شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصلاة

ابن تيمية

والتوجه إليه أما على وجه المسألة وأما على وجه العبادة المحضة لأن دعاء الشيء هو طلبه وإرادته سواء طلب لذاته أو للأمر منه ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإنه فسر بالمسألة: (وبالعبادة وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} إلى قوله: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إلى قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أن أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} وقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض} وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} الآية إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّه أَوَِ

ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقوله تعالى: {قُلْ يَا أيها النَّاسُ أن كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} إلى قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّك} وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا إِنَاثاً وأن يَدْعُونَ إلا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ} فإن الدعاء في هذه المواضع يراد به نفس اتخاذ المدعو ربا وإلها بحيث يسأل ويعبد وقد فصل معنى الدعاء بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وفي قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ونحو ذلك من الآي فهو يعبد من حيث هو اله ويسأل من حيث هو رب وأن كان كل عابد سائلا وطالبا وكل سائل عابدا وقاصدا من جهة الالتزام فسميت العبادات لله المحضة مثل الصلاة والذكر والسؤال والركوع والسجود والطواف صلاة أو هي دعاء لله وعبادة لله بلا توسط شيء آخر ولهذا قال ابن مسعود ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وأن كنت في السوق ثم

غلب هذا الاسم على ما كان فيه فعل مثل القيام والسجود والطواف دون القول المحض كالقراءة والذكر والسؤال ولأن ذلك عبادة بجميع البدن ولهذا اشترطت له الطهارة وأن اشتركا في استحباب الطهارة ثم غلب على القيام والركوع والسجود مع أذكارها لأنها أخص بالتعبد من الطواف ولهذا حرم فيه الكلام والعمل الكثير وسمي السجود المفرد كسجود التلاوة والشكر والقيام المفرد كقيام الجنازة صلاة وأن كان اغلب الصلوات المشروعة هي مما اشتملت على القيام والقعود والركوع والسجود فإذا أطلق اسم الصلاة في الشرع لم يفهم منه إلا هذا وهي القيام والركوع والسجود لله بالأذكار المشروعة فيها ثم قال جماعة من أصحابنا منهم أبو الخطاب وابن عقيل هي منقولة في اللغة إلى الشرع ومعدول بها عن المفهوم الأول إلى مفهوم آخر. وقال القاضي وغيره ليست منقولة بل ضمت إليها الشريعة شروطا وقيودا وهي مبقاة على ما كانت عليه وكذلك القول في اسم الزكاة والصيام وغيرها من الأسماء الشرعية. وتحقيق ذلك أن تصرف الشرع فيها كتصرف أهل العرف في بعض الأسماء اللغوية أما تخصيصها ببعض معانيها كالدابة وأما تحويلها إلى ما بينه وبين المعنى الأول سبب كإسم الراوية والغائط والعذرة فالصلاة كانت اسما لكل دعاء فصاري إسما لدعاء مخصوص أو كانت اسما.

لدعاء فنقلت إلى الصلاة الشرعية لما بينها وبين الدعاء من المناسبة والأمر في ذلك متقارب نعم قد يسرف بعض من يقول هي منقولة فلا يشترط أن يكون بين المنقولة منه والمنقولهه إليه مناسبة بل يجعله وصفا ثانيا حتى كأنه ليس من المجاز اللغوي ويسرف من يقول هي منقولة حتى يعتقد أن مفهومها في الشرع هو محض الدعاء والمسألة: (فقط مما يكون في اللغة وما خرج عن ذلك من قيام وقعود وغير ذلك فهو شرط في الحكم بمعنى الصلاة التي هي الدعاء لا تجزئ إلا على هذا الوجه كما لا تجزئ إلا بتقدم الإيمان والطهارة ولا يجعل هذه الأفعال جزءا من المسمى ولا مفهومة من نفس الاسم وكلا القولين طرف وخيار الأمور أوسطها وبهذا التقرير قول من يقول هي منقولة اقرب إلى الصواب وكذلك أيضا بهذا التقرير أن معنى النقل تخصيصها ببعض معانيها وهي في ذلك أبلغ من تخصيص أهل العرف الاسم ببعض معانيه كالدابة والنجم لأن ذلك التخصيص كان معلوما بخلاف ما كان من خصائص الصوم والصلاة والزكاة فإنه لم يكن معروفا معناه ولا دلالة للفظ عليه وقد اتفقوا على أن الصلاة المشروعة بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم صارت في المفهوم من لفظ الصلاة في الكتاب والسنة ومن ادعى بعد ذلك أنها بعد ذلك تصرف إلى مجرد المعنى اللغوي فقد غلط. والصلاة واجبة في الجملة قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ونصوص القرآن التي فيها ذكر الصلاة كثيرة جدا. وكذلك السنة منها حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" متفق عليه. وأجمعت الأمة على أن الصلاة واجبة في الجملة وأنها أعظم مباني الإسلام الفعلية وهي عمود الدين وسنذكر أن شاء الله بعض خصائصها.

وجوب الصلاة وأدلة ذلك

وجوب الصلاة وأدلة ذلك مسألة: (روى عبادة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد أن شاء عذبه وأن شاء غفر له"). فالصلوات الخمس واجبة على كل مسلم بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء. أما عدد الصلوات المكتوبات وعدد ركعاتها في حق المقيم الآمن فهو من باب العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله والمبين عنه معاني خطابه وتأويل كلامه الشارع عن الله بإذنه وبما انزل إليه من الكتاب والحكمة. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مثل الحديث الذي ذكره الشيخ رحمه الله وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعن طلحة ابن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله اخبرني ماذا فرض الله علي من الصلوات قال: "الخمس إلا أن تطوع شيئا" فقال اخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام فقال: "شهر رمضان إلا أن تطوع" فقال: اخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة قال فاخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا انقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح أن صدق أو دخل الجنة أن صدق" متفق عليه.

وعن أنس بن مالك قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة اسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسا ثم نودي يا محمد أنه لا يبدل القول لدي وأن لك بهذه الخمس خمسين" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. ومعناه في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة وغيره مثل حديث معاذ بن جبل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" وحديث ضمام بن ثعلبة وهي واجبة على كل مسلم بالغ لأن هذه شروط التكليف بالشرائع على أي حال كان من صحة أو سقم أو خوف أو إقامة أو سفر والأدلة الدالة على وجوبها في هذه الأحوال عموما وخصوصا كما تذكر أن شاء الله تعالى. إلا الحائض والنفساء لما سبق في باب الحيض أن الحائض لم تكن تؤمر بقضاء الصلاة. فأما المستحاضة ومن به سلس البول فتجب عليهما ويجب عليهما قضاء ما تركاه منها كما تقدم.

فصل. فأما الكافر الأصلي فإنها تجب عليه في أشهر روايتين. بمعنى أنه يعاقب على تركها في الآخرة وفي الدنيا إذا شاء الله تعجيل عقوبته ويذم على ذلك في الدنيا والآخرة. فأما في حال كفره فلا تصح منه وإذا اسلم لم يجب عليه القضاء باتفاق لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وعن عمرو بن العاص قال: " لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يدك فلأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يميني فقال: "ما لك يا عمرو" فقلت: "أردت أن اشترط" فقال: تشترط ماذا قلت يغفر لي قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" رواه مسلم. وفي لفظ لأحمد: "الإسلام يجب ما قبله" وقوله: الإسلام يهدم ما قبله من ترك الواجبات وفعل المحرمات بخلاف الهجرة والحج فإنهما يهدمان ما فعل من إثم فما بين العبد وبين الله تعالى دون ما ترك من واجب يقضى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا ممن اسلم أن يقضي صلاة ولا

صوما ولا زكاة ولا يأخذه بضمان دم ولا مال ولا بشيء من الأشياء وهذا لأن الكافر كان منكرا للوجوب وللتحريم فكان الفعل والترك داخلا في ضمن هذا الاعتقاد الباطل وفرعا له فلما تاب من هذا الاعتقاد وموجبه غفر الله له الأصل وفروعه ودخلت هذه الفروع فيه في حال المغفرة كما دخلت فيه في حال المعصية بخلاف من تركه معتقدا للوجوب فإن الترك هناك غير مضاف إلى غيره بل إلى كسل فالتوبة منه بالنشاط إلى فعل ما ترك ولأن تخلل المسقط بين زمني الوجوب والقضاء لا يسقط الواجب كما لو ترك صلاة ثم حصل جنون أو حيض ثم حصل الغسل والطهارة فإنه يجب القضاء. ولا يخاطب الكافر بفعلها إلا بعد أن يسلم لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" رواه الجماعة.

وأما الكافر المرتد فالمشهور أنه يلزمه قضاء ما تركه قبل الردة من صلاة وزكاة وصوم ولا يلزمه قضاء ما تركه في زمن الردة وهذا هو المنصوص عنه في مواضع مفرقا بين ما تركه قبل الردة وبعدها. وحكي ابن شاقلا رواية أنه لا يلزمه شيء من ذلك بناء على أن الردة تحبط العمل لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالآيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ولأن الكفر الطارئ يهدم ما كان قبله من الصالحات كما أن الإيمان الطارئ يهدم ما كان قبله من السيئات والقضاء إنما يراد به جبر ما حصل به من الخلل في العمل فإذا حبط الجميع فلا معنى لجبره مع ظاهر قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

وعنه رواية أخرى أنه يلزمه قضاء الجميع أما قبل الردة فلوجوبه عليه وأما ما بعد الردة فلأنه التزم حكم الإسلام فلا يقبل منه الرجوع عنه كالمسلم إذا تركها عامدا ولهذا يضمن ما أتلفه في حال الردة من دية أو مال على المنصوص ولهذا لا يقر على دينه بغير جزية ولا فرق. فإذا لم يقر على الاعتقاد لم يقر على موجبه وهو الترك فيكون مطالبا بالفعل في الدنيا ولأن الدليل يقتضي وجوبها على كل حال وإنما عفي للكافر الأصلي عن القضاء لأن مدة الترك تطول غالبا وقد كان على دين يعتقد صحته ولم يعتقد بطلانه وهو مع ذلك مقر عليه يجوز أن يهادن ويؤمن وأن يسترق ويعقد له الجزية أن كان من أهل ذلك بخلاف المرتد. ووجه المشهور أن ما تركه قبل الردة قد وجب في ذمته واستقر فلا يسقط بعد ذلك بفعله لو كان مباحا فكيف يسقط بالمحرم ولأنه ترك صلاة يخاطب بفعلها ابتداء فخوطب بقضائها كالنائم والناسي وأولى ولأن تخلل المسقط بين زمن الوجوب والقضاء لا يسقط الواجب كما لو ترك الصلاة ثم حصل جنون أو حيض ثم حصل العقل والطهارة فإنه يجب القضاء. وأما حبوط عمله بالردة فقد منع ذلك بعض أصحابنا وقالوا الآيات فيمن مات على الردة بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} والإطلاق في الآيات البواقي لا يمنع ذلك لأن كل عقوبة مرتبة على كفر فإنها مشروطة

بالموت عليه. فإن قيل التقييد في هذه الآية بالموت على الكفر إنما كان لأنه مرتب علي شيئين وهو حبوط العمل والخلود في النار. والخلود إنما يستحقه الكافر وتلك الآيات إنما ذكر فيها الحبوط فقط فعلم أن مجرد الردة كافية. قلنا قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالآيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لا يكون إلا لمن مات مرتدا لأن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وهذا ليس لمن مات على عمل صالح لأنه إذا عاد إلى الإسلام فقد غفر له الارتداد الماضي لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا زال الذنب زالت عقوباته وموجباته وحبوط العمل من موجباته يبين هذا أنه لو كان فعل في حال الردة ما تقتضيه الردة من شتم أو سب أو شرك لم يقم عليه إذا اسلم ولأن الكافر الحربي لو تقرب إلى الله بأشياء ثم ختم له بالإسلام لكانت محسوبة له بدليل ما روى حكيم ابن حزام قال: "قلت: يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلاة وعتاقة وصلة هل فيها من اجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما سلف لك من خير" متفق عليه فإذا كان الكفر المقارن

للعمل لا يحبط إلا بشرط الموت عليه فإنه لا يحبط الكفر الطارئ إلا بشرط الموت أحرى وأولى لأن بقاء الشيء أولى من ابتدائه وحدوثه والدفع أسهل من الرفع ولهذا قالوا الردة والإحرام والعدة تمنع ابتداء النكاح دون دوامه كيف وتلك الأعمال حين عملت عملت لله سبحانه وقد غفر الله ما كان بعدها من الكفر بالتوبة منه. ومن أصحابنا من قال يحبط العمل مطلقا لكن قال الإحباط هو إحباط الثواب لا إبطال العمل في نفسه بدليل أنه لا ينقض ما قبل الردة من الأمور المشروطة بالإسلام كالحكم والولاية والإرث والإمامة والذبح فلا تبطل صلاة من صلى خلفهم ولا يحرم ما ذبحه قبل الردة ولا يلزم من بطلان ثوابه مما فعله سقوط الواجب الذي لم يفعله فإن الردة تناسب التشديد لا التخفيف. ثم نقول فعل المكتوبة له فائدتان إحداهما: أنه يقتضي الثواب. والثانية: أنه يمنع العقاب الواجب بتقدير الترك فإذا ارتد ذهبت فائدة واحدة وهي الثواب وبقيت الأخرى وهي منع العذاب على الترك بحيث لا يعذب من فعل ويحبط عمله على نفس ما فعله من الخير وإنما يعذب على الكفر المحبط كما يعذب من لم يفعل وهذا الخلل يتعين جبره وإلا عوقب على الترك وهذا معنى ما يجيء في كثير من الأعمال الواجبة أنها غير مقبولة أي لا ثواب فيها وأن أبرأت الذمة بحيث لولا الفعل لكان مكلفا ولولا السبب المانع من القبول لكان فيها ثواب ولهذا قلنا إذا أتى قبل الردة ما يوجب الحد من زنى أو سرقة وغيرهما فإنه يقام عليه الحد بعد الإسلام الثاني نص عليه بخلاف من أقيم عليه الحد قبل

الردة فإنه لا يقام عليه الحد ثانية فلو فرضنا أن لا فائدة أصلا فيما فعله قبل الردة فإنما ذلك فيما يفعله دون ما يوجب عليه ولم يفعله فإنه الآن قادر على فعله على وجه يبرئه فيجب عليه كما يجب عليه قضاء الحقوق التي كانت واجبة قبل الردة ويثاب على قضائها وأن كان قد بطلت فائدة ما قضاه قبل الردة. وأما ما قبل الإسلام فإنه لم يخاطب به ابتداء وإنما يخاطب أولا بالإسلام فلا يجب قضاؤه كالكافر الأصلي فإن الموجب للسقوط في أحدهما: موجود في الآخر وقد ارتد جماعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومكث منهم طائفة على الردة برهة من الدهر ولم ينقل أن أحدا منهم أمر بالقضاء ولأن الترك هنا كان في ضمن الاعتقاد فلما غفر له الاعتقاد غفر له ما في ضمنه ولأن إيجاب القضاء هنا قد يكون فيه تنفير عن الإسلام لا سيما إذا كثرت أعوام الردة وكانت الأموال كثيرة فإنه قد يعجز عن القضاء فيصر على الكفر فرارا من القضاء. فأما ما فعله قبل الردة فلا يجب عليه قضاؤه بحال لأن الذمة برئت منه حتى الحج في إحدى الروايتين. وعنه إيجاب قضاء الحج فمن أصحابنا من علل ذلك بأن العمل الماضي حبط بالردة فيجب عليه ما يجب على الكافر الأصلي فعلى هذا يجب إعادة ما صلى إذا اسلم ووقته باق وهذه طريقة ابن شاقلا وأبي الخطاب وغيرهما.

وقال القاضي والآمدي وأكثر أصحابه مثل الشريف أبي جعفر يجب إعادة الحج مع القول بأن العمل لم يحبط لأن هذا إسلام جديد والإسلام مبني على خمس فلا بد فيه من جميع المباني بخلاف ما تكرر وجوبه من الصلاة والزكاة والصوم ولأن الاحتساب له بذلك الحج لا يمنع أن يجب عليه حج ثان بالإسلام كالكافر الحربي لو حج ثم أسلم لزمه حج ثان مع أن ذلك الحج محسوب له وكذلك العبد والصبي لو حجا قبل الوجوب كتب لهما ثوابه ثم يلزمهما بالوجوب حج ثان. وإذا اسلم لزمه قضاء ما تركه بعد الإسلام وأن لم يعلم وجوبه. فصل. وأما المجنون فلا يجب عليه قضاء على ما في ظاهر المذهب نص عليه في رواية صالح وأبي داود وغيرهما. وقد روى حنبل عنه أن المجنون يقضي الصلاة والصيام إذا أفاق كالمغمى عليه. وحمله بعض أصحابنا على الجنون العارض دون المطبق لقرب شبهه بالإغماء.

وقال في رواية أنه يحتمل الحال كالمبرسم بعد الصلاة وأن طال ذلك شهرا أو أكثر. والأول هو المذهب لما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهذا الحديث ينفي القضاء والأداء لكن وجب القضاء على النائم لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فبقي المجنون على الإطلاق كالصبي. وأما من زال عقله بغير جنون فيجب عليه القضاء سواء كان السبب مباحا أو محرما من فعله أو من غير فعله كالسكران ببنج أو خمر والنائم والمغمى عليه لمرض أو شرب دواء أو غير ذلك. وقال القاضي أن كان الإغماء بشرب دواء مباح لم يجب القضاء لأنه

لو وجب القضاء لامتنع من شرب الدواء بخلاف إغماء المريض. والمباح هو ما تحصل معه السلامه في اغلب الأحوال وأن كان سما في أقوى الوجهين. وفي الآخر لا يجوز شرب السم بحال. والأول المذهب لأنها عبادة تسقط بالإغماء. وقيل أن كان عقله يزول بالدواء ويطول فهو كالمجنون وأن كان لا يدوم كثيرا فهو كالإغماء في الصيام وسائر العبادات. قال الإمام أحمد أغمى على عمار بن ياسر ثلاثا وروي نحو ذلك عن سمرة بن جندب وعمران بن حصين وهذا لأن هذه الأسباب هي بين محرم لا يعذر في شربه وبين مباح تقصر مدته غالبا فأشبه النوم ويفارق الجنون فإنه يطول غالبا وينافي أهلية التكليف ويوجب الولاية على صاحبه ولا يجوز على الأنبياء ولأن الإغماء والنوم ونحوهما يزيل الإحساس الظاهر والعقل الظاهر وإلا فيجوز أن يرى رؤيا ويوحي إليه في حال نومه وإغمائه ويكون زوال العقل تبعا لزوال حس الظاهر بخلاف المجنون فإن حسه وإدراكه باق والعقل زائل فهو في ذلك ليس كالنائم ولهذا النائم والمغمى عليه يندر منهما القول والعمل بخلاف المجنون.

فصل. وأما الصبي فلا تجب عليه في أشهر الروايتين. وعنه أنها تجب عليه إذا بلغ عشرا اختارها أبو بكر والتميمي لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع" رواه أحمد وأبو داود وعن سبرة الجهني قال قال رسول الله: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فقد أمر بالعقاب على تركها وما يعاقب على ترك شيء إلا الواجب لا سيما مع رأفة

النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته ولأنه يفهم الأمر ويقدر على الامتثال فوجب عليه كالبالغ وهذا لأن عمدة الوجوب إنما هي العقل الذي به يعلم والقدرة التي بها يفعل وكلاهما موجود ولأن العشر مظنة الاحتلام وأول سببه فجاز أن تقوم مقامه ويحمل حديث رفع القلم على ما يفعله من الذنوب لا على ما يتركه من الواجب ويؤيد هذا أن المأمورات تصح منه فجاز أن تجب عليه ولهذا صح منه الإسلام وهو يلزم لأحكام كثيرة في الدنيا والآخرة وأما المنهيات فإنها تقع منه باطلة إذا كانت تقبل البطلان فلا تحرم عليه ولهذا لا تصح تصرفاته بغير إذن من نكاح وبيع وهبة ويقع كفره وقذفه وزناه وسرقته غير موجب للحد والعقوبة ومن قال هذا صحح إسلامه دون ردته كإحدى الروايات وهذا لأن فعل البر أسهل من ترك الإثم ولهذا قال سهل بن عبد الله أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن الآثام إلا صديق ومن قال هذا التزم وجوب الصيام إذا أطاقه. فأما الحج فلا يجب عليه قبل الاحتلام قولا واحدا لقوله: "أيما صبي حج به أهله ثم احتلم فعليه حجة أخرى" وهذا يروى مرسلا وموقوفا عن

ابن عباس وكذلك لو بلغ بالسن أو الإنبات ولم يحتلم لم يجب عليه ولو حج بعد البلوغ بالسن ثم احتلم لزمه إعادة الحج في رواية منصوصة على ظاهر الحديث الوارد فيه ولأن السن والإنبات ليس هو حقيقة الإدراك لأن الله إنما علق الأحكام ببلوغ الحلم بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم" لكن لما كان بلوغ الحلم خفيا عن غير المحتلم وكان ذلك غالبا يكون مع بلوغ خمسة عشر وإنبات شعر العانة جعل مظنته علامة قائمة مقامه في الأحكام التي تتعلق بغير هذا البالغ من الحدود والقصاص والجهاد والحجر وغير ذلك إذ كانوا لا يطلقون على الحقيقة غالبا فأما ما بينه وبين الله فإنه يعلم وقت احتلامه ولأن هذه الأمور تتكرر قبل الاحتلام وبعده فجاز أن يجعل ما يقارب الاحتلام في حكمه احتياطا وعموما بخلاف الحج فإنه لا يتكرر ولأنه احرم لحجه قبل الاحتلام لكان قد فعل الحج قبل كمال قواه وبلوغ أشده ولذلك يعيده إذا بلغ. والرواية الأخرى اختيار أكثر أصحابنا حتى جعلها القاضي رواية واحدة وكذلك ابن بطة تأول الرواية الأولى لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع

القلم عن الصبي حتى يحتلم" وهذا يعم حكم الإثم الحاصل بفعل محرم أو ترك واجب كما شاركه في ذلك المجنون ولأنها عبادة بدنية فلم تجب قبل البلوغ كالحج والجهاد وهذا لأن الصبي في الأصل لما كان مظنة نقص العقل وضعف البنية جعل الشرع بلوغ الأشد حدا للتكليف لأن مظنة استكمال شرائطه غالبا ولأنها لو وجبت عليه لقتل بتركها كالبالغ ولكان الإمام هو الذي يقيم عليه الحد ولم يكتف بضربه ولم يفوض ذلك إلى الوالي وبهذا يعلم أن ضربه عليها ليتمرن عليها ويعتادها وقد يجب لمصالحه وأن لم تكن واجبة عليه كما تضرب البهيمة تأديبا لها ودواء وكما يضرب المجنون لذلك وكان ابن عباس يقيد عكرمة على حفظ القرآن والسنة وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم مم اضرب يتيمي قال مما كنت ضاربا منه ولدك وكما يضرب على الكذب وفعل المحرمات ليكف عنها ويعتاد تعظيم المحرمات وأن كان قلمه مرفوعا إجماعا. وعلى الروايتين فيؤمر بها إذا بلغ سبع سنين. قال أصحابنا: ويهدد على تركها ويضرب عليها إذا بلغ العشر كما في الحديث وذلك واجب على وليه وكافله نص عليه وكما تقدم في

الحديث فإن الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب وقد قال الله تعالى: {وأَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال علي عليه السلام علموهم وأدبوهم. وإهمال ذلك سبب مصيره إلى النار ولأن هذا من مصالحه فوجب مراعاته كما يجب حفظ ماله ومنعه من جميع الفواحش والمعاصي ويؤمر مع ذلك بالطهارة ونحوها مما يشترط للصلاة لأن الصلاة لا تصح بدونها. فإن بلغ في أثناء الوقت لزمته الصلاة وأن كان قد صلاها أو هو فيها لأنها حينئذ وجبت عليه وما تقدم كان نفلا فلم يمنع الإيجاب كما لو حج قبل البلوغ ثم بلغ. ولو بلغ في أثنائها ثم خرج الوقت لم تجب عليه لزوال وقت الوجوب هذا هو المذهب المنصوص حتى لو احتلم في أثناء الليل وقد صلى المغرب والعشاء أعادهما نص عليه. ولو قيل إنه صلاها مرة لم تجب عليه ثانية لكان وجيها لأن تعجيل الصلاة والزكاة قبل وجوبها إذا كان مشروعا منع الوجوب كما لو صلى الثانية من المجموعتين في وقت الأولى أو فعل الجمعة قبل

الزوال وكذلك لو عجل زكاة ماله قبل وجوبه والنفل قد يمنع وجوب الفرض كما لو صلى العيد أول النهار سقطت عنه الجمعة ولأن العادة الغالبة أن الصبيان يحتلمون بالليل ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يؤمرون بإعادة المغرب والعشاء.

مسألة: فمن جحد وجوبها بجهله

مسألة: (فمن جحد وجوبها بجهله عرف ذلك وأن جحدها عنادا كفر). هذا أصل مضطرد في مباني الإسلام الخمسة وفي الأحكام الظاهرة المجمع عليها من مكلف أن كان الجاحد لذلك معذورا مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو قد نشأ ببادية هي مظنة الجهل بذلك لم يكفر حتى يعرف أن هذا دين الإسلام لأن أحكام الكفر والتأديب لا تثبت إلا بعد بلوغ الرسالة لا سيما فيما لا يعلم بمجرد العقل قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} وقال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فالإنذار لمن بلغه القرآن بلفظه أو معناه فإذا بلغته الرسالة بواسطة أو بغير واسطة قامت عليه الحجة وانقطع عذره. فأما الناشئ بديار الإسلام ممن يعلم أنه قد بلغته هذه الأحكام فلا

يقبل قوله أي لم أعلم ذلك ويكون ممن جحد وجوبها بعد أن بلغه العلم في ذلك فيكون كافرا كفرا ينقل عن الملة سواء صلاها مع ذلك أو لم يصلها وسواء اعتقدها مستحبة أو لم يعتقد وسواء رآها واجبة على بعض الناس دون بعضا أو لا وسواء تأول في ذلك أو لم يتأول لأنه كذب الله ورسوله وكفر بما ثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث به ولهذا اجمع رأي عمر والصحابة في أن الذين شربوا الخمر مستحلين لها أنهم أن اقروا بالتحريم خلوا وأن أصروا على الاستحلال قتلوا وقالوا وكذلك من تأول تأويلا يخالف به جماهير المسلمين. وكذلك لو اقر أن الله أوجبها وصدق الرسول في الرسالة وامتنع من قبولها بالإيجاب وأبى أن يلتزمه وينقاد لله ورسوله فهو كإبليس فإنه لم ينكر الإيجاب وإنما استكبر عن القبول فإنه يكفر بذلك ويقال له كافر ولا يقال مكذب.

مسألة: ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعها أو مشتغل عنها بشرطها

مسألة: (ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعها أو مشتغل عنها بشرطها). أما فعلها في الوقت المضروب لها ففرض وتأخيرها عنه عمدا من الكبائر لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} والمحافظة عليها فعلها في الوقت لأن سبب نزول الآية تأخير الصلاة يوم الخندق دون تركها لأن السلف فسروها بذلك ولأن المحافظة خلاف الإهمال والإضاعة ومن أخرها عن وقتها فقد أهملها ولم يحافظ عليها. وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} وأضاعتها تأخيرها عن وقتها كذلك فسرها ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن محمد والضحاك وغيرهم من غير مخالف لهم قال ابن مسعود إضاعتها صلاتها لغير وقتها لأن الشيء الضائع ليس هو معدوما إنما هو مهمل غير محفوظ وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} والمشهور منها إضاعة الوقت كذلك فسر هذه المواضع جماهير الصحابة والتابعين وهو معقول من الكلام وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} وأمر سبحانه الخائف أن يصلي مع الإخلال بكثير من الأركان وكذلك المتيمم ونحوه ولو جاز التأخير لما احتاج ذلك إلى شيء من ذلك وسائر

الآيات الموجبة فعلها في الوقت المحدود مثل قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} دليل مفصل على ذلك وكذلك الأحاديث. عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر أنها ستكون عليكم أئمة يميتون الصلاة فإن ادركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" رواه أحمد ومسلم وعن أبي قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة إلى وقت الصلاة الأخرى" رواه مسلم والنصوص في ذلك كثيرة وهو مجمع عليه. وأما الذي يؤخرها ينوي جمعها إلى التي بعدها حيث يجوز ذلك فهذا في الحقيقة قد صلاها في وقتها وكذلك يصليها أداء لأن الوقت للصلاة هو الذي حده الله سبحانه لجواز فعلها وإنما استثناه الشيخ لسببين. أحدهما: أنه ليس هو الوقت المطلق وإنما هو وقت في حال العذر خاصة وقد لا يفهم هذا من مطلق الوقت. الثاني أن التأخير إليه لا يجوز إلا بنية العزم على الفعل فلو قصد تركها في الوقت ولم يقصد فعلها فيما بعد إثم بذلك. فأما تأخيرها عن أول الوقت إلى آخره فيجوز وهل يشترط له العزم

ليكون بدلا عن التعجيل فيه وجهان. أحدهما: يشترط قاله القاضي وابن عقيل وغيرهما لأن الصلاة تجب في أول الوقت وجوبا موسعا واعتقاد الوجوب واجب على الفور ومتى وجب الاعتقاد وجب العزم لأنه لو جاز التأخير من غير بدل عنه لبطل معنى الوجوب في اأول الوقت ولأن العزم على الترك حرام فإذا لم يكن ذاهلا أو ناسيا فلا بد من العزم على الفعل. والثاني: لا يشترط قاله أبو الخطاب وغيره وذكره القاضي في بعض المواضع لأن النصوص الدالة على جواز التأخير ليس فيها شرط العزم فاشتراطه تحكم ولان العزم لو كان بدلا عن الفعل فينبغي أن لا يجب الفعل وأن كان بدلا عن تعجيله فالتعجيل ليس بواجب ولان الإنسان إذا دخل وقت الصلاة فإن لم يعلم به بنوم أو غيره فلا إثم عليه اتفاقا وأن علم الوقت وعزم على الترك أثم اتفاقا لكن لنفس العزم على المعصية كما لو عزم على الترك قبل الوقت وأن لم يعزم على واحد منهما أو هم بالترك وحدث به نفسه فهذا مورد الوجهين أنه لا يجب تأثيمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لامته عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به" متفق عليه.

فصل. وإنما يجوز التأخير من أول الوقت إلى آخره إذا لم يغلب على ظنه الفوات بالتأخير فأما أن غلب على ظنه الفوات بالتأخير أو حدوث أمر يمنع منها أو من بعض فروضها قبل خروج الوقت كمرض يغلب على ظنه الموت أو من يقدم للقتل أو امرأة عادتها تحيض في أثناء الوقت أو غير ذلك أو أعير سترة في أول الوقت ولم يمهل إلى آخره أو متوضئ عادم للماء في السفر لا تبقى طهارته إلى آخر الوقت ولا يرجوا وجود الماء لم يجز له التأخير إلى الوقت الذي يغلب على ظنه فوت ذلك كالتأخير إليه لأنه يفضي إلى تفويت واجب فإنه إذا أخرها في هذه المواضع فمات مات عاصيا. وإن تخلف ظنه أثم وكانت الصلاة أداء لأنه تبين أن الوقت الشرعي باق والقضاء فعل العبادات بعد الوقت المحدود بالشرع فلهذا لو نام عنها أو نسيها حتى خرج الوقت صلاها قضاء وأن لم يجب عليه فعلها إلا في ذلك الوقت ولهذا فإن ما تقضيه الحائض ونحوها من الصوم يكون قضاء وأن لم يجب فعله إلا بعد خروج الوقت ومثل هذه الصورة العبادة الواجبة على الفور فإنها لو أخرت عن أول أوقات الإمكان كانت أداء وأن أثم بالتأخير إذ لم يوقت لها الشرع وقتا عاما ومما يكون أداء مع الإثم صلاة العصر بعد الإصفرار والعشاء في النصف الثاني من الليل.

ولو أخرها تأخيرا جائزا ومات قبل الفعل فقيل يموت عاصيا لأن التأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة. والمشهور أنه لا إثم عليه لأن اشتراط ما لا يعلم ولا دليل عليه غير جائز والتأخير هنا له حد ينتهي إليه بخلاف الواجب المطلق أن جوزنا تأخيره فإنا نؤثمه إذ ليس للتأخير حد مؤقت. وأما قوله أو مشتغل بشرطها فمثل أن يستيقظ فيخاف أن توضأ أو لبس ثوبه أو أن أزال عنه نجاسة طلعت الشمس فإن هذا يفعلها بشروطها وأركانها إذ لا يقدر على أكثر من ذلك وليس تضييعا ولا تفريطا إذ ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة. وكذلك الكافر إذا اسلم والمجنون إذا أفاق والحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وقد ضاق الوقت عنها وعن شرائطها فإنهم يشتغلون بشرطها وأن خرج الوقت لأنه حينئذ أمر بإقامة الصلاة وقد أمر الله بالوضوء عند القيام إلى الصلاة وهذا هو الوقت الذي وجب فعلها فيه وأن كان بعد خروج الوقت المحدد في الأمر العام وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها". ومسائل هذا الباب منقسمة إلى ما ترجح فيه الوقت والى ما ترجح فيه السبب أي الشرط كما يذكر مفصلا في موضعه بخلاف من ضاق الوقت عن تعلمه الفاتحة والتشهد فإنه يصلي بحسب حاله ولا يتعلم لأن

الأول قادر على نفس الشرط مشتغل بفعله وهذا عاجز عن الركن وإنما يشتغل بتعلمه وليس هو نفس الركن وأيضا فإن محل الشرط ما قبل الصلاة وحكمه مستدام إلى أخرها فإذا اشتغل به في وقته لم يكن آخر الصلاة والقراءة محلها في نفس الصلاة فإذا اشتغل بتعلمها فهو اشتغل في وقت خطابه بالصلاة. وإذا تعمد تأخير الصلاة حتى ضاق الوقت عن فعل شروطها وأركانها مثل أن تكون عليه نجاسة أو هو جنب وآخر الصلاة بحيث متى اشتغل بالطهارة خرج الوقت فعليه أن يشتغل بالطهارة أيضا وهو آثم بفعلها في غير الوقت لأنه كان يجب عليه الطهارة قبل ضيق الوقت والصلاة فيه فمتى أخر ذلك فعليه أن يفعله كما وجب عليه مع إثمه بالتأخير ولو آخر التيمم بالسفر وهو عادم للماء ثم وجده قبل خروج الوقت فهنا وجهان والفرق بينهما أنه كان قد وجب عليه الصلاة بتيمم ولم يرخص له في التأخير إلى أن يخرج الوقت فمتى صلى بالتيمم فقد فعل ما وجب عليه وقد تقدم هذا فأما أن عجز في الوقت عن بعض الشروط والأركان وعلم أنه يقدر عليه بعد خروج الوقت كعار يعلم أنه يجد الثياب بعد الوقت أو محدث يعلم أنه يجد الماء بعد الوقت أو خائف يعلم أنه يأمن بعد الوقت أو مريض يعلم أنه يصح بعد الوقت ونحوهم فإنه لا يجوز له التأخير بالنصوص الظاهرة في وجوب الصلاة في حال الخوف والمرض والعري والتيمم والى غير القبلة ولا فرق في هذا ولا بين من يشتغل تحصيل الشرط ويعلم أنه يحصله بعد الوقت أو من ينتظر حصوله بعد الوقت لأن

الشرط متى طال زمن حصوله سقط وكانت مصلحة الصلاة في الوقت مقدمة على مصلحة حصوله بخلاف ما زمنه قريب ولأن الشرط هنا معجوز عنه وإنما يريد أن يشتغل بتحصيل القدرة عليه وهذا غير واجب فلا يفوت بسببه واجبا وهو الصلاة في الوقت. مثل هذا لو دخل عليه الوقت والقبلة مشتبهة لا يعلم جهتها إلا بعد خروج الوقت فإنه ليس له الاشتغال بشرط يستغرق الوقت. وان كان الاجتهاد ممكنا لكن قد ضاق الوقت بحيث إذا اجتهد فات الوقت فإنه يصلي بالتقليد أيضا في أشهر الوجهين كما لو لم يكن عالما بالدليل والوقت ضاق على التعلم والاجتهاد ولأنه ليس مشتغلا بشرطها وإنما هو طالب للتعلم به فأشبه من طلب العلم بالدلالة. وفي الآخر عليه أن يجتهد مع ضيق الوقت كما على المفتي والحاكم أن يجتهدا مع ضيق الوقت وسعته.

مسألة: فإن تركها تهاونا أستتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل

مسألة: (فإن تركها تهاونا استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل) أما ترك الصلاة في الجملة فإنه يوجب القتل من غير خلاف لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأمر بالقتل مطلقا واستثنى منه ما إذا تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فمن لم يفعل ذلك بقي على العموم ولأنه علق تخلية السبيل على ثلاثة شروط والحكم المعلق بشرط ينعدم عند عدمه ولأن الحكم المعلق بسبب عرف أنه يدل على أن ذلك السبب علة له فإذا كان علة التخلية هذه الأشياء الثلاثة لم يجز أن تخلى سبيلهم دونها ولا يجوز أن يقال إقامة الصلاة هنا المراد له التزامها فإن تخليتهم بعد الالتزام وقبل الفعل واجبة لأنا نقول المراد به التزامها وفعلها لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حقيقة الفعل والالتزام إنما يراد له فإذا التزموا ذلك خليناهم تخلية مراعاة فإن وفوا بما التزموا وإلا أخذناهم وقتلناهم وإنما خليناهم بنفس الالتزام لأنه أول أسباب الفعل كما يخلى من أراد الوضوء والطهارة فإن أتم الفعل وإلا أخذ وحتى لو قيل فإن فعلوا الصلاة فخلوا سبيلهم وأن لم يفعلوها فاقتلوهم ثم قال ألتزم لم يجب تخلية

سبيلهم كما في آية الجزية فإنه مد قتالهم إلى حين الإعطاء فإذا التزموا الإعطاء فهو أول الأسباب بمنزلة الشروع في الفعل فإن حققوا ذلك وإلا قتلناهم ولأنه لو كان المراد مجرد الالتزام وأن عري عن الفعل لم يكن بين الصلاة والزكاة وغيرهما فرق إذ من لم يلتزم جميع الإسلام فإنه يقاتل وأيضا فإن الالتزام قد لا يحصل لقوله: {فَإِنْ تَابُوا} فإن التائب من الكفر لا يكون تائبا حتى يقر بجميع ما جاء به الرسول ويلتزمه ولأن الالتزام أن أريد به اعتقاد الوجوب والإقرار به فليس في اللفظ ما يدل على أنه المراد وحده وأن أريد به الفعل والوعد به فهذا لا يجب إلا إذا وجب قتلهم بالترك وإلا فلو كان قتلهم بالترك غير واجب وقالوا نحن نعتقد الوجوب ولا نفعل لحرم قتلهم وهذا خلاف الآية وأيضا مما هو دليل في المسألة وتفسير للآية ما أخرجاه في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وليس في لفظ مسلم إلا بحق الإسلام وعن أنس بن مالك قال: "لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل العرب فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" رواه النسائي فهذا يدل على أن

القتال مأمور به إلى أن يوجد فعل الصلاة والزكاة إذ لو كان مجرد الاعتقاد كافيا لاكتفى بشهادة أن محمدا رسول الله فإنها تنتظم بصدقه بجميع ما جاء به ولم يكن لتخصيص الصلاة والزكاة بالاعتقاد دون غيرهما معنى ثم قوله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم دليل على أن العصمة لا تثبت إلا بنفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الشهادتين ثم فهم أبو بكر رضي الله عنه منه حقيقة الإتباع بموافقة الصحابة له على ذلك حتى قال لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ولم يقل على جحدها وتعميمه من منعها جاحدا أو معترفا دليل على أن الفعل مراد. فإن قيل فقد روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" متفق عليه. قلنا هذا الخبر قد روي فيه::ح تى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم قد حرم دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله" رواه ابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه فهذا المقيد يقضي على ذلك المطلق ثم لو كان قد قيل مفردا فإن الصلاة والزكاة من حقها كما قال الصديق لعمر ووافقه عمر وسائر الصحابة على ذلك

ويكون صلى الله عليه وسلم قد قال كلا من الحديثين في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها وجب الكف عنه وصار دمه وماله معصوما ثم بين في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين ليعلم أن تمام العصمة وكمالها إنما تحصل بذلك ولئلا تقع الشبهة فإن مجرد الإقرار لا يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى طلاها الصديق ثم وافقه وتكون فائدة ذلك أنه إذا قال لا اله إلا الله كان قد شرع في العاصم لدمه فيجب الكف عنه فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أليس يشهد أن لا اله إلا الله قال الأنصاري بلى يا رسول الله ولا شهادة له فقال أليس يشهد أن محمدا رسول الله قال بلى ولا شهادة له قال أليس يصلي قال بلى ولا صلاة له قال أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" رواه الشافعي واحمد في مسنديهما ولو كانت الشهادتان موجبة للعصمة مع ترك الصلاة لم يسأل عنها ولم يسقها مع الشهادتين مساقا واحدا وقوله بعد ذلك: " أولئك الذين نهاني الله عن

قتلهم يوجب حصر الذين نهي عن قتلهم في هذا الصنف وعن أبي سعيد في حديث الخوارج فقال ذو الخويصرة التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك الست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله إلا اضرب عنقه فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم" رواه مسلم فلما نهى عن قتله وعلل ذلك باحتمال صلاته علم أن ذلك هو الذي حقن دمه لا مجرد الإقرار بالشهادتين فإنه قد قال يا رسول الله ومع هذا لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحده موجبا لحقن الدم وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقالوا يا رسول الله إلا نقاتلهم فقال لا ما صلوا" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ولأن الصلاة أحد مباني الإسلام الخمسة فيقتل تاركها كالشهادتين. وعلى هذه الطريقة يقتل تارك المباني الثلاثة. أما الزكاة فإذا غيب ماله ولم يقدر على أخذها منه. وأما الصيام فيقتل إذا امتنع منه.

وأما الحج فإذا عزم على الترك بالكلية أو قال لا أحج أبدا بعد وجوبه عليه أو آخره إلى عام يغلب على ظنه موته قبله وهو إحدى الروايتين. والرواية الأخرى لا يقتل بالحج لأن وجوبه على التراخي عند بعض العلماء ولا بالصيام لأنه يمكن استيفاؤه منه بأن يحبس في مكان ويمنع الأكل والشرب ولأن الآية والأحاديث إنما هي في الصلاة والزكاة ولأن الصلاة تشبه الشهادتين من حيث لا يدخلها الإنسان بنفس ولا مال.

فصل ولا يجوز قتله حتى يدعا إليها فيمتنع لأنه قد يتركها لعذر أو لشبهة عذر أو لكسل يزول قريبا ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها نافلة ولم يأمر بقتلهم ولا قتالهم حيث لا يصرون على الترك وأما التأخير فإذا دعي فامتنع من غير عذر في وقت تحقق على الترك. ويقتل بإصراره على ترك الصلاة واحدة في أشهر الروايتين. وعنه لا يقتل إلا بترك ثلاث لأن الموجب الترك عن إصرار وربما كان له عذر وكسل في الصلاة أو الصلاتين فإذا تكرر الترك بعد الدعاء إلى الفعل علم أنه إصرار وروى إسحاق بن شاقلا يقتل بترك الواحدة إلا إذا كانت أولى المجموعتين وهي الظهر أو المغرب فلا يقتل حتى يخرج وقت الثانية لأن وقتها وقت الأولى في حال الجمع فصار شبهة. وجه الأول ما تقدم من الأحاديث فإنها مطلقة وروى معاذ بن جبل

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله" رواه أحمد ولأنه إذا دعي إليها في الوقت فقال لا أصلي ولا عذر له فقد ظهر إصراره فيجب قتله زجرا له وحملا على الفعل إذ ليس في تقدير ذلك نص ولا إجماع ولا قياس صحيح واحتمال عوده يقتضي تأخير استيفاء القتل دون عصمة الدم كالمرتد. فصل. المنصوص عن أحمد أنه يقتل بترك صلاة واحدة أو بترك ثلاث صلوات. فمن أصحابنا من اقر ذلك على ظاهره فقال إذا دعي في وقت الأولى فلم يصلها حتى فاتت وجب قتله قال وإنما اعتبر أصحابنا أن يضيق وقت الثانية في موضع دعي إلى الصلاة بعد فوت الأولى وقد صارت فائتة ولا يقتل بترك الفائتة وإنما يقتل في تلك الصورة بترك الثانية وهذا ينتقض باعتبارهم ضيق وقت الرابع: ة مع أنهم ذكروا ذلك إذا دعي في وقت الأولى أيضا وعلى مقتضى هذا القول أنه إذا ضاق وقت الأولى وجب قتله. وقال بعضهم: بل يقتل بترك الأولى وأن كانت فائتة وكذلك يقتل بترك كل فائتة وقال كثير منهم بل لا بد أن يضيق وقت الثانية والرابعة

والقتل عندهم وجب بترك الثانية مع ترك الأولى لأننا نستدل على ترك الثانية بترك الأولى وبتحقق الترك لأن ترك الأولى لا يتحقق حتى يفوت الوقت فتصير فائتة فلا يقتل بها وحدها فإذا ضاق وقت الثانية تحقق الدوام على الترك وهذا كما قلنا في الوعيد أنه ليس بإكراه فإذا عذب ولم يفعل المكره عليه ثم توعد صار إكراها معصوما إلى العذاب الأول. وقد أشار أحمد إلى هذا فقال إذا ترك الفجر عامدا حتى وجبت عليه أخرى فلم يصلها يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وكذلك الأحكام لا يمكن تعلقها بالماضي فإنه فائت ولا بالمستقبل لأنه مظنون فلا تعلق به وإلا أفضى إلى تبطيلها وقد صرح بعض من سلك هذه الطريقة أنه لا بد أن يترك التي دعي في وقتها ويضيق وقت الثانية إلغاء لما تركها قبل الدعاء. ومنهم من أطلق الترك وهو ظاهر كلام أحمد وإذا دعي إليها فامتنع أن يصليها في الوقت وترك الصلاة بعد خروج الوقت قتل أيضا ذكره بعض أصحابنا وحكم بكفره على الترك. فصل. فإذا ترك صلاة عمدا ودعي في وقت الثانية ولم يفعلها حتى ضاق الوقت قتل فصارت ثلاثة أوجه إذا قلنا لا يقتل إلا بترك فائتة. والأشبه أنا إذا قلنا لا يقتل إلا بترك ثلاث لم يعتبر ضيق وقت الرابع: ة وأن قلنا يقتل بواحدة اعتبر ضيق وقت الثانية لأنه قال في إحدى

الروايتين إذا ترك صلاة وصلاتين ينتظر عليه لكن إذا ترك ثلاث صلوات. قال في الأخرى إذا ترك الفجر عامدا حتى وجبت عليه أخرى ولم يصلها يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وسواء كان الترك قبل دعائه أو بعد دعائه. لكن لا يباح إلا بعد دعائه وامتناعه إذا ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها ويدخل وقت غيرها. والثانية إذا ترك صلاتين. والثالثة إذا ترك ثلاث صلوات حتى تخرج أوقاتها.

مسألة: (ويستتاب بعد وجوب قتله كما يستتاب المرتد ثلاثا نص عليه). وهل الاستتابة واجبة أو مستحبة على روايتين. ويقتل بالسيف ضربا في عنقه لأن ذلك هو الواجب في قتل المقدور عليه من الآدميين والبهائم كالأسير وقاطع الطريق والمرتد فأما العجوز عنه منهما فيقتل كيف أمكن لأن هذه القتلة أهون على المقتول وأوحى لزهوق النفس. والأصل في ذلك ما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" رواه أحمد ومسلم وقال عليه السلام: "إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان" وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة ولهذا مواضع غير هذا.

فصل. ويقتل لكفره في إحدى الروايتين. وفي الأخرى يقتل كما يقتل الزاني والمحارب مع ثبوت إسلامه حدا محضا وهي اختيار ابن بطة وقال هذا هو المذهب وأنكر خلاف هذا لما روى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق ادخله الله الجنة على ما كان من العمل" وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ قال لبيك يا رسول الله وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا واخبر بها

معاذ عند موته تأثما" متفق عليهما ولما تقدم من حديث عبادة وقوله: "من لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد أن شاء عذبه وأن شاء غفر له" وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة وقال: "دعوت لأمتي وأوجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم تركوا الصلاة فقال أبو ذر يا رسول الله إلا ابشر الناس فقال بلى فانطلق فقال عمر انك أن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا عن العبادة فناداه أن ارجع فرجع والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وأن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} " رواه أحمد وهذا سياقه ورواه النسائي وابن ماجة ولأن الصلاة عمل من أعمال الجوارح فلم يكفر بتركه كسائر الأعمال المفروضة ولأن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل السنة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل بخلاف ما عليه الخوارج وإنما الكفر بالاعتقادات وقد روى أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا اله إلا الله لا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقاتل أمتي الدجال لا

يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار" رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد في روايه ابنه عبد الله وتارك الصلاة مع إقراره بالوجوب صحيح الاعتقاد فلا يكفر. والرواية الأولى اختيار أكثر الأصحاب مثل أبي بكر وابن شاقلا وابن حامد القاضي وأصحابه وهو المنقول عن جماهير السلف لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. فعلق الإخوة في الدين على التوبة من الشرك وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمعلق بالشرط ينعدم عند عدمه فمن لم يفعل ذلك فليس بأخ في الدين ومن ليس بأخ في الدين فهو كافر لأن المؤمنين إخوة مع قيام الكبائر بهم بدليل قوله في آية المقتتلين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مع أنه قد سمى قتال المؤمن كفرا ولما روى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وفي رواية لمسلم بين الرجل وبين الشرك ترك

الصلاة وفي رواية صحيحة لأحمد ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة وعن بريدة الاسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وهو على شرط مسلم وعن ثوبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" رواه هبة الله الطبري وقال إسناد صحيح على شرط مسلم وعن عبادة بن الصامت قال أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشركوا بالله شيئا ولا تتركوا الصلاة تعمدا فمن تركها تعمدا فقد خرج من الملة" رواه ابن أبي حاتم في سننه ونحوه من حديث معاذ وأبي الدرداء وقال الإمام أحمد في رسالته رسالته في الصلاة جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون منه

الصلاة" قال الإمام أحمد كل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" رواه الترمذي وصححه ومتى وقع عمود الفسطاط وقع جميعه ولم ينتفع به ولأن هذا إجماع الصحابة قال عمر رضي الله عنه لما قيل له وقد خرج إلى الصلاة نعم: "ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقصته في الصحيح" وفي رواية عنه: "قال لا إسلام لمن لم يصل" رواه النجاد وهذا قاله بمحضر من الصحابة وقال علي

عليه السلام: "من لم يصل فهو كافر" رواه البخاري في تاريخه وذكر ابن عبد البر مثله عن أبي الدرداء وابن عباس وجابر وقال عبد الله بن مسعود: "من ترك الصلاة فهو كافر" وفي رواية عنه في إضاعة الصلاة قال: "هو إضاعة مواقيتها ولو تركوها لكانوا كفارا" وقال أبو الدرداء: "لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له" رواهما البخاري وهبة الله الطبري وغيرهما ورأى حذيفة رجلا يصلي وهو لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال لما قضى صلاته: "ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري. وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال له طبيب حين وقع في عينه الماء استلق سبعة أيام لا تصل قال ابن عباس: "من ترك الصلاة كفر" رواه النجاد وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" رواه الترمذي وقال الحسن: بلغني

"إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون بين العبد وبين أن شرك فيكفر أن يترك الصلاة من غير عذر" رواه النجاد وهبة الله الطبري. فإن قيل هذا محمول على كفر دون كفر كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إنه كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" وفسره بالرياء وكما قال: "من صام يرائي فقد أشرك ومن صلى يرائي فقد أشرك" وكما قال: "الرياء هو الشرك الأصغر" وقال: "من حلف بشيء

دون الله فقد أشرك" رواه أحمد وكقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر". وقال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" متفق عليهن وقال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت" رواه

مسلم وقال: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر" وقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" رواهما أحمد وقال: "ثلاث من كن فيه كان منافقا من إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا اؤتمن خان" متفق عليه وفي رواية: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" وكما قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه" وكما خاف حنظلة الأسدي أن يكون نافق بنسيانه الذكر واختلاف حاله عند النبي صلى الله عليه وسلم وأهله والحديث في صحيح مسلم وهذا باب واسع متسع. وربما قال بعض الناس يحمل على كفر النعمة أو على المبالغة

والتغليظ في الشرك لأن الكفر الناقل عن الملة والشرك الذي لا يغفره الله والنفاق الموجب للدرك الأسفل من النار لا يثبت بمجرد هذه الأفعال عند أحد من أهل السنة لكن عند الخوارج والمعتزلة الذين تأولوا ظاهر هذا الكلام على وفق رأيهم واعرضوا عما سواه مما يفسره ويبين معناه الذي هو خلاف الإيمان. قيل الكفر المطلق لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الذي هو خلاف الإيمان لأن هذا هو المعنى الشرعي ولا سيما إذا قوبل بالإيمان فإنه يجب حمله على ذلك ثم لو صح هذا في بعض المواضع فهنا إنما أراد به الكفر المخالف للإيمان كما نص عليه في الحديث وكما سيأتي تفسيره أن شاء الله تعالى. وأما تأويله بكفر النعمة فساقط في جميع هذه المواضع ولذلك لم ينقل هذا عن السلف لأن كفر النعمة أن أريد به جحد إنعام الله عليه فهذا كفر صريح مع أن هذه المواضع ليس فيها ما يتضمن جحد الإنعام بخصوصه وأن أريد به التقصير في الشكر فليس بعض الأعمال بهذا أولى من بعض بل كل من ترك شيئا من الفرائض فقد قصر في شكر نعمة الله فينبغي أن يسمى كافرا على هذا الوجه ثم إنه لا مناسبة بين ذلك وبين أكثر هذه المواضع لمن تدبره من الدلالات الكثيرة في الكتاب والسنة. والإجماع على ثبوت أصل الإيمان مع وجود هذه الأعمال وربما حمله بعضهم على مقارنة الكفر لذلك ومن الناس من يحمل الترك عمن تركها جاحدا غير مقر بوجوبها ولا يستلزمها في الجملة ويكون تخصيصها بالذكر لعموم فرضها زمانا ومكانا وحالا ومحالا.

وأما قول من يقول هو على سبيل المبالغة والتغليظ فلعمري أي مبالغة أو تغليظ لكن على الوجه المحدود من غير مجازفة ولا مجاوزة ومن اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح عملا على سبيل الترغيب أو يذمه على سبيل الترهيب بمجاوزة في موضعه وزيادة في نعته فقد قال قولا عظيما بل قد كفر بالله ورسوله أن فهم مضمون كلامه وأصر عليه ولهذا لما نهت قريش عبد الله بن عمرو أن يكتب ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم توهما أنه قد يقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا قال اكتب والذي نفسي بيده ما خرج بينهما إلا حق كيف وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى نعم هو صلى الله عليه وسلم يرغب في الشيء بذكر أحسن صفاته من غير مجاوزة حده ويذم الفعل القبيح ببيان اقبح صفاته من غير مجاوزة أيضا إنما يجوز أن يظن المبالغة الزائدة عن الحد بسائر الناس الذين لا يحفظون منطقهم ولا يعصمون في كلامهم لا سيما الشعراء ونحوهم ولهذا زجر الإمام أحمد عن تأويل أحاديث الوعيد حيث تأولها المرجئة على أشياء يخرجها عن مقصود الرسول كما تأولت الجهمية والقدرية الأحاديث المخالفة لأهوائهم تأويلا يخرجها عن مقصوده. وأما حمله على مفر دون كفر فهذا حمل صحيح ومحمل مستقيم في الجملة في مثل هذا الكلام ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين في كثير من المواضع مفسرا لكن الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه:

أحدها: أن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه وليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره بل هنا ما تقرره على الظاهر. الثاني: أن ذلك الكفر منكر مبهم مثل قوله وقتاله كفر هما بهم كفر وقوله كفر بالله وشبه ذلك وهنا عرف باللام بقوله ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك والكفر المعروف ينصرف إلى الكفر المعروف وهو المخرج عن الملة. الثالث: أن في بعض الأحاديث فقد خرج عن الملة وفي بعضها بينه وبين الإيمان وفي بعضها بينه وبين الكفر وهذا كله يقتضي أن الصلاة حد تدخله إلى الإيمان أن فعله وتخرجه عنه أن تركه. الرابع: أن قوله ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة وقوله كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".

لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم لأن بينه وبين غير ذلك مما يسمى كفرا أشياء كثيرة ولا يقال فقد يخرج عن الملة بأشياء غير الصلاة لأنا نقول هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة وعلى العموم يوجب تركه الكفر وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة. الخامس: أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة وبيان مرتبتها على غيرها في الجملة ولو كان ذلك الكفر فسقا لشاركها في ذلك عامة الفرائض. السادس: أنه بين أنها آخر الدين فإذا ذهب آخره ذهب كله. السابع: أنه بين أن الصلاة هي العهد الذي بيننا وبين الكفار وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها واقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر كما أن من أتى به فقد دخل في الدين ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج عن الملة. الثامن: أن قول عمر لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة أصرح شيء في خروجه عن الملة وكذلك قول ابن مسعود وغيره مع أنه بين أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفر وإنما هو الترك بالكلية وهذا لا يكون إلا فيما يخرج عن الملة. التاسع: ما تقدم من حديث معاذ فإن فسطاطا على غير عمود لا يقوم كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة وفي هذه الوجوه يبطل قول من

حملها على من تركها جاحدا وأيضا قوله كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر وقوله ليس بين العبد وبين الكفر وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر ولأن المذكور هو الترك وهو عام في من تركها جحودا أو تكاسلا ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه. وأما الأحاديث المطلقة في الشهادتين فعنها أجوبة. أحدها: أن الزهري يقول كان هذا قبل أن تنزل الفرائض ثم نزلت فرائض نرى أن الأمر انتهى إليها فمن استطاع إلا يغتر فلا يغتر. الثاني: أنها مطلقة عامة وأحاديث الصلاة مقيدة خاصة فيقضي المطلق على المقيد وكما روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئا يصلي الخمس ويصوم رمضان غفر له قلت أبشرهم يا رسول الله قال دعهم يعملوا" ويحقق هذا أن من جحد آية من كتاب الله تعالى أو علما ظاهرا من أعلام الدين فهو كافر وأن اندرج في هذه العمومات. الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم قصد بيان الأمر الذي لا بد منه في جميع الأشياء

والذي قد يكتفي به عن غيره في جميع الخلق وهو الشهادتان فإن الصلاة قد لا تجب على الإنسان إذا اسلم ومات قبل الوقت وربما أخرها ينوي قضاءها ومات قبل ذلك. الرابع: أن هذا كله محمول على من يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها أو يحدث به نفسه كالأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت وكما فسره ابن مسعود وبين أن تأخيرها عن وقتها من الكبائر وأن تركها بالكلية كفر وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا فعلم أنهم لو تركوا الصلاة لقوتلوا والإمام لا يجوز قتاله حتى يكفر وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتاله ولو جاز قتاله بذلك لقوتل على تفويتها كما يقاتل على تركها وهذا دليل مستقل في المسألة ويحمل أيضا على من يخل ببعض فرائضها ببعض الأوقات وشبه ذلك فأما من لا يصلي قط في طول عمرة ولا يعزم على الصلاة ومات على غير توبة أو ختم له بذلك فهذا كافر قطعا وكذلك قوله من لم يحافظ عليها فإنه يفهم منه فعلها مع الإخلال بالمحافظة ومثل ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل من تطوع فأكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر

الأعمال المفروضة مثل ذلك" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وأيضا فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة واجمع عليه السلف وعلى ما هو مقرر في موضعه فالقول تصديق الرسول والعمل تصديق القول فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا والقول الذي يصير به مؤمن قول مخصوص وهو الشهادتان فكذلك العمل هو الصلاة. وأيضا ما احتج به ابن شاقلا ويذكر عن الإمام أحمد أن إبليس بامتناعه عن السجود لآدم قد لزمه الكفر واللعنة فكيف من يمتنع عن السجود لله تعالى وهذا لأن الكفر لو كان مجرد الجحد أو إظهار الجحد لما كان إبليس كافرا إذ هو خلاف نص القرآن. وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ومن لا دين له فهو كافر. فأما قياس الصلاة على غيرها من الأركان فقد ذكر أبو بكر عن أحمد أنه يصبح مرتدا بترك الأركان الخمسة. وعنه أنه بترك الصلاة والزكاة فقط. وعنه بترك الصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها.

وعنه بترك الصلاة فقط وبكل حال فالصلاة لها شأن انفردت به على سائر الأعمال وتبين ذلك من وجوه نذكر بعضها مما انتزعه الإمام أحمد وغيره. أحدها: أن الله سمى الصلاة إيمانا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصلاة تصدق عمله وقوله وتحصل طمأنينة القلب واستقراره إلى الحق ولا يصح أن يكون المراد به مجرد تصديقهم بفرض الصلاة لأن هذه الآية نزلت فيمن صلى إلى بيت المقدس ومات ولم يدرك الصلاة إلى الكعبة وول كان مجرد التصديق لشركهم في ذلك كل الناس وفي يوم القيامة فإنهم مصدقون بأن الصلاة إلى بيت المقدس إذ ذاك كانت حقا ولم يتأسفوا على تصديقهم بفرض معين لم يترك كما لم يتأسفوا على ترك تصديقهم بالحج وغيره من الفرائض ولم يكن اعتماد تصديقهم بالصلاة فقط أولى من تصديقهم بجميع ما جاء به الرسول هذا مع أنه خروج عما عليه أهل التفسير وعما يدل عليه كلام الباري لأن الله افتتح أعمال أعمال المفلحين بالصلاة فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وختمها بالصلاة فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وكذلك في قوله: {إِلاَّ

الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وهاتان الآيتان جمعتا خصال أهل الجنة وملاكها. الثاني أن الله تعالى قال لنبيه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} وتلاوة الكتاب اتباعه والعمل بما فيه من جميع شرائع الدين ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} فخصها بالذكر تمييزا لها فسبحانه خصها بالأمر بعد دخولها في عموم المأمور به وكذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} خصها بالذكر مع دخولها في جميع الخيرات وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وكذلك قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإن في طاعة الله ورسوله فعل جميع الفرائض وخص الصلاة والزكاة بالذكر وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} تعم جميع الطاعات وقد خصت الصلاة بذلك الأمر والاصطبار عليها وكذلك {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وكذلك قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

وَالصَّلاةِ} فإن الصبر وأن كان هو الحبس عن المكروهات فإن فيه فعل جميع العبادات وكذلك قوله: {قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} فإن الصلاة تعم العمل الصالح كله وأن خص بالصدقة وغيرها وكذلك قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فإن عبادة الله تعم جميع الأعمال الصالحة ثم خص الصلاة بالذكر وقوله لبني إسرائيل {وأوفوا بعهدي} ينتظم جميع الفرائض ثم قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. الثالث: أن كل عبادة من العبادات فإن الصلاة مقرونة بها فإن العبادة تعم جميع الطاعات وقد خصت الصلاة بذلك الأمر والاصطبار عليها فإذا ذكرت الزكاة قيل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإذا ذكرت المناسك قيل {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وأن ذكر الصوم قيل {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فإن الصبر المعدود في المثاني هو الصوم قال صلى الله عليه وسلم: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر".

