: «الله أطعمك وسقاك»؛ تعليلاً وجواباً. ومعلوم أن إطعام الله وإسقاءه للعبد على وجهين: أحدهما: أنه خلق له الطعام والشراب والحركة التي بها يأكل ويشرب, وعلى هذا؛ فالعامد والناسي وجميع الخلق الله أطعمهم وسقاهم؛ كما قال إبراهيم {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. وهذا المعنى لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قدر مشترك بين المتعمد والناسي, وهو بمنزلة قوله: أنت أكلت وشربت؛ فهي حكاية حال محضة. والثاني: أن يطعمه ويسقيه بغير قصد من العبد ولا عمد؛ كما في هذه الصورة؛ فإنه لو ذكر أنه صائم؛ لم يأكل ولم يشرب, لكن أنساه الله تعالى صومه, وقيض له الطعام والشراب, فصار غير مكلف؛ لأجل النسيان, فأضيف الفعل إلى الله تعالى قدراً وشرعاً, فسقط قلم التكليف عن هذا الفعل. وفعل الله تعالى لا يتوجه إليه تكليف؛ فإن إطعامه وإسقاءه لا يكون منهيًاً عنه, والمكلف لم يوجد منه ما يخفي عنه؛ فالصوم باقٍ بحاله. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أطعمك وسقاك»: معناه: لا صنع لك في هذا الفعل, وإنما هو فعل الله فقط؛ فلا حرج عليك فيه ولا إثم؛ فأتمم صومك.

471 - السادس: ما روي في لفظ: «إذا أكل الصائم أو شرب ناسياً؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه, ولا قضاء عليه». رواه الدارقطني وقال: إسناد صحيح كلهم ثقات.

472 - وفي لفظ: «من أفطر يوماً في رمضان ناسياً؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة». رواه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق - وهو ثقة- عن الأنصاري.

473 - وأيضاً: عن أم حكيم بنت دينار, عن مولاتها أم إسحاق: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتي بقصعة من ثريد, فأكلت معه, ومعه ذو اليدين, فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً, فقال: «يا أمّ إسحاق! أصيبي من هذا». فذكرت أني كنت صائمة, فتركت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لكِ؟». قلت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتمي صومك؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليك». رواه الإِمام أحمد وأبو بكر عبد العزيز. ولأن الصوم من باب الترك؛ فإن الواجب فيه الإِمساك عن المفطرات, وليس فيه فعل ظاهر يفعله, وإذا كان الفطر من باب المنهيات؛ فإن الإِنسان إذا فعل ما نهي عنه ناسياً أو مخطئاً؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى. 474 - لقوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال الله تعالى: «قد فعلت». 475 - ولقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان».

فإذا لم يؤاخذ العبد بهذا الأكل؛ كان صومه باقياً على صحته, هذا هو الأغلب. وقد يستثنى منه مواضع تغلظ, مثل الحلق والتقليم وقتل الصيد في الإِحرام؛ لأنه من باب الإِتلاف, ومثل الكلام في الصلاة على رواية؛ لأنه بغير هيئة الصلاة, ولا يفرق في [مبطلاتها] بين العمد والسهو, ومثل الجماع في الصيام والإِحرام لتغلظ جنسه, ولأنه يشبه الإِتلاف, ولأنه لا يكاد يقع فيه النسيان؛ لكونه غير معتاد, وغير ذلك من الأحكام والأسباب, وإلا فالأصل ما قدمناه. فعلى هذا: لا فرق بين الأكل الكثير والقليل. الفصل السابع: أن من فعلها مكرهاً لم يفسد صومه أيضاً. وهو نوعان: أحدهما: أن لا يكون له فعل في الأكل والشرب ونحوهما, مثل أن يُفتح فوه [ويوضع] الطعام والشراب فيه, أو يُلقى في ماء فيدخل إلى أنفه وفمه, أو يرش عليه ماء فيدخل مسامعه, أو يُحجم كرهاً, أو يداوي مأمومة أو جائفة بغير اختياره, أو يجرح جرحاً نافذاً إلى جوفه بغير اختياره, ونحو ذلك. فهذا لا يفطر في المنصوص عنه الذي عليه أصحابه. قال في رواية ابن القاسم في الذباب يدخل حلق الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلق الآخر: وكل أمر غلب عليه؛ فليس عليه قضاء ولا غيره, وهذا كله سواء ذكر أو لم يذكر. قلت له: فرق بين مَنْ توضأ للفريضة وبين من توضأ للتطوع؛ فإنهم يفرقون بينهما. قال: هو سواء إذا لم يتعمد وإنما غلب عليه.

وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر. والذي عليه أكثر أصحابنا الفرق بين أن يستكرهها على الوطء أو يستكرهها على الأكل والشرب. وخرَّج ابن عقيل رواية [أخرى] أن الإِكراه على الأكل والشرب يفطر كالاستكراه على الوطء. فأما الاحتلام وذرع القيء؛ فإنه لا يفطر قولاً واحداً. وأما إذا أكره على الأكل بالضرب أو الحبس أو الوعيد حيث يكون إكراهاً, حتى أكل بنفسه؛ فهل يفسد صومه؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي في «خلافه». أحدهما: لا يفطر أيضاً, وهو قول القاضي في «المجرد» وأبي الخطاب وغيرهما. الثاني: يفطر هنا, وهو قول ابن عقيل. وينبغي أن يكون في جواز الفطر هنا روايتان؛ كالروايتين في جواز أكل الدم والميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر. والله تعالى أعلم. الفصل الثامن: أنه إنما اشترط أن يفعله عامداً ذاكراً لصومه. فالعامد خرج به المخطئ والمكره. فإذا فعل جاهلاً: فإما أن يجهل أن ذلك الوقت من نهار رمضان؛ مثل أن يعتقد أن ذلك اليوم ليس من رمضان, أو يعتقد أن الفجر لم يطلع؛ فإن هذا يفطر؛ كما سيأتي إن

شاء الله تعالى. وإما أن يجهل ذلك الشيء مفطر؛ فذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر. 476 - 477 - لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] , ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطراً. لأن الجهل أشد عذراً من النسيان؛ فإن الناسي قد كان علم ثم ذكر, والجاهل لم يعلم أصلاً؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإِفطار؛ فالجهل أولى. ولأن الصوم من باب الترك, ومن فعل من نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة, فيكون وجود الفعل منه كعدمه؛ فلا يفطر؛ كالناسي. والمنصوص عن أحمد فيمن احتجم جاهلاً بالحديث: أنه يفطر. ولذلك ذكر القاضي [في مسألة تطيبه في الحج ناسياً] وغيره من أصحابنا: أن العالم بحظره والجاهل سواء؛ قال: لأن كل عبادة حظر فيها معنى من المعاني؛ فإن حكم العالم بحظره والجاهل به سواء. 478 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالذي يحتجم, فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» , ولم يكن يعلم أن ذلك منهي عنه.

مسألة: وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار, أو مضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء, أو فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ لم يفسد صومه

ولأن من أفطر جاهلاً؛ لم يقصد فعل [العبادة] التي أمر بها, فتبقى في عهدته حتى يقضيها؛ كمن ترك الصوم جاهلاً بوجوبه, أو ترك تبييت النية جاهلاً بأن اليوم من رمضان أو ناسياً؛ بخلاف من قصد الكف والإِمساك عن الطعام, ثم أكله ناسياً لصومه؛ فإن له نظراً صحيحاً, وفعله الذي صدر لا يقدح فيه. والصوم, وإن كان [تركاً, لكن يشبه] الأفعال من حيث وجوب النية فيه؛ بخلاف ترك جميع المحرمات؛ فإنه يكفي في عدم الإِثم عدم الفعل, وهنا لا بد من قصد الامتثال, فله شبه بالمأمورات من وجه, وبالمنهيات من وجه. ومن أمر بترك الأكل والشرب, فلم يقصد ذلك ولم يرده؛ لم يمتثل ما أمر به البتة. مسألة: وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار, أو مضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء, أو فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ لم يفسد صومه. في هذا الكلام فصول: أحدها: أن ما دخل إلى فم الصائم بغير اختياره لا يفطره. مثل أن يطير إلى حلقه غبار الطريق أو الذباب ونحو ذلك؛ فإنه لا يفطر

به. نص عليه؛ لأنه مغلوب على ذلك, فأشبه الاحتلام وذرع القيء. فإن قصد جمعه [وابتلاعه, أي الغبار, ونحوه, أفطر] وإن اجتمع في فيه بغير قصد, فابتلعه بقصده؛ أفطر أيضاً. قاله أبو محمد. فإن اعتمد القعود في موضع يصيبه ذلك لحاجة, مثل أن يغربل الدقيق, أو يقعد عند منْ يغربله لحاجة, فدخل إلى فمه؛ لم يفطر. ذكر ابن عقيل. الفصل الثاني: إذا تمضمض أو استنشق ولم يزد على الثلاث ولم يبالغ, فسبقه الماء فدخل في جوفه؛ فإنه لا يفطر, سواء توضأ لفريضة أو نافلة. نص عليه. لأنه دخل بغير اختياره, فلم يفطره؛ كالذباب والغبار. ولأنه نوع لا يوجب الكفارة, فلا يفطر ما وقع بغير اختياره؛ كذرع القيء. فإن قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه هنا مختار في الفعل الذي يتولد منه الدخول, وهو قادر على تركه في الجملة؛ بخلاف الذباب. الثاني: المضمضة والاستنشاق من فعله, فإذا سبقه شيء إلى حلقه؛ كان ذلك لسوء فعله, فيفطر. قلنا: لا فرق فيما غلب عليه بين أن يفعل سببه أو لا يفعله إذا كان سببه مباحاً من غير كراهة؛ فإنه لو أخذ ينخل الدقيق, فطار إلى حلقه؛ لم يفطر, وذلك لأن الشرع إذا أذن له في السبب؛ لم يؤاخذه بما يتولد منه.

ولهذا قلنا: سراية القَوَدِ غير مضمونة, وسراية التأديب والتعزير غير مضمونة؛ كسراية إقامة الحدّ. وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني؛ فإنه إذا أذن له في المضمضة والاستنشاق, وفعل ما أذن له فيه بحسب وسعه؛ لم يضمن ما تولد من ذلك؛ كالرائض إذا ضرب الدابة, ولأنه [لم يتعد] المشروع لم يضمنه؛ كبقايا ما بين الأسنان إذا دخل؛ فإن بالغ في الاستنشاق أو زاد على المرة الثالثة فدخل الماء إلى حلقه؛ فقد قال بعض أصحابنا: هو مكروه. والأشبه أنه محرم إن غلب على الظن دخوله إلى الجوف. قال أحمد في رواية عبد الله في الصائم تمضمض فغلبه الماء فدخل حلقه: لا شيء عليه إذا غلبه, أو تمضمض أكثر من ثلاث: فيعجبني أن يعيد ذلك اليوم. وذكر أبو الخطاب وغيره فيها وجهين: أحدهما: وجوب الإِعادة عليه. وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما. وقال ابن أبي موسى: إن دخل حلقَه الماءُ فيما زاد على الثلاث؛ أفطر قولاً واحداً. 479 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً».

480 - ولقوله: «الوضوء ثلاث؛ فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».

فإذا فعل ما نهي عنه؛ لم يعف عن سرايته. . . . ولأنه لو لم يكن ما ينزل من المبالغة مفطراً؛ لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. 481 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أرأيت لو وضعت في فيك ماء ثم مججته؛ أكنت تفطر؟». قال: لا. قال: «فمه». فشبه القبلة بالمضمضة في أن كلاًّ منهما مقدمة لغيره؛ فإذا لم يحصل ذلك الغير؛ لم يؤثر, فيجب إذا حصل ذلك الغير أن يؤثر, والمضمضة مقدمة الأكل, والقبلة مقدمة الإِنزال, ولولا أنهما مستويان في الموضعين؛ لما حسن قياس أحدهما بالآخر, وكان يقال: المضمضة لا تفضي إلى الفطر بحال؛ بخلاف القبلة, لكن القبلة ليست مشروعة بحال, والمضمضة مشروعة في بعض المواضع, فما كان منها مشروعاً؛ خرج عن هذا القياس, فيبقى غير المشروع كالقبلة سواء. الثاني: لا يفطر؛ لأنه فعل مغلوب عليه, فلم يفطر؛ كالثالثة. فإن اغتمس في ماء, فدخل الماء حلقه أو أنفه أو أذنه, أو اغتسل فدخل فمه أو أذنه أو أنفه, وتمضمض لغير طهارة, فدخل الماء حلقه بغير اختياره؛

فإن كان ذلك لطهارة مشروعة؛ مثل أن يغسل فمه من نجاسة به, أو يغسل غسلاً مشروعاً كالجنابة والجمعة؛ فهو كما لو سبقه الماء في المضمضة والاستنشاق. وإن وضع الماء في فمه للتبرد أو عبثاً [أو اغتسل عبثاً] أو اغتمس في الماء, أو أسرف في الاغتسال عبثاً؛ فكلامه يقتضي روايتين: أحدهما: يفطر. [والثانية: لا يفطر]. فقد قال في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه؛ فليس عليه فضاء, ولا غيره, وسواء ذكر أو لم يذكر. قيل له: يفرق بين المتوضأ للفريضة ومن توضأ للتطوع؟ قال: هو سواء إذا لم يتعمد إنما غلب, وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر. فقد نص على أنه إذا تبرد من شدة الحر, فدخل أنفه أو فاه وهو مغلوب عليه؛ لم يفطر؛ لأنه دخل المفطر إلى جوفه بغير اختياره فلم يفطر؛ كما لو دخل في المضمضة والاستنشاق وما في معنى ذلك؛ لم يفطر. اهـ. ولأنه نوع من المفطرات, فلم يؤثر إذا وجد بغير قصد منه؛ كالقيء والاحتلام, وهذا بخلاف نزول الماء عن مباشرة؛ فإنه, وإن لم يقصد نزول الماء, لكن هو لا ينزل الماء إلا بالمباشرة؛ فإذا فعل المباشرة؛ فقد فعل السبب الذي [منه] يستنزل الماء. وأيضاً الابتلاع والازدراد في الغالب إنما يكون بقصده, ولا [مقصد] له في ذلك.

[والسباحة]: لا تفطر. قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه. 482 - ورووا عن مبارك عن الحسن: أنه كره أن يغوص في الماء, وقال: «إن الماء يدخل في مسامعه». وقال في رواية أبي الصقر: إذا استعط أو وضع على لسانه دواء, فدخل حلقه؛ فعليه القضاء. وقال في رواية حنبل: وقد يسأله عن الرجل يصوم, ويشتد عليه الحرّ؛ ترى له أن يبل ثوباً أو يصب عليه يتبرد بذلك ويتمضمض ويمجه؟ 483 - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم». وأما المضمضة؛ فلا أحب أن يفعله, لعله أن يسبقه إلى حلقه, ولكن يبل ثوباً ويصب عليه الماء. وسئل عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه؟ قال: «يرش على صدره أحب إليَّ». لأنه غير مأمور من الشرع بهذه الأشياء؛ فإذا فعلها؛ كان ضامناً لما يتولد منها من الفطر كما يضمن ما يتولد من ضرب الغير. ولأن مباشرته للسبب المقتضي لدخول هذه الأشياء إلى جوفه بغير أمر

الشرع اختيار منه وقصد إذا لم يغلب على الظن دخول الداخل إلى جوفه. فأما إن غلب على ظنه؛ حرم عليه فعله وأفطر بما يتولد منه بلا تردد. ومن أصحابنا من فرق في هذه المواضع بين ما تدعو إليه الحاجة ويباح فعله من غير كراهة وما ليس كذلك, وما كان من هذه الأشياء لا حاجة إليه؛ فهو مكروه إن خيف حصول الفطر منه. فأما ما يحتاج إليه لغير الطهارة. . . . وأما الاغتسال ودخول الحمام؛ فلا بأس به إذا لم يخف الضعف من الحمام. قال في رواية ابن منصور: الصائم يدخل الحمام وإن لم يخف الضعف. وقال في رواية حنبل: لا بأس بالاغتسال من الحر. 484 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام, ثم يغتسل ويصوم». متفق عليه. 485 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر». رواه أحمد وأبو داوود.

* فصل: وما يجتمع في فمه من الريق ونحوه إذا ابتلعه

486 - قال البخاري: «وبل ابن عمر ثوباً, فألقاه عليه وهو صائم». 487 - قال: وقال أنس: «إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم». 488 - وعن ابن عباس: «أنه دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان». رواه أبو بكر. 489 - وعن علي. . . . * فصل: وما يجتمع في فمه من الريق ونحوه إذا ابتلعه؛ لم يفطر ولم يكره له ذلك, سواء بلعه باختياره أو جرى إلى حلقه بغير اختياره, إذا كان الريق قد اجتمع بنفسه. لأن اجتماع الريق بنفسه أمر معتاد, وفي إيجاب التبصق مشقة عظيمة.

فأما إن جمعه وابتلعه؛ فإنه يكره له ذلك. وهل يفطر؟ على وجهين خرَّجهما القاضي وابن عقيل وغيرهما على الروايتين في النخامة إذا استدعاها ثم ازدردها. أحدهما: يفطر. لأنه يمكن الاحتراز منه, فأشبه ما لو فصله عن فيه ثم ابتلعه. والثاني: لا يفطر. وهو ظاهر كلامه. فإنه نص على الفرق بين النخامة والبصاق إلا إذا ابتلعها, لا فرق بين أن يقتلعها من جوفه أو تخرج بنفسها ثم يزدردها عمداً. والريق لو اجتمع بنفسه ثم ابتلعه عمداً: لم يفطره قولاً واحداً. أو جمعه هو ليس مفطراً؛ لأن حصول المفطر في الفم لا يوجب الفطر, لم يبق إلا مجرد ازدرادها, وذلك أيضاً لا يفطر؛ كما لو اجتمعت بنفسها فازدردها عمداً. وإن أخرج لسانه وعليه ريق, فأبرزه عن شفتيه, ثم أعاده وابتلعه؛ لم يفسد صومه بذلك. قاله القاضي وابن عقيل وعامة أصحابنا. لأنه بلل متصل به, فلم يفطره؛ كما لو بقي في الفم. وحكي عن ابن عقيل: أنه يفطر. وهو غلط عليه, وإنما قال: فيمن أخرج ريقه إلى شفتيه, ثم ازدرده؛ أفسد لأنه. . . . وإن انفصل الريق عن فيه إلى ثوبه أو يده ونحو ذلك, ثم أعاده إلى فيه

وازدرده؛ أفطر. ذكره بعض أصحابنا؛ لأنه يمكنه الاحتراز منه, ولأنه ابتلعه من غير فمه, فأشبه ما لو ابتلع غيره, حتى قال ابن عقيل وغيره: إن خرج ريقه إلى شفتيه ثم ازدرده؛ أفطر؛ لأنه صار مخرجه عن فمه [في حكم الظاهر]. [وإن تعلق بخيط أو غيره. . .]. وإن كان في فمه حصاة أو درهم, فأخرجه وعليه بلَلُ ريقه ثم أعاده وابتلع بعد ذلك ريقه: فقال ابن عقيل: يفطر بابتلاع الريق الذي كان على ذلك الجسم؛ بخلاف ما لو أخرج لسانه وعليه الدرهم ثم أعاده؛ لم ينبغ أن يفطر هنا. وقال غيره من أصحابنا: إن كان عليه من الريق كثيراً؛ أفطر, وإن كان يسيراً؛ لم يفطر؛ لأنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه, فلا تفطره؛ كآثار المضمضة والسواك الرطب. ومثل ذلك أيضاً لو أدخل إلى فيه حصاة مبلولة بماء أو نحوه, أو مص لسان غيره ونحو ذلك مما يكون عليه رطوبة يسيرة؛ ففيه الوجهان المذكوران. ولو تعلق بصاقه بخيط ونحوه, ثم أعاده إلى فمه؛ فينبغي أن يخرَّج على هذين الوجهين. وإن كان للخيط طعم: قال عبد الله: سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط؟ يعجبني أن يتبزق.

وجعل بعض أصحابنا التبزق لما يجده من طعم الخيوط. والأظهر أن التبزق لما يصير على خيط من الريق, ثم يعود إلى فمه, ولأنه نص على أن وضع الدينار والدرهم في الفم لا بأس به ما لم يجد طعمه. وإن ابتلع نخامة من صدره أو رأسه؛ فإنه يكره. وهل يفطر؟ على روايتين: إحداهما: يفطر. قال في رواية حنبل: إذا تنخم الصائم ثم ازدرده؛ فقد أفطر, فإن بلع ريقه؛ لم يفطر؛ لأن النخامة تنزل من الرأس والريق من الفم, فبينهما فرق. ولو أن رجلاً تنخع من جوفه, ثم ازدرده؛ فقد أفطر؛ لأنه شيء قد بان منه, وكان بمنزلة من أكل شيئاً. ولا ينبغي أن يتنخع ويقلع من جوفه [بلغماً] أو غيره؛ إلا أن يغلبه أمر, فيقذفه ولا يزدرده؛ فقد نص على الفطر بنخامة الرأس والصدر, وجعل نخامة الصدر بمنزلة القيء لا يتعمد إخراجها إلا أن يغلب, وهذا لأنه خارج [من البطن] أمكن التحرز من عوده, فأفطر به؛ كالقلس والدم. والثانية: لا يفطر. قال ابن عقيل: وهي أصحهما. قال في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم؛ إلا أنه لا يعجبني أن يفعل. والنخاعة إذا كانت من الصدر ليس فيها طعام؛ فلا بأس, وإن استقاء

حتى يخرج الطعام؛ فعليه القضاء. ونقل أبو طالب. . . . فقد نص على أن النخاعة لا يفطر ابتلاعها مطلقاً, وبيَّن أن التي تخرج من الصدر لا يفطر [بخروجها]؛ إلا أن يخرج الطعام فيكون قيئاً, وهذا. . . . وذكر ابن أبي موسى: أن الروايتين في نخامة الصدر, فأما التي من الرأس؛ فيفطر رواية واحدة, والفرق بينهما أن التي من الصدر بمنزلة البصاق؛ بخلاف التي من الرأس. فأما القلس إذا خرج ثم عاد بغير اختياره؛ لم يفطره, وإذا ابتلعه عمداً؛ فإنه يفطر, نص عليه في رواية صالح: إذا ابتلع القلس؛ أعاد صومه, وأما في الصلاة؛ فإن كان بقدر ما يكون في الأسنان؛ فأرجو أن لا يكون عليه قضاء الصلاة. قال القاضي: وظاهر هذا أنه لا فرق بين الصلاة والصيام, وكذلك لو جرح فمه فسال دمه, كذلك ما يبقى بين الأسنان من خبز ولحم أو سويق ونحو ذلك, إذا أمكنه أن يلفظه فابتلعه ذاكراً لصومه؛ أفطر, سواء كان قليلاً أو كثيراً. قال ابن أبي موسى: إن بقي بين أسنانه من طعام ما يعلم به ويقدر على

* فصل: وما يوضع في الفم من طعام أو غيره

لفظه فازدرده؛ أفطر, وإن كان لا يعلم به, فجرى به الريق عن غير قصد, ويقدر على لفظه, فازدرده؛ لم يفطر. وإن أصبح وهو في فيه, فلفظه؛ لم يفطر. فأما ما يجري به الريق وهو ما لا يتميز عن الريق؛ فإنه لا يفطر به؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة, وهو التبزق. وإذا تنجس فمه بالقيء أو الدم ونحوهما, أو بشيء من خارج, وابتلع ريقه؛ لم يفطر بابتلاع الريق, وإن كان نجساً؛ إلا أن يكون معه جزء من النجاسة يمكن لفظه؛ لأن ما يجري به الريق لا يفطر به؛ كأثر المضمضة وأثر الطعام؛ إلا أن يكون قد وضع النجاسة في فمه عمداً. * فصل: وما يوضع في الفم من طعام أو غيره لا يفطر؛ لأن المضمضة جائزة بالسنة المستفيضة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتمضمضون في وضوئهم وهم صيام. وقد قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً»؛ فأمره بالاستنشاق مع الصوم دون المبالغة فيه. وقد ضرب لعمر المثل بالمضمضة في أنها لا تفطر الصائم. 490 - ولما روي. . .: «أن أسامة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم, وقد شج ودمه يسيل, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمص الدم من شجته».

والدم محرم أكله, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم [بإدخاله] الدم إلى فمه بآكل ولا منهي عنه في هذا الحال. فكذلك الأشياء إذا دخلت فم الصائم لا تضره, لكن يكره ذلك إذا لم تدع إليه الحاجة؛ [لأن فيه حوماً حول الحمى]. فأما إن كان لحاجة؛ مثل أن يذوق طعم القدر أو خلاَّ ونحوه مما يريد شراءه, أو يمضغ الخبز للصبي ونحو ذلك؛ ففيه روايتان: إحداهما: يكره.

491 - قال في رواية حنبل: عن عكرمة, عن ابن عباس: «لا بأس أن يذوق الصائم الخل والشيء الذي يريد شراءه ما لم يدخل حلقه». 492 - ومنصور عن الحسن: «أنه كان يمضغ الجوز والشيء لابنه, وهو صائم». قال أبو عبد الله: أحب إليَّ أن يجتنب الصائم ذوق الشيء, فإن فعل؛ لم يضره, ولا بأس به». وهو اختيار أبي الخطّاب. والثانية: لا يكره. قال في رواية أبي الحارث: يمضغ للصبي الخبز في شهر رمضان ضرورة. وهذا قول أبي بكر وابن عقيل. وقال القاضي: إذا كان الشيء الذي يذوقه مما يتحلل إلى حلقه مثل الخل وغيره من الأشياء؛ منع من ذلك. [وإن كان ما لا يتحلل غالباً كالخبز والقثاء ونحو ذلك؛ جاز له ذلك]؛ فإن فعل, فوجد طعمه أو نزل إلى جوفه بغير اختياره:

فقال أبو بكر: لا يضرُّه ما لم يبلعه أو يزدرده متعمداً, وعلى الغلبة لا قضاء عليه. وقال القاضي وأصحابه وغيرهم من أصحابنا: يفطر بنفس وجود الطعم, وإن ذاقه ثم لفظه؛ لأنه يُعلم أنه قد تحلل إلى حلقه منه شيء؛ بخلاف ما إذا لم يجد طعمه في حلقه, وبخلاف العلك الذي يصلب بالعلك؛ فإن الريق يتميز عنه ويأخذ الطعم منه, وهذه المذوقات لا يتميز الريق منها. وأكثر كلام أحمد على هذا, ورواية ابن القاسم توافق قول أبي بكر. فأما وضع ما لا طعم له؛ فلا يكره. قال في رواية المروذي: إذا وضع الصائم في فمه ديناراً أو درهماً وهو صائم؛ أرجو أن لا يكون به بأس؛ ما لم يجد طعمه, وما وجد طعمه لا يعجبني. قال ابن عقيل: وهذا عندي محمول على أجزاء ما يكون على الدينار من غبار وما شاكله, فأما الذهب؛ فلا طعم له في نفسه, ولو كان له طعم؛ فإنه لا يتحلل منه شيء إلى الفم. وإذا وجد طعم الدرهم والدينار؛ ففيه وجهان على ما ذكره القاضي. فأما ما يبقى في الفم من أجزاء الماء في المضمضة؛ فإنه لا يفطر بوصوله إلى جوفه, وإن أمكن الاحتراز عنه بالبصق, ولا يستحب إخراجه. فأما ما يبقى من أثر المذوق. . . . ويكره للصائم مضغ العلك, وهو الموميا واللبان, الذي كلما علكه؛ قوي وصلب ولم يتحلل منه شيء؛ لما تقدم من أنه لا حاجة إليه, وهو يحلب الفم

ويجمع الريق فيه ويورث العطش, وجمع الريق وبلعه مكروه, ولا يفطر باجتماع هذا الريق وابتلاعه ما لم يجد طعم العلك. قاله القاضي وغيره من أصحابنا. وذكر ابن عقيل فيه الروايتين التي تقدمت فيمن جمع الريق وبلعه: فإن ابتلع الريق فوجد طعم العلك في حلقه؛ فقد قال أحمد فيما إذا وجد طعم الدينار: لا يعجبني. وهذا مثله, وفيه وجهان: أحدهما: أنه يفطر. قال القاضي: وهو ظاهر قوله: «لأنه وجد الطعم في حلقه» , فأفطر كما لو [وجد طعم الكحل] وأولى, ولأن الريق باختلاطه بالعلك وامتزاجه به صار بمنزلة شيء من خارج, فإذا بلعه؛ فقد بلع جسماً له طعم فيفطر؛ كما لو مزج ريقه بخل ثم بلعه. والثاني: لا يفطر. لأن الطعم عرض, وهو لم ينزل في حلقه شيء من الأجسام, وهو لا يفطر بهذا؛ كما لو وضع رجله في الماء فوجد بردها, كما لو لطخ رجله بالحنظل فوجد طعمه في فيه؛ فإنه لا يفطر. فأما الذي يتحلل منه أجزاء وهو يتفشى ويتهرأ بالعلك: فقال أصحابنا: لا يجوز له مضغه, ومتى مضغه فوجد طعمه في حلقه؛ أفطر. وقال ابن عقيل: يحرم مضغه ويفسد الصوم؛ لأنه ابتلع في صومه ما يقدر على التحرز منه. وقال غيرهما: يحرم؛ إلا إذا لم يبتلع ريقه.

وقال غيره: هذا إذا لم يكن إليه حاجة, فأما مع الحاجة؛ فيجوز. وذكر القاضي: أنه لا يعلكه, ولم يكره؛ كما نص عليه أحمد في مضغ الجوز وغيره. وإذا كانت الحاجة إليه؛ ففي الكراهة الروايتان. وإذا وجد طعمه وأثره وبصاقه في فيه؛ فعلى الوجهين: فإن مضغ هذا العلك, فنزل في حلقه منه شيء؛ أفطر؛ لأنه أجزاء منه؛ فهو كما لو جعل في [فمه] طعام, فذاب ونزل في حلقه. وإن وجد الطعم, ولم يتيقن نزول الأجزاء؛ أفطر أيضاً. قاله أبو الخطاب. وهو مقتضى قول القاضي؛ لأن طعم هذه العلك لا ينفصل عن أجزائها؛ فإنها تختلط بالريق وتمتزج به. وهل يكره السواك الرطب؟ على روايتين: إحداهما: يكره. نقلها الأثرم, فقال: لا يعجبني السواك الرطب. والثانية: الرطب واليابس سواء. قال في رواية ابن هانئ: أرجو؛ أي: سواء كان الرطب واليابس للصائم. وهو اختيار أبي بكر. وأما ابتلاع ريق الغير؛ فإنه يفطر أيضاً فيما ذكره أصحابنا.

493 - واعتذروا عما روي عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها». رواه أحمد وأبو داوود.

فإنه قد روي عن أبي داوود: أنه قال: هذا إسناد ليس بصحيح. وإنه يجوز أن يكون المصُّ في غير وقت التقبيل, وأن يكون قد مصه ولم يبتلعه. وحمله بعضهم على أن البلل الذي على لسانها لم يتحقق انفصاله إلى فيه ودخوله إلى جوفه لقلته, فلم يفطر على إحدى المقدمتين. الفصل الثالث: إذا فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ فإنه لا يفسد صومه. أما القيء والاحتلام: فمن غير خلاف. وأما إذا فكر فأنزل: فقد تقدم أن فيها وجهين: وإذا قطر في إحليله: لم يفطر بمجرد ذلك, وكذلك لا يفسد صومه لو أنزل بغير شهوة؛ كالذي يخرج منه المني أو المذي لغير شهوة.

* فصل

* فصل: وقال الأثرم: قضية المباشرة شبيهة بقضية القبلة, فالقبلة إذا خاف الصائم أن ينتشر؛ اجتنبها, وإذا أمن ذلك؛ فلا بأس بها, وذلك أن ينتشر فيمذي فيجرح صومه. ولا يباشر الصائم النساء لشهوة. قاله ابن أبي موسى. وهل هو محرم أم مكروه؟ ولفظه: ولا تقرب النساء بجماع ولا مباشرة في نهار الصوم ولا قبلة إذا كان شديداً شابّاً شبقاً يخاف على نفسه. فأما مباشرتها لغير شهوة؛ مثل أن يمس يدها لمرض ونحوه؛ فلا يكره؛ كما لا يكره في الإِحرام والاعتكاف. وقال ابن عقيل: المباشرات دون الفرج مثل القبلة واللمس والمعانقة والمصافحة لشهوة: إن كان من الشيخ الهرم الذي لا تحرك القبلة منه ساكناً؛ فلا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة, وإن كان شابّاً؛ كره له ذلك, وأثم بفعله. فأما القبلة: فإن كانت تحرك شهوته بأن يكون شابّاً؛ كرهت له القبلة. قال بعض أصحابنا: كراهة تحريم. وكذلك ذكر ابن عقيل وأبو الحسين. وقال بعضهم: إذا كان ذا شهوة مفرطة؛ بحيث يغلب على ظنه أنه ينزل معها؛ حرمت كما يحرم [عليه] الاستمناء, وإن لم ينزل معه, وإلا؛ كرهت ولم تحرم. وإن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته؛ فعلى روايتين:

إحداهما: لا بأس بها. قال في رواية أبي داوود: إذا كان لا يخاف؛ فإذا كان شابّاً؛ فلا. وقال في رواية ابن منصور وقد سئل عن الصائم يقبل أو يباشر: أما المباشرة شديدة, والقبلة أهون. والثانية: يكره مطلقاً. قال في رواية حنبل: وقد سئل عن القبلة للصائم, فقال: لا يقبل, وينبغي له أن يحفظ صومه, والشاب [ينبغي له] أن يجتنب ذلك؛ لما يخاف من نقض صومه. وهذه الكراهة كراهة تحريم فيما ذكره القاضي وابنه أبو الحسين. لأن الله سبحانه قال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. . .} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. والمباشرة أن تلاقي البشرة للبشرة على وجه الاستمتاع, وهو أعم من الجماع. وقد مُدَّ إباحة ذلك إلى تبين الفجر, يدل على ذلك أنه قال في الاعتكاف: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} , وعم ذلك المباشرة بالوطء والغمز والقبلة, وكذلك قوله في آية الحج: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} , [والرفث الجماع ومقدماته].

وآية الصيام قد ذكر فيها الرفث [والمباشرة] , ولأن كل عبادة حرمت من الوطء؛ حرمت مقدماته؛ كالإِحرام والاعتكاف, ولأن المباشرة والقبلة من دواعي الجماع؛ فلا يؤمن أن يقترن بها إنزال مني أو مذي, أو أن تدعو إلى الازدياد والإِكثار, فيفضي إلى الجماع. - فإن سلمة بن صخر رأى بياض ساق امرأته, فدعاه ذلك إلى جماعها. ومن نصر هذه الرواية؛ قال: إن تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم كان من خصائصه. 494 - لما روت عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم, ويباشر وهو صائم, وكان أملككم لإِربه». متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «في شهر رمضان». والرواية الأولى اختيار أبي موسى والقاضي وأصحابه. 495 - لما روي عن امسلمة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم». متفق عليه. وعن عمرو بن أبي سلمة: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال

له: «سل هذه (لأم سلمة»). فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. فقال: يا رسول الله! قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله؛ إني لأتقاكم لله وأخشاكم له». رواه مسلم. [وتكرار] النظر مكروه لمن تحرك شهوته بخلاف من لا تحرك شهوته. وقيل: لا يكره بحال. 496 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له, وأتاه آخر فنهاه عنها؛ فإذا الذي رخص له شيخ, وإذا الذي نهاه شاب». رواه أبو داوود.

مسألة: ((ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا؛ أفطر))

مسألة: «ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً؛ أفطر». هذه المسألة لها صورتان: إحداهما: أن يأكل معتقداً بقاء الليل, فتبين له أنه أكل بعد طلوع الفجر. والثانية: أن يأكل معتقداً غروب الشمس لتغيم السماء ونحو ذلك, فتبين أنه أكل قبل مغيبها, وفي كلا الموضعين يكون مفطراً, سواء في ذلك صوم رمضان وغيره, لكن إن كان في رمضان؛ لزمه أن يصوم بقية يومه [حتى لو جامع فيه لزمته الكفارة وعليه القضاء. هذا نصه في غير موضع ومذهبه] وإن كان في قضاء رمضان؛ جاز له الخروج منه, والأفضل إتمامه وقضاؤه. وإن كان في غير رمضان؛ لم يلزمه المضي فيه؛ سواء كان نفلاً أو نذراً معيناً أو صوم متتابع؛ كصوم كفارة الظهار والقتل, ولا ينقطع تتابعه بالأكل فيه بعد ذلك, هكذا ذكر. . . . وذلك لأن الله تعالى يقول: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

وهذا أكل بعد أن تبين بياض النهار من سواد الليل أو لم يتم صيامه إلى الليل. 497 - لما روى علي بن حنظلة عن أبيه؛ قال: كنا مع عمر بن الخطاب في شهر رمضان, فلما غابت الشمس فيما يرون؛ أفطر بعض الناس, فقال رجل: يا أمير المؤمنين! هذه الشمس بادية. فقال: «أعاذنا الله من شرك, ما بعثناك راعياً للشمس». ثم قال: «من أفطر منكم؛ فليصم يوماً مكانه». 498 - وعن بشر بن قيس؛ قال: «كنا عند عمر بن الخطاب في عيشة رمضان, وكان يوم غيم, فجاءنا سويق, فشرب, وقال لي: أتشرب؟ فشربت, فأبصرنا بعد ذلك الشمس, فقال عمر: لا والله؛ ما نبالي أن نقضي يوماً مكانه».

499 - وعن زيد بن أسلم, عن أخيه, عن أبيه: «أن عمر بن الخطاب أفطر, فقالوا له: طلعت الشمس. فقال: خطب يسير, قد كنا جاهلين». رواهن سعيد.

ورواه مالك, عن زيد بن أسلم, عن أبيه: «أن عمر أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم, رأى أن قد أمسى وغابت الشمس, فجاءه رجل, فقال: يا أمير المؤمنين! قد طلعت الشمس. فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير, وقد اجتهدنا». قال مالك: يريد بذلك القضاء, ويسير مؤنته وخفته فيما نرى. والله أعلم. قال أحمد في رواية الأثرم: إذا تسحر وظن الفجر لم يطلع فشرب, ثم علم أنه طلع؛ يقضي يوماً مكانه, ومن أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت. يذهب إلى القضاء؛ على حديث زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه عن عمر بن

الخطاب؛ قال: قضاء يوم يسير. يقول: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , فيقضي إذا أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت. 500 - وعن مكحول: أن أبا سعيد الخدري سئل عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلاً, وقد طلع الفجر؟ فقال: «إن كان في شهر رمضان؛ صام يومه ذلك وعليه قضاء يوم مكانه, وإن كان من غير شهر رمضان؛ فليأكل من آخره؛ فقد أكل من أوله». 501 - وعن يحيى الجزار؛ قال: سئل ابن مسعود عن الرجل يتسحر وهو يرى [أنه ليل] , وقد طلع الفجر؟ قال: «من أكل من أول النهار؛ فليأكل من آخره». رواهن سعيد.

مسألة: وإن أكل شاكا في طلوع الفجر؛ لم يفسد صومه, وإن أكل شاكا في غروب الشمس؛ فسد صومه

فقد اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على إيجاب القضاء مع الجهل؛ لأنه أفطر في جزء من رمضان يعتقده وقت فطر, فلزمه القضاء؛ كما لو أفطر يوم ثلاثين من شعبان, فتبين أنه من رمضان. والفرق بين هذا وبين الناسي: أنه قد كان يمكنه الاحتراز؛ لأنه أكل باجتهاده, فتبين خطأ اجتهاده؛ بخلاف الناسي؛ فإنه لا يمكنه الاحتراز. مسألة: وإن أكل شاكّاً في طلوع الفجر؛ لم يفسد صومه, وإن أكل شاكّاً في غروب الشمس؛ فسد صومه.

هذا منصوص أحمد وأصحابه. قال حرب: قيل لأحمد: رجل يتسحر وقد طلع الفجر؟ قال: إذا استيقن بطلوع الفجر؛ أعاد الصيام, وإن شك؛ فليس عليه شيء أرجو. إلا أن القاضي ذكر في بعض المواضع: أنه لو أكل يظن أن الفجر لم يطلع؛ كان عليه القضاء, وإن كان الأصل بقاء الليل؛ احتياطاً؛ كما لو أكل وظن أن الشمس غربت. وكذلك ذكر ابن عقيل في بعض المواضع: من خاف طلوع الفجر؛ يجب عليه أن يمسك جزءاً من الليل؛ ليتحقق له صوم جميع [النهار] , وقاس عليه يوم [الإِغمام]. وذكر ابن عقيل في موضع آخر: أنه إذا أكل ثم شك هل طلع الفجر أو غربت الشمس؟ ولم يبين له يقين الخطأ؛ فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يتيقن وجود سبب القضاء. والمذهب الذي ذكراه في سائر المواضع وذكره عامة الأصحاب كالمنصوص؛ لأن الأصل بقاء النهار؛ فإذا أكل قبل أن يعلم الغروب؛ فقد أكل في الوقت الذي يحكم بأنه نهار, وإذا أكل قبل أن يتبين الفجر؛ فقد أكل في الوقت الذي يحكم بأنه ليل, ولأن الله سبحانه قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ فمن أكل وهو شاك؛ فقد أكل قبل أن يتبين له الخيط الأبيض. ولأن الأكل مع الشك في طلوع الفجر جائز, والأكل مع الشك في الغروب غير جائز؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى, وإذا فعل الجائز؛ لم يفطر؛

* فصل: الوقت الذي يجب صيامه

إلا أن يتبين له الخطأ. وإن غلب على ظنه طلوع الفجر: فقال بعض أصحابنا: هو كما استيقنه؛ لأن غلبة الظن في مواقيت العبادات تجري مجرى اليقين. وظاهر قول أحمد وابن أبي موسى: أنه ما لم يتيقن طلوعه؛ فصومه تام. وإن غلب على ظنه غروب الشمس؛ جاز له الفطر. وقياس قول القاضي في الصلاة. . . . * فصل: [الوقت] الذي يجب صيامه من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب قرص الشمس؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. 502 - وعن سهل بن سعد؛ قال: «أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} , ولم ينزل: مِنَ الْفَجْرِ} , فكان رجال إذا أرادوا الصوم؛ ربط أحدهم في رجليه الأبيض والخيط الأسود, ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} , فعلموا إنما يعني الليل والنهار» أخرجاه.

503 - وعن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}؛ عمدت إلى عقالين؛ عقال أبيض وعقال أسود, فوضعتهما تحت وسادتي, فجعلت أقوم الليل فلا يتبين لي, فلما أصبحت؛ ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «إن وسادك لعريض, إنما هو بياض النهار من سواد الليل». رواه الجماعة إلا ابن ماجه. 504 - وعن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا, حتى يستطير هكذا». قال: يعني: معترضاً. رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. ولفظ أحمد وأبي داوود والترمذي: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال, ولا الفجر المستطيل, ولكن الفجر المستطير في الأفق». وفي لفظ لأحمد: «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر (أو: يطلع) الفجر». 505 - وعن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه يؤذن (أو قال: ينادي) بليل؛ ليرجع قائمكم, ويوقظ نائمكم, وليس الفجر أن يقول هكذا, ولكن يقول هكذا (يعني: الفجر هو المعترض وليس بالمستطيل»). رواه الجماعة إلا الترمذي.

وفي رواية صحيحة: «ليس أن يقول هكذا (وضم يده ورفعها) , ولكن يقول هكذا (وفرق بين السباتين»). 506 - وعن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هما فجران؛ فأما الفجر الذي كأنه ذنب السرحان؛ فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه, وأما المستطير الذي يأخذ الأفق؛ فبه تحل الصلاة ويحرم الصيام». رواه أبو داوود في «مراسيله». 507 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أقبل الليل, وأدبر النهار, (وفي لفظ: وغابت الشمس)؛ أفطر الصائم». 508 - وعن عبد الله بن أبي أوفى؛ قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان, فلما غابت الشمس؛ قال: «يا بلال! انزل فاجدح لنا». فقال: يا رسول الله! إن عليك نهاراً. قال: «انزل فاجدح». فنزل, فجدح, فأتاه به, فشرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا؛ فقد أفطر

* فصل: والسنة تعجيل الفطور

الصائم (وأشار بأصبعه قبل المشرق»). رواه الجماعة إلا ابن ماجه والترمذي. [وفي رواية ابن عيينة عن الشيباني عن ابن أبي أوفى؛ قال: «انزل فاجدح لي». قال: الشمس يا رسول الله! قال: «انزل فاجدح». فجدح له فشرب. قال: فلو نزا أحد على بعيره لرآها (يعني: الشمس) , ثم أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده قبل المشرق, فقال: «إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا؛ فقد أفطر الصائم»]. * فصل: والسنة تعجيل الفطور لقوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. 509 - وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا غربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم». 510 - «وأمر بلالاً لما غربت الشمس أن ينزل فيجدح لهم السويق». 511 - وعن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». رواه الجماعة إلا أبا داوود والنسائي.

512 - وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إن أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً». رواه أحمد واحتج به, وللترمذي حسن غريب. 513 - وعن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون». رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه, ولفظه: «لا يزال الناس بخير».

514 - وعن سعيد بن المسيب؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا إفطارهم, ولم يؤخروا تأخير أهل المشرق». رواه مالك وسعيد. 515 - وعن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل تعجيل فطره وتأخير سحوره؛ فإن الله جاعل لكم من سحوركم بركة». رواهما سعيد. 516 - وعن أبي عطية الهمداني؛ قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رحمها الله, فقلنا: يا أم المؤمنين! رجلان من أصحاب محمد, كلاهما لا يألوا عن الخير, أحدهما يعجل الإِفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله. قالت: كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: «يعجل المغرب والإِفطار, والآخر يؤخر المغرب والإِفطار». وفي رواية: «والآخر أبو موسى». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه, وقال الترمذي: حسن صحيح.

517 - وعن مورق العجلي, عن أبي الدرداء؛ قال: «ثلاث من أخلاق الأنبياء: التبكير بالإِفطار, والإِبلاغ في السحور, ووضع اليمين على الشمال في الصلاة». رواه سعيد. ويستحب التعجيل إذا غاب القرص مع بقاء تلك الحمرة الشديدة, ويستدل على مغيبها باسوداد ناحية المشرق. وإذا تيقن أو غلب على ظنه مغيبها؛ جاز له الفطر, وليس عليه أن يبحث بعد ذلك. قاله أصحابنا. فأما مع الشك؛ فلا يجوز له الفطر, والاختيار أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب. ويتخرج على قول القاضي في مواقيت الصلاة أن لا يفطر حتى يتيقن

الغروب إذا لم يحل بينه وبين الشمس حائل؛ لأنهم أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس, وكذلك على عهد عمر. 518 - وعن ابن عباس؛ قال: «إذا تسحرت, فقلت: إني أرى ذاك الصبح؛ فكل واشرب, وإن قلت: إني أظن ذاك الصبح؛ فكل واشرب, وإذا تبين لك؛ فدع الطعام, وأما الإِفطار؛ فلا تنظر إلى الشمس؛ فإن الشمس يواريها الجبال والسحاب, ولكن انظر إلى الأفق الذي يأتي منه الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم؛ فإذا رأيت الليل؛ فافطر». رواه سعيد. 519 - وعن قيس بن أبي حازم؛ قال: أتى عمر بن الخطاب بشراب عند الإِفطار, فقال لرجل عنده: «اشرب لعلك من المسوفين؛ سوف سوف». 520 - وعن سعيد؛ قال: قال عمر: «عجلوا الفطر, ولا تنطعوا تنطع أهل العراق».

521 - وعن [أيمن] المكي: أنه نزل على أبي سعيد الخدري, فرآه يفطر قبل مغيب القرص. رواهن سعيد. وهذا محمول على القرص الأحمر لا على نفس قرص الشمس. 522 - وعن مجاهد؛ قال: كنت آتي ابن عمر بشراب للفطر, وكنت أخفيه من الناس لتعجيل الإِفطار. وفي رواية: كان يدعو بالشراب وهو صائم, فآخذ في نفسي من سرعة ما يشرب. 523 - وعن رجل: «أن ابن عمر كان يدعو بالشراب وهو صائم, فيغمزه ابنه أن لا تعجل حتى يؤذن المؤذن, ففطن له ابن عمر, فقال: ويلك! أترى هذا أفقه في دين الله مني». رواهن سعيد.

ويستحب أن يفطر قبل الصلاة: لأن التعجيل إنما يحصل بذلك, ولأنه أقرب إلى جمع الهم في الصلاة, ولأن الفصل بين زمن الصوم وغيره مشروع [إذا كان الإِمساك في غير زمان الصوم غير مشروع] , ولهذا استحب الفطر يوم الفطر قبل الصلاة؛ كما يدل عليه حديث بلال. 524 - وكما [جاء] عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر قبل أن

يصلي, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر قبل الصلاة, وكذلك في حديث عمر وأبي سعيد وابن عمر 525 - وعن عبد الرحمن بن عبيد؛ قال: حضرنا الإِفطار عند علي في رمضان, فقال: «ابدؤوا فاطعموا؛ فإنه أحسن لصلاتكم». رواه سعيد. 526 - وعن ابن عباس وطائفة: أنهم كانوا يفطرون قبل الصلاة.

527 - وقد روي عن مالك, عن ابن شهاب, عن حميد بن عبد الرحمن: أنه أخبره: «أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب, ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا, ثم يفطرا بعد ذلك في رمضان».

ورواه معمر, عن ابن شهاب, عن حميد بن عبد الرحمن: «أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب في رمضان قبل أن يفطرا». وينبغي له أن يفطر على خلوفه: 528 - لما روى المسيب بن رافع: «أن أبا هريرة كان يكره للصائم عند فطره أن يتمضمض ثم يمجه». وفي رواية: أنه قال في مضمضة الصائم عند الإِفطار: «يزدرده ولا يمجه». رواهما سعيد. لأنه أثر العبادة فلم يضيعه.

ويستحب له الفطر على رطب, فإن لم يكن فعلى تمر, فإن لم يكن فعلى ماء: هكذا قال أصحابنا. 529 - لما روى أنس بن مالك؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي, فإن لم تكن رطبات فتمرات, فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء». رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وقال: حديث حسن, والدراقطني وقال: هذا إسناد صحيح. 530 - وعن سلمان بن عامر الضبي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفطر أحدكم؛ فليفطر على تمرات, فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه

طهور». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح, وفي رواية للنسائي: «فإنه بركة».

531 - وعن جابر رضي الله عنه؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يفطر على الرطب ما دام الرطب, وعلى التمر إذا لم يكن رطب, ويختم بهن, ويجعلهنَّ وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً». رواه الشافعي في «الغيلانيات». ويستحب أن يدعو عند فطره. . . . 532 - عن مروان بن سالم؛ قال: رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف, وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر؛ قال: «ذهب الظمأ, وابتلت العروق, وثبت الأجر إن شاء الله تعالى». رواه أبو داوود والنسائي والدارقطني, وقال: إسناد حسن.

533 - وعن معاذ بن زهرة: أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر؛ قال: «اللهم! لك صمت, وعلى رزقك أفطرت». رواه أبو داوود. 534 - وعن ابن عباس؛ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر؛ قال: «اللهم! لك صمنا, وعلى رزقك أفطرنا؛ فتقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم». رواه الدارقطني. قال القاضي: المستحب له أن يدعو عند إفطاره: 535 - بما روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إذا صام أحدكم, فقُدَِّم عشاؤه؛ فليذكر الله عز وجل, وليقل: اللهم! لك صمت, وعلى رزقك أفطرت, سبحانك وبحمدك, اللهم! تقبل منا؛ إنك أنت السميع العليم».

* فصل: والسحور سنة

536 - وعن الربيع بن خيثم: أنه كان إذا أفطر؛ قال: «الحمد لله الذي أعانني فصمت, ورزقني فأفطرت». رواه سعيد. * فصل: والسحور سنة, وكانوا في أول الإِسلام لا يحل لهم ذلك. 537 - قال البراء بن عازب: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً, فحضر الإِفطار, فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي, وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً, فلما حضر الإِفطار؛ أتى امرأته, فقال: أعندك طعام؟ قالت: لا, ولكن انطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل, فغلبته عينه, فنام, جاءته امرأته, فلما رأته؛ قالت له: خيبة لك! فلما انتصف النهار؛ غشي عليه, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ

الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] , ففرحوا بها فرحاً شديداً, ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}». 538 - وعنه أيضاً؛ قال: «لما نزل صوم رمضان؛ كانوا لا يقربون النساء رمضان كله, وكان رجال يخونون أنفسهم, فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ. . .} الآية [البقرة: 187]». رواهما البخاري. 539 - قال البراء بن عازب: «كانوا إذا أكلوا لم يأكلوا إلا أكلة حتى يكونوا من الغد. قال: فعمل رجل من الأنصار في أرض له, فجاء, فقامت امرأته تبتاع شيئاً, فغلبته عيناه, فقام, فأصبح وهو مجهود, فنزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]». رواه أحمد في «الناسخ و [المنسوخ]». 540 - وعن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ يعني بذلك أهل الكتاب,

[وكان] كتابه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح ما بينه وبين أن يصلي العتمة أو يرقد؛ فإذا صلى العتمة ورقد؛ منع ذلك إلى مثلها من القابلة, فنسختها هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. . .} الآية [البقرة: 187]». رواهما أحمد في «الناسخ والمنسوخ». وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى أن الأكل والشرب والنكاح كان مباحاً إلى أن يرقد أو يصلي العشاء. 541 - وقال ورقاء: عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: «كانوا يصومون, فإذا أمسوا؛ أكلوا وشربوا وجامعوا, فإذا رقد أحدهم؛ حرم ذلك كله إلى مثلها من القابلة, وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك, فخفف الله عنهم, وأحل لهم الطعام والشراب والجماع قبل النوم وبعده في الليل كله».

542 - وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس؛ في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}: «وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء؛ حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة, ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء, منهم عمر بن الخطاب, فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ. . .} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}؛ يعني: انكحوهن, {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}؛ يعني بياض الفجر من سواد الليل, والرفث هو النكاح». 543 - وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}؛ قال: «كتب عليهم إذا نام أحدهم ولم يطعم؛ شيئاً إلى القابلة, وحرم عليهم الرفث إلى نسائهم ليلة الصيام

الشهر كله, فرخص الله لكم, وهو اليوم عليهم ثابت». رواه أحمد. 544 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحروا؛ فإن في السحور بركة». رواه الجماعة إلا أبا داوود. 545 - وعن أبي هريرة مثله. رواه أحمد والنسائي.

546 - وعن ابن مسعود. رواه النسائي.

547 - وعن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السحور بركة؛ فلا تدعوه, ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين». رواه أحمد.

قال بعض أصحابنا: وكل ما حصل منه أكل أو شرب؛ حصلت به فضيلة السحور؛ لقوله: «ولو على جرعة ماء». والأشبه: أنه إن قدر على الأكل؛ فهو السنة. 548 - وعن عمرو بن العاص؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. 549 - وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين».

550 - وعن سعيد بن عبد الله بن أبي هند؛ قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده قبضة من تمر, فقال: «نعم؛ سحور المسلم التمر». 551 - وعن راشد بن سعد؛ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السحور؟ فقال: «ذاك الغذاء المبارك». 552 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل, وبأكل السحر على صيام النهار». رواهن سعيد. والسنة تأخيره.

553 - لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطور». رواه أحمد. وعن مكحول. . . . 554 - وعن أنس عن زيد بن ثابت؛ قال: «تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية». رواه الجماعة إلا أبا داوود. ويجوز له أن يأكل ما لم يتبين طلوع الفجر, وإن أكل شاكّاً فيه من غير كراهة, لكن يستحب تركه إذا شك في طلوع الفجر, قاله كثير من أصحابنا. قال أصحابنا: فإن شك في الفجر؛ فالاحتياط أن لا يأكل. فإن أكل ولم يتيقن طلوعه؛ فصومه صحيح, وإن غلب على ظنه طلوعه؛ لم يجز الأكل, فإن أكل؛ قضي؛ لأن غالب الظن في المواقيت كاليقين. وأما الجماع؛ فيكره مع الشك.

قال أحمد في رواية أبي القاسم: الجماع في السحر. . . في وقت ليس هو مثل الأكل, الأكل أخف وأيسر, وأخاف عليه من الجماع لا يسلم. وقال في رواية أبي داوود: إذا شك في الفجر؛ يأكل حتى يستيقن طلوعه؛ قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. وقال في رواية يوسف بن موسى: تأخير السحور حتى يعترض الفجر, فإذا كان الطول ناحية القبلة؛ فذلك هو الكاذب, وإذا كان هكذا وأبعد ومدَّ يده باع؛ فذلك هو الصادق. وقال في رواية حنبل وقد ذكر حديث عدي بن حاتم: ولكن بياض النهار وسواد الليل. قال أبو عبد الله: إذا طلع؛ [فهو] وقت لا يأكل ولا يشرب؛ فجعل الله عز وجل الفجر علماً وفصلاً بين الليل والنهار. فقد نص على أنه إذا طلع الفجر الصادق؛ حرم الأكل والشرب. ونص في رواية حرب والأثرم وغيرهما: أنه إذا تبين أنه أكل بعد طلوع الفجر؛ أفطر. وهذا هو المذهب. 555 - وقال في رواية عبد الله: عن سواد بن حنظلة, عن سمرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنكم من السحور أذان بلال, ولا الصبح

المستطير في الأفق». 556 - وقال: عن قيس بن طلق بن [علي] , عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الفجر الأبيض المعترض ولكنه الأحمر». وهذا يدل على جواز الأكل إلى ظهور الحمرة, وقد جاءت الأحاديث تدل على مثل. 557 - كما روت عائشة وابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن لكم ابن أم مكتوم». متفق عليه. وفي رواية لأحمد والبخاري: «فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر». قال ابن

شهاب: وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. فقد أجاز الأكل إلى حين يؤذن ابن أم مكتوم, مع قوله: «إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» , ومعلوم أن من أكل حين تأذينه؛ فقد أكل بعد طلوع الفجر؛ لأنه لا بد أن يتأخر تأذينه عن طلوع الفجر ولو لحظة. 558 - وعن أبي سلمة, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته». رواه أبو داوود بإسناد جيد. ومعلوم أنه أراد النداء الثاني الذي أخبر أنه بعد طلوع الفجر.

559 - وعن قيس بن طلق, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا, ولا يهدينكم الساطع المصعد, وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر». رواه أبو داوود والترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه وقد اعتمده أحمد. 560 - وعن حذيفة؛ قال: كان بلال يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر, وإني لأبصر مواقع نبلي. قلت: أبعد الصبح؟ قال: «بعد الصبح؛ إلا أنها لم تطلع الشمس». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح.

..................

561 - وعن حكيم بن جابر؛ قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر, فقال: الصلاة. فذهب ثم رجع, فقال: الصلاة. ثم ذهب ثم رجع, فقال: يا رسول الله! لقد أصبحنا. فقال: «يرحم الله بلالاً, لولا بلال؛ لرجونا أن يرخص لنا إلى طلوع الشمس». رواه سعيد وأبو داوود في «مراسيله». 562 - وعن مسروق؛ قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم, إنما يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. 563 - وعن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن حذيفة؛ قال: «خرجت معه في رمضان إلى الكوفة, فلما طلع الفجر؛ قال: هل كان أحد منكم آكلاً أو شارباً؟ قلنا: أما رجل يريد الصوم؛ فلا. فقال لكني. ثم سرنا, حتى إذا استبطأته بالصلاة, فقال: هل كان منكم أحد آكلاً أو شارباً؟ قلنا: أما رجل يريد الصوم؛ فلا. قال: لكني, فنزل فتسحر ثم صلى». 564 - وعن حبان بن الحارث؛ قال: «أتيت عليّاً وهو معسكر بدير

أبي موسى, فوجدته يطعم, فقال: ادن فاطعم. قال: قلت: إني أريد الصيام. قال: وأنا أريد الصيام: قال: فطعمت معه, فلما فرغ؛ قال: ابنَ التياح! أقم الصلاة». والصحيح الأول, وأنه إذا دخلت الصلاة؛ حرم الطعام؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. [فمنه أدلة: أحدها: قوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ}] , ولو كان المراد به انتشار الضوء؛ لقيل الخيط الأحمر؛ فإن الضوء إذا انتشر ظهرت الحمرة. الثاني: أن الخيط الأبيض يتبين منه الأسود بنفس طلوع الفجر, فينتهي وقت جواز الأكل والشرب حينئذ. الثالث: تسميته لبياض النهار وسواد الليل بالخيط الأبيض والخيط الأسود دليل على أنه أول البياض الذي يبين في السواد مع لطفه ودقته؛ فإن الخيط يكون مستدقاً. الرابع: قوله: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: دليل على أنه يتميز أحد الخيطين من الآخر, وإذا انتشر الضوء؛ لم يبق هناك خيط أسود. وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي: «إنما هو بياض النهار وسواد الليل» , فعلم أنه أول ما يبدو البياض الصادق يدخل النهار, كما أنه أول ما يقبل من المشرق السواد يدخل الليل.

وأيضاً؛ فإنهم كانوا أولاً يربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود, فنزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ لرفع هذا التوهم. ثم إن عديّاً رضي الله عنه جعل تحت وسادته عقالين أبيض وأسود, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن وسادك لعريض» , وهو كناية عن عرض القفا الذي يكنى به عن قلة الفهم. وفي رواية: أنه قال له: «يا ابن حاتم! ألم أقل لك: من الفجر, إنما هو بياض النهار وسواد الليل». فهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم: أن الانتظار إلى أن يتبين مواقع النبل وينتشر الضوء حتى يتبين العقال الأبيض من الأسود غير جائز, وأن بعض المسلمين كان قد غلط أولاً في فهم قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ثم نزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} , وغلط بعضهم في فهمها بعد ذلك. وأيضاً قوله: «ولكن يقول هكذا» وفرق بين السبابتين. وقوله: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل في الأفق». وفي لفظ: «نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر (أو: يطلع) الفجر»: دليل على أنه متى ظهر البياض المعترض المنتشر الذي به ينفجر الفجر؛ فقد حرم الطعام. وقد بين ذلك قوله: «وأما الذي يأخذ الأفق؛ فهو الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام». فبين أن الذي به تحل الصلاة ويحرم الطعام. وأما حديث حذيفة ومسروق: ففيهما ما يدل على أن عامة المسلمين كانوا على خلاف ذلك.

والحديث المرفوع يحتمل أحد شيئين: أحدهما: أن تلك الليلة كانت مقمرة, فكان يبصر مواقع النبل لضوء [القمر] , فاعتقد أنه من ضوء النهار, وهذا يشتبه كثيراً في الليالي التي يقمر آخرها, وتقدم ذكر أحمد ونحو هذا. قال حرب: سألته؛ قلت: رجل يأكل بعد طلوع الفجر في رمضان وهو لا يعلم؟ قال: يعيد يوماً مكانه. قلت: فالأحاديث التي رويت في هذا, وذكرت له حديث حذيفة؟ قال: إنه ليس في الحديث أن الفجر كان قد طلع. الثاني: أن يكون هذا منسوخاً, وكان هذا في الوقت الذي كان رجال يربط أحدهم في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود, ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, حتى نزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} , ويكون هذا كان الواجب عليهم كما فهموه من الآية, ثم نسخ ذلك بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ}. وكذلك قوله في الحديث المرسل: «لولا بلال؛ لرجونا أن يرخص لنا إلى طلوع الشمس»: دليل على أن التحديد بالفجر لم يكن مشروعاً إذْ ذاك. وأما حديث: «فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» , وقوله: «إذا سمع أحدكم النداء والإِناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته»؛ فقد قال أحمد في الرجل يتسحر فيسمع الأذان؛ قال: يأكل حتى يطلع الفجر. فهو دليل على أنه لا يستحب إمساك جزء من الليل, وأن الغاية في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: داخلة في المغيَّى؛ بخلافها في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , ولهذا جاءت هذه بحروف (حتى) , ولا ريب أن الغاية المحدودة بـ (حتى) تدخل فيما قبلها؛ بخلاف الغاية المحدودة بـ (إلى).

قال أحمد في رواية الميموني في رجل أخذ في سحوره, ثم نظر إلى الفجر: فإن كان قد أكل بعد طلوعه؛ فعليه القضاء, وإن لم يعلم أنه أكل بعد طلوع الفجر؛ فليس عليه شيء. قال القاضي: وظاهر هذا من كلامه أن الأكل إذا اتصل عند طلوع الفجر؛ لم يضره, ولم يؤثر في النية. لكن الذي ذكر القاضي في «خلافه» وغيره من أصحابنا: أنه يجب الإِمساك قبل طلوع الفجر؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب, ولا يتم صوم جميع النهار إلا بصوم آخر جزء من الليل, ولهذا وجب عليه غسل جزء من الرأس يستوعب الوجه, وغسل رأس العضد يستوعب المرفق. وإما إذا شك في طلوع الفجر؛ فيجوز له الأكل؛ لقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. . .} , والشاك لم يتبين له شيء, ولحديث ابن أم مكتوم وأبي هريرة, وقد تقدم عن ابن عباس قوله: «إذا تسحرت فقلت: إني أرى ذلك الصبح؛ فكل واشرب. وإن قلت: إني أظن ذلك الصبح؛ فكل واشرب, وإذا تبين لك؛ دع الطعام». 565 - وعن أبي الضحى؛ قال: جاء إلى ابن عباس, فسأله عن السحور, فقال رجل من جلسائه: حتى تشك. فقال ابن عباس: «إن هذا لا

* فصل: ويكره الوصال

يقول شيئاً, كل ما شككت حتى لا تشك». 566 - وعن عطاء؛ قال: قال ابن عباس لرجل: «طلع الفجر؟». قال: لا. فقال لآخر: «طلع الفجر؟». قال: نعم. قال: «اختلفتما اسقني». رواهما سعيد. والشك تارة يكون مع رعايته للفجر؛ فلا يدري أطلع الضوء أم لا؟ وتارة لاختلاف المخبرين به, وتارة لكونه في موضع محجوب عن الفجر وليس عليه أن يبحث. 567 - عن أبي قلابة؛ قال: قال أبو بكر الصديق وهو يتسحر: «يا غلام! أجف الباب لا يفجأنا الصبح». رواه سعيد. * فصل: ويكره الوصال الذي يسميه بعض الناس: الطي. نص عليه في رواية المروذي والأثرم. قال في رواية حنبل: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفطر على تمرات أو شربة ماء, فيستحب له أن يفطر على تمرات أو ماء, ولا يعجبني أن يواصل,

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. [عن ثابت] , عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل, فواصل ناس من الناس, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «لو مد لي الشهر؛ لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم, إني لست كهيئتكم, إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني». 568 - وابن الزبير كان يواصل من الجمعة إلى الجمعة؛ لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 569 - قالت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: أردت أن أصوم يومين متواصلة, فنهاني عن ذلك, وقال: إنما يفعل ذلك النصارى, صوموا كما أمركم الله؛ فإذا كان الليل فأفطروا. 570 - وعن أبي العالية: أنه قال في الوصال في الصيام, فعابه, ثم قال: قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}؛ فإذا جاء الليل؛ فهو مفطر, فإن شاء أكل, وإن شاء ترك. رواهما سعيد.

571 - وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال, فقالوا: إنك تفعله. فقال: «إني لست كأحدكم, إني أظل يطعمني ربي ويسقيني». 572 - وعن أنس نحوه. 573 - وعنه قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان, فواصل ناس من المسلمين, فبلغه ذلك, فقال: «لو مد لنا الشهر؛ لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم, إنكم لستم مثلي (أو: لست مثلكم) , إني أظل يطعمني ربي ويسقين». متفق عليهما. 574 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إياكم والوصال». فقيل: إنك تواصل. قال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين, فاكلفوا من العمل ما تطيقون». متفق عليهما. 575 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قال: نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم, فقالوا: إنك تواصل. فقال: «إني لست كهيئتكم, إني يطعمني ربي ويسقين». أخرجاه.

576 - وعن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ى تواصلوا؛ فأيكم أراد أن يواصل؛ فليواصل حتى السحر». قالوا: إنك تواصل يا رسول الله! قال: «لست كهيئتكم, إني أبيت لي مطعم يطعمني وساقٍ يسقيني». رواه البخاري. [وتفسيره] في أظهر الوجهين: أن الله يغذيه بما يغنيه عن الأكل والشرب المعتاد من العلم والإيمان؛ لقوله: «أظل عند ربي» , وذاك إنما يكون بالنهار, ولو أكل الأكل المعتاد بالنهار؛ لأفطر, [ولأنه بيَّن] أنه يواصل, ولو كان يأكل؛ لم يكن مواصلاً. وأطلق أصحابنا الكراهة, وهذه كراهة تنزيه فيما ذكر أصحابنا؛ لأن أصحاب رسول واصلوا بعد نهيهم, ولو فهموا منه التحريم؛ لما استجازوا أن يعصوا الله ورسوله, بل فهموا أنه نهى رحمة ورفقاً بهم, فظنوا أن بهم قوة على الوصال, وأنهم لا حاجة بهم إلى الفطر, فغضب صلى الله عليه وسلم من هذا الظن المخطئ, ولأنه مجرد ترك الأكل بغير نية الصوم على وجه لا يخاف معه التلف ولا ترك واجب, ومثل هذا لا يكون محرماً. فإن واصل إلى السحر؛ جاز له من غير كراهة لما تقدم. وتعجيل الفطر أفضل لما تقدم أيضاً. وقد روى حنبل عن أحمد: أنه واصل بالعسكر ثمانية أيام, ما رآه طعم ولا شرب حتى كلمه في ذلك, فشرب سويقاً, لما طلبه المتوكل.

* فصل: فإن أكل أو شرب ما يرويه وإن قل؛ خرج عن حكم النهي

فقال أبو بكر: قوله: ما أكل فيها ولا شرب: يحتمل أنه ما رآه أكل ولا شرب, ويكون قد أكل وشرب بحيث ر يراه. قال: لأن أحمد لا يرى أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم, وقد روى المروذي عنه أنه كان إذا واصل؛ شرب شربة ماء. . . . * فصل: فإن أكل أو شرب ما يرويه وإنْ قل؛ خرج عن حكم النهي. قال القاضي وابن عقيل: وهو مقتضى ما ذكره المروذي عن أحمد: أنه كان إذا واصل؛ شرب شربة ماء. * فصل: وصيام الدهر منهي عنه. 577 - قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فسر مسدود قول أبي موسى:

«من صام الدهر؛ ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها». فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك» وما فيه من الأحاديث. وهو إن سرد الصوم يدخل فيه الأيام المنهي عن صيامها: يوم العيدين, وأيام التشريق, وإذا ترك ذلك؛ لم يكن صائماً للدهر المنهي عنه. هكذا قال أحمد في رواية صالح: إن صام رجل وأفطر أيام التشريق والعيدين؛ رجوت أن لا يكون بذلك بأس, وليس بصائم الدهر. وقال في رواية حنبل: إذا أفطر العيدين. . . فليس ذلك صوم الدهر. 578 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هن أيام عيد, وأيام أكل وشرب».

* فصل: وما كان مكروها أو محرما من الأقوال والأعمال في غير زمن الصوم؛ ففيه أشد تحريما وكراهة

قال: ويعجبني أن يفطر منه أياماً. قال القاضي: وظاهر قوله: الأفضل أن يفطر مع هذه الأيام الخمسة أياماً أخر لا بعينها, أفضل من سردها بالصيام, فإن سرد لم يكن منهياً عنه. وقال أبو محمد: عندي أن صوم [الدهر] مكروه, وإنْ لم يصم هذه الأيام, فإن صامها؛ فقد فعل محرماً. . . . وهذا في شهر رمضان أعظم لحرمة الشهر. قال ابن أبي موسى: ينبغي له أن يحفظ لسانه وجوارحه ويعظم من شهر رمضان ما عظم الله تعالى. * فصل: وما كان مكروهاً أو محرماً من الأقوال والأعمال في غير زمن الصوم؛ [ففيه] أشد تحريماً وكراهة. فيجب على الصائم أن يحفظ صومه من قول الزور والعمل به, ويجتنب الغيبة والرفث والجهل وغير ذلك من خطايا اللسان, وينبغي له أن يترك من

المباح ما لا يعنيه من الألفاظ. قال أصحابنا: يستحب للصائم أن ينزه صيامه عن اللغو والرفث والكذب والنميمة والمشاتمة والمقاتلة وعن كل لفظ لا يعنيه. قال أبو عبد الله في رواية حنبل: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري, ويصون صومه. 579 - كانوا إذا صاموا؛ قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا. والغيبة تكره للصائم؛ فلا يغتاب أحداً, ولا يعمل عملاً يجرح به صومه, ولا تفطر الغيبة للصائم. ولذلك قال في رواية. . . . ونقل عنه حرب التوقف في الفطر بالغيبة, فقال: قلت لأحمد: الرجل وهو صائم يعيد الصوم؟ قال: لا أدري كيف هذا وأمسك عنها, وقال: ما أدري. 580 - وذكر أن عبد الرحمن بن مهدي كان يأمر بالوضوء من الغيبة.

581 - وقال إسحاق بن راهوية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور في صيامه؛ فليس له من صيامه شيء». 582 - وقال عدة من أهل العلم من التابعين: إن الكذب يفطر الصائم, والغيبة كذلك؛ لقوله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. 583 - وعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». رواه الجماعة؛ إلا مسلم وابن ماجه. 584 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث يومئذٍ ولا يصخب؛ فإن شاتمه أحد أو قاتله؛ فليقل: إني امرؤ صائم, والذي نفس محمد بيده؛ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر؛ فرح بفطره, وإذا لقي

ربه؛ فرح بصومه». متفق عليه. اللهم اغفر لي وارحمني. *******

انتهى المجلد الأول من كتاب الصيام ويليه المجلد الثاني وأوله باب صيام التطوع

باب صيام التطوع

باب صيام التطوع مسألة: أفضل الصيام صيام داوود عليه السلام, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. هذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم, وهو لفظ الإِمام أحمد. قال في رواية صالح: «أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داوود عليه السلام, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً». 585 - وذلك لما روى عمرو بن أوس, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داوود, وإن أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً». رواه الجماعة إلا الترمذي.

586 - وعن سعيد وأبي سلمة: أن عبد الله بن عمرو قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومنَّ الليل ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت الذي تقول ذلك؟». فقلت له: قد قلته بأبي أنا وأمي يا رسول الله! قال: «فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر, ونم وقم, وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر». قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يوماً وأفطر يومين». قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يوماً وأفطر يوماً؛ فذلك صيام داوود عليه السلام, وهو أعدل الصيام (وفي رواية: هو أفضل الصيام»). قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أفضل من ذلك». وفي رواية: قال عبد الله بن عمرو: ولأن أكون قبلت الثلاثة أيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أهلي ومالي. رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي رواية عن أبي سلمة [عنه]؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك تصوم النهار وتقوم الليل؟». قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تفعل؛ صم وأفطر؛ ونم وقم؛ فإن لجسدك عليك حقّاً, وإن لعينك عليك حقّاً, وإن لزوجك عليك حقّاً, وإن لزورك عليك حقّاً, وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام؛ فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها؛ فإن ذلك صيام الدهر». فشدَّدت فشدد عليَّ. قلت: يا رسول الله! إني أجحد قوة. قال: «صم صيام نبي الله داوود لا تزد عليه». قلت: وما كان صيام داوود؟ قال: «نصف الدهر». وكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.

مسألة: وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم

587 - وعن أبي المليح بن أسامة, عن عبد الله بن عمرو؛ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له صومي, فدخل عليَّ, فألقيت وسادة من أدم حشوها ليف, فجلس على الأرض, وصارت الوسادة بيني وبينه, وقال: «أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «خمساً». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «سبعاً». قال: قلت: يا رسول الله! قال: «تسعاً». قلت: يا رسول الله! قال: «إحدى عشرة». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صوم فوق صوم داوود, شطر الدهر, صم يوماً وأفطر يوماً». أخرجاه. مسألة: وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم. 588 - هذا لفظ الحديث الذي رواه أبو هريرة؛ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل». فقيل: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شهر الله المحرم». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.

* فصل: وجاء في صوم الأشهر الحرم مطلقا

ويحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون اسم جنس, وأن يكون مختصّاً بالشهر الذي هو الحول. . . . وهذا في أفضل الصيام لمن يصوم شهراً واحداً, والأولى أفضل الصيام لمن يصوم صوماً دائماً في كل وقت. . . . * فصل: وجاء في صوم الأشهر الحرم مطلقاً. 589 - ما روي عن أبي السليل, عن مجيبة الباهلي, عن أبيه أو عمه؛ قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله! أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. قال: «فما لي أرى جسمك ناحلاً؟». قال: يا رسول الله! ما أكلت طعاماً بالنهار ما أكلته إلا بالليل. قال: «من أمرك أن تعذب نفسك؟». فقلت: يا رسول الله! إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر ويوماً بعده». قلت: إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر ويومين بعده». قلت: إني أقوى. قال: «صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر الحرم». رواه الخمسة إلا الترمذي, وهذا لفظ ابن ماجه.

ولفظ أبي داوود: عن أبي السليل, عن أبي مجيبة الباهلية, عن أبيها أو عمها: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته, فقال: يا رسول الله! أما تعرفني؟ قال: «ومن أنت؟». قال: أنا الباهلي الذي

* فصل: ويكره إفراد رجب بالصوم

جئتك عام الأول. قال: «فما غيَّرك وقد كنت حسن الهيئة؟». قال: ما أكلت طعاماً منذ فارقتك إلا بليل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم عذبت نفسك». ثم قال: «صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر». قال: زدني؛ فإن في قوة. قال: «صم يومين». قال: زدني. قال: «صم ثلاثة أيام». قال: زدني. قال: «صم من الحرم واترك, صم من الحرم واترك, صم من الحرم واترك». وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها. * فصل: ويكره إفراد رجب بالصوم. قال أحمد في رواية حنبل: يفطر في رجب ولا يشبه برمضان. وقال في روايته: من كان يصوم السنة؛ صامه, وإلا؛ فلا يصومه متوالياً. 590 - وقال في رواية ابن الحكم: يروى في صوم رجب عن عمر أنه كان يضرب على صوم رجب. 591 - وابن عباس قال: لا يصومه؛ إلا يوم أو أيام.

وقال: يروى عن وبرة, عن خرشة بن الحر, عن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يضرب على صوم رجب». وإن صامه رجل؛ أفطر فيه يوماً أو أياماً بقدر ما لا يصومه كله. 592 - وروي عن أبي بكرة: «أنه دخل على أهله, فرأى عندهم سلالاً جُدداً وكيزاناً, فقال: ما هذا؟ قالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان؟! فأكفأ السلال وكسر الكيزان». 593 - وذلك لما روى داوود بن عطاء, حدثني زيد بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, عن سلمان, عن أبيه, عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب». رواه ابن ماجه.

قال أحمد: لا يُحدث عن داوود بن عطاء بشيء. واعتمد أحمد على ما روي عن وبرة عن خرشة بن الحر: «أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوا عن طعامه حتى يضعوا فيه, ويقول: إنما هو شهر كانت الجاهلية يعظمونه». 594 - وعن عطاء, عن ابن عباس؛ قال: «لا تتخذوا رجب عيداً ترونه حتماً مثل شهر رمضان, إذا أفطرتم اليوم قضيتموه». رواهما سعيد. وروى أحمد عن خرشة؛ قال: «رأيت عمر يضرب أيدي المترجِّبين حتى يضعوها في الطعام, ويقول: كلوا؛ فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية». 595 - وعن ابن عمر: أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب؛ كرهه, وقال: «صوموا منه وأفطروا». وعن ابن عباس نحوه. وعن أبي بكرة: «أنه دخل على أهله وعندهم سلالاً جدد وكيزان, فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان؟ فألقى السلال وكسر الكيزان». رواهن أحمد.

مسألة: وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة

596 - عن حصين بن أبي [الحر]؛ قال: أتيت عمران بن حصين لحاجة وأنا صائم, فدعا بطعام, فقلت: إني صائم. فقال: لا تصومن يوماً تجعله صوم عليك حتماً ليس شهر رمضان». 597 - وقال إبراهيم: «كانوا يكرهون أن يوقتوا شهراً معلوماً أو يوماً معلوماً أن يصوموه». رواهما سعيد. قال أبو حكيم وغيره: إذا صام قبله أو بعده؛ لم يكره, وإنما يكره إفراده بالصوم. مسألة: وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة. . . . قال أصحابنا: «ويستحب صوم عشر ذي الحجة». وفي الحقيقة المعنى صوم تسع ذي الحجة, وآكدها يوم التروية وعرفة. 598 - وعن حفصة؛ قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام عاشوراء, والعشر, وثلاثة أيام من كل شهر, والركعتين قبل الغداة». رواه أحمد والنسائي.

......................... .

وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع من ذي الحجة, ويوم عاشوراء, وثلاثة أيام من كل شهر؛ أول اثنين من شهر وخميس». رواه أحمد وأبو داوود والنسائي. 599 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة, يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة, [وقيام كل ليلة منها بليلة القدر». رواه الترمذي وابن ماجه, وفيه ضعف].

مسألة: ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال؛ فكأنما صام الدهر

600 - وقد روي عن عائشة؛ قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط». رواه الجماعة إلا البخاري. مسألة: ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال؛ فكأنما صام الدهر. وجملة ذلك أن إتباع رمضان بست من شوال مستحب, نص عليه أحمد في غير موضع, وقال في رواية الأثرم: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه, عن أبي أيوب وجابر وثوبان: «من صام ستّاً من شوال؛ فكأنما صام السنة كلها». فالصيام بعد الفطر من أوله إلى آخره؛ لأن ستة أيام بشهرين, وشهر بعشرة أشهر. 601 - وذلك لما روى أبو أيوب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان, ثم أتبعه ستّاً من شوال؛ فذلك صيام الدهر». رواه الجماعة إلا البخاري.

ويقال: هو من حديث سعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت عن أبي أيوب. وقد رواه أبو داوود والنسائي من حديث صفوان بن سليم عن عمر بن ثابت أيضاً. 602 - وعن جابر؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام رمضان وستّاً من شوال؛ فكأنما صام السنة كلها». رواه أحمد.

603 - وعن ثوبان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر؛ كان تمام السنة, ومن جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها». رواه ابن ماجه. 604 - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك صيام الدهر» , و «كان كصيام الدهر»: هو مثل قوله لعبد الله بن عمرو: «صم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر». 605 - وكذلك قوله في حديث أبي قتادة: «ثلاثة أيام من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله».