الرابع: أن الله أمر نبيه أن يأمر أهله بالصلاة فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} مع أنه مأمور بالاصطبار على جميع العبادات لقوله: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} وبإنذارهم بجميع الأشياء لقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}. الخامس: أن الله فرضها ليلة الإسراء وأمر بها نبيه بلا توسط رسول ولا غيره. السادس: أنه أوجبها على كل حال ولم يعذر بها مريضا ولا خائفا ولا مسافرا ولا منكسرا به ولا غير ذلك بل وقع التخفيف تارة في شرائطها وتارة في عددها وتارة في أفعالها ولم تسقط مع ثبات العقل. السابع: أنه اشترط لها أكمل الأحوال من الطهارة والزينة باللباس والاستقبال مما لم يشترط في غيرها. الثامن: أنه استعمل فيها جميع أعضاء الإنسان من القلب واللسان وسائر الجوارح وليس ذلك بغيرها. التاسع: أنه نهى أن يشتغل فيها بغيرها حتى بالخطرة واللفظة والفكرة. العاشر: أنها أول ما يجب من الأعمال وآخر ما يسقط وجوبه. الحادي عشر: أنها دين الله الذي يدين به أهل السماوات والأرض وهي مفتاح شرائع الأنبياء كلهم فإن كل من دان لله من العقلاء فإن عليه

الصلاة ولم يبعث نبي إلا بالصلاة بخلاف الصوم والحج والزكاة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما اشترطوا إلا يحيوا" بمعنى لا يركعوا لا خير في دين لا تحية فيه. الثاني عشر: أنها مقرونة بالتصديق بقوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وأن أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} وخصائص الصلاة كثيرة جدا فكيف تقاس بغيرها. فصل. قال أصحابنا: يحكم بكفره في الوقت الذي يباح فيه دمه وهو ما إذا دعي فامتنع كما تقدم. قال الإمام أحمد: إذا قال لا أصلي فهو كافر نص على أنه لا يرث ولا يورث ويكون حكمه حكم المرتد في جميع أموره بحيث لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين إلا أنه لا يسقط عنه شيء من الصلوات وأن أسقطناها عن المرتد لأنه كفر بتركها فلو سقطت

عنه لزال سبب الكفر وإذا صلى بعد الامتناع عاد بذلك إلى الإسلام من الردة وصحت صلاته وأن كان الكافر الأصلي لا تصح صلاته قبل الشهادتين لأن هذا كفره بترك الفعل فإذا فعله عاد إلى الإسلام كما أن من كفره بترك الإقرار إذا أتى بالإقرار عاد إلى الإسلام. فإن قيل: فالمرتد غير هذا لا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين كيف ما كانت ردته قبل ذلك لأنه جاحد فلا بد أن يأتي بأصل كلمة الإقرار التي تتضمن جميع التصديق والاعتراف وهذا معترف فيكفيه الفعل. فأما إذا لم يدع ولم يمتنع فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدين في شيء من الأشياء ولهذا لم يعلم انم أحدا من تاركي الصلاة ترك غسله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا إهدار دمه بسبب ذلك مع كثرة تاركي الصلاة في كل عصر والأمة لا تجتمع على ضلالة وقد حمل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب. فإن قيل فالأدلة الدالة على التكفير عامة عموما مقصودا وأن حملتموها على هذه الصورة كما قيل قلت فائدتها وإدراك مقصودها الأعظم وليس في شيء منها هذه القيود. قلنا الكفر على قسمين قسم تنبني عليه أحكام الدنيا من تحريم المناكح والذبائح ومنع التوارث والعقل وحل الدم والمال وغير ذلك فهذا إنما يثبت إذا ظهر لنا كفره أما بقول الامتناع عن الصلاة وشبه يوجب التكفر أو عمل مثل السجود للصنم وإلى غير القبلة ذلك فهذا النوع لا نرتبه على تارك الصلاة حتى يتحقق امتناعه الذي هو الترك لجواز أن يكون قد نوى القضاء فيما بعد أو له عذر وشبه ذلك.

والثاني: ما يتعلق بأحكام الآخرة والانحياز عن أمة محمد واللحاق بأهل الكفر ونحو ذلك فهذا قد يجوز على كثير ممن يدعي الإسلام وهم المنافقون الذين أمرهم بالكتاب والسنة معلوم الذين قيل فيهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} إلى قوله: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية فمن لم يصل ولم ير أن يصلي قط ومات على ذلك من غير توبة فهذا تارك الصلاة مندرج في عموم الأحاديث وأن لم يظهر في الدنيا حكم كفره. ومن قال من أصحابنا لا يحكم بكفره إلا بعد الدعاء والامتناع فينبغي أن يحمل قوله على الكفر الظاهر فأما كفر المنافقين فلا يشترط له ذلك فإن أحمد وسائر أصحابنا لم يشترطوا لحقيقة الكفر هذا الشرط. فأما أن أخرها عن وقتها وفعلها فيما بعد فمات أو كان ممن يلزمه أن يفعلها فيما بعد فمات فهذا مع أنه فاسق من أهل الكبائر ليس بكافر كالأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي معهم النافلة ولذلك قال ابن مسعود {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أخروها حتى يخرج وقتها ولو تركوها لكانوا كفارا. وهذا الضرب كثير في المسلمين وهم من أهل الكبائر الذين ادخرت لهم

الشفاعة وما جاء من الرجاء لمن يتهاون في الصلاة فإليهم ينصرف ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد" ونفي المحافظة لا ينفي الفعل بخلاف من لم فإنه يكون تاركا بالكلية كما تقدم وكذلك من أخل بما يسوغ فيه الخلاف من شرائطها وأركانها. وأما من أخل بشيء من شرائطها وأركانها التي لا يسوغ فيها الخلاف فهذا بمنزلة التارك لها فيما ذكره أصحابنا كما تقدم من حديث حذيفة ولأن هذه الصلاة وجودها كعدمها في منع الاكتفاء بها فأشبه من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. فأما من يترك الصلاة بعض الأوقات لا يقضيها ولا ينوي قضاءها أو يخل ببعض فرائضها ولا يقضيها ولا ينوي قضاءها فمقتضى ما ذكره كثير من أصحابنا أنه يكفر بذلك فإن دعي إليها وامتنع حكم عليه بالكفر الظاهر وإلا لحقه حكم الكفر الباطن بذلك ثم إذا صلى الأخرى صار مؤمنا كما دل على ذلك قوله " من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله" وقوله " من ترك الصلاة عمدا فقد برئت منه الذمة" ولا يلزم ذلك أحكام الكفر في حقه كالمنافقين. والأشبه في مثل هذا أنه لا يكفر بالباطن أيضا حتى يعزم على تركها بالكلية كما لم يكفر في تأخيرها عن وقتها كما تقدم من الأحاديث ولأن الفرائض تجبر يوم القيامة بالنوافل ولأنه متى عزم على بعض الصلاة فقد أتى بما هو مجرد إيمان.

باب الأذان والإقامة

باب الآذان والإقامة. الآذان: مصدر أذن يؤذن تأذينا وإذانا وإيذانا وهو الإعلام الرفيع المدرك بالسمع ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} سمي بذلك لأن المؤذن يعلم الناس بمواقيت الصلاة ويسمى النداء من قولك ناديت فلانا إذا دعوته دعاء رفعت به الصوت لأن المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة. والإقامة أيضا تسمى الآذان الثاني والنداء الثاني وإنما سميت إقامة لأن إقامة الصلاة تفسر فعل الصلاة من قولهم قامت الحرب وقامت السوق لأن الشيء إذا أتي به تاما كاملا فهو قائم بخلاف ما لم يقم فإنه يكون ناقصا وأول ما يشرع في إقامة الصلاة إذا نودي النداء الثاني إذ الأول إعلام بالوقت والثاني: إعلام بالفعل.

مسألة: (وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها للرجال دون النساء). في هذا الكلام فصول. الأول: أن الآذان مشروع للصلوات الخمس بالكتاب وهو قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} الصلاة هنا هي الصلاة المعهودة وهي الخمس لأن الله سبحانه اخبر عن ندائهم إلى الصلاة لأنهم كانوا ينادون إلى الخمس وقد قال في الجمعة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وقوله سبحانه: {وَمَنْ أحسن قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} وفي السنة المتواترة أنه كان ينادى للصلوات الخمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع الأمة وعملها المتوارث خلفا عن سلف. وأول ما شرع الآذان عن رؤيا عبد الله بن زيد كما سنذكره أن شاء الله تعالى وقد رضي ذلك واقرهم حيث أنزل به كتابه وقال بعض العلماء كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فرضت عليه الصلوات الخمس قد أمر بالآذان في السماء وأذن بعض الملائكة ولم يظهره في مكة من أجل الكفار فلما احتاجوا إليه في المدينة وكان من رؤيا عبد الله بن زيد ما كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تأذين الملك فقال أنها لرؤيا حق أن شاء الله تعالى وروى النجاد بإسناده عن العلاء قال قلت لابن الحنفية كنا نحدث أن الآذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال عمدتهم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه

كان رؤيا هذا والله هو الباطل ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به انتهى إلى مكان في السماء توقف وبعث الله إليه ملكا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم علمه الآذان فقال الله أكبر قال الله صدق عبدي وأنا أكبر قال أشهد أن لا اله إلا الله قال صدق عبدي وأنا الله لا اله إلا أنا قال أشهد أن محمدا رسول الله قال صدق عبدي أنا أرسلته واخترته قال حي على الصلاة قال صدق عبدي دعا إلى فريضتي ومن أتاها محتسبا كانت كفارة لكل ذنب فلما قال حي على الفلاح قال صدق عبدي هي الفلاح وهي النجاح فلما قال قد قامت الصلاة قال صدق عبدي أنا أقمت حدودها وفريضتها قال فأم أهل السماء فتم له شرفه على جميع خلق الله وروي نحو ذلك من وجوه مسندة. والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بذلك وسنه وشرعه بأذن الله له أن يشرع ويسن ورؤيا صاحب النبي عليه السلام في زمانه إذا عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها كانت مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في أنها حق كما أن رؤيا الأنبياء وحي لأن الله سبحانه وتعالى يبين لنبيه الحق من الباطل بما يقذفه في قلبه من نوره.

الفصل الثاني. أنه لا يشرع الآذان والإقامة إلا للصلوات الخمس فلا تشرع لعيد ولا كسوف ولا استسقاء ولا غير ذلك فأما الجمعة فإنها أما ظهر ذلك اليوم أو بدل عن الظهر أو معينة عن الظهر فآذانها هو آذان الظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن على عهده إلا للصلوات الخمس وقد نقل الناس صلواته غير الخمس إنما كانت بغير آذان ولا إقامة وفي الصحيحين عن جابر وابن عباس: "أنه لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" وقال جابر بن سمرة: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد مرة أو مرتين بغير آذان ولا إقامة" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وكذلك نقلوا في غير العيد على ما يذكر في موضعه ولأن هذا الآذان صار شعار الصلوات الخمس المكتوبات والإعلام بمواقيتها والدعاء إليها فلا يشرع لغيرها ولأن هذا الدعاء إعلام بالوقت المحدود وهذا إنما هو للمكتوبات ولأنه نداء إلى الصلاة التي تجب الأجابة إليها على الأعيان وهذا يخص الخمس. فأما النداء بغير الآذان فالسنة أن ينادى لكسوف الشمس: "الصلاة

جامعة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا الصلاة جامعة فقام فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك" متفق عليهما. وكذلك العيد والاستسقاء عند أكثر متأخري أصحابنا لأنها صلاة ذات ركوع وسجود يشرع لها الاجتماع ولها وقت تنفرد به فأشبهت الكسوف وأولى لأن الاجتماع لها أكد وقد روى النجاد بإسناده عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى يوم عيد الصلاة جامعة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع أصحابه لأمر يخطبهم له بعث مناديا ينادي الصلاة جامعة كما في حديث الجساسة وكما أخبرهم عن الفتن في بعض أسفاره وغير ذلك. وقال بعضهم: لا يسن النداء للعيد ولا للاستسقاء وقد قال الإمام

أحمد: صلاة العيد ليس فيها آذان ولا إقامة هكذا السنة إذا جاء الإمام قام الناس وكبر الإمام وظاهره موافق لهذا القول لأنه قد تكرر تعييده وقد استسقى ولم ينقل عنه فيه نداء كما نقل عنه في الكسوف مع أن صلاة الكسوف كانت أقل ولو كان ذلك معلوما من فعله لنقل كما قد نقل غيره بالروايات المشهورة والقياس هنا فاسد الوضع والاعتبار لأنه موضوع في مقابلة النص وذاك أن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة وليست الزيادة على المسنون في المخالفة بدون نقص من المسنون وأما فساد الاعتبار فإن النداء في قوله الصلاة جامعة إنما كان ليجمع الناس ويعلمهم بأنه قد عرض أمر الكسوف فلا يلحق بهذا إذ لم يستعدوا للاجتماع له فأما العيد فيوم معلوم مجتمع له وكذلك الاستسقاء قد اعدوا له يوما فأغنى اجتماعهم له عن النداء ولم يبق للنداء فائدة إلا الإعلان بنفس الدخول في الصلاة وهذا يحصل بالتكبير والمشاهدة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث المنادي في الطرقات للكسوف الصلاة جامعة وفي العيد والاستسقاء لا يبعث مناديا ينادي في الطرقات وإنما ينادي عند اجتماعهم عند من يقول هي بمنزلة الإقامة للصلاة وهذا لا أصل له يقاس عليه لأن نداءه لصلاة الكسوف بمنزلة الآذان لا بمنزلة الإقامة. ولهذا لا يشرع النداء للجنازة لأن ذلك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إذ لو كان لنقل لكثرة وقوع الجنائز على عهده. وكذلك أيضا لا يشرع أن ينادي للتراويح بشيء في المنصوص عنه. وقيل له الرجل يقول بين التراويح الصلاة قال لا تقل الصلاة

كرهه سعيد بن جبير وأبو قلابة وكذلك قال كثير من أصحابنا. وقال القاضي والآمدي وغيرهما ينادى لها كذلك لأنها عبادة محضة أو ذات ركوع وسجود تسن لها الجماعة فيسن لها النداء كالكسوف. والأول أصح حيث لم ينقل ذلك عن السلف الصالح ولا هو في معنى المنقول لأن التراويح تفعل بعد العشاء تبعا فيكفيها نداء العشاء. فأما ما لا يشرع له الاجتماع فلا يشرع فيه النداء بلا تردد. الفصل الثالث:. أن النساء لا يشرع لهن آذان ولا إقامة سواء صلت المرأة منفردة أو أمت النساء لما روت أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس على النساء آذان ولا إقامة" رواه حرب في مسائله والنجاد وقال

المصنف مضت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النساء آذان ولا إقامة في حضر ولا سفر" وعن ابن عمر وابن عباس قالا ليس على النساء آذان ولا إقامة" رواهما حرب وعن أنس مثله ذكره أن المنذر ولأن التأذين إنما شرع في الأصل بصوت رفيع والمرأة ليست أهلا لرفع الصوت فإن ذلك عورة منها ولذلك لا ترفع صوتها بالتلبية ولأنه مشروع في الأصل لصلاة الجماعة وليس على النساء جماعة ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم ورقة أن تؤم أهل دارها جعل مؤذنا من الرجال. ولا بأس أن تؤذن نص عليه لما روى النجاد عن ابن عمر قال لا أنهى عن ذكر الله قال أصحابنا: هذا إذا لم ترفع صوتها فإن رفعته كره وينبغي أنه أن كان هناك من يسمع صوتها من الرجال والأجانب أن يحرم

وإلا فلا وهل تستحب لها الإقامة على روآيات اشهرها لا تستحب لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال المرأة لا تؤم ولا تؤذن ولا تنكح ولا تشهد النكاح ولان الإقامة في الجملة مظنة رفع الصوت فلم تستحب لها كالآذان ولأنه لم يرد به الشرع في المحل فلم تستحب كالزيادة على التلبية. والأخرى تستحب لما روي عن جابر أنه قيل له أتقيم المرأة قال نعم ذكره ابن المنذر ولأنه ذكر لله فاستحب لها كالتلبية ولان من السلف من يأمرها بالإقامة ويكره لها تركها ففي الإقامة خروج من الخلاف. والثالثة أنها تخير بين الفعل والترك قال أحمد إذا فعلت فإن شاءت اقتصرت على الإقامة وأن شاءت أذنت وأقامت قال إذا أذن وأقمن فلا بأس وأن لم يفعلن فجائز قال وسئل ابن عمر عن ذلك فغضب وقال أنا أنهي عن ذكر الله تعالى وقد روى النجاد عن

عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم ولان ذلك لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤمر به وهو ذكر الله تعالى فلا ينهى عنه كسائر الأذكار. فأما الآذان فلا يستحب لها بل الأفضل تركه في المشهور عنه وعنه أنها تخير بين فعله وتركه.

مسألة: (والآذان خمس عشرة جملة لا ترجيع فيه والإقامة إحدى عشرة).

مسألة: (وينبغي أن يكون المؤذن أمينا صيتا عالما بالأوقات ويستحب أن يؤذن قائما متطهرا على موضع عال مستقبل القبلة فإذا بلغ الحيعلة التفت يمينا وشمالا ولا يزيل قدميه ويجعل إصبعيه في أذنيه ويترسل في الآذان ويحدر الإقامة).

مسألة: (ويقول في آذان الصبح الصلاة خير من النوم مرتين بعد الحيعلة وذلك لما روي عن بلال قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أثوب إلا في الفجر" رواه أحمد ورواه ابن ماجة ولفظه: "أمرني أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء" والترمذي ولفظه: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم لا تثوبن في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر" وعن سعيد بن المسيب عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر فقيل له هو نائم فقال الصلاة خير من النوم مرتين فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك" رواه ابن ماجة وقد تقدم في آذان أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له فإن كان في صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا اله إلا الله" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني وعن

أنس بن مالك قال: "من السنة إذا قال المؤذن في صلاة الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا اله إلا الله" وفي رواية: "كان التثويب في صلاة الفجر إذا قال المؤذن حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" رواه سعيد وحرب وابن المنذر والدارقطني وقال عمر لمؤذنه: "إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" رواه الدارقطني ورواه الشافعي في القديم عن علي مثل ذلك ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك وهذا لأن الصبح مظنة نوم الناس في وقتها فاستحب زيادة ذلك فيها بخلاف سائر الصلوات وسواء أذن مغلسا أو مسفرا لأنه مظنة في الجملة. فأما التثويب في غيرها أو التثويب بين الندائين مثل أن يقول إذا

استبطأ الناس حي على الصلاة حي على الفلاح أو الصلاة خير من النوم في الفجر أو غيرها أو يقول الصلاة الإقامة أو الصلاة رحمكم الله عند الإقامة أو بين النداءين فمكروه سواء قصد ذلك نداء الأمراء أو نداء أهل السوق أو غير ذلك لما روي عن ابن عمر أنه: "نزل الكوفة في بعض الأحياء فنودي بالصبح في مسجد أولئك الحي فخرج إليهم ليصلي معهم فلما ثوبوا قال أليس قد نودي للصلاة قالوا بلى قال فما يقول هذا قالوا أن هذا شيء يصنعونه عند ضوء الصبح إذا أضاء لهم فقال أن هؤلاء قد ابتدعوا لا نصلي معهم فانصرف إلى منزله فصلى فيه" رواه سعيد وعن أبي العالية قال كنا مع ابن عمر في سفر ونزلنا بذي المجاز على ماء لبعض العرب فحضرت الصلاة فأذن مؤذن ابن عمر ثم أقام الصلاة فقام رجل فعلا على رحل من رحالات القوم ثم نادى بأعلى صوته الصلاة يا أهل الماء الصلاة فجعل ابن عمر يسبح في صلاته حتى إذا قضت الصلاة قال ابن عمر من الصائح بالصلاة قالوا أبو عامر يا أبا عبد الرحمن فقال له ابن عمر لا صليت ولا تليت أي شيطانك أمرك بهذا أما كان في الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والصالحين ما أغنى عن بدعتك هذه أن الناس لا يحدثون بدعة وأن رأوها حسنة إلا أماتوا سنة فقال رجل من القوم إنه ما أراد إلا خيرا يا أبا عبد الرحمن فقال ابن عمر لو أراد خيرا ما رغب بنفسه عن سنة نبيه والصالحين من عباده" رواه ابن بطة في جزء

صنفه في الرد على من صاح عند الآذان الصلاة الإقامة وعن مجاهد قال كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر فقال اخرج بنا فإن هذه بدعة" رواه أبو داود في سننه وعن مجاهد قال لما قدم عمر مكة فأذن أبو محذورة ثم أتى عمر فقال الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح قال عمر: "أما كان في دعائك الذي دعوتنا إليه أولا ما كفاك حتى تأتينا ببدعة تحدثها لنا" رواه سعيد وابن بطة وهذا كله إذا كانوا قد سمعوا النداء الأول فإن لم يكن الإمام أو البعيد من الجيران قد سمع النداء الأول فلا ينبغي أن يكره تنبيهه لما تقدم عن بلال " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذنه بصلاة الفجر بعد الآذان فقيل أنه نائم فقال الصلاة خير من النوم" قال ابن عقيل فإن تأخر الإمام الأعظم أو إمام الحي أو أماثل الجيران فلا بأس أن يمضي إليه منبه يقول له قد حضرت الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصده بلال ليؤذنه بالصلاة وهو مريض فقال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس وذكر احتمال أن نداء الأمراء ليس ببدعة

لأنه فعل على عهد معاوية ولعله اقتدى به في ذلك في حديث بلال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". فأما قصد الإمام لاستئذانه في الإقامة فلا بأس به لأن بلالا كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الإقامة لأن الإمام املك في الإقامة. فصل. ويكره أن يوصل الآذان بذكر قبله مثل قراءة بعض المؤذنين قبل الآذان {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية وقول بعض من يقيم الصلاة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ونحو ذلك لأن هذا محدث وكل بدعة ضلالة لا سيما وهو تغيير للشعار المشروع وكذلك أن وصله بذكر بعده.

مسألة: (ولا يؤذن قبل الوقت إلا لها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"). أما غير صلاة الفجر فلا يجوز ولا يجزى الآذان لها إلا بعد دخول الوقت فإن أذن قبله أعاد إذا دخل الوقت لأن المقصود بالآذان الإعلام بدخول الوقت ودعاء الناس إلى الصلاة وهذا لا يكون إلا في الوقت ولأن الآذان معتبر للصلاة فلا بد من حصوله في وقتها كسائر أسبابها من الشرائط والأركان فإن الشرط وأن جاز فعله قبل الوقت فلا بد من بقائه حكما إلى آخر الصلاة والآذان لا يبقى. ويستحب أن يكون الآذان في أول الوقت لما روي جابر بن سمرة قال: "كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يخرم ثم لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام حين يراه" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وأما الفجر فيجوز الآذان لها قبل وقتها لما روي ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" متفق عليهما وفي رواية للبخاري فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

: لا يمنعكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة وعن عبد الله ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم آذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي فقد نبه صلى الله عليه وسلم على حكمة تقديم الآذان في الفجر وذلك لأن آخر الليل مظنة نوم النائم وقيام القائم للصلاة فإذا أذن قبل الفجر استيقظ النائم وتأهب للصلاة بالتخلي والتطهر واللباس ليتمكن من الصلاة في أول الوقت ولذلك خصت بالتثويب فيها بخلاف سائر الصلوات فإن الناس عند النداء بها يكونون إيقاظا وأهبة للصلاة إذ ذاك فكانت خفيفة على أكثرهم وأما القائم فإنه يعلم دنو الفجر فيبادر الفجر بالوتر.

فصل. ويستحب الآذان قبل الفجر لما تقدم ويستحب أن يكون مؤذنان أحدهما: يؤذن قبل الفجر والآخر بعده كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وليحصل الإعلام بدخول الوقت فإن أذن المؤذن مرتين فقال الآمدي هو مستحب أيضا كالمؤذنين وأن أذن واحد جاز لما روى الحارث بن زياد الصدائي قال لما كان إذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فناديت فجعلت أقول أقيم أقيم يا رسول الله فجعل ينظر إلى ناحية المشرق فيقول لا حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه فتوضأ فأراد بلال أن يقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم قال فأمت" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. ويستحب أن يكون التأذين قريب الفجر ليحصل المقصود وهو إيقاظ النائم ورجع القائم فإنه لا يقصد قبل ذلك وفي الصحيحين "أنه لم يكن بين آذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا".

ويستحب أن يكون الآذان في وقت واحد لأنه إذا قدم تارة وآخر أخرى اضطرب على الناس أمر الوقت ولم ينتفع بآذانه بل قد يتضرر به فأشبه من عادته الآذان أول الوقت فأذن في أثنائه وعلى ذلك ما حمل بعض أصحابنا ما روى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: "إن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي إلا أن العبد نام فرجع فنادى إلا أن العبد نام" رواه أبو داود وقال الترمذي هو غير محظوظ وقال الدارقطني الصواب عن نافع عن ابن عمر أن مؤذنا لعمر أذن قبل الصبح فأمره أن يرجع فينادي وكذلك ما روى شداد مولى عياض بن عامر عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يديه عرضا" رواه أبو داود وقال هو منقطع لأن شدادا لم يدرك بلالا فإن صحا حملا على نوبة بلال فإنه كان تارة يؤذن قبل أبي محذورة وتارة بعده كذلك رواه أحمد والنسائي عن حبيب بن عبد الرحمن عن عمته وكانت حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم

يقول أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال". وروى أحمد عن عائشة قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وعمرو بن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذن عمرو فكلوا واشربوا فإنه رجل ضرير وإذا أذن بلال فارفعوا أيديكم فإن بلالا لا يؤذن حتى يصبح" قال ابن خزيمة أن الآذان كان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم فكان يتقدم بلال ويتأخر عمرو ويتقدم عمرو ويتأخر بلال. فأما في شهر رمضان فقد كره الإمام أحمد الآذان قبل طلوع الفجر قال لأنه يمنع الناس من السحور يعني إذا لم يكن مؤذنان كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا بأس به حينئذ والكراهة المطلقة من الإمام تحمل على التحريم أو التنزيه فيه وجهان. وذكر الآمدي في جواز الآذان في رمضان قبل الفجر روايتين. إحداهما: لا يجوز لما فيه من منع الناس من السحور المشروع

وتحريم ما أباح الله لهم. والثانية يجوز لأنه إذا علم أنه يؤذن قبل الوقت لم يقلد في ذلك. فصل. وليس عن أحمد نص في أول الوقت الذي يجوز فيه التأذين إلا أن أصحابنا قالوا يجوز بعد منتصف الليل كما تجوز الإفاضة من مزدلفة ورمي الجمرة والطواف وحلق الرأس بعد ذلك قالوا لأن النصف الثاني هو التابع لليوم الثاني بخلاف الأول ولأنه حينئذ يكون قد ذهب معظم الليل فيشبه ذهاب جميعه ولأن النصف الأول وقت للعشاء في حال الاختيار فلو جاز الآذان فيه لاشتبه على السامع الآذانان وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه أوله غروب الشمس وآخره طلوعها كما لو كان النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها لانقسام الزمان إلى ليل ونهار وأن كان في غير التنصيف يكون آخر الليل طلوع الفجر وهو أول النهار ولعل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في أحد الحديثين: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر" يعني الليل الذي ينتهي بطلوع

الفجر وفي الآخر حين يمضي نصف الليل يعني الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس فإنه إذا انتصف الليل الشمسي يكون قد بقي ثلث الليل الفجري تقريبا ولو قيل تحديد وقت إلى نصف الليل تارة وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب وأنه إذا مضى ثلث الليل الشمسي فقد قارب مضي نصف الليل الفجري لكان متوجها.

مسألة: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول") هذا الحديث أخرجه الجماعة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وارجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا اله إلا الله قال أشهد أن لا اله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا اله إلا الله من قلبه دخل الجنة" رواه أحمد ومسلم وأبو داود وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقامها الله وأدامها" وقال في سائر الإقامة بنحو حديث عمر في الآذان" رواه أبو داود وجاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص وابنه وأبي رافع ومعاوية وغيرهم وعن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قال من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه" رواه الجماعة إلا أحمد والبخاري.

وهذا الذكر مستحب استحبابا مؤكدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به واقل أحوال الأمر الاستحباب حتى إنه إذا سمعه لم يشتغل عنه بصلاة نافلة من تحية مسجد ولا سنة راتبة ولا غيرها بل إذا دخل المسجد وسمع المؤذن بدأ بأجابته قبل التحية نص عليه. ويستحب أن لا يقوم إذا أخذ المؤذن في الآذان لسبب آخر وهو أن الشيطان إذا سمع النداء أدبر وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ففي التحرك عند سماع النداء تشبه بالشيطان قال أحمد رحمه الله في الرجل يقوم فيتطوع إذا أذن المؤذن فقال لا يقوم أول ما يبدأ ويصبر قليلا وقال أيضا يستحب له أن يكون ركوعه بعدما يفرغ أو يقرب من الفراغ لأنه يقال أن الشيطان يدبر حين يسمع النداء وعلى هذا فيستحب لمن كان قاعدا أن لا يقوم عند سماع الآذان سواء أجابه في حال قيامه ومشية أم لم يجبه وأن سمعه وهو في قراءة أو دعاء قطع لأن أجابة المؤذن تفوت فإن كان في صلاة لم يقله لأن في الصلاة لشغلا ولهذا لا يستحب له أن يؤمن على دعاء غيره ولا أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وهو في الصلاة ويقوله إذا فرغ من الصلاة ذكره القاضي وكلام غيره يقتضي أنه لا يستحب لأنه سنة فات محلها فأشبه صلاة الكسوف بعد التجلي وتحية المسجد بعد الخروج منه ولأنه ذكر معلق بسبب فلم يشرع بعد انقضاء السبب كالذكر المشروع عند دخول المسجد والخروج منه والأكل والشرب والخلاء ودعاء الاستفتاح والاستعاذة وغير ذلك فإن قاله في الصلاة لم

تبطل لأنه ذكر لله إلا أن يقول حي على الصلاة حي على الفلاح فإنها تبطل لأنه خطاب لآدمي ولهذا كان المسنون أن يقول كما يقول المؤذن إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله كما جاء مفسرا في رواية عمر وغيره نص عليه. واستحب بعض أصحابنا أن يجمع بين ذلك وبين الحيعلة أخذا بظاهر القول " فقولوا مثل ما يقول" مع أمره بالحوقلة. والصحيح الأول لأن الروايات المفسرة من أمره وقوله تبين الرواية المطلقة ولأن كلمات الآذان كلها ذكر لله سبحانه فاستحب ذكر الله سبحانه عند ذلك. أما الحيعلة فإنها دعاء للناس إلى الصلاة وسامع المؤذن لا يدعو أحدا فلم يستحب أن يتكلم بما لا فائدة فيه لكن لما كان هو من جملة المدعوين شرع له أن يقول ما يستعين به على أداء ما دعي إليه وهو لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة وبها يقتدر الإنسان على كل فعل إذ معناها خالق الأعمال والقوي عليها فجمعت جميع الحركات والقدرة التي بها تكون الحركات في السماوات والأرض. وقيل لا حول عن معصية الله إلا بمعونة الله ولا قوة على طاعة الله إلا

بتوفيق الله والمعنى الأول أجمع وأشبه. قال بعض أصحابنا: ويقول إذا قال المؤذن الصلاة خير من النوم صدقت وبررت أو نحو هذا. وقد قال أحمد بن ملاعب سمعت أبا عبد الله ما لا أحصيه وكان يكون هو المؤذن فإذا قال الله أكبر الله أكبر قال قليلا الله أكبر الله أكبر إلى آخر الآذان قال أصحابنا: فيستحب للمؤذن أن يقول سرا مثل ما يقول علانية وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" كقوله: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين" وقوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وهذا لأنه ذكر يقتضي جوابا فاستحب له أن يجيب نفسه كما استحب لغيره أن يجيبه كالتأمين والتحميد ولأنه بذلك يجمع له بين اجرين بذكر الله سرا وعلانية ولأن السر ذكر محض بخلاف العلانية فإنه يقصد به الإعلام ولأنه يستحب أن يفصل بين كلمات الآذان فاستحب له أن يشغلها بذكر الله سبحانه. والاستحباب في حق غيره أوكد وبكل حال فهو مستحب حتى لو تركه أو اشتغل عنه بصلاة أو قراءة لم يكن عليه شيء نص عليه وقال أيضا إذا دخل المسجد والمؤذن يؤذن استحب له أن يقول مثل ما يقول

المؤذن وأن لم يقل وافتتح الصلاة فلا بأس وقال الآمدي يكره أن يشرع في النافلة إذا سمع التأذين. والمستحب أن يقول مثل ما يقول المؤذن كلمة كلمة فلا يسبقه بالقول كما في حديث عمر وغيره ولقوله عليه السلام: "إذا سمعتم المؤذن فقولو مثل ما يقول" ولأنه بذلك يحصل له اجر استماع الآذان وموافقة المؤذن. قال أصحابنا: ويستحب إذا سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول المؤذن لما تقدم فإذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قال أقامها الله وأدامها. فأما المنادي بالإقامة فلا يستحب له أن يقول سرا ما يقول علانية لأن الإقامة تحدر ولا يحصل بينها سكوت. وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم فيستحب له أن يجلس وأن لم يكن صلى تحية المسجد قال ابن منصور رأيت أبا عبد الله أحمد يخرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وبلال في الإقامة فقعد" رواه الخلال ورواه أبو حفص ولفظه: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن فجلس" ولأن القيام قبل الشروع في الصلاة غير مشروع وتحية المسجد قد سقطت بالإقامة فإنها إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت.

فصل. ويستحب أن يدعو إذا فرغ من الآذان والإقامة نص عليه وكان إذا أقيمت الصلاة رفع بكفيه وجعل يدعو لما روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا" رواه أبو داود وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا قال يا رسول الله أن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه" رواه أحمد وأبو داود وعن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة قالوا فما نقول يا رسول الله قال سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة" رواه أحمد والترمذي وأبو داود وهذا لفظه وعن أم سلمة قالت علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند

آذان المغرب: "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي" رواه أبو داود. وينبغي أن يقدم إمام الدعاء لنفسه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ينبغي أن يقرن ذلك بأجابة المؤذن وأن لم يدع لنفسه كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو ولما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة" رواه الجماعة إلا مسلما زاد بعض أصحابنا واسقنا بكأسه من حوضه مشربا هنيئا سائغا رويا غير خزايا ولا ناكثين برحمتك. فصل. السنة أن يقيم من أذن لما روى زياد بن الحارث الصدائي قال: "كنت

مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني فأذنت فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم" رواه الخمسة إلا النسائي ولولا أن السنة أن يتولاهما رجل واحد لم يمنع المؤذن الراتب من حقه وهو الإقامة لما حضر وعن عبد العزيز بن رفيع قال رأيت أبا محذورة جاء وقد أذن أنسان قبله فأذن ثم أقام" رواه أبو حفص واحتج به أحمد ولولا أن ذلك سنة عندهم لاكتفى بتأذين الرجل ولأن ذلك اقرب إلى أن يعلم الناس أن الثاني إقامة وليس بإذان آخر ولأنهما فصلان من الذكر يتقدمان الصلاة فكانت السنة أن يتولاهما واحد كالخطبتين. فان أذن غير المؤذن الراتب فأما أن يقيم من أذن كما فعل زياد أو يعيد الراتب الآذان كما صنع أبو محذورة. فان أقام غير من أذن كره نص عليه وأجزأ لأن المقصود قد حصل. ولو تناوب اثنان على إذان واحد فقال هذا كلمة وهذا كلمة أو بنى الرجل على آذان غيره لم يجز لعذر ولا لغيره بل لا بد من آذان رجل واحد وأن جوزنا الخطبة من اثنين لأنه ذكر واحد يختلف مقصوده باختلاف الأصوات بخلاف الخطبة.

ولا يقيم إلا بإذن الإمام فإن أمر الصلاة إليه قال علي رضي الله عنه: "المؤذن املك بالآذان والإمام املك بالإقامة" رواه سعيد وأبو حفص. والسنة أن يكون الآذان والإقامة في موضع واحد فإذا أذن في مكان استحب أن يقيم فيه لا في الموضع الذي يصلي فيه لما احتج به الإمام أحمد رحمه الله عن بلال رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله لا تسبقني بآمين" رواه أحمد وأبو داود وقال اسحق بن راهويه وكذلك أبو هريرة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والأئمتهم ولو كانت الإقامة موضع الصلاة لم يخشوا أن يسبقوا بآمين" فعلم أن الإقامة كانت حيث يسمعها الغائبون عن المسجد أما موضع الآذان أو قريبا منه وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة" متفق عليه وقد تقدم قول ابن عمر رضي الله عنه كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة ولأن الإقامة أحد الندائين فاستحب

أسماعها للغائبين كالآذان ولأن المقصود بها الإعلام بفعل الصلاة لمنتظرها في المسجد وغيره فإن شقت الإقامة قريبا من موضع الآذان بأن يكون الآذان في المنارة أو في موضع بعيد من المسجد فإنه يقيم في غيره بحيث يعلم الغائبين أيضا لما روى عبد الله بن شقيق قال الآذان في المنارة والإقامة في المسجد وقال هي السنة" رواه سعيد. فصل. وإذا أذن قريبا من المسجد جاز وأن كان بينهما طريق كما يجوز الآذان في منارة المسجد كما تقدم من حديث بلال أنه كان يؤذن على سطح امرأة من الأنصار. وإن أذن في مكان بعيد من المسجد فقال أحمد معاذ الله ما سمعنا أن أحدا يفعل هذا لأن المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة فلا بد أن يكون نداؤه قريبا من موضع الصلاة ليقصده الناس. فأما أن أذن لغير المسجد بل للإعلام بالوقت فلا بأس بذلك بكل موضع.

فصل. ولا يصح الآذان إلا مرتبا متواليا على ما جاءت به السنة لأنه ذكر مجموع فوجب أن يؤتى به على وجهه كقراءة الفاتحة ولأنه بدون ذلك يختل المقصود به من الإعلام والدعاء فإن نكسه لم يصح بحال. وإن فرق بين كلماته بسكوت يسير أو كلام يسير مباح لم يقطعه لكنه أن كان لغير حاجة كره وهو في الإقامة أشد كراهة من الآذان. وإن كان لحاجة مثل أن يرد على من سلم عليه أو يأمر بعض أهله بحاجة أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر بكلام قليل لم يكره لما ذكره الإمام أحمد عن سليمان بن صرد وكانت له صحبة أنه كان يأمر غلامه بالحاجة وهو يؤذن وأمر ابن عباس مؤذنه أن يقول في يوم مطير بعد قوله حي على الفلاح: "ألا صلوا في الرحال" متفق عليه ولأن ذلك لا يخل بمقصود الآذان وبه إليه حاجة فأشبه العمل اليسير في الصلاة. وعنه أن ذلك يكره مطلقا. وعلى الروايتين فالأفضل أن لا يتكلم برد سلام في الآذان ولا غيره. فأما الإقامة فلا يتكلم فيها لأن السنة حدرها والكلام يقطع ذلك.

فأما أن طال الكلام أو السكوت استأنف لأن ذلك يخل بمقصود الإعلام فأشبه التنكيس. وإن فصل بينه بكلام يسير محرم كالسب والقذف فهل يبطل على وجهين ومن أصحابنا من يحكيها على روايتين. إحداهما: يبطل قال الآمدي وهو الصحيح لأنه ذكر محض مجموع والكلام المحرم مناف له وربما ظن متلاعبا لا مؤذنا إذا خلط الحق بالباطل. وفي الأخرى لا يبطل لأنها عبادة لا تبطل بالكلام المباح فكذلك بالمحرم كالصوم والحج. فأم الكلام بين الآذانين فلا يكره لأن الفصل بينهما مشروع بعمل أو جلوس والكلام من جملة الفواصل. ولو ارتد في أثناء الآذان بطل لأنها عبادة واحدة فبطلت بالردة في أثنائها كسائر العبادات فلو عاد إلى الإسلام في الحال استأنف. ولو جن أو نام أو أغمى عليه ثم أفاق في الحال بنى لأنه لم يخرج عن كونه من أهل العبادة. وقال الآمدي: إذا أغمى عليه بطل الآذان كما يبطل بالكلام الكثير. ولو ارتد بعد الآذان ففيه وجهان. أحدهما: يبطل قاله القاضي والآمدي وغيرهما كما تبطل الطهارة بالردة وهذا إذا كانت الردة بين الآذان والصلاة فأما أن كانت بعد الصلاة

لم يبطل حكم الآذان قولا واحدا وكذلك أن كان بعد الشروع في الصلاة. والثاني: لا يبطل وأن استمر على ردته وهو أصح قاله طائفة من أصحابنا لأنها عبادة قد انقضت فلم تبطل بالردة كسائر العبادات بخلاف الطهارة فإن حكمها باق ولأنه لا يبطل بعد فراغه شيء من المبطلات فلم تبطل بالردة كالصلاة وأولى وعكسه الطهارة وهذا لأن إحباط العمل لا يلزم منه بطلأنه كما تقدم في الطهارة. فصل. يستحب أن يفصل بين الآذان والإقامة للمغرب بجلسة بقدر ركعتين قال في رواية المروذي بين الآذانين جلسة في المغرب وحدها لأن في حديث الأنصاري الذي رأى الآذان رأيت رجلا كان عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها" رواه أحمد وأبو داود وفي رواية قال: "رأيت الذي أذن في المنام أذن المغرب وقعد بين الآذان والإقامة قعدة" رواه حرب وعن أبي بن كعب قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال اجعل بين إذانك وإقامتك نفسا يفرغ الأكل من أكل طعامه في مهل ويقضي المتوضىء حاجته في مهل" رواه عبد الله بن أحمد في المسند قال اسحق بن راهويه لا بد من القعدة في الصلوات كلها حتى في المغرب لما صح عن بلال حيث علمه النبي صلى الله عليه وسلم الآذان فأمره أن ينتظر بين الآذان والإقامة قدر ما يستيقظ النائم وينتشر المنتشر للصلاة فأذن مثنى مثنى وأقام مرة مرة وقعد قعدة وعن مجاهد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذن المؤذن فلا يقيم حتى يجلس". وعن ابن عباس قال: "ينتظر المؤذن في الصلاة كلها بين الآذان والإقامة قدر ما يغتسل الرجل وفي المغرب قدر ما يتوضأ" رواه الشالنجي وإنما قدرها الإمام أحمد بركعتين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون بين الآذانين للمغرب ركعتين وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة" ولأنه بالفصل يتأهب إلى الصلاة من ليس على أهبة ويصلي من يريد الصلاة ويدرك أكثر الجماعة حد الصلاة وهو تكبيرة الإحرام ويدركون التأمين

وذلك مقصود للشارع وفيه أجر عظيم جاءت به الأحاديث. وأما القعود فليفصل بين الآذانين وليكون قائما إلى الإقامة قياما مبتدأ ولأنهما فصلان من الذكر يتقدمان الصلاة يفصل بينهما بجلسة كالخطبتين وإنما خصت المغرب بذلك لضيق وقتها وكراهة تأخيرها. فأما سائر الصلوات فالفصل بين الصلاتين يحصل بأسباب أخرى من الصلاة وغيرها. فإن تأخرت الجماعة أكثر من قدر ركعتين استحب له انتظارهم ما لم يخف خروج الوقت قال مهنا سألت أحمد عن إمام أذن لصلاة المغرب فرأى أن ينتظر القوم إلى أن يتوضأ ما لم يخف فوت الوقت. وعنه أنه إنما استحب انتظارهم بالقدر المتقدم قال في رواية حنبل ينبغي للمؤذن إذا أذن أن لا يعجل بالإقامة ويلبث حتى يأتيه أهل المسجد ويقضي المعتصر حاجته يجعل بين إذانه وإقامته نفسا وهذا أشبه بالروايتين. وفيما إذا أسفر الجيران يغلس أو يسفر على روايتين. ولو أذن ثم خرج من المسجد أو ذهب إلى منزله لحاجة مثل أن يتوضأ لم يكره وأن كان لغير حاجة كره لأن الخروج من المسجد بعد الآذان منهي عنه لغير المؤذن فالمؤذن أشد إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص على ذلك كله لأن وقت الصلاة لم يدخل ولا تجب

الأجابة إليها إلا بعد الوقت. فصل. الآذان من أفضل الأعمال فإنه ذكر الله على وجه الجهر ويفتح أبواب به السماء وتهرب منه الشياطين وتطمئن به القلوب وهو إظهار لشعار الإسلام وأعلام للناس بوقت الصلاة ودعاء إليها ومراعاة الشمس والقمر والظلال لذكر الله قال الإمام أحمد الآذان أحب إلي من الإمامة لأن الإمام ضامن لصلاة من خلفه والمؤذن يغفر له مد صوته وهذا اختيار أكثر أصحابنا. وروي عنه أن الإمامة أفضل وهذا اختيار أبي عبد الله ابن حامد وأبي الفرج ابن الجوزي لأن الإمامة تولاها صلى الله عليه وسلم هو بنفسه وكذلك خلفاؤه الراشدون ووكلوا الآذان إلى غيرهم وكذلك ما زال يتولاها أفاضل المسلمين علما وعملا ولأن الإمامة يعتبر لها من صفات الكمال أكثر مما يعتبر للإذان ولأن الإمامة واجبة في كل جماعة والآذان إنما يجب مرة في المصر وقد روي عن داود بن أبي هند قال حدثت أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مرني بعمل أعمله قال: "كن إمام قومك قال فإن لم أقدر قال:

فكن مؤذنهم" رواه سعيد. والأول أصح لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤذنين" ومنزلة الأمانة فوق منزلة الضمان والمدعو له بالمغفرة أفضل من المدعو له بالرشد لأن المغفرة نهاية الخير ولهذا أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكان ذلك خصوصا خصه به دون سائر الأنبياء وندب قوام الليل إلى الاستغفار بالأسحار والرشد مبتدأ الخير فإنه من لم يرشد يكن غاويا والغاوي المتبع للشهوات المضيع للصلوات ولأن الآذان له خصائص لا توجد في الإمامة. منها أنه يغفر له مد صوته. وأنه يستغفر له كل رطب ويابس. وأنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة وقد تقدم ذلك وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه" متفق عليه وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤذنون

أطول الناس أعناقا يوم القيامة" رواه أحمد ومسلم وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل اجر من صلى معه" رواه أحمد والنسائي وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذن محتسبا سبع سنين كتبت له براءة من النار" وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أذن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه كل يوم ستون حسنة وفي كل إقامة ثلاثون حسنة" رواهما ابن ماجة ولم يجئ في فضل الإمامة مثل هذا ولأن الإمامة من باب الإمامة والولاية إذ هي الإمامة الصغرى ولذلك قال عثمان لابن عمر: "اقض بين الناس فاستعفاه وقال لا أقضي بين اثنين ولا أؤم رجلين" رواه أحمد وهي فتنة لما فيها من الشرف والرئاسة حتى ربما كان طلبها مثل طلب الولايات والإمارات الذي هو من إرادة العلو في الأرض وهذا مضر بالدين وقد روى كعب بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص

المرء على المال والشرف لدينه" قال الترمذي حديث حسن صحيح ولأنه يخاف على صاحبها انتفاخه بذلك واختياله وأن يفتن باشتهاره ولذلك صلى حذيفة بن اليمان مرة إماما ثم قال: "لتصلن وحدانا أو لتلتمسن لكم إماما غيري فإني لما أممتكم خيل إلي أنه ليس فيكم مثلي" وقيل لمحمد بن سيرين في بعض المرات إلا تؤم أصحابك فقال: "كرهت أن يتفرقوا فيقولوا أمنا محمد بن سيرين" ولأن الإمام يتحمل صلاة المأمومين الذي دل عليه حديث الضمان والآذان سليم من هذه المخاوف كلها بل ربما زهد الشيطان فيه وثبط عنه حتى يفوض إلى أطراف الناس ولذلك قال عمر رضي الله عنه لبعض العرب من يؤذن لكم قالوا عبيدنا قال ذلك شر لكم وأما إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فمثل الإمارة والقضاء وذلك أن الولايات وأن كانت خطرة لكن إذا أقيم أمر الله فيها لم يعدلها شيء من الأعمال وإنما يهاب الدخول فيها أولا خشية أن لا يقام أمر الله فيها لكثرة نوائبها وخشية أن يفتن القلب بالولاية لما فيها من الشرف والعز ويكره طلبها لأنه من حب الشرف وإرادة العلو في الأرض يكون في الغالب ولأنه تعرض للمحنة والبلوى فإذا ابتلي المرء بها صار القيام بها فرضا عليه وكذلك إذا تعينت عليه فإمامته وإمامة الخلفاء الراشدين كانت متعينة عليهم فإنها

وظيفة الإمام الأعظم ولم يمكن الجمع بينها وبين الآذان فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الآذان لخصوص أحوالهم وأن كان لأكثر الناس الآذان أفضل ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "لولا الخليفي لأذنت" رواه سعيد وهذا كالإمارة نفسها وكما أن مقامهم بالمدينة لكونها دار هجرتهم كان أفضل من مقامهم بمكة بل كان يحرم عليهم استيطان مكة وهذا الوصف مفقود في غيرهم وكذلك صوم يوم وفطر يوم هو أفضل الصيام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم غيره لأنه كان يضعفه عما هو أفضل منه فصار قلة الصوم في حقه أفضل ونظائر هذا كثيرة نعم نظير هذا أن يكون في القوم رجل لا يصلح للإمامة إلا هو وهو أحقهم بالإمامة ومن يصلح للإذان كثير فتكون إمامته بهم إذا قصد وجه الله بها وإقامته هذا الفرض واتقى الله فيها أفضل لما ذكرناه وعلى هذا يحمل حديث داود بن أبي هند وقد روى عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه ورجل أم قوما وهم به راضون ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب".

فصل. وإذا تشاح نفسان في الآذان قدم أكملهما في الخصال المطلوبة في المؤذن وهي الصوت والأمانة والعلم بالأوقات بأن يكون أندى صوتا أو أعلم بالأوقات ويقدم أكملهما في عقله ودينه لما تقدم فإن استويا في ذلك قدم أعمرهما للمسجد وأكثرهما مراعاة له وأقدمهما تأذينا فيه. ولا يقدم أحدهما بكون أبيه كان هو المؤذن فإن استويا في ذلك قدم من يرتضيه الجيران أو أكثرهم فإن انقسموا طائفتين متساويتين أو لم يختاروا أحدهما أو لم يكن للمسجد جيران اقرع بينهما لقوله: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه" ولأن الناس تشاحوا في الآذان بالقادسية فاقرع بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ذكره الإمام أحمد وغيره. والأول أصح لأن ذلك اقرب لرضاهم وانتظام أمرهم ولذلك اعتبر ذلك في الإمامة.

فصل. قال القاضي يستحب الاقتصار على مؤذنين وأن اقتصر على واحد أجزاه إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان له مؤذنان بلال وابن أم مكتوم وكذلك قال الآمدي يستحب أن لا ينقص في مسجد الجماعة عن اثنين لدعوى الحاجة إليهما كالواحد في غير مسجد الجماعة ومعنى هذا أنه يرتب للمسجد مؤذنان أن غاب أحدهما: حضر الآخر وأما تأذين واحد بعد واحد فعلى ما ذكره القاضي يستحب وعلى ما ذكره غيره لا يستحب ذلك إلا في الفجر. قال القاضي ولا يستحب أن يزيد على أربعة يعني أن ترتيب الأربعة ورزقهم جائز من غير كراهة بخلاف الزيادة على الأربعة وكذلك قال الآمدي لا يرزق أكثر من أربعة لأن عثمان رضي الله عنه اتخذ أربعة من المؤذنين ولأنه إذا زاد على أربعة فأذن واحد بعد واحد فات فضيلة أول الوقت فلا يزاد على الإثنين إلا لحاجة. وإذا احتيج إلى أكثر من أربعة كانت الزيادة مشروعة وهذا ظاهر المذهب ذكر أبو بكر عن أحمد أنه قال في رواية أحمد بن سعيد ويقيم الإمام من المؤذنين ما أراد ويرزقهم من الفيء.

فصل. وإذا أذن جماعة فالأفضل أن يؤذن واحد بعد واحد أن كان المسجد صغيرا والإبلاغ يحصل بذلك لأن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤذن أحدهما: بعد الآخر. فان أذنوا جميعا من غير حاجة فقال الآمدي يكره وذلك لما فيه من اختلاط الأصوات على المستمع حتى لا يفهم ما يقولون مع ما فيه من مخالفة السنة وأن كان المسجد كبيرا لا يحصل التبليغ بآذان الواحد والمقصود إسماع أماكن لا يبلغهم صوت الواحد فلا بأس بآذانهم جميعا نص عليه وقال إذا أذن في المنارة عدة فلا بأس لأن المقصود بالآذان الإبلاغ وذلك يحصل باجتماع الأصوات ما لا يحصل بتفريقها. وإن أذنوا في وقت واحد متفرقين فإن كان كل واحد يستمع آذانه أهل ناحية بأن يؤذن أحدهما في طرف والآخر في طرف بعيد منه فهو حسن. وإن أدنوا في مكان واحد فهذا أولى بالكراهة من آذانهم جميعا في المكان الصغير لما فيه من اختلاط الأصوات قال بعض أصحابنا: وأن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فوات أول الوقت أذنوا دفعة واحدة. ولا يؤذن قبل تأذين المؤذن الراتب إلا أن يغيب ويخاف فوت وقت التأذين فأما مع حضوره فلا.

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة الشرط الأول: الطهارة مسألة: (وهي ستة). شرائط الصلاة ما يجب لها قبلها ويستمر حكمه إلى انقضائها وكذلك كل متقدم على الشيء يسمى شرطا كشروط الطلاق ومنه أشراط الساعة. وقد ذكر الشيخ رحمه الله أنها ستة يعني شرائط المكتوبات وهي الطهارتان والاستقبال والوقت والنية. وبعض أصحابنا يضم إلى ذلك الموضع لأن الصلاة لا تصح إلا في موضع مستقر ولأن الأماكن المنهي عن الصلاة فيها لا تصح الصلاة فيها على ظاهر المذهب مع طهارتها ولعل الشيخ ترك ذلك لأن المكان غير المستقر في الغالب يمنع تكميل الصلاة فتكون العلة نقص الأركان وكذلك الأماكن المنهي عنها معللة عنده بكونها مظنة النجاسة فيدخل في قسم الطهارة.

مسألة: (أحدهما: الطهارة من الحدث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن احدث حتى يتوضأ"). وقد مضى ذكرها. أما الطهارة من الحدث فهي شرط لجميع الصلوات فرضها ونفلها ولما يجري مجرى الصلاة وهو الطواف ولمس المصحف ووجوبها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وقد تقدم ذلك.

الشرط الثاني: الوقت

الشرط الثاني: الوقت مسألة: (الثاني الوقت). المذكور هنا هو شرط للصلوات المكتوبات خاصة فأما سواها فمنها ما يصح في كل وقت كركعتي الطواف والفوائت ومنها ما يصح في غير أوقات النهي كالنوافل المطلقة ومنها ما هو مؤقت أيضا كالرواتب والضحى ومنها ما هو معلق بأسباب كصلاة الكسوف والاستسقاء ومعنى كونه شرطا للصلاة أن الصلاة لا تصح قبله ولا ينتقض هذا بالمجموعة إلى ما قبلها والجمعة إذا صليت في صدر النهار فإن ذلك وقت لها أي وقت لجواز فعلها. ومع كون الوقت شرطا فإنه موجب للصلاة فإن الصلاة لا تجب قبله وليس في الشرائط ما هو سبب لوجوب الصلاة إلا الوقت. لكن الوقت الموجب للصلاة قد يكون هو الوقت المشروط لصحتها كالزوال للظهر والغروب للمغرب وقد يكون غيره كالزوال للجمعة ومصير الظل مثل الشخص للعصر في حق المعذور فإن هذا الوقت ليس شرطا للصحة وهو سبب الوجوب والوقت شرط مع العلم والجهل والعمد والنسيان فمتى صلى قبل الوقت لزمته الإعادة في الوقت لكن أن كان معذورا مثل المطمور والمغيم عليه فلا إثم عليه وأن فعل ذلك عمدا أثم.

مسألة: (وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله). بدأ الشيخ رحمه الله بالظهر وكذلك جماعة من أصحابنا منهم الخرقي والقاضي في بعض كتبهم لأن جبريل لما أقام للنبي صلى الله عليه وسلم المواقيت بدأ بها وكذلك تسمى الأولى ولأنه بدأ بها في حديث عبد الله ابن عمرو وأبي هريرة فأقتدي به في ذلك. وقال بعض أصحابنا: هي أول ما فرض الله من الصلوات ولان الله سبحانه بدأ بها في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}. ومنهم من يبدأ بالفجر كابن أبي موسى وأبي الخطاب والقاضي في بعض كتبه وهذا أجود أن شاء الله لأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وإنما تكون وسطى إذا كانت الفجر الأولى ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل" رواه أحمد من حديث ابن عمر فجعل جميع الصلوات موتورة فلو كانت الظهر هي الأولى لخرجت الفجر عن أن تكون داخلة في وتر النهار أو وتر الليل وذلك لا يجوز ولان الفجر هي

المفعولة في أول النهار فحقيقة الابتداء موجود فيها. ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما بين المواقيت في المدينة بفعله في حديث أبي موسى وبريدة وجابر ووصيته لمعاذ بدأ بالفجر وهذا متأخر عن حديث جبريل وناسخ له إذ كان بمكة وفي هذا جواب عن الاحتجاج بقصة جبريل ولان بيان جبريل للمواقيت كان صبيحة ليلة الإسراء وهو صلى الله عليه وسلم لم يخبر الناس بها حتى أصبح وفات الفجر فلعله أخر البيان إلى وقت الظهر ليعلم المسلمون ويأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتم هو بجبريل ولأن أكثر آيات القرآن بدأت بالفجر مثل قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}. وإنما بدأ بالظهر تارة كما بدا في المغرب في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الآية فتارة يبدأ أول النهار وتارة بأوسطه وتارة بأول الليل ولان النائم إذا استيقظ بأول النهار كان بمنزلة الخلق الجديد فإن الانتباه حياة بعد الموت ونشور بعد السكون فما فعله حينئذ كان أول أعماله وبهذا يتبين أن

أعمال النهار سابقة لأعمال الليل وأن أعمال النهار فواتيح وأعمال الليل خواتيم وأن كان الليل هو المتقدم على النهار خلقا وإبداعا. فصل. الظهر أربع ركعات بالنقل العام المستفيض والإجماع المستيقن في حق المقيم فأما المسافر فيذكر أن شاء الله في موضعه. وتسمى الظهر والهجير والأولى وأول وقتها هو زوال الشمس عن كبد السماء وهذا مما أجمعت عليه الأمة وجاءت به السنة المستفيضة من ذلك ما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جاءه جبريل فقال قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى العصر حين صار كل ظل شيء مثله ثم جاء المغرب فقال قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس ثم جاءه العشاء فقال قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق ثم جاء الفجر فقال قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع ثم جاءه من الغد للظهر فقال قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله ثم جاءه العصر فقال قم فصله فصلى حين صار ظل كل شيء مثليه ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء ثم جاءه حين أسفر جدا فقال قم فصله فصلى الفجر ثم قال: "ما بين هذين وقت".

رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال البخاري هو أصح شيء في المواقيت وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وافطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شيء مثل لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلى جبريل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك الوقت فيما بين هذين الوقتين" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال:

حديث حسن وقد دل على ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وقوله تعالى: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}. ومعنى زوال الشمس أن تحاذي رأس المصلي ثم تميل عنه يقال زالت وزاغت ودلكت ودحضت ويعرف ذلك بازدياد الظل بعد كمال نقصانه وذلك أن الشمس ما دامت مرتفعة في رأي العين فإن الظل ينقص ويتقلص فإذا وقفت في رأي العين فإن الظل يبقى على حاله فإذا أخذت في الانحطاط أخذ الظل في الزيادة فإذا جئت إلى شاخص من جبل أو شجر أو جدار أو نصبت عودا وأعلمت رأس ظله ثم نظرت بعد ذلك فإن وجدته قد نقص فالشمس لم تستوي ولم تزل وأن وجدته قد زاد فقد زالت الشمس. وكذلك أن وجدته على حاله لأنه يكون قد تكامل نقصه ثم أخذ في الزيادة فعاد إلى حاله الأولى لأن الشمس لا تقف أبدا. وقد ذكر بعض أهل العلم قدر ظل الإنسان حين تزول الشمس بالإقدام في شهور السنة وهذا مع أنه تقريب إذ الزوال لا يكون في يومين متواليين على حد واحد ولا يستمر في جميع الأمصار وإنما ضبط في الأصل لبعض البلدان كالكوفة والبصرة. وأما آخر وقتها فإنه بصيرورة ظل كل شخص مثله بعد ظله حين الزوال

فمن صلاها بعد ذلك من غير نية جمع كان قاضيا لا مؤديا وهذا لما تقدم من حديث جبريل فإن معنى قوله: "في اليوم الثاني فصلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله" أي فرغ منها حين صار ظل كل شيء مثله. ومعنى قوله في العصر في اليوم الأول أنه صلاها حين صار ظل كل شيء مثله أنه ابتدأها حينئذ لأن المراد تحديد الوقت وضبطه وإنما يقع حد آخره بوقوع حد آخر الصلاة فيه كما يقع حد أوله بوقوع أول الصلاة فيه وقد جاء ذلك مفسرا فيما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل كل شيء كطوله ما لم تحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" رواه أحمد ومسلم وهذا أتم أحاديث المواقيت بيانا لأنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بحكاية فعل وقد روي نحوه من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر وأن أول وقت العصر حين يدخل وقتها وأن آخر وقتها حين تصفر الشمس وأن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وأن آخر وقتها حين

يغيب الأفق وأن أول وقت العشاء حين يغيب الأفق وأن آخر وقتها حين ينتصف الليل وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس" رواه أحمد والترمذي إلا أن محمد بن فضيل رواه عن الأعمش هكذا وغيره يرويه عن الأعمش عن مجاهد مرسلا ومراسيل مجاهد حسنة لا سيما وقد روي مسندا من وجوه صحيحة وكذلك أيضا في حديث السائل عن مواقيت الصلاة قد بين أنه آخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر وقال لما ناموا عن الصلاة " ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة" أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى. فهذا كله يبين أنه إذا صار الظل مثل الشاخص خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر وإنما يعتبر مساواة الظل لشخصه بعد فيئه حين الزوال لأن الظل حين الزوال قد يكون مثل الشاخص أو أطول لا سيما في البلاد الشمالية في زمن الشتاء فلو اعتبر أن يكون الظل مثل الشاخص مطلقا لتداخل الوقتان أو استحال ذلك وإنما أطلق في الأحاديث لأنه قصد أن يبين أن وقت الظهر بزيادة الظل عن مثل شخصه ولأن الظل وقت

الزوال يكون مستقيما فإذا انحرف بقدر الشاخص فهو آخر وقت الظهر ولأنه في الصيف في أرض الحجاز يكون الظل وقت الزوال شيئا يسيرا لا عبرة به فبمجرد كون الظل مثل الشاخص يكفي في التقريب ولهذا قال في الحديث: "لما كان الفيء مثل الشراك".

مسألة: (ووقت العصر وهي الوسطى من آخر وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس). في هذا الكلام ثلاثة فصول. أحدها: أن العصر هي الصلاة الوسطى المعنية في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وهذا مما لا يختلف المذهب فيه قال الإمام أحمد تواطأت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى وقال أيضا أكثر الأحاديث على صلاة العصر وخرج فيها نحوا من مائة وعشرين حديثا وذلك لما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم الأحزاب ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" متفق عليه وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وعن عبد الله بن مسعود.

رضي الله عنه قال حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس واصفرت فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشا الله اجوافهم وقبورهم نارا" رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الوسطى صلاة العصر" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الصلاة الوسطى صلاة العصر" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وسماها لنا أنها صلاة العصر وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلاَةَ الْعَصْرِ} فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فقال رجل فهي أذن صلاة العصر فقال قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم" رواه أحمد ومسلم وهذا يدل على أنها العصر لأن تخصيصها بالأمر بالمحافظة متيقن بالقراءة الأولى وتبديل اللفظ لا يوجب المعنى إذا أمكن أن يكون معنى اللفظين واحد فلا يزول اليقين بالشك.

فإنه قيل فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَصَلاَةَ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة وهذا يقتضي أن يكون غيرها لأن المعطوف غير المعطوف عليه. قلنا العطف قد يكون للتغاير في الذوات وقد يكون للتغاير في الأسماء والصفات كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} وهو سبحانه واحد وإنما تعددت أسماؤه وصفاته فيكون العطف في هذه القراءة لوصفها بشيئين بأنها وسطى وبأنها هي العصر وهذا أجود من قول طائفة من أصحابنا أن الواو تكون زائدة فإن ذلك لا أصل له في اللغة عند أهل البصرة وغيرهم من النحاة وإنما جوزه بعض أهل الكوفة وما احتج به لا حجة فيه على شيء من ذلك. فإن قيل فقد قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والقنوت إنما هو في الفجر. قلنا القنوت هو دوام الطاعة والثبات عليه وذلك واجب في جميع الصلوات كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي}.

مفقودة

يوجب الاعتناء بها والتحذير من تضييعها والعصر محفوفة بذلك لما روى أبو بصرة الغفاري قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمخمص فقال أن هذه الصلاة عرضت على من قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم" رواه أحمد ومسلم والنسائي وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي الصلاة التي عقر سليمان الخيل من اجلها لما فاتته فبين صلى الله عليه وسلم أن من قبلنا ضيعوها وما هذا شأنه فهو جدير أن يؤمر بالمحافظة عليه وأن لنا اجرين بهذه المحافظة وهما والله أعلم الأجران المشار إليهما بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} وفي المثل المضروب لنا ولأهل الكتاب وهو ما رواه الجماعة من الصحابة منهم ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من العصر إلى مغيب الشمس على قيراطين فأنتم هم فغضبت اليهود والنصارى قالوا كنا أكثر عملا واقل عطاء قال هل نقصتكم من حقكم قالوا لا قال فذلك فضلي

أوتيه من أشاء" رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه وذلك إنما استحققنا الأجربين بحفظ ما ضيعوه وهو صلاة العصر ولأن المسلمين كانوا يعرفون فضلها على غيرها من الصلوات حتى علم منهم الكفار ولهذا: "لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر بعسفان قال المشركون قد كانوا على حالة لو أصبنا غرتهم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فأنزل الله عز وجل صلاة الخوف" فكانت صلاة العصر هي السبب في تزول صلاة الخوف اليسير لما خافوا من تفويتها في الجماعة ولأن في تفويتها من الوعيد ما ليس في غيرها فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله" رواه الجماعة وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله" رواه

أحمد والبخاري ولأن أول الصلوات هي الفجر كما تقدم فتكون العصر هي الوسطى وكذلك قال بعض السلف وامسك أصابعه الخمس فوضع يده على الخنصر فقال هذه هي الفجر ثم وضعها على البنصر وقال هذه الظهر ثم وضعها على الوسطى وقال هذه الوسطى وكذلك أهل العبارة يعتبرون الأصابع الخمس بالصلوات الخمس على هذا الوجه ولأن الصلوات غيرها يقع في وقت الفراغ فإن الفجر تكون عند الانتباه والعشائين يكونان عند السكن والرجوع إلى المنازل وانقطاع الشغل والظهر في وقت القائلة وإنما يقع الشغل أول النهار وآخره لكن ليس في صدر النهار صلاة مفروضة فيقع العصر وقت اشتغال الناس ولذلك ضيعها أهل الكتاب ولأن آخر النهار أفضل من أوله فإن السلف كانوا لآخر النهار أشد تعظيما منه لأوله وهو وقت تعظمه أهل الملل كلها ولذلك أمر الله بتحليف الشهود بعد الصلاة يعني صلاة العصر ولأن آخر النهار وقت ارتفاع عمل النهار واجتماع ملائكة الليل والنهار وإنما الأعمال بالخواتيم فتحسين خاتمة العمل أولى من تحسين فاتحته وصلاة الفجر وأن كان يرفع عندها عمل الليل لكن ليس في عمل الليل من الذنوب والخطايا في الغالب ما يحتاج إلى محو مثل عمل النهار ولهذا والله

اعلم جعل تركها موجبا لحبوط العمل يعني والله أعلم عمل يومه فإن الأعمال بالخواتيم ولأن وقتها ليس متميزا في النظر تمييزا محدودا مثل مواقيت سائر الصلوات فإن وقت الفجر يعرف بظهور النور ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس ووقت المغرب يعرف بغروبها ووقت العشاء بمغيب الشفق وأما العصر فإن حال الشمس لا تختلف بدخول وقتها اختلافا ظاهرا وإنما يعرف بالظلال أو نحو ذلك فلما كان وقتها قد يشتبه دخوله كان التضييع لها أكثر نت التضييع لغيرها فكان تخصيصها بالأمر بالمحافظة عليها مناسبا لذلك. الفصل الثاني. أنها أربع ركعات في حق المقيم بالنقل العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف. ووقتها من حين يصير ظل كل شيء مثله فإذا صار ظل الشخص مثله وزاد أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر ويمتد وقتها إلى أن يتغير لون الشمس وتصفر على هذا أكثر الروايات عن أبي عبد الله. وعنه أنه يمتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه فقط وهي اختيار الخرقي وطائفة من أصحابنا لما تقدم من إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه

صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه وقال الوقت ما بين هذين. والأول أصح لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" من رواية عبد الله بن عمرو وغيره ولما روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاه سائل سأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول انتصف النهار أو لم ينتصف وكان أعلم منهم ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ثم آخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت وآخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس ثم آخر العصر فانصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس ثم آخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وآخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح فدعا السائل فقال الوقت فيما بين هذين" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وهذه الأحاديث أولى من حديث جبريل عليه السلام لوجوه:

أحدها: أن فيه زيادة منطوقة فتقدم على ما ليس فيه تلك الزيادة وإنما تنفيها بطريق المفهوم. الثاني: أنها متأخرة لأنها كانت بالمدينة فإن السائل الذي سأله إنما كان بالمدينة وبلال يؤذن له بل رواتها أبو موسى وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة وبريدة بن الحصيب وكل هؤلاء لم يصحبوه إلا بالمدينة وأبو موسى وأبو هريرة إنما صحباه بعد خيبر وحديث جبريل كان قبل الهجرة بأكثر من سنة وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يكون هو الناسخ للأول أن كان بينهما تعارض. الثالث: أن حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة قول مبين وهو أتم تحديدا وأصرح دلالة من حكاية الفعل. الرابع: أنها أكثر واصح من حديث جبريل. الخامس: أن فيها زيادات في وقت العصر والمغرب والفجر وفي بعضها العشاء وقد وجب العمل بها في تلك المواضع لما صاحبها من الدلائل فكذلك ها هنا. السادس: أن الله تعالى قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وكذلك قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} لكن إذا تغير لون الشمس فقد أخذت الشمس في التحول والغروب فيبقى ما قبل ذلك على عموم الآية.

السابع: أن من الناس من يقول لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه فإن لم يكن فعلها في ذلك الوقت هو الأفضل خروجا من الخلاف فلا أقل من أن يكون جائزا من غير كراهة. الثامن: أن التحديد بالشمس نفسها أولى من مقدار الظل بدليل سائر الصلوات وإنما ترك في أول صلاة العصر إذ ليس في الشمس علامة ظاهرة بخلاف آخره. الفصل الثالث:. إن وقت الضرورة يبقى إلى أن تغيب جميع الشمس ومعنى ذلك أن أهل الضرورة والعذر الذين لا يمكنهم الصلاة قبل تغير الشمس مثل الحائض تطهر والمجنون والمغمى عليه يفيقان والنائم ينتبه والصبي يبلغ بعد اصفرار الشمس يصلونها أداء في هذا الوقت من غير إثم وكذلك الكافر يسلم لأن المنع من صحة الصلاة كان موجودا فيه وأن كان على الحقيقة ليس بذي بعذر ولكن الحق بهم لأنه غفر له تأخيرها إذ الإسلام يجب ما قبله فأما من تمكنه الصلاة قبل هذا الوقت فلا يجوز له تأخيرها البتة فإن آخرها وصلاها فهي أداء مع كونه إثما فأما المريض يبرا فقد الحق بالقسم الأول وهذا أشهر لأن من يقدر على الصلاة فإنه لا يحل له تأخيرها عن وقت الاختيار إلا أن يكون مغلوبا على عقله كما قالوا في المسافر لا يجوز له تأخيرها إلى حين الاصفرار إذا علم أنه يجد الماء

حينئذ بل يصلي وقت الاختيار بالتيمم. أما أنه لا يحل له تأخيرها البتة لمن يقدر على الصلاة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بين المواقيت في حديث جبريل عليه السلام والسائل وذكرها بكلامه وفي جميعها: "أن وقت العصر ما لم تصفر الشمس أو ما لم يصر ظل كل شيء مثليه" وقال الوقت فيما بين هذين فلو جاز تأخيرها عن ذلك لبينه وقد ذم من يؤخرها عن ذلك فيما رواه أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كان بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي ولا يقال إنما ذمه على النقر وقلة ذكر الله لأنه إنما ذمه على المجموع ولو لم يكن للتأخير مدخل في استحقاق الذم لما ذكره كمن نقرها في أول الوقت. وأما كون وقت الإدراك والضرورة باقيا فلما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها" متفق عليه

وقال: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس" متفق عليه وقوله: "إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى" هذا مع ظاهر قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بصلاتي الفجر والعصر في حديث جرير حديث الرؤية وقوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} يدل على بقاء الوقت وحصول الإدراك بالصلاة فيه وأنها لا تفوت حتى تغيب الشمس فالمعذور صلاها في الوقت فلا يلحقه ذم والقادر لحقه الذم كما تقدم. فإن قيل كيف يكون مؤديا لها في الوقت مع أنه مذموم. قلنا كما يمدح إذا قضاها بعد خروج الوقت وهو معذور لنوم أو نسيان وذلك لأن الأداء فعل العبادة في الوقت المضروب لها في الجملة وكونه في بعض الأوقات والقضاء فعلها بعد خروج الوقت المضروب لها وأن لم يقدر على غيره. وقال الآمدي يكره أن يؤخرها إلى وقت الضرورة من غير عذر وظاهر هذا أنه مكروه غير محرم والمذهب ما قدمناه

مسألة: (ووقت المغرب من الغروب إلى مغيب الشفق الأحمر). المغرب ثلاث ركعات بإجماع الأمة ونقلها العام المتوارث خلفا عن سلف سواء في ذلك المقيم والمسافر فإنها وتر صلاة النهار فلو ثنيت أو ربعت لبطل معنى الوتر وتسميتها بالمغرب أفضل من العشاء فإن سميت العشاء أحيانا مع تقييدها بما يدل على أنها المغرب فلا بأس ما لم يهجر اسم المغرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العشاء الآخرة في حديث جبريل وحديث: "اثقل صلاة على المنافقين" واقر على تسميتها بذلك لسائل سأله وسماها أصحابه بذلك في عدة أحاديث وقولهم الآخرة دليل على العشاء الأولى وإنما كان تسميتها المغرب أفضل لما روى عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول هي العشاء" متفق عليه ولأن الله تعالى قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وأراد بذلك صلاة العتمة فعلم أن العشاء المطلقة هي العشاء الآخرة ولأن تسميتها بالعشاء دائما يشعر

بتأخيرها بخلاف تسميتها بالمغرب فإنه يشعر بفعلها عند الغروب وعلى الوجه الذي يأتي ذكره يكره تسميتها بالعشاء لظاهر الحديث. وأول وقتها إذا غاب قرص الشمس وحينئذ يفطر الصائم ويزول وقت النهي ولا أثر لما يبقى في الأفق من الحمرة الشديدة في شيء من الأحكام وكذلك في حديث بريدة الآتي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالمغرب حين غاب حاجب الشمس. ويمتد وقتها إلى مغيب الشفق الأحمر لأهل الأعذار وغيرهم فمن صلاها قبل ذلك كان مؤديا بغير إثم من غير خلاف في المذهب لما سبق في حديث عبد الله بن عمرو من قوله صلى الله عليه وسلم: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" وفي حديث أبي هريرة آخر وقتها حين يغيب الشفق وفي حديث أبي موسى في جواب السائل أنه أخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق وعن بريدة بن الحصيب: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: "أشهد معنا الصلاة فأمر بلالا فأذن بغلس فصلى بهم الصبح حين طلع الفجر ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء ثم أمره بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره بالمغرب حين وجبت الشمس ثم أمره بالعشاء حين وقع الشفق ثم أمره الغد فنور بالصبح ثم أمره بالظهر فأبرد ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقية لم

يخالطها صفرة ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق ثم أمره بالعشاء عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه فلما أصبح قال أين السائل قال ما بين ما رأيت وقت" رواه الجماعة إلا البخاري ولأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ فيها بالأعراف فرقها في ركعتين" ولا يجوز مد الصلاة إلى أن يخرج وقتها لإيقاع شيء منها خارج الوقت فعلم أن وقتها يمتد بقدر قراءة سورة الأعراف. وصح عنه من وجوه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قدم العشاء فابدأوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم" وصح عنه أن أصحابه كانوا يصلون

بحضرته ركعتين بين الآذانين ولو لم يجز تأخيرها عن أول الوقت لم يجز شيء من ذلك ولأنها إحدى الصلوات الخمس فاتسع وقتها كغيرها ولأنها تجمع إلى ما بعدها فاتصل وقتها الذي يليها كالظهر فإن جواز الجمع يجعل الوقتين وقتا واحدا والصلاتين كالصلاة الواحدة والصلاة الواحدة لا يكون لها وقتان متباينان وعكسه الفجر والعصر والعشاء لما لم يجز تأخيرها عمدا إلى وقت التي تليها لم لم تجمع معها. فإن قيل هذا معارض بحديث جبريل فإنه صلى المغرب في اليومين لوقت واحد حين غربت الشمس وذلك يقتضي أنه يجب المبادرة إليها حين الغروب وروى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجم" وعن مرثد بن عبد الله الزني قال: قدم علينا أبو أيوب غازيا وعقبة بن عامر يومئذ على مصر فأخر المغرب فقام إليه أبو أيوب فقال: ما هذه الصلاة يا عقبة قال شغلنا قال: أما والله ما بي إلا أن يظن الناس أنك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم" رواهما احمد.

وعن عقبة بن عامر مثله رواه أحمد وأبو داود وعن عبد الرحمن الصنابحي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تزال أمتي في مسكة من دينها ما لم يعملوا بثلاث ما لم يؤخروا المغرب انتظار الظلام مضاهاة اليهود وما لم يؤخروا الفجر محاق النجوم مضاهاة النصرانية وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها" رواه أحمد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المغرب وتر صلاة النهار" ومعلوم أنها تفعل بعد انسلاخ النهار فيجب تقريبها من النهار وأن تكون عقيبه ليتحقق صعوده مع عمل النهار ولأن المسلمين في جميع الأعصار والأمصار ما زالوا يعجلونها ولو كان تأخيرها جائزا لصنعوا فيها ما يصنعون في غيرها. قلنا هذا يفيد أن السنة فيها التعجيل وأن المداومة على تأخيرها منهي عنه بخلاف بقية الصلوات وكذلك نقول ولهذا لم ينكر أبو أيوب على عقبة مجرد التأخير لكن خاف أن يظن الناس أن السنة التأخير وقد ورد مثل هذا الكلام أن تعجيل الفطور وتأخير السحور سنة مع أنه ليس بواجب

وهكذا الجواب عن حديث جبريل فإنه لعله قصد تبيين المواقيت التي لا كراهة في المداومة عليها أولا واخرا ثم هو حديث متقدم كان بمكة والأحاديث المدنية الصحاح الصرائح قاطعة في جواز التأخير فإن كان معارضا لها كانت هي الناسخة له كما تقدم ومرجحة بصحة أسانيدها وكثرة رواتها وكونها وتر النهار ولا يمنع تأخيرها فإنها وأن كانت من صلاة الليل كما قد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله لكن الحمرة في الأفق هي من توابع الشمس فجاز أن تلحق بالنهار من هذا الوجه كما أن الفجر من صلوات النهار وجهر فيها بالقراءة تبعا لصلاة الليل لبقاء الظلمة قبل طلوع الشمس. فصل. ومغيب الشفق يخرج به وقت المغرب لما تقدم من هذه الأحاديث ويدخل به وقت والعشاء لما تقدم من حديث جبريل أنه صلى العشاء حين غاب الشفق وكذلك في حديث السائل أنه صلى العشاء حين غاب الشفق وفي حديث أبي هريرة: "وقت العشاء من حين يغيب الأفق" وكذلك حديث عبد الله بن عمرو لما قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى ثلث الليل" يدل على تواصل الوقتين مع قوله:

"وإنما التفريط في اليقظة وهو أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت التي تليها" مع أن هذا مما اجمع عليه. والشفق الشفق شفقان احمر وهو الأول والأبيض وهو الثاني والعبرة بمغيب الشفق الأحمر فإذا غاب دخل وقت العشاء. واستحب أبو عبد الله أن يؤخر العشاء في الحضر إلى أن يغيب الشفق الأبيض ليستدل بمغيبه على مغيب الشفق الأحمر لأن الحمرة قد تكون باقية ويواريها الجدران فيظن أنها قد غابت وهي باقية ولأن اسم الشفق يقع عليها. وقد قال بعضهم: أنه البياض فإذا صلى بعد مغيب البياض خرج من الشك والاختلاف. فان صلى في الحضر بعد أن غاب الأحمر وقبل أن يغيب الأبيض صحت صلاته نص عليه ونص في مواضع كثيرة على أنه لا يصلي إلا بعد مغيب الأبيض فجعل القاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا المسألة رواية واحدة بالجواز وحملوا بقية الروايات على الاستحباب لا على الوجوب وقال ابن أبي موسى لم يختلف القول عنه أن الشفق في السفر الحمرة واختلف قوله في الحضر على روايتين. إحداهما: أنه الحمرة في الحضر والسفر. والأخرى: أنه البياض في الحضر فإذا غاب فقد وجبت فأما في

السفر فلا شيء يواريها والجمع جائز فيه لصحة الأحاديث أنه كان يصلي العشاء في السفر قبل مغيب الشفق. وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده ومسائل ابنه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال: " صل معي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح حين طلع الفجر ثم صلى الظهر حين زاغت الشمس ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق ثم صلى الظهر حين كان فيء الإنسان مثله ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق ثم صلى العشاء قال بعضهم: ثلث الليل وقال بعضهم: شطره" ومعلوم أنه ما صلى العشاء قبل الشفق الأحمر فعلم أنه صلاها قبل مغيب الأبيض وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داودولفظه: "فور الشفق وثور الشفق ثوران حمرته وفوره فورانه وسطوعه" وهذا إنما يكون في الشفق الأحمر ولأن الأحمر أظهر في الإستعمالمن الشفق الأبيض قال الفراء سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب كأنه الشفق وكان احمر ولهذا فسر أكثر الناس

مفقود

مسألة: (ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني). أما أول وقتها فقد تقدم وأما آخر وقتها في حال الاختيار ففيه روايتان. إحداهما: إلى ثلث الليل وهو أكثر الروايات عنه واختارها الخرقي والقاضي وغيرهما لأنه كذلك في حديث جبريل وفي حديث السائل أيضا من رواية أبي موسى وبريدة ورواية جابر شك فيها قال بعضهم: ثلث الليل وقال بعضهم: شطره فتحمل رواية من روى على نصف الليل على أنه قال بالتحري والاجتهاد وروى النسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوها ما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل" أو أراد مقاربة نصف الليل. والرواية الثانية: إلى نصفه اختارها طائفة من أصحابنا لأن في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط وهو أبين شيء في المواقيت وكذلك في حديث أبي هريرة وأن آخر وقتها حين ينتصف الليل وعن أبي برزة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا

يبالي بتأخير العشاء إلى نصف الليل " رواه مسلم وعن أنس قال: " آخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال قد صلى الناس وناموا أما أنكم في صلاة ما انتظرتموها" متفق عليه ولمسلم "حتى كان قريبا من نصف الليل" وعن أبي سعيد الخدري قال: "انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل فجاء فصلى بنا وقال لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. وهذا كلام مفسر من النبي صلى الله عليه وسلم يقضي به على ما سواه من الحكايات المحتملة وفي هذه الأحاديث زيادة فيجب الأخذ بالزائد ويحمل قول من روى على ثلث الليل أنه أراد ثلث الليل الممتد إلى طلوع الشمس فإن ما بعد طلوع الفجر قد يجعل ليلا ولهذا يسمى وقت الزوال نصف النهار في كثير من الأحاديث التي تقدمت وإنما يكون نصف النهار إذا كان أوله من حين طلوع الشمس كما يقوله بعض أهل اللغة والحساب والفقه وإذا كان الغالب على لسان الشرع انتهاء الليل إلى طلوع الفجر وابتداء النهار من حينئذ وثلث الليل بهذا الاعتبار أكثر من ثلثه بالاعتبار الأول فإذا انضم إلى

هذا احتياط الراوي وإخباره بالمستيقن جاز أن يسمى ما يقارب النصف ثلثا. فصل. وأما وقت الإدراك والضرورة فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني لما روى يحيى بن آدم عن ابن عباس قال لا يفوت وقت الظهر حتى يدخل وقت العصر ولا يفوت وقت العصر حتى يدخل وقت المغرب ولا يفوت وقت المغرب إلى العشاء ولا يفوت وقت العشاء إلى الفجر وروى الخلال أيضا عن ابن عباس لا يفوت وقت العشاء إلى الفجر وسنذكر أن شاء الله عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس أنهم قالوا في الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء. ولم ينقل عن صحابي خلافه بل وافقهم التابعون على أن العشاء تجب بالطهر قبل الفجر مع قوله في حديث أبي قتادة لما ناموا: "أما أنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى" رواه أحمد ومسلم وأبو داود فإنه يقتضي امتداد كل صلاة

إلى وقت التي تليها وإنما استثنى منه الفجر لظهور وقتها وظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} وقوله سبحانه: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وقوله تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} يعم ذلك الجملة. وتأخير الصلاة إلى هذا الوقت لغير عذر لا يجوز كما تقدم في صلاة العصر. وهذه الصلاة أربع ركعات بالنقل العام. وتسمى العشاء لقوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وهو أفضل من تسميتها بالعتمة وأن ميت العتمة لم يكره إلا أن يهجر اسم العشاء لأن في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" وقد صح من وجوه كثيرة عن أبي موسى وابن عباس وعائشة وجابر بن سمرة أنهم سموها العتمة ولأن ذلك نسبة

إلى وقتها فأشبه المغرب والفجر وإنما كره ترك ذلك الاسم لما روى ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا أنها العشاء وهم يعتمون بالإبل" رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة ولمسلم لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء وأنها تعتم بحلاب الإبل. وفيه وجه ثان أنه يكره أن تسمى بالعتمة لظاهر الحديث وحملا لأحاديث الرخصة على أنها منسوخة ذكره الآمدي.

مسألة: (ووقت الفجر من ذلك إلى طلوع الشمس). وتسمى هذه الصلاة الفجر لقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وقوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} وقوله: {الْخَيْطُ الأبيض مِنَ الْخَيْطِ الأسود مِنَ الْفَجْرِ} والصبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصبح". وصلاة الغداة لقوله عليه السلام: "لو يعلم المتخلفون عن صلاة العشاء وصلاة الغداة ما فيهما لأتوهما ولو حبوا" وقال الرجل له إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا. والمستحب تسميتها الفجر والصبح ولا يكره تسميتها بالغداة في المشهور. وفي الآخر يكره لأنه يقال أنها تسمية الأعراب. وهي ركعتان بنقل الأمة العام المتوارث بينها وهي من صلاة النهار نص عليه وجعلت ركعتان من أجل طول القراءة فيها وكأنه عوض بتطويل القراءة عن تكثير الركعات.

وأول وقتها من طلوع الفجر الثاني كما تقدم في أحاديث المواقيت كلها مع قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وقوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وغير ذلك. وهما فجران فالأول المستدق المستطيل في طول السماء كذنب السرحان وهو الذئب ويسمى الفجر الأول ولا عبرة به في شيء من الأحكام ثم يسود الأفق بعده ثم يطلع الفجر الصادق بعده معترضا في الأفق منتشرا لا ظلمة بعده ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق" وقد تقدم وقد روى أبو حفص والدارقطني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفجر فجران فجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وفجر تحرم فيه الصلاة ويحل فيه الطعام" أما الذي يكون كذنب السرحان فلا تحل الصلاة فيه ولا يحرم فيه الطعام وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام. ويمتد وقتها في حال الاختيار والاضطرار إلى طلوع الشمس فإذا بدا حاجب الشمس خرج وقتها هذا ظاهر المذهب وهو المنصوص عنه

وقال بعض أصحابنا: إذا أسفر ذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الشمس كالعصر والعشاء لأن جبريل عليه السلام لما صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم صلى به في اليوم الثاني حين أسفرت الأرض وقال الوقت فيما بين هذين الوقتين. والأول أصح لأن في حديث عبد الله بن عمرو وقت الفجر ما لم تطلع الشمس وفي لفظ: "ما لم يطلع قرن الشمس الأول" هذا لفظ مسلم وقد تقدم وكذلك في حديث أبي هريرة أن آخر وقتها حين تطلع الشمس ولا يجوز حمل هذا على وقت الإدراك والضرورة لأنه إنما ذكر فيه وقت الاختيار إذ الإطلاق يقتضي ذلك وكذلك قال في العصر ما لا تصفر الشمس وفي العشاء إلى نصف الليل فلم يدخل وقت الضرورة في هذا الحديث ولأن في حديث السائل أنه انصرف من الفجر في اليوم الثاني والقائل يقول طلعت الشمس أو كادت وقد تقدم من رواية أبي موسى ولم يتبين إلا أوقات الاختيار ولأن الشمس تغرب بين قرني شيطان فإذا اصفرت أخذت في الغروب فلذلك.

أمر أن لا تؤخر الصلاة إلى ذلك الوقت عمدا وفي الفجر لا يقارنها الشيطان حتى يطلع حاجبها فإذا لم تطلع فالوقت مبقى على حاله فلا وجه للكراهية فيه وحديث جبريل قد جاء فيه أنه أسفر جدا وظاهره أنه سلم قبيل طلوع الشمس فتحمل الرواية الأخرى على ذلك وأن كان قد سلم قبل بساعة فهو حديث متقدم قد تبين فيه الأفضل كما مضى. فصل. إذا نام قبل العشاء ولم يوكل به من يوقظه كره له ذلك لأنه يخاف أن يدوم النوم فيفضي إلى فوت الوقت أو فوت الجماعة وأن وكل به من يوقظه لم يكره. فصل. وأما الحديث بعدها فإن كان وحده أو كان يتحدث مع غيره في علم أو مصلحة لم يكره ولإيناس الضيف وأن كان حديثا لا فائدة فيه كره له ذلك.

مسألة: (ومن كبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها). أما إذا صلى ركعة بسجدتيها قبل خروج الوقت فإنه يكون مدركا للصلاة من غير خلاف في المذهب وسواء في ذلك الفجر وغيرها لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من ركعة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" رواه الجماعة إلا الترمذي. وإن صلى دون الركعة مثل أن يكبر ويركع أو يركع ويسجد سجدة أو يكبر للإحرام فقط فهل يكون مدركا للصلاة على روايتين. إحداهما: يكون مدركا كما ذكره الشيخ وهي اختيار أكثر أصحابنا لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها" رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. وللبخاري في حديث أبي هريرة: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" وهذا المنطوق أولى من ذلك

المفهوم ولأن بعض الصلاة قد وجد في الوقت حقيقة فلا يمكن أن نجعلها فائتة كما لو صلى ركعة. والرواية الثانية لا يكون مدركا هذا قولي الخرقي وابن أبي موسى وهو أشبه بالحديث المفهوم حديث أبي هريرة وقوله في الرواية الأخرى سجدة المراد به الركعة بكمالها وهذا كثير في الحديث تسمى السجدة الثانية ركعة تعبيرا عنها بركنها وذلك أنه لا يصح حتى يقع الركوع وسجدتان فإذا قيل قد صلى ركعة أو سجدة علم أنه قد كمل ركعة بسجدتيها ومنه قول زيد لمروان ألم أرك قصرت سجدتي المغرب يعني ركعتي الجهر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالأعراف وقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الوتر سجدتين" تعني فيها الركعتين اللتين كان يصليهما وهو قاعد وقول علي كان إذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر وفي حديث أبي هريرة إذا قام من الركعتين وفي حديث أبي حميد: "حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة" وهذا كما تسمى

الصلاة قياما تعبيرا عنها بركنها. وتسمى قرآنا تعبيرا عنها بركنها ولا يجوز حمله على السجدة الأولى من الركعة إذ ليس في تعليق الحكم بها فائدة أصلا حيث لا فرق بين إدراكها وإدراك الركوع وحده أو الركوع والاعتدال ولو أريدت السجدة بعينها لم يدل على ثبوت الإدراك بما دونها ولأنه إدراك للصلاة فلم يتعلق بما دون الركعة كالجمعة ولمن نصر الأولى أن يقول تقييد الحكم بالركعة لا يمنع ثبوته بما دونها كما أنه لما قيد بالفجر والعصر لم يمنع أن يثبت في ذلك المغرب والعشاء والله أعلم إنما قيده بذلك لأن آخر وقت الفجر والعصر محدود ومرئي بالعين والركعة جزء من الصلاة معلوم بخلاف ما دون ذلك فإنه لا ينضبط فعله قبل خروج الوقت والمسألة محتملة. وإذا أدرك بعض الصلاة في الوقت فبعضها المفعول خارج الوقت هل يكون أداء أو قضاء على وجهين. أشهرهما تكون أداء لظاهر قوله فقد أدركها فمن زعم أن بعضها أو كلها يقع قضاء لم يكن قد أدركها كلها عنده وهو خلاف النص ولأن المشهور في المذهب أن الجمعة تفعل بعضها بعد خروج الوقت مع أنها لا تكون قضاء. والثاني: تكون قضاء لأن حقيقة القضاء ما فعل بعد الوقت وهذا كذلك ولأن مدرك الجمعة والجماعة يكون منفردا بعد سلام الإمام حقيقة وحكما وأن كان قد أدرك فضل الجماعة في الجملة فكذلك هذا.

وبكل حال فيجب عليه أن يفعل جميع الصلاة قبل خروج الوقت كما تقدم ومتى آخر شيئا منها عن الوقت عمدا إثم بذلك لأن النصوص المتقدمة في المواقيت تدل على وجوب فعل جميع الصلاة قبل خروج الوقت.

مسألة: (والصلاة في أول الوقت أفضل إلا عشاء الآخرة وفي شدة الحر الظهر). هذا الكلام فيه فصلان لأن الكلام في تعجيل الصلوات أما أن يكون على سبيل الإجمال أو على سبيل التفضيل. الفصل الأول. إن الأصل في الصلاة في أول الوقت أفضل من آخره إلا لمعنى يقتضي استحباب التأخير لأن الله تعالى قال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي إلى الأعمال الصالحة في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الجنة وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ

الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} وقال عن نبيه موسى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} وهذه الآيات تقتضي أن المسارعة إلى الخيرات مأمور بها وأن فاعلها مستوجب لثناء الله ورضوانه ولذلك يقتضي الاستباق إلى الخيرات وإلى أسباب المغفرة أمرا بها وثناء على أهلها وتفضيلا لهم على غيرهم والصلاة من أفضل الخيرات واعظم أسباب المغفرة وعن محمد ابن عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث يا علي لا تؤخرهن الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والايم إذا وجدت لها كفؤا".

رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب وما أرى إسناده بمتصل لكن هذا الانقطاع هو من رواية ولده ومثل ذلك يكون من أقوى المراسيل فانهم أعلم بحديثهم وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله" رواه أحمد والترمذي ورواه الدارقطني فقال إلا مرتين وعن أم فروة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أحب العمل إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها" رواه الترمذي وإسناده كإسناد الذي قبله متقاربان فيهما لين

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من وقتها الأول ما هو خير له من أهله وماله" رواه الدارقطني وقد روى الترمذي والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الأخير عفو الله" وروى الدارقطني عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول الوقت رضوان الله وأوسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله". وهي أحاديث لينة قال الإمام أحمد لا اعرف شيئا في أوقات الصلاة أولها كذا وآخرها كذا يعني مغفرة ورضوان إلا أن هذا لا يمنع.

العمل بها في الفضائل لا سيما مع تعدد طرقها. فإن قيل فالعفو إنما يكون عن المسيء ولا إساءة في التأخير. قلنا العفو قد يكون عن الذنب بعد وقوعه وقد يكون عن أصل الإيجاب مع انعقاد سبب الوجوب أو التحريم كقوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه" فالعفو عن الصلاة في آخر الوقت بمعنى أنه رفع الحرج والعقوبة عمن صلى فيه وقد كان يمكن أن يضيق الوقت ولأن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ففي المبادرة إلى فعلها إبراء لذمته عن الواجب كالمبادرة إلى فعل الواجبات.

المطلقة من الحج وغيره وتحصل المبادرة المشروعة بأن يشتغل عقب دخول الوقت بالوضوء والصلاة لأن الله تعالى أمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة وأن توضا قبل الوقت فهو مبادر أيضا هذا ما لم يشق على غيره كما سيأتي. الفصل الثاني. في تفضيل الصلوات أما الظهر فإن الأفضل أن يصليها عقب الزوال لما روى أبو برزة الاسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يصلي الهجيرة التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينتفل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرا فيها بالستين إلى المائة" متفق عليه وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحدا أشد تعجيلا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر" رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن

أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الظهر في أيام الشتاء وما يدري أيما ذهب من النهار أكثر أو ما بقي منه" رواه أحمد وكتب عمر إلى أبي موسى أن صل الظهر حين تزيغ أو تزول الشمس قال الترمذي هو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. فإن قيل ففي حديث جبريل أنه صلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك وكال عمر يؤخرها حتى يصير الفيء ذراعا وكتب إلى عماله بذلك. قلنا أما حديث جبريل ففي رواية جابر أنه صلى حين زالت الشمس فعلم أن ذلك الفيء هو فيء الزوال لا سيما والفرض يتبين أول الوقت وأما حديث عمر فلعله أمر بذلك في شدة الحر ليقصد الابراد بها أو

في أوقات وأمكنه يكون الفيء فيها قدر ذراع حين الزوال ولا يقال الفيء هو الظل بعد الزوال وما قبل ذلك إنما يسمى ظلا لا فيئا لأن الشمس إذا زالت فلا بد أن يفيء الظل أدنى الفيء فيسمى الظل كله حينئذ فيئا ولا يصح أن يراد الفيء الزائد على فيء الزوال لأن ذلك لا يتميز وليس في الحديث ما يدل عليه ثم أن ذلك إنما يصير قريبا من انتصاف الوقت ومثل ذلك لا يكون هو الأفضل في غير الحر بلا تردد فصل. فأما في شدة الحر فإن الأفضل الابراد بها لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم" رواه الجماعة وللبخاري عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري مثله وعن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر ابرد بالصلاة وإذا

كان البرد عجل" رواه النسائي والبخاري بمعناه وسواء كان المصلي منفردا أو في جماعة. وسواء كان في مسجد الجماعة الذي ينتابه الناس من البعد أو من القرب وسواء كان المصلون مجتمعين أو منفردين هذا الذي دل عليه قول أحمد وفعله وهو قول القاضي أخيرا وأكثر أصحابنا لعموم الحديث فإنه أمر بالابراد أمرا عاما معموما مقصودا وعلله بعلة عامة توجد حال الصلاة وحال السعي إليها في الحر فإن فيح جهنم يصيب المصلي كما يصيب الذاهب إلى الصلاة مع علمه صلى الله عليه وسلم أن أكثر المساجد إنما يصلي فيها جيرانها فلا يجوز حمل هذا الكلام على المساجد التي ينتابها الناس من البعد خاصة لأن هذه صور قليلة بالنسبة إلى غيرها فحمل العام عليها يكون حملا لها على الأقل دون الأكثر منه غير أن يكون في الكلام ما يدل عليه وذلك لا يجوز ولأنه على هذا التقدير تكون العلة بأذى الناس بالمشي في الحر وهذه علة تنفس الحر سواء كان من فيح جهنم أو لم يكن فلما قال: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" وعلل بعلة تعلم بالوحي علم أنه قصد معنى يخفى على أكثر الناس وهو كراهة إيقاع الصلاة حال تسعير

النار كما كره إيقاعها وقت مقارنة الشيطان لها وكره الصلاة وقت الغضب من الله كما كره الصلاة في مكان الغصب لأن القلوب لا تقبل على العبادة وقت تلك الساعة كل الإقبال ولا ينزل من الرحمة ما ينزل في غير ذلك الوقت. وأيضا ما روى أبو ذر رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرد ثم أراد أن يؤذن فقال له ابرد حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة" متفق عليه فهذا ابراد مع اجتماع المصلين وهو نص في المسألة ولأن سبب الإبراد إنما هو في شدة الحر من فيح جهنم وتنفسها وهذا كما أنه يؤذي الناس في حال بروزهم إلى المسجد فكذلك في حال صلاتهم بل أولى كما تقدم وكما أنه يؤذي من يصلي في الجماعة فإنه يؤذي المصلي وحده. وقال القاضي في المجرد وأبو الحسن الآمدي وطائفة من أصحابنا إنما يستحب الابراد لمن يصلي في مساجد الجامعات سواء كان المسجد ينتابه البعيد منه أم لا لأن الخروج إلى المسجد في الجملة مظنة المشقة في وقت القائلة فاستحب التأخير لتكثير الجماعة بخلاف المصلي وحده أو في بيته أو في القوم المجتمعين.

والأول هو الصحيح لما تقدم. وإنما يستحب الابراد في البلاد التي لها حر في الجملة سواء كان شديدا أو قليلا كبلاد الحجاز والعراق والشام واليمن ومصر. فأما البلاد الباردة التي لا حر فيها وإنما حرها في منزلة الربيع في غيرها مثل البلاد الشمالية وبلاد خراسان فإنه لا يستحب الإبراد فيها هكذا ذكره القاضي وغيره من أصحابنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة" وقال: "فان شدة الحر من فيح جهنم". وهناك لا يشتد الحر ولا يتنفس بالبرد فيظهر هناك زمهريرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن النار اشتكت إلى ربها وقالت أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم" متفق عليه وقد حكى بعض أصحابنا وجها أنه لا فرق بين البلاد الحارة والباردة. ووجها بأن ذلك مخصوص بالبلاد التي يشتد فيها الحر. والذي قدمناه أصوب فإن الحر والبرد لا بد من وجودهما في جميع الأرض المعمورة ولولا وجودهما لما عاش الحيوان ولا نبت الشجر ولا بد أيضا أن يكون الحر في القيظ أشد منه في فصل الصيف والربيع الذين

يسميان الربيع والخريف في كل أرض بحسبها لكن إذا كان في شدة الحر في بعض البلاد بحيث لا تكره الشمس ولا يؤذى الجالس في الصبح فليس هذا بحر شديد فلا يستحب الابراد في مثل هذه البلاد البتة وإذا كان الحر يؤذي فيها فقد اشتد الحر وأن لم يكن في أرض الحجاز. وينبغي أن يقصد في الابراد بحيث يكون بين الفراغ منها وبين آخر الوقت فصل لأن المقصود من الابراد يحصل بذلك ولهذا فإن في حديث أبي ذر حتى رأينا فيء التلول وقال عبد الله بن مسعود: "كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام" رواه أبو داود ولأن الإبراد الشديد يخاف معه أن يفعل بعض الصلاة بعد خروج الوقت. وأم الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أول الوقت شتاء وصيفا ولم يؤخرها هو ولا أحد من أصحابه بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال وذاك لأن الناس يجتمعون لها إذ السنة التبكير إليها ففي تأخيرها إضرار بهم وقد روي أن جهنم

تسجر كل يوم إلا الجمعة" فالسبب الذي من اجله سن الابراد يكون مفقودا يوم الجمعة. وهل يستحب تأخير الظهر في غير شدة الحر على روايتين. إحداهما: لا يستحب التأخير إلا في الحر والأفضل التعجيل إذا تيقنا دخول الوقت قال أبو عبد الله في رواية كثير من أصحابه أنا اختار فيها كلها التعجيل إلا الظهر في الصيف وعشاء الآخرة أبدا وهذا اختيار الخرقي وهو الذي ذكره الشيخ وذلك لأن الصلاة في أول الوقت أفضل كما تقدم وإنما خولف في شدة الحر لمعنى يختصه فيبقى فيما سوى ذلك على استحباب التعجيل ولأن ما تقدم من تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر مطلقا وتعجيله إياها في الشتاء من غير تفريق بين حالي الغيم والصحو دليل على أنهم لم يفهموا من حاله رعاية ذلك مع أن الشتاء مظنة الغيوم. والرواية الثانية يؤخرها في الغيم أيضا وهذه أصرح عنه قال رضي الله عنه يؤخر الظهر في يوم الغيم ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء وقال أيضا في يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر والمغرب يؤخرها حتى يعلم انه سواد الليل ويعجل

العشاء وهذا اختيار أكثر أصحابنا لما روى سعيد في سننه عن إبراهيم النخعي قال كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر ويؤخرون المغرب في اليوم المغيم. وهذا إخبار عن أهل الكوفة من أصحاب علي وعبد الله ومن بين ظهرانيهم من الصحابة ومن علم حالهم علم أنهم لم يكونوا يتحرون ذلك إلا تلقيا له عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الصلاة تتكرر في كل وقت فأمر الوقت بها لا بد أن يتقدم فيه سنة واثر ولا يجوز أن يتحروا مخالفة ما ظهر من السنة وقال ابن المنذر روينا عن عمر أنه قال إذا كان يوم غيم فعجلوا العصر وأخروا الظهر ولأن الغيم مظنة المطر وغيره من الموانع للخروج فإذا آخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء اكتفى لهما بخروج واحد للمشقة ولهذا قال القاضي لا يستحب التأخير لمن يصلي في بيته وقال غيره بل يستحب على ظاهر كلامه وعلل بعض

أصحابنا هذه المسألة بأن الغيم في الجملة مظنة اشتباه الوقت فأخرنا الظهر والمغرب لنتيقن دخول الوقت فانهما لا يفعلان قبل وقتهما بحال وفعلهما بعد خروج الوقت جائز للعذر وهذا عذر في الجملة بخلاف العصر والعشاء فانهما يصليان قبل وقتهما في حال العذر وهذا عذر في الجملة ولا يصليان بعد وقتهما بحال وأما الفجر فلما لم يجز بحال تقديمها ولا تأخيرها استوى في حال الإشتباه الأمران ولذلك استحببنا أن نجعل الثانية من صلاتي الجمع مع تأخير الأولى ليبقى بمنزلة الجامع بين الصلاتين وأيضا فلما كانت الظهر والمغرب يحذر فعلهما قبل الوقت بكل حال ولا يحذر التأخير في جميع الأوقات والعصر والعشاء بعكس ذلك فيهما كان ما بعد عن المحذور أولى بالمراعاة وكلام أحمد يدل على هذا التعليل لأنه قال في يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر والمغرب يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل ويعجل العشاء وقد جاءت الأحاديث باستحباب تعجيل العصر مع الغيم خشية الفوات كما سيأتي أن شاء الله تعالى وهذا يدل على أن الذي يحذر من تفويت العصر في الغيم لا يخاف مثله في الظهر وعلى أن مثل هذه الحال بخلاف الظهر. وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده أو في جماعة مجتمعين أو مفترقين وعلى هذا المنصوص فإنه يستحب تأخير المغرب وتعجيل العشاء

مع الغيم أيضا لما تقدم من الأثر والمعنى وعلى الرواية الأول لا يستحب. وفرق جماعة من أصحابنا فاستحبوا تأخير الظهر مع الغيم ولم يستحبوا تأخير المغرب إذا علم دخول وقتها أو غلب على الظن لأن السنة التبكير فيها ولأن وقت العشاء قريب منها فلا يشق انتظارها ولأن الخروج بعد الغروب قد يشق ولأن العشاء السنة التأخير فيها. والصحيح المنصوص لما تقدم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يؤخر المغرب ويعجل العشاء" في مواضع تذكر أن شاء الله في باب الجمع ولا تعريج مع السنة على رأي أحد والعشاء وأن كانت السنة فيها التأخير لكن إذا أخرت المغرب فإنه ينبغي أن لا يؤخر العشاء بل يقارب بينهما كما في حال الجمع فصل. وأما العصر فالسنة تعجيلها بكل حال في المعروف من نصوصه في

عامة جواباته وهو مذهبه الذي لا خلاف فيه بين أصحابه وقد روي عنه صالح آخر وقت العصر ما لم تغير الشمس وقال يؤخر الصلاة أحب إلى آخر الوقت العصر عندي ما لم تصفر الشمس فجعل القاضي وابنه هذه رواية ثانية بتصريحه بان آخر الوقت أحب إليه والاشبه والله أعلم أنه إنما قصد أن القول بجواز تأخير العصر أحب إلى من قول من لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار فإن استحباب تأخير العصر بعيد جدا من مذهبه وله مثل هذا الكلام كثيرا ما يقول هذا أحب إلى وليس غرضه الفعل وإنما غرضه حكم الفعل. والأصل في ذلك ما تقدم من الأمر الكلي وأيضا ما روى أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها والشمس مرتفعة" أخرجوه. وفي رواية: "وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه" رواه أحمد والبخاري وعن أنس قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فأتاه

رجل من بني سلمة فقال أنا نريد أن ننحر جوزوا لنا وأنا نحب أن تحضرها قال نعم فانطلق وانطلقا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس" رواه مسلم والدارقطني وزاد " كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فيسير الراكب ستة أميال قبل أن تغيب الشمس" وعن رافع بن خديج قال: "كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ننحر الجزور فيقسم عشر قسم ثم يطبخ فنأكل لحما نضيجا قبل مغيب الشمس" متفق عليه وعن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس" رواه الدارقطني وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يظهر الفيء بعد" متفق عليه وقال البخاري وقال أبو أسامة من قعر حجرتها ولو كان يؤخرها لكانت الشمس قد مالت حتى خرجت من الحجرة وظهر فيها الفيء لأنها ليست كبيرة.

ولأن الله سبحانه أمر بالمحافظة عليها خصوصا وكذلك أمر رسوله بذلك وكمال المحافظة أن يصلي في أول الوقت ولا يعرض للفوات ودخول وقت الكراهة وكذلك وكد التبكير بها مع الغيم كما قد نص عليه أحمد فروى عن بريدة قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإن من فاتته صلاة العصر حبط عمله" رواه أحمد وابن ماجة وروى أحمد والبخاري والنسائي من حديث أبي المليح بن أسامة قال كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال بكروا بصلاة العصر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". فإن قيل فقد قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وإنما يقال قبل الغروب لما كان قريبا منه وفي تأخيرها توسعة لوقت النفل. قلنا الصلاة المفعولة في أول الوقت هي قبل الطلوع وهي مرادة من الآية بالسنة الصحيحة وبالإجماع كصلاة الفجر المؤداة في أول وقتها هي

قبل الطلوع وقربها من غروب الشمس ليس فيه فضيلة لوجهين. أحدهما: أن تأخيرها إلى حين الاصفرار لا يجوز مع أنه اقرب إلى غروبها. الثاني: أن الأمر بالتسبيح قبل الغروب وكلما بعد عن الغروب كان أتم تقديما على الغروب واقرب إلى تحقيق القبلية. وأما اتساع وقت النفل فيعارضه خشية التفويت وما فيه من المخاطرة بالفرض. ثم ما حصل له بالصلاة في أول الوقت أحب إليه من جميع النوافل فإن حدود الفرائض المسنونة وتكميل أدائها أولى بالرعاية من أصل النوافل ولهذا كان إدراك تكبيرة الإفتتاح مع الإمام أولى من الاشتغال عنها بالسنن الرواتب. وفي تعجيلها اتساع وقت ذكر الله المشروع آخر النهار ثم إنا لا نسلم أن توسيع وقت النافلة مقصود بل إذا كان مقصود الشارع في ترك النافلة بعد العصر كان مقصودا مع سعة وقت الترك وكان ذلك أحب إلى الله تعالى. فصل. وأما المغرب فالسنة فيها التعجيل وهذا مما أجمعت عليه الأمة وقد روى سلمة بن الاكوع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت

الشمس وتوارت بالحجاب" رواه الجماعة إلا النسائي وعن رافع بن خديج قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله" متفق عليه وقد تقدم القول في كراهة المداومة على تأخيرها وروي أن عمر بن عبد العزيز آخر المغرب ليلة حتى رأى نجمين فأعتق رقبتين. فأما ليلة الغيم فقد تقدم أن نص الروايتين عنه وأصحهما عند أكثر أصحابنا استحباب تأخيرها كما تقدم في تأخير الظهر. فأما تأخيرها في غير ذلك فلا يستحب مطلقا واستثنى أبو الخطاب وطائفة معه تأخيرها ليلة جمع للمحرم فإن السنة أن يؤخر المغرب حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة في المناسك عند بعض أهل العلم حتى لم يجوزوا أن يصلي بغير المزدلفة لكن هذا في الحقيقة تأخير الصلاة عن وقتها ونحن إنمانتكلم في تأخيرها إلى آخر الوقت فأما التأخير عن الوقت فهو الجمع بين الصلاتين وفي استحبابه حيث يجوز خلاف وتفصيل يذكر

في موضعه أن شاء الله تعالى ولمن استثناها أن يقول المستحب أن يؤخر ليصلي بمزدلفة سواء جمع بينها وبين العشاء أو لم يجمع حتى لو فرضنا أنه سار سير البريد حتى وافى جمعا قبل مغيب الشفق فإن السنة أن يؤخر المغرب ليصليها فيها ولو كان قبل مغيب الشفق ولمن لم يستثنها أن يقول هذه الصورة نادرة والحكم مبني على الغالب وبالجملة فلا خلاف في المعنى وكلهم قد ذكروها في المناسك. فصل. وأما العشاء فإن الأفضل تأخيرها من غير خلاف في المذهب إلا أن يشق التأخير على المصلين إلا ليلة الغيم إذا أخرت المغرب كما تقدم وذلك لما روى ابن عباس قال: "اعتم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا فقام عمر فقال الصلاة فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا" متفق عليه وقال أبو برزة: "كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة".

متفق عليه وفي لفظ: " كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل" رواه أحمد ومسلم وقال جابر بن سمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة" رواه أحمد ومسلم والنسائي وعن ابن عمر قال: "مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فقال حين خرج أنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأن في تأخيرها فوائد علمنا منها. إن تصلى في جوف الليل ويقرب من آخره وهو الوقت الذي ينزل الله فيه إلى سماء الدنيا فيقول من يدعوني فاستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فاغفر له وقد روى عبد الله بن مسعود قال: "أخر رسول الله

صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال أما أنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم فأنزلت هذه الآية: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهل الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} حتى بلغ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} " رواه أحمد والترمذي ولذلك استحب تأخير الوتر إلى آخره قال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلاةَ} ومعلوم أنه إذا اشتدت الظلمة وبعد عن النهار كان هذا المعنى ابلغ وإنما لم يشرع والله أعلم تأخيرها إلى النصف الثاني لأنه مضاف إلى اليوم الذي يليه فالتأخير إليه تأخير لما يقرب منه النهار ولأن فيه تغريرا بها إذ كانت السنة أن يصلي قبل النوم لئلا يستمر النوم إلى الفجر ولان الجمع بين استحباب تأخيرها إلى النصف الثاني وبين كراهة النوم قبلها متعذر فإنه يقتضي سهر أكثر الليل وذلك مفض إلى غلبة النعاس وتفويت مقصود الصلاة. ومنها أنه إذا انتظرها فإن العبد في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم" فإن أهل الكتاب ليست لهم صلاة في جوف الليل وإنما يصلون قبل طلوع الشمس وبعد زوالها وبعد غروبها وهذا المعنى لا يحتاج إليه في غيرها فإنه يقدر أن يصليها في أول الوقت ويجلس ينتظر التي

بعدها فإن انتظار الصلاة قبل وقتها لا سيما بعد صلاة أخرى يستحب بخلاف العشاء فإنه لا صلاة بعدها تنتظر. ومنها أنه إذا آخرها ختم عمله بالصلاة ونام عليها ولم يتحدث بعدها فختم عمله بخير وأمن من كراهة السمر بعدها. ومنها أن الأصوات تكون قد هدأت والعيون قد رقدت وذلك اقرب إلى نزول السكينة واجتماع الهم على الصلاة والخشوع فيها وبعدها عن الشواغل وما يلهي المصلي. ومنها أن يبعد العهد بأعمال النهار وحركاته والأفكار والوساوس الحاصلة بسبب ذلك. ويستحب تأخيرها بكل حال في إحدى الروايتين على ظاهر الحديث المتقدم عن أبي برزة وجابر بن سمرة ولأن قوله في حديث ابن عباس وأبي هريرة: "لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" إنما نفي به أمر الإيجاب فإن السنة إنما تحصل بالإيجاب دون الاستحباب وهو يقتضي قوة استحباب التأخير إذ كان المقتضي للوجوب قائما لولا وجود المانع وسواء شق عليهم التأخير أو لم يشق فإن ذلك لا يمنع الاستحباب كما في قوله عليه السلام: "لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وقوله: "لولا أن أشق على

أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة". والرواية الثانية أن المستحب التأخير الذي لا يشق على المأمومين غالبا فإن آخرها تأخيرا يشق عليهم غالبا كره لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن اشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل" رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح وكذلك في حديث ابن عمر: "لولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة" وقوله في حديث أبي سعيد: "لولا سقم السقيم وضعف الضعيف وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل" وقد تقدم وكذلك قوله في حديث عائشة: "أنه لوقتها لولا أن اشق على أمتي" فإن هذه الأحاديث تدل على أن وجوه المشقة على المأمومين يمنع استحباب التأخير وشرعه وعلى هذا بنيت قاعدة الصلاة فإن الإمام يكره أن يطول على المأمومين تطويلا يفتنهم به وأن كان التطويل عبادة محضة فالتأخير الذي يفتنهم وتفوتهم الصلاة جماعة أو

توجب أن يصلوها مكثرهين متضجرين أولى أن يكره وما في التأخير من الفضيلة إنما يقصد لو لم يفت ما هو أفضل منه وأن أفضل منه لكثرة الجماعة وتحصيل الجماعة للمصلين ونشاط القلوب للصلاة وتحبيب الله إلى عباده ولأن المشقة قسمان. أحدهما: في خاصة الإنسان فله أن يحتمل هو المشقة لتحصل فضيلة التأخير وهذه المشقة هي المانعة من الإيجاب. والثاني: يتعدى إلى المأمومين وليس للإمام أن يحمل الناس مشقة لم تجب عليهم وهذه هي المانعة من استحباب التأخير قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد ابطئوا آخر والصبح كان يصليها بغلس" متفق عليه وروى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا معاذ بن جبل قال: "لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: "اظهر كبير الإسلام وصغيره وليكن من أكثرها الصلاة فإنها رأس الأمر بعد الإقرار بالدين إذا كان الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر ثم اطل القراءة على قدر ما يطيق الناس ولا تملهم وتكره إليهم

امر الله ثم عجل الصلاة الأولى قبل أن تميل الشمس وصل العصر والمغرب في فصل الشتاء على ميقات واحد العصر والشمس بيضاء مرتفعة والمغرب حين تغيب الشمس وتوارى بالحجاب وصل العشاء فأعتم بها فإن الليل طويل فإذا كان الصيف فأسفر بالصبح فإن الليل قصير وأن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها وصل الظهر بعد أن ينقضي الظل وتحرك الرياح فإن الناس يقيلون فأمهلهم حتى يدركوها وصل العتمة فلا تعتم بها ولا تصلها حتى يغيب الشفق". ويستحب التأخير إلى نصف الليل إذا قلنا يمتد الوقت إليه على إحدى الروايتين لأن في حديث أبي سعيد لأخرت العشاء إلى نصف الليل وقيل إنما يستحب إلى الثلث على الروايتين لأن ما بعد ذلك مختلف في كونه وقتا فلم يستحب التأخير إليه وأن قلنا أنه وقت خروجا من الخلاف.

فصل وأما الفجر فإن التغليس بها أفضل قال الإمام أحمد التغليس في الفجر مذهبي وكان يأمر ويصلي بأصحابه بغلس أن لم يكن في التغليس مشقة على المأمومين ثم أن كان المأمومون يغلسون أو أمكن أن يعودوا التغليس من غير مشقة أو كان الوقت لا يشق فيه التغليس عليهم ولا على غيرهم أو ليس هناك جماعة تنتظر كالقوم المجتمعين وكالصلاة في المساجد المبنية على الطرقات التي ليست لها جماعة راتبة ونحو ذلك فلا يختلف المذهب أنه هو الأفضل لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من التغليس" رواه الجماعة وللبخاري قال: "كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنات لا يعرفن من الغلس ولا يعرف بعضهن

بعضا وقد تقدم قول جابر: كان يصلي الفجر بغلس وقول أبي برزة كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ فيها بالستين إلى المائة وقال سهل بن سعد: "كنت أتسحر مع أهلي ثم يكون بي سرعة أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري وقال زيد بن ثابت: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم قدر ما بينهما قال قدر خمسين آية" رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن أبي مسعود الأنصاري: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر" رواه أبو داود ولأن التغليس بها عمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاء ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن

مسعود وأبي موسى وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين وما نقل عن بعضهم من الأسفار فلعله كان لعارض ولأن التغليس صلاة في أول الوقت فهو أفضل كما تقدم وفيه من الفوائد ما ذكرناه في تأخير العشاء وغير ذلك من قربها من صلا ة الليل وبعدها عن حركات النهار وانتشار الأصوات وافتتاح يومه بأداء الفرض إلى انتظار الصلاة فإنه يخلفه هنا جلوس المصلي في مصلاه حتى تطلع الشمس ولأن ذلك ادعى إلى الاستيقاظ واتساع ذكر الله المشروع أول النهار ولأن الجهر بقراءتها يلحقها في صلوات الليل فكلما كانت الظلمة أشد كان وقتها إلى الليل اقرب وأن كانت من صلوات النهار كما نص عليه الإمام احمد. ولأن إطالة القراءة فيها من السنن المؤكدة وهذا إنما يتم بالتغليس ولعل الذين اسفروا بها من الصحابة إنما اسفروا بالخروج منها لإطالة القراءة فقد روى حرب والخلال وغيرهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى صلاة الفجر فقرأ سورة البقرة فقالوا كادت الشمس تطلع فقال: لو

طلعت لم تجدنا غافلين وفي رواية سورة آل عمران وكذلك روى السائب بن يزيد قال صليت خلف عمر الصبح فلما انصرفوا استشرفوا الشمس فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين. فإن قيل فقد روى رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقال عبد الله بن مسعود: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها" رواه الجماعة وفي رواية لمسلم بغلس وهذا يقتضي أن عادته كانت الأسفار في غير هذا الموضع إذ المراد به قبل وقتها الذي كانت عادته أن يصليها فيه فإنه لم يصلها يومئذ حتى برق الفجر كما في حديث جابر وهي قبل ذلك لا تجوز إجماعا.