وذلك أن صيام الدهر وهو استغراق العمر بالعبادة, وذلك عمل صالح, لكن لما فيه من صوم أيام النهي والضعف عن ما هو أهم منه؛ كره؛ فإذا صام ستة مع الشهر الذي هو ثلاثون؛ كتب له صيام ثلاث مئة وستين يوماً؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها, وكذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم, فحصل له ثواب من صام الدهر من غير مفسدة, لكنْ بصومه رمضان, ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر؛ حصل له ثواب صيام الدهر بدون رمضان, ويبقى رمضان له زيادة. 606 - وهذا كما قال الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات: «هي خمس, هي خمسون؛ لا يبدل القول [لديّ] فهي خمس في العمل وخمسون في الأجر. وكان أحمد ينكر على من يكرهها كراهة أن يلحق برمضان ما ليس منه؛ لأن السنة وردت بفضلها والحض عليها, ولأن الإِلحاق إنما خيف في أول الشهر؛ لأنه ليس بين رمضان وغيره فصل, وأما في آخره؛ فقد فصل بينه وبين غيره بيوم العيد, وكان نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد وحده دليلاً على أن النهي مختص به, وأن ما بعده وقت إذن وجواز, ولو شاء؛ لنهى عن أكثر من يوم؛ كما قال في أول الشهر: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين». وسواء صامها عقيب الفطر أو فصل بينهما, وسواء تابعها أو فرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأتبعه بست من شوال» , وفي رواية: «ستّاً من شوال» , فجعل

مسألة: وصوم عاشوراء كفارة سنة, وعرفة كفارة سنتين

شوالاً كله محلاً لصومها, ولم يخصص بعضه من بعض, ولو اختص ذلك ببعضه؛ لقال: «ستّاً من أول شوال أو من آخر شوال» , وإتباعه بست من شوال يحصل بفعلها من أوله وآخره؛ لأنه لا بد من الفصل بينها وبين رمضان بيوم الفطر, وهو من شوال, فعلم أنه لم يرد بالإِتباع أن تكون متصلة برمضان, ولأن تقديمها أرجح, [رجحه] كونه أقرب وأشد اتصالاً, وتأخيرها أرجح؛ لكونه لا يلحق برمضان ما ليس منه, أو يجعل عيد ثان كما يفعله بعض الناس, فاعتدلا. مسألة: وصوم عاشوراء كفارة سنة, وعرفة كفارة سنتين. 607 - الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن معبد الزِّمَّاني, عن أبي قتادة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة, وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية». رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داوود. وفي لفظ: «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله, فلما رأى غضبه؛ قال: رضينا بالله ربّاً وبالإِسلام ديناً وبمحمد نبيّاً». وفي لفظ: وبيعتنا بيعة, نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله.

فجعل عمر يردد الكلام حتى سكن غضبه, فقال عمر: يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر (أو قال: لم يصم ولم يفطر»). قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: «ويطيق ذلك أحد؟!». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: «ذلك صوم داوود عليه السلام». قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله, وصيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله [والسنة التي بعده, وصيام يوم عاشوراء أحتسب الله أن يكفر السنة التي قبله]». وفي رواية: أنه سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «فيه ولدت, وفيه أنزل عليَّ». وفي رواية:" «والخميس». رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

فصل: ولا يستحب صومه لمن بعرفة

فصل: ولا يستحب صومه لمن بعرفه قال أحمد في رواية حنبل: يستحب صيام عرفة ها هنا, وأما بعرفة؛ فلا, يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفطر, وقال: «لا يصام يوم عرفة بعرفة, وعرفة صيامها كفارة سنتين؛ سنة ماضية , وسنة مستقبلة». ورواه عبد الله عن أبيه.

608 - وعن أبي الخليل, عن أبي قتادة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كفارة سنتين». 609 - ورواه عكرمة عن أبي هريرة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة». رواه الخمسة إلا الترمذي.

610 - وذلك لما روي عن ميمونة: «أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف, فشرب منه والناس ينظرون». 611 - وعن أم الفضل: «أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه بلبن, فشرب وهو يخطب الناس بعرفة». متفق عليهما. 612 - وعن ابن عمر: «أنه سئل عن صوم يوم عرفة, فقال: حججت

مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه, [ومع أبي بكر] فلم يصمه, ومع عمر فلم يصمه, ومع عثمان فلم يصمه, وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه». رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن.

613 - ورواه النسائي, عن أبي [السوار]؛ قال: «سألت ابن عمر عن صوم يوم عرفة فنهاني». ولم يرفعه.

................. .

فإن صامه؛ فظاهر كلامه أنه يكره. 614 - لأنه قال: لا يصام. واحتج بالنهي لما روى عكرمة عن أبي هريرة؛ قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات». رواه الخمسة إلا الترمذي. فقد احتج به أحمد؛ لأن الصوم يضعفه عن الدعاء والذكر الذي هو مقصود التعريف. ولأن الحاج مسافر قد رخص له القصر والجمع. . . . ولأن هذا يوم عيد في ذلك المكان.

* فصل: وأما صوم يوم عاشوراء

615 - وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه عقبة بن عامر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام, وهي أيام أكل وشرب». رواه الخمسة إلا ابن ماجه, وقال الترمذي: حسن صحيح. فأما صومه للمتمتع الذي لا يجد الهدي آخر الثلاثة. . . . وقال القاضي: الاختيار له, والفضل أن يفطر ولا يقف بعرفة صائماً. * فصل: وأما صوم يوم عاشوراء؛ فقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: إنه يكفر السنة الماضية. فإن قيل: إنما أمر بصيامه قبل رمضان؛ فأما بعد رمضان؛ فهو يوم من الأيام.

616 - بدليل ما روى علقمة: أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء, فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن اليوم يوم عاشوراء. فقال: «قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان, فلما نزل رمضان؛ ترك؛ فإن كنت مفطراً؛ فأطعم». أخرجاه. ولمسلم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومهم قبل أن ينزل رمضان, فلما نزل رمضان تركه». 617 - وعن عبد الله؛ قال: ذكرنا يوم عاشوراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم كان يصومه أهل الجاهلية؛ فمن أحب منكم أن يصومه؛ فليصمه, ومن كرهه؛ فليدعه». 618 - وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان, فلما فرض رمضان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عاشوراء يوم من أيام الله؛ فمن شاء صامه» , وكان ابن عمر لا يصومه؛ إلا أن يوافق صيامه. متفق عليه. 619 - وعن جابر بن سمرة؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم

عاشوراء, ويحثنا عليه, ويتعاهدنا عنده, فلما فرض رمضان؛ لم يأمرنا ولم ينهنا عنه, ولم يتعاهدنا عنده». رواه أحمد ومسلم. قلنا: استحباب صومه ثابت بعد رمضان لحديث أبي قتادة المقدم. 620 - ولما روى معاوية بن أبي سفيان؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا يوم عاشوراء, ولم يكتب عليكم صيامه, وأنا صائم؛ فمن شاء صام, ومن شاء أفطر». متفق عليه. وفي رواية سفيان عن الزهري, عن حميد, [عن معاوية بن أبي سفيان؛ قال]: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام هذا اليوم».

وهذا خطاب يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه, ولم يؤكد عليهم صيامه, وهذا إنما يكون بعد فرض شهر رمضان؛ لأن ما قبل شهر رمضان كان مؤكداً. ومعاوية لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة يوم عاشوراء إلا وهو مسلم؛ لأنه قبل ذلك كان بمكة, والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, وإنما أسلم بعد الفتح, وقد فرض قبل ذلك بست سنين. وحديث ابن عباس الآتي ذكره صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه قبل موته بعام. (وأما هذه الأحاديث) معناها أن التوكيد الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد في صومه نسخ شهر رمضان, ولم يؤكد شأنه بعد الهجرة؛ إلا عاماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول, فأدركه عاشوراء من السنة الثانية, وفرض رمضان تلك السنة فلم يجئ عاشوراء آخر إلا ورمضان فرض. وقد اختلف هل كان هذا التوكيد إيجاباً؟ فقال القاضي: لا يعرف عن أصحابنا رواية بأن صوم عاشوراء كان فرضاً في ذلك الوقت. قال: وقياس المذهب أنه لم يكن مفروضاً؛ لأن من شرط صيام الفرض النية من الليل, والنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنية من النهار. وذكر هو وأصحابه وأبو حفص البرمكي وغيرهم أنه لم يكن مفروضاً؛ احتجاجاً بحديث معاوية المتقدم, وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ أكل بإمساك بقية اليوم, ولم يأمرهم بالقضاء, ولو كان واجباً لأمرهم بالقضاء؛ كما يجب القضاء على مَنْ أكل يوم الشك ثم قامت البينة بأنه رمضان. والتزموا على هذا أن الإِمساك بعد الأكل في يوم شريف فيه فضل يكون

قربة كما يكون الإِمساك في اليوم الواجب واجباً. واعتذروا عما ورد من النسخ بأن المنسوخ تأكيد صيامه وكثرة ثوابه؛ فإنه كان قبل رمضان أوكد وأكثر ثواباً منه بعد رمضان. وذكر بعض أصحابنا عن أحمد: أنه كان مفروضاً. وهو الذي ذكره أبو بكر الأثرم؛ قال في «ناسخ الحديث ومنسوخه»: وقد روي من أكثر من عشرين وجهاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصوم عاشوراء. وذكر الأحاديث الأخر. قال: وهذا عندنا من الناسخ والمنسوخ, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّد صومه في أول الأمر قبل نزول شهر الصوم, حتى أمرهم بأن يتموا بقية يومهم, وإن كانوا قد أكلوا, وإنما يفعل ذلك في الفريضة, ثم جاءت الأحاديث لما بين أن ذلك كله كان قبل شهر رمضان, فلما فرض في شهر رمضان؛ كان ما سواه تطوعاً. ومما يؤكد ذلك حديث معاوية؛ ففيه وفيما اشتهر من الأحاديث بيان نسخ إيجاب صوم عاشوراء, وفيه أيضاً بيان أن النسخ لم يكن على تركه ألبتة, ولكن على أنه صار تطوعاً, وهو اختيار أبي محمد, وهو أشبه. 621 - وهذا لما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن أذن في الناس أن من كان أكل؛ فليصم بقية يومه, ومن لم يكن أكل؛ فليصم؛ فإن اليوم يوم عاشوراء». متفق عليه.

والأمر يقتضي الإِيجاب, خصوصاً في الصوم؛ فإنه لم يكن يأمر بصيام التطوع، وإنما يرغب فيه ويحض عليه, ثم أذانه بذلك في الناس أذاناً عاماً وأمره للآكل بصوم بقية يومه توكيد ومبالغة لا يكون مثله لصوم مستحب. 622 - وعن هند بن أسماء؛ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي من اسلم, فقال: «مُرْ قومك؛ فليصوموا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء؛ فمن وجدته منهم قد أكل أول يومه؛ فليصم آخره». رواه أحمد.

623 - وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها؛ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى [الأنصار] التي حول المدينة: «من كان أصبح

صائماً؛ فليتم صومه, ومن كان أصبح مفطراً؛ فليتم بقية يومه». فكنا بعد ذلك نصومه, ونصومه صبياننا الصغار منهم, ونذهب إلى المسجد, فنجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام؛ أعطيناها إياه حتى يكون عند الإِفطار». أخرجاه. وفي لفظ. . . . 624 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل قرية على أربع فراسخ (أو قال: فرسخين) يوم عاشوراء, فأمر من أكل أن لا يأكل بقية يومه, ومن لم يأكل أن يتم بقية صومه». رواه أحمد. 625 - وعن محمد بن صيفي؛ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء, فقال: «أصمتم يومكم هذا؟». فقال بعضهم: نعم. وقال بعضهم: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم هذا». وأمرهم أن يؤذنوا أهل العوالي أن يتموا بقية يومهم.

626 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه, فلما قدم المدينة؛ صامه وأمر بصيامه, لما فرض رمضان؛ قال: «من شاء صامه, ومن شاء تركه». متفق عليه. 627 - وعن أبي موسى؛ قال: كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم». [متفق عليه. وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء؛ يتخذونه عيداً, ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم»]. 628 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم, فرأى اليهود تصوم عاشوراء, فقال: «ما هذا؟». فقالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى عليه السلام. فقال: «أنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه.

629 - وعن ابن عباس أيضاً: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم, ولا شهراً إلا هذا الشهر (يعني: رمضان»). متفق عليهما. فقد بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي أمر بصيامه ووكده, وجعلوا في نفسه كفضل رمضان, وأخبروا أن ذلك كان قبل أن يفرض رمضان, ولما فرض رمضان؛ لم يأمر به, وبينوا أنه كان يصومه بعد فرض رمضان ويأمر بذلك أمر استحباب. 630 - ويدل على أنهم قصدوا ترك صومه وجوباً ما روى علقمة؛ قال: «أتيت ابن مسعود ما بين رمضان إلى رمضان, ما من يوم إلا أتيته فيه, فما رأيته في يوم صائماً؛ إلا يوم عاشوراء». وقد تقدم عنه أنه ترك صومه. 631 - وقال الأسود بن يزيد: «لم أر رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا بالكوفة آمر بصوم عاشوراء من علي والأشعري». رواهما سعيد.

* فصل: وعاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم

ومعلوم أن هذا التوكيد لا يليق بمستحب؛ لأن يوم عرفة أفضل منه؛ فإنه يكفر سنتين, ومع هذا فلم يؤمر به, فثبت أن ذلك [إنما هو لوجوبه إذْ ذاك, ولأنه صلى الله عليه وسلم صامه أولاً بناء على اعتيادهم صومه قبل الإِسلام؛ كما ذكرت عائشة, وموافقة لموسى عليه السلام في صومه؛؛ لأنا أحق به من بني إسرائيل؛ كما ذكر أبو موسى وابن عباس, ثم نسخ التشبيه بأهل الكتاب في صومه صوم يوم آخر. وأما حديث معاوية؛ فهو متأخر بعد فرض رمضان, وإذ ذاك لم يكن واجباً بالاتفاق. 632 - وأما كونه لم يأمر بالقضاء؛ فقد روى قتادة, عن عبد الرحمن بن مسلمة, عن عمه: أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «صمتم يومكم هذا؟». قالوا: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم واقضوه». رواه أبو داوود والنسائي. ثم إنما لم يأمر بالقضاء لأن الوجوب إنما ثبت بالنهار. . . . * فصل: وعاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.

والسنة لمن صامه أن يصوم تاسوعا معه

والسنة لمن صامه أن يصوم تاسوعا معه. قال في رواية الميموني وأبي الحارث: من أراد أن يصوم عاشوراء؛ فليصم التاسع والعاشر؛ إلا أن يشكل الشهر, فيصوم ثلاثة أيام, ابن سيرين يقول ذلك. وقال في رواية الأثرم: أنا أذهب في عاشوراء أن يصام يوم التاسع والعاشر, حديث ابن عباس: «صوموا التاسع والعاشر». وقال حرب: سألت أحمد عن صوم عاشوراء؟ فقال: يصوم التاسع والعاشر. 633 - وذلك لما روى ابن عباس؛ قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله؛ صمنا يوم التاسع». قال؛ لم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم وأبو داوود. وفي لفظ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (يعني: يوم عاشوراء»). رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.

643 - وعن الحكم بن الأعرج؛ قال: «انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم, فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟ فقال: إذا رأيت الهلال المحرم؛ فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً. قلت: هكذا كان محمد يصومه. قال: نعم». رواه مسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. ومعنى هذا والله أعلم: صم التاسع والعاشر كما ذكره الإِمام أحمد عنه رواه سعيد وغيره. 635 - [وما روى عمرو بن دينار] , سمع عطاء, سمع ابن عباس يقول: «صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود».

636 - وعن شعبة مولى ابن عباس؛ قال: «كان ابن عباس يصوم عاشوراء في السفر, ويوالي بين اليومين؛ فرقاً أن يفوته». رواه حرب. 637 - عن إسماعيل بن علية؛ قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح [أن ابن عباس كان يقول: يوم عاشوراء يوم التاسع. فقال ابن نجيح:] إنما قال ابن عباس: «أكره أن يصوم يوماً فارِداً, ولكن صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً». رواه داوود بن عمرو عنه. 638 - وعن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: «أنه كان يصوم يومين لعاشوراء احتياطاً أن لا يفوته». رواه أبو زرعة الدمشقي عن أبي صالح عن معاوية بن صالح عنه.

639 - يحقق ذلك ما روى. . . عن ابن عباس؛ قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 640 - وقد روى داوود بن علي, عن أبيه, عن جده ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء, وخالفوا فيه اليهود, صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً».

[رواه أحمد وسعيد ولفظه: «صوموا يوماً قبله أو بعده»]. فإن صام عاشوراء مفرداً؛ فهل يكره؟ قال بعض أصحابنا: لا يكره. . . . والأشبه بكلامه أنه يكره: لأنه أمر بصوم اليومين لمن أراد صوم عاشوراء, وأخذ بأثر ابن عباس, وابن عباس كان يكره إفراده, ويأمر بصوم اليومين مخالفة لليهود. ولأنه إفراد يوم يعظمه غير أهل الإِسلام, فكره؛ كإفراد النيروز والمهرجان. ولأن التشبه بأهل الكتاب مكروه, وقطع التشبه بهم مشروع ما وجد إلى ذلك سبيل؛ فإذا صيم وحده؛ كان فيه تشبيه بأهل الكتاب. . . . قال أبو الخطاب: ويستحب صوم عشر المحرم, وآكدها تاسوعا

* فصل

وعاشوراء. . . . * فصل: قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: سمعنا في الحديث: «من وسع على عياله يوم عاشوراء؛ أوسع الله عليه سائر سنته». قال ابن عيينة: قد جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيراً. 641 - وقال في رواية صالح: ابن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم ابن المنتشر - قال أبي: ثقة صدوق - أنه بلغه: «من وسع على عياله يوم عاشوراء؛ وسع الله عليه سائر سنته». 642 - وقد روي في حديث مرفوع من حديث أيوب, عن سليمان بن مينا, عن رجل, عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وسع على أهله يوم عاشوراء؛ وسع الله عليه سائر سنته». رواه حرب.

643 - وروى أيضاً من حديث إبراهيم بن علقمة, عن عبد الله؛ مثله مرفوعاً, وقال: هذا حديث منكر. وقال: سئل أحمد عن هذا الحديث «من وسع على أهله يوم عاشوراء»؟ فلم يره شيئاً.

مسألة: ويستحب صيام أيام البيض

مسألة: ويستحب صيام أيام البيض. وجملة ذلك أنه يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فإنها تعدل صوم الدهر, ويستحب أن يكون يوم الاثنين والخميس, وأفضل ذلك أن يكون من أوسطه, وهي أيام البيض. قال حرب: سمعت أحمد يقول: من صام ثلاثة أيام من الشهر فقد صام الشهر كله. يقول بتوكيد. 644 - وقال في رواية عبد الله, [عن] عبد الملك بن قتادة بن ملحان, عن أبيه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة, وأربع عشرة, وخمس عشرة».

قيل له: فصيام ثلاثة أيام من كل شهر يصام من أول الشهر؟ قال: «نعم, ولكن يكون قصده لهذه». وقال في رواية عبد الله, [عن] هنيدة الخزاعي, عن أمه؛ قالت: دخلت على أم سلمة, فسألتها عن الصيام؟ فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والخميس». . . . 645 - وذلك لما تقدم عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «صم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها, وذلك مثل صيام الدهر». متفق عليه. 646 - وتقدم أيضاً عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث من كل شهر, ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر». رواه مسلم وغيره. وتقدم أيضاً قوله للباهلي: «صم ثلاثة أيام من كل شهر». . . . 647 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ قال: أوصاني خليلي بثلاث

لن أدعهن. . . . 648 - وعن أبي هريرة مثله. 649 - وعن معاوية بن قرة, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر [وقيامه]». رواه أحمد. 650 - وعن أبي العلاء بن الشخير, عن رجل من بني أقيش؛ قال: معه كتاب للنبي صلى الله عليه وسلم, ويقال: اسمه النمر بن تولب؛ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

«من سره أن يذهب كثير من وحر صدره؛ فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر». وفي رواية: «صيام ثلاثة أيام من الشهر يذهبن وحر الصدر». رواه أحمد والنسائي وفيه قصة رواها أبو داوود. 651 - وعن أبي نوفل بن أبي عقرب, عن أبيه: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم؟ فقال: «صم يوماً من كل شهر». فاستزاده قال: بأبي وأمي إني أجدني أقوى؛ فزدني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أجدني قويّاً, إني أجدني قويّاً». فما كاد أن يزيده, فاستزاده, فقال: «صم يومين من كل شهر». قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إني أجدني قويّاً, فما كاد أن يزيده, فلما ألحَّ عليه؛ قال: «صم ثلاثة أيام من كل شهر». رواه أحمد والنسائي. 652 - وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: «نعم». فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: «لم يكن يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم».

رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد تقدم عنه من رواية حفصة وغيرها أنه لم يكن يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر. 653 - وعن عبد الله؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل [هلال] , وقلما كان يفطر يوم الجمعة». رواه الخمسة وقال الترمذي حسن غريب. إلا أن أبا داوود لم يذكر إلا صوم الثلاثة, وابن ماجه لم يذكر إلا صوم الجمعة. 654 - وعن هنيدة الخزاعي, عن أمه؛ قالت: دخلت على أم سلمة, فسألتها عن الصيام؟ فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من

كل شهر, أولها الاثنين والخميس». رواه أبو داوود, وذكره أحمد. 655 - وقد تقدم من حديث هنيدة, عن امرأته, عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم نحو ذلك. 656 - وعن حفصة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى». رواه أبو داوود والنسائي. وإنما اختيرت البيض. 657 - ولما روي عن أبي ذر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة؛ فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة». رواه أحمد والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.

................. .

658 - وعن [قتادة] بن ملحان العبسي؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة, وأربع عشرة, وخمس عشرة, وقال: «هي كهيئة الدهر». رواه الخمسة إلا الترمذي, واحتج به أحمد. وفي لفظ: «أن يصوم الليالي البيض»؛ أي: بصيام أيام الليالي البيض؛ كما قال: «وأتبعه بست»؛ [أي: بأيام من ست].

659 - وعن موسى بن طلحة: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيام يصومهن؟ فقال: «أين أنت من البيض؟». رواه سعيد. قال القاضي: قيل: إنما سميت البيض لأن ليلها كنهارها يضيء بالقمر جميع ليلها, والجيد أن يقال: أيام البيض لأن البيض صفة لليالي البيض [أي: أيام الليالي البيض] , وهذا جاء في الحديث وكلام أكثر الفقهاء. ووقع في كلام بعضهم ابن عقيل وأبي الخطاب: الأيام البيض, فعدوه لحناً؛ لأن كل الأيام بيض. 660 - وقيل: سُميت البيض؛ «لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته». رواه أبو الحسن التميمي في كتاب «اللطف».

مسألة: والاثنين والخميس

مسألة: والاثنين والخميس. هذان اليومان يستحب صومهما من بين أيام الأسبوع؛ لأن أعمال العباد تعرض فيها؛ كما استحب صوم شعبان؛ لأن أعمال العباد تعرض فيه: 661 - 662 - لما تقدم عن أم سلمة وحفصة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يصوم الثلاثة يوم الاثنين والخميس». 663 - وتقدم أنه لما سئل عن صوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه, وأنزل عليَّ فيه». رواه مسلم. 664 - وعن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس». رواه الخمسة إلا أبا داوود, وقال الترمذي: حديث حسن.

665 - وعن أبي سعيد المقبري, عن أسامة بن زيد؛ قال: قلت: يا رسول الله! إنك تصوم لا تكاد تفطر, وتفطر لا تكاد تصوم؛ إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما, الاثنين والخميس؟ قال: «ذانك يومان تعرض فيهما

الأعمال على رب العالمين, فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». رواه أحمد والنسائي. وفي رواية عن عمر بن الحكم بن ثوبان, عن مولى قدامة بن مظعون, عن مولى أسامة بن زيد: أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له, فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس, فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس, وسئل عن ذلك؟ فقال: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس». رواه أحمد وأبو داوود والنسائي.

666 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس, فقيل له, فقال: «إن الأعمال تعرض في كل اثنين وخميس, فيغفر الله لكل مسلم؛ إلا المتهاجرين؛ يقول الله تعالى: أخروهما». رواه أحمد وابن ماجه والترمذي, وقال: «تعرض الأعمال كل اثنين وخميس, فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم». حديث حسن غريب.

* فصل

* فصل: قال أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال: ليس في الصوم رياء.

مسألة: والصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء أفطر, ولا قضاء عليه

قال القاضي: وهذا يدل على فضيلة الصوم على غيره؛ لأن الرياء لا يدخله؛ لأنه إمساك ونية, وهذا المعنى لا يصح إظهاره, فيقع الرياء فيه. . . . مسألة: والصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء أفطر, ولا قضاء عليه. وجملة ذلك أن منْ شرع في صيام التطوع؛ فإنه يجوز الخروج منه ولا قضاء عليه, لكن المستحب أن يتمه وأن يقضيه إذا أفطر. . . . وهل يكره فطره لغير حاجة؟ وهل يستحب فطره مع الحاجة؟ وهل يقضي مع الحاجة؟ قال ابن أبي موسى: من أفطر في تطوعه عامداً؛ فالاحتياط له أن يقضيه من غير أن يجب ذلك؛ فعلى هذا لا يستحب له القضاء إذا أفطر بعذر, بل يكون بمنزلة صوم مبتدأ, [والأول]. وقال في رواية الأثرم فيمن أصبح صائماً متطوعاً فبدا له فأفطر يقضيه؟ قال: إن قضاه فحسن, وأرجو أن لا يجب عليه. وقال حرب: سئل أحمد قيل: ما تقول فيمن نوى الصيام من الليل, ثم أصبح فأفطر؟ قال: إن قضى فهو أحب إليَّ, وإلا؛ فليس عليه شيء. وسئل عن رجل صام تطوعاً, فأراد أن يفطر: أعليه قضاء أم لا؟ قال: إذا

كان من نذر أو قضاء رمضان يقضي, وإلا فلا. وكذلك نقل ابن منصور. . . . وهذا هو المذهب. وروى عنه حنبل: إذا أجمع على الصيام من الليل, فأوجبه على نفسه, فأفطر من غير عذر؛ أعاد ذلك اليوم. فاختلف أصحابنا في هذه الرواية: فقال القاضي: هذا محمول على صوم النذر دون التطوع, وقد صرح به في مسائل حنبل, فقال: إذا كان [نذراً]؛ قضى وأطعم لكل يوم مسكيناً, وإن كان. . . . وقال غيره: يحمل ذلك على استحباب القضاء دون إيجابه؛ ليوافق سائر الروايات, وأقرها طائفة رواية. قال أبو بكر عبد العزيز: تفرد حنبل بهذه الرواية, وجميع أصحابنا على أن لا قضاء عليه, وبه أقول. وهذه طريقة ابن البناء وغيره, وهي أصح؛ لأن أحمد فرق بين الأمر بالإِعادة وبين المعذور وغيره, وقضاء النذر لا [يختلف] , ولم يتعرض لوجوب الكفارة, ولو كانت نذراَ؛ لذكر الكفارة. ووجه ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وهذا يعم إبطالها بعد إكمالها وفي أثنائها؛ فإن ما مضى من الصوم والصلاة والإِحرام ونحوها عمل صالح يثاب عليه؛ بحيث لو مات في أثنائه؛ أجر على ما مضى أجر من قد عمل لا أجر من قصد ونوى, وإذا كان عملاً صالحاً؛ فقد نهى الله عن إبطاله. 667 - وعن شداد بن أوس؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية». قال: قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك بعدك؟ قال: «نعم؛ أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً, ولكن يراؤون بأعمالهم, والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً, فتعرض له شهوة من شهواته, فيترك صومه». رواه أحمد وابن ماجه من حديث رواد بن الجراح, عن عامر بن عبد الله, عن الحسن بن ذكوان, عن عبادة بن نسي, عن شداد بن أوس.

................ .

668 - وعن الزهري, عن عروة, عن عائشة؛ قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين, فعرض لنا طعان اشتهيناه, فأكلنا منه, فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبدرتني إليه حفصة, وكانت ابنة أبيها, فقالت: يا رسول الله! إن كنا صائمتين, فعرض لنا طعام اشتهيناه, فأكلنا, فقلنا: «اقضيا يوماً آخر مكانه». رواه أحمد والنسائي والترمذي [من حديث] جعفر بن برقان الزهري, وقال الترمذي: وروى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفص هذا الحديث عن الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة.

669 - قال: وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن [سعد] وغير واحد من الحفاظ, عن الزهري, عن عائشة؛ مرسلاً, ولم يذكر فيه عروة, وهذا أصح. 670 - وروي بإسناده عن ابن جريج؛ قال: سألت الزهري, فقلت: أحدثك عروة عن عائشة؟ فقال: لم أسمع من عروة في هذا شيئاً, ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض منْ سأل عائشة عن هذا الحديث. ورواه أحمد والنسائي من حديث سفيان بن حسين عن الزهري. ورواه النسائي أيضاً, من حديث صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري؛ قال: وصالح بن أبي الأخضر ضعيف في الزهري وفي غير الزهري, وسفيان بن حسين وجعفر بن برقان ليسا بقويين في الزهري, ولا بأس بهما في غير الزهري, ثم رواه مرسلاً من حديث معمر ومالك وعبيد الله بن عمر. ورواه عن سفيان؛ قال: سألوا الزهري وأنا شاهد: أهو عن عروة؟ قال: لا. ورواه سعيد عن سفيان بن عيينة [فثنا الزهري؛ قال: قالت عائشة: فذكره, وفيه: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: «صوما يوماً مكانه». قال سفيان: فسألت الزهري: عن عروة؟ فغضب وأبى أن يسنده.

............................ .

............................. .

............................... .

671 - قال سعد: ثنا عاطف بن خالد, عن زيد بن أسلم؛ قال: قالت عائشة: مثله, وقال لنا: «صوما مكانه ولا تعودوا». وفي حديث مالك وغيره: أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين. 672 - وعن ابن الهاد, عن زميل مولى عروة, عن عروة بن الزبير, عن عائشة؛ قالت: أهدي لحفصة طعام, وكنا صائمتين, فأفطرنا, ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلنا: يا رسول الله! إنا أهديت لنا هدية, واشتهيناها, فأفطرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عليكما, صوما يوماً آخر». رواه أبو داوود والنسائي وقال: زميل ليس بالمشهور. وقال البخاري: لا يعرف لزميل سماعاً عن عروة, ولا تقوم به الحجة.

673 - وعن جرير بن حازم, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة, عن عائشة: نحوه. رواه النسائي وقال: هذا خطأ.

وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن يحيى عن عمرة عن عائشة: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين»؟ فأنكره وقال: مَنْ رواه؟ قلت: جرير. فقال: جرير يحدث بالتوهم, وأشياء عن [قتادة] يسندها جرير بن حازم باطلة. 674 - وعن سعيد بن جبير: «أن حفصة وعائشة أصبحتا صائمتين تطوعاً, فأفطرتا, فأمرهما رسول الله أن يقضياه». رواه سعيد. 675 - وعن أنس بن سيرين؛ قال: «صمت يوماً, فأجهدت, فأفطرت, فسألت ابن عمرو وابن عباس؟ فأمراني أن أقضي يوماً مكانه». رواه سعيد.

676 - وعن محمد بن أبي حميد, عن إبراهيم عن عبيد؛ قال: صنع أبو سعيد الخدري طعاماً, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فقال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنع لك أخوك, وتكلف لك أخوك؛ أفطر وصم يوماً مكانه». رواه الدارقطني وقال: هذا مرسل. ورواه حرب وقال: «كل وصم يوماً مكانه إن أحببت». وقد تكلم في محمد بن أبي حميد. 677 - وعن ابن عيينة, عن طلحة بن يحيى, عن عائشة بن طلحة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً, فقربت له حيساً, فأكل منه وقال: «إني كنت أريد الصيام, ولكن أصوم يوماً مكانه». رواه عبد الرزاق عنه.

ورواه الدارقطني, ولفظه: قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «إني أريد الصيام». وأهدي إليه حيس, فقال: «إني آكل وأصوم يوماً مكانه».

قال الدارقطني: لم يروه بهذا اللفظ غير ابن عيينة عن محمد بن عمرو بن العباس الباهلي, ولم يتابع على قوله: «وأصوم يوماً مكانه» , ولعله شبه عليه, والله أعلم, لكثرة من خالفه عن ابن عيينة. ورواية عبد الرزاق التي ذكرناها تدل على خلاف قول الدارقطني. فهذا الحديث غايته أن يكون مرسلاً. لكن قد أرسله الزهري وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير, وعمل به الصحابة, والمرسل إذا تعدد مرسلوه وعمل به الصحابة؛ صار حجة بلا تردد, وقد أسند من غير حديث الزهري كما تقدم. ولأنها عبادة, فلزمت بالشروع فيها ووجب القضاء بالخروج منها لغير

عذر؛ كالحج, ولأن الشروع في العبادة التزام لها, فلزم الوفاء به كالنذر. يحقق التماثل: أن الله تعالى قال في آية الصوم: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] كما قال في آية الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فإذا كان عليه إتمام ما دخل فيه من الحج والعمرة؛ فكذلك عليه إتمام ما دخل فيه من الصيام. فعلى هذه الرواية: إنما تقضى إذا أفطر لغير عذر. فأما إن أفطر لعذر من مرض أو سفر ونحو ذلك؛ فلا إعادة عليه. وإن أفطر لكون الصوم مكروهاً, مثل أن يفرد يوماً بالصوم. . . . 678 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام؛ فإن كان مفطراً؛ فليطعم, وإن كان صائماً؛ فليصل». ولو كان الأكل جائزاً؛ لبينه, ولاستحبه في الدعوة. 679 - ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصومن امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه». ولو كان التفطير جائزاً؛ لم يكن في شروعها في الصوم عليه ضرر.

والأول المذهب: 680 - لما روى شعبة, عن جعدة, عن أم هانئ وهي جدته. وفي لفظ: قال شعبة: كنت أسمع سماك بن حرب يقول: أحد بني أم هانئ حدثني, فلقيت أنا أفضلهما, وكان اسمه جعدة, وكانت أم هانئ جدته, فذكره عن جدته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها, فدعا بشراب فشرب, ثم ناولها فشربت, وقالت: يا رسول الله! أما إني كنت صائمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء أفطر».

وفي رواية: قلت له: سمعته من أم هانئ؟ قال: لا. حدثنيه أبو صالح وأهلنا عن أم هانئ. رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: في إسناده مقال.

وفي رواية لأحمد والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح. ورووه أيضاً من حديث سماك بن حرب, عن ابن أم هانئ, عن أم هانئ.

وفي لفظ: سمعه منها. وفي لفظ: عن هارون ابن بنت أم هانئ أو ابن ابن أم هانئ عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شراباً, فناولها لتشرب, فقالت: إني صائمة, ولكن كرهت أن أرد سؤرك. فقال: «إن كان قضاء من رمضان؛ فاقضي يوماً مكانه, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن شئت فلا تقضي». قال النسائي: اختلف فيه على سماك, وسماك ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث. ورواه أحمد وأبو داوود: عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث, عن أم هانئ؛ قالت: لما كان يوم الفتح؛ فتح مكة؛ جاءت فاطمة, فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأم هانئ عن يمينه. قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب, فناولته فشرب منه, ثم ناوله أم هانئ فشربت منه, فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها: «أكنت تقضين شيئاً؟». قالت: لا. قال: «فلا يضرك إن كان تطوعاً». فقد عاد الحديث إلى إسنادين: أحدهما: رواته أهل بيت أم هانئ عنها, رواه عنهم شعبة وسماك, ولم ينفرد به سماك. والثاني: رواته عبد الله بن الحارث.

وأهل البيت [عدة] نفر, منهم أبو صالح؛ فروايتهم أوكد من رواية الواحد, ورواية ذريتها عنهم دليل على ثقتهم وأمانتهم. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح في رمضان, ولا يجوز أن تكون صائمة في رمضان عن قضاء ولا تطوع. 681 - قيل: «النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة ليلة بعد الفتح, وهذه الأيام كلها تسمى أيام الفتح». . . . . ولا يجوز أن يعتقد أنها أفطرت ناسية؛ لأنها أخبرت أنها كانت صائمة, وإنما كرهت أن ترد سؤر النبي صلى الله عليه وسلم, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن التطوع لا قضاء فيه بحال, وأنه إن كان قضاء من رمضان؛ فعليها القضاء, ولأنه لم يقل: فالله أطعمك وسقاك. 682 - وأيضاً [روى] طلحة بن يحيى, عن عائشة بنت طلحة, عن عائشة؛ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فقال: «هل عندكم من شيء؟». فقلنا: لا. فقال: «فإني إذاً صائم». ثم أتانا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس. فقال: «أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً». فأكل. رواه الجماعة إلا البخاري.

زاد النسائي: ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء حبسها». وفي لفظ له: قال: «يا عائشة! إنما بمنزلة من صام في غير رمضان أو في قضاء رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله, فجاد منها بما شاء فأمضاه, وبخل منها بما شاء فأمسكه». وفي رواية لمسلم؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة! هل عندكم شيء؟». قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء. قال: «فإني إذاً صائم». قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور). قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: أهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور) , وقد خبأت لك شيئاً. قال: «ما هو؟». قلت: حيس. قال: «هاتيه». فجئت به, فأكل, ثم قال: «قد كنت أصبحت صائماً». قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث, فقال: ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء أمسكها. والحيس: تمر وسمن وأقط يطبخ. قال الشاعر: التمر والسمن جميعاً والقط الحيس إلا أنه لم يختلط فهذا نص في جواز الإِفطار بعد إِجماع الصيام.

683 - وعن عكرمة؛ قال: قالت عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «هل عندكم شيء؟». فقلت: لا. فقال: «إني إذاً أصوم». ودخل يوماً آخر, فقال: «هل عندكم شيء؟». قلت: نعم. قال: «إذاً أطعم, وإن كنت فرضت الصوم». رواه الدارقطني وقال أيضاً: إسناد حسن صحيح. 684 - وعن أبي جحيفة؛ قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء, فزار سلمان أبا الدرداء, فرأى أم الدرداء متبذلة, فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء, فصنع له طعاماً, فقال: كل؛ فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام, ثم ذهب يقوم, فقال: نم. فلما كان من آخر الليل؛ فقال: قم الآن. فصلَّيا, فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً, ولنفسك عليك حقّاً, ولأهلك عليك حقّاً؛ فأعط لكل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان». رواه البخاري. فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان على تفطير أبي الدرداء ولم يأمره بالقضاء.

685 - وعن سالم؛ قال: صنع عطاء طعاماً, فأرسل إلى سعيد بن جبير, فأتاه, فقال: إني صائم. فحدثه بحديث سلمان أنه أفطر أبا الدرداء, فأفطر. رواه البغوي. 686 - وعن عمرو, عن سعيد؛ قال: «لأن أضرب بالخناجر أحب إليَّ من أن أفطر من تطوع بالنهار». رواه سعيد البغوي. فقد رجع سعيد إلى حديث سلمان هذا, وهو ممن روى حديث عائشة وحفصة. 687 - وعن جويرية بنت الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة, فقال لها: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟». قالت: لا. قال: «فأفطري». رواه الجماعة إلى مسلماً وابن ماجه والترمذي.

688 - ورواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. إلا أن هذين الحديثين إنما يدلان على الفطر في موضع يكون الصوم مكروهاً؛ كإفراد يوم الجمعة, وسرد الصوم الذي يضعف به حقوق أهله, ونحو ذلك. وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في شهر رمضان هو وأصحابه وهو مسافر بعد أن أصبحوا صياماً لما كان جائزاً لهم ترك الصوم؛ فلن يجوز الفطر في صيام التطوع أولى وأحرى. وأيضاً؛ فإنه إجماع ذكرناه عن سلمان وأبي الدرداء. 689 - وعن الحارث, عن علي؛ قال: «إذا أصبحت وأنت تريد الصيام؛ فأنت بالخيار: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت؛ إلا أن تفرض الصيام عليك من الليل». [يعني والله أعلم بالنذر]

690 - وعن عبد الله: «متى أصبحت وأنت تريد الصوم؛ فأنت على خير النظرين: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت». وفي رواية عنه؛ قال: «أحدكم بأخير الفطرين ما لم يأكل أو يشرب». 691 - وعن عكرمة, عن ابن عباس؛ قال: «الصائم بالخيار: إن شاء صام, وإن شاء أفطر». 692 - وعن عطاء, عن ابن عباس؛ قال: «إذا صام الرجل تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, وإذا دخل في صلاة تطوعاً, ثم شاء أن يقطعها؛ قطعها, وإذا طاف بالبيت تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, غير أنه لا ينصرف إلا على وتر خمساً أو ثلاثاً أو شوطاً, وإذا أخرج الرجل صدقة تطوعاً, ثم شاء أن يحبسها؛ حبسها».

693 - وعن ابن عمر: أنه أصبح صائماً, ثم أتى بطعام, فأكل, فقيل له: ألم تكن صائماً؟ فقال: «لا بأس به؛ ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان». رواهن سعيد. 694 - وعن جابر: «أنه كان لا يرى [بالإِفطار] في صيام التطوع بأساً». رواه الشافعي. وأيضاً؛ فإن الرجل إذا أصبح صائماً؛ لم يوجد منه إلا مجرد النية والقصد, والنية المجردة لا يجب بها شيء. 695 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به». يبقى الفرق بينه وبين الإِحرام وبين أن يتكلم بالنية أو لا يتكلم بها. ولأنها عبادة يخرج منها بالإِفساد, فلم يجب قضاؤها إذا أفسدها؛ كالوضوء, وكما لو صام يعتقد أن عليه فرضاً؛ فإنه بخلافه, وعكسه الإِحرام؛ فإنه لا يخرج منه بالفساد. . . .