قلنا قال الإمام أحمد الأسفار عندي أن يتيقن الفجر ولم ير الأسفار التنوير يقال للمرأة أسفرت عن وجهها. وقال أيضا أسفار الفجر طلوعه وهذا لأنه يقال أسفر الفجر أضاء وأسفر وجهه حسنا أي اشرق وسفرت المرأة كشفت عن وجهها وسافر الوجه ما يظهر ومنه السفر والسفر والسفير فهذه المادة حيث تصرفت فإنما معناها البيان والظهور ومعلوم أنه إذا طلع الفجر فقد حصل البيان والظهور {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ويقال أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ومعنى الحديث على هذا تأخيرها حتى يتيقن الفجر بحيث لا يكون فيه شك لأحد وأن جاز فعلها أول ما يبزغ به بحيث قد يحصل معه شك لبعض الناس لا سيما من يقول أنه يجوز فعلها إذا غلب على الظن دخول الوقت وإنما ذكر هذا في الفجر لأن طلوع الفجر مظنة الاشتباه لا سيما إذا اشتبه ضوءه بضوء القمر في ليالي القمر وكثيرا ما قد يصلي الفجر ثم تبين لهم أن الفجر لم يطلع وقد وقع ذلك لعدد من الصحابة وغيرهم بخلاف زوال الشمس وغروبها ولهذا والله أعلم مد الله الأكل بالليل إلى أن يتبين الفجر وقال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ} فجعل

وقت الفجر منوطا بتبينه وظهوره وهو الأسفار الذي اقر النبي صلى الله عليه وسلم به على هذا التفسير ولم يقل ثم أتموا الصيام حتى يتبين لكم الليل لان دخول الليل لا شبهة فيه فإذا أخرت حتى يظهر ضوء الفجر ويتبين كان ابعد عن الشبهة ولعله بهذا أيضا أن يتسحر الناس حتى يتبين لهم الفجر وأن لا يكفوا عن الطعام إذا اشتبه عليهم الحال. وقد جاء ذلك مأثورا عن الصحابة في قضايا متعددة فكان المؤذن والمصلي إذا لم يتبين طلوع الفجر أعاد الناس ذلك. وقد قيل أن أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلوات احتمل أنهم كانوا يصلونها ما بين الفجر الأول والثاني: طلبا للأجر في تعجيلها ورغبة في الثواب فقيل لهم صلوها بعد الفجر الثاني فإنه أعظم للأجر وأن كانت لا تجوز قبل الوقت لكن لما لم يصفوا الفجر ونوره فإن الله يأجرهم على صلاتهم لكن الأجر الذي يسقط من الفرض أعظم وكثيرا ما يفعل الواجب على المحرم كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} وقوله: {فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وهذا كثير وكذلك حديث ابن مسعود فإن عادته صلى الله عليه وسلم كانت تأخير

الصلاة عن طلوع الفجر قليلا بحيث يتمكن الناس من الطهارة والسعي إلى المسجد ونحو ذلك وهذا القدر لا يخل بالتقديم المستحب عندنا فإذا كان يوم مزدلفة صلاها حين برق الفجر. وقد قيل اسفروا بالفجر أراد به إطالة القراءة فيها حتى يسفر الفجر فإن إطالتها أعظم للأجر فإنه يستحب من إطالة القراءة فيها ما لا يستحب في سائر الصلوات فيكون الأسفار بفعلها والخروج منها لا بنفس الابتداء فيها كما كان الخلفاء الراشدون يفعلون. ويحتمل أن يكون ذلك خطابا لمن يتأخر من المأمومين عندهم كزمان الصيف كما جاء مفسرا في حديث معاذ بن جبل. فصل. والتغليس أفضل من الأسفار مطلقا في إحدى الروايتين عنه لما تقدم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغلس بها دائما مع أنه كان يراعي حال المأمومين في العشاء فدل على افتراقهما. والرواية الثانية التغليس أفضل إلا أن يشق على المأمومين ويكون

الأسفار ارفق بهم فإنه يسفر بحيث يجتمعون فقط وهذا أبين عنه واصح عند أكثر أصحابه لما تقدم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " إذا كان الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر ثم اطل القراءة على قدر ما يطيق الناس ولا تملهم وتكره إليهم أمر الله وإذا كان الصيف فأسفر بالصبح فإن الليل قصير وأن الناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوها" وقال الإمام أحمد كان عمر إذا اجتمع الناس عجل وإذا لم يجتمعوا آخر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك فروى أحمد في المسند عن أبي الربيع قال قلت لابن عمر إني صليت معك ثم التفت فلا أرى وجه جليسي ثم أحيانا تسفر قال كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي واحب أن اصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها ولعل قوله: "اسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" عنى به هذا ولأنه قد صح عنه في العشاء أنهم كانوا إذا اجتمعوا عجل وإذا ابطؤا آخر فعلم أنه كان يراعي حالهم وأنه إنما كان يغلس بها لأن أصحابه كانوا يغسلون ولا يشق عليهم التغليس.

ولان استحباب تأخير العشاء أكد من تأخير الفجر فإنه لم تختلف الأحاديث فيه ولا اختلف الناس فيه إلا اختلافا شإذا ومع ذلك استحببنا تقديمها إذا شق على المأمومين فكذلك الفجر لكن مشقة التأخير في العشاء أكثر من مشقة التغليس بالفجر إلا أن هذا لا يمنع رعاية المشقة عند حصولها ولان التغليس بالفجر مع أسفار الجيران يفوت فضيلتين. إحداهما: كثرة الجمع وهي المطلوبة لما روي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلات الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله" رواه أحمد وأبو داود. والثانية تحصيل الجماعة للمصلي فإن النبي صلى الله عليه وسلم سماها صدقة فقال: "إلا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" ولان في ذلك تفويتا للجماعة عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الإمام بالتخفيف خشية التنفير وإن

كان طول القنوت مستحبا في نفسه ولذلك كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي لما يعلم من وجل أمه به وكان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم ولأنه يستحب انتظار الداخل في الركوع كل ذلك رعاية لحال المأمومين ولان التأخير إذا كان لمصلحة راجحة مثل الصلاة بوضوء والصلاة جماعة أو أن يكون امتثالا لأمر أبيه أو سيده أو شبه ذلك كان أفضل من التقديم وهي هنا كذلك لما تقدم. فإن قيل فما الفرق بين الفجر والعشاء وسائر الصلوات. قلنا الفجر والعشاء يكون النوم في بعض أوقاتهما فيشق فعلهما في وقت النوم وأما غيرهما من الصلوات فإن جميع أوقاتها سواء فكان التقديم متعينا بل ربما كان في الصلاة آخر الوقت أو وسطه مشقة عليهم حتى لا ينضبط فأما هنا فإن الأسفار وقت منضبط حتى لو كان جماعة في مكان قد تهيا بعضهم لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب وبعضهم لم يتهيأ استحببنا التأخير بحيث يتهيأ الجميع طردا للقاعدة. وبين الفجر والعشاء فرق وهو العشاء المستحب فيها التأخير وإنما تقدم إذا شق على المصلين تأخيرها والغالب حصول المشقة بذلك والفجر المستحب فيها التقديم وإنما يؤخر إذا شق على المأمومين تقديمها وليس الغالب حصول المشقة بذلك وفرق بين الاستحباب

الناشىء من نفس الوقت والاستحباب الناشىء من مصلحة المصلين والله أعلم. فصل. تجب الصلاة بأول الوقت إذا كان من أهل الوجوب حينئذ ويستقر الوجوب بذلك في الذمة عند أكثر أصحابنا وهو المنصوص عنه وقال ابن بطة وابن أبي موسى لا يستقر الوجوب حتى يمكنه الأداء وهو قياس إحدى الروايتين في الزكاة والحج والصوم وصورة ذلك أن تزول الشمس على امرأة طاهر فتحيض أو على عاقل فيجن وأن كان بعد التمكن من فعل الصلاة وجب القضاء قولا واحدا وكذلك أن كان قبل التمكن من القضاء على المشهور. وعلى القول الآخر لا يجب لأن هذا لم يقدر على الصلاة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

ووجه الأول أن دخول الوقت سبب للوجوب فوجب أن يتعلق به ويستقر كسائر الأسباب والتمكن إنما تعتبر في لزوم الأداء لا في نفس الوجوب في الذمة بدليل ما لو دخل الوقت على نائم ولم يستيقظ حتى خرج الوقت الوقت فإنه يجب عليه القضاء وأن لم يمكنه الأداء في الوقت. ثم القضاء إنما يجب إذا أمكن وإذا لم يمكن فلا شيء عليه وقد روى حرب بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال للنساء لا تنمن عن العتمة مخافة أن تحضن. فأما المسلم إذا ارتد بعد دخول الوقت فمن أصحابنا من يلحقه بالعاقل إذا جن ومنهم من لا يلحقه به. وحقيقة المذهب أنا أن قلنا لا يجب عليه القضاء ما تركه قبل الردة فلا قضاء عليه بحال وأن أوجبنا عليه قضاء ما تركه في الردة وقبلها فليس من هؤلاء وأن قلنا بالمشهور أنه يقضي ما تركه قبل دون ما تركه فيها وكانت الردة بعد التمكن من الفعل لزمه القضاء لاستقرار الوجوب في الذمة وأن كانت قبل التمكن فكذلك أيضا على المشهور ففي ظاهر المذهب يجب القضاء على المرتد بكل حال. وتجب الصلاة أيضا بادراك آخر جزء من الوقت فإذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء في آخر جزء من وقت صلاة ولو أنه بقدر تكبيرة فعليهما فعلها أداء أن أمكن وألا فقضاء من غير خلاف في المذهب

لأنهما أدركا بعض الوقت على وجه يصح بناء ما بعده عليه فأشبه من أمكنه فعل الجميع في الوقت وكذلك أن بلغ الصبي وعقل المجنون وقلنا لا صلاة عليهما. وإن كان الإدراك في وقت الثانية من المجموعتين وجبت الأولى أيضا لما ذكره الإمام أحمد وغيره عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلت الظهر والعصر وإذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء. وروى حرب عن أبي هريرة قال إذا طهرت قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء وهذا لأن مواقيت الصلاة خمسة في حال الاختيار وثلاثة في حال العذر والضرورة بدليل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} وقوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وأن السنة مضت بذلك في حال

العذر حتى جاز أن يصلي الظهر والعصر ما بين الزوال إلى غروب الشمس ويصلي المغرب والعشاء ما بين الغروب إلى طلوع الفجر وهو الجمع بين الصلاتين إذا آخر الأولى بنية الجمع ثم حدث له عذر أخرهما بسببه إلى وقت الضرورة وهذا وقت الضرورة فلذلك كان مدركا للأولى بما أدرك به الثانية. وإن كان الإدراك في وقت الأولى بأن تحيض المرأة في وقت الظهر أو المغرب أو يجن الرجل فهل يجب عليهما قضاء العصر والعشاء على روايتين. إحداهما: يجب القضاء لأن وقتهما واحد. والثانية لا يجب وهي المنصورة عند أصحابنا لأن وقت الأولى إنما يكون وقتا للثانية إذا فعل الأولى فتكون الثانية تابعة لها بخلاف وقت الثانية فإنه يكون وقتا للأولى فعلها أو لم يفعلها. فصل. ومن لم يصل المكتوبة حتى خرج وقتها وهو من أهل فرضها لزمه القضاء على الفور لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك" متفق

عليه وفي رواية لمسلم: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وفي لفظ: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" رواه مسلم وغيره وعن أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" رواه الجماعة إلا البخاري فأوجب صلى الله عليه وسلم القضاء على الفور مع التأخير لعذر فمن التأخير لغير عذر أولى. فإن قيل تخصيص الحكم بالناسي دليل على أن العامد بخلافه وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه أن للصلاة وقتا كوقت الحج وهذا يدل على أن لا تفعل في غير الوقت. قلنا إنما خص النائم والناسي إذ لا إثم عليهما في التأخير إلى حين الذكر والانتباه بخلاف العامد فكان تأخيرها عن وقتها من الكبائر ومعنى قول ابن مسعود أنه لا يحل له أن يؤخرها عن وقتها ولا يقبل منه إذا آخرها

كما قال الصديق رضي الله عنه أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل وذلك أن الله تعالى أوجب عليه أن يصلي وأن يفعل ذلك في الوقت فالإخلال بالوقت لا يوجب الإخلال بأصل الفعل بل يأتي بالصلاة ويبقى التأخير في ذمته أما أن يعذبه الله أو يتوب عليه أو يغفر له ولم يرد أن الصلاة كالحج من كل وجه فإن الحج لا يفعل في غير وقته سواء أخر لعذر أو لغير عذر والصلاة بخلاف ذلك ومثل هذا ما روي: "أن من افطر يوما من رمضان لم يقض عنه صيام الدهر كله وأن صامه" يعني من أجل تفويت عين ذلك اليوم مع أن القضاء واجب عليه. ويدل على ذلك أن عمر وابن مسعود وغيرهما من السلف جعلوا ترك الصلاة كفرا وتأخيرها عن وقتها إثما ومعصية وفسروا بذلك قوله تعالى: {عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وقوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} فلو كان فعلها بعد الوقت لا يصح بحال كالوقوف بعرفة بعد وقته لكان وجود تلك الصلاة كعدمها وكان المؤخر كافرا كالتارك " وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمراء

الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها وأمر أن يصلي خلفهم" ولو كانت الصلاة فاسدة لم تصح الصلاة خلفهم كالمصلي بغير وضوء. ويجوز تأخير القضاء شيئا يسيرا لغرض صالح مثل اختيار بقعة على بقعة وانتظار جماعة يكثر بهم جمع الصلاة بل يستحب له إذا نام عنها في موضع أن ينتقل عنه إلى غيره للقضاء نص عليه واختاره بعض أصحابنا إذا نام عنها في منزل في السفر وذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر في السفر وقال: "هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". لأن الصلاة في مظان الشياطين كالحمام والحش لا تجوز فالتي عرض الشيطان فيها أحسن أحوالها أن يستحب ترك الصلاة فيها. ولا يجب عليه القضاء أكثر من مرة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض يوم الخندق ويوم نام عن الفجر أكثر من مرة واحدة وقد احتج أحمد على ذلك بما رواه في المسند بإسناد جيد عن عمران بن حصين قال: "ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا

فقالوا يا رسول الله إلا نعيدها في وقتها من الغد فقال: "أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم" وهذا لأن الواجب في الذمة صلاة واحدة فلو أمر بصلاتين لكان ربا. فإن قيل ففي حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" رواه أحمد ومسلم وفي رواية ابن ماجة: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ولوقتها في الغد". قلنا معناه والله أعلم فليصلها حاضرة وأكد الأمر بالمحافظة لئلا يتوهم أن الرخصة لغير المعذور وليتحفظ من تفويت مرة أخرى وقد رواه أبو داودولفظه: "من أدرك معكم في غد صلاة فليقض معها مثلها" وهذا والله أعلم توهم من بعض الرواة بما فهم من المعنى وقد علل البخاري هذه الرواية.

فصل فإن كثرت عليه الفوائت وجب عليه أن يقضيها بحيث لا يشق عليه في نفسه أو أهله أو ماله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم" فإن خاف في بدنه ضعفا أو مرضا أو انقطاعا عن معيشة أو تضرر أهله أو ضياع ماله بالمداومة على القضاء فرق القضاء بحسب طاقته. وإذا شك في قدر الفوائت فإن لم يعلم كم وجب عليه بأن يقول لم أصل منذ بلغت أو أن صليت بعد بلوغي سنة وهو لا يعلم متى بلغ ثم تركت وجب عليه أن يقضي ما يتيقن وجوبه إذ الأصل براءة ذمته مما زاد على ذلك لكن الأحسن أن يحتاط فيقضي ما يتيقن به براءة ذمته. وإن علم قدر الواجب عليه وشك بقدر ما فاته منه مثل أن يقول بلغت منذ سنة وصليت بعضها وتركت الباقي فإنه يجب عليه أن يقضي حتى يعلم أنه قضى جميع الفوائت لأنه متيقن لوجوب الصلاة عليه شاك في براءة ذمته منها. وكذلك من شك في فعل الصلاة في الوقت أو بعد خروج الوقت وقد أطلق طائفة من أصحابنا فيمن لم يعلم ما عليه في أنه يقضي حتى يتيقن براءة ذمته لان أحمد قال فيمن ضيع الصلاة يعيد حتى لا يشك أنه قد

صلى ما ضيع وقال فيمن فرط في صلاة يوم الظهر ويوم العصر صلوات لا يعرف عينها قال يعيد حتى لا يكون في قلبه شيء وكلام أحمد إنما هو فيمن يتيقن الوجوب كغالب الخلق لما قدمناه. فصل. يجوز أن يقضي الفوائت بسننها الرواتب وبدونها لأنها متأكدة ولهذا يفعلها العبد والأجير لأنها تابعة للصلاة فأشبهت السورة في الأوليين وما زاد على المرة من التسبيح والاستغفار ثم أن كانت كثيرة فالأولى أن يقتصر على الفرائض لأن المبادرة إلى براءة الذمة أولى ولذلك لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الأربع يوم الخندق قضاهن متواليات ولم ينقل أنه قضى بينهن شيئا إلا ركعتي الفجر فإن الأولى أن يقضيهما لتأكدهما والوتر أن شاء قضاه وأن شاء لم يقضه وأن كانت الصلاة أو صلاتين فالأولى أن يقضي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فاتته الصبح فإنه قضاها بسنتها وكذا ينبغي أن يجوز له الاشتغال بالسنن المؤكدة كسننن الحاضرة وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح قبل الفوائت وأن كان الأولى المبادرة إلى الفرائض.

فأما غير الرواتب من النوافل المطلقة فلا يجوز أن يشتغل بها عنه قضاء الفوائت. وهل تنعقد على روايتين مومئ إليهما. إحداهما: تنعقد قال الآمدي وهو ظاهر المذهب لأن النهي عنه لمعنى في غيره ولهذا تكمل فريضة العبد يوم القيامة من تنفلاته. والثانية: لا يصح لأن النهي يقتضي الفساد وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في وصيته لعمر واعلم أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة وذكره الإمام أحمد في الرسالة فقال وقد جاء الحديث لا يقبل الله النافلة حتى تؤدى الفريضة وكذلك كل نافلة تشغل عن فريضة كالنفل بعد الشروع فيه بعد إقامة الصلاة والتنفل بعد ضيق وقت الحاضرة. فأما ما كان النهي عنه لمعنى في الوقت كالنافلة عند الطلوع والغروب فلا تنعقد النية وقد روي ما يدل على انعقادها كما يذكر أن شاء الله تعالى في موضعه.

فصل. ويجب الترتيب بين الفوائت وبين الحاضرة والفوائت لما روى ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء" رواه أحمد والنسائي والترمذي ولأحمد والنسائي مثله من حديث أبي سعيد إلا أن النسائي لم يذكر المغرب لكنه قد صح من حديث جابر: "وفعله صلى الله عليه وسلم للصلوات يقتضي الوجوب لأنه خرج بيانا وامتثالا للأمر والفعل إذا خرج امتثالا كان حكمه حكم الأمر وعن أبي جمعة بن سباع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب فلما خرج قال هل علم أحد منكم إني صليت العصر قالوا يا رسول الله ما صليتها فأمر

بالمؤذن فأقام فصلى العصر ثم صلى المغرب" رواه أحمد وهذا صريح بالإعادة إذا اخل بالترتيب وهذا الحديث فيه ضعف إلا أنه يقويه أن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ لم يصل المغرب إلا بعد هوي من الليل وبعيد أن يكون نسيها إلى ذلك الوقت فإن وقت المغرب ضيق ولأنه قد قال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني اصلي" على أن كثيرا من أصحابنا يجعل الأصل في جميع أفعاله الوجوب وهو إحدى الروايتين. ولأن الفائتة يجب قضاؤها على الفور لما تقدم والحاضرة يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت فوجب الابتداء بما يجب على الفور كسائر الواجبات ولأن الفائتة الأولى استقرت في ذمته وخوطب بقضائها إذا أدركها قبل الثانية فإذا آخرها عن وقت الذكر إثم بذلك. وأما الثانية فإنما يجب عليه فعلها بعد الأولى إذ لا يكلف فعلهما معا. فإن قيل هذا يقتضي وجوب الابتداء أما عدم الصحة فلا يلزم كما لو آخر الواحدة عن حين ذكره. قلنا يتوجه أن يخرج في انعقاد الثانية قبل الأولى ما خرج في انعقاد

النفل المطلق قبلها وأولى إذ النهي عنها بالمعنى في غيرها وإنما المذهب أنها لا تصح لأن هذا الترتيب مستحق في الصلاة فلم ينعقد مع الإخلال به كترتيب السجود على الركوع ولأنهما صلاتان مكتوبتان فوجب الترتيب بينهما كالمجموعتين ولأنه إذا فعل الثانية قبل الأولى فقد فعلها قبل وقت وجوبها فلم تجزه كما لو صلى الحاضرة قبل وقتها بخلاف النافلة فإنها لا تختص بوقت ولأن الفرائض من جنس واحد مختلف فوجب الترتيب بينها بخلاف النفل ولهذا يجوز له أن يتنفل قبل المجموعتين وليس ببعض بدليل أن المغرب وتر النهار وأن الصلاة الأخرى وتر الليل فإذا قدم بعضها على بعض خرجت الصلوات عن نظمها. وسواء قلت الفوائت أو كثرت لما ذكر. فان نسي الترتيب مثل أن يصلي الظهر ثم يذكر أنه لم يصل الفجر أو أنه صلاها بغير طهارة سقط الترتيب عنه في ظاهر المذهب. وحكي عنه لا يسقط لأنه ترتيب مستحق فلم يسقط بالنسيان كترتيب السجود على الركوع وترتيب ثانيتي الجمع على أولهما وترتيب أعضاء الوضوء ولحديث أبي جمعة المتقدم.

ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليصلها إذا ذكرها" مع علمه أنه قد لا يذكرها إلا بعد عدة صلوات ولم يفصل ولأن المنسية لا يخاطب بأدائها إلا حين ذكرها وذلك هو الوقت المأمور بفعلها فيه والمذكورة يخاطب بها حيث الذكر فلا يجوز أن يبطل ما وجب فعله وهذا بخلاف ترتيب الأركان والوضوء فإن الأول شرط في صحة الثاني وهو مرتبط به بحيث لا يصح إلا بصحته ولا يفسد إلا بفساده فلا يصح أن يتأخر عنه وصلاتا الجمع لا يكاد يعرض فيهما نسيان بخلاف الفوائت. وأما الجاهل بوجوب الترتيب إذا بدأ بالحاضرة ثم بالفائتة ثم صلى بعد ذلك ثم علم فيجزيه ما صلى بعد الفائتة لأنه صلى معتقدا أن لا صلاة عليه وأما ما صلى قبلها فيعيده لأنه صلاة في غير موضعه ويتوجه أن يكون الجهل كالنسيان. فان ذكر الفائتة في الحاضرة فالمشهور عنه أن الترتيب لا يسقط. وعنه يسقط عن المأموم خاصة فيتم الحاضرة ثم يقضي الفائتة فقط لأن الجماعة واجبة للحاضرة وقد دخل وقتها فلا يجوز تفويتها بخلاف الإمام والمنفرد فإنه يمكنهما القطع من غير تفويت شيء.

وقيل يسقط مطلقا لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي" رواه الدارقطني فأمر بإتمام الحاضرة ولم يأمر بإعادتها ولأن الحاضرة بالشروع فيها صارت على الفور وتعين إتمامها فأشبه ما لو ضاق وقتها. وعلى المشهور يتمها المأموم ثم يصلي الفائتة ثم يعيده الحاضرة وقد حكي عنه المأموم يقطعها كالمنفرد. والأول هو الذي نقله عنه الجماعة لما روى أبو يعلى الموصلي وأبو بكر والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام" والمشهور أنه عن ابن عمر موقوفا ولأنه حين ذكر الفائتة صار ذلك وقتها فوجب فعلها فيه ولم يصح أ , يصلي فيه غيرها كما لو ذكر قبل الشروع لكن

بدخوله مع الإمام صار ملتزما لصلاة فسن تأخيرها إلى انقضاء صلاته كما لو آخرها لسنة راتبة وأولى. وأما الإمام فإنه يقطعها قال في رواية حرب ينصرف هو ويستأنف القوم الصلاة قال أبو بكر لم ينقلها غيره وبنى أبو بكر ذلك على جواز الاستخلاف وجوز ائتمام المتنفل بالمفترض ومن أصحابنا من حكى في اتمام الإمام إياها روايتين ومنهم من قال صارت نافلة والمأمومون خلفه مفترضون ولا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل ومن جوزه صحح إتمام الإمام إياها وائتمامهم به فيها وعلى المنصوص قال القاضي يتمها نفلا ثم يقضي الفائتة ثم يصلي الحاضرة وقال الآمدي وأكثر الأصحاب عليه أن يقطعها فإن أتمها فوجهان. أحدهما: تبطل لأن بقاء الفرض في ذمته يمنع صحة غيره كالمنفرد بخلاف المأموم فإنها صحت تبعا. والثاني: يتمها نفلا. ثم بإئتمامهم به فيها وجهان وهذه الطريقة أصح وأشبه بالنص.

وأما المنفرد فهل يقطعها أو يتمها على روايتين. إحداهما: يتمها وهي اختيار أبي بكر قال الآمدي وهي أصح لأن الشروع يؤكد الإتمام كالسنن الرواتب. والثانية: يقطعها لأنها نافلة فلا يشتغل بها عن الفرض كالنفل المبتدأ. وإذا قلنا يقطعها فأتمها فهو جائز نص عليه وكذلك أن قلنا يتمها فقطعها جاز نص عليه لأنه تطوع والتطوع لا يلزم بالشروع وقد نص أحمد على التخيير بين الأمرين ومقتضى ما ذكره بعض أصحابنا أنه يلزمه الإتمام حيث يؤمر به ولنا في الصلاة النافلة هل تلزم الشروع روايتان لكن هنا دخل فيها يعتقد أنها عليه فبان أنها ليست عليه فإلزامه بالإتمام بعيد. فصل. فان ضاق الوقت عن فعل الفائتة والحاضرة سقط الترتيب في إحدى الروايتين. وفي الأخرى لا يسقط اختارها الخلال وصاحبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فجعل وقت الذكر وقت الفائتة فلا يجوز أن يصلي فيه غيرها ولأن الصلاة في الوقت فرض وليس بشرط والترتيب فرض مشترط فكانت مراعاته أولى وقد روي في الحديث لا صلاة لمن عليه صلاة لكنه لا يعرف له أصل فعلى هذا يشتغل بقضاء الفوائت متواليات حسب الطاقة والإمكان وأن فاته عدة من الصلوات ثم يصليهن إذا جاءت نوبتهن. ووجه الأولى وهي الصحيحة عند أكثر أصحابنا أن الوقت وقت الحاضرة فلا يجوز أن تؤخر عنه كسائر المواضع وكما لا يجوز تأخير صوم رمضان لقضاء الزمان الماضي ولأن في ذلك تفويت الصلاتين ولأن الصلاة الحاضرة في وقتها فرض" متفق عليه معلوم قطعا والترتيب مما ساغ فيه الخلاف ولأن تأخير الفائتة لسنة راتبة نوع مصلحة جائز وتأخير الحاضرة عن وقتها لمثل ذلك لا يجوز وقال القاضي المسألة: (رواية واحدة يبدأ بالحاضرة وذكر عن أحمد ما يدل على أن الرواية الأولى مرجوع عنها فيكون في حكايتها مذهبا له الطريقتان المشهورتان. فان خالف وبدا بالفائتة ففي صحتها وجهان لأنه فعلها على الوجه

المنهي عنه لكن لم يخالف ترتيبا مستحقا كما قلنا فيما إذا صلى قبلها نافلة. وعلى هذا يجب عليه أن يشتغل بقضاء الفوائت إذا كثرت حتى يضيق وقت الحاضرة لأن الابتداء بالفوائت واجب والصلاة في أول الوقت سنة هذا أشهر الروايتين. وعنه يجوز أن يصليها في أول الوقت إذا لم يتسع الوقت لفعلها مع الفوائت اختارها أبو حفص العكبري وصاحب الكتاب لأنه لا يمكنه فعل جميع الفوائت قبلها فسقط ترتيبهن عليها كماه لو ضاق الوقت عن فعل الفائتة والحاضرة. وإذا خاف أن يضيق وقت الحاضرة عن فعلها في وقت الاختيار أو فعل بعضها بحيث لو صلى الفائتة فهو كما لو ضاق عن فعل جميعها فإنه يجب عليه أن يفعلها كلها قبل دخول وقت الضرورة وكذلك لو بقي من وقتها ما لا يتسع إلا لفعل بعض صلاة فإنه يبدأ بالحاضرة لقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم". فأما الجمعة إذا خشي فوتها مثل أن يذكر الفجر وهو فيها أو عند قيامه إليها ويخشى فوتها أن اشتغل بالقضاء فإنه يصليها رواية واحدة.

ثم أن قلنا أن الترتيب يسقط بضيق الوقت اجزأته كغيرها وأولى لأنها لا تقضي جمعة بحال وأن قلنا لا يسقط فإنه يعيدها ظهرا بعد إعادة الفائتة وقد نص علي الروايتين. فان كان الذي ذكر هو الإمام فإن ذكر وهو فيها فعنه يتمها فتجزئه ومن خلفه جمعة لان تبطيل جمعتهم أعظم من ضيق الوقت ونسيان الفائتة وعنه لا تجزئه ولا من خلفه كما لو ذكر في غير الجمعة فعلى هذا يعيدون جمعة أن اتسع الوقت وألا فظهرا وقياس ما ذكروه في الجماعة أنه يعتبر اتساع الوقت. وإن ذكر قبل إحرامه فالأولى أن يستخلف ويشتغل في القضاء ثم أن أدرك معهم ما تدرك به الجمعة وألا صلى ظهرا فإن لم يفعل وصلى بهم فعلى الروايتين. وقيل إذا جاز له الاستخلاف وأمكنه بعد القضاء أن يدرك معهم ما تدرك به الجمعة لزمه ذلك. فان ذكر الفائتة في الحاضرة وضاق الوقت عن إتمام الحاضرة وإعادة الفائتة والحاضرة سقط الترتيب أيضا كما لو ضاق عن فعل الحاضرة والفائتة. وقيل إنما يسقط إذا ضاق عن فعل الفائتة وإعادة الحاضرة لأن إتمام الحاضرة نفل فيجب تركه عند ضيق الوقت عنه. فأما أن أقيمت الجماعة وخشي فوتها بان لا يطمع في إدراكها ولا

إدراك جماعة أخرى أن اشتغل بالقضاء لم يسقط الترتيب لكن يتابع الإمام في صلاته ثم يقضي ثم يعيد كما لو ذكر في أثنائها. وعنه يسقط أيضا وهي اختيار أبي حفص لأن الجماعة واجبة فأشبهت الجمعة وأن لم يخش فوتها بان يمكنه القضاء ثم يصلي معهم أو مع غيرهم لم يسقط الترتيب قولا واحدا. فصل. ومن نسي صلاة من يوم وليلة لا يعلم عينها لزمه أن يصلي خمسا ينوي بكل واحدة أنها هي الفائتة قال ابن أبي موسى يصلي خمس صلوات فجرا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء نص عليه. وعنه ما يدل على أنه يجزيه أن يصلي فجرا ومغربا وأربع ركعات ينوي بها ما فاته بناء على أن نية التعيين لا تجب للمكتوبة. والأول هو المذهب لأنه قد ثبت في ذمته صلاة وتعيين النية للمكتوبة هل هي فجر أو عصر أو ظهر واجب والتشهد الأخير والتسليم فرض فلا يتحقق براءة ذمته إلا بخمس صلوات على ما قلنا.

فان فاتته من يوم واحد ظهر وصلاة أخرى لا يعلم هل هي الفجر أو المغرب وجب عليه الصلوات الثلاث ويبدأ بالفجر لأنه أن بدا بالظهر لم يتحقق براءة ذمته مما قبلها كمن شك في وقت الظهر هل صلى الفجر أم لا. فإن نسي ظهرا من يوم وعصرا من يوم آخر لم يجب عليه إلا ظهر وعصر وأن كان قد يفضي إلى الإخلال بالترتيب في الباطن لأن الترتيب يسقط بالنسيان كما لو نسي نفس الفائتة. ويتحرى بما يبدأ بما يغلب على ظنه أنها السابقة فإن استويا خير لأن ذلك اقرب إلى رعاية الترتيب في إحدى الروايتين. وفي الأخرى يبدأ بالظهر كصلاتي اليوم الواحد إذ أكثر ما فيه سقوط الترتيب بالنسيان وتخرج أن يلزمه قضاء ثلاث صلوات ظهرا ثم عصرا ثم ظهرا أو عصرا ثم ظهرا ثم عصرا بناء على أن الترتيب لا يسقط بالنسيان ولا يتيقن الترتيب المستحق إلا بذلك قال بعض أصحابنا: وهذا أقيس كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها. والصواب ما تقدم وقد ذكر الفرق. فصل. ومن شك في دخول الوقت فلا يصلي حتى يتيقن دخوله برؤية الشمس ونحوها من معرفة الساعات وحسابها فإن تعذر اليقين لتغيم السماء أو لكونه في مطمورة أو أعمى في برية عمل بالاجتهاد بان يستدل على ذلك بأعمال من قراءة أو صناعة أو نحو ذلك فإن اجتهد وهو قادر

على اليقين لم تصح صلاته كمن صلى بالاجتهاد عند حضور الكعبة أو عمل بالقياس مع وجود النص سواء أخطأ أو أصاب هكذا حرره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا وأطلق أبو الخطاب وغيره أنه يصلي إذا تيقن أو غلب على ظنه دخوله وعلى كل حال فيستحب له أن يؤخر الصلاة حتى يتيقن دخول الوقت ما لم يخف خروجه ويجوز العمل فيه بغالب الظن إذا لم يمكن العلم هذا قول أصحابنا وقد كان أبو عبد الله رحمه الله أحيانا يصلي الفجر في الغيم ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع فيعيد كما جاء مثل ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم وقد روى عنه حنبل لا يصلي حتى لا يشك في الزوال في السفر والحضر وقال في رواية ابن منصور إذا شك في الزوال وهو في السفر فلا حتى لا يشك ولا يستيقن وهذا فيما إذا لم يمكن اليقين كما تقدم وأن حمل على ظاهره فله وجه. فإن أخبره ثقة عن علم بالوقت قلده كسائر الأمور الدينية وكذلك المؤذن الثقة إذا أذن في الصحو لغير الفجر أو أذن الفجر وكان من عادته أن

لا يؤذن حتى يطلع الفجر وهذا قول أكثر أصحابنا. وقال القاضي في موضع لا يرجع إلى قول المؤذن ولا غيره حتى يغلب على ظنه دخول الوقت بمرور الزمان ونحوه إلا الأعمى خاصة فإنه يرجع إلى خبر غيره. والأول أصح لما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤذن مؤتمن" وغير ذلك من الأحاديث ولأن قبول قول العدل الذي لا يتهم يجوز مع إمكان حذف الواسطة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعضهم الرواية من بعض في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إمكان مراجعته. وإن أخبره ثقة عن اجتهاد ولم يقلده واجتهد كالقبلة فإن أخبره عن علم كالدقائق والساعات أو أذن مؤذن بناء على ذلك أو على إخبار عارف بذلك فهو كالإخبار عن علم. وإذا سمع الأعمى من يؤذن أو يخبر بالوقت قلده ولم يلزمه أن يسال هل اخبر بذلك عن علم أو اجتهاد لأن الظاهر أنه خبر عن علم.

ومن لا يمكنه الاجتهاد كالمطمور والمستيقظ في يوم غيم لا يدري أي وقت استيقظ يقلد غيره من المجتهدين. وإن اجتهد ثم تبين أنه صلى في الوقت أو بعده أجزاه ولا يضره وأن كان نواها قضاء فتبينت في الوقت أو نواها أداء فتبينت بعد الوقت لأن الصلاة المنوية هي الواجبة فوصف القضاء والأداء وإنما يقصد به تعيين فرض الوقت. وإن تيقن أنه صلى قبل الوقت لم يجزه لما صح عن ابن عمر وأبي موسى أنهما صليا يوم غيم صلاة الفجر ثم تبين أنه قبل الوقت فأعادا. وسواء تبين ذلك في الوقت أو بعد الوقت لأنه فعل العبادة قبل وجوبها فوقعت نفلا ولم يوجد بعد الوجوب ما يبرىء ذمته فبقي في عهده الوجوب وهذا في الفجر والظهر والمغرب ظاهر فأما العصر والعشاء. وإذا ذكر في أثناء الصلاة أن الوقت لم يدخل لم تبطل صلاته لأن دخول الوقت لا يمنع التنفل بالصلاة وهي قد انعقدت نفلا لأن وصف الفرض إذا الغي بقي مطلق الصلاة ومطلق الصلاة ينصرف إلى النفل وكذلك لو تصدق أو صام يعتقده واجبا فتبين أنه لم يكن عليه فإنه يقع تطوعا.

وقال أبو الحسن الآمدي إذا ذكر في أثناء الصلاة أن الوقت لم يدخل فهل تبطل الصلاة أو تكون نفلا على روايتين مخرجتين على من ذكر فائتة في حاضرة وهو منفرد وكذلك لو أراد أن ينقل الفرض إلى النفل لغرض صحيح وهذا ضعيف لأن ذكر الفائتة كان يمنع الابتداء بهذه الصلاة فلهذا منع استدامتها على هذه الرواية ونقل الفرض إلى النفل إنما منعه من منعه لحرمة الفرض وعدم جواز فسخ نيته وهذا مقصود هنا لأن الابتداء بالنافلة في أول وقت المكتوبة جائز وهذه الصلاة لم تنعقد فرضا قط.

الشرط الثالث: ستر العورة

مسألة: (الشرط الثالث: ستر العورة بما لا يصف البشرة). أما ستر العورة عن أعين الناظرين بما لا يصف البشرة فواجب في الجملة في الصلاة وخارج الصلاة وقد تقدم بعض هذا في باب الغسل. لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج يعم حفظة من مس من لا يحل له مسه بجماع وغير جماع ومن النظر إليه بل قد قال بعض التابعين أنه عنى به هنا النظر لأنه قرنه بغض البصر ولأنه ذكر معه استتار النساء عن رؤية الرجال ولقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} إلى قوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} يريد كشف السوءة ونحوه {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أمرنا بِهَا قُلْ أن اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهذه الآيات كلها تتضمن فرض ستر العورة وذم من يتدين بغير ذلك في حال من الأحوال وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة القشيري جد بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك".

قال القوم يكون بعضهم في بعض قال أن استطعت أن لا يرنيها أحد فلا يرنيها" وأمر من كشف فخذه أن يغطيه وقال: "الفخذ عورة" فعلم أن العورة يجب سترها وفرض على داخل الحمام أن لا يدخل إلا بمئزر وهذا كثير تقدم بعضه. ويجب سترها في الخلوة وغيرها إلا من حاجة وقال القاضي يكره التعري في الخلوة ولا يحرم ومن أصحابنا من يحكيها على روايتين والأول أبين في كلام أحمد وأشبه بظاهر السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية ابن حيدة: "فالله أحق أن يستحيا منه" لما قال له فإن كان أحدنا خاليا ونهى أن يحتبئ الرجل في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء" وفي

لفظ: "ليس على فرجه منه شيء" رواه الجماعة وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم" رواه الترمذي وعن عتبة بن عبد الرحمن السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين" رواه ابن ماجة ولأن الله أحق أن يستحيا منه من الناس وكذلك ملائكته وغيرهم من خليقته فتجب السترة في الخلوة كما تجب عن أعين الناس ولهذا وجبت في الصلاة خلوة وليس الاستتار لأجل الاستخفاء من الله تعالى إذ هو سبحانه بصير لا تخفى عليه خافية وإنما ذلك ظن الذين كفروا والذين اخبر الله عنهم بقوله: {أَلا أنهم يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ولكن يعني الاستحياء منه مبلغ الجهد كما اخبر الله

تعالى عن آدم وحواء حين بدت سوآتهما أنهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. وكما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول أيها الناس استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فاحني ظهري حياء من ربي وكذلك قال أبو موسى في الاغتسال. فصل. وأما التزين للصلاة فأمر زائد على ستر العورة. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أنزله الله سبحانه لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة إلا الحمس ويقولون ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها إلا الحمس لفضلهم في أنفسهم وهم قريش ومن دان دينها وكان من حصل له ثوب احمسي طاف فيه ومن لم يحصل له ثوب احمسي طاف عريانا فإن طاف في ثوبه حرم عليه فحرم الله ذلك وأمر بأخذ الزينة وهي اللباس ولو كان عباءة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن ينادي بالناس عام حج: "ألا لا يطوفن بالبيت

عريان" متفق عليه وكل محل للسجود فهو مسجد وهذا يدل على أن السترة للصلاة والطواف أمر مقصوده التزين لعبادة الله ولذلك جاء باسم الزينة لا باسم السترة ليبين أن مقصوده أن يتزين العبد لا أن يقتصر على مجرد الاستتار. وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله الصلاة حائض إلا بخمار". وقوله: إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء وغير ذلك من الأحاديث وسنذكر أن شاء الله تعالى بعضها. وأما الإجماع: فقال أبو بكر ابن المنذر اجمع أهل العلم على أن على المرأة الحرة البالغة أن تخمر رأسها إذا صلت وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة وكذلك حكى غيره الإجماع على اشتراط السترة في الجملة.

وإذا كان مقصود السترة في الصلاة أن يتزين العبد لربه في الصلاة لأنه يناجيه فإنه يجب عليه السترة عن نفسه وعن غيره فلو صلى في قميص واسع الجيب ولم يزره ولا شد وسطه بحيث يرى عورته منه في قيامه أو ركوعه لم تصح صلاته وأن كان يجوز أن يرى عورة نفسه ويمسها لما روى سلمة بن الاكوع قال قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد واصلي وليس علي إلا قميص واحد قال: "فزره وأن لم تجد إلا شوكة" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن أبي هريرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل حتى يحتزم" رواه أحمد وأبو داود ولذلك وجب أن تستر المرأة رأسها وأن كان يجوز أن تقعد خالية مكشوفة الرأس ولذلك وجب ستر المنكبين كما سيأتي أن شاء الله تعالى فليس كل ما جاز كشفه خارج الصلاة جاز في الصلاة إذ هي أشد وسواء سترها بنفسه أو بغيره مثل أن يكون ذو الجيب الواسع عريض اللحية أو غليظ الرقبة لا يرى عورته من جيبه لذلك أو يضع يده على خرق في السترة يستره بيده لأن المقصود السترة وقد حصل.

مسألة: (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة). في هذا الكلام فصول. أحدها: أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة وهذا أشهر الروايتين والأخرى أنها القبل والدبر لأن ذلك هو مفهوم من قوله تعالى: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}. وفي قوله: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ولما روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه قال حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد والبخاري وكذلك روي عنه من حديث عائشة وحفصة رضي الله عنهما: "إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما دخلا عليه وهو كاشف عن فخذه فلم يغطها فلما دخل عثمان غطاها وقال إلا استحي من رجل والله أن الملائكة لتستحي منه" رواه احمد. ووجه الأول ما روى جرهد الاسلمي قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي

بردة وقد انكشف فخذي فقال: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" رواه أبو داود وابن ماجة وعن ابن عباس قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته" رواه أحمد وروى الترمذي قوله الفخذ عورة وقال حديث حسن غريب وروي ذلك من وجوه أخرى يشد بعضها بعضا ولأن ستر العورة إنما وجب لما في كشفها من الفحش والقبح وهذا يشترك فيه الفخذ وغيره ولأن ما حول السوءتين من حريمهما وستره تمام سترهما والمجاورة لها تأثير في مثل ذلك فوجب أن يعطى حكمهما. وما نقل من كشف فخذه فهو والله أعلم أما أن يكون منسوخا لأن أحاديثنا ناقلة حاظرة أو يكون حصل بغير قصد أو يكون المكشوف أوائل الفخذ من جهة الركبة وفوق ذلك بقليل فإن الركبة والسرة ليستا من العورة

وكذلك ما دون السرة بقليل وفوق الركبة بقليل نص عليه في مواضع. وحكي عنه أنهما من العورة لأنهما تمام الحد ولا يحصل تمام السترة إلا بهما فوجب سترهما كما وجب غسل جزء من الرأس وإمساك جزء من الليل. والأول أصح لأن العمدة في ذلك على أحاديث الفخذ وهي لا تتناول الركبة والسرة وقد روى الدارقطني عن أيوب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسفل السرة وفوق الركبتين من العورة" وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين السرة والركبة عورة" وهذا صريح بأنهما ليستا من العورة وقوله هما تمام الحد غير مسلم بل إذا نزل عن السرة قليلا وصعد عن الركبة قليلا جاز نص عليه لأن عادة الصحابة والعرب في زمانه صلى الله عليه وسلم كانت الاكتفاء بالمآزر والعادة انحطاطها عن السرة وقد ذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه: "كان يشد إزاره

تحت السرة". وسواء في ذلك الحر والعبد لعموم الأدلة. فصل الثاني. في عورة المرأة الحرة البالغة وجميعها عورة يجب عليها ستر بدنها في الصلاة إلا الوجه وفي الكفين روايتان وذلك لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وعن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: "إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه" رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وعن ابن عمر أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل فقال: "اجعلنه شبرا فقلن أن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذراعا" فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا" رواه أحمد وعن أم

سلمة: "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم اتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار قال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" رواه أبو داود والدارقطني والمشهور أنه موقوف على أم سلمة إلا أنه في حكم المرفوع لأنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يخفى عليها مثل هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهي مبتلاة بهذا الأمر ولا يجوز أن تفتي بخلاف ما تعلم منه صلى الله عليه وسلم. وتبث بهذه الأحاديث أن قدميها ورأسها عورة يجب سترها في الصلاة فسائر بدنها أولى. وأما الوجه فلا تستره في الصلاة إجماعا. وأما الكفان إلى الرسغين ففيهما روايتان. إحداهما: أنهما ليستا من العورة التي يجب سترها في الصلاة كما اختاره الشيخ رحمه الله وطائفة من أصحابنا لقوله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ

زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال ابن عباس هو الوجه والكفان وهو كما قال لأن الوجه والكفين يظهران منها في عموم الأحوال ولا يمكنها سترهما مع العمل المعتاد ولأنه قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فأمرهن بإرخاء الخمر على الجيوب لستر أعناقهن وصدورهن فلو كان ستر الوجه واليدين واجبا لأمر كما أمر بستر الأعناق. وعن أسماء رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه" رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد وقال فلا تكشف إلا وجهها ويدها ولأنه أذن للنساء في إطالة الذيول وفي حديث أمر سلمة أنها تصلي في درع سابغ ولم تذكر طول الكم بأمر ولا اشتراط فدل على أنه غير مشترط وأن الصلاة تجوز معه وأن لم يكن سابغا ولأن الكف لا يجوز أن تغطيه في الإحرام بلباس مصنوع على قدر فلم يكن من العورة كالوجه وعكسه القدمان ولأنها تحتاج إلى كشفه غالبا فأشبه الوجه ولأن مباشرة المصلي باليدين مسنون كالوجه لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه خفضا ورفعا فإذا لم يكن سترهما مكروها فلا أقل من أن لا يكون واجبا.

ومن نصر هذه الرواية فله أن يبني ذلك على أن الوجه والكفين ليسا بعورة مطلقا بل يجوز النظر إليهما لغير شهوة. وله أن يقول وأن كان في باب النظر فلا يلزم أن يسترا في الصلاة كالوجه وكالأمة الحسناء ونحو ذلك مما يجب ستره عن الأجانب ولا يجب ستره في الصلاة. والثانية: هما عورة وهي اختيار الخرقي وكثير من أصحابنا لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال عبد الله بن مسعود الزينة الظاهرة الثياب وذلك لأن الزينة في الأصل اسم للباس والحلية بدليل قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وإنما يعلم بضرب الرجل الخلخال ونحوه من الحلية واللباس وقد نهاهن الله عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها وأباح لهن إبداء الزينة الخفية لذوي المحارم ومعلوم أن الزينة التي تظهر في عموم الأحوال بغير اختيار المرأة هي الثياب فأما البدن فيمكنها أن تظهره ويمكنها أن تستره ونسبة الظهور إلى الزينة دليل على

أنها تظهر بغير فعل المرأة وهذا كله دليل على أن الذي ظهر من الزينة الثياب. قال أحمد الزينة الظاهرة الثياب وقال كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها وقد روي في حديث المرأة عورة وهذا يعم جميعها ولأن الكفين لا يكره سترهما في الصلاة فكانا من العورة كالقدمين ولقد كان القياس يقتضي أن يكون الوجه عورة لولا أن الحاجة داعية إلى كشفه في الصلاة بخلاف الكفين ولذلك اختلفت عبارة أصحابنا هل يسمى عورة أو لا فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: هو عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة. والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه. وقال الآمدي من أصحابنا من قال هو على الروايتين في اليدين ومنهم من قال ليس بعورة رواية واحدة وهو الصحيح وهذا الخلاف الذي حكاه هو عورة في الجملة وأما صحة الصلاة مع كشفه فلا خلاف بين المسلمين بل يكره للمرأة ستره في الصلاة كما يكره للرجل حيث

يمنع من إكمال السجود ومن تحقيق القراءة على ما يأتي أن شاء الله ذكره اللهم إلا أن تكون بين رجال أجانب وربما يذكر هذا أن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع. فأما المرأة المراهقة فعورتها كعورة الأمة ما لا يظهر غالبا لأن قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" يدل بتعليله ومفهومه على أن غير الحائض بخلاف ذلك وكذلك قوله في حديث أسماء: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" دليل على انتفاء ذلك قبل بلوغ المحيض وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في حجري جارية فألقى علي حقوه فقال شقه بين هذه وبين الفتاة التي في حجر أم سلمة فإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا" رواه أحمد وأبو داود. والخنثى المشكل كالرجل في أشهر الوجهين لان الأصل براءة ذمته مما زاد على ذلك. وفي الآخر هو كالمرأة لأنه لا يتبين براءة ذمته إلا بذلك وبكل حال فالمستحب له أن يستتر كالمرأة احتياطا.

الفصل الثالث: في عورة الأمة. ولا يختلف المذهب أن رأسها مع العنق ويديها وقدميها ليس بعورة في الصلاة وقد نص أحمد على ذلك والمراد بذلك يداها إلى المرفقين وقدماها إلى الركبتين في المشهور. وقال الآمدي القدمان إلى أنصاف الساقين وتسمى هذه الأعضاء ضواحيها لأنها تضحي أي تبرز غالبا وهو بمعنى قول الفقهاء ما يظهر غالبا وينبغي أن يكون المرفق والركبة مما لا يظهر غالبا لأن الحد الذي بين العورة وما ليس بعورة ملحق بالعورة كالحد الذي بين رأس الحرة ووجهها فإن عليها أن تستره لأن ستر الوجه لا يمكن إلا به وقد مضت السنة بالفرق بين الحرة والأمة في باب العورة ويذكر أن شاء الله في موضعه ما يجب أن تستره إذا خيف الافتتان بها ونحو ذلك. والأصل في ذلك أن الله سبحانه قال: {يَا أيها النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية والجلابيب هي الملاحف التي تعم الرأس والبدن وتسميها العامة الأزر وتسمى الجلباب الملآة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

"لتلبسها أختها من جلبابها" أي لتعيرها طرف الجلباب تلتحف به فتلتحف امرأتان بجلباب واحد فاختص الله سبحانه بالأمر بإدناء الجلابيب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين ولم يذكر إماءه ولا إماء المؤمنين ولسن داخلات في نساء المؤمنين بدليل أن قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} وقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} إنما عنى به الأزواج خاصة وإذا لم يكن داخلات في الأمر بالالتحاف بقين على أصل الإباحة لا سيما وتخصيص المذكورات بالحكم يدل على انتفائه فيما سواهن. وكذلك قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنّ} الآية لم تدخل فيه الأمة لأنه لم يستثن سيدها ولأنه قد قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ} وإنما يكون هذا للحرة وهذه كانت سنة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك فروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: "لما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية قال المسلمون إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه فقالوا أن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وأن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب" متفق عليه فعلم بهذا أن ما ملكت أيمانهم لم

يكونوا يحجبونهن كحجب الحرائر وأن آية الحجاب خاصة بالحرائر دون الإماء وقد روى أبو حفص بإسناده عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رأى على أمة قناعا فتناولها بردته وقال لا تتبشهي بالحرائر. وعن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يدع أمة تقنع في خلافته وقال إنما القناع للحرائر وروى الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج وهو كما قال علي رضي الله عنه فإن مثل هذا لا يجوز أن يخفى عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر فإن الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس بان تصح صلاتها هكذا كان أولى وأحرى فإن ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة ولأنه إذا لم يكن الاختمار واجبا عليها ولا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلوم أنهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرا ولا يغيرون لهن هيئة وهذا مما لا نعلم فيه خلافا. إذا ثبت ذلك فلا يختلف المذهب أيضا أن ما بين السرة إلى الركبة منها عورة. وقد حكى جماعة من أصحابنا رواية أن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهو غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا

وعلى الشريعة عموما فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم وكلام أحمد ابعد شيء عن هذا القول وإنما كان يفعل مثل هذا أهل الجاهلية حين كانت المرأة الحرة والأمة تطوف بالبيت وقد سترت قبلها ودبرها تقول. اليوم يبدو بعضه أو كله. وما بدا منه فلا احله. حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد وسمى فعلهم فاحشة وإنما وقع الوهم فيه من جهة أن بعض أصحابنا قال عورة الأمة كعورة الرجل بعد أن حكى في عورة الرجل الروايتين وإنما قصد أنها مثله في المشهور في المذهب. ثم اختلف أصحابنا فيما عدا ضواحيها وما بين السرة والركبة وهو الظهر والصدر والمنكب ونحو ذلك هل هو عورة في الصلاة على وجهين. ومنهم من يحكيه على روايتين لأنه قد أومأ إليهما ومنهم من يقول أن المنصوص عورة. أحدهما: أنه ليس بعورة كما ذكره الشيخ رحمه الله وهو قول أبن حامد وأبي الخطاب وابن عقيل لما روى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم خادمه أو

عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة" والمراد بالخادم الأمة وإذا جاز للسيد النظر إلى ذلك مع أنها حرام عليه لم يكن عورة. والثاني: هو عورة قاله القاضي في الجامع وابنه أبو الحسين وذكر أنه منصوص أحمد وهو اختيار أبي الحسن الآمدي وهو أشبه بكلام أحمد واصح لأن عليا رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج ومعلوم أنها لا تخرج عارية الصدر والظهر ولأن الفرق بين الحرة والأمة إنما هو في القناع ونحوه كما دلت عليه الآثار ولأنهن كن قبل أن ينزل الحجاب مستويات في ستر الأبدان فلما أمر الحرائر بالاحتجاب والتجلبب بقي الإماء على ما كن عليه. فأما كشف ما سوى الضواحي فلم يكن عادتهن ولم يأذن لهن في كشفه فلا معنى لإخراجه من العورة ولأن الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وقميص الأمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء".

تكميلا للتزين بستر المنكب فكيف يأذن للامة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بان انكشاف ذلك منها أشد قبحا وتفاحشا من انكشاف منكب الرجل ولأن الأصل أن عورة الأمة كعورة الحرة كما أن عورة العبد كعورة الحر لكن لما كانت مظنة المهنة والخدمة وحرمتها تنقص عن حرمة الحرة رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه وقطع شبهها بالحرة وتمييز الحرة عليها وذلك يحصل بكشف ضواحيها من رأسها وأطرافها الأربعة فأما الظهر والصدر فباق على الأصل. والحديث المتقدم لا دليل فيه لأنه لا يلزم من إباحة النظر إليها بالملك أن يكون المنظور ليس بعورة فإن النظر يباح من المالك والمملوك وذوي المحارم إلى أشياء يجب سترها في الصلاة لكن نظر الزوج والسيد المباح لهما الوطء اعم من نظر غيرهما. فصل. وسواء في ذلك الأمة المزوجة والمتسراة غير المستولدة والمدبرة والمكاتبة والمعلق عتقها بصفة لأن رقهن باق بحاله وما انعقد لهن من أسباب الحرية ليس بلازم وقد تقدم حديث أنس في صفية بأنه دليل على أن السرية لم تكن تحجب حجب الزوجة هذا قول أكثر أصحابنا

وقال أبو علي بن البناء حكم المكاتبة والمدبرة والمعلق عتقها بصفة حكم أم الولد والمعتق بعضها لأنه قد انعقد لهن سبب الحرية فخرجن عن محض العبودية فرجعن إلى الأصل. وأما أم الولد فقد نص أحمد على أنها تصلي كما تصلي الحرة لأنه انعقد لها سبب الحرية لازما وينجر لها من أحكام الحرية أنها لا تباع ولا توهب ولا توقف ولا ينقل الملك في رقبتها فصار فيها شائبة الحرية فغلب حكمها لوجهين. أحدهما: أنه لا يمكن تمييز حق الحرية عن حق العبودية والعمل بمقتضى ما فيها من الحرية واجب وهو لا يمكن إلا بان تكون كالحرة وما لا يتم الواجب إلا به فواجب. والثاني: أن الأصل أن السترة في الأمة والحرة سواء وإنما ترك ذلك في الأمة المحضة لما فيها من معنى الابتذال والإمتهان وهذا غير مقصود في أم الولد. ثم اختلف أصحابنا هل هذا على سبيل الوجوب أو الاستحباب على وجهين وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في ذلك روايتين. إحداهما: أنه على سبيل الاستحباب كما ذكره الشيخ رحمه الله وهو اختيار الخرقي وغيره فيكره لها كشف رأسها لكن لا تبطل صلاتها أن صلت مكشوفة لأنها أمة فأشبهت المكاتبة ولأنها مال بدليل أنها تقوّم

بالقيمة إذا قتلت أو ماتت تحت اليد العادية فتكون كسائر الإماء وما فيها من منع التصرف في رقبتها لا يخرجها عن ذلك كالأمة الموقوفة وما فيها من انعقاد سبب الحرية لا يوجب أخذ أحكام الحرية كالمدبرة ولقد ميزت على غيرها لما فيها من شوب الحرائر بكراهة كشف رأسها. والثاني: على سبيل الوجوب لما تقدم. وأما المعتق بعضها فهي على هذا الخلاف المذكور إلا أن القول بالوجوب هنا هو القوي عند أصحابنا لأن فيها جزءا حرا فوجب أن يعطى حكم الحرة وذلك لا يمكن إلا بستر جميعها فيجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فواجب ولهذا قلنا فيما لا يمكن تقسيطه من الأحكام مثل الطلاق أنه يكمل فإن المعتق نصفه يطلق ثلاثا لأنه لا يمكن أن يطلق طلقتين وربعا.

مسألة: (ومن صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته). هذا أشهر الروايتين عن الإمام احمد. والأخرى تصح صلاته مع التحريم وهي اختيار الخلال قال الآمدي وهذا في الفرض فأما النفل فتبطل رواية واحدة لأن المقصود به القربة وهي لا تحصل بالمحرمات بخلاف الفرض فإنه يقصد به القربة وبراءة الذمة فإذا بطلت القربة تبقى براءة ذمته وأكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأن منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه كما تبرأ الذمة فإنها لا تبرا إلا بامتثال الأمر وامتثال الأمر طاعة والصلاة في الثوب الحرير ممن يحرم عليه لبسه على هذا خلاف لأن المذهب أنه حرام. وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير إذا قلنا أنه حرام قال أبو عبد الله السامري كل من صلى في سترة يحرم عليه لبسها ولا سترة عليه غيرها كره له ذلك وهل تبطل صلاته على روايتين وذلك مثل المغصوب وما اشتري بعين مال الحرام في حق الرجال والنساء ومثل الحرير وما غالبه

الحرير وما نسج بالذهب ونحو ذلك في حق الرجال. ووجه الإجزاء أن تحريم ذلك لا يخص الصلاة فأشبه من صلى وهو حامل ثوبا مغصوبا ولأن النهي عن الصلاة في المكان والثوب المغصوبين ليس لمعنى في نفس الصلاة كالصلاة مع الحدث والنجاسة وإنما هو لمنع في غيرها وهو ما فيه من ظلم الغير والانتفاع بملكه بغير إذنه وهذه جهة غير جهة العبادة فيكون مطيعا من حيث هو مصلي عاصيا من حيث هو غاصب. ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" متفق عليه ومعنى رد أي مردود وفي لفظ: "من صنع أمرا علي غير أمرنا فهو مردود" رواه أحمد وهذه الصلاة ليس عليها أمر الله ورسوله بل هي على غير أمر الله ورسوله ولأنه منهي عن هذه الصلاة فلا يكون مأمور بها فلا يكون قد فعل ما أمر به فيبقى في عهدة الأمر. وقولهم النهي لمعنى في غير المنهي عنه وهي مأمور بها من وجه آخر ليس بجيد لأن هذه الصلاة المعينة لم يأمر الله بها قط بل نهى عنها لمعنى فيها ولمعنى في غيرها فإن التقرب إلى الله بالحركات المحرمة وبالزينة المحرمة توجب أن تكون المفسدة في نفس حركات الصلاة ونفس الزينة التي هي شرط الصلاة وأنه نهى عن غير هذه الصلاة لمعنى يعود إليها كما

هو منهي عن الصلاة في المكان النجس وبالثوب النجس وأولى فإن اشتراط حل المكان واللباس أولى من اشتراط طهارته لما فيه من تعلق حق الغير به يبين ذلك أنا إنما علمنا كون النجاسة مفسدة للصلاة بالنهي عنها والنهي عن لبس الحرير ولبس المغصوب والاستقرار في المكان المغصوب أشد ولأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذ لو كان فعلا صالحا صحيحا لما نهي عنه ولأن الصلاة طاعة وقربة والحركات في هذا الثوب والمكان معصية والشيء الواحد لا يكون طاعة ومعصية مع اتحاد عينه فإنه جمع بين النقيضين. وحقيقة المسألة أن السترة والمكان شرط لصحة الصلاة كالطهارتين والأركان ومتى أتى بفرائض الصلاة على الوجه المنهي عنه لم يكن ما أتى به هو المفروض فلم يصح إتيانه به وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين من ارتكب في الصلاة محظورا لا تعلق له بواجباتها مثل لبس خاتم الذهب وحمل المغصوب فإن ذلك معصية منفصلة عن العبادة وأن كانت فيها فأشبهت الظلم والبغي للصائم والمحرم فإن هذه المعاصي تقابل الثواب أن كانت بقدره مع براءة الذمة من عهدة الواجب فيبقى لا له ولا عليه لا يعاقب عقوبة التارك ولا يثاب ثواب الفاعل كما في الحديث رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر أما إذا كان شرط صحة العبادة التي لا تتم إلا به أو شرط وجوبها

الذي به يمكن أداؤها أيضا مفعولا على الوجه المحرم كالماء والتراب في الوضوء والتيمم وكالزينة والبقعة في الصلاة وكالمال في الحج فإنه يكون متقربا إلى الله بنفس ما حرمه ومطيعا له بقدر ما حرمه والتقرب إلى الله والطاعة له بفعل ما حرمه محال ولا يصح ولا يجزئ. ولو كان عليه ثوبان أحدهما: محرم فقال أكثر أصحابنا لا يصح أيضا لأن المباح لم يتعين ساترا سواء كان فوقانيا أو تحتانيا إذ أيهما قدر عدمه ستر الآخر وكذلك لو كان بعض الثوب مغصوبا ولم يكن ساترا لشيء من العورة لأنه تابع للساتر. ومنهم من خص الروايتين بمن صلى في سترة يحرم عليه لبسها ولا سترة عليه غيرها. فأما تكة السراويل أن كانت غصبا أو حريرا فالمنصوص عن أحمد التوقف عن الإعادة إذا صلى بها فتخرج على وجهين. وقال أبو بكر والقاضي وغيرهما حكمهما حكم السراويل لأنها من مصالحه. وأما عمامة الغصب والحرير ففيها وجهان. أحدهما: لا يبطل اختاره ابن عقيل وأبو محمد لأنها ليست مما

يجب للصلاة فأشبهت خاتم الذهب. والثاني: يبطل اختاره القاضي لأنها وأن لم تكن شرطا فهي من جنس الشرط لأنها لباس وهي ملحقة في الاستحباب فألحقت به في الحكم كما تلحق اللفافة الثانية والثالث: ة بالأولى في قطع النباش إذ شاركتاها في الاستحباب وأن لم تحلق بها الرابع: ة والخامس: ة لما لم تكن مستحبة. فان لم يجد غير المغصوب فهو كما لو وجد غيره إذا كان التحريم باقيا. وأما الثوب الحرير إذا لم يجد غيره فتصح صلاته فيه لزوال التحريم. وقيل هو كالصلاة في الثوب النجس إذا لم يجد طاهرا وهذا ضعيف لأن المقتضي للفساد الحرمة وقد زالت فأشبه ما لو كان المصلي فيه امرأة أو كان قد لبسه لحكة أو جرب وأولى فإن لبسه عند عدم غيره جائز إجماعا. ولو كان جاهلا بأن المكان أو الثوب محرم أما لعدم علمه بأنه مغصوب كرجل صلى في مسجد مدة أو في دار ثم علم أنه مكان

مغصوب ورجل لبس ثوبا هو حرير وهو لا يعلم أنه حرير أو لعدم علمه بأن الحرير محرم أو بان القعود في هذا المكان حرام ونحو ذلك فلا إعادة عليه هنا سواء قلنا أن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وهنا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة وأن وجب عليه ضمان لحق ادمي.

فصل. ولا فرق في المكان المغصوب أو الثوب المغصوب بين أن يكون قد غصب الرقبة بيد قاهرة أو دعوى فاجرة وبين غصب منافعها بان يدعي إجارتها دعوى كاذبة أو يسكنها مدة بدون أذن أربابها ولا فرق بين غصب القرار وغصب الهواء مثل أن يخرج روشنا أو ساباطا في موضع لا يحل له ولا فرق بين أن يجعل المغصوب دارا أو مسجدا مثل أن يغصب أرضا فيبنيها مسجدا أو يبني المسجد في الطريق الضيقة. ولا فرق بين أن يغصب جميع البقعة أو جزءا مشاعا منها مثل أن يكون بينه وبين غيره أرض مشتركة فيغصبه حصته وكذلك لو كان بعض بدنه في موضع مباح وبعضه في موضع محرم لم تصح صلاته كما لو كان بعض موضعه طاهرا وبعضه نجسا. فإن صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة لأنها مستقر له ينتقل بانتقالها ويقف بوقوفها وأن صلى على فراش مغصوب كالبساط والحصير والمصلى ففيه وجهان. وإن صلى على سرير مغصوب ففيه وجهان أظهرهما البطلان. وإن غصب مسجدا بان حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه

على جهة أخرى أو تغيير بنيته لغير الصلاة لم تصح الصلاة فيه وأن بقاه مسجدا ومنع الناس من الصلاة فيه ففيه وجهان. أحدهما: تصح وهو اختيار طائفة من المتأخرين قال ابن عقيل لأنه لم يصح غصبه حكما بمعنى أنه لو تلف المسجد في مدة منعه لم يلزمه ضمانه كالحر إذا غصب وإذا لم يصح غصبه حلمت صلاته فيه ولأن صلاته فيه ولبثه فيه غير محرم وإنما المحرم منع الغير منه فيكون هذا مستثنى من غصبه إياه كما استثنيت مواقيت الصلاة في حق العبد الأبق. والثاني: لا يصح وهو قول قوي لقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أن يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعاقب الله سبحانه من منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله وسعى في خرابها بمنع العمار الذين يعمرونها بذكر الله بان حكم عليه بأنه ليس له أن يدخلها إلا خائفا فيكون هذا الغاصب ممنوعا من لبثه في هذا المسجد عقوبة على منعه الناس واستثناؤه ودخوله خائفا دليل على ثبوت المنع لأنه أما أن يكون خائفا من الله تعالى أن يعاقبه وذلك دليل على أن دخوله سبب العقوبة فيكون حراما وأما أن يكون خائفا من الخلق بتسليط الله

إياهم عليه عقوبة له وإذا كان الله قد عاقبه بان جعله لا يدخل إلا خائفا كان دخوله سببا لحصول الخوف له والخوف عقوبة فلا يكون الدخول إليها مأذونا فيه لأن ما أذن الله فيه لم يجعله سببا للعقوبة ولأن الله تعالى منعه أن يدخل إلا معاقبا بالخوف فعلم أن الدخول ليس مباحا مع مقامه على منع غيره لأن ما أبيح لا يشترط في الإذن فيه حصول عقوبة ولأن دخول المسجد وأن كان مباحا لكن إباحة الشيء قد تكون شرطا بالكف عن محرمات تتعلق بجنسه كما قال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإنما أباح الأنعام لمن يعتقد تحريم الصيد في الإحرام فمن لم يلتزم هذا التحريم لم يكن مأذونا له في ذلك المباح من جهة الشارع فكذلك الدخول إلى المسجد يجوز أن يكون مشروطا برعاية حرمته والكف عن منع عباد الله من بيته وذلك أن المسجد إنما أبيح له أن يدخله بوصف الاشتراك فأما دخوله بوصف الانفراد فليس بجائز كمن منع غيره من أخذ المباحات ليأخذها هو مثل أن يمنعه عن الاحتشاش والاحتطاب والاصطياد ثم يأخذ ما منعه منه فإن هذا حرام وأن كان مباحا لو لم يمنع غيره وكذلك لو منع الناس أن يبيعوا أموالهم ليبيع هو ماله كان بيعه حراما لأنه إنما باعه على الوجه المحرم وهو بمنزلة المكره على الشراء منه. وأيضا فمن صور هذه المسألة إذا احتجر موضعا من المسجد ومنع الناس من الصلاة فيه مثل المقصورة وقد كان السلف يكرهون الصلاة في المقصورة ويرون الصف الأول الذي يلي المقصورة ولولا أنهم اعتقدوا

إن دخولها مع الاحتجار منهي عنه لم ينهوا عن الصلاة في مقدم المسجد بل لما كرهت الصلاة فيها صارت كأنها ليست من المسجد فكيف يصح مع هذا أن يكون دخوله ولبثه غير محرم إذا دخل على هذا الوجه. وأما قول ابن عقيل أن المسجد لو تلف في مدة منعه لم يلزمه ضمانه فليس الأمر كذلك بل المسجد عقار من العقار يضمن بالإتلاف إجماعا ويضمن بالغصب عند من يقول أن العقار يضمن بالغصب وهو المشهور في المذهب ومن لم يضمنه بالغصب لم يفرق بين المسجد وغيره ولا خلاف أنه متقوم تقوم الأموال بخلاف الحر فإنه ليس بمال نعم هو يشبه العبد الموقوف على خدمة الكعبة فإنه ليس له مالك معين ومع هذا فهو مضمون بالغصب بلا تردد وكذلك المال الموقوف على مصالح المسجد حكمه من هذا الوجه.

مسألة: (ولبس الحرير والذهب مباح للنساء دون الرجال إلا عند الحاجة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: "هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها"). هذا الحديث رواه أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ورواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنهولفظه: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه واخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والكلام في فصلين. أحدهما: في الحرير فإنه حرام على الرجال كما ذكر في الحديثين المذكورين وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه فروى عمخر وأنس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قال من لبس الحرير في الدنيا

لم يلبسه في الآخرة" متفق عليهما وأخرجه البخاري أيضا من حديث ابن الزبير ومسلم من حديث أبي أمامة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الحرير والديباج" متفق عليهما ويحرم بيعه من رجل يلبسه والإعانة على لبس الرجل إياه بتفصيل أو تخييط أو غير ذلك والثمن والأجرة التي تؤخذ عليه بهذا السبب من الخبائث. فأما بيعه مطلقا فيجوز إذا أمكن أن يلبسه رجل وامرأة وكذلك صنعته على وجه يشترك في لبسه الرجال والنساء مثل البندك. وأما النساء فيباح لهن لبسه للحديث المذكور ولما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أهديت للرسول صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: "إني لم ابعث بها إليك لتلبسها

إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء" متفق عليه وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" فلما كان بعد ذلك: "أتي بحلل فبعث إلى أسامة بن زيد بحلة فراح أسامة في حلته فنظر إليه نظرا عرف أنه قد أنكر ما صنع فقال أسامة يا رسول الله ما تنظر إلى بعثت بها إلى فقال: "لم ابعثه بها إليك لتلبسها ولكن بعتها لتشققها خمرا بين نسائك" رواه مسلم. ومن حرم عليه لبسه حرم عليه سائر وجوه الاستمتاع به مثل الجلوس عليه والاستناد إليه وتعليقه ستورا فإن لفظ اللباس يشمل ذلك بدليل قول أنس ولنا حصير قد اسود من طول ما لبس وقد جاء ذلك صريحا فروى أبو إمامة أنه دخل على خالد بن يزيد فألقى له وسادة فظن أبو إمامة أنها حرير فتنحى وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله" رواه أحمد وعن حذيفة بن اليمان قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير

والديباج وأن نجلس عليه" رواه البخاري وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المياثر الحمر" متفق عليه ورواه الترمذيولفظه: "نهى عن ركوب المياثر. والمياثر المراكب التي تكون على الرحل والسرج سميت مياثر لدثارتها وليها ومنه الوثر والوثير وهو الفراش الطوىء. قال أبو عبيد وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. وعن علي بن أبي طالب قال: "نهاني يعني النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن الجلوس على المياثر والمياثر شيء كان يجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان" رواه مسلم ولأن تحريمه إنما هو والله أعلم لما فيه من السرف والفخر والخيلاء ونحو ذلك وذلك موجود في لبسه على البدن وفي افتراشه وجعله ستورا بل ربما كان ذلك بغير اللبس أعظم إلا أنه ارخص فيه للنساء لأن بهن حاجة إلى التزين للبعولة في الجملة كما ارخص لهن في التحلي بالذهب وكما ارخص لهن في إطالة الثياب لمصلحة الستر ولأنهن خلقن في الأصل ناقصات

محتاجات إلى ما يتجملن به ويتزين قال سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ويباح لهن افتراشه والاستناد إليه كما يباح لهن لبسه على أبدانهن في المشهور من المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا. قال ابن عقيل لا يباح ذلك لأن حاجة المرأة إنما هي إلى لبسه على بدنها دون افتراشه وتوسده ولأنه أحد المحرمين فلم يبح للنساء منه إلا ما تبع أبدانهن كالذهب. ووجه الأول عموم أحاديث الرخصة ولأن ذلك كله لباس وقد أبيح لهن لباس الحرير. فصل. وما يحرم على الرجال فإنه عام في حق الكبير والصغير في المشهور من الروايتين. وفي الأخرى لا بأس بإلباسه الصبي لأنه غير مكلف ولأنه ضعيف العقل فأبيحت له الزينة كالمرأة كما يباح له من اللعب ما لا يباح للبالغ بحيث لا يمنع منه.

ووجه الأول عموم النهي فإنه قال حرام على ذكور أمتي ولم يفرق بين الكبير والصغير ومعنى التحريم في الصغير أنه يمنع منه كما يمنع من شرب الخمر ومن الكذب وغير ذلك من المحرمات وأن كافله يأثم بتمكينه من ذلك وأن لكل واحد ولاية منعه من ذلك لأنه من باب النهي عن المنكر ولما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: "كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري" رواه أبو داود. ومعلوم أنهم إنما يفعلون هذا مفرقين هذا التفريق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يقدمون على نزع لباس كانوا يلبسونه أولادهم ثم ينزعونه عن أحد الصنفين دون الآخر إلا عن توقيف وأيضا كما روي أن عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر ومعه ابنه محمد عليه قميص من حرير فادخل عمر يده في جيبه فشقه فقال عبد الرحمن بن عوف فزعت الصبي أطرت قلبه فقال عمر تلبسونهم الحرير وعن عبد الرحمن بن يزيد قال كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود فاتاه ابن له صغير وقد ألبسته أمه قميصا من حرير وهو معجب به فقال له يا بني من ألبسك قال أمي قال أدنه فدنا منه فشقه ثم قال اذهب إلى أمك فلتلبسك ثوبا غيره وعن

سعيد بن جبير قال: "قدم حذيفة من سفر وعلى صبيانه قمص من حرير فمزقه على الغلمان وتركه على الجواري" رواهن الخلال وهذا كله دليل على أنهم فهموا من الحديث عموم التحريم في الرجال وعمر وحذيفة من رواة حديث التحريم فهم أعلم بمعنى ما سمعوا ولأن ذلك إجماع منهم فإنه لم يبلغنا أحدا منهم ارخص فيه وعبد الرحمن لم يخالف عمر في إنكاره عليه إلباسه الحرير بل اقره على إنكاره عليه إلباسهم الحرير وإنما قال له أفزعت الصبي فعلم أنه وافق عمر على أن الصبيان ممنوعون من لبس الحرير وأن ذلك الإلباس أما يكون من فعل النساء ويكون عبد الرحمن لم يكن سمع النهي وقد روي أنه قاس ابنه على نفسه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ارخص له في لبس الحرير للحكة فقال له عمر أنه ليس مثلك وهذا دليل على أن أحدا منهم لم يفرق بين الصغير والكبير ولأن تزيين الغلام بما تزين به الجارية ليس بجائز لأنه ليس محلا للشهوة بل يجب صونه عما يشبه به النساء ويصير به بمنزلة المخنث فإن ذلك سبب لاعتياده التشبه بالنساء وتخنيثه إذا كبر وربما كان سببا للفتنة به إلى غير ذلك من المفاسد. وأما إلباسه الذهب فالمنصوص عنه فيه التحريم لكن أصحابنا اجروا فيه الروايتين لعدم الفرق بينه وبين الحرير.

فصل. ويباح لبس الحرير وهو ما كان أربع أصابع مضمومة إذا كان تابعا لغيره مثل العلم والرقعة في الثوب ولبنة الجيب الذي تسميه العامة الزيق وسجف الفراء وغيرها والإزرار وكف الأكمام والفروج به وطرف العمامة هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة جواباته. وقد روي عنه كراهة العلم لأن ابن عمر كان ينزعه من الثوب قال وهو أسهل من المصمت قال الخلال ذكر حنبل عن أبي عبد الله العلم في موضعين أحدهما: توقف فيه والآخر أباحه على رواية أصحابه وهو إجماع التابعين وذلك لما روى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" رواه الجماعة إلا البخاري وفي لفظ: "احمد وأبي داود وأشار بكفه وذلك إنما

يكون إذا كانت مضمومة فإنها إذا فرقت كان موضعها أكثر من أربع أصابع لأجل الفرج وعن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: "أنها أخرجت جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني وفرجيها مكفوفين به فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسها كانت عند عائشة فلما قبضت عائشة قبضتها إلى فنحن نغسلها للمريض يستشفي بها" رواه أحمد ومسلم وهذا لفظ أحمد وفي رواية قالت: "يا جارية ناوليني جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت جبة طيالسة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج" رواه أبو داود وابن ماجة وعن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الحرير إلا مقطعا" رواه احمد. فأما اليسير المفرد كالتكة والشرابة والمنطقة والخيط ونحو ذلك فيحرم في المنصوص لأنه نهى عن الحرير إلا مقطعا والمقطع المفرق في غيره وكذلك قوله عليه السلام: "إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" يدل على أنه موضوع في غيره ولأنه قرن الحرير بالذهب والذهب يحرم

منفردا فكذلك الحرير ولأن الذهب والفضة في الآنية والذهب في اللباس إنما يباح يسيره إذا كان تابعا فكذلك يسير الحرير لأن هذه الأشياء تجتمع في السرف والفخر والخيلاء. ولو لبس ثيابا في كل ثوب حرير يسير بحيث لو جمع ما في جميعها صار ثوبا جاز ذلك وأن لم يجز لبس ذلك الحرير لو جمع ونسج ثوبا على حده لأن هذا هو معنى قوله نهى عن لبس الحرير إلا مقطعا فإنه إذا فرق في الثياب صار مقطعا لأن كل ثوب له حكم نفسه. فصل. فان نسج مع الحرير غيره كالقطن والكتان والوبر والصوف ونحو ذلك فالذي ذكره أكثر المتأخرين من أصحابنا القاضي وأصحابه ومن بعدهم أنه أن كان الحرير هو الغالب حرم وأن كان الحرير هو الأقل جاز قال بعضهم: قولا واحدا. وإن استويا فوجهان. أحدهما: يحرم أيضا وهو أشبه بكلام أحمد لأن الرخصة إنما جاءت في اليسير الذي هو مقدار أربعة أصابع وفي الخز فألحقنا بذلك ما إذا كان الحرير هو الأقل لأن الحكم للأكثر أما إذا تتساويا فأحاديث التحريم تعمه ولم يجيء فيه رخصة ولأنه قد تعارض المبيح والحاظر فغلب الحاظر كالمتولد من بين ما يؤكل وما لا يؤكل

والآخر يكره ولا يحرم لما روى ابن عباس قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير" قال ابن عباس فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به" رواه أبو داود وأحمد احتج به ولأنه قد تعارض الحاظر والمبيح فيرجع إلى الأصل وهو الحل وإذا شككنا هل هو من القسم المباح أو القسم المحرم كره لبسه ولا يثبت التحريم بالشك. وجعل بعض المتأخرين من أصحابنا الملحم والقنسي والخز من صور الوجهين وجعل التحريم قول أبي بكر لأنه حرم الملحم والقسي. والإباحة قول ابن البناء لأنه أباح الخز وهذا مع أن أبا بكر قال:

ويلبس الخز ولا يلبس الملحم ولا الديباج وقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن الحرير والذهب". وأما المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم وغيره وهذا أكثر في كلامه قال اكره لباس الملحم للرجال فأما الخز فلا بأس به الخز ثخين يلي الجلد والحرير لا يكاد يستبين من تحته وقال أيضا يكره لباس الملحم إلا الخز فإنه على جلده الخز وقال لا يعجبني إلا الخز قد لبسه القوم وأما هذا الملحم المحدث فما يعجبني وسئل في موضع آخر عن الثوب سداه حرير ولحمته قطن فقال هذا يشبه بالخز لأن الخز سداه حرير وهو الذي لبسه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وكره هذا لأن سداه قطن وهو محدث وكذلك ذكر أبو بكر وعامة قدماء الأصحاب أن الخز الذي لبسته الصحابة رضوان الله عليهم مباح وكرهوا الملحم وغيره وصرحوا بأن هذه كراهة تحريم فمن زعم أن في الخز خلافا فقد غلط. والأصل في إباحة الخز ما روى عبد الله بن سعد عن أبيه قال: "رأيت رجلا نجارا على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها

رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود وقد صح عن خلق من الصحابة أنهم لبسوا الخز وارخصوا فيه منهم عبد الرحمن بن عوف وأبو قتادة وعمران بن حصين وعائشة والحسن بن علي وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وابن أبي أوفى وانس بن مالك وأبو أبي الأنصاري ابن أم حرام ووابصة ومروان في أوقات متفرقة ولم ينكر ذلك أحد فصار إجماعا فثبت إباحة الخز وهو الذي يكون سداه حريرا ولحمته وبرا أو صوفا ونحوه وكذلك في حديث ابن عباس فأما العلم من الحرير وسى الثوب فلا بأس وقد احتج به احمد. وإنما كرهنا الملحم لعموم أحاديث التحريم وإنما استثني منها ما استثني وليس في الملحم معناه كما سيأتي ولإن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن

لبس القسي" والقيسي ثياب مخلوطة بحرير قال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسي؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير أمثال الاترج وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة والحديث ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير قال بعضهم: هو ضرب من ثياب كتان مخلوط بحرير يؤتى بها مصر نسبة إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس ويقال القسي القزي ابدلت الزاء سينا كما يقال السمته الحجة أي ألزمته الحجة وقيل هو منسوب إلى القسي وهو الصقيع لبياضه ونسبتها إلى المكان هو قول الخليل بن أحمد وغيره فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريرا مصمتا وهذا ليس هو الملحم وأيضا فإن الخز أخف من وجهين. أحدهما: أن سداه حرير والسدى ايسر من اللحمة وهو إلذي بين ابن عباس جوازه بقوله فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به. والثاني: أن الخز الثخين والحرير مستور فيه بين الوبر فيصير الحرير بمنزلة الحشوة ويصير الذي يلي الجلد ويظهر هو الوبر ومعلوم أن الحرير الباطن ليس بمنزلة الحرير الظاهر إذ ليس في الباطن سرف ولا فخر ولا خيلاء ولهذا كان الصحيح جواز حشو الجلباب والفرش به وقد ذكر احمد

رضي الله عنه هذين الفرقين فإذا كان الحديث عاما في التحريم بل خاصا في الملحم وإنما أبيح الخز لم يجز أن يلحق به إلا ما في معناه فعلى هذا كل ما سوى الخز من الملحم يكره لذلك والخز ما كان لحمته من الوبر ونحوه مما له ثخانة تغطي الحرير فتكون الرخصة معلقة بكون السدى حريرا وكون اللحمة من الوبر ونحوه. وقال القاضي الملحم هو الذي سداه حرير ولحمته غزل أو لحمته حرير وسداه غزل والخز ما كانت لحمته أو سداه خزا فجعل الاعتبار بنفس ما ينسج مع الحرير من غير فرق بين السدى واللحمة لأن أحمد علل بثخانة الخز وأنه يلي الجلد والحرير لا يكاد يستبين من تحته. وعنه أن كان السدى حريرا حل مطلقا على ما" رواه صالح لحديث ابن عباس. ثم كراهة الملحم كراهة تحريم ذكره القاضي وغيره وقال غيره من أصحابنا هي كراهة تنزيه إلا أن يكون المنسوج مع الإبريسم أكثر وقد روي عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تركبوا الخز ولا النمار" رواه أبو داود وفي حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن

أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم رجل فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" رواه البخاري بلفظ الحر ورواه أبو داود. قال أصحابنا: وهذا محمول على خز كثير حريره أو نوع من الحرير يسمى خزا كما يسمى قزا قال بعض أصحابنا: الذي يسميه الناس اليوم الخز هو ما يعملونه من سقط الحرير ومشاقته والتبر الذي يلقيه الصايغ من فمه من تقطيع الطاقات فيدقونه كالقطن ثم يغزلونه ويعملونه ثيابا وهذا حكمه حكم الحرير فظهر بهذا أن الخز اسم لثلاثة أشياء للوبر الذي ينسج مع الحرير وهو وبر الأرانب واسم لمجموع الحرير والوبر واسم لرديء الحرير فالأول والثاني: هو الحلال والثالث: حرام. وأما حشو الثياب والفرش بالحرير فالمشهور من الوجهين أنه مباح من غير كراهة لأنه لا يستبين ولا يستمتع به وليس فيه سرف والوجه الأخر يحرم. فصل. وإذا احتاج إلى لبس الحرير لدفع حر أو برد أو ستر عورة أو تحصن

من العدو ولم يقم غيره مقامه أبيح قولا واحدا لأنه إذا أبيح للنساء لعموم حاجتهن إليه للزينة فلان يباح عند الضرورة أولى فإن الضرورة الخاصة ابلغ من الحاجة العامة ولأنه إذا اضطر إلى ما حرم من الأطعمة أبيح له فكذلك المحرم من اللباس لأنهما يشتركان في الاضطرار. وإن احتاج إليه لمرض أو حكة يرجى نفع الحرير وتأثيره فيه ففيه روايتان. إحداهما: لا يباح لعموم أحاديث النهي ولأنه تداو بمحرم يشتهى فأشبه التداوي بالخمر وتحمل إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن على تخصيصهما بذلك لعلمه بانتفاء مفسدة اللبس في حقهما كما شهد لأبي بكر أنه ليس ممن يجر ثوبه خيلاء. والثانية: يباح وهي الصحيحة لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رخص للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير من حكة كانت بهما" رواه الجماعة وما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع إلا ما خص مع أن أحدا لم يخص بحكم إلا لسبب اختص به وهنا لم يختصا بالسبب لأن الحكة هي السبب وهي

تعرض لغيرهما كما عرضت لهما ولأن النساء ارخص لهن في لبسه للحاجة إلى التزين به فالحاجة إلى التداوي أولى بخلاف الخمر فإنها محرمة مطلقا على كل أحد وفي كل حال وقد حرم قليلها وكثيرها. فصل. وفي لبسه في الحرب روايتان. إحداهما: يحرم للعمومات فيه ولأنه يحرم في غير الحرب فحرم في الحرب كالذهب. والأخرى يباح وهي أقوى لما روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "كانت عندي للزبير ساعدان من ديباج كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهما إياه يقاتل بهما" رواه أحمد وروى وكيع بإسناده قال قال ناس من المهاجرين لعمر بن الخطاب إنا إذا لقينا العدو وأريناهم قد كفروا على سلاحهم بالحرير والديباج فرأينا لذلك هيبة فقال عمر وانتم أن شئتم فكفروا على سلاحكم بالحرير والديباج ولأن في ذلك إرهابا للعدو وكسرا لقلوبهم وإظهارا لأبهة جيش الإسلام فجاز ذلك وأن كان

فيه اختيال لأن الاختيال عند القتال غير مكروه لما روى جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الخيلاء ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فالخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل في القتال واختياله في الصدقة والخيلاء التي يبغض الله الخيلاء في البغي أو قال في الفخر" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأبي دجانة لما اختال يوم أحد أنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" وقد ذكر بعض أصحابنا أن الروايتين في لبسه في دار الحرب وذلك اعم من لبسه وقت الحرب. فصل. ولا بأس أن يوضع المصحف في كيس حرير أو ديباج نص عليه في مواضع قال القاضي. والمسألة محمولة على أن ذلك قدر يسير فلا يحرم استعماله كالطراز والذيل والجيب. والصواب إقرار النص على ظاهره لأن الكيس إنما يكون أكثر من أربع أصابع وذلك كثير ولأنه مفرد ولا فرق في المفرد بين اليسير والكثير

كالتكة وإنما وجه ذلك أن المحرم إنما هو لباس الحرير والاستمتاع به ووضع المصحف فيه إنما هو جعله لباسا للمصحف ووعاء له ليصان ويحفظ وما شرع له الكسوة من شعائر الله جاز أن يكسى الحرير كالكعبة وأولى ولأن لباس الحرير إنما يكره للآدمي لما فيه من العظمة والسرف وهذا أمر مطلوب لكتاب الله وبيته. والفرق بين هذا وبين الزخرفة أن الكسوة فيها منفعة للبيت والمصحف فإذا حصلت باشرف الثياب كان ذلك تعظيما لحرمات الله بخلاف الزخرفة فإنه لا منفعة فيها بل تلهي المصلين. الفصل الثاني: في الذهب وهو قسمان. أحدهما: لبسه. والثاني: التحلي به. أما لبسه فيحرم على الرجال لبس المنسوج بالذهب والمموه به إذا كان كثيرا لما تقدم من حديث علي وأبي موسى رضي الله عنهما ولأنه ابلغ في السرف والفخر والخيلاء من الحرير والحاجة إليه أقل فيكون أولى بالتحريم. وإذا استحال لونه ففيه وجهان. أحدهما: يحرم لعموم النهي. والثاني: لا يحرم لأنه قد زالت مظنة الفخر والخيلاء.

فإنه لم يحصل منه شيء إذا جمع أبيح قولا واحدا. وفي يسير الذهب في اللباس مثل العلم المنسوج بالذهب روايتان مومىء إليهما. إحداهما: يحرم وهو اختيار كثير من أصحابنا لعموم النهي ولأنه استعمال للذهب فحرم كاليسير في الآنية. والثانية: لا يحرم وهي اختيار أبي بكر وغيره لما روى معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي واحتج به أحمد وفسر قوله إلا مقطعا باليسير ولأنه أحد الأصناف الثلاثة فحل منه اليسير التابع لغيره كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية. والفرق بين يسير الذهب في الآنية ويسيره في اللباس ونحوه ظاهر لأن الآنية تحرم من الفضة ومن الذهب على الرجال والنساء واللباس يباح للنساء من الذهب والفضة مطلقا ويباح للرجال يسير الفضة منه مفردا كالخاتم ونحوه ولا يصح إلحاق أحدهما: بالآخر. وعنه رواية ثالثة أنه يباح اليسير لحاجة سواء كان مفردا أو تابعا ولا

يباح للتزين وهي المنصوصة عنه صريحا وكذلك ذكر القاضي في اللباس قال في رواية صالح وعبد الله وأبي طالب وأبي الحارث واللفظ له أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا" قال الشيء اليسير كشد أسنانه وما كان مثله مما لا يتزين به الرجل فأما الخاتم ونحوه فلا وذلك لأنه قد دل ذلك على أن القطع من الذهب وهو اليسير منه مباح مطلقا لكن لا بد أن يكون لحاجة لأنه قد دلت النصوص على تحريم خاتم الذهب ونحوه. وعن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة" رواه أحمد وهذا نهي عن التحلي بقليل الذهب مطلقا ومفهومه يدل على أنه لا يحرم

منه ما ليس بتحلي. القسم الثاني التحلي به فيحرم على الرجل أن يتحلى بالذهب المفرد كالخاتم والسوار ونحو ذلك لما تقدم من قوله عليه السلام: "هذان حرام على ذكور أمتي" ولما روى البراء بن عازب وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن خاتم الذهب" وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب فجعله في يمينه وجعل فصه مما يلي باطن كفه فاتخذ الناس خواتيم الذهب قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فألقاه ونهى عن التختم بالذهب" متفق عليهن وجاء ذلك من عدة وجوه وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "من تحلى أو حلى بخر بصيصة من ذهب كوي يوم القيامة". قال أبو زيد الأنصاري يقال ما عليها خر بصيصة أي شيء من الحلي. فأما التابع من الذهب فيباح من حلية السيف مثل القبيعة نص عليه. وعنه ما يدل على المنع لما تقدم.

والأول أصح لما روى مزيدة العصري قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة قال الراوي كانت قبيعة السيف فضة" رواه الترمذي وذكر أحمد أنه كان لعمر بن الخطاب سيف فيه سبائك من ذهب وكان في سيف عثمان بن حنيف مسمار ذهب. ثم من أصحابنا من لا يبيح إلا القبيعة قال ابن عقيل قال أصحابنا: هذا في القبيعة فأما تحلية جوانبه وحمائله ومنطقته بالذهب فلا يباح لأن القياس المنع مطلقا والمنصوص عن أحمد الإباحة في القبيعة وغيرها من حلية السيف مثل المسمار فيه والسبائك للأثر في ذلك ولعدم الفرق. وأم تحلية غير السيف ففيه ثلاثة أوجه موميا إليها في كلامه. أحدها: وهو قول القاضي وأكثر أصحابه مثل ابن عقيل وأبي الخطاب لا يباح لأن العموم والقياس يقتضي التحريم مطلقا وإنما خص من ذلك السيف للأثر فيبقى الباقي على الأصل. والثاني: وهو قول أبي بكر وغيره أنه يباح التحلي باليسير منه مطلقا

إذا كان على وجه التبع كما تقدم في اللباس وأولى. والثالث: أنه يباح في السلاح دون غيره قال الآمدي فأما استعمال الذهب في سلاحه كالمسمار في السيف والسبائك فيه وقبيعة السيف ونعله فيجوز وهذا أبين في كلام أحمد قال في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في الفص يخاف أن يسقط يجعل فيه مسمار من ذهب قال إنما رخص في الأسنان يعني وما كان لضرورة قيل له قد كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب قال ذاك الآن سيف وذلك لأن المقصود من السلاح قتال العدو وإرهابه فجاز أن يحلى بما يفيد إرهاب العدو وخيلاء المسلم تكميلا لهذا المقصود ولذلك جاز لبس الحرير حين القتال ولأن اللت ونحوه في معنى السيف على هذا القول فيخرج فيه وجهان كالفضة. أحدهما: الجواز وهو قول الآمدي ذكره في المنطقة وفي حمائل السيف. والثاني: المنع قاله جماعة وحكاه القاضي عن احمد. وسائر مسائل التحلي في الزكاة.

مسألة: (ومن صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزاه ذلك). أما الصلاة في ثوب واحد إذا ستر عورته ومنكبيه فلا بأس بها لما روى جابر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد متوشحا به" متفق عليه وقال عمر بن أبي سلمة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحا به قد ألقى طرفيه على عاتقيه" رواه الجماعة لكن الأفضل أن يصلي في ثوبين لما روى أبو هريرة قال: "قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلكم يجد ثوبين" رواه الجماعة إلا الترمذي زاد البخاري ثم سأل رجل عمر فقال إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى في إزار ورداء في إزار وقميص في إزار وقباء في سراويل ورداء في سراويل وقميص في سراويل وقباء في تبان وقباء في تبان وقميص قال واحسبه قال في تبان ورداء وهذا يدل على أن

عادته كانت الصلاة في ثوبين ويدل على أن الإذن في الثوب الواحد إنما وقع رخصة وذلك لأن المقصود من اللباس التزين لله في الصلاة ولذلك جاء باسم الزينة في القران ولهذا كان تميم الداري قد اشترى حلة بألف درهم فكان يصلي فيها بالليل وقال نافع: "راني ابن عمر وإنا اصلي في ثوب واحد فقال ألم اكسك قلت بلى قال ارأيتك لو بعثتك في حاجة كنت تذهب هكذا قلت لا قال الله أحق أن تزين له" رواه ابن بطة ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فالله أحق إستحياء منه. ويستحب له أيضا تخمير الرأس بالعمامة ونحوها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كذلك وهو من تمام الزينة والله تعالى أحق من تزين له وقد روي عن ركانة بن عبد يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس" رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وليس إسناده بالقائم وعن أبي المليح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتموا تزدادوا حلما" رواه هشام بن عمار وهو مرسل وقد روى أبو حفص مرفوعا: "صلاة بعمامة أفضل من سبعين صلاة بغير عمامة إن الله

وملائكته يصلون على المتعممين". والاستحباب كذلك في حق الإمام اوكد نص عليه لأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاته وهو أحد المصلين ومتقدمهم وهم ينظرون إليه ويقتدون به ولهذا كان استحباب التزين في الجماعات العامة مثل الجمعة والعيد ونحو ذلك اوكد. فصل. وإذا صلى في ثوبين فافضل ذلك ما كان اسبغ وهو القميص والرداء ثم القميص مع السراويل ثم القميص مع الإزار ثم الرداء مع الإزار ثم الرداء مع السراويل. وإنما استحببنا مع الرداء الإزار لأنه كان عادة الصحابة ولأنه لا يحكي تقاطيع الخلقة واستحببنا السراويل مع القميص لأنه استر ولا يحكي الخلقة مع القميص وقد روي عن ابن عباس قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا قيل وار من الأرض عورتك فاتخذ السراويلات ورواه أبو محمد الخلال مرفوعا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان إبراهيم الخليل إذا صلى ذكر كلمة فكره له ربي عز وجل ذلك

فبعث جبريل فأتى بثوب فقطعه سراويل فأعطاه وخيطه ولبسه إبراهيم فقال ما استر هذا وأحسنه". وعن أبي إمامة قال: "قلنا يا رسول الله أن أهل الكتاب يسرولون ولا يأتزرون قال تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب" رواه حرب والقميص وحده أفضل من الرداء لأنه استر وأوسع قالت أم سلمة: "كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن والإزار وحده أفضل من السراويل وحده لما تقدم. فصل. وأما إذا جرد منكبيه مع قدرته على سترتهما فلا تصح صلاته في الجملة نص عليه في مواضع ونص على أنه إذا ستر منكبا وأبدى الآخر له كره ذلك ونص في موضع على أنه لا إعادة عليه فمن أصحابنا من

اقر النص على ظاهره وقال تصح صلاته إذا ستر أحدهما: دون ما إذا جردهما. ومنهم من قال لا تصح حتى يسترهما لإطلاقه الكراهة لذلك وجعل النص الثاني رواية أخرى أنه تصح الصلاة بدون الستر مطلقا مع القول بوجوبه كما قالوا في المواضع المنهي عنها ومنهم من جعل الروايتين في وجوب ستر المنكبين. ثم إذا قلنا بوجوبه ففي صحة الصلاة بدونه روايتان. وعنه رواية أخرى أنه لا يكره كشف أحد المنكبين أصلا بناء على أن ذلك هو اشتمال الصماء لأنه ليس بعورة ولا يجب ستر مخارج الصلاة فأشبه الرأس. والمذهب أنه لا تصح الصلاة مع تجريد المنكبين لقوله سبحانه: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وما يستر المنكبين داخل في مسمى الزينة شرعا وعرفا فإنه يفهم من ذلك ان لا يكون عريانا وإنما يزول التعري بستر المنكبين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" رواه البخاري ورواه مسلم وقال على عاتقيه".

وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في لحاف لا يتوشح به وأن تصلي في سراويل ليس عليك رداء" رواه أبو داود وهذا يدل على تحريم تجريد المنكبين في الصلاة وفساد الصلاة معه وعن سهل بن سعد قال: "كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أكتافهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا" متفق عليه وعن جابر وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر" رواه أحمد ولولا أن ستر المنكب واجب لم يكونوا يحافظون عليه مع ضيق الأزر وخوف بدو العورة ولوجب تكميل ستر العورة حتى يؤمن النظر إليها ولأن المقصود من الاستتار في الصلاة التزين لله بدليل أنها تجب حيث يجوز الكشف خارج الصلاة فإن المرأة الحرة يجوز لها أن تقعد في بيتها مكشوفة الرأس وكذلك بين النساء ولا تجوز صلاتها إلا مختمرة وكذلك يجوز للإنسان أن ينظر إلى عورة نفسه ولا تصح صلاته كذلك وفي إبداء المنكبين خروج عن التزين مطلقا ولهذا لم تجر العادات الحسنة بأن أحدا يجالس في مثل هذا الحال ولا أن

يكشفه بين الناس والرأس بخلاف ذلك ولأن من جرد منكبيه يسمى عاريا وأن كان مختمرا ومن سترهما مع عورته سمي كاسيا وأن كان بلا عمامة والتعري مكروه بين الناس لغير حاجة فجاز أن يكون شرطا في الصلاة ولهذا لم يشرع التعري إلا في الإحرام وإنما شرع كشف الرأس خاصة ونهيه صلى الله عليه وسلم: "أن يطوف بالبيت عريان" يعم تعرية المنكبين وتعرية السوءتين. إذا ثبت هذا فإنما كرهنا كشف أحدهما: أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن اشتمال الصماء" ومعناها إبداء المنكبين كما سيأتي أن شاء الله تعالى وقرن بين إشتمال الصماء وبين الاحتباء في ثوب واحد فعلم أن كشف المنكب يشبه كشف السوءة ثم من قال من أصحابنا لا يجوز كشف واحد منهما احتج بذلك وبظاهر قوله ليس على عاتقيه منه شيء ولأنه أحد المنكبين فوجب ستره كالآخر ولقوله عليه السلام: "إذا كان الثوب واسعا فالتحف به" وفي لفظ: "تتعاطف به على منكبيك ثم صل" ونهيه أن يصلي في لحاف لا يتوشح به وأن يصلي في سراويل

ليس عليك رداء وهذا أمر بستر المنكبين. ومن فرق على المنصوص قال النهي إنما جاء أن يصلي في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء أو على عاتقيه فمتى ستر أحدهما: فقد صار على عاتقه منه شيء وجاز أن يقال على عاتقيه منه شيء وأن كان على أحدهما: كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} وهو في إحداهن وقال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من الملح وحده. فصل: والواجب ستر المنكب عند القاضي وغيره من أصحابنا لأمره بالتوشح والتعاطف والارتداء فإن ذلك يقتضي الستر. وقال كثير منهم إذا ترك على منكبيه شيئا ولو خيطا أو حبلا أجزأ لقوله: "ليس على عاتقه منه شيء" وقال إبراهيم النخعي كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوبا يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالا ثم صلى وقال أيضا السيف بمنزلة الرداء "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في سيوفهم" رواهما سعيد في سننه وقال بعضهم: إن وضع

على عاتقه شيئا من اللباس الذي يصلح لستر أجزاه ولو كان يصف البشرة أو كان لا يستوعب العاتق فأما ما لا يقصد به الستر كالحبل والخيط فلا يجزيه. فصل: ويصح النفل مع إبداء المنكبين في أشهر الروايتين. والأخرى لا يصح كالفرض لعموم الحديث ولان باب الزينة واللباس لا يفترق فيه الفرض والنفل. ووجه الأول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل بالثوب الواحد بعضه على أهله" والغالب أن الثوب لا يكفي لذلك مع لستر المنكبين ولان النفل يجوز قاعدا أو راكبا موميا كل ذلك تسهيلا لطريقه والعادة أن الإنسان في بيته قد يكون عاري المنكبين بخلاف الفرض فإنه يشترط له أكمل الأحوال وأفضلها.

فصل: ويستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب درع وخمار وجلباب تلتحف به أو إزار تحت الدرع أو سراويل فإنه أفضل من الإزار لما روي عن ابن عمر أنه: "قال تصلي المرأة في الدرع والخمار والملحفة" رواه حرب وعن عائشة أنها كانت تقوم إلى الصلاة في الخمار والإزار والدرع فتسبل الإزار فتجلبب به وكانت تقول: "ثلاثة أثواب لابد للمرأة منها في الصلاة إذا وجدتها الخمار والجلباب والدرع" رواه سعيد وذكر إسحاق عن ابن عمر أنها كانت تصلي في درع وخمار وإزار تحت الدرع ويذكر في الحديث يرحم الله المتسرولات ولا تضم ثيابها في حال قيامها لئلا يبدو تقاطيع خلقها.

مسألة: (فان لم يجد إلا ما يستر عورته سترها). هذه المسألة: (لها صورتان. إحداهما: أن لم يجد إلا ثوبا يستر عورته فقط أو منكبيه فقط فإنه يستر العورة ويصلي قائما عند كثير من أصحابنا. وقال القاضي وطائفة بل يستر المنكبين ويصلي جالسا موميا لأن نص أحمد في الصورة الثانية يدل على أن ستر المنكبين مع ستر العورة بالقعود أولى من ستر العورة فقط وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" ولم يفرق فمتى ستر العورة به فقد ارتكب النهي. وحمل أبو بكر والقاضي الأحاديث التي تخالف ذلك على النافلة فإن ستر المنكب فيها ليس بواجب وهذا لأن ستر المنكب لا بدل له وستر العورة له بدل وهو الجلوس بالأرض وضم فخذيه على عورته. والأول أصح لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وأن كان ضيقا فاتزر به" متفق عليه وفي رواية لأحمد إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء ولأن ستر العورة أولى لأنها اغلظ وافحش وهو مجمع على وجوبه

وواجب داخل الصلاة وخارجها في الفرض والنفل وستر جميعها واجب اتفاقا بخلاف المنكب ولأنه إذا ستر المنكب فوت القيام وستر العورة المخففة وتكميل الركوع والسجود ولا يفوت بستر العورة إلا ستر المنكب فقط ومعلوم أن هذا أخف فيكون التزامه متعينا. الصورة الثانية أن يستر الثوب منكبيه وعجيزته أو عورته فالمنصوص هنا أن يستر منكبيه وعجيزته ولا يقتصر على عورته فمن أصحابنا من قال بذلك هنا وفرق بين هذه الصورة والتي قبلها لأنه هنا إذا ستر عجيزته وقعد لم يبق من عورته شيء ظاهر إلا اليسير الذي يعفى عنه من أفخاذه ولم يفته إلا القيام ولأنه يتمكن من الركوع والسجود بالأرض ويحصل له ستر المنكبين وهو واجب والستر الواجب مقدم على القيام كما سيأتي. وستر المنكب وأن سقط في النفل كما يسقط القيام لكن السقوط القيام فيه ثابت بالنص والإجماع والقيام يسقط عن المأموم إذا ائتم بإمام راتب قعد لمرض عارض لتحصيل الجماعة وقد علله النبي صلى الله عليه وسلم بان في ذلك تعظيما للإمام كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضا فيكون ستر المنكب اوكد منه لذلك. وقد احتج أحمد لذلك بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعقدون

أزرهم وتبدو بعض عوراتهم في السجود" فعلم أن ستر المنكب اوكد من ستر بعض العورة. ومن أصحابنا من سوى بين هذه الصورة والتي قبلها في أنه يستر عورته ويصلي قائما لظاهر الخبر المتقدم والمحافظة على القيام وستر بقية العورة أوجب من ستر المنكب لأن القيام واجب بالإجماع والعورة يجب سترها في الصلاة وخارجها والفرض والنفل فكان أولى وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.

مسألة: (فان لم يكف جميعها ستر الفرجين فإن لم يكفهما ستر أحدهما). ذلك لأن الفرجين اغلظ من غيرهما وإنما صار غيرهما عورة لمجاورتهما تبعا لهما. وكونهما عورة ثابت بالنص المتواتر والإجماع فيكون سترهما مقدما على ستر غيرهما فإن خالف وستر غيرهما لم يصح لأنه ترك الستر الواجب فإن لم يكف الفرجين ستر أحدهما: أيهما كان لأن كلاهما عورة مغلظة مجمع عليها لكن ستر أيهما أولى فيه وجهان. أحدهما: القبل لأنه يستقبل به القبلة ولأنه يبرز إذا صلى قائما ولأنه اغلظ بدليل أن من العلماء من يجوز استدبار القبلة دون استقبالها ولأنه يكره استقبال الشمس والقمر عند التخلي دون استدبارهما ولأن القبل عورة ناتية ظاهرة والدبر عورة داخلة كامنة فكان ستر ما ظهر من العورة أولى. والوجه الثاني: الدبر وهو أصح بناء على صلاته جالسا أفضل فيستر القبل بجلوسه وضم فخذيه فإذا ستر الدبر أمكنه السجود بالأرض ولو ستر القبل فأما أن يسجد بالأرض فيفضي بدبره إلى السماء أو يومىء بالسجود فيفوت كمال الركن.

مسألة: (فان عدم بكل حال صلى جالسا يومىء بالركوع والسجود وأن صلى قائما حاز). المشهور عن أحمد أن العريان ينبغي له أن يصلي قاعدا يومئ بركوعه وسجوده وهو اختيار الخرقي وأبي بكر وعامة الأصحاب فإن صلى قاعدا أو سجد بالأرض جاز وهو أفضل من أن يصلي قائما وأن صلى قائما وسجد بالأرض جاز أيضا مع الكراهة فيهما هكذا ذكر أصحابنا. وعنه أنه يجب أن يسجد بالأرض سواء صلى قاعدا أو قائما اختاره ابن عقيل وكان أبو بكر يقول هذا قول لأبي عبد الله أول فأما القيام فلا يجب قولا واحدا. ووجه هذه الرواية أن السجود ركن في الصلاة مقصود لنفسه بل هو أفضل أركانها الفعلية وهو مجمع على وجوبه فكان مراعاته أولى من مراعاة السترة ولقد كان القياس يقتضي إيجاب القيام أيضا لذلك إلا أنه أخف من السجود ولسقوطه مع القدرة في النافلة وخلف إمام الحي إذا صلى قاعدا وهو مريض يرجى برؤه وأنه يطول زمنه وأن فيه إفضاء بعورة بارزة خارجة إلى جهة القبلة فلما فحشت العورة فيه وطال زمن كشفها وخف أمره كان الاعتياض عنه بالستر أولى بخلاف السجود فإن زمنه قصير وهو أعظم أركان الصلاة ولا يبدو فيه إلا عورة الدبر وهي أخف من القبل.

والأول المذهب لما روى سعيد وأبو بكر وغيرهما عن نافع عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر فخرجوا عراة قال يصلون جلوسا يومئون برؤوسهم إيماء. ولم يبلغنا عن صحابي خلافه ولأنه إذا صلى قاعدا موميا فقد أتى ببدل القيام والركوع والسجود بل قد أتى بركوع وسجود هو بعض الركوع والسجود التامين فإن الإيماء بالرأس يدخل في عموم الأمر بالركوع والسجود أو أتى ببعض الركوع والسجود الواجبين مع التمكن وهذه صلاة مشروعة في الجملة للراكب على الراحلة والمريض أيضا وأتى أيضا بمعظم الستر وهو ستر العورة المغلظة فإنه إذا انضام ستر قبله بفخذيه وستر دبره بالأرض ولم يفته إلا تكميل الأركان وتكميل الشرط المعجوز عنه وهذا غير خارج عن جنس الصلاة المشروعة. أما إذا قام وسجد بالأرض فإنه يستقبل القبلة بقبله حال القيام والسماء بدبره منفرجا حال السجود ويكشف في الجملة عورته وهذه الأشياء محرمة خارج الصلاة فكيف تكون في الصلاة ولهذا لم يشرع مثل هذه الصلاة في موضع آخر أبدا لا سيما أن كان العراة جماعة أو كان العريان في فضاء من الأرض فإن كشف عورته يتفاقم فحشه والستر أهم من تكميل الأركان لأنه يجب في الصلاة وخارج الصلاة وتكميل

الأركان إنما يجب في الصلاة وما كان مقصودا في نفسه ومقصودا للصلاة فهو أولى مما يقصد في الصلاة فقط لا سيما والستر يعم جميع أركان الصلاة والركن ينقضي في أثنائها يوضح هذا أن تكميل الأركان واجب في غير هذا الموضع وكذلك كشف عورته والإفضاء بها إلى اشرف الجهات محرم في غير هذا الموضع في غير الصلاة وهو في الصلاة أشد قبحا وتحريما فإذا كان هذا الموضع لا بد فيه من التزام بدل واجب أو فعل محرم كان ترك الواجب أسهل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فآتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" فالمنهي عنه يجب تركه بكل حال والمأمور به إنما يجب فعله في حال دون حال ولهذا لو لم يمكنه فعل فرائض الصلاة إلا بارتكاب محرم لم يجب فعلها إلا ترى أنه لو لم يمكنه ثوب يلبسه سقط عنه حضور الجمعة والجماعة مع أن الجمعة من اوكد الواجبات وأن شهود الجمعة والجماعة اوكد من تكميل الأركان بدليل أن المريض الذي يمكنه إتمام الأركان في بيته ولا يمكنه إتمامها في الجماعة فإن صلاته في الجماعة افضل. وقد كان يتوجه أن لا تصح صلاته قائما لذلك وإنما صححناها لأنه يعتاض عن ستر العورة بتكميل الأركان وهو مقصود في الجملة ولأنه إذا لم يكن بد من الإخلال ببعض فروض الصلاة لم يتعين أحدها لكن الأحسن ما كان أشبه بالأصول ولأن الستر قد عجز عنه إلا بترك واجب آخر كما عجز عن تكميل الأركان إلا بترك واجب فصارت الأدلة الموجبة لأحدهما: بعينه معارضة كالأخرى

وهل يصلون متربعين أو منضامين على روايتين ذكرهما الآمدي. إحداهما: يتربعون كسائر من يصلي جالسا من المريض والمتنفل. والثانية: أنهم ينضامون ولا يتربعون نص على ذلك وهو الصحيح لأن ذلك استر فكانت رعايته أولى من رعاية هيئة مستحبة ولهذا استحببنا للمرأة أن تنضام في ركوعها وسجودها وأن كان التفرج هو المسنون للرجال ولهذا لم يسن للمرأة بشيء من هيئات العبادات التي هي مظنة ظهورها كالرمل والاضطباع والرقي على الصفا والمروة ومزدلفة ورفع الصوت بالإهلال فكيف بهيئة تظهر بها العورة المغلظة من الرجل. فصل. فان لم يمكنه تكميل السجود إلا بانتفاض طهارته مثل أن يطعن في دبره فيصير الريح يتماسك في حال جلوسه فإذا سجد خرجت منه فإنه يسجد بالأرض نص عليه. ومن أصحابنا من خرج أنه يومىء كالعريان وكإحدى الروايتين في المصلي في الموضع النجس لأن الطهارة شرط فأشبهت السترة بل هي اوكد من السترة للإجماع على وجوبها وللاختلاف في سقوطها بالعجز

بخلاف الستارة والمنصوص أقوى لأن السجود ركن مقصود لنفسه فلا يجوز تركه مع القدرة إذا لم يكن في فعله مفسدة. والفرق بين الطهارة والستارة أن الطهارة إنما تراد للصلاة والمقصود لا يصعب لتكميل الوسيلة ولهذا كانت الطهارة شرطا محضا لا تجب في غير الصلاة إلا أن يكون لصلاة أخرى وأما الستارة فأمر مقصود في نفسه واجب في نفسه ومقصود في الصلاة واجب لها وكشف السوءة محرم وأيضا فإن من جنس الحدث الدائم ما يصلى معه كما في المستحاضة والسلس والجريح فأما سجود الإنسان مفضيا بسوءته إلى السماء فلا عهد لنا به في الشرع.

مسألة: (ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلى فيهما ولا إعادة عليه). أما من لم يجد إلا ثوبا نجسا فإنه يجب أن يصلي فيه. وخرج بعض أصحابنا أنه يصلي عريانا بناء على أن صلاة حامل النجاسة تجب إعادتها في رواية وصلاة العريان لا تجب إعادتها إجماعا ولأن اجتناب النجاسة يجب في البدن والثوب والبقعة وستر العورة يختص موضعها. والأول هو المذهب المعروف من غير خلاف عن أبي عبد الله رضي الله عنه. ذكر ابن أبي موسى فيمن لم يجد إلا ثوبا نجسا وصلى فيه هل يعيد على روايتين ولو لم يصل فيه أعاد قولا واحدا لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة اجتناب النجاسة لأنه يجب في الصلاة وغيرها وثبت وجوبه بالكتاب والسنة والإجماع المتقدم وسمى الله تركه فاحشة بخلاف اجتناب النجاسة ولأن هذا الثوب يجب لبسه قبل الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كما لو لم يجد إلا ثوب حرير أو ما يستر بعض عورته ولأنه إذا تعرى سقط القيام والركوع والسجود الكاملان وحصل الإخلال بالشرط وإذا لبس الثوب النجس لم يحصل إلا الإخلال بشرط مختلف فيه بين

السلف فكان أولى وأنها لم تجب الإعادة على العريان لأن اللباس فعل أمر به وقد عجز عنه فأشبه ما لو عجز عن الاستقبال أو القراءة أو الركوع أو السجود وهو عذر غالب واجتناب النجاسة هو من باب الترك والعجز عن إزالتها عذر نادر فلهذا فرق من فرق بينهما إلا ترى أن مفسدة التعري في الوقت لا تنجبر باللباس بعد خروج الوقت لأن مفسدته لا تختص الصلاة بخلاف حمل النجاسة فإن مفسدته تختص الصلاة. فصل. وأما الإعادة ففيها روايتان حكاهما ابن أبي موسى وهو من أوثق الأصحاب نقلا وأقربهم إلى نقل نصوصه وحكاهما غيره. وأما القاضي وأصحابه ومن تبعهم فذكروا أنه نص هنا على الإعادة ونص في مسألة المكان النجس على عدم الإعادة. ثم أكثر هؤلاء جعلوا في المسألتين روايتين بطريق النقل والتخريج كما في نجاسة البدن المعجوز عن إزالتها وكما في عدم الماء والتراب وجعلوا هذا النص بناء على قوله بوجوب الإعادة في النجاسة المعجوز عنها وقد وافقوا في هذا التخريج لما نقله ابن أبي موسى. وعلى هذا فالصحيح أنه لا إعادة عليه في شيء من ذلك كما أن الصحيح أن لا إعادة في النجاسة المعجوز عن إزالتها وكما في المنسية

والمجهولة وأولى فإن طهارة الحدث والسترة تسقط بالعجز ولا تسقط بالنسيان ولأن العاجز فعل ما أمر كما أمر وامتثال الأمر يقتضي الأجزاء بفعل المأمور به فمن امتثل ما أمره الله به فلا إعادة عليه البتة لأن الله تعالى لم يفرض على عباده إلا صلاة واحدة وقد قال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم لما فاتتهم الصلاة وسألوه عن الإعادة مرتين " أينهاكم عن الربا ويقبله منكم?" فكيف بمن لم يفوت وإنما اتقى الله ما استطاع. وطرد هذا أن لا تجب الإعادة على من تيمم في الحضر لعدم الماء أو خشية أذى البرد ونحوهم وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن المستحاضة تصلي مع وجود النجاسة ولا إعادة عليها وقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دما ولم يعد ولأنا لو أوجبنا عليه الإعادة إذا صلى في ثوب نجس ولم نوجبها إذا صلى عريانا لكان التعري أحسن حالا فكان ينبغي أن يصلي عريانا وقد تقدم تضعيف ذلك. ومن أصحابنا من فرق بين مسألتي المكان والثوب على ظاهر ما بلغه من النص بأنه هنا قادر على اجتناب النجاسة وعلى الاستتار لكن إنما يمكنه كل واحد منهما بتقريب الآخر فإذا تزاحما قدمنا أوكدهما ثم

أوجبنا القضاء لكونه قادرا على اجتناب النجاسة من بعض الوجوه بخلاف المحبوس وبكل حال فعليه أن يتقي النجاسة ما أمكن فإذا كان معه ثوبان نجسان صلى في اقلهما نجاسة. وإن كانت النجاسة في طرف ثوب كبير استتر بالطاهر منه وأن كان حاملا للنجاسة لأن محذور الحمل بدون الملاقاة أقل من محذورهما جميعا وقد تقدم حكم من لم يجد إلا ثوب حرير أو ثوبا مغصوبا. فصل. وأما من لم تمكنه الصلاة إلا في موضع نجس كالمحبوس فيه إذا لم يكن عنده ما يحتجر به فإنه يصلي فيه بلا خلاف لأنه لا يقدر على غير ذلك وفي الإعادة روايتان. المنصوص منهما أنه لا إعادة عليه وهي الصحيحة وكذلك كل من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها أما بأن لا يجد لها طهورا أو يجده ولا يستطيع إزالتها لكونها على جرح يضره الماء. فان قلنا يعيد على إحدى الروايتين فلأنها إحدى الطهارتين ولم يأت بها ولا ببدل عنها فأشبهت طهارة الحدث ولأنه قد ترك العبادة لعذر نادر غير متصل فأشبه صوم المستحاضة

والأول أصح لما تقدم ولأنه شرط عجز عنه فلم تلزمه الإعادة من اجله كالسترة والقبلة حال المسايفة هكذا ينبغي أن يكون الكلام إذا حبس في المواضع المنهي عن الصلاة فيها كالحش والحمام والإعادة هنا اضعف لأنه في هذه الحال ليس بمنهي عن الصلاة فيها فأشبه المصلي في الثوب الحرير إذا لم يجد غيره. وإذا اقيمت الجمعة في مكان مغصوب فإنه يصلي فيه ولا يحل لأحد تركها نص عليه لأن الجمعة لا تفعل إلا في مكان واحد فلو لم يشهدها لأفضى إلى تركها بالكلية ولهذا تصلي خلف كل إمام برا كان أو فاجرا وكذلك تصلى خلف الإمام وأن كان ثوبه حريرا أو مغصوبا لذلك. ثم أن أمكنه الاقتداء بالإمام في غير المكان المغصوب لم يجز الدخول إليه وألا جاز للضرورة ولا يتفل فيه لعدم الضرورة. وإذا كان الإمام جاهلا بالغصب فإن صلاته وصلاة من لم يعلم بالغصب وصلى فيها وصلاة من صلى خارجا عنها صحيحة إذا بلغوا العدد المعتبر لأن قصارى صلاة من صلى فيها عالما بالغصب أن تكون معدومة. وأما بدون ذلك ففي وجوب الإعادة روايتان خرجهما أصحابنا على الائتمام فيها بالفاسق. فأما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة قولا واحدا كمن لا يجد إلا الثوب الحرير لأن لبثه فيه ليس بمحرم عليه

لأنه لم يدخل باختياره إلا أن يكون قادرا على الخروج بخلاف من لم يجد إلا الثوب المغصوب فإن التحريم ثابت في حقه هذه الطريقة الصحيحة. ومن أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد إلا الثوب النجس وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع المغصوب فيه الروايتان وأولى وكذلك من يكره على الكون بأماكن النجس والمغصوب بحيث يخاف من الخروج منه ضررا في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس في الموضع النجس والمحبوس في الموضع النجس يجلس في صلاته على قدميه لأن ما سواهما يمكن صونه عن النجاسة من غير إخلال بركن لأن إلصاق الآليتين بالأرض حال القعود ليس بواجب وأما السجود ففيه روايتان. إحداهما: أنه يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة كالعريان. والثانية: يسجد بالأرض لأنه فرض مقصود في نفسه ومجمع على افتراضه فأشبه من تنتقض طهارته بالسجود وأولى لأن طهارة الحدث اوكد من طهارة الخبث.

فصل. ومتى بذل للعريان إعارة سترة لزمه قبولها كما يلزمه قبول الماء إذا وهب له والدلو والحبل إذا أعيره. وقيل لا يجب عليه قبولها كما لا يلزمه قبولها إذا بذلت له هبة وكما لا يلزمه قبول الماء في الحج والكفارات. وقد خرج وجه بأنه يلزمه قبول الهبة لأن العار في بقاء عورته مكشوفة أكثر من الضرر في المنة التي تلحقه لأشياء عند من قال من أصحابنا أنه يلزمه قبول المال في الحج فإن قبول السترة اوكد لأن فرض السترة لا يتوقف على وجودها وإنما يتوقف على القدرة على تحصيلها كالماء في الوضوء بدليل أنه لو أمكنه تحصيل السترة من المباحات لزمه ولا يلزمه تحصيل ما يحج به من المباحات. ووجه الأول وهو المشهور أن قبول العارية لا منة فيه في الغالب بخلاف قبول الهبة فصار قبولها كقبول الماء والتراب في الطهارة وكالاسترشاد إلى طريق الجامع ووجود السترة لا يعتمد وجودها وإنما يعتمد القدرة عليها وهي حاصلة بخلاف قبول الهبة فإن فيه ضررا عليه بالحق الذي يجب للواهب عليه وإمكان إلحاق المنة به.

قال بعض أصحابنا: ولا يجب على مالك الثوب أن يعيره إذ لا ضرورة بالعريان إليه كما لا يجب عليه أن يبذل له ماء للوضوء مع أنه يجب عليه بذل الماء للعطش واللباس لخوف الضرر بالحر والبرد ونحو ذلك. وقياس المذهب أن هذا واجب لأن ستر العورة من الحوائج الأصلية التي لا تختص بالصلاة فمتى اضطر الإنسان إليه وجب بذله له وأن لم يخف ضررا بالتعري بخلاف الطهارة وكشف السوءة فيه ضرر على الإنسان في نفسه أعظم من كثير من الضرر الذي يلحقه في بدنه فيجب إعانته على إزالته ببذل الفضل كإغاثة الجائع والعطشان وأيضا فإن هذا بذل منفعة لتكميل عبادة هي واجبة في الأصل ولا ضرر في بذلها فوجب كتعليم الجاهل ودلالة الغريب على طريق الجامع ومناولة الماء والتراب لمالكهما وتوجيه الأعمى إلى القبلة بخلاف الماء فإنه بذل عين وبكل حال فالمستحب أن يبذل لهم السترة لأنه إعانة على تكميل العبادة فأشبه المتصدق على الرجل بالصلاة معه جماعة وأولى. ويبدأ بإعارة النساء قبل الرجال لأن عورتهن اغلظ.