ولأنه إذا كان له أن لا يفعل؛ كان له أن يخرج منه قبل الإِتمام. . . . وأما قوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]؛ فإنه ما لم يتم فليس بعمل. وأما الأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء إن كانت صحيحة؛ فإنما هو أمر استحباب, وبيان أن الصوم لم يفت, وأن المفطر إذا صام يوماً مكان هذا اليوم؛ فقد عمل بدل ما ترك. 696 - وهذا كما قضت عائشة عمرة بدل العمرة التي أدخلت عليها الحج وصارت قارنة. وكما قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه حتى لا يعتقد المعتقد أن المتطوع إذا أفطر؛ فقد بطلت حسنته على وجه لا يمكن تلافيه؛ كالمفطر في رمضان ونحوه. ويدل على ذلك أشياء: أحدها أن الرواية المسندة قال فيها: «لا عليكما صوما مكانه يوماً» , مع إخبارهما أنهما أكلتا بشهوة ولم يفطرا لعذر. وبقوله: «لا عليكما»؛ أي: لا بأس عليكما, ولو كان الفطر حراماً والقضاء واجباً؛ لكان عليهما بأس. ثانيهما: أن في رواية سفيان عن الزهري: أنهما لما أخبرتاه؛ تبسم النبي

صلى الله عليه وسلم, ولو كانتا قد أذنبتا؛ لغضب أو لبيَّن لهما أن هذا حراماً؛ لئلا يعودا إليه. وأما قوله: «ولا تعودا»؛ فهي رواية مرسلة, ثم معناها – والله أعلم – لا تعودا إلى فطر تريدان قضاؤه؛ فإن إتمام الصيام أهون من التماس القضاء, وهذا لما رأى حزنهما على ما فوتاه من الصوم؛ قال: فلا تفعلاه شيئاً تحزنا عليه. وثالثهما: أن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحيس: أنه قال: «إني آكل وأصوم يوماً مكانه» , ولولا أن الخروج جائز والقضاء مستحب؛ لما أفطر. ورابعهما: أن في حديث المدعو إلى طعام أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر وصم يوماً مكانه». وفي رواية: «إن أحببت» , ولو كان القضاء واجباً؛ لما قيل هذا. وخامسها: أن ابن عمر وابن عباس قد أمرا بالقضاء, وصح عنهما جواز الإِفطار لغير عذر, فعلم أن ذلك أمر استحباب. 697 - فروى يوسف بن ماهك؛ قال: «وطئ ابن عباس جارية له وهو صائم, فقال: إنما هو تطوع وهي جارية اشتهيتها». 698 - وفي رواية عن سعيد بن جبير؛ قال: «دخلنا على ابن عباس صدر النهار فوجدناه صائماً, ثم دخلنا فوجدناه مفطراً, فقلنا: ألم تك صائماً؟ قال: بلى, ولكن جارية لي أتت عليَّ, فأعجبتني, فأصبتها, وإنما هو تطوع, وسأقضي يوماً مكانه, وسأزيدكم: إنها كانت بغيّاً فحصنتها, وإنه قد عزل عنها». قال سعيد بن جبير: «فعلمنا أربعة أشياء في حديث واحد». رواهما سعيد.

وأما حديث شداد بن أوس إن صح؛ فيشبه – والله أعلم – أن يكون ذلك فيمن يعتاد أبداً الصوم ثم تركه لشهوته؛ فإن هذا مكروه. ويحتمل أن يكون تفسير الشهوة الخفية من جهة بعض الرواة مدرجاً في الحديث. يدل على ذلك ثلاثة أشياء. أحدها: أن الشهوة الخفية قد فسرها أبو داوود وغيره بأنها حب الرئاسة, ولو كان تفسيرها مرفوعا؛ لما أقدموا على ذلك. الثاني: أن تفسيرها بحب الرئاسة أشبه؛ لأن حب الرئاسة يكون في الإِنسان, ويظهر الأعمال الصالحة ولا نعلم أن مقصوده درك الرئاسة. الثالث: أن الأكل شهوة ظاهرة؛ فإنه إن لم تكن هي الشهوة الظاهرة؛ لم يكن لها شهوة ظاهرة. الرابع: أن قرانه بالرياء دليل على أنه أراد ما هو من جنسه, والذي هو من جنسه هو حب الشرف لا أكل الطعام. والله تعالى أعلم.

* فصل: في المواضع التي يكره فيها الفطر أو يستحب أو يباح

* فصل: في المواضع [التي يكره فيها الفطر أو يستحب أو يباح] قال القاضي: يكره الخروج من الصوم والصلاة لغير عذر. . . . وقال في رواية أبي الحارث في رجل يصوم التطوع فيسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر؛ قال: 699 - يروى عن الحسن: أنه يفطر, وله أجر البر وأجر الصوم إذا افطر. وقال في رواية عبد الله: إذا نهاه أبوه عن الصوم؛ ما يعجبني أن يصوم إذا نهاه, ولا أحب لأبيه أن ينهاه؛ يعني: في التطوع. وقال في رواية يوسف بن موسى: إذا أمره [أبواه]؛ لا يصلي إلا المكتوبة. قال: يداريهما ويصلي. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: فإن دعاه والداه وهو في الصلاة؟ 700 - قال: قد روى ابن المنكدر؛ قال: «إذا دعتك أمك وأنت في الصلاة؛ فأجبها, وإذا دعاك أبوك؛ فلا تجبه».

* فصل: ومن تلبس بصيام رمضان أو بصلاة في أول وقتها أو بقضاء رمضان أو بقضاء الصلاة أو بصوم نذر أو كفارة؛ لزمه المضي فيه

وفي موضع آخر: قلت: تدعوه أمه وهو في الصلاة. قال: يروى عن ابن المنكدر أنه قال: «إن كان في التطوع؛ فليجبها». * فصل: ومن تلبس بصيام رمضان أو بصلاة في أول وقتها أو بقضاء رمضان أو بقضاء الصلاة أو بصوم نذر أو كفارة؛ لزمه المضي فيه, ولم يكن له الخروج منه؛ إلا عن عذر؛ بخلاف المتلبس بالصوم في السفر؛ فإن العذر المبيح للفطر قائم. . . . مسألة: وكذلك سائر التطوع؛ إلا الحج والعمرة؛ فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما. فيه مسألتان: أحدهما: أن سائر التطوعات من الصلاة والطواف والاعتكاف والهدي والأضحية والصدقة والعتق: إذا شرع فيه؛ [فالأولى] أن يتمه, وإن قطعه؛

جاز ولا قضاء عليه, وإن قضاه بعد قطعه؛ فهو أحسن. هذا الذي عليه أصحابنا, وقد أفتى أبو عبد الله بما ذكره عن ابن المنكدر إذا دعته أمه وهو في الصلاة إن كان في التطوع؛ فليجبها. وقال أحمد في رواية الأثرم وقد سئل عن الرجل يصبح صائماً متطوعاً: أيكون بالخيار؟ والرجل يدخل في الصلاة: أله أن يقطعها؟ فقال: الصلاة أشد لا يقطعها, فإن قطعها وقضاها؛ فليس فيه اختلاف. قال القاضي: ظاهر هذا أنه لم يوجب القضاء, وإنما استحبه؛ لأنه يخرج من الخلاف. وقال غير القاضي: هذه الرواية تقتضي الفرق بين الصلاة والصيام, وأن الصلاة تلزم بالشروع. وهذا الفرق اختيار أبي إسحاق والجوزجاني. لأن الصلاة ذات إحرام وإحلال, فلزمت بالشروع كالحج. 701 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير, وتحليلها التسليم».

وهذا يعم جميع الصلوات, ويقتضي أنه ليس له أن يتحلل منها إلا بالتسليم؛ كما ليس له أن يفتتحها إلا بالطهور, ولا أن تحرم بها إلا بالتكبير.

ويؤيد الفرق: أنه لو أمره أحد أبويه بالفطر في صومه التطوع؛ أجابه, ولو دعاه أحدهما في صلاة التطوع؛ أجاب الأم ولم يجب الأب. . . . المسألة الثانية: إذا أحرم بحجة أو عمرة؛ لزمه المضي فيها, ولا يجوز له

أن يقصد الخروج منها, ولو نوى الخروج منها ورفضها؛ لم يخرج بذلك. [ولو أفسدها؛ لزمه المضي فيها, وإتمام ما أفسده, وعليه قضاؤها من العام المقبل إن كانت] حجة, وعل الفور إن كانت. . . , حتى لو دخل فيها يعتقدها واجبة عليه بنذر أو قضاء ونحو ذلك, ثم تبين أنها ليست عليه؛ لزمه المضي فيها, ومتى أفسدها؛ كان عليه القضاء. . . . والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. 702 - وفي حرف عبد الله: «إلى البيت». وقد أجمع أهل التفسير إلى أنها نزلت عام الحديبية, لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحرم هو وأصحابه بالعمرة, وساقوا الهدي, فصده المشركون, فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمر فيها بإتمام الحج والعمرة, ويذكر شأن الإِحصار. وهذا أمر بالإِتمام لمن دخل متطوعاً؛ لأن الحج لم يكن قد فرض بعد؛ فإن الآية نزلت سنة ست, والحج إنما فرض بعد فتح مكة.

ثم إن الله تعالى أمر بالإِتمام مطلقاً, فدخل فيه كل منشئ للحج والعمرة, بخلاف الآية التي فيها إتمام الصيام؛ فإنها تفارق هذه من وجهين: أحدهما: أنه قال في أولها: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. . .} , واللام هنا لتعريف الصيام المعهود الذي تقدم ذكره, وهو صيام رمضان, ثم قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} , فعاد الكلام إلى الصيام المتقدم الذي كان الأكل والنكاح في ليلته محظوراً بعد النوم, ثم أبيح, وهذا صفة صيام الواجب. نعم؛ سائر الصيام لا يتم إلا بذلك على سبيل التبع والإِلحاق. الثاني: أن قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}: أمر بأن يكون إتمام الصيام إلى الليل, وبيان لكون الصوم لا يتم إلا بالإِمساك إلى الليل, فتفيد الآية أن من أفطر قبل الليل؛ لم يتم الصيام, وهذا حكم شامل [يجمع] أنواع الصوم, ثم ما كان واجباً كان الإِتمام فيه إلى الليل واجباً, وما كان مستحبّاً كان مستحبّاً, وما كان مكروهاً كان مكروهاً, وما كان محرماً كان محرماً؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] , وهو أمر بأن يكون حكمه بما أنزل اتلله لا أمر بنفس الحكم؛ بخلاف آية الحج والعمرة؛ فإنه أمر بإتمامهما, فيكون نفس الإِتمام مأموراً به, وهنا الإِتمام إلى الليل هو المأمور به, وفرق بأن يكون الأمر بنفس الفعل أو بصفة في الفعل؛ فإنه لو قال: [صل] بوضوء, أو: صلِّ مستقبل القبلة, ونحو ذلك؛ كان أمراً بفعل هذا الشرط في الصلاة لا أمراً بنفس الصلاة. والفرق بين الحج والعمرة من وجوه:

مسألة: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين؛ يوم الفطر ويوم الأضحى

أحدها: أن الحج والعمرة يمضي في فاسدها ولا يخرج منهما بالإِفساد ولا بقطع النية, وغيرهما ليس كذلك. فإن قيل: الصوم القضاء والمنذور والكفارة والصلاة في أول الوقت يخرج منها بالفساد مع وجوب إتمامها. قيل: الصوم المتعيِّن مثل شهر رمضان والنذر المعين إذا أفطر لزمه المضي في فاسده, وأما غيره؛ فإنه حين إفساده يمكن إنشاؤه صحيحاً, فلم يكن حاجة إلى المضي في فاسده. الثاني: أن الكفارة تجب في إفساد فرضهما ونفلهما بخلاف الصوم. الثالث: أنه لو دخل فيهما معتقداً. . . مسألة: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين؛ يوم الفطر ويوم الأضحى. 703 - وذلك لما روى أو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر». متفق عليه. وفي لفظ لمسلم: «لا يصلح الصوم في يومين». وفي لفظ للبخاري: «لا صوم في يومين: الفطر والأضحى».

704 - وعن ابن عمر نحوه. متفق عليه. 705 - 706 - وعن عائشة وأبي هريرة نحوه. رواهما مسلم. 707 - وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر؛ قال: «شهدت العيد مع عمر بن الخطاب؛ فقال: يا أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن صيام هذين العيدين». وفي رواية: «اليومين الفطر والأضحى: أما أحدهما؛ فيوم فطركم من صيامكم, وأما الآخر؛ فيوم تأكلون فيه من نسككم». رواه الجماعة. 708 - وعنه أيضاُ؛ قال: شهدت عليّاً وعثمان رضي الله عنهما في يوم الفطر والنحر يصليان ثم ينصرفان يذكران الناس. قال: وسمعتهما يقولان: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين». رواه أحمد والنسائي.

مسألة: ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه أرخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي

ولا يجوز صوم يومي العيدين عن كفارة ولا قضاء ولا نذر في الذمة. فإن نذر صوم يوم أحد العيدين قصداً؛ انعقد نذره موجباً لكفارة يمين في إحدى الروايات. نص عليه في رواية حنبل بناء على أنه نذر معصية, وموجب نذر المعصية كفارة يمين. وفي الأخرى: عليه مع الكفارة قضاء يوم. نص عليه في رواية أبي طالب, وهو. . . مسألة: ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه أرخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي. 709 - الأصل في ذلك ما روي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى». رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. 710 - وروى كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق, فناديا: «أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأيام منى أيام أكل وشرب». رواه مسلم.

711 - وعن أبي مرة مولى أم هانئ: «أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص, فقرب إليهما طعاماً, فقال: كل. قال: إني صائم. فقال عمرو: كل؛ فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها ونهى عن صيامها». قال مالك: وهي أيام التشريق. رواه مالك في «الموطأ» وأبو داوود. 712 - وعن عمر ن سليم, عن [أمه]؛ قالت: بينما نحن بمنى, إذا علي بن أبي طالب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب؛ فلا يصومها أحد». رواه أحمد والنسائي. 713 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي أن يركب راحلة أيام منى, فيصيح في الناس: «لا يصومن أحد؛ فإنها أيام أكل وشرب». رواه أحمد.

714 - وعن عبد تالله بن حذافة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب». رواه النسائي والإِسماعيلي في «صحيحه».

* فصل: وأما المتمتع إذا لم يجد الهدي, ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر؛ فهل يصوم أيام التشريق؟

واحتج به أحمد: قال في رواية المروذي: أيام التشريق قد نُهي عن صيامها. ويروى عن سليمان بن يسار, عن عبد الله بن حذافة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق: إنها أيام أكل وشرب». * فصل: وأما المتمتع إذا لم يجد الهدي, ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر؛ فهل يصوم أيام التشريق؟ على روايتين. إحداهما: يجب عليه صومها. وهي اختيار الشيخ. 715 - لما روي عن ابن عمر وعائشة؛ قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن يجد الهدي». رواه البخاري.

* فصل: ويكره صوم يوم الشك في حال الصحو

وفي رواية عن ابن عمر؛ قال: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة, فإن لم يجد هدياً ولم يصم؛ صام أيام منى». وعن عائشة مثله. رواه البخاري. والثانية: لا يصومها. قال ابن أبي موسى: وهي أظهرهما لعموم النهي, ولأنها أيام النهي, فلم تصم عن واجب ولا غيره؛ كيومي العيدين. وذكر الخرقي والقاضي وأصحابه وغيرهم الروايتين في صومهما عن جميع الواجبات من النذر والقضاء والكفارات؛ كفارات الأيمان ونحوها, وكفارات الحج؛ كالمتمتع إذا لم يجد الهدي. * فصل: ويكره صوم يوم الشك في حال الصحو. رواية واحدة. واختلف أصحابنا هل هي كراهة تنزيه أو تحريم على وجهين: أحدهما: أنها كراهة تحريم. قاله ابن البناء وغيره. والثاني: كراهة تنزيه, وهو ظاهر قول القاضي. وكذلك الإِمساك في نهاره, وسواء صامه عن رمضان أو صامه تطوعاً أو أطلق النية؛ إلا أن يوافق عادة مثل إن كانت عادته صوم يوم الاثنين نذراً [قال

القاضي] أو كان سرد الصوم؛ فلا يكره له. . . . فإن صام عن قضاء أو نذر أو كفارة: فقال القاضي وابن البناء: لا يكره؛ كما لو وافق عادة, مثل ما قلنا في الجمعة, وكذلك يوم [الإِغمام] إذا قلنا: لا يصام من رمضان. ذكره ابن الجوزي. وقال بعض:. . . يكره صومه عن فرض غير رمضان الحاضر, ويحرم عن رمضان أو عن تطوع لم يوافق عادة. وقال أبو حكيم: لا يجوز صوم يوم الشك تطوعاً, ولا عن فرض. قال في رواية الأثرم إذا لم يكن علة؛ قال: يصبح عازماً عل الفطر. وقال في روايته: ليس ينبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غيره. وقال في رواية المروذي, وقد سئل عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الشك؟ فقال: هذا إذا كان صحواً؛ لم يصم, فأما إن كان في السماء غيم؛ صام. ونقل عنه أبو داود الشك على ضربين: فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر, والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر. وأما إذا وافق عادة؛ فأخذه أصحابنا من كراهة إفراد الجمعة.

فعلى هذا؛ لو نذر صوم السنة كلها؛ دخل فيه يوم الشك. وقال ابن عقيل: لا يدخل فيه يوم الشك؛ كالأيام الخمسة. وهذا يقتضي المنع منه مفرداً أو مجموعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك مطلقاً, ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين إلا أن يوافق عادة. وقد روى أحمد بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: لو صمت السنة كلها؛ لأفطرت اليوم الذي يشك فيه. والشك إذا تقاعد الناس أو تشاغلوا عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته فاسق؛ فأما مع عدم ذلك؛ فهو من شعبان. قاله في «الخلاف». وابن عقيل وأبو حكيم قال: لا يكون شكّاً مع الصحو؛ إلا أن [شهد] برؤيته فاسق, فترد شهادته, فيوقع في قلوب الناس شكّاً أو يتتارك الناس رؤية الهلال, فيصبحون لا يعلمون هل هو من رمضان أو شعبان. وإذا كانت السماء مطبقة بالغيم بحيث لا يجوز رؤية الهلال, وقلنا: لا يصام؛ فهو يوم شك على ظاهر كلامه. وذكر في «المجرد»: أنه شك أيضاً؛ لجواز أن يجيء الخبر بالرؤية من مكان آخر. وقال ابن الجوزي: إذا كانت السماء مصحية؛ فشعبان موجود حقيقة وحكماً, ولم يوجد شك ولا شبهة.

* فصل: ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين

وإذا تراءاه الناس فلم يروه: فقال ابن الجوزي: لم يُسمِّ أحد ذلك يوم شك. فعلى هذا يجوز صومه تطوعاً. والصواب أنه يوم شك؛ لإِمكان الرؤية في مكان آخر. وقال أبو محمد: ليس لهم صيام آخر يوم من شعبان مع الصحو بحال؛ إلا أن يوافق عادة, أو يكون صائماً قبله أياماً. * فصل: ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين. 716 - لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «[لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين]؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً؛ فليصمه». رواه الجماعة. فأما حديث عمران ومعاوية. . . . فأما استقباله بالثلاثة؛ فالمشهور في المذهب أنه لا بأس به.

وقال بعض أصحابنا: لا يستحب الصوم بعد منتصف شعبان إلا لمن قد صام قبله. 717 - لما روى العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فأمسكوا عن الصوم حتى يكون رمضان». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن. وقال النسائي: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء.

وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث: قال حرب: سمعت أحمد يقول في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فلا صوم إلا رمضان»؛ قال: هذا حديث منكر. قال: وسمعت أحمد يقول: لم يحدث (يعني: العلاء) حديثاً أنكر من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان النصف من شعبان؛ فلا صوم إلا رمضان» , وأنكر أحمد هذا الحديث, وقال: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث عن سهيل, ورواية محمد بن يحيى الكحال هذا الحديث ليس بمحفوظ, والمحفوظ الذي يروى عن أبي سلمة [عن أم سلمة]: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان ورمضان. واعتمد في رواية عبد الله على حديث أبي هريرة المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين»؛ فإن مفهوم هذا الحديث يجوز التقدم بالثلاثة. ولأنه إنما كره التقدم خشية أن يزاد في الشهر ويلحق به ما ليس منه, وهذا أكثر ما يقع في اليوم واليومين, فأما الثلاثة؛ فلا يقع فيها لبس. والله أعلم. فأما صيام اليوم واليومين قبل رمضان قضاء أو نذراً أو كفارة. . . .

* فصل: ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم

* فصل: ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم. 718 - لما روى محمد بن عباد بن جعفر؛ قال: «سألت جابر بن عبد الله: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم». متفق عليه. وفي رواية للبخاري: «أن ينفرد بصومه». 719 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة؛ إلا وقبله يوم, أو بعده يوم». رواه الجماعة إلا النسائي. وفي رواية لمسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي, ولا

تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم». وفي رواية لأحمد: «يوم الجمعة يوم عيد, ولا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم؛ إلا أن تصوموا قبله أو بعده». 720 - وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على جويرية يوم جمعة وهي صائمة, فقال لها: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «تصومين غداً؟». قالت: لا. قال: «فأفطري». 721 - وعن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده». رواه أحمد. واحتج به في رواية حنبل, فقال عكرمة عن ابن عباس: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده». قال أبو عبد الله: ولا أحب لرجل أن يتعمد صيامه, فإن وافق نذراً؛ صامه؛ لأن هذا أسهل من العيدين, ولا يخصه رجل بصيام. فأما يوم الفطر ويوم النحر؛ فهما مخصوصان بالنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في صومهما, وقد استثنى في يوم الجمعة, فقال: «إلا رجل كلن يصوم صوماً فليصمه».

فأما إن لم يقصده بعينه, بل صام قبله يوماً [أو] بعده يوماً, أو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ [فإنه يصوم] يوم الجمعة دون ما قبله وما بعده, لكن في جملة أيام, أو أراد أن يصوم يوم عرفة أو يوم عاشوراء, فكان يوم جمعة ونحو ذلك؛ لم يكره؛ فإن النهي إنما هو عن تعمده بعينه: كما قال في رواية حنبل. وقال في رواية الأثرم, وقد سئل عن صيام يوم الجمعة, فذكر حديث النهي أن يفرد, ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه؛ فأما أن يفرد؛ فلا. فقيل له: فإن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, فوقع فطره يوم الخميس وصومه الجمعة وفطره السبت, فصام الجمعة مفرداً؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة, وإنما كره أن يتعمد, وهذا لم يتعمد. وقال أيضاً في رواية إبراهيم, وقد سأله عن صوم الجمعة, وهو يوم عرفة, ولا يتقدمه بيوم ولا يومين؟ فقال: لا يبالي, إنما أراد يوم عرفة, وإنما نهى عن صوم عرفة بعرفات. وهذا لما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في صومه إذا صام قبله أو بعده. ولأنه جعل أفضل الصيام صيام داوود, ومعلوم أن من صام يوماً وأفطر يوماً؛ صام يوم الجمعة, وكذلك من صام يومين وأفطر يوماً, أو من صام يوماً وأفطر يومين. وقد تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قلما كان يفطر يوم الجمعة».

* فصل: ويكره إفراد يوم السبت بالصيام

لأنه كان يصوم الخميس فيصله بالجمعة. ولا يكره صوم وحده عن فرض من قضاء أو نذر ونحو ذلك. قاله القاضي. فأما صومه بعينه؛ فينبغي أن يكون مكروهاً. فإن صام معه يوماً من أيام الأسبوع, لا يليه, مثل الاثنين والأحد ونحو ذلك. . . . * فصل: ويكره إفراد يوم السبت بالصيام عند أكثر أصحابنا. قال الأثرم: قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت ينفرد به؛ فقد جاء فيه حديث الصماء, وكان يحيى بن سعيد يتقيه, وأبى أن يحدثني به, وسمعته من أبي عاصم. وقال في رواية الأثرم, وقد سأله عن صيام يوم السبت بغير فرض؟ فقال: قد جاء فيه الحديث: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم». وعنه ما لا يدل على أنه لا يكره. قال في رواية الأثرم: قد جاء في صيام يوم السبت ذاك الحديث مفرد, حديث الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يحيى يتقيه. وهذا يدل على توقفه عن الأخذ به؛ لأن ظاهر الحديث خلاف الإِجماع.

ولذلك قال الأثرم في «مختلف الحديث»: جاء هذا الحديث ثم خالفته الأحاديث كلها, وذكر الأحاديث في صوم المحرم وشعبان, وفيهما السبت, والأحاديث في إتباع رمضان بست من شوال, وقد يكون فيها السبت, وأشياء كثيرة توافق هذه الأحاديث. وقد روي عن السلف أنهم أنكروه: فروى أبو داود عن ابن شهاب: أنه كان إذا ذُكر له أنه نهي عن صيام يوم السبت؛ يقول ابن شهاب: هذا حديث حمصي. وعن الأوزاعي؛ قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر (يعني: حديث ابن بسر في صوم يوم السبت). قال أبو داود: قال: مالك: هذا [كذب]. وقال أبو داوود: هذا الحديث منسوخ. ووجه الأول: 722 - ما روى ثور بن يزيد, عن خالد بن معدان, عن عبد الله بن بسر السلمي، عن أخته الصماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم, وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة (وفي لفظ: إلا لحاء عنب أو عود شجرة)؛ فليمصه». رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن.

................. .

.................. .

................. .

................ .

................... .

..................... .

...................... .

.................... .

وقد رواه أحمد والنسائي من وجوه أخرى عن خالد عن عبد الله بن بسر. 723 - ورواه أيضاً عن الصماء, عن عائشة. وإسناده إسناد جيد. وقول أبي داوود: وهو منسوخ: يدل على جودة إسناده.

724 - ورواه أحمد من حديث ابن لهيعة؛ قال: ثنا موسى بن وردان, عن عبيد الأعرج؛ [قال: حدثتني جدتي]: أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت وهو يتغدى, فقال: «تعالي فكلي». فقالت: إني صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: «كلي؛ فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك». وإنما حُمل على الإِفراد؛ لأن في حديث جويرية وغيره: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟». قالت: لا. فعلم أن صومه مع الجمعة لا بأس به.

وكذلك إذنه في فطر يوم وصوم يوم مطلقاً, وصوم يومين وفطر يوم, وصوم يوم وفطر يومين, وصوم أيام البيض؛ مع العلم بأن هذا لابد فيه من صوم يوم السبت كغيره من الأيام. . . . ولأنه يوم عيد لأهل الكتاب؛ فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيماً له, فكره ذلك؛ كما كُره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب, وإفراد رجب أيضاً لما عظمه المشركون, مع أن يوم عاشوراء. . . . فإن قيل: إنما يعظمونه بالفطر, ثم هذا منتقض بيوم الأحد. . . . وعلله ابن عقيل بأنه يوم يمسك فيه اليهود, ويخصونه بالإِمساك, وهو ترك العمل فيه, والصائم في مظنة ترك العمل, فصار تشبهاً بهم. 725 - وعن كريب: أنه سمع أم سلمة؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام, ويقول: «إنهما يوما عيد للمشركين؛ فأنا أحب أن أخالفهم». رواه أحمد والنسائي.

* فصل

وروى النسائي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. . . . * فصل: قال أصحابنا: ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان.

مسألة: وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان

726 - وقد أومأ أحمد إلى ذلك فقال في رواية عبد الله: [حدثنا] وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن أنس والحسن: كرها صوم يوم النيروز والمهرجان. قال أبي: أبان بن أبي عياش؛ يعني: الرجل. قال بعضهم: وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم. مسألة: وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان.

الأصل في هذه الليلة قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1 - 5] السورة إلى آخرها, وقوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: رقم 185] , وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: آية 3]. 727 - قال ابن أبي نجيح, عن مجاهد: «بلغني أنه كان في بني إسرائيل رجل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فلم يضعه عنه. فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه, فعجبوا من قوله, فأنزل الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: آية 3]؛ يقول الله تعالى: ليلة القدر خير لكم من تلك الألف شهر التي لبس فيها السلاح, وذلك الرجل في سبيل الله». رواه آدم ابن أبي إياس عن الزنجي عنه. 828 - وذكر مالك في «الموطأ»: أنه سمع من يثق به يقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله ذلك, فكأنه تقاصر أعمار أمته, لا يبلغون من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر, فأعطاهم الله ليلة القدر خير من ألف شهر».

729 - وعن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وهي باقية في رمضان إلى يوم القيامة في العشر الأواخر منه. قال أبو عبد الله في رواية حنبل: ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان, وحديث ابن عمر هو أصحها, والرواية في ليلة القدر صحيحة: أنها في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر, واختلف في ذلك؛ قالوا: عن النبي صلى الله عليه وسلم: في سبع [يبقين] , وقالوا: في ثلاث [يبقين] , فهي في العشر, في وتر من الليالي, لا يخطئ ذلك إن شاء الله تعالى, كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلبوها في العشر الأواخر لثلاث بقين أو سبع بقين أو تسع بقين»؛ فهي في العشر الأواخر. وقال في رواية أبي داود: الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر؛ يعني: ليلة القدر.

وقال القاضي في «المجرد»: وفيها: (يعني: العشر الأواخر من رمضان) يجوز أن تطلب من كل وتر منه, ولكن لثلاث بقين وسبع بقين وتسع بقين أشد استحباباَ. والظاهر أنها إحدى هذه الثلاث الليالي, وذلك: 730 - لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان: ليلة القدر في تاسعة تبقى, في سابعة تبقى, في خامسة تبقى». رواه احمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية للبخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في العشر: هي في [تسع] يمضين, أو في سبع يبقين»؛ يعني: ليلة القدر. قال البخاري: قال عبد الوهاب عن أيوب, وعن خالد عن عكرمة عن ابن عباس: «التمسوا في أربع وعشرين». 731 - وعن ابن عمر: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر

في المنام في السبع الأواخر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر؛ فمن كان متحريها؛ فليتحرها في السبع الأواخر». متفق عليه. وفي رواية في الصحيح عن ابن عمر؛ قال: كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر (يعني: ليلة القدر) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر؛ فمن كان متحريها؛ فليتحرها في العشر الأواخر. وفي رواية لأحمد ومسلم؛ قال: أرى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم في العشر الأواخر؛ فاطلبوها في الوتر منها. وفي رواية شعبة, عن حكيم بن سحيم, عن ابن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من كان ملتمساً؛ فليلتمسها في العشر الأواخر». وفي رواية معمر, عن الزهري, عن سالم, عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا ليلة القدر في العشر الغوابر, في التسع الغوابر». وفي رواية شعبة, عن عقبة بن حريث؛ قال: سمعت ابن عمر يقول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان ملتمساً؛ فليلتمسها في العشر الأواخر, فإن عجز أو ضعف؛ فلا يغلب على السبع البواقي». وفي رواية شعبة, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان متحريها؛ فليتحرها ليلة سبع وعشرين». وقال عروة: «ليلة سبع وعشرين». رواهن أحمد. وروى حنبل, عن عارم, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: كانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنها ليلة السابعة من العشر الأواخر؛ فمن كان متحريها؛ فليتحرها ليلة السابعة في العشر الأواخر». ورواه معمر, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر؛ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني رأيت في المنام ليلة القدر, كأنها ليلة سابعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أرى رؤياكم قد تواطأت (يعني: ليلة سابعة)؛ فمن كان منكم متحريها؛ فليتحرها ليلة سابعة». قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيباً. وفي رواية من هذا الوجه: إني رأيت رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين؛ فمن كان منكم يريد أن يقوم الشهر؛ فليقم ليلة ثلاث وعشرين.

732 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان, ويقول: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان». متفق عليه. وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». 733 - وعن أبي سلمة, عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأواخر من رمضان, ثم اعتكف العشر الأوسط, في قبة تركية على سدتها حصير, فأخذ الحصير بيده, فنحاها في ناحية القبلة, ثم أطلع رأسه, فكلم الناس, فدنوا منه, فقال: «إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة, ثم إني اعتكفت العشر الأوسط, ثم أتيت فقيل: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف؛ فليعتكف». فاعتكف الناس معه. قال: «وإني أريتها ليلة وتر, وأني أسجد في صبيحتها في طين وماء». فأصبح من ليلة إحدى وعشرين, وقد قام إلى الصبح, فمطرت السماء, فوكف المسجد, فأبصرت الطين والماء, فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء, وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر». رواه الجماعة إلا الترمذي, وهذا لفظ مسلم وغيره.

وفي رواية متفق عليها: «فابتغوها في العشر الأواخر, وابتغوها في كل وتر». وعن أبي نضرة, عن أبي سعيد؛ قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبان له, فلما انقضين؛ أمر بالبناء فقوض, ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر, فأمر بالبناء فأعيد, ثم خرج على الناس, فقال: «يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر, وإني خرجت لأخبركم بها, فجاء رجلان يحتقَّان, معهما الشيطان, فنسيتها, فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان, التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة». قال: قلت: يا أبا سعيد! إنكم بالعدد أعلم منا. قال: أجل؛ نحن أحق بذلك منكم. قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون؛ فالتي تليها اثنتان وعشرون؛ فهي التاسعة, وإذا مضى ثلاث وعشرون؛ فالتي تليها السابعة, وإذا مضى خمس وعشرون؛ فالتي تليها الخامسة. رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي. 734 - وعن انس, عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ليخبرنا بليلة القدر, [فتلاحى رجلان من المسلمين, فقال: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر] , فتلاحى فلان وفلان, فرفعت, وعسى أن يكون

خيراً لكم؛ فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة». رواه أحمد والبخاري والنسائي. وفي رواية أحمد عن عبادة؛ قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر, فقال: هي في شهر رمضان؛ فالتمسوها في العشر الأواخر؛ فإنها وتر؛ ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو آخر ليلة من رمضان, من قامها احتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». 735 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة القدر, ثم أيقظني بعض أهلي, فنسيتها, فالتمسوها في العشر الغوابر». رواه النسائي من حديث يونس وشعيب عن الزهري عن أبي سلمة عنه. 736 - وعن الصنابجي في ليلة القدر؛ قال: «أخبرني مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في السبع في العشر الأواخر». رواه البخاري.

737 - وفي رواية عن الصنابجي, عن بلال؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة السابع وعشرين». رواه علي بن حرب. 837 - وعن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر». رواه أحمد. 739 - وعن ابن عباس؛ قال: قال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم ملتمساً ليلة القدر؛ فليلتمسها في العشر الأواخر وتراً». رواه أحمد.

740 - وعن أبي بكرة؛ قال: ما أن بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر؛ فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع بقين, أو سبع بقين, أو خمس بقين, أو ثلاث بقين, أو آخر ليلة». قال: فكان أبو بكرة يصلي من العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة, فإذا دخل العشر؛ اجتهد. رواه أحمد والنسائي والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح. وأيضاً؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر ويجتهد في العبادة فيه ما لا يجتهد في سائر الشهر, ويشد المئزر, ويعتزل أهله, ويوقظهم فيه, وهذا كله يقتضي اختصاصه بما لا يشركه فيه سائر ليالي الشهر, وأنه أفضل الأعشار؛ فلا يجوز أن تكون ليلة القدر في غيره؛ لأن عشرها أفضل الأعشار.

فهذه النصوص من النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنها العشر الأواخر, وأن السبع الأواخر أرجى هذا العشر, وأن أرجاها ليالي الوتر. ثم الوتر باعتبار ما بقي لا باعتبار ما مضى. وكذلك ذكره أحمد. وفي بعضها: أنه باعتبار ما مضى. فإذا كان باعتبار ما مضى؛ فليالي الوتر إحدى وعشرين, وليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين. وإن كان باعتبار ما بقي, وكان الشهر ثلاثين؛ فتاسعة تبقى ليلة اثنين وعشرين, وسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين, وخامسة تبقى ليلة ت وعشرين, وثالثة تبقى ليلة ثمان وعشرين, وواحدة تبقى آخر ليلة. وهكذا في حديث أبي بكرة المرفوع, وتفسير أبي سعيد. وإن كان الشهر تسعاً وعشرين؛ فتاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين. ويستوي على هذا التقدير الوتر باعتبار ما مضى وما بقي. وقد يكون قوله: «لثلاث بقين أو خمس بقين أو سبع بقين»؛ يعني: من الليالي التزام الكوامل. فإذا كان الشهر تامّاً أيضاً؛ كان الأوتار مما مضى هي الأوتار مما بقي؛ فليلة إحدى وعشرين قد بقي تسع كوامل. 741 - فإن قيل: قد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوها ليلة سبع [عشرة] من رمضان, وليلة إحدى

وعشرين, وليلة ثلاث وعشرين» , ثم سكت. رواه أبو داوود. 742 - وروى عبد الرزاق عن علي ونحوه. 743 - وروى سعيد عن [أبي] نحوه.

744 - وعن موسى بن عقبة, عن أبي إسحاق, عن سعيد بن جبير, عن عبد الله بن عمر؛ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: «هي في كل رمضان». رواه أبو داود وقال: رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفاً على ابن عمر لم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 745 - وعن أبي العالية: أن أعرابيّاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي, فقال له: متى ليلة القدر؟ فقال: «اطلبوها في أول ليلة, وآخر ليلة, والوتر من الليالي». رواه أبو داوود في «مراسيله». قيل: أما حديث عبد الله وأبي العالية إن صح؛ فإنه – والله أعلم- كان قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر؛ كما فسره أبو سعيد؛ فإنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحراها في العشر الأوسط, ثم أعلم أنها في الأواخر, وأمر

أصحابه بتحريها في العشر البواقي. وكذلك [حديث] ابن عمر وغيره يدل على أن العلم بتعيينها في العشر الأواخر كان متجدداً, فإذا وقع التردد بين الأوسط والآخر؛ علم أن الشك قبل العلم. وأما حديث ابن عمر؛ فمعناه – والله أعلم – أنها في جميع الرمضانات لا تختص ببعض الرمضانات الموجودة على عهد الأنبياء عليهم السلام؛ فإن ابن عمر قد صح عنه أنه أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها في العشر الأواخر. وذلك أن بعض الناس توهم أنها رفعت لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فتلاحى فلان وفلان فرفعت» , وإنما رُفع علمها ومعرفتها في ذلك العام؛ لأنه خرج ليخبركم بها, فأنسيها. ومن هذا الباب رفع القرآن ونحوه. ويدل على ذلك قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: رقم 216] , [وقوله: «وعسى أن يكون خيراً»]. وارتفاع بركة ليلة القدر لا خير فيه للأمة؛ بخلاف نسيانها؛ فإنه قد يكون فيه خير للاجتهاد في العشر كله. وقوله بعد ذلك: «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» , ولولا أنها موجودة بعد هذا الرفع؛ لم تلتمس.

746 - فقد روى عبد الرزاق, عن يزيد بن عبد الله بن الهاد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ليلة القدر, فقيل له: قد كانت [مع النبيين] ثم رفعت حين قبضوا أو في كل سنة؟ قال: «بل في كل سنة». 747 - وعن ابن عباس؛ قال: «ليلة القدر في كل رمضان تأتي». وإجماع الصحابة على طلبها والتماسها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع على ذلك. قال كثير من أصحابنا: تلتمس في جميع العشر, وآكده ليالي الوتر, وآكده ليلة سبع وعشرين؛ لأن أحمد رضي الله عنه قال: أصحها حديث ابن عمر, وفي حديث ابن عمر أنها ليلة سبع وعشرين. وهو قول القاضي في «الخلاف» , وعامة أصحابه. وقال القاضي في «المجرد»: أوكد ليالي الوتر لثلاث بقين وسبع بقين وتسع بقين, والظاهر أنها إحدى هذه الليالي الثلاث. 748 - وعن قتادة: أنه سمع مطرفاً, عن معاوية بن أبي سفيان, عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر؛ قال: «ليلة سبع وعشرين». رواه أبو داود.

749 - وعن ابن عباس: أن رجلاً أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! إني شيخ كبير عليل, يشق عليَّ القيام, فأمرني بليلة, لعل الله يوفقني بها لليلة القدر. قال: «عليك بالسابعة». رواه أحمد. 750 - وعن أبي عقرب الأسدي؛ قال: أتيت عبد الله بن مسعود, فوجدته على إيجار له (يعني: سطحاً) , فسمعته يقول: صدق الله ورسوله, صدق الله ورسوله. فصعدت إليه, فقلت: يا أبا عبد الرحمن! ما لك قلت: صدق الله ورسوله صدق الله ورسوله؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأنا أن ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر؛ أن الشمس تطلع صبيحتها ليس لها شعاع. قال: فصعدت, فنظرت إليها, فقلت: صدق الله ورسوله, صدق الله ورسوله». رواه أحمد وسعيد.

751 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: متى ليلة القدر؟ قال: «من يذكر منكم ليلة الصهباوات؟». قال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي. وإن في يدي لتمرات أتسحر بهن مستتراً بمؤخرة رحلي من الفجر, وذلك حين طلع القمر. رواه أحمد. 752 - وعن زر بن حُبيش؛ قال: «سمعت أبي بن كعب يقول: وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة؛ أصاب ليلة القدر. فقال أبي بن كعب: والله الذي لا إله إلا هو؛ إنها لفي رمضان (يحلف ما يستثني) , ووالله؛ إني لأعلم أي ليلة هي, هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ليلة سبع وعشرين, وأمارتها تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها».