فصل. وإن لم يجد إلا حشيشا أو ورقا يربطه عليه لزمه الستر به لأنه مغط للبشرة من غير ضرر فأشبه الجلود والثياب وقد اخبر الله تعالى عن آدم وحواء أنهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وامرر النبي صلى الله عليه وسلم بمصعب بن عمير يوم أحد أن يجعل على رجليه شيء من الاذخر فإذا كان الاذخر كالثوب في ستر الميت فكذلك في ستر الحي. وإن لم يجد إلا طينا ففيه وجهان. أحدهما: وهو اختيار ابن عقيل أنه يلزمه أن يتطين به بدل الثوب فما سقط منه سقط حكم الوجوب فيه وتحصل السترة بما بقي. والثاني: لا يجب وهو اختيار الآمدي وغيره وقيل أنه المنصوص قال أحمد لأنه يتناثر ولا يبقى وهو الصواب المقطوع به لأن السلف من الصحابة ومن بعدهم أمروا العراة الذين انكسر بهم المركب أن يصلوا بحسب حالهم مع العلم بأنه قد كان يمكنهم أن يجبلوا من ماء البحر

بتراب البر فيصير طينا فإن أكثر السواحل يقرب منها التراب وأيضا فإن هذا مثله وهو ملوث مؤذ يتناثر رطبا ويابسا فلا يحصل به مقصود الستر في الغالب وأيضا فإن الفرائض من الجمعة والجماعة تسقط إذا خيف تأذيه بمطر أو بوحل مع سخونة الهواء فكيف يؤمر بان يتطين وأيضا فسنبين أن شاء الله تعالى إنه لا يجب عليه أن يسجد على الطين فإذا سقط تكميل الركن لتلوث جبهته ويديه فتلويث جميع عورته أولى أن لا يجب. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وأن كان كدرا وكذلك أن وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأن ذلك لا يحصل مقصود الستر الواجب لكن ينبغي أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إذا أمكن لأن ذلك أحسن من التعري في الفضاء ولذلك أمر المغتسل والمتخلي أن يستتر بما أمكنه من ذلك. وإن وجد سترة تضره كالبارية لم يلزمه الاستتار بها. فصل. إذا وجد السترة في أثناء الصلاة قريبة منه استتر وبنى لأنها حينئذ وجبت عليه وليس الاستتار بها عملا يبطل الصلاة فأشبه الأمة إذا أعتقت في الصلاة والخمار بقربها وأن كانت السترة بعيدة منه بحيث تكون مسافتها مما يبطل الصلاة يقطعها أو كان يحتاج إلى الاستتار بها إلى عمل كثير فإنه يستتر ويستأنف في ظاهر المذهب كالمتيمم إذا وجد الماء وقلنا يخرج وكالمستحاضة إذا انقطع دمها انقطاعا يوجب الوضوء.

وفيه وجه مخرج على من سبقه الحدث أنه يستتر ويبني كالوجه المخرج في المتيمم والمستحاضة. والصحيح الفرق بين من حدث المبطل له في أثناء الصلاة ومن كان المبطل موجودا معه من أولها لكن لم يظهر علمه للعذر كما تقدم وإنما نظير المتوضئ هنا الأمة إذا اعتقت في أثناء الصلاة والسترة بعيدة منها أو كان المصلي مستترا فاطارت الريح سترته واحتاج ردها إلى عمل كثير فإن هذا كالمتطهر الذي سبقه الحدث لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا من غير قيام المبطل بخلاف العاري والمستحاضة والمتيمم فإن المبطل كان مقارنا لأول الصلاة وإنما عفي عنه للضرورة ولا ضرورة إذا زال العذر في أثناء الصلاة ولهذا قلنا أن الإمام إذا علم بحدث نفسه في أثناء الصلاة استأنف المأمومون الصلاة ولو لم يعلم حتى قضوا الصلاة لم يعيدوا. وإن وجد البعيد عن السترة من يناوله إياها من غير عمل بطلت في أحد الوجهين لانكشاف العورة زمنا طويلا بعد وجوب الستر. ولم تبطل في الآخر إذا ناوله إياها من غير تراخ وهو اختيار الآمدي لأنه لم يوجد منه عمل وقد أتى بالستر على الوجه الممكن لأن وجوب الستر بالقدرة على الستر لا بنفس ظهور السترة.

فصل: ولا تسقط السترة بجهل وجوبها ولا نسيان لها كما تسقط بالعجز فلو نسي الاستتار وصلى أو جهل وجوبه أو أعتقت الأمة في أثناء الصلاة ولم تعلم حتى فرغت لزمتهم الإعادة قاله أصحابنا لأن الزينة من باب المأمور به فلا تسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث وهذا لأن الناسي والجاهل يجعل وجود ما فعله كعدمه لأنه معفو عنه فإذا كان قد فعل محظورا كان كأنه لم يفعله فلا إثم عليه ولا تلحقه أحكام الإثم وإذا ترك واجبا ناسيا أو جاهلا فلا إثم عليه بالترك لكنه لم يفعله فيبقى في عهدة الأمر حتى يفعله إذا كان الفعل ممكنا وبهذا يظهر الفرق بين الزينة واجتناب النجاسة ولأن التزين هو الأمر المعتاد الغالب فتركه مع القدرة لا يكون إلا نادرا فلم يفرد بحكم. فصل. ويعفى عن يسير العورة قدرا أو زمانا فلو انكشف منها يسير وهو ما لا يفحش في النظر في جميع الصلاة أو كشفت الريح عورته فأعادها بسرعة أو انحل مئزره فربطه لم تبطل صلاته وسواء في ذلك العورة المغلظة والمخففة.

إلا أن ما يعفى عنه من العورة المخففة أكثر مما يعفى عنه من المغلظة لأنه يفحش من هذا في العرف أكثر مما يفحش من هذا. وقال القاضي وغيره هما سواء في مقدار العفو. وعن أحمد ما يدل على أنه لا يعفى عن يسير العورة كما لا يعفى عن يسير طهارة الحدث ولأنه يجب ستره عن العيون فاشترط ستره في الصلاة. وعنه التوقف في ظهور جميع العورة إذا أعاد الستر بسرعة. وحكي عنه أن اليسير إذا طال زمانه ابطل وأن لم يبطل الكثير إذا قصر زمانه وقال أبو الحسن التميمي أن بدت عورته وقتا واستترت وقتا فلا إعادة عليه ولم يقيده بالزمن اليسير لظاهر حديث عمرو بن سلمة. والأول هو المشهور لما روى عمرو بن سلمة في قصة إسلام قومه لما ذكر أنه صلى بقومه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي إلا تغطوا عنا أست قارئكم فقطعوا لي قميصا" رواه البخاري ومن احتج بهذا قال هذه قضية جرت لهؤلاء الصحابة ولا يكاد مثلها يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه ولم ينكر فصارت حجة من جهة إقراره ومن جهة أن أحدا من

الصحابة لم ينكر ذلك ولا يقال فانتم تقولون بهذا في إمامة الصبي في الفرض لانا سنتكلم عليه أن شاء الله تعالى في موضعه ولأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: "لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا لا ترين عورات الرجال" من ضيق الأزر وكانوا يعقدون أزرهم على أكتافهم ولولا أن يسير العورة يعفى عنه لأمر الرجال بإعادة الصلاة منه كما أمر النساء بغض أبصارهن عنه أو لأمر بذلك من كان يمكنه الاتزار بإزار واسع ولأمرهم بالائتزار على وجه لا يؤدي إلى كشف شيء من العورة بان يأتزروا على العورة فقط كما ذكره في الإزار الضيق فإن ستر العورة أهم من ستر المنكب فإن الناس قائلان قائل يقول يجب عليه أن يستر العورة ويسجد وقائل يقول يستر المنكب ويصلي جالسا مومئا فأما أن يستر المنكب ويسجد مكشوف السوءة فليس بجائز وفاقا وأيضا فإن ذلك يشق عموم الاحتراز منه فإن المأزر والسراويلات تنحط في العادة عن السرة قليلا والمرأة يبدوا أطراف شعرها ورسغها كثيرا وأكثر الفقراء لا تسلم أثوابهم من يسير فتق أو خرق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد أولكلكم ثوبان" فلم يوجب من السترة إلا ما يجده عامة الناس دون ما يجده ذوو اليسار وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يبدو بعض فخذه" فعلم أنه ليس بمحرم ولأنه لما عفي عن الكثير في الزمن

اليسير فكذلك اليسير في الزمن الكثير ولأنه شرط للصلاة ليس له بدل فعفي عن يسيره كاجتناب النجاسة وطرده القبلة في الانحراف اليسير والنية في تقدمها بالزمن اليسير ولأنه إخلال بيسير من الشرائط يشق مراعاته في الجملة فعفي عنه كيسير النجاسة وطرده طهارة الحدث عفي فيها عن باطن الشعور الكثيفة لما شقت مراعاتها بخلاف البشرة الظاهرة فإنه لا يشق غسلها ولأن الصلاة تصح مع كثيرها للضرورة فجاز أن تصح مع يسيرها مطلقا كالعمل الكثير والمناسبة في هذه الاقيسة ظاهرة. وحد اليسير ما لا يفحش في النظر في عرف الناس وعادتهم إذ ليس له حد في اللغة ولا في الشرع وأن كان يفحش من الفرجين ما لا يفحش من غيرهما. فصل. والعراة يصلون جماعة ويقف أمامهم وسطهم لأنهم من أهل الجماعة وهي واجبة عليهم ولأن الجماعة مشروعة في الخوف مع ما فيها من العمل الكثير وفراق الإمام وغير ذلك فلان تشرع هنا أولى ويؤمر كل واحد منهم بغض بصره كما " أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بغض أبصارهن عن الرجال". ويصلون صفا واحدا أن أمكن وأن ضاق المكان عنهم فقيل:

يصلون جماعتين. وقيل بل يصلون صفوفا وهو أصح. وإن كانوا رجالا ونساء والمكان واسع صلى كل نوع لأنفسهم وأن كان ضيقا صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال. وإن بذلت سترة واحدة للعراة فقال أصحابنا: يصلون فيها واحد بعد واحد لأن مصلحة الستر أهم من مصلحة الجماعة إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيستتر بها أحدهم ويصلي الباقون عراة. وقيل يصلون فيه واحد بعد واحد وأن فات الوقت لأن المحافظة على الشرط مع إمكانه أولى من إدراك الوقت كما لو وجد ماء لا يمكنه استعماله إلا بعد فوات الوقت أو سترة يخاف فوات الوقت أن تشاغل بالمشي إليها والاستتار بها. والأول مذهب لأن من خوطب بالصلاة في أول الوقت وهو عاجز عن شرط أو ركن في الحال قادرا على تحصيله بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة عن وقتها ولو جاز هذا لكان من عجز عن الطهارة أو السترة أو الركوع أو السجود وغير ذلك من الشرائط والأركان يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه يقدر على ذلك وهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع فإن رعاية الشرع للوقت أعظم من رعايته

لجميع الشرائط والأركان المعجوز عنها ولهذا لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها البتة للعجز عن بعض الأركان ومتى ضاق وقت الوجوب عن تحصيل الشرط والفعل قدم الفعل في الوقت بدون الشرط وإنما تكون المحافظة على الشرط أولى إذا كان الوجوب في آخر الوقت مثل نائم يستيقظ آخر الوقت فإن الصلاة واجبة عليه حينئذ فعلها بشروطها كما لو استيقظ بعد الوقت. وأما أن وجد سترة يخاف فوت الصلاة بالمشي إليها والتشاغل بالاستتار فإن كانت الصلاة قد أمر بها في أول الوقت أو وسطه والسترة بعيدة بحيث لا يصل إليها إلا بعد فوت الوقت فهذا يجب عليه أن يصلي عريانا وهذه مسألة العراة المتقدمة فإنه ما من عار إلا وهو يرجو الكسوة فيما بعد فإن أحدا من الناس لا يكاد يبقى عاريا على الدوام وهذا لأن وقت الصلاة يتسع للاستتار والفعل على الوجه المعتاد لو كانت السترة مكنة فإذا تعذرت سقطت. وكذلك أن استيقظ آخر الوقت والسترة بعيدة عنه بعدا لا يجب عليه طلبها منه فأما أن استيقظ آخر الوقت والسترة قريبة منه بحيث لا تجوز صلاته إلا بها فهنا لا يتسع ما بقي من الوقت للسترة والفعل على الوجه المعتاد فلا تكون السترة متعذرة فيكون الوقت متسعا لشرائط الصلاة وأفعالها بخلاف مسألة الواحد بعد الواحد فإن الوقت متسع للسترة لو كانت ممكنة وإنما السترة متعذرة وفرق بين تعذر ينشا من ضيق الوقت وتعذر ينشا من تعذر الشرط فإن نشأ من ضيق الوقت وسعه الشارع وأن نشا من تعذر الشرط على الوجه المعتاد أسقطه الشارع ولهذا لو كانوا في

سفينة أو موضع ضيق لا يمكن جميعهم الصلاة قياما صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائما والباقون قعودا تقديما للصلاة في الوقت على ركن القيام وقد تقدم مثل هذا الكلام في الطهارة وسيجيء مثله في استقبال القبلة أن شاء الله. وإن كانت السترة ملكا لبعضهم لم تصح صلاته إلا فيها وينبغي له أن يعيرها لسائرهم ليصلوا فيها كما تقدم إلا أن يضيق الوقت فينبغي أن يعيرها لمن هو أحق بالإمامة وأن أعارها لغيره جاز. وإن بذل الثوب لهم مطلقا وقد ضاق الوقت اقرع بينهم فمن قرع فهو أحق به إلا أن يكون أحدهم أولى بالإمامة فهو أولى به وأن كانوا رجالا ونساء فالنساء أحق ومتى لم يستتروا إلا واحد لضيق الوقت أو لعدم الإعارة فإنه يؤمهم الكاسي ويتقدم إمامهم قال بعض أصحابنا: يستحب ذلك وقياس المذهب أن إمامته واجبة لأنه الجماعة واجبة على جميعهم وهي لا تمكن إلا كذلك إلا أن يكون أميا فإنه يصلي وحده لأنه لا يجوز أن يؤمهم لأنه أمي وهم قراء أو أحدهم ولا يأتم لأنه كاسي وهم عراة. فصل. يكره السدل في الصلاة وهو أن يطرح على كتفيه ثوبا ولا يرد أحد طرفيه إلى كتفه الآخر

وقال الآمدي وابن عقيل السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه ويجره فيكون من باب إسبال الثوب. والتفسير الأول هو الصحيح وهو المنصوص عنه. وعنه إنما يكره على الإزار أما على القميص فلا حملا للنهي على اللباس الذي كانوا يعتادونه وهو الارتداء فوق المآزر وتعليلا للنهي بخشية انكشاف المنكب وذلك مأمون على المتقمص ونحوه وقد روى أبو الزبير قال رأيت ابن عمر يسدل في الصلاة فيحمل هذا على أن عليه قميصا. ووجه الكراهة ما روى عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن السدل في الصلاة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وإسناده حسن وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره

السدل في الصلاة قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عنه" ورواه عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عنه وعن علي أنه رأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم" رواه سعيد ورواه ابن المبارك ولفظه: "رأى قوما قد سدلوا في الصلاة". وعن ابن عمر أنه: "كان يكره السدل في الصلاة" وقال إبراهيم: "كانوا يكرهون السدل في الصلاة" رواهما سعيد وعن ابن مسعود كراهته ذكره ابن المنذر وعلى هذا فإنه يكره السدل سواء كان تحته ثوب أو لم يكن. فان صلى سادلا قال أبو بكر أن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق وقال ابن أبي موسى في الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد.

فصل ويكره اشتمال الصماء لما روى أبو هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه يعني منه شيء" متفق عليه وعن أبي سعيد قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبستين واللبستان اشتمال الصماء والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء" رواه البخاري وعن جابر بن أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتدوا الصماء في ثوب واحد" رواه أحمد واشتمال الصماء عند أحمد وأصحابه أن يضطبع بالثوب وهو أن يجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه فوق عاتقه الأيسر أو بالعكس لأنه كذلك جاء مفسرا في الحديث أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب" وفي الآخر: "ليس على أحد شقيه منه شيء".

وفي لفظ لأبي سعيد من رواية أحمد وأبي داود: "واللبستان اشتمال الصماء يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويبرز شقه الأيمن والأخرى أن يحتبي في ثوب واحد ليس عليه غيره يفضي بفرجه إلى السماء" وفي رواية: "أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويرد طرفيه على منكبه الأيسر" وهذا مكروه في الصلاة وخارج الصلاة إذا لم يكن عليه إلا الثوب الذي اشتمل به فإن كان عليه ثوب آخر من سراويل أو إزار وقميص ففي الكراهة روايتان. إحداهما: يكره وهي اختيار ابن أبي موسى لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أحدكم أن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه" رواه أحمد وذكر أحمد عن ابن عباس أنه: "كرهه وأن كان عليه قميص" وقد روى سعيد عن ابن عباس أنه: "كان يكره اشتمال الصماء في الصلاة" وفي لفظ: "كان يكره أن يلتحف الرجل بثوبه في الصلاة فيخرج يده من قبل صدر"هـ ولأنه تخصيص لأحد العضوين المتشابهين باللباس فكره كالمشي في نعل واحد. فإن قيل الحديث المشهور مقيد بالثوب الواحد فيحمل هذا المطلق عليه ولأن الاضطباع لبسة المحرم فكيف تكون مكروهة.

فيقال الاضطباع في الثوب الواحد أشد محذورا لأن فيه إبداء المنكب ويخشى معه من ظهور العورة ولا يحصل معه مقصود اللباس ولهذا لا يشرع الاضطباع للطائف طواف القدوم إلا أن يكون تحته ثوب قال أحمد في رواية حنبل الاضطباع إذا كان عليك إزار أو قميص وإذا لم يكن عليك إزار ولا قميص ففعلت ذلك كانت لبسة الصماء تبين شقة الأيسر وفرجه. بل هذه اللبسة محرمة تبطل الصلاة معها قال ابن أبي موسى وغيره أن اضطبع بثوب كان تحته غيره أجزأته صلاته مع الكراهة وأن لم يكن تحته غيره أعاد الصلاة وهذا المعنى معنى قول أحمد كانت لبسة الصماء تبين شقه الأيسر وفرجه وذلك لأن هذا تبدو معه العورة غالبا ويظهر من غير أن يشعر اللابس بذلك. والحكمة إذا كانت غالبة غير منضبطة علق الحكم بالمظنة وأقيمت مقام الحقيقة لوجودها معها غالبا ولعدم انضباطها كما أقيم النوم مقام الحدث ولأن الله أمر بالزينة عند الصلاة ومن لبس هذه اللبسة لم يتزين لله في الصلاة. وأما اضطباع المحرم فذلك موضع مخصوص من النهي لما كان فيه أولا من إظهار الجلد ثم صار سنة وشعارا ولهذا لا يشرع إلا في أول طواف يطوفه الأفقي خاصة ولهذا فإنه إذا أراد أن يصلي ركعتي الطواف سوى ردائه.

والرواية الأخرى إنه لا يكره إلا إذا كان عليه ثوب واحد قال الآمدي وغيره هو الصحيح لأن الأحاديث الصحاح المفسرة إنما هي في الثوب الواحد وقد علله في الحديث يبدو أحد شقيه وهذا مفقود في الثوبين. ومن أصحابنا من قال يكره الاضطباع على المئزر ولا يكره على القميص وهذا قول قوي فإن الأغلب على القوم كان الارتداء فوق المآزر وقد نهوا عن الاشتمال ولأن في ذلك كشفا للمنكب في الصلاة وهو مكروه أو مبطل لما تقدم وقد نص أحمد على كراهته ولأن الذي في الحديث كراهة بروز الشق الأيمن ولو لم يكن تحته مئزر لكانت العورة قد تظهر من الناحية اليسرى فكان التعليل بكشف العورة أولى من التعليل ببروز الشق فقط. فإن قيل فقد قال أبو عبيد اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوب يجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا تخرج فيه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه ولا يقدر عليه. وتفسير الفقهاء أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه قال والفقهاء أعلم بالتأويل.

وقد ذكر أبو عبد الله السامري من أصحابنا مثل ما حكاه أبو عبيد عن العرب فقال اشتمال الصماء هو أن يلتحف بالثوب ويرفعه إلى حد جانبيه فلا يكون ليده موضع تخرج منه فلذلك تسمى الصماء قال بعض الفقهاء يحتاج أن يخرج يده من صدره فتبدو عورته. والتفسير الذي ذكرتموه مخالف لهذين قلنا. أما التفسير الذي ذكرناه فهو منصوص مفسر في الحديث والتفسير الذي حكاه أبو عبيد عن الفقهاء يدل عليه الحديث أيضا لأنه قال الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه وهذا يعم ما إذا اضطبع بالثوب من الناحية الأخرى أو لم يضطبع فإنه إذا اضطبع أبدى منكبه الأيمن وستر منكبه الأيسر وبقي شقه الأيسر غير مستور والصورة التي ذكر أبو عبيد يكون المنكب الأيمن مستورا والمنكب الأيسر لكن الشق الأيسر باديا وظهور العورة فيه أشد لكن المنكبين مستوران وهذا أيضا مما يحرم وتبطل الصلاة معه بلا ريب واشتمال الصماء يعمهما. وأما الذي نقل عن ابن عباس أنه: "يخرج يده من قبل صدره" فإن أخرجها من فوق حاشية الرداء صار مضطبعا وأن أخرجها من تحت الرداء فهو الذي ذكره أبو عبيد وأما التفسير المحكي عن العرب فهو أشبه بالاشتقاق لأن الصخرة الصماء التي لا منفذ فيها ومنه الأصم وهو الذي لا ينفذ الصوت إليه ويؤيده ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوبا واحدا يأخذ.

بجوانبه على منكبه فتدعى الصماء". وروى أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الصماء اشتمال اليهود" واليهود تلتحف ولا تضطبع وهذه الصورة مكروهة أيضا لما يخاف معها من انكشاف العورة وهي السدل المتقدم وربما عرض الشيء فلا يستطيع أن يخرج يده إلا أن تبدو سوءته وهذه اللبسة مكروهة في الصلاة وخارج الصلاة. فظهر أن اشتمال الصماء يعم هذا كله لكن منه ما يحرم ويبطل ومنه ما يكره فقط ومنه ما اختلف فيه كما تقدم. فصل. يكره للمصلي تغطية الوجه سواء كان رجلا أو امرأة فيكره النقاب والبرقع للمرأة في الصلاة لأن مباشرة المصلي بالجبهة والأنف أما واجب أو مؤكد الاستحباب ولأن الرجل إذا قام إلى الصلاة فإن الله تعالى قبل وجهه وأن الرحمة تواجهه فينبغي له أن يباشر ذلك بوجهه من غير وقاية وقد كره له تغميض العين فتغطية الوجه أولى وقد روى الفقهاء في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رأى رجلا غطى لحيته في الصلاة فقال: "اكشف

لحيتك فإن اللحية من الوجه". ويكره التلثم على الفم لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه تشبه بفعل المجوس في عبادة النيران ويخاف معه من ترك تجويد القراءة والذكر والدعاء لا سيما والملك يضع فاه على فيه. وهل يكره التلثم على الأنف على روايتين. إحداهما: يكره لأن ابن عمر كره تغطية الأنف ولأنه عضو في الوجه يسجد عليه فأشبه الجبهة ولأن مباشرته إذا قلنا بوجوب السجود عليه واجبة أو سنة مؤكدة فإن سجد على الحائل كان مكروها وأن حسر اللثام احتاج إلى عمل ولأنه ربما حصلت معه غنة في الحروف ولأنه من الوجه وهو ابلغ من اللحية. والثانية: لا يكره تغطيته لأن النهي إنما جاء في الفم وقد روى أحمد بإسناده عن قتادة حدثني عكرمة عن ابن عباس كان يغطي انفه يعني في الصلاة قال قتادة وكان سعيد بن المسيب وعطاء يكرهان

ذلك ولأنه يمكن الإفصاح بحروف القران والذكر معه هذه طريقة الجماعة. وأما الآمدي فقال روي عنه هو ما كان على الفم والأنف. وروي عنه على الأنف فحسب فعلى قوله إذا كان على الفم وحده لم يكره وهذا غلط على المذهب. فصل. ويكره شد الوسط بالزنار والخيط ونحو ذلك مما يشبه زي أهل الذمة في أشهر الروايتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في عدة مواضع. وعنه لا يكره لحديث الحزام ولأنه لم يرد في ذلك نهي. وأما ما لا يشبه شدهم كالحبل والمنديل والمنطقة التي تسميها العامة الحياصة فلا يكره نص عليه وعليه أصحابنا. وقال ابن عقيل والسامري يكره بالزنار والحياصة ونحوها وليس بشيء بل يستحب لمن ليس تحت قميصه مئزر ولا سراويل أن يحتزم لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم".

احتج به أحمد وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنايم حتى تقسم وعن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض وأن يصلي الرجل بغير حزام" رواه أبو داود وذكر أحمد عن ابن عمر أنه: "كان يصلي وعليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه" وعن الشعبي قال: "كان يقال شد حقويك في الصلاة ولو بعقال وعن يزيد بن الأصم مثله" رواهما الخلال وقد روى حرب قال قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بخيط ويصلي قال على القباء لا بأس به وكرهه على القميص وذهب لما أنه من زي اليهود فذكرت له السفر وأنا أشد ذلك على الوسط فرخص فيه قليلا أما المنطقة والعمامة ونحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط وقال هو أشنع فقد كره ما وافق زي أهل الكتاب وهو الخيط على القميص ونحوه ولم يكره على القباء لأنه ليس من زيهم ولم يكره ما سوى الخيط ونحوه ورخص في الخيط على القميص عند الحاجة. وكذلك ذكر القاضي قال نص أحمد على كراهة الخيط على القميص لما فيه من التشبه بأهل الكتاب لأن من عادتهم شد الوسط بالزنار

ولم يكره شد القباء والمنطقة لأن هذا عادة المسلمين. وأطلق جماعة من أصحابنا الكراهة على عموم كلامه في سائر الروايات. فصل. ويكره إسبال القميص ونحوه إسبال الرداء وإسبال السراويل والإزار ونحوهما إذا كان على وجه الخيلاء وأطلق جماعة من أصحابنا لفظ الكراهة وصرح غير واحد منهم بان ذلك حرام وهذا هو المذهب بلا تردد. قال أبو عبد الله لم احدث عن فلان كان سراويله شراك نعله وقال ما أسفل من الكعبين في النار والسراويل بمنزلة الإزار لا يجر شيئا من ثيابه. فأما أن كان على غير وجه الخيلاء بل كان على علة أو حاجة أو لم يقصد الخيلاء والتزين بطول الثوب ولا غير ذلك فعنه أنه لا بأس به وهو اختيار القاضي وغيره وقال في رواية حنبل جر الإزار وإرسال الرداء في الصلاة إذا لم يرد الخيلاء لا بأس به وقال ما أسفل من الكعبين في

النار والسراويل بمنزلة الرداء لا يجر شيئا من ثيابه. ومن أصحابنا من قال لا يحرم إذا لم يقصد به الخيلاء لكن يكره وربما يستدل بمفهوم كلام أحمد في رواية ابن الحكم في جر القميص والإزار والرداء سواء إذا جره لموضع الحسن ليتزين به فهو الخيلاء وأما أن كان من قبح في الساقين كما صنع ابن مسعود أو علة أو شيء لم يتعمده الرجل فليس عليه من جر ثوبه خيلاء فنفى عنه الجر خيلاء فقط. والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} وقال سبحانه: {كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ}. فذم الله سبحانه وتعالى الخيلاء والمرح والبطر وإسبال الثوب تزينا موجب لهذه الأمور وصادر عنها وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: "إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال انك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" متفق عليه وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم

القيامة" رواه البخاري وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا" متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار" وعن أبي هريرة قال: "بينما رجل يصلي مسبلا إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأ فذهب فتوضا ثم جاء ثم قال اذهب فتوضا فقال له الرجل يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه قال أنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبلا" رواه أبو داود.

وعن ابن مسعود قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته فليس من الله في حل ولا حرام" رواه أبو داود وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وهذه منصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة والمطلق منها محمول على المقيد وإنما أطلق ذلك لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة. ومن كره الإسبال مطلقا احتج بعموم النهي عن ذلك والأمر بالتشمير فعن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي قال: "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه قلت من هذا قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت عليك السلام يا رسول الله مرتين قال لا تقل عليك السلام عليك السلام تحية الميت قلت أنت رسول الله قال أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وأن أصابك عام سنة فدعوته انبتها لك وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك قال قلت اعهد إلى قال لا تسبن أحدا قال فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا

ولا شاة قال ولا تحقرن من المعروف ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك أن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الأزر فإنها من المخيلة وأن الله لا يحب المخيلة وأن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه" رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح. وعن عبد الله بن عمر قال: " مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت اتحراها بعد فقال له بعض القوم إلى أين قال إلى أنصاف الساقين" رواه مسلم وعن ابن الحنيظلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل خريم الاسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذه شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى نصف ساقيه" رواه أحمد وأبو داود ولأن الإسبال مظنة الخيلاء فكره كما يكره مظان سائر المحرمات. ومن لم ير بذلك باسا احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "إنك لست

ممن يفعل ذلك خيلاء" وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل إزاره فقال له: "ارفع فقال له الرجل وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك فقال عبد الله إني لست مثلك أن لساقي حموشة وأنا أؤم الناس فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فاقبل على الرجل ضربا بالدرة وقال أترد على ابن مسعود أترد على ابن مسعود ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه وما سوى ذلك فهو باق على الإباحة وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة وإنما كلامنا فيمن يتفق عنه عدم ذلك. فصل: وبكل حال فالسنة تقصير الثياب وحد ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب فما كان فوق الكعب فلا بأس به وما تحت الكعب في النار لما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي جري وابن عمر ولما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إزره المؤمن إلى نصف الساق لا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعن حذيفة

رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو ساقي فقال: "هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفر فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين" رواه الخمسة إلا أبو داود قال الترمذي حديث حسن صحيح وعن سمرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تحت الكعبين من الإزار في النار" رواه أحمد والنسائي. وأما الكعبان أنفسهما فقد قال بعض أصحابنا: يجوز إرخاؤه إلى أسفل الكعب وأما المنهي عنه ما نزل عن الكعب وقد قال أحمد أسفل من الكعبين في النار وقال ابن حرب سألت أبا عبد الله عن القميص الطويل فقال إذا لم يصب الأرض لأن أكثر الأحاديث فيها ما كان أسفل من الكعبين في النار وعن عكرمة قال رأيت ابن عباس يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهر قدمه ويرفع من مؤخره فقلت لم تأتزر هذه الأزرة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزرها" رواه أبو داود. وقد روي عن عبد الله أنه قال لم احدث عن فلان لأن سراويله

كان على شراك نعله وهذا يقتضي كراهة ستر الكعبين أيضا لقوله في حديث حذيفة لا حق للإزار بالكعبين وقد فرق أبو بكر وغيره من أصحابنا في الاستحباب بين القميص وبين الإزار فقال يستحب أن يكون طول قميص الرجل إلى الكعبين أو إلى شراك النعلين وطول الإزار إلى مراق الساقين وقيل إلى الكعبين. ويكره تقصير الثوب الساتر عن نصف الساق قال إسحاق بن إبراهيم دخلت على أبي عبد الله وعلي قميص قصير أسفل من الركبة وفوق نصف الساق فقال ايش هذا وأنكره وفي رواية إيش هذا لم تشهر نفسك وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حد آزره المؤمن بأنها إلى نصف الساق" وأمر بذلك وفعله ففي زيادة الكشف تعرية لما يشرع ستره لا سيما أن فعل تدينا فإن ذلك تنطع وخروج عن حد السنة واستحباب لما لم يستحبه الشارع. ويكره إسبال العمامة أيضا قاله أصحابنا لما تقدم من الأحاديث العامة وقد جاء ذكرها مصرحا به في حديث ابن عمر

فصل. فأما النساء فإن إطالة الذيول لهن سنة نص عليه لما روت أم سلمة أنها قالت: "يا رسول الله كيف يصنع النساء بذيولهن قال: "يرخين شبرا فقالت إذا تنكشف أقدماهن قال يرخينه ذراعا لا يزدن عليه" رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح. وعن ابن عمر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا" رواه أبو داود والنسائي وفي رواية لأحمد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل فقال: "اجعلنه شبرا فقلن أن شبرا لا يستر من عورة فقال اجعلنه ذر فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ ذراعا أرخت ذراعا فجعلته ذيلا". ولهذا قال أصحابنا: أقل ذيل المرأة شبر وأكثره ذراع. قال بعض أصحابنا: هذا في حق من مشى بين الرجال كنساء العرب اللاتي يمشين بين الحلل والصحراء فأما نساء المدن اللاتي في بيوتهن ولا يراهن رجل أجنبي فيكون ذيلها كذيل الرجل.

فصل. يكره للرجل الأحمر المشبع حمرة في جميع أنواع اللباس من الثياب والفرش والأكسية وآلات الدواب والأغطية وغير ذلك ولا بأس بذلك للنساء. والمعصفر المشبع من هذا النوع نص على ذلك في عدة مواضع قال وقد سئل عن لباس المعصفر المشبع اكره لباسه وسئل عن الأكسية المصبوغة كالدم فقال إذا كانت حمرة تشابه المعصفر يكره ذلك وفي موضع آخر أنه كره المعصفر كراهة شديدة للرجال وقال أيضا يكره المعصفر للرجال ولا يكره للنساء وسئل عن المعصفر للنساء فلم ير به باسا وقال المروذي صبغت بطانة جبتي حمراء فقال لم صبغتها حمراء قلت للرقاع التي فيها قال وأي شيء تبالي أن يكون فيها رقاع وقال أول من لبس الثياب الحمر قارون وآل فرعون ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى

قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}. قال في ثياب حمر قلت له الثوب الأحمر تغطى به الجنازة ترى أن أخذ به قال نعم قال وأمرني أبو عبد الله أن اشتري له تكة لا يكون فيها حمرة قال وأمرني أن اشتري له مدا فقال لا تكون فيه حمرة وقد نقل عنه أحمد بن واصل المقرئ أنه سئل عن كساء اسود له علم احمر فقال لا بأس به قال القاضي فظاهر رواية المروذي أنه كره العلم الأحمر أجراء له مجرى طراز الذهب وظاهر رواية المقرىء أنه لم يكرهه وأجراه مجرى الطراز الحرير. وهذه الكراهة في الجملة قول عامة الأصحاب وذكر القاضي في موضع من خلافه وبعض من اتبعه أن المعصفر لا يكره للرجال والنساء وأن النهي كان خاصا لعلي لقوله في الحديث لم ينهه ولا إياك وإنما نهاني. ومن أصحابنا من قال إنما يكره المعصفر خاصة فأما ما صبغ بالحمرة من مدر وغيره فلا بأس به سواء صبغ قبل النسج أو بعده وهذا

اختيار أبي محمد رحمه الله وقد أومأ إليه في رواية حنبل فقال قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم بردة حمراء كذلك الترمذي في حديث الرجل الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أحمران قال معنى هذا الحديث عند أهل العلم أنهم كرهوا لبس المعصفر ورأوا أن ما صبغ بالمدر أو غير ذلك فلا بأس إذا لم يكن معصفرا وذلك لأن المعصفر صحت في كراهته أحاديث كثيرة في حق علي وغيره للرجال دون النساء فعن عبد الله بن عمرو قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" رواه أحمد ومسلم والنسائي وفي رواية لمسلم: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال أمك أمرتك بهذا قلت اغسلهما قال بل احرقهما". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال: "ما هذه قال فعرفت ما كره قال فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها ثم أتيته فأخبرته فقال إلا كسوتها بعض اهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء" رواه أبو داود وابن ماجة وقال هشام بن

الغاز المضرجة التي ليست بمشبعة ولا الموردة وقال الخطابي المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع التام وإنما هو لطخ عق به يقال تضرج الثوب إذا تلطخ بدم ونحوه والريطة ملاة ليست بفلقتين إنما نسج واحد وقال الجوهري يقال ضرجت الثوب تضريجا إذا صبغته بالحمرة وهو دون المشبع وفوق الموردة وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب مصبوغ بعصفر مورد قال: ما هذا فانطلقت فأحرقته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما صنعت بثوبك فقلت أحرقته قال أفلا كسوته بعض اهلك" وعن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدم وهو المشبع بالعصفر" رواه أحمد وابن ماجة وعن علي بن أبي طالب قال: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القس وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر" رواه أحمد ومسلم وفي رواية صحيحة نهاني عن المعصفر المقدم. قالوا وأما الأحمر غير المعصفر فلا بأس به لما روى البراء بن عازب

قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الجمعة إلى شحمة أذنيه ورايته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه" رواه الجماعة وعن أبي جحيفة قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح وهو في قبة له حمراء ثم ركزت له عنزة فخرج وعليه جبة له حمراء أو حلة حمراء فكأني انظر إلى بريق ساقيه قال فصلى بنا إلى العنزة الظهر أو العصر ركعتين" متفق عليه وعن عامر بن أبي هلال المزني قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بغلة وعليه برد احمر وعلي رضي الله عنه أمامه يعبر عنه" رواه أحمد وأبو داود وعن أنس قال: "كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة" متفق عليه. والأول هو المذهب المعروف المنصوص لما احتج به أحمد من

قوله سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} الآية قال جابر بن عبد الله في القرمز وقال إبراهيم والحسن في ثياب حمر على لفظ أحمد وقال مجاهد على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات وكذلك ذكر قتادة وابن زيد وغيرهما أنه خرج وعلى دوابه وجنده الأرجوان والمعصفرات قال ابن زيد وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا في سياق الذم له والعيب لما خرج فيه من الزينة فعلم أن الثياب الحمر معيبة عند الله مذمومة ولا معنى لكراهتها إلا ذلك وعن عبد اله بن عمرو قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها وفي رواية قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا وعلى ابلنا أكيسة فيها خيوط عهن حمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر ابلنا فأخذنا الاكيسة ونزعناها عنها" رواه أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو بن عطاء عن رجل من بني

حارثة عنه وعن حريث بن الابج السليحي أن امرأة من بني أسد قالت: "كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المعرة رجع فلما رأت ذلك زينب علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره ما فعلت فأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئا دخل" رواه أبو داود وعن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أركب الأرجوان ولا البس المعصفر ولا البس المكفف" رواه أحمد وأبو داود وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المياثر الحمر" متفق عليه وعن مالك بن عمير قال كنت قاعدا عند علي قال فجاء صعصعة بن صوحان فسلم ثم قام فقال يا أمير المؤمنين انهنا عما نهاك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ونهانا

عن القسي والميثرة وعن الحرير وحلق الذهب" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القسي والميثرة الحمراء" رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وعن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: "نهى عن مياثر الأرجوان" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح وفي رواية عن علي قال: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس الحمرة" وفي لفظ: "الحمراء وعن القراءة في الركوع والسجود" وفي رواية: "عن لباس القسي والمياثر والمعصفر" رواهما عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وعن أبي بردة أن عليا قال: "نهاني النبي صلى الله عليه وسلم أن اجعل خاتمي في هذه أو التي تليها واوما إلى الوسطى والتي تليها ونهاني عن لبس القسي وعن جلوس على المياثر" قال يعني عليا فأما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها

من مصر والشام وأما المياثر فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطايف الأرجوان. فقد نهى صلى الله عليه وسلم: "عن المياثر الحمر" وذلك يقتضي أن تكون الحمرة مؤثرة في النهي والحديث عام في المياثر الحمر سواء كانت حريرا أو لم تكن ولو كان المراد بها الحرير فتخصيصه الحمر بها دليل على أن الأحمر من الحرير أشد كراهة من غيره وذلك يقتضي أن يكون للحمرة تأثير في الكراهة وكذلك قوله في حديث عمران لا اركب الأرجوان وهو الأحمر ولابس المعصفر ودليل على أن الحمرة مؤثرة ثم أحاديث علي في بعضها عن القسي والميثرة الحمر والحرير وفي بعضها عن القسي والمعصفرة وفي بعضها عن القسي والميثرة الحمراء وفي بعضها عن مياثر الأرجوان وهي كلها دليل على أن المياثر هي الحمر وأن لم تكن حريرا وأن مناط الحكم حمرتها لا مجرد كونها حرير وذلك أن الأرجوان هو الأحمر الشديد الحمرة كان اشتقاقه من الأرج وهو توهج رائحة الطيب لأن الأحمر يسطع لونه ويتوقد كما تسطع الرائحة الزكية في الارائج قال أبو عبيد الأرجوان الشديد الحمرة والنهرمان دونه في الحمرة

والمفدم المشبع حمرة والمضرج دونه ثم المورد بعده ثم قول علي رضي الله عنه في حديث آخر: " نهى عن لبس الحمرة والحمراء وعن الميثرة الحمراء" بدل قوله المعصفر دليل على أن المعصفر إنما نهاه عنه لحمرته فتارة يعبر عنها باسمه الخاص وتارة يعبر عنه بالاسم العام الذي هو مناط الحكم وعن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان" رواه الخلال وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشيطان يحب الحمرة والحمرة من زينة الشيطان". وعن سعيد بن أبي هند قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الحمرة ويحب الخضرة" وعن ابن عمر أنه: "رأى على ابن له ثوبا معصفرا فنهاه وأبصر على أهله ثيابا معصفرة فلم ينههم" رواهن وكيع وهذان المرسلان من وجهين مختلفين وقد اعتضدا بقول الصحابة وذلك يؤكد الاحتجاج بها ويقتضي تعاضدها على الدلالة وأيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن المعصفرة فغيره من الأحمر المشبع أولى بالنهي منه إذ ليس في المعصفر ما يكره منه سوى لونه وليس هو باشدها حمرة فغيره من الأحمر

الذي يساويه في لونه وبريقه أو يزيد عليه أولى أن ينهى عنه والتفريق بينهما تفريق بين الشيئين المتماثلين وذلك غير جائز وأيضا فإن هذا اللون يوجب الخيلاء والبطر والمرح والفخر فكان منهيا عنه كالحرير والذهب ولهذا أبيح هذا للنساء كما أبيح لهن الحرير والذهب. فأما الخفيف الحمرة مثل المورد ونحوه فقد ذهبت بهجته وتوقده وصار قريبا من الاصفر فلا يكره والأحاديث التي جاءت في الرخصة في الأحمر محمولة على هذا فإنه يسمى احمر وأن كانت حمرته خفيفة وعلى ما يكون بعضه احمر مثل البرود التي فيها خطوط حمر وهذا معنى قولهم حلة حمراء. وهل هذه كراهة تحريم أو تنزيه فيه وجهان ويبنى على ذلك صحة الصلاة فيه وفيها وجهان. أحدهما: تصح قاله طائفة من أصحابنا لأنه لم يجيء في ذلك تصريح بالتحريم ولو كان حراما لصرح بتحريمه كما صرح بتحريم الذهب والحرير فإن الفرق بينه وبين الحرير ظاهر في الحديث. والثاني: لا تصح الصلاة فيه قال ابو بكر يعيد كل من صلى في ثوب نهي عن الصلاة فيه كالمعصفر والأحمر والغصب ونحوه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهيا مطلقا وموجب النهي التحريم لا سيما وقد قرنه بالقسي وبخاتم الذهب فإن ظاهره يدل على أن المعصفر والحرير والذهب من باب واحد كيف وسبب الكراهة فيها واحد

وقد امتنع من رد السلام على لابسها وإنما يترك رد السلام المفروض على المتلبس بمعصية وقد أمر عبد الله بن عمرو باتلافها ولو كان الانتفاع بها جائزا لم يامره باتلاف ماله فعلم أن ذلك كاراقة الخمر وإنما لم ياذن له في الغسل والله أعلم لأن اللون لا يزول بالغسل مرة أو مرتين. وأما قوله في الرواية الأخرى لما أخبره أنه حرقها: "هلا كسوتها بعض اهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء" فيحتمل أن يكون لما استاذن النبي صلى الله عليه وسلم في غسلها ليلبسها بعد الغسل أراد صلى الله عليه وسلم أن يقطع طمعه في اللبس قبل الغسل وبعده وأن يعرفه أن اتلافه المضرج وإخراجه عن ملكه هو الواجب دون الغسل فلما راه قد سمح بذلك قال فإن كنت كذلك فإن تعطيه بعض اهلك خير من أن تتلفه". فصل. فأما الاصفر فلا يكره سواء صبغ بزعفران أو غيره وكذلك الأحمر المورد ونحوه نص عليه في مواضع وقال لا بأس بالمورد ومكان يصبغ بالزعفران وقيل الثوب المصبوغ بالزعفران للرجل فلم ير به بأسا وهول قو أكثر أصحابة حتى جعلها الخلال رواية واحدة.

ونقل صالح عنه أنه سأله أيصلي الرجل وعليه القميص المصبوغ بالنشاستج فقال قد: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل ونهى عن المعصفر" فأما النشاستج والزعفران فإن كان شيئا خفيفا فلا بأس وهذا يقتضي كراهة المزعفر وهو قول أبي الخطاب وأبي محمد لما روى أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يتزعفر الرجل" رواه الجماعة وفي حديث يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له وقد احرم في جبة وهو متضمخ بخلوق اغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عبرتك ما كنت صانعا في حجك" متفق عليه. والأول هو الصحيح لما روي عن ابن عمر أنه: "كان يصبغ بالصفرة وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها" متفق عليه. ولأبي داود والنسائي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصبغ ثيابه بالخلوق كلها حتى عمامته" ولفظ أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها وكان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته" وفي

رواية لأحمد عنه أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران وقال كان أحب الإصباغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدهن به ويصبغ به ثيابه وعن قيلة بنت مخرمة: "أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمال مليتين كانتا بزعفران وقد نفضتا" رواه الترمذي وقد تقدم جواز صبغة اللحية بالزعفران وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يلبس المحرم ثوبا فيه ورس أو زعفران" فدل على أنه لا ينهى عنه غير المحرم وعن يحيى بن عبد الله بن مالك قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة" وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليها عمائم صفر" رواهما وكيع في باب اللباس. وأما نهيه أن يتزعفر الرجل فالمراد به أن يخلق بدنه بالزعفران فإن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه وكذلك أمره للذي احرم وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق: "أن ينزع عنه الجبة ويغسل عنه أثر الخلوق" وقد

جاء مفسرا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يزعفر الرجل جلده" رواه النسائي فصل. ولا بأس بلبس السواد في الحرب وغيرها سواء كان عمامة أو غيرها نص عليه فقال لا بأس بالعمامة السوداء في الحرب وغير الحرب لبس النبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء وقال أيضا لا بأس بلبس العمامة السوداء قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عمامة سوداء وعم عليا بعمامة سوداء وذلك لما روى جابر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء" رواه الجماعة إلا البخاري وعن عمرو بن حريث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء" وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحل من شعر اسود" رواهما أحمد ومسلم وعن أم خالد

ابنة سعد بن العاص: "أن النبي صلى الله عليه وسلم البسها بيده خميصة سوداء وقال: "أبلى واخلقي" رواه أحمد والبخاري وقد كره أحمد رضي الله عنه لبس السواد في الوقت الذي كان شعار الولاة والجند واستعفى الخليفة المتوكل من لبسه لما أراد الاجتماع به فأعفاه بعد مراجعة وكان هذا الزي إذ ذاك شعار أهل طاعة السلطان في أمارة ولد العباس رضي الله عنه. وكان من لم يلبسه ربما اتهم بمعصية السلطان والخروج عليه والقصة في ذلك مشهورة لما أظهر المتوكل أحياء السنة واطفاء ما كان الناس فيه من المحنة وأجاز ابا عبد الله واهل بيته بالجوائز المعروفة وطلب اجتماعه به وكان يرسل إليه يستفتيه ويستشيره فأحب أبو عبد الله أن لا يدخل في شيء من أمر السلطان ولم يقبل الجوائز ونهى أهل بيته عن قبولها ففي تلك المرة استعفى من لبس السواد وسأله رجل عن خياطة الخز الأسود فقال إذا علمت أنه لجندي فلا تخطه وسأله رجل أخيط السواد قال لا وسئل عن المراة تامر زوجها أن يشتري لها ثوب خز اسود فقال هو للمرأة أسهل قيل له فأي شيء ترى للرجل قال لا

يروع به قيل فترى للخياط أن يخيط له قال إذا خاطه فايش قد بقي قد أعانه وقال في رجل مات وترك سوادا وأوصى إلى رجل فقال يحرق حتى لا يروع به مسلم قيل له لصبيان ترى أن يحرق قال يحرقه الوصي وكان يعذر في لبسه من يعلم منه الخير وأنه كالمكره عليه وهذا لأنه كان لباس الولاة والأمراء وأعوانهم مع ما كانوا فيه من الظلم والكبرياء وأخافة الناس وترويعهم ولم يكن يلبسه إلا أعوان السلطان وكان الرجل المسودي إذا رؤي خيف ورعب منه لأنه مظنة الترويع حتى قال بعض أهل العلم يضرب المثل بذلك ترى الرجل مطمئنا ثابت القلب ساكن الأركان فإذا عاين صاحب سواد رعب من سلطانه ودخله من الرعب ما غير لونه ورجف قلبه واسترخت قدماه وذهب فؤاده فلما كان معونة على الظلم والشر وإيذاء المسلمين صارت خياطته وبيعه بمنزلة بيع السلاح في الفتنة وكره أن يلبسه الرجل إذ ذاك لأنه من تشبه بقوم فهو منهم ولأنه يصير بذلك من أعوان الظلمة أو يخاف عليه أن يدخل في أعوانهم. وفي معنى هذا كل شعار وعلامة يدخل بها المرء في زمرة من تكره طريقته بحيث يبقى كالسيما عليه فإنه ينبغي اجتنابها وإبعادها وكل لباس يغلب على الظن أن يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم ولهذا كره بيع الخبز واللحم لمن يعلم أنه يشرب عليه وبيع الرياحين لمن يعلم أنه يستعين به على الخمر

والفاحشة وكذلك كل مباح في الأصل علم أنه يستعان به على معصية وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأوقات والأحوال فهذه كراهة لسبب عارض. فأما لبس الجند أو غيرهم له في دار الحرب أو غيرها إذا لم يكن مظنة الظلم ولا سيما الظلمة فلا يكره البتة. وكذلك أيضا لو لبست المراة السواد تحد به على ميت أو لبسه الرجل لم يجز لبسه حدادا على الميت لأنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث أيام فهذه كراهة للاحداد حتى لو فرض أن الاحداد كان بلبس القطن أو تغيير الهيئة ونحو ذلك دخل في النهي كما يذكر أن شاء الله تعالى في موضعه. فصل. ولا يجوز لبس ما فيه صور الحيوان من الدواب والطير وغير ذلك ولا يلبسه الرجل ولا المرأة ولا يعلق ستر فيه صورة وكذلك جميع أنواع اللباس إلا الافتراش فإنه يجوز افتراشها هذا قول أكثر أصحابنا وهو المشهور عن أحمد قال في رواية صالح الصورة لا ينبغي لبسها وقال في رواية الأثرم وسئل عن الستر عليه يكون صورة قال لا وما لم يكن له

رأس فهو أهون وأن كان له رأس فلا وقال أيضا إنما يكره منها ما علق وقال أيضا إنما يكره ما كان نصبا وإذا كنا تمثالا منصوبا يقطع رأسه وقال في الرجل يصلي وفي كمه منديل حرير فيه صور اكرهه وقال التصاوير ما كره منها فلا بأس وسئل عن الرجل يصلي على مصلى عليه تماثيل فلم ير به باسا وقال أيضا إذا كانت توطأ فلا بأس بالجلوس عليها. وعنه أن الصور التي على الثياب تكره ولا تحرم قال في رواية وقد سئل عن الوليمة يرى الجدران قد سترت أيخرج قال قد خرج أبو أيوب وعبد الله بن يزيد قيل وإذا رأى على الجدران صورا يخرج فقال نعم قيل له فإن كان في الستر فقال هذا أسهل من أن تكون على الجدران لا تضيق علينا وضحك ولكن إذا رأى هذا وبخهم ونهاهم فقد نص على التفريق بين الصور في الثياب فحرمها في الجدران وكرهها في الثوب. وكذلك قال ابن أبي موسى جميع التماثيل الصور في الأسرة والقباب والجدران وغير ذلك مكروهة عنده إلا أنها في الرقم أيسر وتركه أفضل وأحسن وكذلك قال ابن عقيل يكره لبس ما فيه صور حيوان ولا

يحرم. وأما صنعتها واتخاذها في غير الثوب والأبنية ونحوها مثل السقوف والحيطان والأسرة أو اصطناعها مجسدة للبنات أو غير ذلك فيحرم ذلك كله قولا واحدا وسنذكر أن شاء الله تعالى حكم الدخول في بيت فيه صور والصلاة فيه. ومن أصحابنا من جعل تعليق الستر المصور حراما قولا واحدا وجعل الخلاف في الكرهة أو التحريم في الملابس خاصة. والصواب أن لا فرق بينهما. ومن لم يحرم ذلك استدل بما روى أبو طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة إلا رقما في ثوب" فاستثنى الرقم في الثوب وذلك مختص بما رقم في اللباس والستور ونحوها لكن كره ذلك أيضا لأن في الأصل التصوير أنه محرم بالتفاق وليس في الحديث إلا استثناء ما يوجب التحريم وذلك يكون مع الكراهة. ولما يأتي من الأحاديث الدالة على كراهة الصور المرقومة في الثياب فتحمل تلك الأحاديث على الكراهة وهذا على عدم التحريم

جمعا بينهما. والفرق بين المرقوم في الثوب وغيره أن الصورة على غيره من الأجسام الصلبة تبقى ثابتة منتصبة على هيئة الصورة التي خلقها الله فتتحقق فيها مفسدة الصور بخلاف الصورة على الثوب فإنها تلتوي وتنطوي ويتغير وضعها بطي الثوب ونشره ولا تبقى على صورة الحيوان الذي خلقه الله وفيه ابتذال لنفس الصورة فأشبهت الصورة التي توطأ وتداس. ووجه الأول ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة كلب ولا جنب" رواه أحمد وأبو داود وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" وفي رواية: "ولا صورة إلا طلمستها" رواه مسلم وغيره وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة".

رواه البخاري وعن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل كأنها نمرقة فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه فقلت ما لنا يا رسول الله قال: "ما بال هذه الوسادة" قلت وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها قال: "أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة وأن من صنع هذه الصور يعذب يوم القيامة فيقال احيوا ما خلقتم" متفق عليه وعن عائشة: "أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما" متفق عليه وفي رواية أحمد: "فقد رايته متكئا على إحداهما وفيها صورة" وعن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه" رواه البخاري وأبو داود واحمد ولفظه: "لم يكن يدع

في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه" ورواه البرقاني والإسماعيلي ولفظهما: "لم يكن يدع في بيته سترا أو ثوبا فيه تصاوير إلا نقضه" ورواه الخلال ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى ثوبا فيه تصاوير إلا نقضه" وهذا صريح في النهي عن الثوب والستر ونحوهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقال إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن ادخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فأمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كراس شجرة وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين توطان وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وفي رواية النسائي: "استاذن جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادخل فقال كيف ادخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير أما أن تقطع رؤوسها أو تجعل بساطا يوطأ فانا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير". وهذه الأحاديث دالة على أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صور على الستور والثياب ونحوها وإنما رخص فيما كان يوطأ لحديث عائشة

وأبي هريرة ولأن الصورة تبتذل بذلك وتهان فتزول مظنة تعظيم الصورة التي امتنعت الملائكة من الدخول لأجله. وأما نفس التصوير عملا واستعمالا فحرام في كل موضع لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال احيوا ما خلقتم" متفق عليه وروى البخاري عن عائشة نحوه وعن سعيد بن أبي الحسن قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني رجل أصور هذه التصاوير فافتني فيها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم" فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له" متفق عليه وفي رواية عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ومن استمع إلى حديث قوم يغرون منه صب في أذنه الانك يوم القيامة" قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وأما حديث أبي طلحة فالأشبه والله أعلم أن ذلك الاستثناء فيه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن ابن عباس روى عن أبي طلحة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" وفي رواية: "ولا تماثيل" وفي رواية: "ولا تصاوير" قال بعض الرواة يريد صور التماثيل التي فيها ارواح متفق عليه وكذلك مسلم من حديث سعيد بن يسار عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل" فلو كان أبو طلحة قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إلا رقما في ثوب" لما جاز له أن يروي اللفظ العام دون ما استثنى منه ولو رواه كذلك لحفظه عنه مثل ابن عباس وغيره فعلم أن حديثه عام كما أن أحاديث علي وأبي هريرة وعائشة عامة أيضا وأن الصور التي على الثياب من الستور ونحوها مقصودة من هذا العام فإن تلك أحاديث صريحة في هذا وقد ذكر فيها الستر والثياب يبين ذلك أن حديث الاستثناء مبهم محتمل إذا سيق بلفظه عن بسر بن سعيد عن

زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" قال بسر بن سعيد ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة قال فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم الم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول قال عبيد الله الم تسمعه حين قال إلا رقما في ثوب فهذه الزيادة لم يقلها زيد كما قال أول الحديث وإنما خفض به صوته حتى سمعها عبيد الله دون بسر بن سعيد فلعله قالها من عنده ولم يرفعها في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما يدرج المحدث في حديثه زيادة يحسب المستمع أنها مسوقة عمن حدث عنه يؤيد ذلك أنه اعتقد رقم الستور من جملة المستثنى منه وقد صحت الأحاديث الصحيحة الصريحة أنها من جملة التي قصدت بالحديث وبان الملائكة لا تدخل بيتا هي فيه وقد روى غير واحد الحديث عن أبي طلحة دون هذه الثنيا. وان كانت هذه الزيادة محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بها والله أعلم ما رقم من الصور التي لا روح فيها أو كان يوطا ويداسس من الصور في الثياب كما جاء ذلك مفسرا بالأحاديث الاخر وقد روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد

عنده سهل بن حنيف قال فدعا أبو طلحة إنسان ينزع نمطا تحته فيه تصاوير فقال له سهل لم تنزعه قال لأن فيه تصاوير وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "ما قد علمت قال سهل أو لم يقل إلا ما كان رقما في ثوب قال بلى ولكنه أطيب لنفسي" رواه مالك واحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح فهذا الحديث قد قال فيه ابن عبد البر هو منقطع غير متصل لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك سهل بن حنيف ولا أبا طلحة ولا حفظ عنهما ولا له عن أحدهما: سماع ولا له سن يدركهما به ولا خلاف أن سهل ابن حنيف مات سنة ثمان وثلاثين بعد شهود صفين وصلى عليه علي وكبر عليه ستا وليس كما قال ابن عبد البر. فهذا الحديث يقتضي أن أبا طلحة علم أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الرقم في الثوب وليس فيه أنه سمعه منه فيجوز أن يكون المستثنى ما كان من الثياب يوطأ ويداس أو أن تلك التصاوير لم تكن صور ما فيه روح كما فسرته سائر الأحاديث. فصل. فأما تمثيل غير الصورة فلا بأس به قال أحمد وقد سئل عن الثوب الذي عليه تماثيل لا بأس بذلك لأن النهي إنما جاء في الصورة

وكذلك الحيوان إذا قطع رأسه أو طمس لم يبق من الصور المنهي عنها قيل لأحمد في الرجل يكتري البيت فيه تصاوير يحكه قال نعم قيل له وأن دخل حماما ورأى صورة حك الرأس قال نعم وقال إذا كان تمثالا منصوبا يقطع رأسه وسئل عن الوصي يشتري للصبية إذا طلبت منه لعبة فقال إذا كانت صورة لم يشترها فقيل له إذا كانت يدا ورجلا فقال يحك منه كل شيء له رأس فهو صورة قيل له فعائشة تقول كنت العب بالبنات قال نعم وقال أيضا لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة فإذا كان صورة فلا وقال أيضا الصورة الرأس وقال بعض أصحابنا: إذا قطع رأس الصورة أو لم يكن لها رأس جاز لبس ما فيه ذلك مع الكراهة وقد اوما أحمد إلى ذلك فإنه سئل عن الستر يكون عليه صورة قال لا وما لم يكن له رأس فهو أهون وأن كان له رأس فلا وذلك لأن سائر الأعضاء ابعاض الحيوان ففي إبقائها إبقاء لبعض الصورة لكن لما كان الحيوان لا تبقى فيه حياة بدون الرأس كان بمنزلة الشجر فزال عنه التحريم وبقيت فيه الكراهة. ووجه الأول حديث أبي هريرة المتقدم فإن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم

برأس التمثال الذي في البيت أن يقطع ويصير كهيئة الشجرة" فعلم أن الكراهة تزول بذلك وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصورة الرأس فإذا قطع الرأس فليس بصورة" رواه الخلال وأبو حفص وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تلعب البنات وتصنع لها لعبا تسميها خيل سليمان وإنما ذلك لأنه لم يكن لها رؤس ولأن ما ليس له رأس لا يكون فيه حياة ولا روح ولا نفس وإنما هو بمنزلة الشجر ونحوها والنهي إنما كان عن تصوير ذوات الأرواح كما تقدم ولهذا لم يكره أصحابنا تمثيل ما لا روح له كالارتج والنارتج والشجر ونحوها كما نص عليه أحمد فإنه لم يكره إلا الصورة لأن النهي إنما جاء فيها خاصة. وكره بعض أصحابنا التصليب في الثوب وفسره بصورة الصليب الذي تعظمه النصار وحمل حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه على ذلك ولأن هذا الشكل تعظمه النصارى

ويعبدونه فصار بمنزلة الأصنام التي كان المشركون يعظمونها فكره لما فيه من التشبه بهم وكلام أحمد يدل على أنه لا يكره من التماثيل سوى الصورة وكذلك كلام سائر أصحابنا فانهم قالوا بلا بأس بلبس ما فيه التماثيل التي لا تشبه ما فيه الروح وفسر القاضي وغيره حديث عائشة بالتصاوير كما رواه الخلال.

الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة

مسألة: (الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه وموضع صلاته إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه). الطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة في الجملة من غير خلاف نعلمه في المذهب فلو صلى بالنجاسة عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته. وفي الجاهل بها والعاجز عن إزالتها روايتان كما سياتي أن شاء الله تعالى. وكذلك قال بعض أصحابنا: يجب اجتناب النجاسة وهل ذلك شرط في صحة الصلاة على روايتين. اصحهما أنه شرط فمن صلى في موضع نجس حاملا للنجاسة أو أصابها ببدنه أو ثوبه عالما بها قادرا على اجتنابها لم تصح صلاته قولا واحدا إلا النجاسة المعفو عنها وأن صلى في نجاسة بعلمه ولم يمكنه اجتنابها أو علمها وأنسيها أو لم يعلم بها إلا بعد الفراغ فهل يلزمه الإعادة على روايتين.

فصاحب هذه العبارة لا يسميها شرطا إذا قلنا تسقط بالعجز والجهل والنسيان كما لا تسمى واجبات الصلاة أركانا إذا سقطت بالنسيان وإنما يسمى شرطا ما لا ما يسقط عمدا ولا نسيانا كطهارة الحدث والسترة وأكثر أصحابنا يسمونها شرطا وأن قلنا تسقط بالنسيان كما عبر به الشيخ رحمه الله كما أن استقبال القبلة شرط وقد يسقط بالجهل وكما تسقط سائر الشروط ببعض الأعذار ولأن مخالفة هذا الشرط غيره من الشروط في بعض الأحكام لا يمنع اشتراكها في أكثر الأحكام وإنما سمي الشرط شرطا لتقدمه على الصلاة ووجوبه من حين الدخول فيها كأشراط الساعة وشروط الطلاق وشرط الحمل والشروط في العقود ونحو ذلك سواء وجب في كل حال أو سقط في بعض الأحوال. وفي الجملة فالخلاف في عبارة لا في معنى وإنما قلنا أن طهارة البدن من النجاسة شرط للصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" وقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما

أحدهما فكان لا يستتر من البول". وأمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار وقال أنها تجزئ عنه ونهى عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار وهذا كله دليل على أن إزالة النجاسة فرض. وإنما قلنا بوجوب ذلك في الثياب أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأسماء حتيه ثم اغسليه ثم صلي فيه" وقال في حديث النعلين: "فإن رأى فيهما خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما" فعلق أذنه في الصلاة في الثوب والنعل على إزالة النجاسة منه" وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:

"سمعت رجلا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي قال: "نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله" رواه أحمد وابن ماجه فإنما أباح الصلاة فيه إذا رأى فيه نجاسة بعد غسله. وإنما قلنا بوجوب طهارة المكان الذي يصلي فيه لقوله سبحانه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهذه تعم تطهيره من النجاسة الحسية ومن الكفر والمعاصي والأصنام وغيرها وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} فعلل منعهم منه بنجاستهم فعلم أن مواضع الصلاة يجب صونها عن الأنجاس ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا" رواه الخطابي بإسناد صحيح من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وقال ابن المنذر ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والطيبة هي الطاهرة فلما اختص الأرض الطيبة بالذكر دل على اختصاصها بالحكم في كونها مسجدا طهورا. ولأن الحكم المعلق بوصف مناسب دليل على أن ذلك الوصف علة له فعلم أن طهارتها مؤثرة في كونها مسجدا وطهورا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم.