وفي رواية: «سألت ابن كعب, فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول؛ يصب ليلة القدر. فقال: رحمه الله؛ أراد ألا يتّكل الناس, أما إنه قد علم أنها في رمضان, وأنها في العشر الأواخر. ثم حلف لا يستثني: إنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة (أو: بالآية) التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها». رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه, قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي رواية: قلت: وما تلك الآية؟ قال: أن تصبح الشمس يومئذ بيضاء لا شعاع لها حتى ترتفع كأنها الطست. 753 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه؛ قال: «قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول, ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل, ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح, وكنا ندعو السحر: الفلاح, فأما نحن؛ فنقول: ليلة السابعة, ليلة سبع وعشرين, وأنتم تقولون: ليلة ثلاث وعشرين السابعة؛ فمن أصوب؟! نحن أو أنتم». رواه أحمد والنسائي. ويلي هذه الليلة سابعة تبقى؛ كما ذكره الإِمام أحمد.

قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في سبع بقين» , وقالوا: «في ثلاث بقين» , وهي على هذا التقدير إما ليلة ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين, وهي أول السبع البواقي التي خصت في حديث ابن عمر ومؤذن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد جاء ذلك منصوصاً في حديث بلال وغيره. 754 - وعن الحسن: أنه كان يقول: «ليلة سابعة تبقى ليلة أربع وعشرين». 755 - وهو كذلك في الحديث المرفوع عن أبي بكرة. وقد تقدم تفسير أبي سعيد أن ليلة سابعة تبقى ليلة أربع وعشرين, ثم قد اختصها دون سائر الليالي. 756 - فروي عن أبي نضرة, عن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين». رواه الطيالسي في «مسنده» بإسناد جيد.

............... .

757 - ورواه هدبة بن خالد, عن أبي سعيد موقوفاً؛ قال: ليلة القدر هي ليلة أربع وعشرين, نحن أعلم بالحساب منكم, هي ليلة أربع وعشرين السابعة, وليلة ثلاث وعشرين ثامنة تبقى. ويؤيد ذلك أنه قد روي أن القرآن نزل فيها. ومنهم من يفسرها بليلة ثلاث وعشرين؛ كما تقدم عن أيوب وغيره. 758 - عن أبي المليح, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: «أنزل الله صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من شهر رمضان, وأنزل

الإِنجيل على عيسى عليه السلام في ثمان عشرة ليلة من شهر رمضان, وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان». رواه هشام بن عمار وأبو حفص بن شاهين عن علي بن عاصم عن عبد الله بن سعيد بن يحيى عن عبيد الله بن أبي حميد عنه. 759 - ورواه أبو حفص بن شاهين عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً.

............... .

760 - وعن إسماعيل بن عياش, عن عبد الله بن دينار؛ قوله. وقد تفسر بليلة ثلاث وعشرين؛ كما تقدم عن أيوب. 761 - وذلك لما روى بشر بن سعيد, عن عبد الله بن أنيس الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة القدر ثم أنسيتها, وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين». قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين, فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه, وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين. رواه أحمد ومسلم. 762 - وعن محمد بن إبراهيم, عن [ابن] عبد الله بن أنيس, عن أبيه؛ قال: قلت: يا رسول الله! إن لي بادية أكون فيها, وأنا أصلي فيها بحمد الله؛ فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد. فقال: «انزل في ليلة ثلاث

وعشرين». فقيل لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر, فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح, فإذا صلى الصبح؛ وجد دابته على باب المسجد, فجلس عليها فلحق بباديته. رواه أبو داوود. 763 - [و] [عن الزهري] , عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس, عن أبيه؛ [قال: كنت في مجلس بني سلمة, وأنا أصغرهم] , فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان, فخرجت, فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب, ثم قمت بباب بيته, فمرَّ بي, فقال: «ادخل». فدخلت, فأتي بعشائه, فرأيتني أكف عنه من قلته, فلما فرغ؛ قال: «[ناولني] نعلي». فقام وقمت معه, فقال: «كأنَّ لك حاجة». قلت: أجل؛ أرسلني إليك رهط [من] بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر؟ فقال: «كم الليلة؟». [فقلت:] اثنان وعشرون. قال: «هي الليلة». ثم رجع فقال: «أو القابلة»؛ يريد: ليلة ثلاث وعشرين. رواه أبو داوود والنسائي.

764 - وعن معاذ بن عبد الله بن حبيب؛ قال: قالوا لعبد الله بن أنيس الجهني: يا أبا يحيى! حدثنا كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في ليلة القدر المباركة؟ فقال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد جهينة, فقلنا: يا رسول الله! متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «التمسوها [هذه] الليلة». فقال رجل: يا رسول الله! لثامنة تبقى؟ فقال: «ولكن لسابعة تبقى, إن الشهر لا يتم». رواه هدبة بن خالد وحسن والليث.

765 - وعن ابن عباس؛ قال: «أتيت وأنا نائم في رمضان, فقيل لي: إن الليلة ليلة القدر. فقمت وأنا ناعس, فتعلقت ببعض أطناب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي». فقال ابن عباس: «فنظرت في الليلة؛ فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين». فقال ابن عباس: «إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم؛ إلا ليلة القدر؛ فإنها تطلع يومئذ لا شعاع لها». رواه سعيد. والذي يبين أن السابعة أرجى الليالي, وأنها سابعة تمضي أو تبقى: 766 - ما رواه أحمد, ثنا عبد الرزاق, ثنا معمر, عن قتادة وعاصم, أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس: «دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألهم عن ليلة القدر؟ فأجمعوا أنها في العشر الأواخر. فقلت لعمر رضي الله عنه: إني لأعلم (أو: إني لأظن) أي ليلة هي. قال: وأي ليلة هي؟ قال: قلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر. قال: ومن أين تعلم؟ قال: خلق

الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام, وإن الدهر يدور في سبع, وخلق الإِنسان ويأكل ويسجد على سبع, والطواف سبع, والجمار سبع. فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنّا له». 767 - وعن عاصم بن كليب, عن أبيه, عن خاله؛ قال: سأل عمر ابن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يسألني معهم, مع الأكابر منهم, ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا. فقال: علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: «اطلبوها في العشر الأواخر وتراً»؛ ففي أي الوتر ترون؟ قال: فأكثر القوم في الوتر. فقال: ما لك لا تتكلم يا ابن عباس؟ قال: قلت: إن شئت تكلمت برأيي. قال: عن رأيك أسألك. قال: قلت: رأيت الله تعالى أكثر ذكر السبع في القرآن, فذكر السماوات سبعاً, والأرضين سبعاً, والطواف سبعاً, والجمار سبعاً, وما شاء الله في ذلك, وخلق الإِنسان في سبعة, وجعل رزقه في

سبعة. فقال: كل ما ذكرت عرفت؛ فما قولك: خلق الإِنسان من سبعة وجعل رزقه في سبعة؟ قال: خلق الإِنسان من سلالة من طين, ثم جعله نطفة في قرار مكين. . . إلى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: آية 14] , ثم قرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. . .} إلى قوله: {وَأَبًّا} [عبس: آية 25 - 31] , والأب ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس؛ فما أراها إلا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين. قال عمر: غلبتموني, لا تأتوا بإجابة [كإجابة] هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه». رواه المحاملي. ورواه أحمد في «مسنده» المرفوع عنه, عن الدورقي, عن ابن إدريس, عنه. وقد تقدم حديث أبي سعيد في ليلة الحادي والعشرين, ونبه عليه أحمد

* فصل: وعلامتها

بقوله: «تسع تبقى». وهذه الأحاديث كلها تقتضي أنها تكون في هذه الليالي كلها, وقد كانت في عام من الأعوام في إحدى هذه الليالي, فتكون متنقلة في الليالي العشر. وحكى هذا عن أحمد نفسه, وهو مقتضى ما ذكره القاضي وغير من أصحابنا. ومن أصحابنا من قال: إنها ليلة واحدة في كل سنة لا تتغير, وزعم أنه مقتضى كلام أحمد, وليس بصحيح. وبكل حال؛ فلا نجزم لليلة بعينها أنها ليلة القدر على الإِطلاق, بل هي مبهمة في العشر؛ كما دلت عليه النصوص. وينبني على ذلك: أنه لو نذر قيام ليلة القدر؛ لزمه, ولم يجزه في غيرها, فيلزمه قيام ليالي العشر كلها؛ كمن نذر ونسى صلاة من يوم لا يعلم عينها, ولو علق عتاقاً أو طلاقاً بليلة القدر قبل دخول العشر؛ حكم به إذا انقضى العشر, إن كان في أثناء العشر؛ حكم به في مثل تلك الليلة من العام المقبل؛ إن قيل: لا تنتقل, وإن قيل: تنتقل؛ لم يحكم به حتى ينصرم العشر من العام القابل, وهو الصواب. والله أعلم. * فصل: وعلامتها ما تقدم أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها, كأنها الطست حتى ترتفع, ذكر معنى ذلك مرفوعاً في حديث أبي وابن مسعود, وجاء عن ابن عباس أيضاً.

768 - وعن عبادة بن الصامت؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية [بلجة] , كأن فيها قمراً ساطعاً, ساكنة ساجية, لا برد فيها ولا حر, ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح, وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر, لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ». رواه أحمد. 769 - وعن حماد بن سلمة, عن حميد, عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر؛ التاسعة, والسابعة, والخامسة, وآخر ليلة, هي ليلة بلجة, لا حارة ولا باردة, ولا يرمى فيها بنجم, ولا ينبح فيها كلب». رواه هدبة بن خالد عنه. 770 - وعن عبيد بن عمير؛ قال: «كنت ليلة السابع والعشرين في

* فصل: ويستحب الاجتهاد في العشر مطلقا

البحر. فأخذت من مائه, فوجدته عذباً سلساً. . .». * فصل: ويستحب الاجتهاد في العشر مطلقاً. 771 - لما روي عن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر؛ أحيا الليل, وأيقظ أهله, وشد المئزر». متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «وجدَّ وشدَّ المئزر». وفي رواية له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.

772 - وعن علي؛ قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان». رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ورواه عبد الله بن أحمد, ولفظه: «إذا دخل العشر الأواخر؛ شد المئزر». وفي لفظ: «رفع المئزر, وأيقظ نساءه». قيل لأبي بكر بن عياش: ما رفع المئزر؟ قال: اعتزل النساء. 773 - وعن عائشة: أنها قالت: يا رسول الله! أرأيت إن وافقت ليلة [القدر] ما أقول؟ قال: «[تقولين:] اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني». رواه الخمسة إلى أبا داود, وصححه الترمذي, ولفظه: قلت: يا رسول الله! إن علمت أي ليلة القدر؛ ما أقول؟ قال: قولي: (فذكره).

.............. .

774 - ويحصل النصيب منها؛ لحديث أبي [ذر]؛ [فإنه] يقتضي أن قيامها يحصل بالقيام مع الإِمام. 775 - وعن مالك: أنه بلغه أن سعيد بن المسيب كان يقول: «من شهد العشاء ليلة القدر؛ فقد أخذ بحظه».

776 - وعن الضحاك: «أنه قيل له: أرأيت النفساء والحائض والنائم والمسافر؛ هل لهم في ليلة القدر نصيب؟ قال: نعم؛ كل من تقبَّل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر لا يخيبه أبداً». ******

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف مسألة: وهو لزوم مسجد لطاعة الله فيه. جماع معنى الاعتكاف والاحتباس والوقوف والمقام. يقال: عَكَفَ على الشيء يعكُف ويعكِف عُكوفاً, وربما قيل: عَكْفاً: إذا أقبل عليه مواظباً. ومنه قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: آية 138]. وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وقوله أيضاً: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71]. فعداه باللام؛ لأن المعنى: أنتم لها عابدون ولها قانتون. 777 - ومرَّ علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!

ويقال: فلان عاكف على فرج حرام وعكف حول الشيء: استداروا. وقال الطرماح: فَبَاتَ بَنَاتُ الَّيْلِ حَوْليَ عًكّفا عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ

ثم صار هذا في لسان الشرع عند الإِطلاق مختصّاً بالعكوف لله وعليه في بيته: كما قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وقال تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: آية 125]. وقال في موضع آخر: {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: آية 26]. ولم يذكر العكوف لمن, وعلى مَن؛ لأن عكوف المؤمن لا يكون إلا لله. ويستعمل متعدياً أيضاً, فيقال: عكفه يعكفُه ويعكِفه عكُفاً: إذا حبسه ووقفه؛ كما قال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: آية 25] , ويقال: ما عكفك عن كذا؟ أي: ما حبسك عنه, وعكف الجوهر في النظم. والتاء في الاعتكاف تفيد ضرباً من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة؛ كما يقال: لست وألست, وعمل واعتمل, وقطع واقتطع. وربما حسب بعضهم أنه مطاوع عكفه فاعتكف, كما يقال: انعكف عليه, وهو ضعيف. ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه؛ كما كان المشركون يعكفون على أصناهم وتماثيلهم, ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإِيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى. وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك؛ فلذلك كان الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه.

ولو قيل: لعبادة الله فيه؛ كان أحسن؛ فإن الطاعة موافقة الأمر, وهذا يكون بما هو في الأصل عبادة؛ كالصلاة, وبما هو في الأصل غير عبادة, وإنما يصير عبادة بالنية؛ كالمباحات كلها؛ بخلاف العبادة؛ فإنها التذلل للإِله سبحانه وتعالى. وأيضاً؛ فإن ما لم يؤمر به من العبادات, بل رغب فيه: هو عبادة, وإن لم يكن طاعة؛ لعدم الأمر. ويسمى أيضاً الجوار والمجاورة. 778 - قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغي إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد, فأرجله وأنا حائض». رواه البخاري. لأنه قد جاور الله سبحانه بلزوم بيته ومكاناً واحداً لعبادته: 779 - كما في الحديث: يقول الله تعالى: أنا جليس مَن ذكرني».

مسألة: وهو سنة لا يجب إلا بالنذر

ويسمى المقام بمكة مجاورة؛ لأنه مجاور بيت الله؛ كما يجاور الرجل بيت الرجل. مسألة: وهو سنة لا يجب إلا بالنذر. في هذا فصلان: أحدهما: أن الاعتكاف سنة وقربة بالكتاب والسنة والاِجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: آية 125]. وقوله في الآية الأخرى: {وَالْقَائِمِينَ} [الحج: آية 26]. وقوله سبحانه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: آية 178]. وأما السنة:

780 - فروى ابن عمر؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان». 781 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى, ثم اعتكف أزواجه من بعده». متفق عليهما. 782 - وقد تقدم حديث أبي سعيد: «أنه اعتكف هو وأصحابه العشر الأوسط والآخر». وفي رواية: «اعتكف العشر الأول أيضاً». 783 - وكان يعتكف أزواجه معه. وفاته الاعتكاف عاماً فاعتكف في العام القابل عشرين. وتركه مرة في رمضان فاعكتف العشر الأول من شوال. وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم.

وأجمع المسلمون على أنه قربة وعمل صالح. وأيضاً؛ ففيه من القرب والمكث في بيت الله, وحبس النفس على عبادة الله, وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله, والتخلي لأنواع العبادات المحضة من [التفكر] وذكر الله وقراءة القرآن والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب. 784 - وقد روي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب, ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها». رواه ابن ماجه.

وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المعتكف قد حبس الذنوب ووقفها, وامتنع منها؛ فلا تخلص إليه. 785 - كما قال: «الصوم جنة». وقد تهيأ لجميع العبادات. فإن قيل: هذا الحديث فيه فرقد السبخي, وقد تكلم فيه, ولهذا قال أبو داوود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً؟ قال: لا؛ إلا شيئاً ضعيفاً. وكذلك تقل أبو طالب. قيل: فرقد السبخي رجل صالح, قد كتب الناس أحاديثه, وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب؛ سهلنا, إذا جاء الحلال والحرام؛ شددنا. وقول أحمد: «إلا شيئاً ضعيفاً»: إشارة إلى أن إسناده ليس قويّاً, وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام؛ فكيف في الفضائل. 786 - وقد روى إسحاق بن راهوية, عن أبي الدرداء؛ قال: «من اعتكف ليلة؛ كان له كأجر عمرة, ومن اعتكف ليلتين؛ كان له كأجر عمرتين. . .» ثم ذكر على قدر ذلك.

الفصل الثاني: أنه ليس بواجب في الشرع, بل يجب بالنذر, وهذا إجماع. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضاً؛ إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً, فيجب عليه. وهذا لأن الله لم يوجبه ولا رسوله, وكان أكثر الناس لا يعتكفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرهم به. 787 - بل قال لهم لما اعتكف العشر الأوسط: «إني أتيت, فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف؛ فليعتكف».

وترك الاعتكاف مرة, وهو مقيم, ثم قضاه في شوال. وأما وجوبه بالنذر: 788 - فلما روت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع

الله؛ فليطعمه, ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصيه». 789 - وعن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: - «أوف بنذرك». متفق عليهما. قال أبو بكر: ويستحب أن لا يدع أحد [الاعتكاف في العشر الأواخر] من شهر رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه وقضاه لما فاته, وكل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من السنن المؤكدة؛ كقيام الليل ونحوه. وإذا شرع في الاعتكاف؛ ينوي مدة من الزمان؛ لم يلزم بالشروع عند أصحابنا. ولو قطعه [مُدّة]؛ لم يلزمه قضاؤه؛ لأن من أصلنا المشهور: أنه لا يلزم بالشروع إلا الإِحرام, لكن يستحب له إتمامه, وأن يقضيه إذا قطعه. وكذلك أيضاً لو كان له ورد من الاعتكاف, ففاته؛ استحب قضاؤه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان لما ضرب أزواجه الأخبية, ثم قضاه من شوال, ولم يأمر أزواجه بالقضاء؛ لأنه لم يكن من عادتهن, وإنما عزَمْنَ عليه ذلك العام, ولأن قضاءه غير واجب؛ ولأنهن لم يكن شرعْنَ فيه, وهو صلى الله عليه وسلم كان قد شرع فيه؛ لأن المسجد كله موضع للاعتكاف, وهو قد دخل المسجد حين صلى بالناس, فالظاهر أنه نوى الاعتكاف من حينئذ؛ لأنه لم يكن في نيته الخروج منه بعد ذلك.

790 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان, فلم يعتكف عاماً, فلما كان العام المقبل؛ اعتكف عشرين ليلة». رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه. وفي لفظ: «سافر عاماً, فلما كان العام المقبل؛ اعتكف عشرين». 791 - وعن أنس؛ قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان, فلم يعتكف عاماً, فلما كان في العام المقبل؛ اعتكف عشرين». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب.

ورواه أحمد, ولفظه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيماً؛ اعتكف العشر الأواخر من رمضان, فإذا سافر؛ اعتكف من العام المقبل عشرين». ويتخرج أن يلزم بالشروع قياساً على الرواية التي في الصوم والصلاة, لكن قد يفرق. . . . فإن قيل: إذا كان له الخروج منه, ثم له أن يدخل فيه متى شاء؛ فما معنى قولهم: يحرم على المعتكف كذا, ويجب عليه كذا؟! قيل: له فوائد: إحداها: أن المحرمات في الاعتكاف من المباشرة والخروج من المسجد لغير حاجة, وإنما له أن يفعلها إذا نوى ترك الاعتكاف, فيكون قد فعله على وجه الترك للاعتكاف, فلا يكون حين فعله معتكفاً. أما أن يستديم نية الاعتكاف ويفعل ذلك؛ فلا يحل له ذلك, بل يكون قد اتخذ آيات الله هزواً, ويكون بمنزلة الحائض إذا أمسكت تعتقد الصوم [صحيحاً] , وبمنزلة ما لو تكلم أو أحدث في الصلاة أو أكل في الصوم مع بقاء اعتقاد الصلاة, وهذا لأن العبادة التي ليست واجبة, إذا أراد أن يفعلها؛ فإنه يجب أن يفعلها على الوجه المشروع, وليس له أن يُخل بأركانها وشروطها, وإنْ كان له تركها بالكلية, ولو لم يستدم النية ذكراً ولا نوى الخروج منه. الثانية: انه إذا فعل ما ينافيه من خروج ومباشرة؛ انقطع الاعتكاف, فلو أراد أن يعود إليه؛ كان اعتكافاً ثانياً, يحتاج إلى تجديد نية, ولا يكفيه استصحاب حكم النية الأولى, حتى إنا إذا لم نجوز الاعتكاف أقل [من يوم] فاعتكف بعض يوم, ثم قطعه, ثم أراد أن يتمه باقي اليوم؛ لم يصح ذلك؛ كما

* فصل: ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل

لو أصبح صائماً فأكل, ثم أراد أن يتم الصوم. الثالثة: أنه إذا نذر الاعتكاف معيناً أو مطلقاً؛ صارت هذه الأمور واجبة عليه, وحرم عليه ما ينافي الاعتكاف بكل حال؛ كما لو نذر صوماً معيناً أو مطلقاً أو صلاة مؤقتة أو مطلقة. وإن لم ينو مدّة, لكن قال: أقعد ما بدا لي, أو إلى أن يكون كذا. . . . وإذا أبطل الاعتكاف؛ لم يبطل ما مضى منه. قاله بعض أصحابنا. وكذلك قال القاضي في التطوع, وهذا ينبني على أقل الاعتكاف. . . . * فصل: ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل؛ لأن الكافر والمجنون ليسا من أهل العبادة. فأما الصبي. . . . * فصل: قال أصحابنا: ليس للرقيق قِنّاً كان أو مدبراً أو أم ولد الاعتكاف بغير إذن السيد, ولا للزوجة الاعتكاف بدون إذن الزوج؛ لأن منافع العبد والزوجة مستحقة للسيد والزوج, وفي الاعتكاف تعطيل منافعهم عليه, فإن أذن له في

الاعتكاف؛ اعتكف ما شاء, ولم يخرج إلى الجمعة؛ لأنها غير واجبة على أحد منهم. فإن أراد السيد أو الزوج منع من أذن له بعد الدخول فيه؛ فله ذلك؛ لأنه تطوع, والخروج منه جائز. هكذا قال أصحابنا. ويتخرج على قولنا: إن التطوع يلزم بالشروع: أنه ليس أن يخرجهما منه. . . . فإذا كان نذراً, وقد دخل فيه بإذنه؛ لم يكن له أن يخرجه منه؛ كما لو أذن له في الإِحرام والصيام والواجب, سواء كان معيناً أو مطلقاً. . . . وإن دخل في النذر بغير إذنه, و [هو قد] كان نذره بإذنه, [وهو معين؛ لم يملك منعه, وإن كان نذره بإذنه] , وهو غير معين؛ ففيه وجهان. وإن لم يأذن في النذر؛ فقيل: له منعه منه وقطعه عليه؛ لأنه لا يملك تفويت حقه. وقيل:. . . وأما المكاتب؛ فله أن يعتكف بدون إذن سيده؛ لأنه لا يستحق منافعه؛ كما له أن يحج في المنصوص عنه إذا لم يحل نجم في غيبته؛ لأنه بمنزلة المدين. والمعتق بعضه ليس له أن يعتكف إلا أن يكون بينه وبين السيد [مهاياة] , فيعتكف في أيامه خاصة.

مسألة: ويصح من المرأة في كل مسجد, ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة, واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل

مسألة: ويصح من المرأة في كل مسجد, ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة, واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل. في هذا الكلام فصول: الأول: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد, ويصح في كل مسجد في الجملة, سواء في ذلك مساجد الأنبياء, وهي المساجد الثلاثة أو غيرها؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: آية 187]. فلم ينه عن المباشرة إلا من عكف في المسجد, وتخصيصه بالذكر يقتضي أن ما عداه بخلافه, وتبقى مباشرة العاكف في غير المسجد على الإِباحة. وإذا لم يكن العاكف في غير المسجد منهيّاً عن المباشرة؛ علم أنه ليس باعتكاف شرعي؛ لأنا لا نعني بالاعتكاف الشرعي إلا ما تحرم معه المباشرة؛ كما أنا لا نعني بالصوم الشرعي إلا ما حرم فيه الكل والشرب, ولأن كل معتكف تحرم عليه المباشرة؛ فلو كان المقيم في غير المسجد معتكفاً؛ لحرمت عليه المباشرة كغيره. فإن قيل: فقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}: دليل على أنه قد يكون عاكفاً في غير المسجد؛ لأن التقييد بالصفة [بما لولا هو] لدخل في المطلق.

قلنا: لا ريب أن كل مقيم في مكان ملازم له فهو عاكف كما تقدم, لكن الكلام في النوع الذي شرعه الله تعالى؛ كما أن كل ممسك يسمى صائماً, وكل قاصد يسمى متيمماً, ثم لما أمر الله تعالى بتيمم الصعيد وأمر بالإِمساك عن المفطرات؛ صار ذلك هو النوع المشروع. على أن الصفة قد تكون للتبيين والإِيضاح؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: آية 117] , وقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: آية 61] , ونحو ذلك. فإن قيل: فلو لزم الإِنسان بقعة, يعبد الله تعالى فيها خالياً من الناس أو غير خال, مثل كهف أو غار أو بيت أو شعب؛ فهل يشرع ذلك ويستحب؟. . . . قيل: أما إذا قصد مكاناً خالياً. . . . وإنما جاز في كل مسجد؛ لأن الله سبحانه عمَّ المساجد بالذكر, ولم يخص مسجداً دون مسجد, وهو اسم جمع, معرف باللام, والمباشرة نكرة في سياق النفي, فيكون معنى الكلام: لا تفعلوا شيئاً من المباشرة وأنتم عاكفون في مسجد من المساجد. وله أن يلزم بقعة بعينه لاعتكافه, وإن كره ذلك لغيره؛ لأن الاعتكاف عبادة واحدة؛ فلزوم المكان لأجلها كلزومه لصلاة واحدة وإقراء قرآن في وقت ونحو ذلك, وقيامه منه لحاجة لا تسقط حقه منه؛ لأن مَن قام من مجلس [ثم] عاد إليه؛ فهو أحق به.

وأصل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في موضع بعينه من المسجد. 792 - قال نافع: «قد [أراني] ابن العمر الموضع الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد». رواه مسلم. الفصل الثاني: أن المسجد هو المكان المبني للصلوات الخمس, وبيت قناديله وسطحه منه, وحوائطه, والمنارة المبنية في حيطانه أو داخله. فلو اعتكف فيها أو صعد عليها؛ جاز عند أصحابنا. قال أصحابنا: ويستحب الأذان لكل أحد, ونحن للمعتكف أشد استحباباً, وإن كانت متصلة بحائط المسجد, وهي خارجة عن سمت حائط المسجد؛ فهي منه كالمحراب. قال القاضي: كلها منه منفصلة أو متصلة. . . . وإن كانت المنارة خارج المسجد وخارج رحبته, فخرج المعتكف للتأذين فيها؛ ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل؛ لأنها مبنية للمسجد, فأشبهت المتصلة به. والثاني: يبطل. قال ابن عقيل: وهو الشبه؛ لأنها ليست من المسجد. وأما الرحبة: ففيها روايتان: إحداهما: هي من المسجد.

قال في رواية المروذي: يخرج المعتكف إلى الرحبة, هي من المسجد. والثانية: ليست منه. قال في رواية ابن الحكم: إذا سمع أذان العصر في رحبة المسجد الجامع؛ انصرف ولم يصل, ليس هو بمنزلة المسجد, حدّ المسجد هو الذي جعل عليه حائط وباب. 793 - وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المعتكفات إذا حضن أن يقمن في رحاب المسجد. قال القاضي: إن كانت محوطة عن الطريق, وعليها أبواب؛ فهي تابعة للمسجد. وإن كانت [مشروعة] عن الطريق وغير محازة؛ مثل: رحاب جامع المنصور, ورحاب جامع دمشق؛ فحكمها حكم الطريق, لا يجوز الخروج إليها لغير حاجة. فإن قلنا: الرحبة من المسجد؛ فكذلك المنارة التي فيها. وإن قلنا: ليست هي منه؛ ففي الخروج إلى المنارة التي فيها وجهان. الفصل الثالث: أمنه لا يصح اعتكاف الرجل إلا في مسجد تقام فيه الصلوات الخمس جماعة, سواء كانت الجماعة تتم بدون المعتكف أو لا تتم إلا به, حتى لو اعتكف رجلان في مسجد, فأقاما به الجماعة؛ جاز. فإن رجا أن يجمع فيه, وغلب على ظنه ذلك, مثل إن نوى أن يؤذن فيه, فيجيء من يصلي معه؛ صار مسجد جماعة.

فإن غلب على ظنه أن لا يصلي معه أحد؛ لم يصح الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف لا يكون إلا بالعزم على المقام في المسجد, والعزم يتبع الاعتقاد, فإذا اعتقد حصول الصلاة فيه؛ عزم على العكوف فيه, وإلا؛ فلا. فإن اختلت الجماعة فيه بعض الأوقات. . . . 794 - وذلك لما روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: إن قوماً عكوفاً بين دارك ودار الشعري؛ فلا تغير! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة (أو قال: في مسجد جماعة»). فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت, وحفظوا ونسيت. رواه سعيد بإسناد جيد.

............... .

795 - وعن جويبر, عن الضحاك, عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسجد له مؤذن وإمام؛ فالاعتكاف فيه يصلح». رواه سعيد والنجاد والدارقطني وقال: الضحاك لم يسمع من حذيفة.

796 - وقد رواه حرب, عن الضحاك, عن النزال بن سبرة؛ قال: أقبل ابن مسعود وحذيفة من النجف, وأشرفوا على مسجد الكوفة؛ فإذا خيام مبنية, فقالوا: ما هذا؟ قالوا: أناس عكفوا. فقال ابن مسعود: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسجد له إمام مؤذن؛ فإنه يعتكف فيه». فإن قيل: جويبر ضعيف متروك, ويدل على ضعف الحديث أن مذهب حذيفة أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؛ بدليل: 797 - ما روي عن إبراهيم؛ قال: «دخل حذيفة مسجد الكوفة, فإذا هو بأبنية مضروبة, فسأل عنها, فقيل: قوم يعتكفون, فانطلق إلى ابن مسعود, فقال: ألا تعجب من قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري. فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت, وحفظوا ونسيت. فقال حذيفة: لقد علمت [أنه لا اعتكاف] إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجد الأقصى, ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

قلنا: قد روى هذا الحديث عن جويبر رجال من كبار أهل العلم, مثل هشيم وإسحاق والأزرق, وقد تابعه على نحو من معناه أبو وائل عن حذيفة, وهو معضود بآثار الصحابة, والرواية الأخرى عن حذيفة مرسلة. وأيضاً؛ فإنه إجماع الصحابة.

798 - روى النجاد عن علي رضي الله عنه؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة». 799 - وعن ابن عباس؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة». 800 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة».

801 - وروى حرب, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «كل مسجد تقام فيه الصلاة فيه اعتكاف». 802 - وقد روى أبو داوود وغيره حديث عائشة؛ قالت: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جامع».

................... .

................. .

............... .

803 - وعن الزهري؛ قال: «مضت السنة أن لا يكون اعتكاف إلا في مسجد جماعة, مسجد يجمع فيه الجمعة». رواه النجاد. 804 - وفي لفظ للدارقطني: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة». وقال غير عبد الرحمن بن إسحاق: لا يقول فيه: «قالت: السنة» , جعله قول عائشة. وهذا قول عامة التابعين, ولم ينقل عن صحابي خلافه؛ إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة وبمسجد نبي. فقد أجمعوا كلهم على أنه لا يكون في مسجد لا جماعة فيه. وأيضاً؛ المسجد موضع السجود ومحله, وهذا الاسم إنما يتم له ويكمل إذا كان معموراً بالسجود وبالصلاة فيه, أما إذا كان خراباً معطلاً عن إقام الصلاة

فيه؛ فلم يتم حقيقة المسجد له, وإنما يسمى مسجداً بمعنى أنه مهيأ للسجود معدٌّ له؛ كما قد تسمى الدار الخالية مسكناً ومنزلاً, ويُصان مما تُصان منه المساجد؛ لأنه مسجد, وإن لم يتم المقصود فيه. وبهذا يعلم أن قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}: إنما يفهم منه المواضع التي فيها الصلاة والسجود. وأيضاً؛ فإن الصلوات الخمس في الجماعة واجبة كما تقدم بيانه؛ فلو جاز الاعتكاف في مسجد مهجور معطل؛ للزم: إما ترك الجماعة, وذلك غير جائز, وإما تكرار الخروج في اليوم والليلة لما عنه مندوحه, وذلك غير جائز؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد, وأن لا يخرج منه إلا لما لا بد منه. . . . وأيضاً؛ فلو لم تكن الجماعة واجبة؛ فإنها من أعظم العبادات, وهي أوكد من مجرد الاعتكاف الخالي عنها بلا ريب, والمداومة على تركها مكروهة كراهة شديدة؛ فلو كان العكوف الخالي عنها مشروعاً؛ لكان قد شرع التقرب إلى الله تعالى بما ينهى فيه عن الجماعة, بل يحرم فعلها معه؛ إذ الخروج من المعتكف لا يجوز, وهذا غير جائز. . . . فأما اعتكاف لا يتضمن وجوب جماعة, مثل أن يكون زمنه يسيراً, لا يحضر فيه صلاة مكتوبة: فقال ابن عقيل وغيره: يصح في كل مسجد؛ إذ لا محذور فيه؛ فإنما اشترطنا مسجداً تقام فيه الجماعة لأجل وجوبها, وهذا إذا صححنا اعتكاف بعض يوم على المشهور من المذهب, وكذلك من لا يمكنه شهود الجماعة؛ لكونه في موضع لا تقام فيه الجماعة.

وأما من يمكنه حضور الجماعة ولا يجب عليه كالمريض وغيره من المعذورين والعبد؛ ففيه وجهان: أحدهما يصح اعتكافه في كل مسجد؛ لأن الجماعة لا تجب عليه. والثاني: لا يصح إلا في مسجد الجماعة؛ لأنه من أهل الوجوب, فإذا تكلف الاعتكاف في مسجد؛ وجب أن يكون مسجد الجماعة. وإذا تكلف حضور محلها؛ وجبت عليه كما تجب عليه الجمعة إذا حضر المسجد؛ لأن المسقط للحضور قد التزمه كما يجب عليه إذا حضرها. ولأن من التزم التطوعات لا يصح أن يفعلها إلا بشروطها؛ كالصوم والصلاة. فعلى هذا: إن أقيمت فيه بعض الصلوات, فاعتكف في وقت تلك الصلاة. . . . الفصل الرابع: أن المرأة لا يصح اعتكافها إلا في المسجد المتخذ للصلوات الذي يحرم مقام الجنب فيه وتناله أحكام المساجد. فأما مسجد بيتها – وهو مكان من البيت يتخذه الرجل أو المرأة للصلاة فيه مع بقاء حكم الملك عليه-؛ فلا يصح الاعتكاف فيه عند أصحابنا. قال أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن المرأة تعتكف في بيتها: فذكر النساء يعتكفن في المساجد, ويضرب لهن فيه الخيم, وقد ذهب هذا من الناس. لأن هذا ليس مسجداً, ولا يسمى في الشرع مسجداً؛ بدليل جواز مكث

الحائض فيه, والاعتكاف يكون في المساجد. 805 - ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد بعده كما تقدم. 806 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الفجر, ثم دخل معتكفه, وأنه أمر بخبائه فضرب, ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان, فأمرت زينب بخبائها, وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخباء فضرب, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر؛ نظر؛ فإذا الأخبية, فقال: «ألبر تردن؟». فأمر بخبائه فقُوِّض, وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر [الأول] من شوال. رواه الجماعة.

.................... .

وفي رواية للبخاري وغيره عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان, فاستأذنته عائشة فأذن لها, وسألت حفصة عائشة ـن تستأذن لها ففعلت, فلما رأت ذلك زينب؛ أمرت ببناء فبني لها؛ قالت: كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ انصرف إلى بنائه, فبصر الأبنية, فقال: «ما هذا؟». قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟! ما أنا بمعتكف». فرجع, فلما أفطر؛ اعتكف عشراً من شوال. فهذا نص مفسر في أنه أذن لعائشة وحفصة أن يعتكفا في المسجد, وذلك دليل على أنه مشروع حسن, ولو كان اعتكافهن في غير المسجد العام ممكناً؛ لاستغنين بذلك عن ضرب الأخبية في المسجد كما استغنين بالصلاة في بيوتهن عن الجماعة في المساجد, ولأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. 807 - كما قال في الصلاة: «وبيوتهن خير لهن».

لا سيما وقد خاف أن يكون قد دخلهن في ذلك شيء من المنافسة والغيرة حين تشبه بعضهن ببعض, واعتكفن معه, حتى ترك الاعتكاف من أجل ذلك, وقد كان يمكنه أن يقول: الاعتكاف في البيت يغنيكن عن الاعتكاف في المسجد.

808 - كما قال لعائشة: «صلي في الحجر فإنه من البيت».

وكان مما يحصل به مقصوده ومقصود من أرادت الاعتكاف منهن, وتقوم به الحجة على من لم يرده. 809 - وأيضاً؛ فما روت عائشة قالت: «اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه, وكانت ترى الدم والسفرة والطست تحتها وهي تصلي». رواه البخاري وغيره. 810 - [و] عن كثير مولى [ابن] سمرة أن امرأة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أعتكف العشر الأواخر وأنا أستحاض؛ فما ترى؟ قال: «ادخلي المسجد, واقعدي في طست, فإذا امتلأ؛ فليهراق عنك». رواه النجاد. فقد مكَّن النبي صلى الله عليه وسلم امرأته أن تعتكف في المسجد وهي مستحاضة, وهي لا تفعل ذلك إلا بأمره, وأمر التي سألته أن تدخل المسجد, والأمر يقتضي الوجوب, ولو كان الاعتكاف في البيت جائزاً؛ لما أمرها بالمسجد, ولأمرها بالبيت؛ فإنه أسهل وأيسر وأبعد عن تلويث المسجد بالنجاسة وعن مشقة جمل الطست ونقله.

811 - وهو صلى الله عليه وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. فعلم أن الجلوس في غير المسجد ليس باعتكاف. 812 - وأيضا؛ ما روى قتادة, عن أبي حسان وجابر بن زيد: «أن ابن عباس سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها؟ فقال: بدعة, وأبغض الأعمال إلى الله تعالى البدع, لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة». رواه حرب. مع ما تقدم من غيره من الصحابة؛ فإنهم لم يفرقوا بين الرجال والنساء, وعائشة منهم, ومعلوم أنها لا تهمل شأن اعتكافها, ولم يعرف عن صحابي خلافه, لا سيما والصحابي إذا قال: بدعة؛ علم أنه غير مشروع؛ كما أنه إذا قال: سنة؛ علم أنه مشروع. فعلى هذا يجوز اعتكافها في كل مسجد, سواء أقيمت فيه الجماعة أو لم تقم. هكذا ذكر كثير من أصحابنا, منهم القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب وابن عقيل وعامة المتأخرين؛ لأن الجماعة ليست واجبة عليها, فسيَّان في حقها مسجد جماعة وغيره.

813 - وقد روى ابن أبي مليكة؛ قال: اعتكفت عائشة بين حراء وثيبر, فكنا نأتيها هناك وعبداً لها يؤمها». رواه حرب. وليس هناك مسجد تقام فيه الجماعة. وقال القاضي في «خلافه»: كل موضع لا يصح اعتكاف الرجل فيه لا يصح اعتكاف المرأة فيه. وكذلك الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما اشترطوا للاعتكاف مسجداً يجمع فيه, ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة. وقال أحمد في رواية ابن منصور: الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الصلاة, ولم يفرق. . . . وهذا ظاهر ما تقدم ذكره عن الصحابة؛ فإنهم لم يفرقوا, لا سيما حديث ابن عباس؛ فإنه سئل عن اعتكاف المرأة؟ فقال: «لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة» , وحديث عائشة أيضاً؛ فإن اعتكاف النساء لا بد أن يدخل في عموم كلامهما. وأما اعتكافها في مسجد حراء؛ فقد كان يؤمها فيه عبدها, وهذا يؤيد أنه لا بد في الاعتكاف من مسجد جماعة. وأيضاً؛ فإن المقصود من المسجد إقامة الصلاة فيه؛ فاعتكافها في مسجد

لا جماعة فيه كاعتكافها في بيتها, والجماعة إن لم تكن واجبة عليها في الأصل, لكن إذا أرادت الاعتكاف, فجاز أن يجب عليها ما لم يكن واجباً قبل ذلك؛ كما لو أرادت الجمعة والجماعة؛ وجب عليها ما يجب على المأموم, وإن لم يجب بدون ذلك. وإذا كان الاعتكاف يوجب الاحتباس في المسجد, مع أنه غير مقصود لنفسه, بل لغيره؛ فلأن يوجب الجماعة التي [هي] أفضل العبادات الأولى, ولأن ذلك لو لم يكن واجباً. . . . ولا يكره الاعتكاف للعجوز التي لا يكره لها شهود الجمعة والجماعة. وهل يكره للشابة؟ المنصوص عنه الرخصة مطلقاً. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل النساء: يعتكفن؟ قال: نعم؛ قد اعتكف النساء. فعمَّ, ولم يخص الشابة من غيرها, وقد تقدم نحو ذلك في رواية أبي داوود. وقال القاضي: قياس قوله أنه يكره للشابة؛ لأنه قد نص على ذلك في خروجها لصلاة العيدين, وأنه مكروه. وهذا اختيار القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنقض قباب أزواجه لما أردن الاعتكاف معه.

814 - وقالت عائشة رضي الله عنها: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء؛ لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل. ولأنه خروج من البيت لغير حاجة, فكره للشابة؛ كالخروج للجمعة والجماعة. قال القاضي: وكذلك يكره لها الطواف نهاراً. والصحيح المنصوص. . . . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة أن يعتكفا معه, وكانتا شابتين. 815 - وقد اعتكف معه امرأة من أزواجه كانت ترى الدم, وقد جاء مفسراً أنها أم سلمة رضي الله عنها, ولم تكن عجوزاً. وإنما أمرهن بتقويض الأبنية لما خافه عليهن من المنافسة والغيرة, ولهذا قال: «آلبر يردن؟».

ولأن مريم عليها السلام قد اخبر الله سبحانه أنها جعلت محررة له, وكانت مقيمة في المسجد الأقصى في المحراب, وأنها انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً, فاتخذت من دونهم حجاباً, وهذا اعتكاف في المسجد واحتجاب فيه, وشرع ما قبلنا شرع لنا, ما لم يرد شرعنا بنسخه, ولأن هذه العبادة لا تفعل إلا في المسجد, فلو كرهت لها؛ للزم تفويتها بالكلية, ونحن لا ننهى عن العبادة بالكلية؛ لجواز أن يفتتن بها إنسان, مع أن الظاهر خلافه. ولهذا لا يكره لها الخروج لمصلحة متعينة من عيادة أهلها ونحو ذلك؛ بخلاف خروجها في الجنائز؛ فإنه لا فائدة فيه, وفيه مفاسد ظاهرة. ولهذا لا يكره لها حج النافلة, بل هو جهادها, مع أن خوف الفتنة به أشد ما لم يكن فعله إلا كذلك. وأما خروجها للجمعة والجماعة إن سلم؛ فلها مندوحة عن ذلك بأن تصلي في بيتها, وكذلك الطواف إن سلم؛ فإن لها في الطواف بالليل مندوحة عن النهار. فعلى هذا لا يستحب الاعتكاف للنساء, ولا يكون الأولى بتركه, بل الأولى فعله, إذا لم يكن فيه مفسدة. كما قال في رواية أبي داوود, وذكر النساء يعتكفن في المسجد ويضرب لهن فيه الخيم: وقد ذهب هذا من الناس, ويستحب لها أن تستتر من الرجال بخباء ونحوه. نص عليه اقتداء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء السلف كما ذكره أحمد, ولأن المسجد يحضره الرجال, والأفضل للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهم الرجال.

ويضرب الخباء في موضع لا يصلي فيه الرجال؛ لئلا تقطع صفوفهم وتضيق عليهم. ولا بأس أن يستتر الرجل أيضاً, بل هو أفضل. 816 - فإن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الصبح, ثم دخل معتكفه, وإنه أمر بخباء فضرب». وفي لفظ للبخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان, فكنت أضرب له خباء, فيصلي الصبح, ثم يدخله». 817 - وعن أبي سعيد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان, ثم اعتكف العشر الأوسط, في قبة تركية, على سدتها حصير». قال: «فأخذ الحصير بيده, فنحاها في ناحية القبة, ثم أطلع رأسه, فكلم الناس, فدنوا منه». رواه مسلم بهذا اللفظ, وهو في «الصحيحين» , قد تقدم. وقد تقدم في الصلاة: أنه اتخذ حجرة من حصير في رمضان, فصلى فيها ليالي, فصلى بصلاته ناس. وينبغي أن يكون استتار المعتكف مستحبّاً؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم, وليجمع له فضل الصلاة في المسجد, وفضل إخفاء العمل, وليجمع عليه قلبه بذلك, فلا يشتغل برؤية الناس وسماع كلامهم, ولينقطع الناس عنه فلا يجالسونه ويخاطبونه. الفصل الخامس: أن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي تقام فيه

الجمعة والجماعة أفضل؛ لأنه إذا اعتكف في غيره؛ لم يجز له ترك الجمعة, فيجب عليه الخروج من معتكفه, وقد كان يمكنه الاحتراز عن هذا الخروج بالاعتكاف في المسجد الأعظم, وهذا إنما يكون في اعتكاف تتخلله جمعة. فأما إن لم تتخلله جمعة؛ فإن اعتكف في غير مسجد الجمعة, وخرج للجمعة؛ جاز؛ لما تقدم من الحديث المرفوع وأقاويل الصحابة: أن الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة, لا سيما والاعتكاف الغالب إنما يكون في العشر الأواخر من رمضان, ولا بد أن يكون فيها جمعة. 818 - وقد روي ذلك صريحاً عن علي رضي الله عنه؛ قال: «إذا اعتكف الرجل؛ فليشهد الجمعة, وليحضر الجنازة, وليعد المريض, وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم». رواه سعيد. ولم يستثنوا ذلك. فأما قول الزهري المتقدم؛ فليس هو متصلاً, وهو من صغار التابعين, ويشبه أن يكون محمولاً على الاستحباب. وأيضاً؛ فإن الخروج للجمعة خروج لحاجة لا تتكرر, فلم يقطع الاعتكاف؛ كالخروج للحيض.

وأيضاً؛ فإن من أصلنا أن قطع التتابع في الصيام والاعتكاف لعذر لا يمنع البناء, وإن أمكن الاحتراز منه؛ كما سنذكر إن شاء الله تعالى. وأيضاً؛ فإن اعتكاف العشر الأواخر سنة, وتكليف الناس يعتكفوا في المسجد الأعظم فيه مشقة عظيمة, وربما لم يتهيأ ذلك لكثير من الناس, فعفي عن الخروج للجمعة كما عفي عن الخروج لحاجة الإِنسان. وأيضاً؛ فإن من أصلنا أنه يجوز له اشتراط الخروج لما له منه بد؛ فالخروج الذي يقع مستثنى بالشرع أولى وأحرى, سواء كان الاعتكاف واجباً أو مستحبّاً تطوعاً, وسواء كان نذراً متتابعاً أو نذراً مطلقاً, وسواء كان الاعتكاف قليلاً يمكن فعله في غير يوم الجمعة أو لا بد من تخلل يوم الجمعة له. وركن الاعتكاف شيئان: أحدهما: لزوم المسجد, فلو خرج منه لغير حاجة؛ بطل اعتكافه؛ كما نبين إن شاء الله تعالى. الثاني: النية؛ فلا يصح الاعتكاف حتى يقصد لزوم المسجد لعبادة الله, فلو لزم المسجد من غير قصد؛ لم يكن معتكفاً؛ ولو قصد القعود فيه لعبادة يعملها؛ كصلاة مكتوبة, أو تعلم علم أو تعليمه. [و] إذا قطع النية بأن نوى ترك الاعتكاف؛ بطل في قياس قول أصحابنا؛ كما قلنا في الصوم والصلاة والطواف ونحوها. ويتخرج على قول ابن حامد. فأما الصوم؛ فإن السنة للمعتكف أن يكون صائماً؛ لأن الله سبحانه ذكر آية الاعتكاف في ضمن آية الصوم, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاعتكاف بفعله, وإنما

كان يعتكف في شهر رمضان وهو صائم. وقد أجمع الناس على استحباب الصوم للمعتكف, ولأن الصوم أعون له على كف النفس على الفضول؛ فإنه مفتاح العبادة, فيجتمع له حبس النفس عن الخروج, وحبسها عن الشهوات, فيتم مقصود الاعتكاف. فإن اعتكف بدون الصوم؛ فهل يصح؟ على روايتين: إحداهما: لا يصح. 819 - لما روى عبد الرحمن بن إسحاق, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً, ولا يشهد جنازة, ولا يمس امرأة, ولا يباشرها, ولا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد منه, ولا اعتكاف إلا بصوم, ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع». رواه أبو داوود, وقال: غير ابن إسحاق, لا يقول فيه: قالت: السنة. جعله قول عائشة. 820 - ورواه الدارقطني من حديث ابن جريج, عن ابن شهاب, عن سعيد وعروة, عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان, وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإِنسان, ولا يتبع جنازة, ولا يعود مريضاً, ولا يمس امرأة, ولا يباشرها, ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة, ويأمر من اعتكف أن يصوم». وقال الدارقطني: يقال: إن قوله: «إن السنة للمعتكف. . .» إلى آخره: ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنه من كلام الزهري, ومَنْ أدرجه في الحديث فقد وهم.

821 - 823 - وعن ابن عمر وابن عباس وعائشة: أنهم قالوا: «لا اعتكاف إلا بصوم». رواه سعيد. ولأن الاعتكاف لبث في مكان مخصوص, فلم يكن قربة, حتى ينضم إليه قربة أخرى؛ كالوقوف بعرفة ومزدلفة, لا يكون قربة حتى ينضم إليه الإِحرام, ولأن المعتكف ممنوع مما يمنع منه الصائم من القبلة ونحوها؛ فلأن يمنع مما منعه الصائم كالأكل والشرب أولى. فعلى هذه الرواية: لا يصح إفراده بالزمان الذي لا يصح صومه؛ كليلة مفردة, ويوم العيد, وأيام التشريق. ولو نذر اعتكافاً؛ لزمه الصوم. فأما إن اعتكف يوم العيد ويوماً آخر معه؛ فإنه يصح على ظاهر ما قالوه. وهل يصح اعتكاف بعض يوم أو ليلة وبعض يوم إذا صام اليوم كله؟ فيه

وجهان: أحدهما": لا يجزيه. قاله القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب في «الهداية». والثاني: يجزيه. ولو نذر على هذا أن يعتكف, ولم يسم شيئاً؛ لزمه أن يصوم مع اعتكافه. وهل يجزيه صوم يوم أو بعض يوم؟. . . . وإن اعتكف تطوعاً: فقال في رواية حنبل, وقد سئل عن الاعتكاف في غير شهر رمضان؟ فقال: لا يكون إلا في شهر رمضان؛ إلا النذر, فإن كان نذراً؛ فلا بأس, وإنما الاعتكاف في شهر رمضان؛ لأنه لا اعتكاف إلا بصوم. وظاهره أنه لا اعتكاف إلا بصوم واجب, وربما يكون وجهه أن الاعتكاف يلزم بالشروع, وصوم التطوع لا يلزم بالشروع, فإذا اعتكف في غير رمضان صائماً متطوعاً؛ كان مخيراً في ترك الصوم دون الاعتكاف. ويحتمل أن يكون كلامه يُخَرَّج على عادة الناس. . . . وقال القاضي: إذا قلنا: من شرطه الصوم؛ فلا بد أن يكون صائماً في الجملة تطوعاً أو رمضان أو قضاء رمضان أو نذراً. . . . والرواية الثانية: يصح بغير صوم, والاستحباب له أن يصوم. وهذا اختيار

أصحابنا؛ لأن الله سبحانه قال: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: آية 125] , وقال تعالى في موضع: وَالْقَائِمِينَ} [الحج: آية 26]. فعلم أن المقام في بيت الله هو العكوف فيه من غير شرط, وأنه عبادة بنفسه؛ كما كان الطواف والركوع والسجود عبادة بنفسه. ولأن العكوف في اللغة: الإِقبال على الشيء على وجه المواظبة, وهذا يحصل من الصائم والمفطر, وهو لفظ معروف, ولا إجمال فيه. ولأن العاكفين على الأصنام ولَهاً سمُّوا بذلك بمجرد احتباسهم عليها, وإن لم يصوموا؛ فالمحتبس لله في بيته عاكف له, وإن لم يكن صائماً. ولأن الله سبحانه أطلق قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] , ولم يخصص به صائماً من غيره. نعم؛ لما أباح المباشرة للصائم بالليل, وقد يكون معتكفاً؛ نهاه أن يباشر في حال عكوفه؛ ليتبين أن كل واحد من الصوم والعكوف [مانع] من المباشرة. 824 - وأيضاً؛ ما روى ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: «فأوف بنذرك». رواه الجماعة إلا أبا داود. 825 - وفي لفظ للبخاري: «أوف بنذرك, اعتكف ليلة». فاعتكف ليلة.

............. .

............. .

ولو كان الصوم شرطاً في صحته؛ لما جاز اعتكاف ليلة؛ لأن الليل لا صوم فيه. . . . فإن قيل: معنى الحديث: نذرت أن أعتكف ليلة بيومها؛ فإن العرب تذكر الليالي وتدخل الأيام فيها تبعاً: بدليل ما روي عن ابن عمر عن عمر: أنه جعل على نفسه يوماً يعتكفه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك». وفي رواية في الصحيح لهما أو لأحدهما: أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة, بعد أن رجع من الطائف, فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام؛ فكيف ترى؟ قال: «اذهب؛

فاعتكف يوماً». رواه مسلم. قال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه جارية من الخمس, فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس. فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها». 826 - وأيضاً؛ عن عبد الله بن بديل, عن عمرو بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يومها عند الكعبة, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «اعتكف وصم». قال: فبينما هو معتكف؛ إذ كبر الناس, فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قال: سبي هوزان, أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال. وتلك الجارية فأرسلها معهم. رواه أبو داوود. فهذا نص في أنه أمره بالصيام, ودليل على أن الاعتكاف كان نهاراً؛ لأن

تكبير الناس وانتشارهم في أمورهم وظهور عتق السبي إنما كان بالنهار. قال عبد الله بن عمر: بعثت بجاريتي إلى أخوالي في بني جمح ليصلحوا لي منها, حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم إذا فرغت, فخرجت من المسجد, فإذا الناس يشتدون, فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا. فقلت: دونكم صاحبتكم؛ فهي في بني جمح. فانطلقوا فأخذوها. 827 - وأيضاً؛ فقد روى إسحاق بن راهوية عن ابن عمر: أنه قال: «لا اعتكاف أقل من يوم وليلة». 827 - وقد روى عن سعيد: أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم». فلو كان يروى عن عمر أنه اعتكف ليلة مفردة؛ لما قال هذا ولا هذا. فقد أجاب أصحابنا عن الأول: بجواز أن يكونا واقعتين. وبجواز أن يكون عنى باليوم والليلة؛ لأن رواية البخاري صريحة بأنه اعتكف ليلة, وأما الرواية الأخرى؛ فقال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو ن دينار لم يذكروه, منهم: ابن جريج, وابن عيينة, وحماد بن سلمة, وحماد بن زيد, وابن بديل ضعيف. 829 - وأيضاً؛ تقدم في حديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان, فتركه, واعتكف في العشر الأول من شوال».

وفي لفظ: «فلما أفطر؛ اعتكف عشراً من شوال». وفي لفظ: «فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال». رواهن البخاري. فقد بينت عائشة أنه اعتكف العشر الأول من شوال, وهذا إنما يكون إذا اعتكف يوم العيد, لا سيما ومقصوده عشر مكان عشر, وكان يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر اليوم الأول من العشر؛ فلذلك ينبغي أن يكون قد دخل معتكفه بعد صلاة العيد. وقولها: «حتى اعتكف في العشر»؛ يعني - والله أعلم - في آخر عشر رمضان؛ يعني: في منسلخه ومنقضاه, وهذا يقتضي أن اعتكافه في أول يوم من شوال؛ كما دلت عليه بقية الروايات, لكن يحتمل أنه لم يحتسب بيوم الفطر, بل بالليلة التي تليه؛ إلا أن يكون دخل ليلة العيد, ويحتمل أن يصح اعتكاف يوم العيد مع أيام أخر. وأيضاً؛ فإنه عبادة من العبادات, فلم يكن الصوم شرطاً في صحتها كسائر العبادات. ولأنه ليس فيه اشتراط الصوم كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح, والحكم إنما يثبت بواحدة من هذه الجهات؛ بخلاف نفي الاشتراط؛ فإنه ثابت بالنفي الأصلي وعدم الدليل الدال على الإِيجاب.

وأما حديث عائشة؛ فقد ذكر أبو داوود وغيره أن المشهور أنه من قولها. وكذلك قول الزهري: «السنة»: عنى به السنة في اعتقاده؛ كما يقول الفقيه: حكم الله في هذه المسألة كذا وكذا, والسنة أن يفعل كذا, وحكم الشريعة كذا؛ يعني به: فيما [علمته] وأدركته. والذي يبين أن الزهري لم يكن عنده بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: 830 - ما رواه سعيد, عن الدراوردي, عن أبي سهيل؛ قال: «كان على امرأة من أهلي اعتكاف, فسألت عمر بن عبد العزيز؟ فقال: ليس عليها صيام؛ إلا أن تجعله على نفسها. وقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال له عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فعن أبي بكر؟ قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. وأظنه قال: عن عثمان؟ قال: لا. قال أبو سهيل: فخرجت من عنده, فلقيت طاووساً وعطاء, فسألتهما, فقال طاووس: كان فلان لا يرى عليها صياماً إلا أن تجعله على نفسها». 831 - وروي بهذا الإِسناد عن طاووس, عن ابن عباس؛ قال: «ليس على المعتكف صيام؛ إلا أن يجعله على نفسه».

832 - ورواه الدارقطني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: رفعه السوسي, وغيره لا يرفعه. 833 - وعن مقسم: أن عليّاً وابن مسعود قالا: «إن شاء الله المعتكف صام, وإن شاء لم يصم».

834 - وقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: «لا اعتكاف إلا بصوم». رواهما سعيد. وأما اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم صائماً؛ فلأنه كان يتحرى أفضل الأحوال في اعتكافه, ولهذا كان يعتكف العشر الأواخر, مع أن اعتكاف غيرها جائز, وكان يعتكف عشراً, ولو اعتكف أقل جاز. وأما قياسه على الوقوف؛ فينقلب عليهم بأن يقال: فلم يكن الصوم شرطاً في صحته كالأصل, وهذا أجود؛ لأنه قد صرح فيه بالحكم, ثم القرينة المتضمنة إلى الوقوف هي الإِحرام, وهي تنعقد بالنية, ومثله في الاعتكاف لا بد من النية. وأما اشتراط زيادة على النية؛ فإنه وإن وجب في الأصل, لكنه يصح بدونه. ثم الفرق بين المسجد والمعرِّف ظاهر؛ فإن المسجد لدخوله مزية على

غيره في كل وقت, وعلى كل حال, ولهذا يجب صونه عن أشياء كثيرة, والمعرّف لا يمتاز المكث فيه إلا في يوم مخصوص على وجه مخصوص؛ فكيف يقاس بهذا؟! فعلى هذا يصح اعتكافه ليلة مفردة ويومي العيدين وأيام التشريق مفردات. ولو نذر اعتكافاً؛ لم يلزمه الصوم؛ إلا أن ينذره. فعلى هذا لا بد من اللبث فيه, فلو اجتاز في المسجد, ولم يلبث فيه؛ لم يكن عاكفاً عند أصحابنا؛ بخلاف الوقوف بعرفة؛ فإن الواجب فيه الكون في ذلك المكان؛ لأن العكوف هو الاحتباس والمقام كما تقدم, وذلك لا يحصل إلا بنوع لبث. فعلى هذا: إذا نذر اعتكافاً مطلقاً, وقلنا: الصوم واجب فيه: فقال القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب: أقله يوم واحد. وإن قلنا: ليس الصوم شرطاً فيه على ظاهر المذهب؛ لم يكن لأقله حد, فيجزيه ما يقع عليه الاسم؛ كما قلنا في الصلاة والصوم والصدقة. قال القاضي وابن عقيل: ولسنا نريد بقولنا: أقل ما يقع عليه الاسم أن يجلس أقل ما يقع عليه اسم الجلوس, بل ما يُسمى به معتكفاً لابثاً, وإنما يحصل هذا باستقرار ما وقع عليه اسم لبثه. فأما أن يوقع عقيب ما وقع عليه اسم لبث؛ فلا. قالوا: والمستحب له أن لا ينقص من يوم وليلة. وقال بعض أصحابنا: يلزمه ما يُسمى به معتكفاً, [ولو ساعة من نهار؛

فاللحظة وما لا يسمى به معتكفاً]؛ لا يجزيه. فأما إذا مر في المسجد, ولم يقف؛ فليس بمعتكف قولاً واحداً. وإذا نذر أن يعتكف صائماً أو وهو صائم؛ لزمه ذلك, ولم يجز له أن يفرد الصوم عن الاعتكاف في المشهور من المذهب؛ لأن الصوم في الاعتكاف صفة مقصودة كالتتابع, فوجب الوفاء به, فلو ترك ذلك؛ لزمه أن يستأنف الصوم والاعتكاف معاً, وليس له أن يقضي كل منهما مفرداً. وقيل:. . . . ولو نذر أن يعتكف صائماً؛ فكذلك على أحد الوجهين. ولو قال: لله عليَّ أن أعتكف وأصوم. فقال القاضي: هو بالخيار بين الإِفراد والمقارنة. ولو نذر أن يعتكف مصلياً؛ فقيل: هو على أحد الوجهين. وقيل: لا يجب الجمع هنا, وإن وجب في الأولى. ولو قال: لله عليَّ أن أصلي وأصوم؛ فله أن يفرد ويقرن؛ لأن أحدهما ليس شعاراً للآخر. . . . وإذا أفطر في اعتكافه, وقلنا: الصوم شرط فيه, أو كان قد نذره في اعتكافه؛ بطل اعتكافه؛ كما يبطل بالوطء والخروج. فإذا كان متتابعاً؛ كان عليه الاستئناف.

مسألة: ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد؛ فله فعل ذلك في غيره؛ إلا المساجد الثلاثة, فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام؛ لزمه, وإذا نذره في مسجد المدينة؛ فله فعله في المسجد الحرام وحده, وإن نذره في المسجد الأقصى؛ فله فعله فيهما

وإن كان معيناً؛ ففيه الوجهان. وقال ابن أبي موسى: من صام في اعتكافه, إذا أفطر فيه عامداً, وقلنا: الصوم من شرطه؛ استأنفه, وإذا قلنا: ليس الصوم شرطاً فيه؛ فلا شيء عليه؛ إلا أن يكون أوجب الاعتكاف بالصوم, فيلزمه قضاء ما أفطر فيه من الاعتكاف بالصوم في أحد الوجهين, وفي الآخر يلزمه استئنافه. ولعل وجه هذا أن الصوم إذا كان شرطاً فيه؛ كان الفطر مبطلاً له؛ كالجماع, فيبطل كله؛ لأنه عبادة واحدة, يطرأ الفساد عليها, فأبطلها كلها كسائر العبادات. وأما إذا أوجب الصوم على نفسه, ولم يكن شرطاً لصحته؛ لم يكن الفطر مبطلاً للاعتكاف, وإنما يكون فيه ترك الوفاء بالنذر, وذلك ينجبر بالقضاء والكفارة؛ كما لو نذر صوم أيام متتابعة فأفطر بعضها. مسألة: ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد؛ فله فعل ذلك في غيره؛ إلا المساجد الثلاثة, فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام؛ لزمه, وإذا نذره في مسجد المدينة؛ فله فعله في المسجد الحرام وحده, وإن نذره في المسجد الأقصى؛ فله فعله فيهما. في هذا الكلام مسائل:

المسألة الأولى: إذا نذر الصلاة والاعتكاف في مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة؛ فله فعل ذلك فيه وفي غيره من المساجد. وكذلك لو نذر فعل ذلك بزاوية من المسجد؛ فله فعله في زاوية أخرى. فإن اعتكف في مسجد؛ لم يجز له الخروج منه إلى غيره؛ لأنه خروج لما له منه بد. فإن خرج لحاجة, فأتم اعتكافه في مسجد مرَّ به؛ جاز, وإن كان أبعد من حاجته؛ لم يجز فيما ذكره أصحابنا؛ لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان قربة قبل النذر. 835 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه». وليس قصد مسجد بعينه دون غيره طاعة؛ إلا المساجد الثلاثة. وإن كان الصفة التي يمتاز بها مسجد عن مسجد أمراً مباحاً؛ لم يجب الوفاء. لكن إذا صلى واعتكف في غير المسجد الذي عينه؛ فهل يلزمه كفارة يمين؟ على وجهين. ولو اعتكف في غير مسجد, مثل السوق ونحوه؛ لم يجزه؛ لأن المساجد لها مزية على سائر البقاع. ولو صلى في بيته؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يجزيه؛ لأنه قد عادل فضل الصلاة في المسجد فضل النافلة في البيت. 836 - وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة». والثاني: لا يجزيه؛ لأن المسجد أفضل من غيره, وإنما فضلت الصلاة في البيت لأجل الإِخفاء. قال القاضي: وإذا أخفى النافلة في المسجد وفي بيته؛ كانت التي أخفاها في المسجد أفضل من التي أخفاها في بيته. فإن كان المسجد المنذور فيه عتيقاً؛ ففيه وجهان. . . . وسواء كان أبعد عن داره أو لم يكن؛ كما لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى وهو بالمدينة؛ أجزأته الصلاة في مسجد المدينة. وإن نذره في المسجد الجامع؛ فقال القاضي: يجوز أن يعتكف في غيره. وإن نذر أن يصلي المكتوبة في جماعة؛ لزمه ذلك. فإن صلى منفرداً؛ صحت صلاته, وبقي عليه إثم النذر. ذكره القاضي, فيجب عليه.

وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن رجل نذر أن يصلي في بيت المقدس, ثم خرج إلى مكة أو المدينة؛ أجزأته الصلاة؟ قال: نعم. قلت: ولا يخرج إلى بيت المقدس؟ قال: نعم؛ حديث ابن عمر: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفاء النذور» , وقال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإِنسان: آية 7]. قلت: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صل ههنا» للذي نذر أن يصلي في بيت المقدس. قال: نعم. 738 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام». فإنما أمره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل من بيت المقدس, وما كان سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ لم يجزه إلا الوفاء به. وظاهر. . . . المسألة الثانية: أنه إذا نذر الصلاة والاعتكاف في المسجد الحرام؛ لم يجزه إلا فيه, وإن نذره في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يجزه إلا فيه أو في المسجد الحرام, وإن نذره في المسجد الأقصى؛ لم يجزه إلا في أحد الثلاثة. نص أحمد على ذلك كله.

838 - لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس. فقال: «صل ههنا». فسأله, فقال: «صل ههنا». فسأله فقال: «فشأنك إذاً». رواه أحمد وأبو داوود. واحتج به أحمد. 839 - عن رجل من الأنصار: أن رجلاً جاء يوم الفتح, فقال: يا نبي الله! إني نذرت لأن فتح الله للنبي والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ههنا فصل». فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات, كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ههنا فصل». ثم قال في الرابعة مقالته هذه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب فصلِّ فيه, فوالذي بعث محمداً بالحق؛ لو صليت ههنا؛ لقضى ذلك كل صلاة في بيت المقدس». رواه أحمد.

وإنما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في المسجد الحرام لفضله, وأن الصلاة فيه تقضي عنه الصلاة في بيت المقدس؛ كما بين ذلك, وكما فهمه عنه أصحابه. 840 - فروى ابن عباس أن امرأة شكت شكوى, فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس, فبرأت, ثم تجهزت تريد الخروج, فجاءت ميمونة تسلم عليها, وأخبرتها بذلك, فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة». رواه أحمد ومسلم. وأيضاً فإن أفضل المساجد المسجد الحرام, ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم المسجد الأقصى.

841 - لما روى أبو هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام». رواه الجماعة إلا أبا داوود. 842 - وعن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام». رواه مسلم وغيره. وقد تقدم عن ميمونة مثله. 843 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه». رواه أحمد وابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر.

844 - وعن عبد الله بن الزبير, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في هذا». رواه أحمد. وقال ابن عبد البر: هو أحسن حديث روي في ذلك. 845 - وعن أبي الدرداء؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل الصلاة في

المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة, وفي مسجدي ألف صلاة, وفي بيت المقدس خمس مئة صلاة». رواه البزار وقال: هذا حديث حسن. وإذا كان كذلك؛ فمن نذر الصلاة في المسجد الحرام مثلاً؛ فقد نذر مائة ألف صلاة, فلا يجزئ عنها صلاة أو خمس مئة صلاة أو ألف صلاة. ومن نذر في المسجد الأقصى وصلى في المسجد الحرام؛ فقد أتى بأفضل من المنذور من جنسه. وأيضاً؛ فإن كل ما كان مرغباً في فعله؛ وجب بالنذر؛ كالحج والعمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه». 846 - وهذا مرغب فيه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى». متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «إنما يسافر إلى ثلاث مساجد».

* فصل: وإذا نذر المشي إلى بيت المقدس أو إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم

847 - وعن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم: نحو الأول. رواه البخاري. والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد زيد فيهما في عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس. فإذا صلى في المزيد. . . . * فصل: وإذا نذر المشي إلى بيت المقدس أو إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ انعقد نذره, ولزمه ذلك, وكان موجبه الصلاة فيه. قال أحمد: إذا نذر المشي إلى بيت المقدس: هو مثل المشي إلى بيت الله الحرام. * فصل: فأما إن نذر الصوم بمكان بعينه؛ أجزأه الصوم بكل مكان. قاله أصحابنا. وهل يلزمه كفارة لفوات التعيين؟

* فصل: فأما الأزمنة

وإن نذر الذبح أو الصدقة بمكان بعينه. . . . * فصل: فأما الأزمنة: إذا نذر صوماً في وقت بعينه؛ تعين كما تقدم. وإن نذر الصلاة في وقت بعينه. . . . وإن نذر الاعتكاف في وقت بعينه. . . . * فصل: وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر أو شهر رمضان ونحو ذلك؛ فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من أول ليلة؛ لأنه لا يكون معتكفاً جميع العشر أو جميع الشهر إلا باعتكاف أول ليلة منه, لا سيما هي إحدى الليالي التي يلتمس فيها ليلة القدر. قال أبو عبد الله في رواية الأثرم: وقيل له: متى يدخل معتكفه؟ فقد كنت أحب له أن يدخل معتكفه بالليل حتى يبيت في معتكفه, ولكن حديث

عمرة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل إذا صلى الغداة. [وذكر حنبل] مثل حديث عمرة عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل الاعتكاف إذا صلى الغداة». فيدخل المعتكف قبل غروب الشمس, فيكون يبتدئ ليلة ويخرج منه إلى المصلى. وقال في رواية أبي طالب: إذا أراد أن يعتكف؛ دخل من صلاة المغرب, فيعتكف اليوم والليلة. قلت: ما تقول أنت؟ قال: إن قال: أيام؛ اعتكف من صلاة الفجر, إنما ذكر الأيام, وإن كان يريد الشهر؛ فمن صلاة المغرب من أول الشهر, إنما هو زيادة خير. قال أبو بكر: وبهذا أقول. 848 - ويدل على ذلك ما روى أبو سعيد؛ قال: اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان, فخرجنا صبيحة عشرين. قال: فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين, فقال: «إني رأيت ليلة القدر, وإني أنسيتها, فالتمسوها في العشر الأواخر في وتر؛ فإني رأيت إني أسجد في ماء وطين, ومن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليرجع». فرجع الناس إلى المسجد, وما نرى في السماء قزعة. قال: فجاءت سحابة, فمطرت, وأقيمت الصلاة, فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطين والماء, حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته. رواه البخاري. وفي لفظ له: «من كان اعتكف معي؛ فليعتكف العشر الأواخر؛ فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها».

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من اعتكف العشر الأواخر؛ فإنه يعتكف ليلة إحدى وعشرين. وعنه: فيمن يعتكف العشر: أنه يدخل بعد صلاة الصبح أو قبل طلوع الفجر على الروايتين في اليوم. وقد ذكر ابن أبي موسى رواية فيمن أراد اعتكاف شهر: أنه يدخل قبل طلوع الفجر من أوله. وسيأتي إن شاء الله. 849 - فإن قيل: فقد روي عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الفجر, ثم دخل معتكفه, وأنه أمر بخبائه, فضرب, ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان». متفق عليه. قلنا: قد أجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يعتكف الأيام لا الليالي, ويشبه والله أعلم أن يكون دخوله معتكفه صبيحة العشرين قبل الليلة الحادية والعشرين؛ فإنه ليس في حديث عائشة أنه كان يدخل معتكفه صبيحة إحدى وعشرين, وإنما ذكرت أنه كان يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر, مع قولها: «إنه أمر بخبائه فضرب, ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر». والعشر صفة لليالي لا للأيام؛ فمحال أن يريد الاعتكاف في الليالي العشر وقد مضت ليلة منها, وإنما كون ذلك إذا استقبلها بالاعتكاف, وقد ذكرت أنه اعتكف عشراً قضاء للعشر التي تركها, وإنما يقضي عشراً من كان يريد أن يعتكف عشراً.

* فصل: ومن نذر اعتكاف ليلة؛ لم يلزمه يومها. وإن نذر اعتكاف يوم؛ لم تلزمه ليلته

وفي حديث أبي سعيد: «أنه لما كان صبيحة عشرين؛ أمر الناس بالرجوع إلى المسجد»؛ فقد علم من عادته أنه يدخل المعتكف نهاراً, يستقبل العشر الذي يعتكفه, ويؤيد ذلك أنه لم يكن يدخل معتكفه إلا بعد صلاة الفجر, وقد مضى من النهار جزء, مع أنه لم يكن يخرج من منزله إلى المسجد حتى يصلي ركعتي الفجر في بيته, وهذا لا يكون مستوعباً للنهار أيضاً. وذكر القاضي فقال: يحتمل أنه كان يفعل ذلك في اليوم العشرين استظهاراً ببياض يوم زيادة قبل دخول العشر الأواخر, وقد نقل عن هذا عنه. 850 - فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجاور صبيحة عشرين من رمضان». فثبت أن المر على ما تأولنا. * فصل: ومن نذر اعتكاف ليلة؛ لم يلزمه يومها. وإن نذر اعتكاف يوم؛ لم تلزمه ليلته. قال في رواية علي بن سعيد: وقيل له: مالك يقول: إذا نذر أن يعتكف ليلة؛ فعليه أن يعتكف يوماً وليلته. فقال أحمد: هذا خلاف ما أوجبه على نفسه. وعليه أن يعتكف يوماً متصلاً أو ليلة متصلة, وليس له أن يفرق الاعتكاف في ساعات من أيام؛ لأن اليوم المطلق عبارة عن بياض نهار متصل, وكذلك

الليلة المطلقة عبارة عن سواد ليلة متصلة. فإن قال: عليَّ أن أعتكف يوماً من وقتي هذا, وكان في بعض نهار؛ لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله, ويدخل فيه الليل؛ لأنه من نذره, وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه. فإن كان المنذور ليلة؛ دخل معتكفه قبل الغروب, أو خرج منه بعد طلوع الفجر الثاني. وإن كان يوماً؛ لزمه – إذا قلنا: ليس من شرط الاعتكاف الصوم- أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر, ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن اليوم والليلة يتعاقبان, وآخر الليلة طلوع الفجر, فهو أول اليوم. هذا هو المشهور من المذهب. وروي عنه: يدخل معتكفه وقت صلاة الفجر, ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لحديث عائشة المتقدم, ولأن اليوم محقق إنما هو من طلوع الشمس, وقبل ذلك مشترك بين اليوم والليلة؛ فقد يتبع هذا تارة ويتبع هذا تارة. وإن نذر اعتكاف شهر بعينه؛ دخل معتكفه قبل غروب الشمس من أول ليلة في الشهر, فإذا طلع هلال الشهر الثاني؛ خرج من معتكفه, فإن طلع الهلال نهاراً؛ لم يخرج من الاعتكاف في المشهور عنه, بناء على الاحتياط في الهلال المرئي نهاراً, وعلى أنه للمستقبلة بكل حال, وإن قلنا: هو للماضية؛ خرج. هذا هو المنصوص عنه المشهور عند أصحابه. قال ابن أبي موسى: وقيل عنه فيمن أراد اعتكاف شهر: أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله, ويخرج منه بعد غروب الشمس من آخره. ووجه هذا من حديث عائشة: [أنه بنى] على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم, وإنما يصح في الليل تبعاً للنهار, أو أول ليلة من الشهر, ليس بصيام,

فلا يبتدئ الاعتكاف في وقت لا يصلح للصوم. وإن قيل: إن الصوم فيه مستحب؛ فقد يقال: يحمل القصد والنذر على الوجه الأحسن الأكمل, وهو ما فيه صوم, وإن كان شهراً مطلقاً. . . . وإن نذر اعتكاف عشرة أيام متتابعة إما مطلقة أو معينة: فذكر أبو بكر وابن عقيل فيها روايتين: إحداهما: وهي الصريحة: أنه لا يدخل فيه الليلة الأولى؛ كما نقله أبو طالب, وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل والقاضي أخيراً. وفرق أحمد وأبو بكر بين الأيام والشهر, سواء كانت الأيام معينة أو مطلقة. والرواية الثانية: يدخل أول ليلة على وجه التبع؛ لأن الأيام تذكر ويدخل فيها الليالي, وليست صريحة. وذكر القاضي عن أصحابنا طريقين: أحدهما: لا تدخل الليلة الأولى لا في المطلقة ولا في المعينة. على رواية أبي طالب والأثرم, وهذا اختياره في «خلافه». والثانية: (تدخل). وهي قوله في «المجرد». وقال القاضي في «المجرد» وابن عقيل: إن عيَّن أياماً من الشهر, مثل أن يقول: أعتكف العشر الأواخر من رمضان, أو [عيَّن] نذراً نذره أو تطوع به؛ فهذا يلزمه أن يدخل ليلة الحادي والعشرين؛ لأن الليلة تابعة ليومها, فلزمه أن يأتي بالتابع كالليالي التي تتخلل الأيام؛ فههنا هو عبارة عن أول اليوم.

* فصل: وإذا نذر اعتكاف شهر مطلق

قال: وعلى هذا يحمل كلامه في رواية أبي طالب والأثرم. وإن قال: عليَّ أن أعتكف هذه العشر أو العشر الأواخر من رمضان؛ فعلى ما ذكره القاضي: هو مثل أن يقال: هذه الأيام. حتى قال في «خلافه»: لو نذر اعتكاف عشر بعينه, كالعشر الأواخر من رمضان؛ لم يدخل ليلة العشر فيه. وغيره: تدخل الليلة هنا, وإن لم يدخل في لفظ الأيام. وإذا نذر اعتكاف العشر؛ لم يكن له أن يخرج إلى هلال شوال. ذكره القاضي. وإن كان العشر عبارة عن الليالي؛ لأن بياض نهار كل يوم يدخل في ليلته, ويجزيه, سواء كان الشهر تامّاً أو ناقصاً؛ لأنه إذا أطلق العشر؛ فإنما يفهم منه ما بين العشر الأوسط وهلال شوال. ولو نذر اعتكاف عشر مطلق أو عشرة أيام؛ لم يجزه إلا عشرة تامة, فإذا اعتكف العشر الآخر من رمضان, وكان ناقصاً؛ لزمه أن يعتكف يوم العيد. وإذا نذر عشراً مطلقاً, أو عشر ليال؛ فهل يلزمه بياض اليوم الذي يلي آخر ليلة؟. . . . * فصل: وإذا نذر اعتكاف شهر مطلق؛ أجزأه ما بين الهلالين إن كان ناقصاً. وإن كان شرع في أثناء شهر؛ لزمه استيفاء ثلاثين يوماً, فإن شرع في أثناء يوم. . . .

وإن قال: ثلاثين يوماً؛ لم يجزه إلا ثلاثين, فإذا كان ناقصاً؛ فعليه يوم آخر. وإذا نذر اعتكاف شهر؛ لزمه أن يعتكف شهراً متتابعاً, سواء قلنا فيمن نذر صوم شهر يلزمه التتابع أم لا. قاله القاضي وأصحابه. لأن الاعتكاف يصح بالليل والنهار, فاقتضى التتابع؛ كمدة الإِيلاء والعِنَّة. وإذا حلف لا يكلمه شهر وعليه الصوم. . . . ومن أصحابنا من خرج في هذه المسألة وجهين؛ قياساً على مَن نذر أن يصوم شهراً: هل يلزمه التتابع أو يجوز له التفريق؟ على روايتين. لأنها عبادة يجوز فعلها متتابعة ومفرقة, فأشبهت الصوم, والأول أجود؛ لأنه لو نذر اعتكاف عشر؛ لزمه متتابعاً, وإن جاز تفريقه؛ فكذلك الشهر. وإذا نذر اعتكاف ثلاثين يوماً؛ فقال القاضي: يلزمه التتابع كما يلزمه في الشهر؛ كما لو حلف لا يكلمه عشرة أيام. فعلى هذا إن نذر اعتكاف ليلتين: فقال: يحتمل أن يلزمه ليلتان ويوم. وقال أبو الخطاب: يجوز أن يفرقهما, وإن أوجبنا التتابع في لفظ الشهر؛ لأن أحمد فرق بين اللفظين في نذر الصيام: فقال في رواية ابن الحكم في رجل قال: لله عليَّ أن أصوم عشرة أيام: يصومها متتابعاً. وإذا قال: شهراً؛ فهو متتابع, وإذا قال: ثلاثين يوماً؛ فله أن يفرق.

فعلى هذا: إن نذر اعتكاف عشرة أيام؛ تلزمه متتابعة كما يلزمه الصوم. وقال ابن عقيل عن أحمد: الفرق بين الأيام والشهر, فأوجب التتابع في الشهر دون الأيام. وزعم القاضي أنه لا فرق بين ثلاثين يوماً وعشرة أيام. قال: ولعله سهو من الراوي. وليس كما قال؛ لأن عدول الحالف عن لفظ (شهر) إلى لفظ (ثلاثين يوماً) , مع أنه أصل, وهو خلاف المعتاد: دليل على أنه أراد معنى يختص به؛ بخلاف لفظ عشرة أيام؛ فإنه ليس لها إلا لفظ واحد, والمطلق في القرآن من الصوم محمول على التتابع؛ فكذلك في كلام الآدميين. وإذا وجب التتابع؛ لزمه اعتكاف الليالي التي تتخلل الأيام, فأما ليلة أول يوم؛ فلا تلزمه؛ مثل أن يقول: لله عليَّ اعتكاف يومين. فتجب الليلة التي بينهما دون التي قبلهما, هذا هو المشهور. وعلى الرواية المذكورة. قيل: تجب الليلة التي قبل. قال ابن عقيل: ويتخرج وجوب يومين بلا ليلة أصلاً؛ كما لو أفرد؛ لأن ليلة اليوم الأول لما لم يلزم أن تدخل في اعتكافه؛ كذلك ليلة اليوم الثاني. وأما إذا لم يجب التتابع؛ فإنما تجب عشرة أيام بلا ليال. ذكره ابن عقيل وغيره. كما لو قال: عليَّ أن أعتكف يوماً؛ فإن اليوم اسم لبياض النهار خاصة, وهذا كله عند الإِطلاق. فإن نوى شيئاً أو شرطه بلفظه؛ عمل بمقتضاه قولاً واحداً. . . .