أمرهم أن يصبوا على بول الإعرابي ذنوبا من ماء وقال أن المساجد لا تصلح لشيء من هذا" فدل على وجوب تطهير موضع الصلاة ووجوب تنزيهه من النجاسات ولأنه نهى عن الصلاة في الأماكن التي هي مظنة النجاسات كما سيأتي أن شاء الله تعالى فالموضع الذي قد تحقق وصول النجاسة فيه أولى أن لا تجوز فيه الصلاة والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لا سيما إذا كان من العبادات وكان النهي لمعنى في المنهي عنه. وقد استدل كثير من المتأخرين من أصحابنا وغيرهم على وجوب تطهير الثياب بقوله سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} حملا لذلك على ظاهر اللغة التي يعرفونها فإن الثياب هي الملابس وتطهيرها بان تصان عن النجاسة وتجنبها بتقصيرها وتبعيدها منها وبان تماط عنها النجاسة إذا إصابتها وقد نقل هذا عن بعض السلف لكن جماهير السلف فسروا هذه الآية بأن المراد زك نفسك وأصلح عملك قالوا وكنى بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الأرجاس والاثام وذلك أن هذه الآية في أول سورة المدثر وهي أول ما نزل من القران بعد أول سورة اقرأ ولعل الصلاة لم تكن فرضت حينئذ فضلا عن اذى الطهارتين التي هي من توابع الصلاة ثم هذه الطهارة من فروع الشريعة وتتماتها فلا تفرض إلا بعد استقرار الأصول

والقواعد كسائر فروع الشريعة إذ ذاك لم تكن قد فرضت الأصول والقواعد. ثم أن الاهتمام في أول الأمر بجمل الشرائع وكلياتها دون الواحد من تفاصيلها والجزء من جزئياتها هو المعروف من طريقة القران وهو الواجب في الحكمة ثم ثياب النبي صلى الله عليه وسلم لم تعرض لها نجاسة إلا أن تكون في الأحيان فتخصيصها بالذكر دون طهارة البدن وغيره مع قلة الحاجة وعدم الاختصاص بالحكم في غاية البعد وإذا حملت الآية على الطهارة من الرجس والاثم والكذب والغدر والخيانة والفواحش كانت قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة والكناية بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الفواحش والكذب والخيانة ونحو ذلك مشهور في لسان العرب غالب في عرفهم نظما ونثرا كما قال. ثياب بني عوف طهارى نقية. وقال الآخر. وإني بحمد الله لا ثوب غادر. لبست ولا من خزية اتقنع. حتى إذا قيل فلان طاهر الثياب طاهر الذيل لم يفهم منه عند الاطلاق إلا ذلك فيكون قد صار ذلك حقيقة عرفية كما صار المجيء من الغائط حقيقة في قضاء الحاجة وكما صار مسيس النساء ومباشرتهن حقيقة في الجماع فيجب حمل الكلام عليه ولذلك وجهان. أحدهما: أن اللباس يضاف إليه من الحكم ويقصد به الاضافة إلى الإنسان نفسه للعلم بان المقصود من الثوب لا نفس الثوب ويجعل ذلك نوعا من الكناية كما قال الانصار للنبي صلى الله عليه وسلم: "لنمنعنك مما نمنع

منه أزرنا". الثاني أن يراد نفس تطهير الثوب لكن الطهارة في كتاب الله على قسمين طهارة حسية من الاعيان النجسة ومن اسباب الحدث المعلومة. وطهارة عقلية من الاعمال الخبيثة. فالأول كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} نزلت في أهل قباء لما كانوا يستنجون من البول والغائط وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أن اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. والثاني: كقوله سبحانه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وقوله تعالى: {صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله تعالى: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أنهم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} في غير موضع وقوله سبحانه وتعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ

أَطْهَرُ لَكُمْ} وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: {إنما المشركون نجس} وقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى غير ذلك من الآيات وإذا كان كذلك فالثوب نفسه يكتسب صفة حقيقية من لابسه أن كان صالحا أو فاسقا حتى يظهر ذلك فيه إذا قوي تاثير صاحبه فيه ويظهر ذلك في مواضع الخير ومواضع الشر ولاجل الارتباط الذي بين اللباس والمقعد وبين صاحبهما أمر بتطهيرهما من النجاسة وكانت طهارة الخفين طهارة للقدمين واستحب تكريم البقاع والثياب التي عملت فيها الصالحات حتى اعد سعد رضي الله عنه جبته التي شهد فيها بدرا كفنا واستوهب بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه بردة لتتخذها كفنا. وهذا كثير فالأمر بتطهير عينه من الانجاس أمر بطهارة صاحبه بالضرورة. والأشبه والله أعلم أن الآية تعم نوعي الطهارة وتشمل هذا كله فيكون مأمورا بتطهير الثياب المتضمنة تطهير البدن والنفس من كل ما يستقذر شرعا من الاعيان والاخلاق والاعمال لأن تطهيرها أن تجعل طاهرة ومتى اتصل بها وبصاحبها شيء من النجاسة لم تكن مطهرة على الإطلاق

فانها متى ازيل عنها نجس دون نجس لم تكن قد طهرت حتى يزال عنها كل نجس بل كل ما أمر الله باجتنابه من الارجاس وجب التطهير منه وهو داخل في عموم هذا الخطاب. يبين ذلك أن الطهارة من الخمر والبول والدم ذلك هي من تتمة الطهارة من اكلها وشربها وتكميل لذلك المقصود وتحقيق للتنزه من الارجاس بكل طريق وإنما حرم الله سبحانه مباشرة هذه الاعيان الرجسة كما حرم ممازجتها بالأكل والشرب لما فيها من الخبث وحرم مباشرتها بالثياب قطعا لملابستها بكل طريق ومبالغة في اجتنابها وعلى هذه فالحجة من الآية اندراج هذه الطهارة في العموم وبذلك تندفع تلك الأسئلة. فإن قيل فقد روى عيد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم إلا تنظرون إلى هذا المرء ايكم يقوم إلى جزور ال فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه فانبعث اشقاهم فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وانا قائم انظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فاخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه ثم اقبلت عليهم تسبهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا لاثا وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال: "اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال اللهم عليك بابي جهل ابن هشام

وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وامية بن خلف وعقبة بن أبي معيط" وذكر السابع: ولم احفظه قال فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس وكان يوما حارا" متفق عليه فهذا يدل ظاهره على أن اجتناب النجاسة لا يشترط لصحة الصلاة. قلنا قد قال بعض أصحابنا: هذا منسوخ لأنه كان بمكة في أول الأمر ولعل الصلوات الخمس لم تكن فرضت حينئذ وفرض الطهارة إنما نزل بالمدينة. وأيضا فإن الحكم بنجاسة الدم ونجاسة ذبائح المشركين إنما علم لما حرمت الميتة والدم ولحم الخنزير ولعل هذا التحريم لم يكن نزل بعد. وقيل لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضعوا على ظهره حتى قضى صلاته والنجاسة إذا لم يعلم بها لم تبطل ثم أنه لم يطل الفصل لأن فاطمة جاءت فالقتها عن ظهره واقبلت عليهم تسبهم فقد علم أنهم القوا على ظهره شيئا لكن لم يدر ما هو والقي عنه بابي هو وامي لم يدر ما هو. وقيل هذا يقتضي طهارة الموضوع فوق ظهره فيفيد أن فرث الإبل طاهر والدم فإنه كان دما يسيرا معفوا عنه لأن الذي يعلق بالسلا من الدم لا يكون كثيرا في العادة وأما السلا نفسه فإنه كان من ذبيحة المشركين لكن لم يكن قد حرم اكل ذبائحهم وحكم بنجاستها فإن المسلمين الذين كانوا بين ظهرانيهم إنما كانوا يأكلون من ذبائحهم وإنما حرم الميتة وما أهل لغير الله به ثم انه فيما بعد حرم اللحم وحكم بنجاسته لكونه من

ذبيحة غير مسلم ولا كتابي بمنزلة الميتة والفرث نفسه لم يتغير حكمه لأنه لا يموت وإنما هو كاللبن فبقي على حاله وهذا الوجه اقرب من غيره. فصل. ويجب اجتناب حمل النجاسة وملاقاتها بشيء من بدنه أو ثيابه وحمل ما يلاقيها. فلو كان موضع قدميه أو ركبته أو جبهته في السجود نجسا لم تصح صلاته من أجل الملاقاة وكذلك لو لاقى ثوبه نجاسة في حال قيامه أو سجوده وقال ابن عقيل أن لاقى ثوبه نجاسة يابسة على ثوب انسان في حال القيام لم تبطل صلاته لأنه ليس بمعتمد على النجاسة ولا هي تابعة له فاشبه النجاسة على طرف الحصير قال وأن كان ثوبه يسقط عليها حال السجود فوجهان لأن ثوبه هنا معتمد عليها وليس بمستتبع لها. ووجه الأول لأن مجرد الملاقاة ما هو حامل له للنجاسة مبطل بدليل ملاقاة الحائط النجس والأرض النجسة. ولو وقعت عليه نجاسة فازالها في الحال لم تبطل صلاته في المشهور لأن زمن ذلك يسير وقد حصل بغير اختياره فاشبه انكشاف العورة في الزمن اليسير وأن احتاجت إلى زمن كثير أو فصل طويل فينبغي أن يكون كمن سبقه الحدث واولى بالبناء. ولو حمل قارورة فيها نجاسة بطلت صلاته وأن كانت مشدودة الرأس.

ولو حمل شيئا من الحيونات الطاهرة كالصبي ونحوه كما حمل النبي صلى الله عليه وسلم امامة ابنة أبي العاص وكما كان الحسن يرتحله لم تبطل صلاته وأن كان في جوفه نجاسة من الدم والخمر ونحو ذلك لأن النجاسة هنا مستورة بأصل الخلقة وما هذا سبيله من النجاسات فلا حكم له بخلاف ما في القارورة. نعم في البيضة التي فيها فروج ميت وجهان لأنه من حيث هو مستور بأصل الخلقة يشبه الدم في الحيوان الطاهر ومن حيث هو مستتر يشبه القارورة. والأظهر أنه كالقارورة لأن البيضة لم تكن محلا للرطوبات وإنما عرض لها ذلك بخلاف باطن الحيوان ولأن القياس اجتناب جميع النجاسات الظاهرة والباطنة لكن ما في باطن الحيوان تابع للطاهر وفي إخراجه عنه مشقة بخلاف ما في البيضة فإنه هو المتبوع ولا مشقة في إخراجه منه. فصل. وأما النجاسة المعفوا عنها فقد تقدم ذكرها قدرا ونوعا والضابط لها

في الغالب أن تكون مما يشق الاحتراز منه مشقة عامة كالدم وما تولد منه وكاثر الاستنجاء فيعفو الشرع عن قليله رفعا للحرج وارادة لليسر دون العسر أو أن يكون مما يخفف تنجيسه لشبهه بالطاهرات من بعض الوجوه المعتبرة كالمذي أو للخلاف في نجاسته أن جعلنا هذا مؤثرا كالنبيذ ونحوه. وأما الكثير فلا يعفى عنه لأنه لا حرج في الاحتراز منه وقد بلغ بكثرته وقدره ما يبلغ غيره بجنسه ونوعه وسواء كان في موضع واحد أو موضعين من البدن أو الثوب أو المصلى فإن المفترق يجمع فإن كان مجموعه كثيرا ابطل والا فلا أن كان في محل متصل. فان كان في محلين منفصلين مثل ثوبين أو ثوب وبدن أو ثوب ومصلى ضم أحدهما: إلى الآخر في أحد الوجهين اختاره ابن عقيل لأنه صلى ومعه دم كثير فاشبه ما في الثوب الواحد. وفي الاخر لا يضم لأن ذلك أقل فحشا واشق غسلا من الثوب الواحد ففي ايجاب غسله عكس لمقصود الرخصة. فصل. وإذا بسط على نجاسة شيئا طاهرا أو طينها كرهت الصلاة عليه

وصحت في أشهر الروايتين. وفي الأخرى لا تصح هكذا حكاهما جماعة. وقال ابن أبي موسى وغيره من بسط على بول لم يجف أو على غائط رطب حصيرا لم تجزه الصلاة فإن كانت الأرض قد جفت من البول فبسط عليه حصيرا وصلى عليه أجزاه قال ولو طين مسجدا بطين فيه تراب قد بالت عليه الحمير الاهلية لم يصل فيه حتى يقلع الطين منه وكذلك لو كبس ارضه بتراب نجس لم يصل فيه حتى يزال ذلك التراب منه وعلى هذا فإنه يفرق بين أن تكون النجاسة متصلة بالمصلى الذي يصلي عليه تابعة له وبين أن تكون منفصلة عنه لكنه ملاقية وهذا أشبه بمنصوص أحمد فإنه قال إذا لم تعلق نجاسة بالثوب يصلي وقال في المسجد المحشو بالقذر لإذا فرش عليه الطوابيق والآجر لا يصلي فيه إلا أن يخرج عنه وذلك لما روى عن ابن سيرين أنه سئل عن المسجد يعني على مكان نجس فقال مر ابن مسعود على قوم يكبسون مسجدهم بروث أو قذر فنهاهم عن ذلك" رواه سعيد. ومن قال بالمنع مطلقا قال لأن المقر شرط لصحة الصلاة فتشرط طهارته كالثوب. ولو كان في السفل نجاسة صحت الصلاة في العلو قولا واحدا من غير

كراهة لأنه ليس بمستقر له بدليل أنه لو كان السفسل مغصوبا والعلو مباحا صحت الصلاة في العلو ولو كان ما تحت البساط المباح والطين المباح مغصوبا لم تصح الصلاة قال بعض أصحابنا: لأن باطن المسجد يجب لا صيانته عن النجاسة كظاهره ولو لم يمنع الصحة لما وجب ذلك كما لو كان المسجد فوق بيت لإنسان فإنه لا يلزمه صونه عن النجاسة ولذلك جوز أحمد بناء المسجد فوق المطهرة. واحتج أصحابنا للاول بما ذكره أحمد عن أبي موسى أنه صلى على الروث والنتن وصلى والبرية إلى جانبه وقال هذا وذاك سواء وفي لفظ" رواه سعيد أنه صلى في سكة المربد على الروث والنتن والبرية إلى جانبه فقيل له لو صليت في البرية فقال هذا وذاك سواء والحجة بهذا مبنية على أنه فرش على ذلك الروث شيئا وصلى عليه والا فقد يكون من روث ما يؤكل لحمه وعلى قول ابن أبي موسى فإنه يؤخذ بهذا وبقول ابن مسعود واحتجوا بأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي على حماره وهو متوجه إلى خيبر" رواه مسلم وهذا حجة على من يقول بنجاسة الحمار ويسوي بينه وبين الأرض وأما من لم يقل بنجاسة الحمار بين الدواب وغيرها فلا حجة عليه فيه أن صح قوله ذلك وأيضا فإنه لم يحمل النجاسة ولم يلاقها فاشبه من صلى على سرير تحته

نجاسة أو في بقعة طاهرة متصلة بنجاسة وكونه شرطا للصحة من أجل الاستقرار لا يقتضي وجوب طهارته كمحل السرير. وأما باطن المسجد فيصان عن النجاسة كهوائه على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" وكان أصحاب النبي يدفنون القمل في المسجد فعلم أن باطنه ليس كظاهره من كل وجه. ولو صلى على فراش في حشوها وبطانتها نجاسة أو على بساط في باطنه نجاسة لم تنفذ إلى ظاهره أو على طابق طاهر الظاهر نجس الباطن فهو كمن فرش طاهرا على نجس على هذه الطريقة وعلى ما ذكره ابن أبي موسى لا يصلي على هذا المصلى مع الصلاة على المفروش على المكان النجس اليابس. فصل. وإذا صلى على حبل أو منديل في طرفه نجاسة صحت صلاته في المنصوص.

وقال بعض أصحابنا: أن كانت النجاسة تتحرك بحركته لم تصح صلاته لأنه يصير مستتبعا لها. ووجه الأول أنه لم يحمل النجاسة ولم يلاقها ولم يحمل ما يلاقيها فاشبه ما لو صلى في بقعة طاهرة من بيت في جانبه نجاسة. فان كان يحاذيها بصدره إذا ركع أو إذا سجد ولم تلاقها ثيابه صحت أيضا في المشهور. وفي وجه مخرج أنها لا تصح كما لو صلى على مدفن النجاسة على الرواية المتقدمة. ووجه الأول أن ما يحاذي الصدر لا يعتبر استقراره بدليل ما لو كان روزنة أو حفرة بخلاف مساجد الاعضاء السبعة فإن استقرارها معتبر حتى لو وضعها على قطن منتفش ونحوه فلذلك اعتبرت طهارتها واشترطت في رواية. فان كان المنديل أو الحبل متعلقا به في يده أو وسطه أو نحو ذلك بحيث يتبعه إذا مشى المشى لم تصح صلاته سواء تحركت النجاسة بحركته في الصلاة أو لم تتحرك لأن النجاسة إذا انتقلت لانتقاله كان مستصحبا لها وبمنزلة الحامل لها فاشبه ما لو كانت على ذيل قميصه الطويل أو طرف عمامته المحلولة وسواء كان النجس يتبع باختياره كالحيوان من الكلب ونحوه أو ليس له اختيار كالسفيه الصغير والثوب النجس ونحو ذلك فلو

صلى ومقود الكلب بيده لم تصح صلاته وكذلك أن كان بيده مقود بغل أو حمار إذا قلنا هو نجس. ويتوجه الفرق بين ما يتبع بارادته وبين الجامد وعلى المعروف في المذهب لو لم يكن له من يمسك بغله أو حماره ولا يمكن ضبطه إلا بامساكه فينبغي أن يكون بمنزلة العاجز عن إزالت النجاسة لأن اجتناب النجاسة هنا لا يمكن إلا بضياع ماله فلم يجب كما لو يمكنه الذهاب إلى الماء إلا بالخوف على ماله أو كانت عليه نجاسة ولا يمكنه غسلها إلا بالخوف على ماله وأولى. ولو كان الحبل المعلق به واقعا على نجاسة يابسة لم تصح صلاته لأنه حامل لما يلاقي النجاسة فاشبه ما لو القى عليها طرف ثوبه أو كمه. وان كان الحبل مشدودا في شيء لا ينجر بجره ومشيه كحمل ميت أو حيوان نجس لا يتبعه إذا مشى ولا يقدر على جره إذا استعصى عليه كالفيل أو سفينة كبيرة فيها نجاسة أو ظرف كبير مملوء خمرا فإن كان طرف الحبل متصلا بموضع نجس كمسألة الميتة ونحوها لم تصح صلاته وأن لم يكن متصلا بموضع نجس صحت كمسألة السفينة والظرف لأن هذا ليس حاملا للنجاسة ولا مستصحبا لها وإنما هو حامل للحبل فإذا كان ملاقيا للنجاسة كان كما لو لاقاها ثوبه أو كمه بخلاف ما إذا لاقى محلا طاهرا متصلا بنجس. ومن أصحابنا من قال لا فرق بين أن يكون المحل متصلا بوضع

طاهر أو نجس فلا تبطل صلاته فيهما إلا إذا كان ينجر معه لأنه لا يقدر على استتباع النجاسة فلا يضر حمله لما يلاقيها كما لو امسك سفينة عظيمة فيها نجاسة وامسك شجرة على غصنها نجاسة وهذا يوافق قول ابن عقيل. وقال الآمدي إذا كانت النجاسة في مركب فشد حبله إلى وسطه كانت صلاته باطلة ولم يفرق بين أن يستطيع أن يجرها أو لا.

مسألة: (فان صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها أو علمها ثم نسيها فصلاته صحيحة وأن علمها في الصلاة ازالها وبنى على صلاته). هذه احدى الروايتين عن الامام احمد. والرواية الأخرى أنه يعيد صلاته سواء علمها قبل الصلاة ثم نسيها أو لم يعلم بها حتى سلم أو علمها في اثناء الصلاة هذه الطريقة المشهورة وهذه الرواية اختيار كثير من أصحابنا كابن أبي موسى والقاضي وأصحابه. وذكر القاضي في المجرد والآمدي أن الناسي يعيد رواية واحدة لأنه مفرط وقد وجبت عليه الإزالة وإنما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة. فأما الناسي فليس فيه عنه نص فلذلك اختلفت الطريقتان فإن قلنا يعيد مطلقا فلأنها إحدى الطهارتين فلم يسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث ولأنه شرط من شروط الصلاة فلم يسقط بالجهل والنسيان كاللباس والقبلة وأن قلنا لا يعيد وهي اختيار طائفة من أصحابنا وهي أظهر فلما روى أبو سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعيله

فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لم خلعتم قالوا يا رسول الله رايناك خلعت فخلعنا فقال أن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما" رواه أحمد وأبو داود واحتج به اسحق بن راهويه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره جبريل عليه السلام أن في نعليه قدرا كان راكعا فخلعهما ومضى في صلاته ولو اطيل حملهما بغير علم لاستانف الصلاة ولا يصح أن يقال لعله كان مخاطا أو بصاقا أو نحو ذلك مما لا يبطل الصلاة أو كان يسيرا من دم ونحوه فقد قيل أنه كان دم حلمة لأن الخبث اسم للغائط وكذلك القذر حقيقة في النجاسة. ولأنه لو كانت الصلاة تصح معه لم يخلع نعليه في الصلاة فإنه عبث والعبث في الصلاة مكروه جدا لا سيما وهو راكع وخلع نعليه يحتاج إلى نوع علاج وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم قد أمر المصلي أن يبصق في ثوبه إذا لم يجد مكانا يبصق فيه وكانوا إذا وجدوا يسير الدم مضوا في صلاتهم فعلم

إن حمل شيء من البصاق ونحوه وحمل شيء من يسير النجاسة المعفو عن يسيرها لا كراهة فيه ولا يشرع لازالته شيء من العمل وأيضا فقوله في الحديث: "فإن رأى خبثا فليمسحه ثم ليصل فيهما" دليل على أن الصلاة لا تصح مع وجوده وهذا لا يكون إلا في خبث هو نجس ولأن النسيان يجعل الموجود كالمعدوم ويبقى المعدوم على حاله لأن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه والمؤمنين حيث قالوا: {لا تُؤَاخِذْنَا أن نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} فإنه قال قد فعلت" رواه مسلم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عفي لأمتي عن الخطا والنسيان" فإن ترك المأمور به ناسيا لم

يؤاخذ بالترك ولم تبرا ذمته من عهدة الايجاب لأنه لم يفعله وأن فعل المنهي عنه ناسيا كان كأنه لم يفعله فلا يضره وجوده وحمل النجاسة في الصلاة من باب المنهيات فإذا وقع كان معفوا عنه بخلاف الوضوء والاستقبال والسترة فإنها من باب المأمورات فإذا لم يفعلها بقيت عليه ولهذا لم يفسد الصوم بالأكل ناسيا ومن فرق بين الجاهل والناسي ينتقض عليه بمن ذكر فائتة ثم نسيها حتى صلى الحاضرة فإن حاضرته تصح في ظاهر المذهب. فإن قيل فلو جهل أن النجاسة محرمة في الصلاة. قلنا أن كان ممن يعذر بهذا الجهل فسياتي الكلام فيه أن شاء الله تعالى فعلى هذا أن علم النجاسة في اثناء الصلاة فابتدا الصلاة على الرواية التي توجب فيها الإعادة لأن ما مضى من صلاته كان باطلا. وعلى الأخرى يلقي النجاسة ويتم الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا فأشبه العاري إذا وجد السترة إلا أن تحتاج إزالتها إلى عمل كثير يبطل الصلاة أو زمن طويل فقيل تبطل الصلاة كالعاري إذا وجد السترة بعيدة منه. ويتخرج في الزمن الطويل أن لا تبطل كما قيل في السترة. ويتخرج في العمل الكثير أيضا مثل ذلك كما قلنا فيمن سبقه الحدث وفي العاري والمتيمم والمستحاضة على وجه.

مسألة: (والأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها إلا المقبرة والحش والحمام واعطان الإبل). هذا الكلام فيه فصول. الفصل الأول. أن الأرض كلها مسجد لنبينا ولامته صلى الله عليه وسلم في الجملة وقد تواطات بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع في الأرض أول قال: "المسجد الحرام قلت: ثم أي قال: المسجد الاقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد" متفق عليه وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وبعثت إلى الناس كافة" متفق عليه. ورواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد رواه عدة من الصحابة رضي

الله تعالى عنهم منهم أبو ذر وأبو موسى وابن عباس وغيرهم وعن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزاة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف اليهم قال لهم: "لقد اعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما انا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملىء مني رعبا واحلت لي الغنائم كلها وكان من قبلي يعظمون اكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم والخامس: ة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد

سأل فاخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا اله إلا الله" رواه أحمد بإسناد جيد وقد تقدم قوله في حديث حذيفة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء. الفصل الثاني. في المواضع المستثتاة التي نهى عن الصلاة فيها وقد عد أصحابنا عشرة مواضع المقبرة والمجزرة والمزبلة والحش والحمام وقارعة الطريق واعطان الإبل وظهر الكعبة والموضع المغصوب والموضع النجس. فأما الموضع النجس والمغصوب فقد ذكرنا حكمه. وأما ثلاثة منها فقد تواطأت الأحاديث واستفاضت بالنهي عن الصلاة فيها وهي المقبرة واعطان الإبل والحمام وسائرها جاء فيها من الأحاديث ما هو دون ذلك. اما المقبرة والحمام فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من

صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا" رواه الجماعة وعن أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وعن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وعن ابن عباس وعائشة أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما نزل به لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وعن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير فقال: "أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة" متفق على هذه الأحاديث وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج" رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد".

وفي لفظ: "والذين يتخذون قبورهم مساجد" رواه أحمد بإسناد صحيح. والأحاديث في هذ المعنى كثيرة يذكر بعضها أن شاء الله في الجنائز والحج مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقوله عليه السلام: "لا تتخذوا قبري عيد"ا. وأما أعطان الإبل فقد تقدم في باب نواقض الوضوء النهي عن الصلاة فيها من حديث جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم وتقدم أيضا حديث البراء بن عازب واسيد بن خضير وذي

الغرة وفي حديث البراء لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين وهو حديث صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه فال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل" رواه أحمد والترمذي وصححه وفي رواية لاحمد وابن ماجه إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم ومعاطن الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل. وعن عبد الله بن المغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وفي رواية لأحمد: "إذا حضرت الصلاة وأنتم في

مرابض الغنم فصلوا وإذا حضرت وانتم في أعطان الإبل فلا تصلوا فإنها خلقت من الشياطين" وفي رواية له: "لا تصلوا في عطن الإبل فإنها من الجن خلقت إلا ترون عيونها وهيئتها إذا نفرت". وأما قارعة الطريق فعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا على جواد الطريق ولا تنزلوا عليها فإنها ماوى الحيات والسباع ولا تقضوا عليها الحوائج فإنها من الملاعن" رواه أحمد وابن ماجة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلي على قارعة الطريق أو يضرب الخلا عليها أو يبال فيها" رواه ابن ماجة. وأما سائرها فروى ابن ماجه من حديث أبي صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها ظاهر بيت الله

والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام وعطن الإبل ومحجة الطريق" وعن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يصلى في سبع مواطن في المجزرة والمزبلة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله" رواه عبد بن حميد وابن ماجة والترمذي وقال ليس اسناده بذلك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من حفظه قال وقد روى الليث ابن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه واصح من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن عمر ضعفه بعض أهل

الحديث من قبل حفظه منهم يحيى بن سعيد القطان. وهذا الكلام لا يوجب رد الحديث لوجهين. أحدهما: أن رواته عدول مرضيون وإنما يخاف على بعضهم من سوء حفظه وذلك إنما يؤثر في رفع موقوف أو وصل مقطوع أو اسناد مرسل أو زيادة كلمة أو نقضصاخرى أو اختلاط حديث بحديث وشبه ذلك مما يؤتى الإنسان فيه من جهة تغير حفظه أما حديث كامل طويل يحدد فيه أشياء ويحصيها جملة وتفصيلا فلا يؤتى الإنسان في مثل هذا من جهة حفظه إلا أن يكون اختلقه ولهذا إنما اختلفت الرواية في كونه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى ذلك أشار الترمذي في كون عبد الله بن عمر تكلم فيه من جهة حفظه لكونه ادخل في اسناده عمر والأحاديث الصحاح المشاهير قد يقع فيها أكثر من هذا على أن رواية ابن ماجه قد صرح فيها بان الليث سمعه من نافع والاسناد إليه صالح إلا أن يكون قد وقع فيه وهم ومن الممكن أن يكون ابن عمر سمعه من ابيه فكان تارة يؤثره عنه وتارة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة فإن ابن عمر على خصوصه وغيره من الصحابة لهم من هذا الجنس أحاديث كثيرة. الوجه الثاني: أن علة الحديث إذا كانت من جهة الخوف من سوء حفظ الراوي فإذا كان قد روي من وجهين مختلفين عن رجلين عدلين ادى كل منهما مثل ما ادى الاخر كان ذلك دليلا على أن كلا منهما حفظ ما حدثه ولم يخنه حفظه في هذا الموضوع ولهذا لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن

لا يكون ذو اليدين ضبط ما قاله استشهد بغيره من الحاضرين وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في طلبه شاهدا اخر مع محمد بن مسلمة على ميراث الجدة حتى شهد المغيرة بن شعبة. وعمر رضي الله عنه في طلبه شاهدا مع أبي موسى على حديث الاستئذان لم يكن ذلك خشية أن يكون المحدث كذب فإن مقادير هؤلاء عندهم كانت أجل من أن يتوهم فيهم الكذب وإنما هو خشية النسيان وعدم الضبط فإذا اعتضدت رواية برواية اخرى دل ذلك على الحفظ والضبط وقد قال سبحانه لما أمر باستشهاد امراتين {أَنْ تَضِلَّ إحداهما: فَتُذَكِّرَ إحداهما: الآخْرَى} واخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقص عقلهن اوجب أن يكون شهادة امراتين كشهادة رجل واحد فعلم أن الضلال

الذي هو النسيان ونقص العقل الذي هو عدم الضبط ينجبر بانضمام المثل إلى المثل لا سيما إذا كان المحدث جازما بما حدثه وليس الحديث مما يتوهم دخول الغفلة فيه ولم يعارضه ما يخالفه ولا قامت امارة على عدم حفظه بل قامت الشواهد على صحته أما بنصوص اخرى أو بقياس وقول الترمذي ليس اسناده بذلك قوي لاجل ما تكلم في حفظ زيد بن جبيرة وقد تقدم القول في مثل هذا وذكرنا أن الكلام في الحديث تعليلا وتضعيفا شيء وأن العمل به والاحتجاج به شيء اخر وأن أهل الحديث يريدون بالضعيف كثيرا ما لم يكن قويا صحيحا وأن كانت الحجة توجب العمل به وعبارته إنما تدل على أنه ليس بتام القوة وهذا صحيح لكن إذا انجبر هذا الضعيف بالطريق الأخرى صار بمنزلة القوي هذا كله أن كان بين الليث وبين نافع فيه العمري وأن كان قد سمعه منه فالليث حجة امام. الفصل الثالث: في الصلاة في المواضع المنهي عن الصلاة فيها وفيها روايتان. إحداهما: وهي ظاهر المذهب أنها لا تصح ولا تجوز. والثانية: أنها تكره وتستحب الإعادة ومن أصحابنا من يحكي هذه الرواية بالتحريم مع الصحة ولفظ أحمد فيها هو الكراهة وقد يريد بها تارة التحريم وتارة التنزيه ولذلك اختلفوا في كراهيته المطلقة على

وجهين مشهورين ومن أصحابنا من يقول الروايتان في الجاهل بالنهي كم سيأتي أما أن علم بالنهي لم تصح صلاته رواية واحدة. والصحيح أن في العالم بالنهي خلافا عنه وقد جاء ذلك صريحا عنه. فان قلنا تصح فلعموم الأحاديث الصحيحة بان الأرض كلها مسجد كما تقدم ولو كان ذلك يختلف لبينه لأن تاخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ويحمل على النهي عن هذه المواضع على الكراهة جمعا بينهما ولأن علة النهي في بعضها كونها مظنة النجاسة وفي بعضها كونها محلا للشياطين وأن بها ما يشغل قلب المصلي ويخاف أن يفسد عليه صلاته وذلك أكثر ما يوجب الكراهة ولأنه موضع طاهر لا يحرم المقام فيه فاشبه الاصطبلات. والأول أصح لأن قوله الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام إخراج لها عن أن تكون مسجدا والصلاة لا تصح إلا في مسجد اعني فيما جعله الله لنا مسجدا وهذا خطاب وضع واخبار فيه أن المقبرة والحمام لم يجعلا مسجدا ومحلا للسجود كما بين أن محل السجود هو الأرض الطيبة فإذا لم تكن مسجدا كان السجود واقعا فيها في غير موضعه فلا يكون معتدا به كما لو وقع في غير وقته أو إلى غير جهته أو في أرض خبيثة وهذا الكلام من ابلغ ما يدل على الاشتراط فإنه قد يتوهم أن العبادة تصح مع التحريم

إذا كان الخطاب خطاب أمر وتكليف أما إذا وقعت في المكان أو في الزمان الذي بين أنه ليس محلا لها ولا ظرفا فإنها لا تصح اجماعا وأيضا فإن نهيه عن صلاة المقبرة واعطان الإبل والحمام مرة بعد مرة اوكد شيء في التحريم والفساد لا سيما وهو نهي يختص الصلاة بمعنى في مكانها فإن الرجل إذا صلى في مكان نهاه الله ورسوله أن يصلي فيه نهيا يختص الصلاة لم يفعل ما أمره الله به فيبقى في عهدة الأمر بل قد عصى الله ورسوله وتعدى حدوده. وأيضا لعنته صلى الله عليه وسلم من يتخذ القبور مساجد ووصيته بذلك في اخر عمره وهو يعالج سكرات الموت بعد أن نهى عن ذلك قبل موته بخمس وبيانه أن فاعلي ذلك شرار الخلق من هذه الأمة ومن الامم قبلها بيان عظيم لقبح هذا العمل ودلالة على أنه من الكبائر وأنه مقارب للكفر بل ربما كان كفرا صريحا وأيضا فإن قوله لا تجوز الصلاة فيها صريح في التحريم والتحريم يقتضي الفساد خصوصا هنا ولذلك لا يصح أن يقال هنا بالتحريم مع الصحة وأن قلنا به في الدار المغصوبة لأن النهي هناك ليس عن خصوص الصلاة وقد يقال أنه ليس لمعنى في المنهي عنه وهنا النهي عن نفس الصلاة في المكان المخصوص لمعنى في نفس المنهي عنه وأيضا فقوله لا يجوز دليل على أنه لا يجزىء لأن العبادة الجائزة هي الماضية النافذة وضدها الموقوفة المردودة وإذا كانت

الصلاة موقوفة محبوسة مردودة لم تكن مجزية بل قوله لا تجوز ابلغ من قوله لا تجزىء لأن هذا يعم الفرض والنفل وذاك يختص النفل وأيضا فإن الصلاة في المكان النجس فاسدة مع أنه لم ينطق كتاب ولا سنة بانها فاسدة ولا أنها غير مجزئة وإنما فهم المسلمون ذلك من نهي الشارع عن الصلاة فيها وتخصيص الاباحة بالأرض الطيبة فهذه المواضع التي سلبت اسم المسجد وترادفت اقاويل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة فيها أولى أن لا تجزئ الصلاة فيها. فإذا قيل أن الصلاة على مكان فيه قطرة بول أو خمر أو في بعض مساقط ثوب المصلي لا تصح اعتمادا على قوله جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا واستنباطا من تخصيصه وتعليله مع أنه فهم حسن وفقه صحيح فما هو ابين منه واصرح من النهي الصريح والاستثناء القاطع مع كونه أصح واشهر وهو عن السلف أظهر وأكثر واولى أن يعتمد عليه فإن هذا كالإجماع من الصحابة قال أنس: "كنت اصلي وبين يدي قبر وانا لا اشعر فناداني عمر القبر القبر فظننت أنه يعني القمر فرفعت راسي إلى السماء فقال رجل إنما يعني القبر فتنحيت عنه" رواه سعيد وابن ماجه وغيرهما وذكره البخاري في صحيحه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تصل في حمام أو عند

قبر وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: "لا تصل في أعطان الإبل" وكذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك ابن حامد وعن ابن عمر وابن عباس كراهة الصلاة في المقبرة وهذا أولى أن يكون صحيحا مما ذكره الخطابي عن ابن عمر أنه: "رخص في الصلاة في المقابر" فلعل ذلك أن صح أراد به صلاة الجنازة وعن علي رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا قال: "من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد" رواه عبد الرزاق وعن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل انصلي في مناخ الإبل قال: "لا ولكن صل في مرابض الغنم" رواه مالك وغيره وعن عبد الله بن عمرو قال: "تكره الصلاة إلى حش وفي حمام وفي مقبرة" وقال إبراهيم: "كانوا لا يصلون التطوع فإذا كانوا في جنازة فإن حضرت صلاة مكتوبة تنحوا عن القبور فصلوا" رواهما سعيد وقد قدمنا عن عمر وغيره من الصحابة أنهم نهوا عن قراءة القران في الحمام" فكيف

بالصلاة التي لا بد فيها من القراءة والتي يشترط لها ما لا يشترط لمجرد القراءة. وهذه مقلالات انتشرت ولم يعرف لها مخالف إلا ما روى عن يزيد ابن أبي مالك قال: "كان واثلة بن الأسقع يصلي بنا صلاة الفريضة في المقبرة غير أنه لا يستتر بقبر" رواه سعيد وهذا محمول على أنه تنحى عنها بعض التنحي ولذلك قال لا يستتر بقبر أو لم يبلغه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة إليها تنحى عنها لأنه هو راوي هذا الحديث ولم يبلغه النهي عن الصلاة فيها عمل بما بلغه دون ما يبلغه. وأما الأحاديث المشهورة في جعل الأرض مسجدا فهي عامة وهذه الأحاديث خاصة وهي تفسر تلك الأحاديث وتبين أن هذه الأمكنة لم تقصد بذلك القول العام ويوضح ذلك أربعة أشياء. أحدها: أن الخاص يقضي على العام والمقيد يفسر المطلق إذا كان الحكم والسبب واحدا والامر هنا كذلك. الثاني: أن قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا بيان لكون جنس الأرض مسجدا له وأن السجود عليها لا يختص بان تكون على صفة مخصوصة كما كان في شرع من قبلنا لكن ذلك لا يمنع أن تعرض للأرض

صفة تمنع السجود عليها فالأرض التي هي عطن أو مقبرة أو حمام هي مسجد لكن اتخاذها لما وجد له مانع عرض لها إخراجها عن حكمها ولو خرجت عن أن تكون حماما أو مقبرة لكانت على حالها وذلك أن اللفظ العام لا يقصد به بيان تفاصيل الموانع كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وقد علم أن العقد لا بد فيه من عدم الإحرام وعدم العدة ولا بد له من شروط واركان. الثالث: أن هذا اللفظ العام قد خص منه الموضع النجس اعتمادا على تقييده بالطهارة في قوله عليه السلام كل: أرض طيبة وتخصيصه بالاستثناء المحقق والنهي الصريح أولى وأحرى. الرابع: أن تلك الأحاديث إنما قصد بها بيان اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم وامته بالتوسعة عليهم في مواضع الصلاة دون من قبلنا من الأنبياء وأممهم حيث حظرت عليهم الصلاة إلا في المساجد المبنية للصلاة فذكر صلى الله عليه وسلم أصل الخصيصة والمزية ولم يقصد تفصيل الحكم واعتضد ذلك بان هذه الأماكن قليلة بالنسبة إلى سائر الأرض فلما اتفق قلتها وأنه لم يتمحض المقصود لبيان اعيان اماكن الصلاة ترك استثناءها. فأما أحاديث النهي فقصد بها بيان حكم الصلاة في اعيان هذه الاماكن وهذا بين لمن تامله وما ذكروه من تعليل النهي فسنتكلم عليه إن شاء الله.

إذا ثبت ذلك فمن صلى فيها غير عالم بالنهي فهل تجب عليه الإعادة على روايتين شبيهتين بالروايتين بالتوضىء من لحم الإبل لغير العالم وكثير من متأخري أصحابنا ينصرون البطلان مطلقا للعمومات لفظا ومعنى والذي ذكره الخلال أن لا إعادة وهذه أشبه لا سيما على قول من يختار منهم أن من نسي النجاسة أو جهلها لا إعادة فيكون الجهل بالحكم فيها كالجهل بوجود النجاسة إذا كان ممن يعذر ولأن النهي لا يثبت حكمه في حق المنهي حتى يعلم فمن لم يعلم فهو كالناسي واولى ولأنه لو صلى صلاة فاسدة لنوع تاويل مثل أن يمس ذكره أو يلبس جلود السباع ويصلي ثم يتبين له رجحان القول الاخر لم تجب عليه الإعادة مع سمعة للحجة فالذي لم يسمع الحجة يجب أن يعذر لذلك إذ لا فرق بين أن يتجدد له فهم لمعنى لم يكن قبل ذلك أو سماع لعلم لم يكن قبل ذلك إذا كان معذورا بذلك بخلاف من جهل بطلان الصلاة في الموضع النجس فإن هذا مشهور. ولو صلى في موضع لم يعلم أنه مقبرة ثم تبين له أنه مقبرة فهنا ينبغي أن يكون كما لو صلى في موضع نجس لا يعلم بنجاسته ثم علم بعد ذلك وقد تقدم قول عمر لأنس القبر القبر ولم يأمره بالاعادة لأنه لم يكن يعلم أن بين يديه قبرا.

الفصل الرابع: أن أكثر أصحابنا لا يصححون الصلاة في شيء من هذه المواضع ويجعلونها كلها من مواضع النهي ومنهم من لم يعد مواضع النهي إلا أربعة فقط وهي المقبرة والحش والحمام وأعطان الإبل سوى الموضع النجس والمغصوب وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مقتضى كلام الخرقي وغيره لوجهين. أحدهما: أن النهي إنما صح في المقبرة والحمام وأعطان الإبل والحش اسوا حالا منها فالحق بها وسائر الأمكنة مدارها على حديث ابن عمر واسناده ليس بالقوي ولا يعارض عموم الأحاديث الصحيحة لا سيما وقد استثنى في حديث أبي سعيد المقبرة والحمام خاصة دون غيرهما وقال الأرض كلها مسجد. الثاني أن النهي إنما كان لأنها مظنة النجاسة وهذه العلة يمكن الاحتراز عنها غالبا في تلك المواضع فلا تبطل الصلاة مع تيقن اجتناب النجاسة غالبا والأول أظهر لوجهين. أحدهما: الحديث المذكور وقد تقدم الجواب عن تضعيفه لا سيما والحديث الذي يسميه قدماء المحدثين ضعيفا مثل هذا خير من القياس

والمجمل اعني ما ذكر فيه الحكم جملة وأن كان بصيغة العموم وهو احق أن يتبع منه على ما هو مستوفي في مواضعه من اصول الفقه فكيف إذا لم يعارضه إلا عموم ضعيف لكونه مخصوصا بصور كثيرة أو قياس ضعيف ثم أن بعض تلك المواضع قد جاء فيها نصوص اخرى مثل جواد الطريق ومثل ظهر بيت الله الحرام فإن فيه اثارا عن الصحابة. والمزبلة والمجزرة أولى بالمنع من الطريق والحمام فصار ذلك الحديث معتضدا بالآثار التي توافقه وبفحوى الخطاب الذي يطابقه وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" يشبه والله أعلم أن يكون إنما استثنى ما على هيئة مخصوصة لا يصلح أن تكون إلا على الوجه المنهي عنه فإن المقبرة والحمام لهما هيئة مخصوصة يتميزان بها عن سائر البقاع واعطان الإبل والمزبلة ونحو ذلك فإنها لا تتميز بنفس هيئة الأرض وإنما تتميز بما يكون فيها. الوجه الثاني: القياس في المسألة وذلك فيه ثلاثة مسالك. أحدها: وهو مسلك كثير من أصحابنا منهم أبو بكر والقاضي وغيرهما أن الحكم ثبت تعبدا يتعلق بنفس الأسماء ومفهومها من غير زيادة ولا نقص وإذا قال بعض الفقهاء هذا الحكم تعبد فله تفسيران:

أحدهما: أن يكون الحكم شرع ابتلاء وامتحانا للعباد ليتميز المطيع عن العاصي ويثاب المطبع على محض الطاعة والانقياد والاسلام كما يعاقب العاصي على محض المعصية والمخالفة وأن لم يكن في نفس العمل لولا الأمر معنى يقتضي العمل ومثل هذا أمر الله خليله بذبح ابنه وتحريمه على على أصحاب طالوت أن يطعموا من النهر إلا غرفة واحدة وكثير من الأحكام من هذا النمط وهذا التعبد حق واقع في الشريعة عند أهل السنة خلافا للمعتزلة ونحوهم إلا أن الصلاة في هذه الاماكن ليست والله أعلم من هذا القبيل لأنه قد اشير منها إلى التعليل ولأن مواضع الصلاة مبنية على التوسعة والاطلاق في شريعتنا ولا تناسب الحجر والتضييق ولأنه لا بد أن تشتمل هذه الاماكن على معان اقتضت المنع عن الصلاة فيها امتازت بتلك المعاني عن غيرها والا كان النهي عنها دون غيرها تخصيصا بغير مخصص ولأن من امعن النظر علم اشتمالها على معان انفرت بها عن غيرها. التفسير الثاني أن يعني بالتعبد أن المكلف لم يطلع على حكمه الحكم جملة ولا تفصيلا مع أن العمل يكون مشتملا على وصف لاجله علق به الحكم سواء كان الوصف حاصلا قبل نزول الشريعة وارسال نبينا صلى الله عليه وسلم أو إنما حصل بعد الرسالة والحكم المعلق به قد يطلق على نفس خطاب الله الذي هو الأمر والنهي والاباحة وعلى موجب الخطاب الذي هو الوجوب والحرمة والحل والأول اضافة إلى الفعل والثاني: صفة ثابتة

للفعل لكنها صفة أثبتها الشارع له وقد يطلق الحكم على التعليق الذي بين الخطاب وبين الفعل وقد يعنى بالحكم أيضا صفة ثابتة للفعل قبل الشرع اظهرها الشرع كما يقوله بعض أصحابنا منهم التميمي وأبو الخطاب وأكثرهم لا يثبت حكما قبل الشرع وإنما كان ثابتا عندهم بعض علل الأحكام فمن قال أن الحكم في هذه المواضع تعبد بهذا التفسير فقد ذكر أنه لم يظهر له حكمة الحكم على وجه منضبط فادار الحكم على الاسم فهذا مسلك شديد في نفسه وأن لم يكشف فقه المسألة والمسلك الثاني: مسلك طائفة من أصحابنا وغيرهم عللوا الصلاة بالمقبرة بان التراب يختلط بصديد الموتى ورطوباتهم فيتنجس ومن قال هذا من أصحابنا قال لما كانت المقبرة في الجملة مظنة النجاسة علق الحكم وأن تخلفت الحكمة إلى احاد الصور لأن المذهب لا يختلف عندنا أنه لا فرق بين المقبرة الحديثة والعتيقة وأن كان بعض الفقهاء يجوز الصلاة في المقبرة الجديدة لزوال هذه المفسدة وكذلك عللوا

الصلاة في الحمام بأنه مصب الاقذار والأوساخ من البول والدم وما تولد منه والقيء وغير ذلك وهذا في الحش والمزبلة والمجزرة ظاهر وكذلك الطريق هو مظنة ارواث الدواب وابوالها. وما أعطان الإبل فعللها بعض الناس بنجاسة ابوالها. وأجاب أبو بكر وغيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم يكن فرق بين أعطان الإبل وبين مرابض الغنم لأن فيها ابوالها أيضا وحكم بول الإبل والغنم واحد. وعلل ذلك بعضهم بان فيها شموسا ونفورا فربما نفرت فافزعت المصلي وقت صلاته وخبطته وهذا المعنى معدوم في الغنم لضعف حركتها وسكونها. وأجاب إسحاق بن شاقلا وغيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى البعير ولما صلى عليه وأيضا لو كان كذلك لما صلى بين الإبل في السفر وهو خلاف سنة المسلمين وخلاف ما كان يفعله

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأيضا فلو كانت هذه العلة لكان النهي عن الصلاة عندها سواء كان في اعطانها أو غير اعطانها ولم يكن النهي عن الصلاة في مباركها واعطانها سواء كانت حاضرة أو غائبة. وقال بعضهم: أن مواضعها مناخ الركبان وكانوا يبولون ويتغوطون في أمكنتهم ثم يرتحلون فنهي أن يصلي في أمكنتها لموضع ابوال الناس. وقال بعضهم: معنى الحديث أنه كره الصلاة في السهول من الأرض لأن الإبل إنما تأوي إليها وتعطن فيها والغنم إنما تبوء وتراح إلى الأرض الصلبة قال والمعنى في ذلك أن الأرض الخوار التي يكثر ترابها ربما كانت فيها النجاسة فلا يبين موضعها ولا يامن المصلي أن تكون صلاته فيها على نجاسة فأما العزاز الصلب من الأرض فإنه ضاح بارز لا يخفى موضع النجاسة إذا كانت فيه وهذا تكلف بارد. فان الأول يقتضي أن النهي عن مواضعها في الاسفار وليس بشيء فإن الصلاة في تلك المواضع جائزة بالسنة الماضية ولأن المعطن أما بوقوفها عند صدرها عن الشرب أو المكان الذي تاوي اليه. الثاني يقتضي كراهة الصلاة في كل موضع سهل وهو باطل ثم هو خلاف تعليل الشارع صلى الله عليه وسلم أن ما ذكره الفرق بين معاطن الإبل ومرابض الغنم ليس بمضطرد بل ربما كان الأمر بخلاف ذلك. المسلك الثالث: تفسير النهي عن الصلاة في هذه المواضع وتوجيهه بما دل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأما القبور فإن الصلاة عندها تعظيم لها شبيه بعبادتها وتقرب بالصلاة عندها إلى الله سبحانه أما من يقصد هذا فظاهر مثل من يجيء إلى قبر نبي أو رجل صالح فيصلي عنده متقربا بصلاته عنده إلى الله سبحانه وهذا نوع من الشرك وعبادة الأوثان بل هو أحد الاسباب التي عبدت بها الأوثان. قيل أنهم كانوا يصلون عند قبور صالحيهم ثم طال العهد حتى صوروا صورهم وصلوا عندها وعكفوا عليها وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولما كان النصارى قد {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} كان العكوف عند القبور والتماثيل فيهم أكثر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن الكنيسة التي أخبر عنها: "أن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقال عليه السلام: "أن من كان قبلكم اتخذوا قبور انبيائهم وصالحهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك" فإنما نهى عن ذلك لأن الصلاة

عندها وواتخاذها مساجد ضرب من عبادة الأوثان وسبب إليه لأن عبادة الأوثان ما كانوا يقولون أن تلك الحجارة والخشب خلقتهم وإنما كانوا يقولون أنها تماثيل اشخاص معظمين من الملائكة والنجوم أو البشر وانهم بعبادتهم يتوسلون إلى الله فإذا توسل العبد بالقبر إلى الله فهو عابد وثن حتى يعبد الله مخلصا له الدين من غير أن يجعل بينه وبينه شفعاء وشركاء كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه ويعلم أنه ليس من دون الله ولي ولا شفيع كما اخبر تعالى. ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين محق التماثيل وتسوية القبور المشرفة إذ كان بكليهما يتوسل بعبادة البشر إلى الله قال أبو الهياج الاسدي: "قال لي علي رضي الله تعالى عنه إلا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا معهم قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن" واخبر: "أنه لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى وحتى تضطرب اليات دوس حول ذي الخلصة صنم كان لهم في الجاهلية" ولهذا قال أصحابنا: وغيرهم من العلماء لا يجوز

أن يبنى مسجد على قبر ولا فيما بين القبور والواجب في المساجد المبنية على ترب الأنبياء والعلماء والشيوخ والملوك وغيرهم أن لا تتخذ مساجد بل يقطع ذلك عنها أما بهدمها أو سدها أو نحو ذلك مما يمنع أن تتخذ مسجدا ولا تصح الصلاة في شيء منها ولا يجوز الوقف عليها ولا اسراج ضوء فيها سواء كان بدهن أو شمع ولا يصح النذر لها بل هو نذر معصية فتجب فيه كفارة يمين لأنه صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ القبور مساجد ولعن من يتخذ عليها السرج ونهى عن اتخاذها مساجد وسيأتي أن شاء الله تعالى تفصيل القول في ذلك. وام من يصلي عند القبر اتفاقا من غير أن يقصده فلا يجوز أيضا كما لا يجوز السجود بين يدي صنم والنار وغير ذلك مما يعبد من دون الله لما فيه من التشبه بعباد الأوثان وفتح باب الصلاة عندها واتهام من يراه أنه قصد الصلاة عندها ولأن ذلك مظنة تلك المفسدة فعلق الحكم بها لأن الحكمة قد لا تنضبط ولأن في ذلك حسما لهذه المادة وتحقيق الاخلاص والتوحيد وزجرا للنفوس أن يتعرض لها بعبادة وتقبيحا لحال من يفعل ذلك ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس لأن الكفار

يسجدون للشمس حينئذ ونهى أن يصلي الرجل وبين يديه قنديل أو نحوه وكان إذا صلى إلى سترة انحرف عنها ولم يصمد لها صمدا كل ذلك حسما لمادة الشرك صورة ومعنى كما نهى سعدا أن يدعو باصبعين وقال أحد أحد وأن يقول الرجل ما شاء الله وشاء فلان وأن يحلف الرجل بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد

أشرك". ولعل بعض الناس يخيل إليه أن ذلك كان في أول الأمر لقرب العهد بعبادة الأوثان وأن هذه المفسدة قد امنت اليوم وليس الأمر كما تخيله فإن الشرك وتعلق القلوب بغير الله عبادة واستعانة غالب على قلوب الناس في كل وقت إلا من عصم الله والشيطان سريع إلى دعاء الناس إلى ذلك وقد قال الحكيم الخبير {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وقال امام الحنفاء {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أن نَعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فإنه مِنِّي} وقد قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عقيب فتح مكة اجعل لنا لنا ذات انواط فقال: "الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة أنها السنن لتتبعن سنن من قبلكم وسيعود الدين غريبا كما بدأ" ويصير الصغير كبيرا فكيف تؤمن المفسدة بل هي واقعة كثيرة فهذه هي العلة المقصودة لصاحب الشرع في النهي عن الصلاة في المقبرة واتخاذ القبور مساجد لمن تأمل الأحاديث ونظر فيها وقد نص الشارع على هذه العلة كما تقدم.

فأما أن كان التراب نجسا فهذه العلة اخرى قد تجامع الأولى لكن تكون المفسدة الناشئة من اتخاذها اوثانا أعظم من مفسدة نجاسة التراب فإن تلك تقدح في نفس التوحيد والاخلاص الذي هو أصل الدين وجماعه وراسه والذي بعثت به جميع المرسلين كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ولهذا كانت فاتحة دعوة المرسلين من نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقد تفارق الأولى إذا كان بينه وبين التراب حائل من البساط ونحوه أو كانت المقبرة جديدة لا سيما المسجد المبني على قبر نبي أو رجل صالح فإن تربته لم يدفن فيها غيره فلا نجاسة هناك البتة مع ما فيه من نهي الشارع. وأما أعطان الإبل فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه ذلك بانها من الشياطين وبانها خلقت من الشياطين وفي رواية أنها جن خلقت من جن وفي حديث آخر. "على ذروة كل بعير شيطان".

والشيطان: اسم لكل عات متمرد من جميع الحيوانات والشياطين من ذرية ابليس تقارب شياطين الانس والدواب فمعاطنها ماوى الشياطين اعني أنها في انفسها جن وشياطين لمشاركتها لها في العتو والتمرد والنفر وغير ذلك من الاخلاق وأن ذرية ابليس مقترنة بها وإذا كان كذلك فالمواضع التي هي مالف الشياطين ومثواهم نهى الشارع عن الصلاة فيها لما في الصلاة فيها من المفسدة التي تعكس على المصلي مقصوده من العبادة بل هي من ابلغ الاسباب المانعة من صحة العبادة وصلاحها كما فضل الاماكن التي هي مألف الملائكة والصالحين مثل المساجد الثلاثة لما يرجى هناك من مزيد الرحمة والبركة وكمال العبادة ولما يخاف هنالك من نقص الرحمة والبركة ونقص العبادة إلا ترى إلى قوله: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أن يَحْضُرُونِ} إلا ترى أن المسجد صين عن كل ما ينفر الملائكة من التماثيل والجنب وارتفاع الاصوات ونحو ذلك فعلم أن مواضع العبادة يقصد أن تكون مما تنزل فيه الرحمة والسكينة والملائكة وأن ما كان محلا لضد ذلك لم يجعل موضع صلاة وهذه العلة التي اوما إليها الشارع هنا أوما إليها في مواضع اخر فانهم لما ناموا عن صلاة الفحر بعد القفول من غزوة خيبر واستيقظوا قال صلى الله عليه وسلم: "ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته فإن

هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" مع أمره بصلاة الفائتة حين ينتبه لها وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا كفارة لها إلا ذلك". فعلم أن الصلاة ببقعة يحضرها الشيطان أمر محذور في الشرع واعتبر هذا المعنى في قطع الصلاة بمرور المار فقال لما سئل عن الفرق بين الكلب الأسود والأبيض والأحمر الكلب الأسود شيطان وقال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فذعته" الحديث وفي رواية: "مر علي الشيطان فتناولته فأخذته فخنقته" ونحن نقول بجميع هذه السنن ونعلل بما علل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم ما لا نعلم وامره يتبع علمه بأبي هو وامي وحينئذ فيجب طرد هذه العلة فإن الحش مع أنه مظنة النجاسة فإن الشياطين تحضره كما قال صلى الله عليه وسلم: "أن هذه الحشوش محتضرة" وأمر عند دخولها بالتسمية والاستعاذة من الشيطان الرجيم".

وكذلك الحمام فإنه مع أنه مظنة النجاسة فإنه بيت الشيطان كما جاء في الاثر الذي ذكرناه في الطهارة أن الشيطان قال أي رب اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام وهو محل للخبث والملائكة لا تدخل بيتا فيه خبث. وأما المجزرة والمزبلة فهي كالحمام سواء وأسوأ لأنها مظنة النجاسة وهي والله أعلم محتضرة من الشياطين فانهم ابدا يأوون مواضع النجاسات فما خبث من الجمادات والاجساد مقرون ابدا بما خبث من الحيوانات والأرواح وليس اعتبار طهارة البقعة من الاجسام الخبيثة بدون اعتبار طهارتها من الأرواح الخبيثة بل العناية بتطهيرها من هؤلاء الخبيثين والخبيثات من الاماكن أولى ولما كان هذا مغيبا عن عيون الناس علق الشارع الحكم بمظنة ذلك وعلاقته وهو مكان النجاسات. وأما قارعة الطريق فقد صرح صلى الله عليه وسلم بانها ماوى الحيات والسباع.