* فصل: وإذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان

* فصل: وإذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان؛ انعقد نذره؛ لأنه نذر قربة, يمكنه الوفاء ببعضها, كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان؛ فإن قدم ليلاً؛ لم يلزم النذر؛ لفوات الشرط, وإن قدم نهاراً؛ اعتكف ما بقي من النهار, ولم يلزمه قضاء ما مضى قبل قدومه؛ كما لو قال: لله عليَّ أن أعتكف أمس. وإن قدم والناذر عاجزاً عن الاعتكاف لمرض أو حبس أو نحو ذلك؛ فعليه مع الكفارة قضاء ما بقي من النهار دون ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه إلا اعتكاف ما بقي. هذا قول القاضي وأصحابه وأبو محمد وغيرهم من المتأخرين. [من شرط] الصوم؛ فإنه يلزمه القضاء, ولا يصح اعتكاف بعض يوم عن نذره؛ لعدم شرطه, وهو النذر. وعلى الوجه الآخر؛ يجزيه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائماً. واصل هذا أن عندهم مقتضى النذر في الصوم والاعتكاف الفعل فيما بقي من الزمان بعد القدوم, وأما ما وجد قبل القدوم؛ فليس بواجب عليه, لكن لما لم يمكن في الصوم أن يصام بعض يومه؛ لزمه صوم يوم كامل, حتى إذا كان قد أصبح صائماً متطوعاً؛ أجزأه تمام ما بقي من نذره. وقال أبو بكر: إذا قدم في بعض النهار؛ كان عليه كفارة يمين والقضاء, ولا معنى لإِتمامه من يوم آخر. وحكاه عن أحمد؛ كما قد نص أحمد في غير موضع في الصوم على مثل ذلك.

مسألة: ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتناب ما لا يعنيه من قول أو فعل

وهذا لأن لفظ الناذر اقتضى اعتكاف جميع اليوم كما اقتضى صوم جميع اليوم, وقد تعذر ذلك؛ فعليه القضاء في الاعتكاف, كما عليه قضاء الصوم والكفارة لفوات المعين. . . . مسألة: ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتناب ما لا يعنيه من قول أو فعل. فيه فصلان: أحدهما: أن الذي ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالعبادات المحضة التي بينه وبين الله تعالى؛ مثل: القرآن, وذكر الله تعالى, والدعاء, والاستغفار, والصلاة والتفكر, ونحو ذلك. فأما العبادات المتعلقة بالناس؛ مثل: إقراء القرآن, والتحديث, وتعليم العلم, وتدريسه, والمناظرة فيه, ومجالسة أهله: إذا قصد به وجه الله تعالى, لا المباهاة؛ فقال الآمدي: هل الأفضل للمعتكف أن يشتغل بإقراء القرآن والفقه أو يشتغل بنفسه؟ على روايتين: إحداهما: يشتغل بإقراء الفقه. وهذا اختيار الآمدي وأبي الخطاب؛ لأن هذا يتعدَّى نفعه إلى الناس, وما تعدى نفعه من الأعمال أفضل مما اقتصر نفعه على صاحبه.

والثانية: لا يستحب له ذلك. وهذا هو المشهور عنه, وعليه جمهور أصحابنا؛ مثل: أبي بكر, والقاضي, وغيرهما. قال القاضي والشريف وغيرهما: يكره ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف؛ دخل معتكفه, واشتغل بنفسه, ولم يجالس أصحابه, ولم يحادثهم كما كان يفعل قبل الاعتكاف, ولو كان ذلك أفضل؛ لفعله, ولأن الاعتكاف هو من جنس الصلاة والطواف, ولهذا قرن الله تعالى بينهما في قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: آية 125]. ولما كان في الصلاة والطواف شغل عن كلام الناس, وكذلك الاعتكاف, وذلك أنها عبادة شرع لها المسجد, فلا يستحب الإِقراء حين التلبس بها كالصلوات والطواف. قال القاضي: لا خلاف أنه يكره أن يهدي القرآن وهو يصلي أو يطوف, كذلك الاعتكاف, ولأن العكوف على الشيء هو الإِقبال عليه على وجه المواظبة, ولا يحصل ذلك للعاكف إلا بالتبتل إلى الله سبحانه وترك الاشتغال بشيء آخر. وأما كون النفع المتعدي أفضل؛ فعنه أجوبة: أحدها: أنه لا يلزم من كون الشيء أفضل أن يكون مشروعاً في كل عبادة, بل وضع الفاضل في غير موضعه يجعله مفضولاً, وبالعكس. ولهذا؛ قراءة القرآن أفضل من التسبيح, وهي مكروهة في الركوع والسجود, ولهذا لا يشرع هذا في الصلاة والطواف, وإن كانا أفضل من الصلاة والطواف النافلتين. الثاني: أن كونهما أفضل يقتضي الاشتغال بهما عن الاعتكاف.

* فصل

قال الآمدي: لا تختلف الرواية أن من أراد أن يبتدئ الاعتكاف؛ فتشاغله بإقراء القرآن أفضل من تشاغله بالاعتكاف. قال أحمد في رواية المروذي؛ وقد سئل عن رجل يقرئ في المسجد, ويريد أن يعتكف؟ فقال: إذا فعل هذا؛ كان لنفسه, وإذا قعد؛ كان له ولغيره, يقرئ أعجب إليَّ. وفي لفظ: لا يتطيب المعتكف, ولا يقرئ في المسجد وهو معتكف, وله أن يختم في كل يوم, فإذا فعل ذلك؛ كان لنفسه, وإذا قعد في المسجد؛ كان له ولغيره, يقعد في المسجد يقرئ أحب إليَّ من أن يعتكف. الثالث: أن النفع المتعدي ليس أفضل مطلقاً, بل ينبغي للإِنسان أن يكون له ساعات يناجي فيها ربه, ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها, ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم, ولهذا كان خلْوة الإِنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس. . . . * فصل: قال أحمد في رواية ابن حرب: المعتكف إذا أراد أن ينام؛ نام متربعاً؛ لئلا [تبطل] عليه الطهارة, فإذا كان نهاراً, وأراد أن ينام؛ فلا بأس أن يستند إلى سارية, ويكون ماء طهارته معلوماً؛ لئلا يقوم من نومه وليس معه ماء. قال علي بن حرب: إنما أراد أحمد أن يكون ماؤه معلوماً, لا يكون يستيقظ يشتغل قلبه بالطلب. قال أبو بكر: لا ينام إلا عن غلبة, ولا ينام مضطجعا, ويكون الماء منه

قريباً؛ لأن الله سمى العاكف قائماً, والقائم هو الواقف للشيء المراعي له, والنوم يضيع ذلك عليه, ولأن العكوف على الشيء هو القيام عليه على سبيل الدوام, وذلك لا يكون من النائم. نعم؛ يفعل منه ما تدعو إليه الضرورة؛ كما يخرج من المسجد لضرورة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف العشر الأواخر؛ أحيا الليل كله, وشد المئزر. فإن شق عليه النوم قاعداً: 851 - عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف؛ طرح له فراش, ويوضع له سريره وراء أسطوانة [التوبة]». رواه ابن ماجه. *الفصل الثاني: أنهه ينبغي له اجتناب ما لا يعنيه من القول والعمل؛ فإن هذا مأمور به في كل وقت.

852 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». رواه أبو داود.

وقال أحمد في رواية المروذي: يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه, ولا يؤويه إلا سقف المسجد, ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل. قال أصحابنا: ولا يستحب له أن يتحدث بما أحب, وإن لم يكن مأثماً, ويكره لكل أحد السباب والجدال والقتال والخصومة, وذلك للمعتكف أشد كراهة. 853 - قال علي رضي الله عنه: «أيما رجل اعتكف؛ فلا يساب ولا يرفث في الحديث, ويأمر أهله بالحاجة (أي: وهو يمشي) , ولا يجلس عندهم». رواه أحمد. قالوا: ويجوز الحديث ما لم يكن إثماً. 854 - لحديث صفية: أنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في معتكفه فحدثته. قال أحمد في رواية الأثرم: لا بأس أن يقول للرجل: اشتر لي كذا, واصنع كذا. وفي معنى ذلك ما يأمر به مما يحتاجه أو يأمر بمعروف من غير إطالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان معتكفاً؛ أطلع رأسه من القبة, وقال: «من كان اعتكف

معي؛ فليعتكف العشر الأواخر. . .» الحديث, وتحدث مع صفية بنت حُيي. قالوا: فإن خالف وخاصم أو قاتل؛ لم يبطل اعتكافه؛ لأن ما لا يبطل العبادة مباحه لا يبطلها محظوره؛ كالنظر, وعكسه الجماع. فأما الصمت عن كل كلام؛ فليس بمشروع في دين الإِسلام. قال ابن عقيل: يكره الصمت إلى الليل. وقال غيره من أصحابنا: بل يحرم مداومة الصمت. والأشبه: أنه عن صمت عن كلام واجب – كأمر بمعروف ونهي عن منكر وتعين عليه ونحو ذلك -؛ حرم, وإن سكت عن مستحب أو فرض قام به غيره – كتعليم العلم والإِصلاح بين الناس ونحو ذلك -؛ فهو مكروه. فإن أراد المعتكف أن يفعل ذلك؛ لم يستحب له ذلك, وهو مكروه أو محرم. 855 - وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صمات يوم إلى الليل». رواه أبو داوود.

856 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس, فقال: «منْ هذا؟». قالوا: هذا أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». رواه البخاري.

857 - وعن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصوم يوم الجمعة ولا أكلم ذلك اليوم أحداً؟ فقال: «لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في أو في شهر, وأما [أن] لا تكلم أحداً؛ فلعمري؛ لأن تكلم بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت». رواه أحمد. 858 - وعن قيس بن أبي حازم؛ قال: «دخل أبو بكر على امرأة من أحمس, فقال لها: زينب! فأبت أن تتكلم. فقال: ما بال هذه؟ قالوا: حجت مصمتة. فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل, هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت». رواه البخاري. فقد بينت الأخبار أن هذا منهي عنه في الصوم والإِحرام وفي غيرها. ويتوجه أن يباح هذا للمعتكف؛ لأنه بمنزلة الطائف والمصلي؛ خلاف الصائم والمحرم. . . . وأما قول مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: رقم 26]؛ أي:

صمتاً؛ فذاك كان في شريعة من قبلنا, وقد نسخ ذلك في شرعنا. قال ابن عقيل وغيره من أصحابنا: ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً عن الكلام؛ لأنه استعمال له في غير ما وضع له؛ فأشبه استعمال المصحف في التوسد والوزن ونحو ذلك. 859 - وقد جاء: «لا تناظر بكتاب الله». قيل: معناه: لا تتكلم به عن الشيء تراه كأنك ترى رجلاً قد جاء في وقته, فتقول: لقد جئت على قدر يا موسى. قال ابن عقيل: كان أبو إسحاق الخراز صالحاً, وكان من عادته الإِمساك عن الكلام في شهر رمضان, فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض له من الحوائج, فيقول في إذنه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} , ويقول لابنه في عشية الصوم: {مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا}؛ آمراً له أن يشتري البقل. فقلت له: هذا تعتقده عبادة وهو معصية. فصعب عليه, فقلت: إن هذا القرآن العزيز نزل في بيان أحكام شرعية, فلا يستعمل في أعراض دنيوية, وما هذا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان في ورق المصحف. فهجرني ولم يصغ إلى الحجة.

* فصل

* فصل: قال أحمد في رواية حنبل: يعود المريض, ولا يجلس, ويقضي الحاجة, ويعود إلى معتكفه, ولا يشتري ولا يبيع؛ إلا أن يشتري ما لا بد له منه؛ طعام أو نحو ذلك. وقال في رواية المروذي: لا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل. وقال أبو طالب: سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياطة وغيره؟ قال: ما يعجبني. قلت: إن كان يحتاج؟ قال: إن كان يحتاج؛ فلا يعتكف. قال أصحابنا: ولا يتجر, ولا يصنع صناعة؛ لسببين: أحدهما: أن التجارة والصناعة تشغل عن مقصود الاعتكاف, فلا يفعله في المسجد, ولا إذا خرج منه لحاجة. والثاني: أن ذلك ممنوع منه في المسجد. فأما البيع والشراء؛ فقال القاضي وابن عقيل: لا يجوز ذلك في المسجد, سواء في ذلك اليسير - مثل الثوب ونحوه - والكثير, وكذلك لا يجوز له فعل الخياطة فيه, سواء كان محتاجاً أو غيره, وسواء قل أو كثر؛ لأن في ذلك فعل معيشة في المسجد, وكذلك الرقوع ونحوه. . . فيمنع من البيع والشراء في المسجد مطلقاً, ويحتمل كلام أحمد. . . . فأما خارج المسجد؛ فيجوز له أن يشتري ما لا بدَّ منه.

* فصل: ويجوز للمعتكف أن يغسل رأسه ويرجله حال الاعتكاف

فأما شراء خادم لأهله وكسوة ونحو ذلك مما لا يتكرر أو شراء طعام لهم. . . . وإذا خاط ثوبه أو رقعه أو فعل نحو ذلك مما لا يتكسب به؛ فقيل: يجوز اليسير منه. [وإذا كان به حاجة إلى الاكتساب والاتجار؛ فلا يعتكف]. قال أصحابنا: وله أن يتزوج في المسجد, وأن يزوج غيره, وأن يشهد النكاح؛ لأنها عبادة لا تحرم الطيب, فلم تمنع النكاح والصيام, وعكسه الإِحرام أو العدة. . . . وإذا اتجر أو اكتسب في المسجد؟ فهل يبطل اعتكافه؟. . . . وإن فعل ذلك خروجاً لأمد قضاء الحاجة أو خروجاً يمتد للحيض والفتنة. . . . * فصل: ويجوز للمعتكف أن يغسل رأسه ويرجله حال الاعتكاف: 860 - لما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض, وهو معتكف في المسجد, وهي في حجرتها, يناولها رأسه, وكان

لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنسان إذا كان معتكفاً». متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد, فأرجله, وكان يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً». وفي لفظ له: «كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف, فأغسله وأنا حائض». قال ابن عقيل: ويجوز غسل جسده والتنظيف بأنواع التنظيف. وفي معنى ذلك أخذ الشارب وتقليم الأظفار والاغتسال؛ لأن هذا من باب النظافة والطهارة, وهذا مما يستحب للمعتكف. قال ابن عقيل: لأنها عبادة لا تحرم الطيب, والطيب أكثر من التنظيف, فكان من طريق الأولى أن لا يحرم الغسل والتنظيف. وأما الطيب: فقال في رواية المروذي: لا يتطيب المعتكف, ولا يقرئ في المسجد وهو معتكف. وكذلك ذكر أبو بكر. ذكرها القاضي في بعض المواضع. وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: لا يحرم عليه الطيب؛ لأن الاعتكاف لا يحرم عقد النكاح فلا يحرم الطيب. قالوا: والمستحب له أن لا يلبس الرفيع من الثياب, ولا يتطيب؛ لأنها

مسألة: ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه؛ إلا أن يشترط

عبادة تختص بلبث في مكان مخصوص, فلم يكن الطيب والرفيع من الثياب فيها مشروعاً؛ كالحج. فإن كان المعتكف قد حبس نفسه باعتكافه كما حبس المحرم نفسه بإحرامه, وهذا لأن الاعتكاف يحرم الوطء وما دونه, والطيب من دواعيه, فإذا لم يحرمه؛ فلا أقل من أن لا يستحب. وأن يخرج إلى المصلى في ثياب اعتكافه, ولا يجدد ثياباً غيرها حتى يرجع إلى المصلى, ولا يحرم عليه شيء من اللباس المباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف إلى أن مات, ولم ينقل عنه أنه تجرد لاعتكافه. قالوا: وله أن يأكل ما شاء كالمحرم. وقال أبو بكر: يمنع نفسه عن التلذذ بما هو مباح قبل الاعتكاف. مسألة: ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه؛ إلا أن يشترط. وجملة ذلك أن الاعتكاف هو لزوم المسجد للعبادة, فمتى خرج منه لغير فائدة؛ بطل اعتكافه, سواء طال لبثه أو لم يطل؛ لأنه لم يبق عاكفاً في المسجد. 861 - وقد روت عائشة رضي الله عنها: «أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض, وهو معتكف في المسجد, وهي في حجرتها, يناولها رأسه, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنسان إذا كان معتكفاً». متفق عليه.

وفي لفظ للبخاري: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً. 862 - وقد تقدم قولها: «لا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد له منه». رواه أبو داوود. فأما خروجه لما لا بد له منه مما يعتاد الاحتياج إليه, ولا يطول زمانه, وهو حاجة الإِنسان, وصلاة الجمعة؛ فيجوز, ولا يقطع عليه اعتكافه, ولا يبطله, ويكون في خروجه في حكم المعتكف بحيث لا يقطع عليه التتابع المشروع وجوباً واستحباباً. ولا تجوز له المباشرة, ولا ينبغي أن يشتغل إلا بالقرب وما يعنيه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: رقم 187]؛ فنهى عن المباشرة لمن اعتكف في المسجد, وإن كان في غيره؛ لأن المباشرة في نفس المسجد لا تحل للعاكف ولا غيره. فعلم من هذا أن العاكف في المسجد قد يكون في حكم العاكف مع خروجه منه, حتى تحرم عليه المباشرة. وقد ذكرت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنسان؛ تعني: الغائط والبول, كُني عنهما بالحاجة؛ لأن الإِنسان يحتاج إليهما لا محالة. وتقدم الدليل على أن له أن يخرج للجمعة. ومثل هذا المصلي صلاة الخوف إذا استدبر القبلة ومشى مشياً كثيراً؛ فإنه

لا يخرج عن حكم الصلاة – وإن كانت هذه الأفعال تنافي الصلاة – [لكنها] أبيحت للضرورة. وكذلك؛ الطائف إذا صلى في أثناء صلاة مكتوبة أقيمت أو جنازة حضرت؛ فإنه طواف واحد, وإن تخلله هذا العمل المشروع. وكذلك إذا قطع الموالاة في قراءة الفاتحة لاستماع قراءة الإِمام ونحو ذلك. وفي معنى ذلك كل ما يحتاج إلى الخروج له, وهو ما يخاف من تركه ضرراً في دينه أو دنياه, فيدخل في ذلك الخروج لفعل واجب وترك محرم وإزالة ضرر؛ مثل: الحيض, والنفاس, وغسل الجنابة, وأداء شهادة تعينت عليه, وإطفاء حريق, ومرض شديد, وخوف على نفسه من فتنة وقعت, وجهاد تعين, وشهود جمعة, وسلطان أحضره, وحضور مجلس حكم, وقضاء عدم الوفاء, وغير ذلك؛ فإنه يجوز له الخروج لأجله, ولا يبطل اعتكافه, لكن منه ما يكون في حكم المعتكف إذا خرج بحيث يحسب له من مدة الاعتكاف ولا يقضيه – وهو ما لا يطول زمانه -, ومنه ما ليس كذلك – وهو ما يطول زمانه -؛ كما سنذكر إن شاء الله تعالى. ويدل على جواز الخروج لا يعرض من الحاجات, وإن لم يكن معتاداً, مع احتسابه من المدة: 863 - ما روى علي بن الحسين: أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان, فتحدثت عنده ساعة, ثم قامت تنقلب, فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها, حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة؛ مرَّ رجلان من الأنصار, فسلما عللا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما؛ إنها صفية بنت

حيي». فقالا: سبحان الله! وكَبُر عليهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الإِنسان مجرى الدم, وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئاً». رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي رواية متفق عليها: وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد. وفي لفظ للبخاري: كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عنده أزواجه, فرحن, فقال لصفية بنت حيي: «لا تعجلي حتى أنصرف معك» , وكان بيتها في دار أسامة بن زيد, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم معها, فلقيه رجلان. . . (وذكر الحديث). وهذا صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معها من المسجد, وأن قولها: «حتى بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة»؛ تعني: باباً غير الباب الذي خرج منه؛ فإن حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت شرقي المسجد وقبلته, وكان للمسجد عدة أبواب, أظنها ستة, فيمر على الباب بعد الباب, والرجلان رأيا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المرأة خارج المسجد؛ فإنه لو كان في المسجد؛ لم يحتج إلى هذا الكلام. وقوله: «لا تعجلي حتى أنصرف معك» , وقيامه معها ليقلبها: دليل على أن مكانها كان بينه وبين المسجد مسافة يخاف فيها من سير المرأة وحدها ليلاً, وذلك والله أعلم قبل أن يتخذ حجرتها قريباً من المسجد, ولهذا قال: «كان

* فصل: وأما عيادة المريض وشهود الجنازة

مسكنها في دار أسامة». وهذا كله مبين لخروجه من المسجد؛ فإن خروجه إلى مجرد باب المسجد لا فائدة فيه, ولا خصوص لصفية فيه لو كان منزلها قريباً دون سائر أزواجه, فهذا خروج للخوف على أهله, فيلحق به كل حاجة. ولا يجوز أن يقال: اعتكافه كان تطوعاً, وللمتطوع أن يدع الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ اعتكافه مما ينقصه, ولهذا كان لا يدخله إلا لحاجة, ويصغي رأسه إلى عائشة لترجله, ولا يدخل. ولأنه لو ترك الاعتكاف ساعة؛ لم يكن قد اعتكف العشر الأواخر, وهو صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر. ثم إنه كان يقضي هذا الاعتكاف إذا فاته؛ فكيف يفسده أو يترك منه شيئاً؟! على أن أحداً من الناس لم يقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ترك اعتكافه بخروجه مع صفية؛ فإن العمدة في صفة الاعتكاف فرضه ونفله على اعتكافه صلى الله عليه وسلم, كيف وقد كان إذا عمل عملاً أثبته صلى الله عليه وسلم. * فصل: وأما عيادة المريض وشهود الجنازة؛ ففيه روايتان منصوصتان: إحداهما: يجوز. قال في رواية ابن الحكم: المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة.

864 - ويروى عن عاصم بن ضمرة, عن علي رضي الله عنه «المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة». وعاصم بن ضمرة عندي حجة. وقال حرب: سل أحمد عن المعتكف يشهد الجنازة ويعود المريض ويأتي الجمعة؟ قال: نعم. ويتطوع في مسجد الجامع؟ قال: نعم؛ أرجو أن لا يضره. قيل: فيشترط المعتكف الغداء أو العشاء في منزله؟ فكره ذلك. قيل: فيشترط الخياطة في المسجد؟ قال: لا أدري. قيل: فهل يكون اعتكاف إلا بصيام؟ قال: قد اختلفوا فيه. وكذلك نقل عن الأثرم: يخرج لصلاة الجنازة. وقال في رواية حنبل: ويعود المريض, ولا يجلس, ويقضي الحاجة, ويعود إلى معتكفه, ولا يشتري, ولا يبيع؛ إلا أن يشتري ما لا بد له منه؛ طعام أو نحو ذلك, وأما التجارة والأخذ والعطاء؛ فلا يجوز شيء من ذلك. والرواية الثانية: لا يجوز ذلك إلا بشرط. قال في رواية المروذي في المعتكف: يشترط أن يعود المريض ويتبع الجنازة؟ قال: أرجو. كأنه لم ير به بأساً. ويشبه أن تكون هي الآخرة؛ لأن ابن الحكم قديم. وهذه اختيار عامة أصحابنا: الخرقي, وأبي بكر, وابن أبي موسى, والقاضي, وأصحابه, وغيرهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإِنسان. فعلم أن هذه سنة الاعتكاف, وفعله يفسر الاعتكاف المذكور في القرآن.

وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها على المعتكف: «أن لا يعود مريضاً, ولا يشهد جنازة, ولا يمس امرأة, ولا يباشرها, ولا يخرج إلا لما لا بد منه». 865 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «إن كنت لأدخل البيت للحاجة, والمريض فيه, فما أسأل عنه إلا وأنا مارة». متفق عليه. 866 - وعنها؛ قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف, فيمر كما هو, ولا يعرج يسأل عنه». رواه أبو داوود, عن ليث بن أبي سليم, عن ابن القاسم, عن أبيه, عن عائشة. وفي لفظ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف». ولأنه خروج لما له منه بد, فلم يجز؛ كما لو خرج لزيارة والديه أو صديقه أو طلب العلم ونحو ذلك من القرب.

فعلى هذا: إذا خرج لحاجة؛ فله أن يسأل عن المريض في طريقه, ولا يجلس عنده, ولا يقف أيضاً, بل يسأل عنه مارّاً؛ لأنه [مقيم] لغير حاجة. وقد ذكر عائشة مثل ذلك. وقول أحمد: «يعود المريض ولا يجلس»: دليل على جواز الوقوف؛ إلا أن يحمل على الرواية الأخرى. ووجه الرواية الأولى: ما احتج به أحمد, وهو ما رواه عاصم بن ضمرة, عن علي رضي الله عنه؛ قال: «إذا اعتكف الرجل؛ فليشهد الجمعة, وليحضر الجنازة, وليعد المريض, وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم». 867 - وعن عبد الله بن يسار: «أن عليّاً أعان ابن أخيه جعدة بن هبيرة بسبع مائة درهم من عطائه أن يشتري خادماً, فقال له: ما منعك أن تبتاع خادماً؟! فقال: إني كنت معتكفاً. قال: وما عليك لو خرجت إلى السوق فابتعت؟!». 868 - وعن إبراهيم؛ قال: «كانوا يحبون للمعتكف أن يشترط هذه

الخصال, وهي له [و] إن لم يشترط: عيادة المريض, ولا يدخل سقفاً, ويأتي الجمعة, ويشهد الجنازة, ويخرج في الحاجة». 869 - قال: وكان إبراهيم يقول: «لا يدخل المعتكف سقيفة إلا لحاجة أو سقف المسجد». رواهن سعيد. 870 - وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المعتكف يتبع الجنازة ويعود المريض». رواه ابن ماجه, وراويه متروك الحديث. وأيضاً؛ فإن هذا خروج لحاجة لا تتكرر في الغالب, فلم يخرج به عن كونه معتكفاً؛ كالواجبات. وذلك أن عيادة المريض من الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم, وكذلك عيادة المريض. . .؛ فعلى هذه الرواية هل يقعد عنده؟. . . . وإن تعين عليه الصلاة على الجنازة, وأمكنه فعلها في المسجد؛ لم يجز الخروج إليها, وإن لم يمكنه؛ فله الخروج إليها. وكذلك يخرج لتغسيل الميت وحمله ودفنه إذا تعيَّن عليه.

* فصل

وأما إذا شرط ذلك؛ فيجوز في المنصوص المشهور كما تقدم. وقال في رواية الأثرم: يشترط المعتكف أن يأكل في أهله, ويجوز الشرط في الاعتكاف. وحكى الترمذي وابن المنذر عن أحمد. . . . 871 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة: «حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني؛ فإن لك على ربك ما اشترطت». عام, فإذا كان الإِحرام الذي هو ألزم العبادات بالشروع يجوز مخالفة موجبه بالشرط؛ فالاعتكاف أولى. 872 - [وعن إبراهيم؛ قال: «كانوا يحبون للمعتكف أن يشترط هذه الخصال, وهي له إن لم يشترط: عيادة المريض, ولا يدخل سقفاً, ويأتي الجمعة, ويشهد الجنازة, ويخرج في الحاجة».] وكان إبراهيم يقول: «لا يدخل المعتكف سقيفة إلا لحاجة أو سقف المسجد». رواه سعيد. * فصل: قال أبو بكر: لا يقرأ القرآن, ولا يكتب الحديث, ولا يجالس العلماء,

ولا يتطيب, ولا يشهد جنازة, ولا يعود مريضاً؛ إلا أن يشترط في اعتكافه. ذكر ابن حامد والقاضي وغيرهما: أن له أن يشترط كل ما في فعله قربة؛ مثل: العيادة, وزيارة بعض أهله, وقصد بعض العلماء. وقسموا الخروج ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز بالشرط ودونه ولا يبطل الاعتكاف. وهو الخروج لما لا بد منه من قضاء الحاجة والخوف والمرض ونحو ذلك مما تقدم. والثاني: ما لا يجوز الخروج إليه إلا بشرط. وهو عيادة المريض, وزيارة الوالدة, واتباع الجنازة. والثالث: ما لا يجوز الخروج إليه بشرط وبغير شرط, ومتى خرج إليه؛ بطل اعتكافه. وهو اشتراط ما لا قربة فيه؛ كالفرجة والنزهة والبيع في الأسواق. وكذا لو شرط أن يجامع متى شاء. قال بعض أصحابنا: وكذا إن شرط التجارة في المسجد أو التكسب بالصنعة فيه أو خارجاً منه. وأما المنصوص عن أحمد, والذي ذكره قدماء وأصحابه؛ فهو اشتراط عيادة المريض واتباع الجنازة. قال ابن عقيل: وزاد ابن حامد فقال: ولا بأس أن يشترط زيارة أهله لأنه لما كان له أن يشترط قطعه والخروج منه؛ كان له أن يشترط تحلل القربة له. قال: والجواب عما ذكره ابن حامد: أنه ليس إذا ملك أن يقطع

الاعتكاف, يملك أن يشترط شيئاً يبطل مثله الاعتكاف مع عدم الشرط؛ كما أنه يجوز أن يشترط يوماً ويوماً لا, ولا يملك أن يطأ في اليوم الذي لم ينذر اعتكافه, ومع هذا لا يملك أن يطأ. فأما اشتراط المباح؛ على ما ذكره القاضي: لا يجوز. وقال بعض أصحابنا: يجوز شرط ما يحتاج إليه؛ كالأكل والمبيت في المنزل؛ لأن الاعتكاف يجب بعقده, فكان الشرط إليه فيه كالوقف. ولأنه لا يختص بقدر, فإذا شرط الخروج؛ فكأنه نذر القدر الذي أقامه. أما الأكل؛ ففيه عن أحمد روايتان؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما المبيت؛ فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله؟ قال: إذا اشترط؛ فنعم. قيل له: وتجيز الشرط في الاعتكاف؟ قال: نعم. قلت له: فيبيت في أهله؟ قال: إذا كان تطوعاً؛ جاز. فأخذ بعض أصحابنا من هذا جواز شرط المبيت لجواز شرط الأكل, [و] ليس بجيد؛ فإن أحمد أجاز الأكل بالشرط مطلقاً, وأجاز المبيت في الأهل إذا كان متطوعاً, ولم يعلقه بشرط, فعلم أنه لا يجوز في النذر. وليس هذا لأجل الشرط, بل لأن التطوع له تركه متى شاء؛ فإذا بات في أهله؛ كأنه يعتكف النهار دون الليل. ولو نذر أن يعتكف عشرة أيام يبيت بالليل عند أهله؛ يكون قد نذر اعتكاف الأيام دون الليالي, فيكون اعتكاف كل يوم اعتكافاً جديداً يحتاج إلى نية مستأنفة. وإذا خرج بالليل؛ لم يكن معتكفاً, حتى لو جامع أهله فيه؛ كان له ذلك.

* فصل: فإن قال: علي أن أعتكف شهر رمضان إن لم أكن مريضا أو مسافرا

فأما جواز المبيت في أهله, مع كونه معتكفاً؛ فهذا إخراج للاعتكاف عن حقيقته. . . . * فصل: فإن قال: عليَّ أن أعتكف شهر رمضان إن لم أكن مريضاً أو مسافراً, أو أصوم شعبان إن لم أكن مريضاً أو مسافراً, أو أتصدق بكذا إن لم يحتج إليه؛ جاز؛ لأن النذر عقد من العقود, يصح تعليقه بشرط؛ فلأن يصح الاستثناء فيه والاشتراط أولى وأحرى. وإن قال: عليَّ أن أعتكف هذا الشهر على أني متى عرض لي ما يمنعني المقام خرجت؛ جاز ذلك؛ كما لو قال في الحج: إن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني, ويكون فائدة ذلك أنه لا يلزمه قضاء ولا كفارة. مسألة: ولا يباشر امرأة. والأصل في هذا قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: رقم 187]. فلا يحل له في المسجد ولا خارجاً منه إذا خرج خروجاً لا يقطع الاعتكاف أن يباشرها بوطء ولا لمس ولا قبلة لشهوة, بل ذلك حرام عليه. 873 - قال قتادة في قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي

الْمَسَاجِدِ}؛ قال: «كان الناس إذا اعتكفوا يخرج أحدهم فيباشر أهله, ثم يرجع إلى المسجد, فنهاهم الله تعالى عن ذلك». 874 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «إذا جامع المعتكف؛ بطل اعتكافه, واستأنف الاعتكاف». رواهما إسحاق بن راهوية. 875 - فأما إن مسها لغير شهوة, مثل أن يناولها حاجة أو تناوله؛ فلا بأس؛ لحديث عائشة. والوطء يبطل الاعتكاف بإجماع أهل العلم. ذكره ابن المنذر. لأنها عبادة حرم فيها الوطء فأبطلها كالصوم والإِحرام.

فأما المباشرة دون الفرج؛ كالقبلة واللمس؛ فإنها لا تبطله فيما ذ كره القاضي ومن بعده من أصحابنا؛ كما لا يبطل الإِحرام والصيام؛ إلا أن يقترن بها الإِنزال؛ فإن أنزل؛ فسد الاعتكاف كما يفسد الصيام بالإِنزال, وكذلك الحج في رواية, وفي الرواية الأخرى الحج آكد في اللزوم؛ فإنه لا يخرج منه بالإِفساد؛ بخلاف الاعتكاف؛ فإنه لو خرج من المسجد أو جامع؛ خرج من الاعتكاف, ولو أراد الخروج من تطوعه؛ كان له ذلك. ويبطل الاعتكاف بالوطء؛ سواء عامداً أو ناسياً أو عالماً أو جاهلاً عند أصحابنا, وهو ظاهر كلامه؛ كما قلنا في الإِحرام والصيام. ويتخرج. . . . وإن باشر ناسياً فأنزل؛ فقياس المذهب أن ما كان منه ملحقاً بالوطء يستوي فيه عمده وسهوه, وهو جميع المباشرة في رواية, أو الوطء دون الفرج في رواية. وما كان منه مفارقاً للجماع في وجوب الكفارة به في الصيام. وإن خرج من المسجد ناسياً؛ ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل اعتكافه. قاله القاضي في «المجرد»؛ لأن الاعتكاف منع من شيئين: المباشرة والخروج؛ كما منع الصوم والمباشرة والأكل, فلما كان أكل الصائم ناسياً لا يبطل صومه؛ بخلاف الجماع؛ فكذلك خروجه من المسجد, والجاهل بأنه محرم. . . . والثاني: يبطل اعتكافه. قاله القاضي في «خلافه» والشريف وأبو جعفر

* فصل: وإذا أبطل اعتكافا لزمه قضاؤه؛ فهل عليه كفارة؟

وأبو الخطاب وابن عقيل, حتى جعلوه أوكد من الجماع؛ لأن اللبث في المسجد من باب المأمور به, فيستوي في تركه العمد والخطأ؛ كترك أركان الصلاة وأركان الحج وواجباته؛ بخلاف الجماع؛ فإنه من المنهي عنه. وسواء في ذلك إن نسي المسجد أو نسي أنه معتكف (. . .). فإن أكره على الخروج؛ لم يبطل اعتكافه, سواء أكره بحق؛ مثل إحضاره مجلس الحكم, أو بباطل؛ بأن يحمل أو يكره على الخروج لمصادرة أو تسخير. فأما إن أمكنه الامتناع بأداء ما وجب عليه أو بغير ذلك, بأن يكون عليه حق, وهو قادر على وفائه, فيمتنع حتى يخرجه الخصم إلى مجلس الحكم؛ بطل اعتكافه. * فصل: وإذا أبطل اعتكافاً لزمه قضاؤه؛ فهل عليه كفارة؟ على روايتين: إحداهما: لا كفارة عليه. قال في رواية أبي داود: إذا جامع المعتكف؛ فلا كفارة عليه؛ لأنه لا نص في وجوب الكفارة ولا إجماع ولا قياس صحيح. لأنها إن قيست على الصيام؛ فالصوم لا تجب الكفارة بالوطء فيه إلا نهار رمضان خاصة, ولهذا تجب على من وجب عليه الإِمساك, وإن لم يكن صائماً, فكانت الكفارة لحرمة الزمان لا لحرمة جنس الصوم. وإن قيست على الحج؛ فالحج يلزم جنسه بالشروع, ثم الكفارة الواجبة فيه ليست من جنس كفارة الحج.

وأيضاً؛ فالحج والصيام عبادتان عظيمتان, يجب جنسهما بالشرع, ويدخل المال في جبرانهما؛ بخلاف الاعتكاف. ثم ليس إلحاقه بالحج والصيام بأولى من إلحاقه بالطواف والصلاة والطهارة؛ فإنه لو نذر أن يبقى يوماً متطهراً, ثم أفسد طهارته؛ م تجب عليه كفارة. . . . والرواية الثانية: عليه الكفارة, وهي اختيار القاضي وأصحابه. وحكى ابن أبي موسى وغيرهما هذه الرواية: أنه يلزمه كفارة الظهار, سواء وطئ ليلاً أو نهاراً, عامداً أو ساهياً. قال ابن أبي موسى: وهو مذهب الزهري. 876 - وذكر إسحاق عن الزهري في الرجل يقع على امرأته وهو معتكف؟ قال: «لم يبلغنا في ذلك شيء, ولكنا نرى أن يعتق رقبة, مثل الذي يقع على أهله في رمضان». 877 - وعن الحسن: «إذا واقعها وهو معتكف؛ يحرر محرراً». وذك لأنها عبادة مقصودة يحرم فيها الوطء ويفسدها, فوجب فيها كفارة

كالصيام والحج, ولا ينتقض بالطواف والصلاة؛ لأن الواطئ إنما يفسد الطهارة, وفساد الطهارة يفسد الصلاة والطواف. والطهارة ليست عبادة مقصودة لنفسها, أو يقال: عبادة لا تشترط لها الطهارة, ويحرم الوطء, فأشبه الصيام والحج. وهذا لأن العاكف قد منه نفسه من الخروج, كما منع الصائم نفسه عن الأكل والشرب والنكاح, ومنع المحرم نفسه عن اللباس والطيب والنكاح وغيرها. 878 - ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العاكف: «هو يعكف الذنوب». 879 - كما قال في الصوم: «الصوم جنة». ولهذا كره للصائم والعاكف والمحرم فضول القول والعمل منصوصاً في الكتاب والسنة, ولهذا قرن العكوف بالصيام: إما وجوباً, أو استحباباً مؤكداً, وجمع بينهما في آية واحدة, وقرن بالحج في قوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125]. ولفظ هذه الرواية فيما ذكره القاضي: قال في رواية حنبل: وذكر له قول ابن شهاب: «من أصاب في اعتكافه؛ فهو كهيئة المظاهر» , فقال أبو عبد الله: وإذا كان نهاراً أوجبت عليه الكفارة. وقال في موضع آخر في مسائل حنبل: إذا واقع المعتكف أهله؛ بطل اعتكافه, وكان عليه أيام مكان ما أفسده, ويستقبل ذلك, ولا كفارة عليه إذا كان الذي واقع ليلاً وليس هو واجباً فتجب عليه الكفارة.

ولأصحابنا في تفسير هذا الكلام ثلاثة طرق: أحدها: أن قوله: «لا كفارة عليه إذا كان ليلاً, ليس هو واجباً عليه فتجب عليه الكفارة»: دليل على أن الكفارة تجب في الواجب وإن كان ليلاً. وقوله في اللفظ الآخر: «وإذا كان نهاراً وجبت عليه الكفارة»: قصد به إذا كان الاعتكاف واجباً عليه أو لم يوجبه على نفسه ليلاً, فأما إذا وجب اعتكاف شهر متتابع أو أيام متتابعة؛ فإن الليل والنهار سواء في ذلك. هذا تفسير القاضي. الثانية: أنه في اللفظ أوجب كفارة الظهار بالوطء نهاراً فقط؛ لأنه يكون صائماً؛ فإن الصوم وجب في إحدى الروايتين, وهي رواية حنبل. ومؤكداً الاستحباب في الأخرى, فيكون قد أفسد الصوم والاعتكاف كالواطئ في رمضان يهتك حرمة الإِمساك وحرمة الزمان, ويكون الصوم المقرون به الاعتكاف كالصوم في نهار رمضان؛ بخلاف الواطئ ليلاً؛ فإنه لم يفسد إلا مجرد الاعتكاف. وفي اللفظ الثاني: أوجب الكفارة بالوطء ليلاً ونهاراً إذا كان واجباً. فتكون المسألة على ثلاث روايات: وهذه طريقة ابن عقيل في «خلافه» , ولم يذكر في الفصول إلا روايتين: إحداهما: وجوب الكفارة. والثانية: لا تجب إلا إذا كان واجباً بالنذر, وكان الوطء نهاراً. قال: ولعل الوطء في ليل المعتكف يوجب كفارة اليمين, فعلى هذا تكون الروايتان متفقة على أن النهار فيه كفارة الظهار, والليل فيه كفارة يمين. الثالثة: أن احمد إنما سئل عن المعتكف في رمضان, وعلى هذا خرج

كلامه؛ فإن وطئ نهاراً؛ وجبت عليه كفارة الظهار لأجل رمضان, وإذا وطئ ليلاً وليس هو واجباً عليه؛ فلا كفارة عليه, وإن كان واجباً؛ وجبت عليه كفارة ترك النذر. ويدل على أن هذا معنى كلامه قوله: «ولا كفارة عليه إذا كان الذي واقع ليلاً وليس هو واجباً»؛ فهذا دليل على ثبوته إذا كان نهاراً, وإذا كان ليلاً وهو واجب, ودليل على أنه إذا كان واجباً؛ وجبت الكفارة لوجوبه, وهذه كفارة اليمين. وكذلك قال أبو بكر. والرجل إذا جامع في اعتكافه؛ بطل اعتكافه, ويستقبل؛ فإن كان نذراً؛ كان عليه كفارة يمين والقضاء لما أفسد. وعلى هذه الطريقة فتكون المسألة رواية واحدة: أنه يجب عليه كفارة اليمين لترك النذر. وذكر القاضي أبو الحسين وغيره في الكفارة الواجبة بالوطء في الاعتكاف؛ هل هي كفارة يمين أو ظهار؟ على روايتين: إحداهما: أنها كفارة يمين. اختاره أبو بكر والقاضي في «الجامع الصغير». والثانية: أنها كفارة ظهار. اختاره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى في «خلافه». وهذا يقتضي أنه لا كفارة على الرواية الأخرى؛ لا كفارة جماع, ولا كفارة يمين. وهذا غلط على المذهب؛ فإن الاعتكاف إذا كان منذوراً معيناً وأفسده؛

* فصل: ويبطل الاعتكاف أيضا بالردة

لزمته كفارة ترك المنذور بغير خلاف في المذهب؛ كما يلزمه كفارة لو خرج من المسجد. وقول أحمد: «إذا جامع المعتكف؛ فلا كفارة عليه»؛ أي: لا كفارة عليه للجماع في الاعتكاف. وهذا إنما تجب عليه الكفارة لتفويت النذر؛ كالخروج من المسجد وأولى. نعم؛ مَنْ قال مِن أصحابنا عليه كفارة ظهار؛ فإنه يستغني بوجوبها عن كفارة اليمين, ومن لم يوجب عليه كفارة ظهار. . . وهو الذي يقتضيه كلام أحمد وقدماء أصحابه؛ فإنه لا بد في كفارة اليمين إذا كان النذر معيناً. وأما إذا كان مطلقاً؛ فهل تجب كفارة اليمين؟ وإذا باشر دون الفرج فأنزل؛ فقال ابن عقيل: يتخرج في إيجاب الكفارة وجهان, على الروايتين في الصوم؛ لأن الاعتكاف عبادة تحرم الوطء ودواعيه؛ هو كالصيام والإِحرام. * فصل: ويبطل الاعتكاف أيضاً بالردة؛ لأن الردة تبطل جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والإِحرام؛ فكذلك الاعتكاف؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادات. فإن عاد. . . .

* فصل: وإذا ترك الاعتكاف بالخروج من المعتكف

ويبطل أيضاً بالسكر؛ لأن السكران ممنوع من دخول المسجد؛ لقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: آية 43]. . . . فأما إن زال عقله بغير النوم من جنون أو إغماء. . . . * فصل: وإذا ترك الاعتكاف بالخروج من المعتكف: فإما أن يكون نذراً أو تطوعاً: أما النذر؛ فأربعة أقسام: أحدها: أن يكون نذراً معيناً, مثل أن يقول: لله عليَّ أن أعتكف هذا الشهر, أو هذا العشر, أو العشر الأواخر من رمضان. . . ونحو ذلك؛ ففيه روايتان, ويقال: وجهان مبنيان على روايتين منصوصتين في الصيام: أحدهما: يبطل ما مضى من اعتكافه, وعليه أن يبتدئ الاعتكاف, فيعتكف ما بقي من المدة, ويصله باعتكاف ما فوته منها؛ لأنه وجب عليه أن يعتكف تلك الأيام متتابعة, فإذا بطا الاعتكاف؛ قطع التتابع؛ فعليه أن يأتي به في القضاء متتابعاً؛ لأن القضاء يحكي الأداء, ووجب عليه أن يعتكف ما بقي من المدة لأجل التعيين, وهذا أولى من الصوم؛ لأن الصوم عبادات يتخللها [ما ينافيها, فإذا أفطر يوم؛ لم يلزم منه فطر يوم آخر؛ بخلاف] الاعتكاف؛ فإنه عبادة واحدة متواصلة, فإذا أبطل آخرها؛ بطل أولها؛ كالإِحرام وصوم اليوم الواحد والصلاة.

والرواية الثانية: لا يبطل ما مضى من اعتكافه, بل يبني عليه ويقضي ما تركه, وإن شاء قضاه متتابعاً, وإن شاء متفرقاً, وإن شاء وصله بالمدة المنذورة, وإن شاء فصله عنها؛ لأن التتابع إنما وجب تبعاً للتعيين في الوقت, فإذا فات التعيين؛ سقط التتابع لسقوطه؛ كمن أفطر يوماً من رمضان؛ فإنه يبني على ما صام منه, ويقضي يوماً مكان ما ترك, وعليه كفارة يمين لما فوته من التعيين في نذره رواية واحدة. القسم الثاني: أن ينذر اعتكاف الوقت المعين متتابعاً, بأن يقول: عليَّ أن أعتكف هذا العشر متتابعاً, فإذا ترك بعضه؛ كان عليه استئناف الاعتكاف, فيعتكف ما بقي, ويصله بالقضاء. الثالث: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً غير معين؛ مثل أن يقول: عليَّ أن أعتكف عشرة أيام متتابعة أو شهراً متتابعاً, فإذا ترك بعضه؛ كان عليه أن يستأنف الاعتكاف في أي وقت كان, ولا كفارة عليه. الرابع: أن ينذر اعتكافاً مطلقاً غير متتابع, مثل أن يقول: عليَّ اعتكاف عشرة أيام متفرقة, فإذا ترك اعتكاف بعضها؛ لم يبطل غير ذلك اليوم. . . . وأما إذا أبطله بالوطء والسكر ونحوهما: فقال ابن عقيل وكثير من متأخري أصحابنا: هو كما لو أبطله بالخروج من معتكفه. فإن كان مشروطاً فيه التتابع؛ فعليه الاستئناف؛ رواية واحدة؛ لفوات التتابع المشروط فيه, لا لفساد ما مضى منه. وإن لم يشترط فيه التتابع؛ فهل يبني أو يستأنف؟ على وجهين, مع

وجوب الكفارة فيهما. ولفظ ابن عقيل: هل يبطل ما مضى منه. على روايتين: إحداهما: يبطل. لأنها عبادة واحدة, فيبطل لما مضى منها بالوطء فيما بقي؛ كالطواف. والثانية: لا يبطل الماضي. لأنه عبادة بنفسه؛ بدليل أنه يصح أن يفرد بالنذر والنفل, وإن لم يكن معيناً؛ فعليه القضاء والاستئناف. وإن كان متتابعاً بغير كفارة. . . . والذي ذكره قدماء الأصحاب مثل الخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى وغيرهم أن عليه القضاء والاستئناف. وهذا هو المنصوص عنه. قال في رواية حنبل: إذا واقع المعتكف أهله؛ بطل اعتكافه, وكان عليه أيام مكان ما أفسده, ويستقبل ذلك, ولا كفارة عليه إذا كان الذي واقع ليلاً, وليس هو واجب فتجب عليه الكفارة. وكذلك قال أيضاً: إذا وطئ المعتكف؛ بطل اعتكافه, وعليه الاعتكاف من قابل. وهذا أجود؛ لأنه إذا نذر اعتكاف العشر, وجامع فيه؛ فإن الجماع يبطل اعتكافه, فيبطل ما مضى منه؛ لأن الاعتكاف المتتابع عبادة واحدة, فإذا طرأ عليها ما يبطلها؛ أبطل ما مضى منها؛ كالإِحرام والصيام. وأيضاً؛ فإن مدة الوطء قليلة؛ فلو قيل: إن ما قبله صحيح, وما يفعل بعده صحيح؛ لم يبق معنى قولنا: يبطل اعتكافه؛ إلا وجوب قضاء ذلك الزمن اليسير, وهذا لا يصح.

* فصل

وأيضاً. . . وكون ما قبل الوطء يصح إفراده بالنذر والفعل لا يلزم منه أن يكون عبادة إذا ضم إلى غيره؛ كما لو صلى أربع ركعات؛ فإنه إذا أحدث في آخر ركعة؛ بطل ما مضى, ولو خرج منه؛ لصح, وكذلك لو جامع المحرم في لحج بعد الطواف والسعي؛ بطل, وإن كان يصح إفراده ما مضى عمرة. وإفساد العبادة يخالف تركها, والخروج من المسجد ترك محض. * فصل: قال ابن أبي موسى: لو نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان, ثم أفسده؛ لزمه أن يقضيه من قابل في مثل وقته. وهذا أخذه من قول أحمد في رواية حنبل وابن منصور: إذا وقع المعتكف على امرأته؛ انتقض اعتكافه, وعليه الاعتكاف من قابل. وهذا لأن الاعتكاف هذه الأيام أفضل من غيرها. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصها بالاعتكاف, ويوقظ فيه أهله, ويحيي الليل, ويشد المئزر, وفيها ليلة القدر, فلا يقوم مقامها إلا ما أشبهها,, وهو العشرين العام القابل؛ كما قلنا فيما إذا [عين] مكاناً مخصوصاً بالسفر إليه مثل المسجد الحرام؛ لم يجزه الاعتكاف إلا فيه, ولو أفسد الاعتكاف الواجب فيه؛ لم يجزه قضاؤه إلا فيه. ولا يرد على هذا قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لاعتكافه في شوال؛ لأنه لم يكن واجباً

* فصل: فإن كان الاعتكاف الذي أفسده تطوعا

عليه, على أنه قد اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين, ولم يكن في الرمضان الذي كان مسافراً فيه, فلعله قضاه من ثانية. فإن قيل: فقد قلتم: إذا أفسد اعتكاف الأيام المعينة؛ لزم إتمام باقيها, إما بناء أو ابتداء؛ لأجل التعيين. قلنا: إذا كان ما بعدها مساوياً لها, فأما هنا؛ فإن العشر إلى العشر أقرب من شوال إلى العشر. وقال القاضي: إذا قلنا: يصح الاعتكاف بغير صوم, وفاته, فنذر اعتكاف شهر رمضان؛ لزمه اعتكاف شهر بلا صوم؛ فإن أراد أن يقضيه في رمضان آخر؛ أجزأه وكذلك إن قضاه في غير رمضان. وإن قلنا: لا يصح بغير صوم؛ لزمه قضاء شهر بصوم, فإن أراد أن يقضيه في رمضان آخر؛: فعلى وجهين: أحدهما: لا يجزيه؛ لأنه ما فاته؛ لزمه اعتكاف شهر بصوم, فلم يجعل صيام رمضان واقعاً عليه. والثاني: لا يجزيه؛ لأنه لم يلزمه بالنذر صيام, وإنما وجب ذلك عن رمضان, وهو ظاهر قوله في رواية حنبل: عليه أيام مكان ما أفسده, ويستقبل ذلك. وبمكن الجمع بين القولين بأن تحمل مسألة ابن أبي موسى على ما إذا نذر اعتكاف شهر مطلق, ومسألة القاضي على ما إذا نذر اعتكاف هذا العشر. * فصل: فإن كان الاعتكاف الذي أفسده تطوعاً؛ فلا قضاء فيه. ذكره الخرقي وابن أبي موسى والقاضي وعامة أصحابنا.

قال في رواية أبي داوود: المعتكف ببغداد إذا وقع فتنة يدع اعتكافه, وليس عليه شيء, إنما هو تطوع. . . . وقال أبو بكر: إذا جامع الرجل؛ بطل اعتكافه, ويستقبل, فإن كان نذراً؛ كان عليه كفارة يمين والقضاء لما أفسده. وظاهر هذا أن عليه أن يستقبل التطوع, ولا كفارة فيه. وهكذا نقل حنبل: إذا واقع المعتكف أهله؛ بطل اعتكافه, وكان عليه أيام مكان ما أفسده, ويستقبل ذلك, ولا كفارة عليه إذا كان الذي واقع ليلاً, ليس هو واجباً فتجب عليه الكفارة. فجعل عليه استقبال القضاء مطلقاً, وخص الكفارة بالواجب. وكذلك قوله في رواية حنبل وابن منصور: إذا واقع المعتكف امرأته؛ انتقض اعتكافه, وعليه الاعتكاف من قابل. وفي لفظ: والمعتكف يقع بأهله يبطل اعتكافه, وعليه الاعتكاف من قابل. ولم يفرق بين النذر والتطوع. وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أنه ليس له أن يخرج من الاعتكاف لغير عذر. والثاني: أنه ليس له أن يطأ مع نية الاعتكاف؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: آية 187].

مسألة: وأن يسأل عن المريض أو غيره في طريقه ولم يعرج عليه

مسألة: وأن يسأل عن المريض أو غيره في طريقه ولم يعرج عليه 880 - وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: «إن كنت لأدخل البيت للحاجة, والمريض فيه, فما أسأل عنه؛ إلا وأنا مارة». رواه مسلم. 881 - وقد تقدم أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. ولأن سؤاله عن المريض كلام فيه مصلحة وقربة ولا يحبسه عن اعتكافه, فجاز كغيره من الكلام المباح, ومثل هذا أن يأمر أهله بحاجة أو يسأل عما يعنيه, لكن لا يجلس عند المريض ولا يعرج إليه إذا لم يكن على طريقه. قال القاضي وابن عقيل: يسأل عنه مارّاً ولا يقيم للمسألة عنه؛ لأنه يقيم لغير حاجة, ولم يشترط ذلك في اعتكافه, وهذا على قولنا: لا يجوز للمعتكف أن يعود المريض بغير شرط. * فصل: في تفصيل الأسباب المبيحة للخروج وأحكامها. أحدها: الخروج لحاجة الإِنسان من البول والغائط, وهو في خروجه في حكم المعتكف؛ بحيث لا يقطع خروجه تتابع الاعتكاف المشروط فيه, بل يحسب له من أوقات الاعتكاف.

ولو جامع في مخرجه؛ بطل اعتكافه. ويستحب له أن يتحرى الاعتكاف في مسجد تكون المطهرة قريبة منه لئلا يطول زمن خروجه. قال في رواية المروذي: اعتكف في ذلك الجانب, وهو أصلح من أجل السقاية, ومن اعتكف في هذا الجانب؛ فلا بأس أن يخرج إلى الشط إذا كانت له حاجة, ولا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي؟ قال: المسجد الكبير. وأرخص لي أن أعتكف في غيره. قلت: فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب أو في هذا الجانب؟ قال: في ذاك الجانب هو أصلح. قلت: فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ؟ قال: إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك. قلت: يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال: لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. قال القاضي: [يكره] الطهارة في المسجد كما يكره غسل اليد؛ لأنه يتمضمض ويستنشق فربما تنخع فيه. وإذا خرج من المسجد, وله منزلان, أو هناك مطهرتان, إحداهما أقرب من الأخرى, وهو يمكنه الوضوء في الأقرب بلا مشقة؛ فليس له المضي إلى الأبعد. قاله أبو بكر. وإن كان هناك مطهرة أقرب من منزله يمكنه التنظف فيها؛ لم يكن له المضي إلى منزله. قاله القاضي وغيره. لأنه له من ذلك بدّاً.

وإن لم يمكنه التنظف فيها؛ فله المضي إلى منزله. وقال بعض أصحابنا: إن كان يحتشم من دخولها, أو فيه نقيصة عليه ومخالفة لعادته؛ فله المضي إلى منزله؛ لما فيه من المشقة عليه في ترك مروءته, هذا إذا كان منزله قريباً من معتكفه. فأما إن تفاحش بُعده؛ فقال القاضي: لا يمضي إليه؛ أنه خرج عن عادة المعتكفين, وليس عليه أن يشرع المشي, بل يمشي على عادته. وقد قال أحمد في رواية المروذي: يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه, ولا يؤويه إلا سقف المسجد, ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل. . . . فأما البول في المسجد؛ فلا يجوز, وإن بال في طست ونحوه. . . . وإن أراد أن يفصد أو يحتجم لحاجة؛ فله أن يخرج من المسجد كما يخرج لحاجة الإِنسان, ولا يجوز أن يفعل ذلك في المسجد لحاجة ولا لغيرها. قاله القاضي. كما لا يجوز له أن يبول في الطشت؛ لأن هواء المسجد تابع للمسجد في الحرمة, بدليل أنه لا يجوز له أن يترك في أرضه نجاسة, ولا يجوز أن يعلق في هوائه نجاسة, مثل ميتة يعلقها, أو قنديل فيه خمر أو دم. قال ابن عقيل: ويحتمل التجويز مع الضرورة؛ كما ورد في المستحاضة. فأما مع القدرة على الخروج؛ فلا. وهذا قول بعض أصحابنا: أنه إذا لم

يمكن التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف؛ ألحق بالمستحاضة. فعلى هذا يجوز لمن به سلس البول. . . . فإن كان في المسجد نهر جارٍ أو برك يفيض ماؤها إلى بلاليع ونجو ذلك؛ جاز غسل اليد, وإزالة الوسخ فيها. فأما الفصد والبول ونحو ذلك؛ فلا يجوز على ما ذكره أصحابنا. وإذا خرج لحاجة الإِنسان, فدخل في طريقه إلى مسجد آخر ليتم فيه بقية اعتكافه؛ جاز, فإن دخل فيه ليمكث فيه بعض مدة الاعتكاف ثم يعود. . . . وكذلك إن خرج من مسجد إلى مسجد آخر, وليس بينهما ما ليس بمسجد؛ لأنه لا يتعين للاعتكاف بقعة واحدة. وإن ذهب إلى مسجد هو أبعد منه عن بيته ومسجده الأول؛ بطل اعتكافه؛ لأنه مشى إليه لغير عذر, فأشبه ما لو خرج إليه ابتداء. وأما الوضوء؛ ففي كراهته في المسجد روايتان: فإن خرج من المسجد لتجديد الطهارة؛ بطل اعتكافه؛ لأن له منه بدّاً. وإن خرج للتوضي عن حدث؛ لم يبطل, سواء كان في وقت صلاة أو لم يكن؛ لأن به إليه حاجة, وهو من تمام سنن الاعتكاف, ولأن الوضوء لا بد منه, وإنما يتقدم وقته. وإن توضأ للشك في بقاء طهارته, أو خرج لغسل الجمعة؛ فقيل: لا يجوز ذلك. . . .

* فصل: وأما خروجه للجمعة

* فصل: وأما خروجه للجمعة. فقال القاضي: يكون خروجه بقدر ما يصلي [أربعاً قبل الجمعة وأربعاً بعدها] , ثم يوافي معتكفه, فيبني على ما مضى. وكذلك قال ابن عقيل: لا يستحب له الإِطالة, ولكنه يصلي الجمعة, وإن أحب أن يتنفل؛ تنفل بأربع, وعاد إلى معتكفه, ولا يزيد على ذلك. وقال ابن عقيل: يحصل أن يكون بضيق الوقت, وأفضل من البكور إلى الجمعة؛ لأنه إن كان نذراً؛ فهو واجب, والبكور ليس بواجب, وإن كان تطوعاً؛ فقد ترجح الاعتكاف بتقدمه على الجمعة. وقال أحمد في رواية أبي داوود: يركع بعد الجمعة في المسجد بقدر ما كان يركع. قيل له: فيتعجل إلى الجمعة؟ قال: أرجو. قال القاضي: وظاهر هذا جواز التقديم إلى الجمعة؛ لأنه بالتقديم هو في مسجد أيضاً. وقد قيل له في رواية حرب: وقيل: يتطوع في المسجد الجامع؟ قال: نعم؛ أرجو أن لا يضره. فقد نص أنه يصلي بعد الجمعة سنتها الراتبة. قدَّرها القاضي وابن عقيل بأربع, وقال أحمد: يركع كعادته. وأطلق التطوع في الرواية الأخرى. وعلى ما قالوه: الأفضل أن يعجل الرجوع إلى معتكفه, ويكره له المقام بعد السنة الراتبة.

* فصل: وإذا جوزنا له الخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة بغير شرط أو كان قد اشترطه؛ فإنه لا يزيد على المسنون

وقيل: يحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الرجوع وتأخيره؛ كما لو نوى إتمام الاعتكاف في الجامع؛ لأنه في مكان يصلح للاعتكاف, [وهذا ليس بشيء؛ لأن المكان إن صلح للاعتكاف] , فليس هو معتكفاً فيه حتى ينوي الاعتكاف فيه. ولو نوى الاعتكاف فيه؛ لم يجز له العود إلى معتكفه الأول لغير حاجة, فإذا كان من نيته العود إلى معتكفه؛ لم يكن بمقامه فيه معتكفاً, بل يكون مصلياً للجمعة, فلا يزيد على القدر المشروع, فإن زاد. . . . * فصل: وإذا جوزنا له الخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة بغير شرط أو كان قد اشترطه؛ فإنه لا يزيد على المسنون, وهو اتباعها من حين كان يخرج من دارها إلى أن يؤذن بالانصراف, وأن يجلس عند المريض, ما جرى به العرف, فإن لم يعلم حين خروجها؛ فهل ينتظرها. . . . * فصل: قال في رواية المروذي: يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه, ولا يؤويه إلا سقف المسجد, ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل, وذلك لما روي: 882 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: «لا يدخل المعتكف تحت سقف». ذكره ابن المنذر.

* فصل

883 - وعن إبراهيم؛ قال: «كانوا يحبون للمعتكف أن يشترط هذه الخصال, وهي له إن لم يشترط: عيادة المريض, ولا يدخل سقفاَ, ويأتي الجمعة, ويشهد الجنازة, ويخرج في الحاجة». وكان إبراهيم يقول: «لا يدخل المعتكف سقيفة إلا لحاجة أو سقف المسجد». ومعنى هذا انه لا يؤويه سقف مسكن. فأما في حال مروره في طريقه أو في حال دخوله إلى منزله إذا آواه الباب أو دخل الكنيف ونحو ذلك مما يحتاج إليه؛ فلا بأس به. وهذا لأن مقامه تحت السقف دخول إلى المساكن وإقامة فيها, وذلك يخالف حال المقيم في المسجد. 884 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحيض أن يقمن في رحبة المسجد؛ لئلا يقمن في مساكنهن. فعلى هذا الحائض. . . . * فصل: قال الخرقي وابن أبي موسى: ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإِنسان أو صلاة الجمعة.

* فصل: وأما الأكل

وقال غيرهما من أصحابنا: يخرج للاغتسال من الجنابة, لكن. . . . * فصل: وأما الأكل؛ فالمنصوص عن أحمد أن عليه أن يأكل في المسجد؛ إلا أن يشترط الأكل في أهله؛ ففيه روايتان منصوصتان: أحدهما: ليس له ذلك. قال حرب: قيل لأحمد: فيشترط للمعتكف الغداء والعشاء في منزله؟ فكره ذلك. وذلك لأنه شرط الخروج من المسجد لغير قربة, فلم يجز ذلك؛ كما لو شرط الخروج للجماع وللبيع والشراء أو النوم. والثانية: له ذلك. قال في رواية الأثرم: يشترط المعتكف أن يأكل في أهله. ويجوز الشرط في الاعتكاف؛ لأنه شرط للخروج لما هو محتاج إليه, فأشبه شرط الخروج لعيادة المريض أولى؛ لأنه ربما كان عليه كلفة في الأكل والشرب في منزله. وهذه الرواية. . . . فأما إن خرج من المعتكف لقضاء الحاجة ونحوها مما يجيز الخروج, فأكل عند أهله:

فقال ابن حامد: يأكل في بيته اللقمة واللقمتين مع أهله, فأما جميع أكله؛ فلا؛ لأن ذاك يسير, لا يعد به معرضاً عن الاعتكاف؛ لأن تناول اللقمة واللقمتين لا يمنعه المرور في طريقه, فأشبه مساءلته عن المريض في طريقه. وقال غيره: ليس له ذلك؛ لأنه لبث في غير معتكفه لما له منه بُد, فأشبه اللبث لمحادثة أهله. فأما إن أكل وهو مارٌّ؛ فلا بأس بذلك؛ لأنه لا احتباس فيه. وقال القاضي: يتوجه أن يقال: له أن يخرج للأكل في بيته؛ لأن الأكل في المسجد دناءة وسقوط مروءة, ولأنه قد يخفي جنس قوته عن الناس, ويكره أن يطلع, مثل الشعير والذرة. قال القاضي وابن عقيل: إذا خرج لحاجة, فأراد أن يقيم للأكل؛ فالحكم فيه وفي الخروج للأكل ابتداء واحد. قال شيخنا: يجوز أن يأكل اليسير في بيته؛ مثل اللقمة واللقمتين مع أهله, فأما جميع أكله؛ فلا. وهذا والله أعلم غلط على ابن حامد؛ فإنه يجوز الخروج ابتداء, وإنما يجوز الأكل اليسير إذا خرج لحاجة؛ كما يجوز السؤال عن المريض في طريقه. وقال أبو الخطاب: إذا خرج لما لا بد منه من الأكل والشرب وقضاء حاجة الإِنسان؛ لم يبطل اعتكافه, والصواب المنصوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإِنسان, وهذا يقتضي أنه كان يأكل في المسجد, ولأن الخروج من المسجد مناف للاعتكاف؛ فلا يباح منه إلى القدر الذي تدعو إليه الحاجة, ولا حاجة إلى الخروج للأكل والشرب.

* فصل: وأما إذا تعينت عليه شهادة أو أحضره سلطان

وإذا أراد أن يأكل في المسجد؛ وضع مائدة أو غيرها؛ لئلا يقع من طعامه فتات يلوث المسجد ويسقط فيه شيء من إدامه؛ كالدبس والعسل, والأولى أن يغسل يده في الطست ليصب الماء خارج المسجد لئلا يلوث, ولو خرج لغسل يده؛ بطل اعتكافه. قال القاضي. وقال ابن عقيل: إذا احتاج إلى غسل يده؛ خرج من المسجد كما يخرج للفصد والحجامة؛ لأن المسجد تجب صيانته من الأدران والأوساخ. فأما إذا احتاج إلى الخروج بأن لا يكون له من يشتري له الطعام فيحتاج أن يخرج ليشتريه. . . . وإن صنع له في داره طعام, ولم يكن له من يأتي به. . . . * فصل: وأما إذا تعينت عليه شهادة أو أحضره سلطان بحق؛ مثل أن يخرجه لإِقامة حد في زنى أو سرقة, أو بغير حق؛ مثل أن يخرجه لأخذ ماله؛ لم يبطل اعتكافه. وقد أباح الله تعالى إخراج المعتدة لإِقامة الحد عليها. فإن خرج مختاراً للأداء؛ بطل اعتكافه, سواء قد تعين عليه التحمل أو لم يتعين.

* فصل: وإذا حاضت المرأة أو نفست

* فصل: وإذا حاضت المرأة أو نفست؛ فإنه يجب أن تخرج من المسجد؛ لأن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض, لا سيما إن كانت قد نذرت الصوم في الاعتكاف, أو قلنا: لا يصح إلا بصوم؛ فإن الحيض لا يصح معه الصوم, ولأن الاعتكاف من جنس الصلاة والطواف, فنافاه الحيض. قال في رواية حنبل: والمعتكفة إذا حاضت؛ اعتزلت المسجد حتى تطهر؛ فإذا طهرت؛ قضت ما عليها من الاعتكاف والصوم ولا كفارة عليها. وكذلك قال أبو بكر: إذا حاضت؛ خرجت, فإذا طهرت؛ رجعت, فبنت على اعتكافها. قال القاضي: إذا خرجت من المسجد؛ كان لها المضي إلى منزلها لتقضي حيضها ثم تعود. نص عليه. وقال الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما: تضرب خباء في الرحبة. قال القاضي: وهذا على طريق الاختيار؛ لتكون بقرب المسجد. 885 - وذلك لما روى عبد الرزاق, ثنا الثوري, عن المقدام بن شريح, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «كن المعتكفات إذا حضن؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من المسجد, وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن». رواه المحاملي وابن بطة وغيرهما.

وظاهر كلام الخرقي الوجوب على ظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن بضرب الأخبية, ولأن رحبة المسجد فناؤه ومختصة به؛ فمقامها فيها ضرب من العكوف؛ بخلاف ذهابها إلى دارها؛ فإنه خروج عنه بالكلية من غير ضرورة, ولأن الخروج من المسجد إنما يباح للحاجة, والحكم المقيد بالحاجة مقدر بقدرها, وإنما يحتاج في الخروج إلى الرحبة خاصةً؛ ذهابها إلى منزلها لا حاجة إليه, ولهذا قالوا: إذا أمكن حاجة الإِنسان في مكان قريب من المسجد؛ لم يجز له أن يذهب إلى منزله. . . . فإن لم يكن للمسجد رحبة أو كانت رحبة لا يمكنها المقام فيها؛ جاز لها الذهاب إلى منزلها. وهل تدخل تحت السقوف؟ قال أصحابنا: لها ذلك. وإذا خرجت من المسجد؛ فهل هي في حكم المعتكفة بحيث تحرم عليها لو خرجت لحاجة الإِنسان ونحو ذلك مما يقصد زمانه. . . . والحيض لا يبطل ما مضى من الاعتكاف, سواء كان اعتكافها زماناً لا

يخلو من الحيض أو أمكن أن ينفك من الحيض, مثل أن تنذر اعتكاف خمسة عشر يوماً, أو لم يمكن؛ مثل أن تنذر اعتكاف شهر ونحو ذلك؛ فإذا طهرت؛ بنت على ما قبل الحيض, ولم تستأنف الاعتكاف, سواء كان الاعتكاف معيناً؛ مثل أن يقول: هذا العشر, أو مطلقاً؛ مثل أن يقول: عشرة أيام, ولا كفارة عليها إن كان منذوراً. نص عليه, وهو قول عامة الأصحاب. قال بعضهم: لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه خروج لأمر معتاد, فأشبه الخروج للجمعة والجنازة وحاجة الإِنسان. وطريقة بعض أصحابنا أنه إن كان معيناً؛ بنت, وعليها الكفارة في أحد الوجهين, وإن كان مطلقاً؛ فلها الخيار بين أن تبني وتكفر وبين أن تستأنف؛ إلحاقاً لخروج الحائض بخروج المعتدة والخروج لفتنة والنفير ونحو ذلك؛ لأنه خروج يطول زمانه, فأشبه الخروج للفتنة ونحو ذلك. ولا تحتسب بمدة الحيض من الاعتكاف على ما نص عليه في رواية حنبل, وهو قول عامة أصحابه أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه وغيرهم. بل إن كان نذراً معيناً أو مطلقاً؛ فعليها قضاء مدة الحيض, وإن لم يكن نذراً؛ لم يكن عليها قضاء, لكن لا يتم لها اعتكاف المدة التي نوتها إلا بالقضاء. وظاهر كلام الخرقي أنها إذا أقامت في الرحبة حسب لها من الاعتكاف كما يحسب [له من الاعتكاف خروجه للحاجة والجمعة, ويتوجه أن يحسب] مطلقاً, ويتوجه أن لا قضاء عليها.

وإن لم يحسب من الاعتكاف, لا سيما إن كانت المدة التي نذرتها مما لا تنفك عن الحيض؛ فإن مدة الحيض تقع مستثناة بالشرع والنية والنذر ووجه الأول: أنه زمن يطول. . . . فأما المستحاضة؛ فإنها تقيم في المسجد: 886 - لما تقدم عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: «اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة, فكانت ترى الحمرة والصفرة, وربما وضعت الطست وهي تصلي». رواه البخاري. ولأن أكثر ما في ذلك أنها محدثة, ولأنه يخرج منها نجاسة لا يمكن الاحتراز منها لا تلوث المسجد؛ فإن الواجب عليها أن تتحفظ من تلويث المسجد: إما بالتحفظ, أو وضع شيء تحتها. فإن لم تكن صيانة المسجد منها؛ خرجت منه؛ لأنه عذر, وكانت كالتي خرجت. . . . [ثم إن طالت مدته]. . .

* فصل: وإذا وجبت عليها عدة وفاة وهي معتكفة

* فصل: وإذا وجبت عليها عدة وفاة وهي معتكفة؛ فإنها تخرج لتعتد في منزلها, وإن كان الاعتكاف منذوراً؛ لأن قضاء العدة في منزلها أمر واجب, فخرجت من اعتكافها إليه؛ كخروج الرجل للجمعة, وخروجها لمجلس الحاكم, وأداء الشهادة, وذك لأن الاعتكاف وإن كان واجباً, لكن يقدم عليه قضاء العدة في منزل الزوج لوجوه: أحدها: أن هذه الأشياء وجبت بالشرع, فتقدمت على ما وجب بالنذر؛ لأن نذره لو جاز أن يتضمن إسقاط ما يجب بالشرع؛ لكان له أن يسقط إيجاب الشرع عن نفسه, وهذا لا يكون. الثاني: أن قضاء العدة في منزل الزوج يتعلق بها حق لله تعالى وحق للزوج؛ فيأخذ شبهاً من الجمعة ومن أداء الشهادة, فيكون أوكد مما ليس فيه إلا مجرد حق الله تعالى. الثالث: أن الاعتكاف يمكن استدراك ما فات منه بالقضاء؛ بخلاف المكث في منزلها؛ فإنها لا يقضى بعد انقضاء العدة. الرابع: أن الاعتكاف يجوز تركه للعذر, وهذا عذر من الأعذار. فأما عدة الطلاق الرجعي - إذا قلنا: هي كالمتوفى عنها على المنصوص -, وعدة الطلاق البائن - إذا قلنا بوجوبها في منزلها على رواية, أو اختار الزوج إسكانها في منزله في الرجعي والبائن -؛ فينبغي أنه إن كان الاعتكاف بإذنه. . . , وعليها قضاء ما تركه من الاعتكاف إن كان واجباً,

* فصل: وإذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه أو ماله أو أهله

ويستحب لها قضاؤه إن كان مستحبّاً بغير تردد؛ لأنها تركت الاعتكاف لأمر غير معتاد, وهو مما يطول زمانه. وظاهر ما ذكره القاضي في «خلافه»: أنه ليس عليها استئناف الاعتكاف؛ كما لو أخرجها السلطان إلى مسجد آخر, أو خرجت لصلاة الجمعة. ثم إن كان معيناً؛ فإنها تبني على ما مضى, وفي الكفارة وجهان حكاهما ابن أبي موسى, أحدهما: عليها الكفارة. قاله الخرقي. وإن كان مطلقاً؛ فقيل: لها الخيار بين أن تبني وتكفر وبين أن تستأنف الاعتكاف. وقال القاضي: إذا قال: لله عليَّ أن أعتكف شهراً متتابعاً. وخرج منه لعذر؛ لم يبطل اعتكافه, وإن خرج بغير عذر؛ بطل اعتكافه وابتدأ. والأعذار التي [لا] تبطل: إما فعل واجب, أو ما يخاف عليه فيه الضرر؛ كالخوف والمرض والكفارة على ما تقدم. * فصل: وإذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه أو ماله أو أهله الحاضر عنده أو الغائب؛ فله أن يخرج, سواء كان واجباً أو تطوعاً. قال أحمد في رواية أبي داوود: المعتكف ببغداد إذا وقعت فتنق؛ يدع اعتكافه, ويخرج, وليس عليه شيء, إنما هو تطوع, والمعتكف ينفر إذا سمع النفير.

وذلك لأن ما وجب بأصل الشرع من الجمعة والجماعة يجوز تركه بمثل هذا؛ فما وجب بالنذر أولى. ثم إن كان تطوعاً؛ فإن أحب أن يتمه, وإن أحب أن لا يتمه. وإن كان واجباً بالنذر معيناً؛ مثل: هذا الشهر؛ فإنه يبني على ما مضى, ويقضى ما تركه. وهل يجب في القضاء أن يكون متصلاً متتابعاً؟ أو يجوز أن يفرقه ويقطعه؟ على وجهين, وعليه كفارة يمين لفوات التعيين في المشهور عند أصحابنا. وذكر ابن عقي لان أحمد نص فيمن خرج لفتنة: يكفر كفارة يمين ويبني؛ لأن هذا قطع للاعتكاف بأمر غير معتاد, وهو لحظة. ومما يبد. . . . وإن كان مطلقاً غير متتابع, مثل عشرة أيام؛ فإنه يبني على ما فعل, لكن يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله؛ لأن التتابع في اليوم الواحد واجب. وإن كان مطلقاً متتابعاً؛ فله الخيار أن يستأنف ولا كفارة عليه, أو يبني على ما فعل وعليه الكفارة. هذا هو المشهور في المذهب. وروى. . . . ولو خاف انهدام المسجد عليه, أو انهدم بحيث لم يمكنه الاعتكاف؛ فإنه يخرج فيتمه في غيره, ولا يبطل اعتكافه, ولا كفارة عليه.

* فصل: وإذا تعين عليه الخروج للجهاد

ومثل هذا إذا مرض مرضاً لا يمكنه المقام منه في المسجد؛ كالقيام المتدارك وسلس البول والإِغماء, أو يمكنه القيام بمشقة شديدة, بأن يحتاج إلى خدمة وفراش؛ فله ترك الاعتكاف, ويكون كما لو تركه للخوف. وإن كان مرضاً خفيفاً؛ كالحمى الخفيفة ووجع الضرس والرأس؛ فهذا لا يخرج لأجله؛ فإن خرج؛ استأنف. [وإن] احتاج إلى ما يأكل, وليس له شيء, فاحتاج إلى اكتساب أو اتِّجار. . . . قال القاضي وابن عقيل: متى خرج خروجاً جائزاً لحق وجب عليه؛ كإقامة الشهادة أو العدة والنفير والحيض والجمعة والمرض الذي لا يمكن معه المقام؛ فلا كفارة عليه. وإن كان لغير واجب؛ كالخروج من فتنة أو لمرض يمكن معه المقام بغير مشقة؛ فعليه الكفارة؛ لأنه خرج لحظ نفسه. وتأول كلام الخرقي. * فصل: وإذا تعيَّن عليه الخروج للجهاد؛ بأن يحضر عدو يخافون كلبه, أو يستنفر الإِمام استنفاراً عامّاً؛ فإنه يخرج ويدع اعتكافه؛ كما قلنا في الخروج لقضاء العدة وأشد؛ لأن الجهاد من أعظم الواجبات, والتخلف عنه من أعظم المفاسد. ثم إذا قضى غزوه, وكان تطوعاً؛ فله الخيار بين أن يقضيه أو لا يقضيه,

والأفضل أن يقضيه. وإن كان نذراً؛ فعلى ما ذكرنا في الخروج لقضاء العدة: يبني إن كان معيناً, وفي الكفارة وجهان حكاهما ابن أبي موسى في العدة. أحدهما: يجب. قاله الخرقي وغيره. والثاني: لا يجب. قاله القاضي. وفرَّق بين الخروج الواجب كالنفير والعدة وبين الخروج. . . . وإن كان مطلقاً؛ فهو بالخيار بين أن يستأنف وبين أن يبني. . . . وإن لم يكن الجهاد متعيناً؛ فهل يجوز الخروج إليه؛ كصلاة الجنازة وعيادة المريض؟ وأولى. . . لم يجز له الخروج عند أصحابنا, مع أن الجهاد والرباط أفضل من الاعتكاف. وقال في رواية الأثرم: الخروج إلى عبادان أحب إليَّ من الاعتكاف, وليس يعدل الجهاد والرباط شيء. . . . فإذا كان الاعتكاف تطوعاً, فعرض [له] جنازة أو مريض يعاد ونحو ذلك؛ فقال بعض أصحابنا: إتمام اعتكافه أفضل: 887 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج على مريض. ولم يكن واجباً عليه, ولأن إتمام العبادة التي شرع فيها أفضل من إنشاء

* فصل: ويستحب لمن اعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان أن يبيت ليلة العيد في معتكف

عبادة أخرى؛ لأن إتمامها واجب عند بعض العلماء, ومؤكد الاستحباب عند بعضهم. 888 - وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصائم إذا دعي وكان صائماً أن يصلي, ولم يأمره بالأكل. * فصل: ويستحب لمن اعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان أن يبيت ليلة العيد في معتكفه ويخرج منه إلى المصلى في ثياب اعتكافه. قال في رواية الأثرم: يخرج من معتكفه إلى المصلى. وقال في رواية المروذي: لا يلبس ثيابه يوم العيد, ويشهد العيد في ثيابه التي اعتكف فيها. وذكر ذلك عن أبي قلابة. 889 - وذلك لما روي عن إبراهيم؛ قال: «كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن ينام ليلة الفطر في المسجد, ثم يغدو إلى المصلى من المسجد».

890 - وعن أيوب: «أن أبا قلابة اعتكف في مسجد قومه, فغدوت عليه غداة الفطر وهو في المسجد, فأتى بجويرية مزينة, فأقعدها في حجره, ثم أعتقها, ثم خرج كما هو من المسجد إلى المصلى». رواهما سعيد. 891 - 892 - وذكر القاضي عن ابن عمر والمطلب بن عبد الله بن حنطب وأبي قلابة مثل ذلك. وذلك لأن يوم العيد يوفى الناس أجر أعمالهم, وفي ليلة الفطر ينزل جوائز للصوام, والصوام. . . ,فاستحب له أن يصل اعتكافه بعيده؛ كما استحب للمحرم أن يصل إحرامه بعيده. انتهى المجلد الثاني وهو آخر كتاب الصيام ويليه كتاب الحج *******

§1/1