وهذا والله أعلم ينزع إلى ذلك لأن الحيات والسباع من اخبث شياطين الدواب وماواها اسوا حالا من ماوى الإبل. وقد أشار أبو بكر الأثرم إلى نحو من هذه الطريقة فقال لما ذكر حديث زيد بن جبيرة واعتمده وبين الجمع بينه وبين الأحاديث المطلقة فقال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا" إنما أراد به الخلاف على أهل الكتاب لأنهم لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم فقال فضلت على الناس بذلك وبغيره ثم استثنى بعد الخلاف عليهم مواضع لمعان غير معاني أهل الكتاب قال الحمام والمقبرة فإن الحمام ليس من بيوت الطهارة لأنه بمنزلة المراحيض الذي يغتسل فيه من الجنابة والحيض والمقبرة أيضا إنما كرهت للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد وسائر المواضع التي استثناها إنما كره نجاستها ومعاطن الإبل قال أنها خلقت من الشياطين فقد بين في كل معناه هذا كلام الأثرم وقد تبين بما ذكرناه أن العلة في أكثر هذه المواضع كونها مأوى الشياطين ومألفهم وأن الف الشيطان اياها بسبب النجاسة وغيرها. فإن قيل فعندكم تجوز الصلاة في الموضع الذي نسي الصلاة فيه وهو موضع شيطان وتجوز في السوق بنص السنة وبها يركز الشيطان

مفقودة

ويريد بها مقابر المشركين العتق مع أن المفهوم عندهم مقابرهم ولا يجوز أن يريد بها ما يتجدد من القبور دون المقابر الموجودة في زمانه وبلده فإن ما يعرفه المتكلم من افراد العام هو أولى بالدخول في كلامه ثم أنه لو أراد القبور المنبوشة وحدها لوجب أن يقرن بذلك قرينة تدل عليه والا فلا دليل يدل على أن المراد هو هذا ومن المحال أن يحمل الكلام على خلاف الظاهر المفهوم منه غير أن ينصب دليل على ذلك ثم أنه نهانا عما كان يفعله أهل الكتابين من اتخاذ القبور مساجد وأكثر ما اتخذوه من المساجد مقبرة جديدة بل لا يكون إلا كذلك ثم هم يفرشون في تلك الأرض مفارش تحول بينهم وبين تربتها فعلم أنه صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك. وبالجملة فمن جعل النهي عن الصلاة في المقبرة لاجل نجاسة الموتى فقط فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ثم لا يخلوا أما أن يكون القبر قد بني عليه مسجد فلا يصلى في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو امامه بغير خلاف في المذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك" وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد" وقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا" الحديث وقال: "لعن الله

زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" فعم بالنهي أن يتخذ شيء من القبور مسجدا وخص قبور الأنبياء والصالحين لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم واتخاذها مساجد أكثر ونص على النهي عن أن يتخذ قبر واحد مسجدا كما هو فعل أهل الكتاب لذلك أن لم يكن عليه مسجد لكن قصده انسان ليصلي عنده فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من اجلها وقد اتخذ القبور مساجد يقصدها للصلاة فيها والصلاة عندها كما يقصد المسجد الذي هو مسجد للصلاة فيه فإن كل مكان اعد للصلاة فيه أو قصد لذلك فهو مسجد بل كل ما جازت الصلاة فيه فهو مسجد كما قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال عليه السلام: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وسواء كان في بيت أو مكان محوط وقد بني عليه بناء لاجله أو لم يكن. وأما أن كان في موضع قبر وقبران فقال أبو محمد لا يمنع من الصلاة هناك لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق لا بعموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر من القبور وهذا هو

الصواب فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا القبور مساجد" أي لا تتخذوها موضع سجود فمن صلى عند شيء من القبور فقد اتخذ ذلك القبر مسجدا إذ المسجد في هذا الباب المراد به موضع السجود مطلقا لا سيما ومقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد فيكون المقصود لا يتخذ قبر من القبور مسجدا من المساجد ولأنه لو اتخذ قبر نبي أو قبر رجل صالح مسجدا لكان حراما بالاتفاق كما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فعلم أن العدد لا أثر له وكذلك قصده للصلاة فيه وأن كان اغلظ لكن هذا الباب سوى في النهي فيه بين القاصد وغير القاصد سدا للباب الفساد ولأنه قد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال لا تصل في حمام ولا عند قبر. قال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة من حول القبور لا يصلى فيه فعلى هذا ينبغي أن يكون المنع متناولا لحريم القبر المفرد وفنائه المضاف اليه. قال أصحابنا: ولا تجوز الصلاة في مسجد بني على المقبرة سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا. فأما أن لم يكن في أرض المقبرة وكانت المقبرة خلفه أو عن يمينه أو عن شماله جازت الصلاة فيه يعنون إذا لم يكن قد بني لاجل صاحب القبر فأما أن بني لاجل صاحب القبر بأن يتخذ موضعا للصلاة لمجاورته

القبر وكونه في فنائه فهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول صلى الله عليه وسلم. وأما أن كانت المقبرة امامه فسياتي أن شاء اللله تعالى هذا قول القاضي وغيره. وقال ابن عقيل أن بني بعد أن تقلبت ارضها بالدفن لم تجز الصلاة فيه وأن بني مسجد في ساحة ظاهرة وجعلت الساحة مقبرة فالمسجد على أصل جواز الصلاة لان أكثر ما فيه أنه في جوار مقبرة فلم يمنع من الصلاة فيه كسائر ما جاورها من الدور والمساجد. والصحيح أنه لا فرق في بناء المسجد في المقبرة بين أن تكون جديدة أو عتيقة كما تقدم. وقال جماعة كثيرة من أصحابنا أن بني مسجد في المقبرة لم تصح الصلاة فيه بحال لأن ارضه جزء من المقبرة وأن كان المسجد متقدما فاتخذ ما حوله مقبرة جازت الصلاة فيه إلا أن تكون المقبرة في قبلته وفسروا اطلاق القاضي وغيره بهذا. فان زال القبر أما بنبش الميت وتحويل عظامه مثل أن تكون مقبرة كفار أو ببلاه وفنائه إذا لم يبق هناك صورة قبر فلا بأس بالصلاة هناك لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فامر بها فنبشت لما أراد بناءه.

وان لم يعلم بلاه أو كان ممن يعلم أنه لم يبل لكن قد ذهب تمثال القبر واندرس اثره بحيث لم يبق علم الميت ولا يظهر أن هناك احدا مدفونا فهنا ينبغي أن تجوز فيه الصلاة إذا لم يقصد الصلاة عند المدفون هناك لان هذا ليس صلاة عند قبر ولا يقال لمثل هذا مقبرة. ولهذا يقال أن إسماعيل وامه هاجر مدفونان في حجر البيت ويقال أن جماعة من الأنبياء مدفونون بمسجد الخيف واخرين مدفونون بين زمزم والمقام مع أن الصلاة هناك جائزة حسنة بالسنة المتواترة والإجماع لأنه لا يتوهم أن تلك الأمكنة مقابر ولا أن الصلاة عندها صلاة عند قبر ولأن الصلاة عند القبور كرهت خشية أن تتخذ اوثانا تعبد فإذا كان هناك تمثال أو علم يشعر بالمدفون كان كصورته المصورة إذا صلى عنده فيصير وثنا أما إذا فقد هذا كله فلا عين ولا أثر وليس فيه ما يفضي إلى اتخاذ القبور وثنا حتى لو فرض خشية ذلك نهي عنه. فصل. وما الحمام فقال أصحابنا: لا فرق فيه بين المغتسل الذي يتعرى

الناس فيه ويغتسلون فيه من الوسطاني والجواني وبين المسلخ وهو الموضع الذي توضع فيه الثياب بل كل ما دخل في مسمى الحمام لا يصلى فيه ويدخل في ذلك كل ما اغلق عليه بابه وكذلك اتون الحمام لا تجوز الصلاة فيه لأنه مزبلة هذا تعليل القاضي وغيره فعلى هذا إذا علم أنه لا يوقد فيه إلا وقود طاهر فهو كالمزبلة التي علم أنه لا يوضع فيها إلا شيء طاهر وجعل ابن عقيل وغيره الاتون داخلا في مسمى الحمام فيكون النهي فيه لعلتين. وقيل تجوز الصلاة فيما ليس مظنة للنجاسة من الحمام كالمسلخ ونحوه تعليلا للحكم بكون البقعة مظنة النجاسة فإذا تيقن طهارتها زال سبب المنع. والأول المذهب للنصوص المتقدمة فإن اسم الحمام يشمل الجواني والبراني فلا يجوز التفريق بينهما في كلام الشارع ولأن العلة لو كانت مجرد النجاسة المتبقية لم يكن فرق بين الحمام وغيره ولو كانت مظنة النجاسة أو توهمها لوجب أن تحرم الصلاة في كل بقعة شككنا في نجاستها إذا أمكن نجاستها. وقد تقدم أن العلة التي اوما الشارع إليها كونها محتضرة من الشياطين وهذا القدر يعمها كلها ثم لو كانت العلة مجرد أنها مظنة النجاسة فالصور النادرة قد لا يلتفت الشارع إلى استثنائها الحاقا للنادر بالغالب كما هو في أكثر المواضع التي تعلق الأحكام بالمظان.

وأما الحش فهو المكان المعد لقضاء الحاجة فلا تصح الصلاة في شيء من مواضع البيت المنسوب إلى ذلك سواء في ذلك موضع التغوط أو موضع الاستنجاء أو غيرهما فأما المطاهر التي قد بني فيها بيوت للحاجة والاغتسال أيضا وبرانيها للوضوء فقط وللوضوء والبول فينبغي أن تكون نسبة برانيها كنسبة براني الحمام إليها ولا يصلى فيها بل هي أولى بالمنع من الحمام لأنها أولى بالنجاسة والشياطين من الحمام ووجود ذلك في الخارج منها أظهر من وجوده في الخارج من الحمام. فأما ما ليس مبنيا للحاجة وإنما هو موضع يقصد لذلك كما في البر والقرى ومنه ما قد اعتيد لذلك ومنه ما قد فعل ذلك فيه مرة أو مرتين فينبغي أن يكون من الحشوش أيضا فإن الحش في الأصل هو البستان وإنما كنوا عن موضع التغوط به لأنهم كانوا ينتابونها للحاجة ولأن العرب لم يكونوا يتخذون الكنف قريبا من بيوتهم وإنما كانوا ينتابون الصحراء فعلم أن تلك الأمكنة داخلة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا طهر المكان وقطعت عنه هذه العادة لم يكن حشا. فصل. وأما أعطان الإبل فالمنصوص عن أحمد أنها الاماكن التي تقيم بها الإبل وتأوي اليها.

ومن أصحابنا من قال هي المواضع التي تصدر إليها بعد أن ترد الماء وذلك أن الإبل بعد أن ترد الماء فإنها تناخ بمكان لتسقى بعد ذلك عللا بعد نهل فإذا استوفت ردت إلى المراعي. وعبارة بعضهم أنه المواضع التي بقرب النهر فتناخ فيه الإبل حتى ترد الماء فجعلها مناخها قبل الورود. والعبارة الأولى اجود لأن هذا تفسير أهل اللغة قالوا أعطان الإبل مباركها عند الماء لتشرب عللا بعد نهل يقال عطنت الإبل تعطن وتعطن إذا رويت ثم تركت فهي ابلا عاطنة وعواطن وقد ضربت بعطن أي بركت ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر رؤياه: "ثم اخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا لم ار عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن كأنهم امتلؤا من تلك البئر ثم صدروا رواء كهيئة الإبل إذا رويت ومنه استقا رواء وقولهم فلان واسع العطن والبلد واعطن الرجل بعيره إذا لم يشرب فرده إلى العطن ينتظر به قال لبيد. عافتا الماء فلم نعطنهما إنما يعطن من يرجو العلل. وتوسعوا في ذلك حتى قالوا لمرابض الغنم حول الماء معاطن. والصواب أن الاماكن التي تقيم بها مراد من الحديث كما نص أحمد لأن في بعض الفاظ الحديث أن السائل قال انصلي في مبارك

الإبل قال والمبارك التي يكثر بروكها فيها والمواضع التي تقيم بها أولى بهذ الاسم من مصادرها ولأنه قابل بين معاطن الإبل ومراح الغنم ومرابضها فعلم أن المعاطن للابل بمثابة المراح والمرابض للغنم ومراح ما تقيم فيه وتاوي إليه فكذلك معاطن الإبل ولأنه إذا نهي عن الصلاة في المواضع التي تقيم بها ساعة أو ساعتين فالمواضع التي تبيت بها وتأوي إليها أولى بهذا الحكم. فأما أن يكون الحكم اريد في مبيتها بطريق الفحوى والتنبيه أو يكونوا قد توسعوا في العطن حتى جعلوه اسما لكل ماوى لها كما توسعوا فيه حتى جعلوا للغنم اعطانا وللناس اعطانا فإذا قلنا أنه لا تجوز الصلاة فيما تقيم فيه وتاوي إليه كما نص عليه جازت في مصادرها عند الشرب فيما ذكره من رجح هذا القول من أصحابنا. والصحيح أن المعاطن تعم هذا كله على ظاهر كلام أحمد فإنه قال هي الاماكن التي تقيم بها وتاوي إليها وعلى هذا فسواء اوت بالليل أو النهار وهذا لأن لفظ المعاطن والمبارك يعم هذا كله كما تقدم فلا وجه لإخراج شيء منه من الحديث وهذا لأن اللفظ إذا توسع أهل العرف فيه حتى صار معناه عندهم اعم من معناه في اللغة لم يخرج ذلك المعنى اللغوي عن اللفظ بل يصير بعضه ولأنه مكان تعتاده الإبل وتاوي إليه فاشبه مبيتها وهذا لأن العطن الذي يكون عند البئر أو الحوض أو النهر قد اعد لمقام الإبل وبروكها فيها فكان من مبركها كما لو اعد لمقامها فيه نهارا

دون الليل. قال أصحابنا: ولا فرق بين أن تكون الإبل في المعاطن أو أن لا تكون ولا فرق بين أن تكون قائمة حال الصلاة أو غير قائمة لأن النهي تناول الموضع. وقال ابن حامد والقاضي وسائر أصحابنا فأما مكان نزولها في سيرها أو مكان مقامها لتتنقل عنها أو مكان علفها أو ورودها لتسقى الماء فالصلاة فيه جائزة لأنه لا يسمى عطنا. وقد قال الأثرم سمعت ابا عبد الله يسئل عن موضع فيه ابعار الإبل نصلي فيه فرخص ثم قال إذا لم يكن من معاطن الإبل التي نهي عن الصلاة فيها التي تاوي إليها الإبل وذلك لأن هذه الاماكن ليست معدة لمقام الإبل وإنما مقامها فيه عارض فلا يتناولها النهي لفظا ولا معنى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كانوا يرتحلون في أسفارهم في الحج والعمرة والغزو وغير ذلك على الإبل ومع هذا فكانوا يصلون في مناخ ابلهم وكانوا يصلون عليها واليها وهذا ظاهر مشهور في سيرهم ولأن تلك الأمكنة ليست اخص ب الإبل من الناس الذين نزلوا بها والكراهة إنما نشأت لسبب في المكان الذي انفردت به أو غلبت عليه والله أعلم.

فصل. وأما المجزرة فقال أصحابنا: هي الموضع الذي يذبح فيه الحيوان معروفا بذلك للقصابين والسوابين ونحوهم ولا فرق بين أن يكون الموضع نظيفا من الدماء والارواث أو غير نظيف لأن النهي تناول الموضع والعلة كونه مظنة النجاسة ومحلا للشياطين وهذا عام وهذا هو المشهور وعلى الوجه الذي يعلل الحكم فيه بحقيقة النجاسة تجوز الصلاة في الموضع الذي تيقنت طهارته. وأما المزبلة فقالوا هو الموضع الذي تجمع فيه الزبالة مثل المواضع التي في الطرقات ونحوها ولا فرق بين أن يكون عليها نجاسة من الزبالة أو تكون طاهرة. ولفظ بعضهم لا فرق بين أن يرمى فيها زبالة طاهرة أو نجسة وهذا لأن المكان معد لالقاء الزبالات النجسة والطاهرة فخلوه بعض الاوقات عن النجاسة لا يمنعه أن يكون معدا لها كالحمام الذي غسلت ارضه وإذا كان معدا لها تناوله النهي لفظا ومعنى ومن علل بوجود النجاسة فإنه يجوزه إذا تيقنت طهارة المزبلة.

فصل. وأما قارعة الطريق فقال أصحابنا: هي الجادة التي قد صارت محجة وسواء في ذلك طريق الحاضر والمسافر فطريق الحاضر مثل الشوارع المستطرقة بين الدروب والاسواق وطريق المسافر هي الجادة التي قد صارت محجة سميت جادة من قولهم أرض جدد وهي الصلبة وفي المثل من سلك الجدد امن العثار واجد الطريق صار جددا فالجادة هي الطريق التي اشتدت وصليت بوطئ الناس والدواب وتسمى قارعة لكثرة قرع الارجل لها فأما أن تكون سميت بذلك لأنها تقرع الأرجل إذا قرعتها الأرجل أو يكون المعنى ذات قرع أو فاعلة بمعنى مفعولة. والمحجة هي الجادة سميت بذلك لأن الحج هو القصد والطريق هي موضع قصد الناس إلى حوائجهم. قال أصحابنا: وقارعة الطريق هي التي تسلكها السابلة والمارة وليس المراد بذلك كل ما سلك لأن المواضع لا تخلوا من المشي عليها في الجملة قالوا ولا بأس بالصلاة فيما خرج عن قارعة الطريق يمنة ويسرة لأن النهي إنما ورد عن الصلاة في محجة الطريق وفي جواد الطريق والمحجة الوسط والجواد ما صلب بالمشي. ومنهم من رخص الرخصة بجوانب طرقات المسافرين لأن أحمد

إنما نص على ذلك قال بعضهم: ولا بأس بالصلاة في الطرقات التي يقل سالكوها كطريق الابيات اليسيرة وبكل حال فيجوز أن يصلى في الطرقات التي يكثر لها الجمع كالجمع والاعياد والجنائز لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك. الفصل السادس:. في علو هذه الأمكنة وسطوحها قال كثير من أصحابنا منهم القاضي وأكثر أصحابه كالآمدي وابن عقيل وغيرهم لا فرق في الحمام والحش وأعطان الإبل بين سفلها وعلوها لأن الاسم يتناول الجميع والحكم معلق بالاسم. قال الآمدي وابن عقيل علو المجزرة كسفلها ولم يذكره القاضي في المواضع المنهي عنها ولم يعدها ولا في المنهي عنه علو المزبلة. ومن أصحابنا طائفة طردوا الحكم في علو جميع المواضع المنهي عنها على طريقة هؤلاء لأنهم منعوا من الصلاة في علو الاتون مع تعليله بأنه مزبلة قالوا ويدخل في كل موضع منها ما يدخل فيه مطلق البيع والهبة من حقوق من سفله وعلوه اعتبارا بما يقع عليها الاسم عند الاطلاق ولأن الحكم تعبد فيناط بما يدخل في الاسم. والفرق بين علو المزبلة وغيرها على ما ذكره الأولون أن علو المزبلة لا يسمى مزبلة لأن المزبلة المكان المعد لوضع الزبالة في الطريق ونحوه ومعلوم أن علو تلك البقعة لا يسمى مزبلة بخلاف الاعطان والحشوش

والمجازر فإنها ابنية تبنى لشيء يقصد ستره ويجعل سقفه تابعا لقراره فيتناوله الاسم. وأما أبو الخطاب فلم يمنع من هذه السطوح إلا من سطح الحش والحمام خاصة وهذا اجود مما قبله لأن الحش والحمام اسم لبناء على هيئة مخصوصة لا تتخذ إلا لما بني له حتى لو اريد لاتخاذه لغير ذلك لغير عن صورته فكان الاسم متناولا لجميعه وهو قد عد لشيء واحد بخلاف العطن فإنه اسم لما تقيم فيه الإبل وتاوي إليه لا يختص ببناء دون بناء حتى لو اتخذ عطنها مراحا للغنم جازت الصلاة فيه مع أن صورته باقية وعلو العطن ليس متخذا للابل ولا مبنيا لذلك بناء يخصه فلا يلحق به. وكذلك المجزرة والمزبلة أنها تصير مجزرة ومزبلة بالفعل فيها لا بنفس بنائها فليس العلو تابعا للسفل في القعل ولا في البناء المختص بذلك. ومن أصحابنا من قال بجواز الصلاة على علو جميع هذه المواضع وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا لأن ما فوق سقف الحش والحمام قد لا يدخل في النهي لفظا ولا معنى لأن الاسم قد لا يتناوله فإنه لو حلف لا يدخل حشا ولا حماما لم يحنث بصعود على سطح حش أو حمام بخلاف من حلف لا يدخل دارا لأن الحش والحمام ونحوهما اسماء لاماكن معدة لامور معلومة وظهورها ليست من ذلك في شيء وكونها مظنة النجاسة أو مظنة الشياطين لا يتعدى إلى ظهورها والهواء تبع للقرار

في الملك ونحوه أما انه يتبعه في كل شيء فليس كذلك فإن كل أحد يعلم أن هواء المزبلة ليس مزبلة وهواء الحش الذي فوق سطحه ليس حشا. فأما أن كان العلو قد اتخذ لشيء اخر بحيث لا يتبع السفل في الاسم فإنه تصح الصلاة فيه قال أحمد في رواية أبي داود إذا بنى رجل مسجدا فاراد غيره هدمه وبناءه فابى عليه الأول فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم إذا احبوا هدمه وبناه وإذا ارادوا أن يرفعوا المسجد ويعمل في اسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشايخ ضعفى وقالوا لا نقدر نصعد فإنه يرفع ويجعل سقاية لا أعلم بذلك بأسا وينظر إلى قول أكثرهم فقد نص على بناء المسجد على ظهر السقاية قال في رواية حنبل لا ينتفع بسطح المسجد فإن جعل السطح مسجدا انتفع بأسفله وأن جعل اسفله مسجدا لا ينتفع بسطحه وكذلك قال القاضي وغيره فإن كانت المساجد مغلقة على حوانيت أو سقاييات فالصلاة فيها جائزة لأن ما تحتها ليس بطريق وقال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله أن كان المسجد سابقا وجعل تحت طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله لم يمنع بغير خلاف لأنه لم يتبع ما حدث بعده وهذا يقتضي أنه جعل من صور الخلاف ما إذا احدث المسجد على عطن ونحوه من أمكنة النهي.

والذي صرح به الأصحاب هو ما ذكرناه وهو منصوص أحمد والفقه فيه ظاهر فإن العلو إذا اتخذ لشيء اخر غير ما اتخذ السفل له لم يكن أحدهما: بان يجعل تابعا للاخر باولى من العكس وإنما يجعل تابعا له عند الاطلاق إلا ترى أنه لو قال بعتك هذا الحش وفوقه مسكن أو مسجد لم يدخل في مطلق البيع بخلاف ما لو كان ظهره خاليا ولأن الهواء إنما يتبع القرار في العقود عند الاطلاق فإذا قيد العقد بان قيل بعتك التحتاني فقط لم يدخل واتخاذ العلو لامر اخر غير ما اتخذ له السفل بمنزلة إخراجه عن كونه تابعا له في القول وتقييد له بصيغة توجب الانفراد ولو حلف لا يدخل حشا أو عطن أو مزبلة أو حماما فدخل مسجدا مبنيا على ظهور هذه الأشياء لم يجز أن يقال أنه يحنث في يمينه. فصل. وأما علو المقبرة فإن كان قد بني على المقابر بناء منهي عنه كالمسجد أو بناء في المقبرة المسبلة كانت الصلاة عليه صلاة في موضع محرم أما البناء في المقبرة المسبلة فإن الصلاة عليه صلاة على مكان مغصوب والصلاة في علو المسجد صلاة في مسجد في القبور وأيضا فإن الصلاة على ظهر البناء المذكور اتخاذ للقبور مساجد ودخول في لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب عليه فانهم لما اتخذوا الابنية على قبور انبيائهم وصالحيهم لعنوا على ذلك سواء صلوا في قرار المبنى أو علوه.

وان كان الميت قد دفن في دار واعلاها باق على الاعداد للسكنى فعلى ما ذكره أصحابنا تجوز الصلاة فيه لأن ذلك ليس من المقبرة اصلا ولا تبعا إلا أن نقول بالحاق العلو بالسفل مطلقا على الوجه الذي تقدم في علو العطن والحش إذا كان مسجدا وأن لم يبق معدا للسكنى ونحوها فهو كما لو دفن في أرض مملوكة ثم بني عليه بناء لم يعد للسكنى. فعلى ما دل عليه كلام أحمد وأكثر أصحابه لا يصلى فيه لأن هذا البناء منهي عنه وهو تابع للقرار في الاسم فيقال هذه التربة وهذه المقبرة للعلو والسفل ولأن الصلاة في علو هذا المكان بالنسبة للميت كالصلاة في اسفله ولأن حكمة النهي عن الصلاة عند القبر هو ما فيه من التشبه بعبادة الأوثان والتعظيم المفضي إلى اتخاذ القبور اوثانا وهذه الحكمة موجودة بالصلاة في قرار الابنية وعلوها سواء قصد المصلي ذلك أو تشبه بمن يقصد ذلك وخيف أن يكون ذلك ذريعة إلى ذلك ومن أجاز هذا البناء من أصحابنا ولم يجعل العلو تابعا للقرار فإنه يلزمه أن يجوز الصلاة فيه. فصل. وأما علو الطريق مثل السوابط والاجنحة سواء كانت مساجد أو مساكن فالمشهور عنه أنه لا يصلي على المساجد المحدثة على الطرقات والأنهار التي تجري فيها السفن وقال في رواية عبد الله وجعفر بن محمد:

مفقود

وهذا مفقود في العلو ولأن الصلاة على يمنة الطريق ويسرته تجوز لكونها ليست من الجواد والمحجة فالعلو ابعد عن الجادة والمحجة من ميمنتها وميسرتها. ولو كان غصب الميمنة والميسرة لا يجوز ولو صلى فيها وهو غاصب لها لم تصح صلاته ولأن العلو إنما يتبع القرار في حكمه إذا لم يميز عن السفل بل يجعل سقفا له فقط فأما إذا اعد لشيء غير ما اعد له السفل لم يكن طريقا البتة كالمسكن والمسجد المبني على ظهر السقاية ونحوها فإنه ليس بسقاية ولأن الصلاة في السفينة وعلى الراحلة تجوز في الجملة مع مسيرها في الطريق فالصلاة على سقف الطريق أولى أن لا يكون صلاة في الطريق واولى بالجواز. قال بعض أصحابنا: ولأنه لو كان المنع في علو الطريق كونه تبعا له لجازت الصلاة في الساباط على النهر لأنه موضع للصلاة في الجملة بدليل ما لو جمد ماؤه أو كان في سفينة وهذا ضعيف لأنه إذا جمد لم يبق طريقا للسفن فإن مر الناس فيه واتخذوه طريقا لم تجز الصلاة فيه. وأما الصلاة في السفينة فهي كالصلاة على الراحلة تجوز مع مسيرها في الطريق فثبت أن علة المنع أنه بناء في هواء الطريق وهذا غير جائز لما سنذكره أن شاء الله تعالى في موضعه فيكون كما لو بنى جناحا أو ساباطا في ملك غيره فإنه يكون غاصبا بذلك وتكون الصلاة فيه صلاة في مكان مغصوب فعلى هذا أن كان الساباط جائزا مثل الساباط المبني على درب غير نافذ باذن اهله فإنه جائز بلا تردد وكذلك أن كان الساباط لا يضر

بالمارة وقد اذن فيه الامام فإنه جائز فيما ذكره أصحابنا وأن كان بدون اذن الامام لم يجز في المشهور. وحكي رواية اخرى بالجواز. فأما ما يضر بالمارة فإنه ممنوع رواية واحدة. وأما المسجد المبني في الطريق فإن كان يضيق الطريق لم يجز لأنه غصب للطريق. وان كان الطريق واسعا بحيث لا يضر المارة بناؤه فيه فعنه يجوز. وعنه لا يجوز. وعنه إنما يجوز باذن الامام خاصة فإذا جاز احداثه في جانب الطريق فاحداثه في هوائه إذا لم يكن فيه ضرر أولى بالجواز ولهذا لا يجوز لاحد أن يبني في جانب الطريق الواسع لنفسه بناء وأن جاز أن يبني فيه مسجد للناس وقد يجوز أن يبني لنفسه ساباطا إذا اذن فيه الامام وقد روى محمد بن ماهان السمسار عن أحمد أنه تجوز الصلاة في الساباط المحدث على الطريق دون الساباط المحدث على النهر فعلله بعض أصحابنا بان الطريق محل للصلاة في الجملة إذا اتصلت الصفوف في الجمع والاعياد بخلاف النهر الكبير ويحتمل أن تكون علته أن في اتخاذ الساباط على الطريق منفعة لابناء السبيل أنه يسترهم من الحر والمطر والثلج بخلاف الساباط على النهر فإنه لا منفعة فيه لأحد.

فصل. وأما الصلاة إلى هذه المواضع فقد نص أحمد في مواضع على كراهة الصلاة إلى المقبرة والحش والحمام قال في رواية الأثرم إذا كان المسجد بين القبور لا تصلى فيه الفريضة وأن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصلوا إلى القبور وقال اسناده جيد وقال في رواية الميموني وقد سئل عن الصلاة إلى المقابر والحش فكرهه وقال في رواية أبي طالب وقد سئل عن الصلاة في المقبرة والحمام والحش وكرهه وقال لا يعجبني أن يكون في القبلة قبر ولا حش ولا حمام وأن كان يجزيه ولكن لا ينبغي قال أبو بكر في الشافي يتوجه من الإعادة قولان. أحدهما: لا يعيد بل يكره وهذا هو المنصوص منصوص في رواية أبي طالب وهو اختيار القاضي. والثاني: يعيد لموضع النهي قال أبو بكر وبه اقول قال ابن عقيل نص أحمد على حش في قبلة مسجد لا تصح الصلاة فيه وكذلك قال ابن حامد لا تصح الصلاة في المقبرة والحش ولم يذكر الحمام

وقال كثير من أصحابنا منهم المدي لا تجوز الصلاة إلى القبر وصرح جماعة منهم بان التحريم والابطال مختص بالقبر وإنما كرهت الصلاة إلى هذه الأشياء لما تقدم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا إلى القبور". وكذلك حديث عمر وغيره في النهي عن الصلاة إلى القبر وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان يكره الصلاة في مسجد قبالته نتن أو قذر" رواه البخاري في تاريخه وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "تكره الصلاة إلى حش" رواه سعيد وعن إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون ثلاثة أبيات أن يكون قبلة الحمام والحش والقبر" رواه حرب. وذهبت طائفة من أصحابنا إلى جواز الصلاة إلى هذه المواضع مطلقا من غير كراهة وهو قول ضعيف جدا لا يليق بالمذهب. ومنهم من لم يكره ذلك إلا في القبر خاصة لأن النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صح في الصلاة إلى القبور كما تقدم ولأنها هي التي يخاف أن تتخذ اوثانا فالصلاة إليها شبيهة بالصلاة بين يدي صنم وذلك أعظم من الصلاة بينها ولهذا كانوا يكرهون من الصلاة إلى القبر ما لا يكرهونه من الصلاة إلى المقبرة وهذه حجة من رأى التحريم والإبطال مختصا

بالصلاة إلى القبر وأن كره الصلاة إلى تلك الأشياء وهو قول قوي جدا وقد قاله كثير من أصحابنا. ووجه الكراهة في الجميع ما تقدم عن الصحابة والتابعين من غير خلاف علمناه بينهم ولأن القبور قد اتخذت اوثانا وعبدت بالصلاة إليها يشبه الصلاة إلى الأوثان وذلك حرام وأن لم يقصده المرء ولهذا لو سجد إلى صنم بين يديه لم يجز ذلك والحش والحمام موضع الشياطين ومستقرهم وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدنو إلى السترة خشية أن يقطع الشيطان على المصلي صلاته وقال: "تفلت علي البارحة شيطان فاراد أن يقطع علي صلاتي" وقال: "الكلب الأسود يقطع الصلاة" ووجه ذلك بأنه شيطان وتبين بذلك أن مرور الشيطان بين يدي المصلي يقدح في صلاته فالصلاة إلى مستقره ومكانه مروره مظنة بين يدي المصلي ولأن الصلاة إلى الشيء استقبال له وتوجه إليه وجعل له قبلة فإن ما يستقبله المصلي قبلة له كما أن البيت قبلة له يبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن النخامة في القبلة" والاستقبال داخل في حدود الصلاة ولهذا أمرنا أن نستقبل في صلاتنا اشرف البقاع واحبها إلى الله وهو بيته العتيق فينبغي للمصلي أن يتجنب استقبال الأمكنة الخبيثة والمواضع الردية إلا ترى انا نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول فكيف إذا كان البول والغائط والشياطين ومواضع ذلك في القبلة وقت الصلاة.

قال القاضي ولأن القبر والحش مدفن النجاسة وقد بينا كراهة الصلاة إلى النجاسة. قال ويكره الصلاة إلى قوم من أهل الذمة نص عليه في رواية عبد الله في ملاحين مجوس يكونون بين يدي القوم في السفينة بنجوفهم ويصلون وقال في رواية أبي طالب هو نجس وكرهه قال وإنما كره ذلك لأن من الناس من يقول أنهم انجاس وقد كره للانسان أن يصلي مستقبلا لنجاسة لأن قبلته جهة رحمته ولهذا منع القاضي أن يستقبل القبلة بغائط أو بول فأولى أن يكره للمصلي ذلك. وقال غير القاضي لا نكره الصلاة إلى شيء من النجاسات. ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو في باطنه واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلي وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره كما لو كان بينه وبين المار حائل. والأول هو الماثور عن السلف وهو المنصوص حتى قال في رواية أبي طالب في رجل حفر كنيفا إلى قبلة المسجد يهدم وقال في رواية المروذي في كنيف خلف قبلة المسجد لا يصلى إليه وقيل له أن الدار لايتام والحائط لهم ترى أن يضرب على الحائط ساج أو شيء قال أن كان وصيا غير الكنيف أو حوله وأن كانوا صغارا لم يرخص لهم أن يضربوا عليه الساج وقال يعجبني أن يكون بينهما اذرع فقيل له: يضيق

المسجد فقال وأن ضاق قال القاضي فقد نص على إزالة الحش من ظهر القبلة وبين أنه إذا جعل بينه وبين المسجد حائل بالساج لا يزيل الكراهة حتى يفصل بين الحش وبين قبلة المسجد قال ابن حامد وغيره ومتى كان بين الحش وبين حاط المسجد حائط اخر جازت الصلاة اليه. فأما المقبرة إذا كانت قدام حائط المسجد فقال الآمدي وغيره لا تجوز الصلاة إلى المسجد الذي قبلته إلى المقبرة حتى يكون بين حائطه وبين المقبرة حائل اخر وذكر بعضهم أن هذا منصوص أحمد لقوله المتقدم في رواية الأثرم. وقال القاضي إذا لم يكن يعني المصلي في أرض المقبرة بل كانت المقبرة امامه فقال شيخنا أن كان بينه وبينها حاجز جازت الصلاة لأنه ليس يصلي فيها ولا إليها وأن لم يكن بينه وبينها حاجز لم تجز الصلاة كما لو كان في ارضها فإن كان بينه وبين هذه الأشياء عدة اذرع لم تكره الصلاة على ما نص عليه في رواية المروذي. فصل. وأما الصلاة في سائر المواضع المنهي عنها فقال القاضي تكره الصلاة إليها كما تكره إلى هذه المواضع فتكره الصلاة إلى الطريق واعطان الإبل والمجزرة لأن النص على واحد منها تنبيه على غيرها ولأنها مظان النجاسات وقال كثير من أصحابنا لا تكره الصلاة إلى بقية

المواضع وهذا هو المنصوص عن أحمد في بعضها قال في رواية ابن هانىء وقد سئل عن الصلاة إلى شط النهر والطريق امامه ارجو أن لا يكون به بأس ولكن طريق مكة يعجبني أن يتنحى عنه ونحو ذلك نقل المروذي وذلك لأن الاثر لم يرد بذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان تنصب له العنزة فيصلي إليها والناس يمرون بين يديه وقال: "إذا صلى أحدكم فليجعل بين يديه مثل اخر الرحل ثم لا يضره ما مر امامه" ولم يفرق بين الطريق وغيرها مع العلم بان المرور أكثر ما يكون في الطرقات وهذه المسائل وما يشبهها تناسب باب القبلة والسترة وإنما هذا استطراد. فصل. وأما الصلاة في الكعبة فالنفل فيها اخف من الفرض فإذا صلى النافلة في جوف الكعبة صحت صلاته هذا هو المعروف والمشهور عن أحمد وأصحابه. وحكي عنه رواية أنه لا يصح النفل فيها.

وحكي عنه أنه يصح ولا يستحب لما سيأتي في الفرض. ووجه المذهب ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أحب أن ادخل البيت واصلي في فيه فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فادخلني الحجر فقال صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت" رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن امرك أن تخمرها فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي" رواه أحمد وأبو داود وعن سالم عن ابيه قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو واسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فاغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسالته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم بين العمودين اليمانيين" متفق عليه. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر أنه: "كان إذا دخل الكعبة جعل الباب قبل ظهره ومشى حتى إذا كان بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من

ثلاثة اذرع صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وفي رواية لأحمد والبخاري أنه قال لبلال: "هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال نعم بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين وفي رواية" متفق عليها قال: "جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاثة اعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة اعمدة ثم صلى" وفي رواية متفق عليها: "ونسيت أن أسأله كم صلى" وهي أصح فلعل ابن عمر فيما بعد علم أنه صلى ركعتين وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: "قلت لعمر بن الخطاب كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة قال: صلى ركعتين" رواه أبو داود وعن ابن عمر وأبي جعفر عن أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة" رواه احمد. وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت ركعتين وجاهك حيث تدخل بين الساريتين" رواه أحمد فقد أمر صلى الله عليه وسلم

عائشة بالصلاة في البيت وصلى هو في البيت وأمر بصون البيت عما يلهي المصلي فيه فعلم أن الصلاة فيه جائزة وأنه موضع للصلاة وقوله في الحديث الماضي وظهر بيت الله الحرام دليل على أنه باطنه ليس من مواضع النهي. فإن قيل فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه" متفق عليه وفي رواية عن ابن عباس عن أسامة نحو ذلك رواه أحمد ومسلم. قيل أما دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة والصلاة فيها فقد ثبت على وجه لا يمكن دفعه وكان ذلك عام الفتح قال ابن عمر اقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان ذكر الحديث اخرجاه وأما حديث ابن عباس فربما ظن أنه كان في حجة الوداع وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يصل فيها إلا أنه قد روي فيه عن ابن عباس ما يدل على أنه أراد دخوله عام الفتح أيضا.

فإن لم يكن حديث ابن عمر وحديث ابن عباس في وقتين متغايرين والا فحديث ابن عمر هو الصواب لأنه مثبت عن بلال شيئا شاهده وعاينه والمثبت أولى من النافي ولأن ابن عباس لم يدخل معهم بل كان إذ ذاك صغيرا له نحو عشر سنين وإنما روى الحديث عن أسامة وقد روى غيره عن أسامة خلافه فإن لم يكونا واقعتين فلعل أسامة كان مشغولا بدعاء وابتهال حين دخول البيت في بعض نواحيه فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لا سيما والباب موجف عليهم ثم لعله بعد ذلك أخبره أسامة أو عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه. فصل. ولا بد أن يكون بين يديه شيء من الكعبة في حال قيامه وركوعه وسجوده فلو سجد على منتهى السطح أو على عتبة الباب لم تصح صلاته لأنه لم يستقبل شيئا من القبلة بل هو مصل إلى غير الكعبة فإن كان الذي بين يديه ليس بشاخص مثل أن يصلي إلي الباب وهو مفتوح وليست له عتبة شاخصة أو يصلي على السطح ولا سترة امامه لم تصح صلاته في المنصوص من الوجهين. قال في رواية الأثرم إذا صلى فوق الكعبة فلا تجوز صلاته وقال

في رواية ابن الحارث لا يصلي فوق بيت الله الحرام وقال في رواية الأثرم أما فوق الكعبة فلم يختلفوا أنه لا يجوز واحتج بالحديث لا قبلة له وهذا اختيار الآمدي وابن عقيل وحكي ذلك عن القاضي وعامة أصحابنا. وفي الثاني تصح وهو اختيار جماعة من المتاخرين وهو الذي ذكره القاضي في المجرد فإنه قال تجوز الصلاة النافلة فيها إذا توجه إلى غير الباب وأن توجهه إلى الباب وهو مغلق أو مردودا أجزاه وأن كان مفتوحا وكان بين يديه من عرصة البيت جاز وأن لم يكن لم يجز قال وأن انهدم البيت وبقية العرصة ولم يبق هناك منها شيء شاخص عن وجه الأرض وصلى بناحية العرصة متوجها إليها أجزاه وأن وقف على العرصة لم تجزئه الفريضة وأن كانت نافلة ولم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف اخرها متوجها إلى غيرها لم تجزه وأن وقف على العرصة وبين يديه منها ما يتوجه إليه وسجد أجزاه. قال ولا تجوز الفريضة على ظهر الكعبة وتجوز صلاة النافلة إذا كان بين يديه شيء منها فإن لم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف على السطح بحيث لا يكون بين يديه شيء من أرض السطح لم يجزه إلا أن يكون بين يديه شيء منصوب بناء أو خشبة مسمرة فإن كان فوقه لبن أو اجر معبا بعضه على بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة لم تجزه لأنه ليس من البيت بدليل أنه لا يتبعه في البيع وكذلك لو كان حبل ممدود فهذا يبين أن

القاضي إنما اشترط البناء الشاخص في موضع لم يكن بين يديه شيء من العرصة وأن المشروط عنده أحد امرين شيء من أرض السطح أو البناء كما أنه في الصلاة إلى الباب اعتبر أحد أمرين أما اما كون الباب سترة له أو كون شيء من العرصة بين يديه وهذا أيضاح وتبيين لأنه يلزم من كون الباب والسترة بين يديه أن يكون بين يديه شيء من العرصة. ووجه ذلك أن الواجب استقبال هوائها دون بنائها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية فإنه إنما يستقبل الهواء لا البناء بدليل ما لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله فإنه يكفيه استقبال العرصة والهواء فعلى هذا إذا صلى في الحجر وهو مستدبر البناء أو مستقبل الممر وقلنا أن استقبال الحجر جائز فيجب أن يجزئه وفيه قبح. والأول أصح لما تقدم من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها وعد منها فوق ظهر بيت الله" وفي لفظ: "ظاهر بيت الله". وعن عمر رضي الله عنه: "أنه نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة" ذكره القاضي فلو لم تجب الصلاة إلى شيء شاخص مرتفع لم يكن بين ظاهر بيت الله وباطنه فرق بل هذا نص في منع الصلاة فوق ظهر بيت الله ولا يجوز أن يحمل على ما إذا سجد على منتهى الكعبة لأن الحديث عام في جميع المواضع التي فوق الظهر عموما مقصودا وهذه الصورة نادرة لا يجوز أن تقصد وحدها من مثل هذا العموم مع غير قرينة يبين بها مراد

المتكلم فإن هذا لو وقع كان تلبيسا ثم أن هذه الصورة امرها ظاهر لا يخفى على أحد فلا تكاد تقصد بالبيان ثم أن مثل هذه الصورة تقع في الصلاة في جوف الكعبة إذا استقبل الباب مفتوحا ثم أنه جميع المواضع التي ذكر أنه لا تجوز الصلاة فيها من المقبرة والحش والحمام لا يصلي في شيء منها كذلك ظهر الكعبة يجب أن لا يصلى في شيء منه وهذا ظاهر لمن تامله وأيضا فإن هذا اجماع عن السلف كما حكاه أحمد رضي الله عنه وكما سيأتي تقريره وأيضا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" وفي حديث اخر استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم أحياء وامواتا دليل على أن القبلة هو الشيء المبني هناك الذي يشار إليه ويمكن استحلاله وتسمى كعبة وبيتا. وأيضا فإن الله سبحانه قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} فبين أن الطواف والركوع والسجود إنما هو متعلق بالبيت والبيت أو الكعبة لا يكون اسما إلا للبناء فأما العرصة والهواء فليس هو بيتا ولا كعبة وأيضا فلو كان استقبال هواء العرصة والطواف به كافيا لم يجب بناء البيت ولم يحتج إليه فلما أمر الله إبراهيم خليله ببناء بيته وبدعاء الناس إلى حجه حينئذ

وكان من أشراط الساعة خراب هذه البنية علم أن دين الله منوط ببنية تكون هناك وأن لا يكون وجودها وعدمها سواء وأن هذه البنية إذا زالت زوالا لا تعود بعده فقد اقترب الوعد الحق بما يكون من رفع كتاب الله المنزل من الصدور والمصاحف وقبض ارواح المؤمنين الذين هم أهل دين الله وذلك دليل واضح أنه لا دين يقوم لله إلا بوجود البنية المعظمة المكرمة المشرفة وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن لكل مصلي أن ينصب بين يديه شيئا يصلي إليه وكره الصلاة إلى الهواء المحض فكيف تكون قبلة الله التي يجب استقبالها هواء محضا. وأما ما ذكروه من الصلاة إلى أبي قبيس ونحوه فإنما ذاك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة وأن لم تكن مسامتة له فإن المسامتة غير مشروطة كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالامام مع أن الماموم خلفه فكذلك المصلي على أبي قبيس خلف الكعبة ووراءها وأن كان اعلا منها وأما إذا زال بناء الكعبة فتقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص وكذلك قال الآمدي أن صلى بازاء الباب وكان الباب مفتوحا لم تصح الصلاة وأن كان مردودا صحت الصلاة وأن كان الباب مفتوحا وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى وبين يديه شيء صحت الصلاة وأن لم يكن بين يديه شيء لم تصح

الصلاة. وان صلى على ظهر الكعبة الفرض لم تصح صلاته وأن صلى النفل وليس بين يديه شيء لم تصح صلاته فإن كان بين يديه شيء صحت صلاته وهذا من كلامه يدل على أن البناء لو ازيل لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء وإنما يعني به والله أعلم شيئا شاخصا كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب وكذلك قوله في الصلاة على الظهر إذ لا يجوز أن يفرق بين الصلاة على الظهر والصلاة على الباب ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم أن مجرد العرصة غير كاف ويدل على ذلك ما ذكره الازرقي في اخبار مكة عن ابن جريج قال سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها وذكر الحديث إلى أن قال فما ترجلت الشمس حتى الصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعا وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الاخرة سنة أربع وستين ولم يقرب ابن عباس رضي الله عنه مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها وارسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واحعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير رضي الله عنه وذكر الحديث وقد رواه مسلم في صحيحه عن عطاء في قصة ابن الزبير لما هدم البيت واعاده على قواعد إبراهيم قال: فنقضوه حتى

بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير اعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وهذا من ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم دليل على أن القبلة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا وأن العرصة ليست قبلة ولم ينقل أن احدا من السلف خالف ذلك ولا انكره. نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بان يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في اخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكفي المصلي أن يخط خطأ إذا لم يجد سترة فإن قواعد إبراهيم كالخط ولأنه فرض قد عجز عنه فيسقط بالتعذر كغيره من الفروض ولا يلزم من الاكتفاء بالعرصة عند استقبال البناء الإكتفاء بها عند القدرة على استقبال البناء لأن فرض استقبال القبلة يسقط بالعجز كالخائف والمحبوس بين حائطين وغيرهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" ولا يمتنع الصلاة في شيء من الاوقات ولا الطواف بالبيت لعدم البناء اصلا إذا تعذر في تلك الساعة الطواف والصلاة إلى بناء كما لا يمتنع الصلاة لتعذر شيء من شروطها واركانها. وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زالت صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة ومن قال هذا يفرق بأنه إذا زال لم يبق هناك شيء شاخص مستقبل بخلاف ما إذا كان

هناك قبلة تستقبل ولا يلزم من سقوط استقبال الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا كما فرقنا نحن بين حال امكان نصب شيء وحال تعذر ذلك وكما يفرق في سائر الشرائط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز. فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنه يكفي شخوصه أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل. وقال أبو الحسن الآمدي لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان إذا كان مفتوحا لكن أن كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها بل لا بد أن يكون مثل مؤخرة الرحل لأنها السترة التي قدر بها الشارع القبلة المستحبة فلان تقدر بها القبلة الواجبة أولى ثم أن كانت السترة فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وأن كان هناك لبن أو اجر بقي بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة أو حبل ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت. ويتوجه أن يكتفي في ذلك بما يكون سترة لأنه شيء شاخص في هواء البيت فاشبه بناءه فإن ذلك قبلة سواء اتصل بالعرصة أو لم يتصل بها ولأن البيت كان رضاما من الحجارة غير مبني مع كون الطواف به كان مشروعا ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير فيه دليل على الاكتفاء بكل

ما يكون قبلة وسترة فإن الخشب والستور المعلقة عليها لا تتبع في مطلق البيع. فصل. فأما استقبال الحجر فقال ابن عقيل في الواضح لا يستقبل هواه ولا يعتد بالصلاة إليه بخلاف هواء الكعبة في العلو إذا صعد على أبي قبيس ولو هدمت العمارة جاز استقبال هوائها بخلاف الحجر قال وخروج الحجر عن خصيصة القبلة في الصلاة كخصيصة القران المنسوخ تلاوة فحكمه ثابت ولا تجوز الصلاة به وذلك لأن الحجر بخروجه عن الكعبة في البناء لم يبق قبلة لأن القبلة ما بني للاستقبال والحجر ليس كذلك وأن كان من البيت ولأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت أحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف به دون الاكتفاء بالصلاة إليه احتياطا للعبادتين. وقال القاضي في خلافه يجزئه التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة وهذا اقيس بالمذهب لأنه من

البيت بالسنة الثابتة المستفيضة وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير. والحجر كله ليس من البيت وإنما الداخل في حدود البيت ستة اذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة ولا بد أن يستقبل شيئا شاخصا منه فإن استقيل ما ليس بشاخص مثل أن يصلي إلى الممر أو إلى ناحية الشام فإن الجدار الشامي من الحجر ليس مبنيا في الكعبة فعلى الوجهين المتقدمين. فصل. وأما صلاة الفرض في الكعبة حيث تصح صلاة النافلة ففيها روايتان. إحداهما: أنها كصلاة النافلة على ما تقدم من الأحاديث لأن الفرض والنفل مستويان في جميع الشرائط والأركان إلا ما استثني من ذلك مثل القيام والصلاة على الراحلة في السفر حيث توجهت به ونحو ذلك فالتفريق بينهما في غير ذلك يحتاج إلى دليل ولأن الاستقبال الواجب في الفرض واجب في النفل على المقيم ولو لم يكن المصلي في البيت مستقبلا للقبلة لما صح فيها النفل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعائشة صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت" ولم يفرق وقال للسادن أنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي ولم يفرق.

والرواية الثانية وهي المشهور نصا ومذهبا أن الفرض لا يصح في الكعبة لأن الله سبحانه قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه وتلقاءه باجماع أهل العلم لأن الشطر له معنيان هذا أحدهما: والاخر بمعنى النصف وذلك المعنى ليس مرادا فتعين الأول وإذا كان الله قد فرض تولية الوجه نحو الكعبة وذلك هو الصلاة إليها فالمصلي فيها ليس بمصل إليها لأنه لا يقال لمن صلى في دار أو حانوت أنه مصل اليه. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما إنما أمر الناس أن يصلوا إلى الكعبة ولم يؤمروا أن يصلوا فيها ولأن التوجه إليها إنما يكون باستقبالها كلها أي استقبال جميع ما يحاذيه منها فإذا استقبل بعضها فليس بموول وجهه إلى الكعبة بل إلى بعض ما يسمى كعبة ولأنه إذا استقبل البعض واستدبر البعض فليس وصفه باستقبالها باولى من وصفه باستدبارها بل استدبار بعضها ينافي الاستقبال المطلق ولهذا قال ابن عباس لا تجعل شيئا من البيت خلفك ذكره أحمد يبين هذا أن الله سبحانه أمر بالطواف به كما أمر بالصلاة إليه وإخراجها مخرجا واحدا في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقال

تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ثم الطواف فيه لا يجوز فكذلك الصلاة فيه ولما وجب على الطائف أن يطوف به كله وجب على المصلي أن يستقبله كله واستقبال جميعه يحصل بان تكون القبلة كلها امامه وأن خرج بعضها عن مسامتة بدنه ومحإذاته فإن المطابقة ليس من معنى الاستقبال في شيء إذ لو كانت من معناه ما صح أن يستقبل الجسم الكبير للصغير ولا الصغير للكبير نعم لو خرج هو على مسامتتها ببعضه لم يكن مستقبلا لها فعلى هذا لا يصلي الفرض في الحجر نص عليه فقال لا يصلي في الحجر الحجر من البيت فأما الصلاة فإن نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحلة. وأما أن نذر الصلاة مطلقا اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى فيه حذو الفرائض فإذا نذره بصفة جائزة في الشرع قبل النذر يعتد بها كما لو نذر أن يهدي هديا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الهدايا الواجبة ولو نذر أن يهدي دراهم أو دجاجة ونحو ذلك صح نذره وقد روى أصحابنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "يا رسول الله اني نذرت أن اصلي في البيت فقال صلي في الحجر فإنه من البيت". وهل المانع استدبار بعضه فقط أو استقبال جميعه شرط أيضا على

وجهين: أحدهما: أن المانع استدبار بعضه وقد أومأ إليه في رواية ابن القاسم وقد سئل عن الصلاة المكتوبة في الكعبة فقال في نفسي منه شيء وحكي عن ابن عباس أنه: كان ينكره ولأنه يجعل بعض البيت خلفه والتطوع أسهل والصلاة فوقه أشد من الصلاة فيه وفي بعض كتب أصحابنا هذه الرواية الصلاة فوقه أسهل من الصلاة فيه واظنه غلطا في الكتاب فعلى هذا إذا وقف على عتبة الباب أو على منتهى السطح بحيث لا يكون خلفه شيء أو وقف خارجا منه وسجد على بعضه كالحجر والشاذوران ونحو ذلك صحت صلاته. والوجه الثاني: لا بد أن يستقبل جميعه فلا تصح صلاته في هذه الصور وهذا اقيس كالطواف فإن الطواف به لا فيه وكذلك الصلاة إليه لا فيه. وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعا ولذلك اغلق عليه الباب هو واسامة وبلال وعثمان بن طلحة وانما كان يصلي المكتوبة بالمسلمين كلهم في الجماعة العامة ولأن ذلك الوقت لم يكن وقت مكتوبة لأنه دخل مكة ضحى وفي تلك الساعة دخل البيت ثم صلى بالمسلمين صلاة الظهر في المسجد ولا يجب الحاق الفرض به لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم خرج فصلى إلى البيت ركعتين ثم

قال هذه القبلة فيشبه والله أعلم أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقب الصلاة خارج البيت بيانا لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لاجل أنه صلى التطوع في البيت والا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد أن يكون لهذا الكلام فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بما سمع لكن لم يبلغه حديث بلال أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة فحمل الحديث على العموم في المكتوبة والتطوع فالواجب أن يوضع حديث ابن عباس موضعه وحديث ابن عمر موضعه ويعمل بكلا الحديثين يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى داخله أغلق عليه الباب وكانت الفرائض كلها إنما يصليها خارج البيت ولو كانت المكتوبة جائزة في البيت لكان يمكنه أن يصلي المكتوبة بالناس في الحجر تحصيلا لفضيلة اداء الفرض في الكعبة فلما لم يفعل شيئا من ذلك دل على أن ذلك خاص بالتطوع. وهذا لأن الشارع يوسع في تجويزه على احوال شتى لا تجوز في المكتوبة خصوصا في أمر القبلة فإنه جوز التطوع للمسافر السائر إلى أي جهة توجه لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} لئلا يكون الاستقبال مانعا له من الصلاة فكذلك من دخل بيت

ربه واحب الصلاة لربه فيه لا يمكنه ذلك مع الاستقبال التام فعفي له عن كمال الاستقبال إذا اتى بالممكن منه تحصيلا لمقصود الزيادة وتحية البيت إذ كان هذا المقصود لا يمكنه فعله إلا في البيت وكان فرض كمال الاستقبال لا يمكن معه تحية البيت والصلاة فيه لله وذلك أمر مطلوب كما قلنا في صلاة المسافر سواء فأما الفرض فلا اختصاص له بمكان دون مكان فكانت المحافظة عى كمال الاستقبال الذي هو شرط أولى من فعله في نفس البيت ولا حاجة إلى فعله في البيت فلم يسقط فرض الاستقبال بحال ولهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين بذلك إلا ترى أن الفرض لو كان مشروعا في البيت لكان ينبغي أن يقف الامام في الحجر ليحصل فضل الصلاة فيه والصلاة إليه فإن ذلك أكمل لو كان ممكنا من الصلاة إليه فقط ومعلوم أن هذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة المسلمين اجمعين. فصل. قال أكثر أصحابنا لا تكره الصلاة في الكنيسة والبيعة النظيفة. وذكر ابن عقيل فيهما روايتان. إحداهما: كذلك. والثانية: تكره واختارها لأن فيه تعظيما لها وتكثيرا لجمعهم ولأنهم

ربما كرهوا دخولنا إليها فيكون غصبا ولأنها مواضع الكفر ومحل الشياطين فكرهت الصلاة فيها كما كرهت في المكان الذي حضرهم فيه الشيطان. ووجه الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه صلى في كنيسة بالشام" رواه حرب وعن ابن عباس أنه: "لم يكن يرى بأسا بالصلاة في البيع إذا استقبل القبلة" وعن أبي موسى: "أنه صلى بحمص في كنيسة تدعى كنيسة حنا ثم خطبهم ثم قال أيها الناس انكم في زمان لعامل الله فيه اجر واحد وانكم سيكون بعدكم زمان يكون لعامل الله فيه اجران" وعن أبي راشد التنوخي قال: "صلى المسلمون حين فتح حمص في كنيسة النصارى حتى بنوا المسجد" رواهن سعيد ولم يبلغنا عن صحابي خلاف ذلك مع أن هذه الأقوال والافعال في مظنة الشهرة ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "جعلت لي الأرض مسجدا" ولم يستثن البيع والكنائس فيما

استثناه ولأن الكفار لو استولوا على مساجد الله واتخذوها معابد لدينهم الذي لم يأذن به الله لم تكره الصلاة فيها لذلك. فأما أن كان فيها صور فمن أصحابنا من لم يكره الصلاة فيها أيضا قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الفتح دخل إلى البيت فصلى فيه وكانت فيه تماثيل. والمذهب الذي نص عليه عامة الأصحاب كراهة الصلاة فيها بلا كراهة الدخول إلى كل موضع فيه تصاوير فالصلاة فيه أشد كراهة من دخوله. فان كانت الصورة قد مثلت في بيوت العبادة فالصلاة هناك اقبح وأشد كراهة حتى قد قال أحمد فيمن صلى وفي كمه منديل حرير فيه صور اكرهه قال القاضي لأن التصاوير في الثوب المحرم فكأنه حامل لشيء محرم فجرى مجرى جلوسه في بيت فيه صور وذلك مكروه وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا ينبغي أن يشك فيه لظهوره في دين الاسلام فإن الذين نقل عنهم الرخصة في الصلاة في الكنائس من الصحابة شرطوا ذلك بأن لا تكون بها تماثيل وقد ذكرناه عن ابن عباس وذكر ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لنصراني انا لا ندخل بيعكم من أجل الصور التي فيها وعن مقسم قال: "كان ابن عباس لا يصلي في بيت فيه تماثيل" وعنه عن ابن عباس أنه: "قال لا يصلي فى كنيسة فيها

تماثيل وأن صار أن يخرج فيصلي في المطر" رواهما سعيد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له الكنيسة التي بارض الحبشة وما فيها من التصاوير قال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله" وكل واحد من اتخاذ القبور مساجد ومن التصاوير فيها محرم فالصلاة فيها تشبه الصلاة في المسجد على القبر ولأنه بعث عليا رضي الله عنه على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه فإذا كان طمسها واجبا لأنها بمنزلة الأوثان فالصلاة في المكان الذي فيه الصور كالصلاة في بيوت الأوثان فهل يقول أحد أن هذا جائز بلا كراهة من غير ضرورة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة" فكيف لا تكره الصلاة في مكان تمنع الملائكة من الدخول إليه دائما ولأن الصور قد تعبد من دون الله وفيها مضاهاة لخلق الله فالصلاة عندها تشبه بمن يعبدها ويعظمها لا سيما أن كانت الصورة في جهة القبلة فإن السجود إلى جهتها يشبه السجود لغير الله. وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فهو حجة أيضا قوية لما روى عن ابن عباس قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم

مصور فما له يستقسم" وفي رواية لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت وراى إبراهيم وإسماعيل بايديهما الأزلام فقال: "قاتلهم الله والله أن استقسما بالأزلام قط" وفي رواية لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فامر بها فاخرجت واخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في ايديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل" رواه البخاري. فهذا نص في أنه امتنع من الدخول حتى محيت الصور فكيف يقال أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة والتماثيل فيها وقد روى الازرقي: "أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت أرسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست" وروي من غير وجه: "أنه لم يدخل حتى محيت الصور" ثم لو قدر أنه قد دخل قبل الطمس فإنه لم يدخل حتى طمست أو شرع في طمسها كما يدل عليه ظاهر بعض الروايات ولو كان قد صلى بعد الأمر بطمسها فهو قد شرع في إزالة المنكر فلا يشبه هذا من صلى في موضع الصور فيه مستقرة ولهذا جاز للرجل أن يحضر الوليمة التي فيها منكر إذا قصد أن ينكر وأن كان الحضور قبل الإنكار.

فصل. ولا يصلى في مواضع الخسف نص عليه في رواية عبد الله واحتج بما رواه بإسناده عن حجر بن عنبس الحضرمي قال خرجنا مع علي بن أبي طالب إلى النهروان حتى إذا كنا ببابل حضرت صلاة العصر فقلت الصلاة فسكت مرتين فلما خرج منها صلى ثم قال: "ما كنت اصلي بارض خسف بها ثلاث مرات". وروى أبو داود في سننه عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فاقام الصلاة فلما فرغ قال: "أن حبيبي نهاني أن اصلي في المقبرة ونهاني أن اصلي في أرض بابل فإنها ملعونة" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الدخول إلى المساكن الذين ظلموا

انفسهم وسن أن اجتزنا بها الاسراع" فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا انفسهم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم راسه واسرع السير حتى أجاز الوادي" متفق عليه. وقد قيل أنه صلى الله عليه وسلم اسرع السير بوادي محسر صبيحة مزدلفة وسن للحجيج الاسراع فيه لأنه المكان الذي نزل على أهل الفيل فيه العذاب وحسر فيلهم فيه أي انقطع عن الحركة إلى جهة مكة ويقال أنه يخسف بقوم فيه فإذا كان المكث في مواقع العذاب والدخول إليها لغير حاجة منهي عنه فالصلاة بها أولى ولا يقال فقد استثنى ما إذ كان الرجل باكيا لأن هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط فأما المكث بها والمقام والصلاة فلم ياذن فيه بدليل حديث علي ولأن مواضع السخط والعذاب قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها وصارت الأرض ملعونة كما صارت مساجد الأنبياء مثل مسجد إبراهيم ومحمد وسليمان صلى الله عليهم مكرمة لاجل من عبد الله فيها واسسها على التقوى فعلى هذا كل بقعة نزل عليها عذاب لا يصلى فيها مثل أرض الحجر وارض بابل المذكورة ومثل مسجد الضرار لقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}.

فان صلى فهل تصح صلاته فعلى ما ذكره طائفة من أصحابنا تصح لأنهم جعلوا هذا من القسم الذي تكره الصلاة فيه ولا تحرم لأن أحمد كره ذلك ولأنهم لم يستثنوه من الأمكنة التي لا يجوز الصلاة فيها ولأصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان. أحدهما: أنه محمول على التحريم وهذا أشبه بكلامه واقيس بمذهبه لأنه قد قال في الصلاة في مواضع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها يعيد الصلاة وكذلك عند القاضي والشريف أبي جعفر وغيرهما طرد الباب في ذلك بان كل بقعة نهي عن الصلاة فيها مطلقا لم تصح الصلاة فيها كالأرض النجسة. وهذا ظاهر فإن الواجب الحاق هذا بمواضع النهي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه كما نهى عن الصلاة في المقبرة ونهى الله نبيه أن يقوم في مسجد الضرار ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى مساكن المعذبين عموما فإذا

كان الله نهى عن الصلاة في الاماكن الملعونة خصوصا ونهى عن الدخول إليها خصوصا وعمل بذلك خلفاؤه الراشدون وأصحابه مع أن الأصل في النهي التحريم والفساد لم يبق للعدول عن ذلك بغير موجب وجه لا سيما والنهي هنا كان مؤكدا ولهذا لما عجنوا دقيقهم بماء ال ثمود امرهم أن يعلفوه النواضح ولا يطعموه فأي تحريم ابين من هذا قوم مجاهدون في سبيل الله في غزوة العسرة التي غلب عليهم فيها الحاجة وهي غزوة تبوك التي لم يكن يحصي عددهم فيها ديوان حافظ وخرجوا في شدة من العيش وقلة من المال ومع هذا يامرهم أن لا ياكلوا عجينهم الذي اعز اطعمتهم عندهم فلو كان إلى الاباحة سبيل لكان أولئك القوم احق الناس بالاباحة فعلم أن النهي عن الدخول والاستقاء كان نهي تحريم ثم أنه قد قرن بين الصلاة في الأرض الملعونة والصلاة في المقبرة ثم جميع الاماكن التي نهى عن الصلاة فيها إذا صلي فيها لم تصح صلاته فما بال هذا المكان يستثنى من غير موجب إلا عدم العلم بالسنة فيه. فصل. قال الآمدي وغيره تكره الصلاة في الرحا ولا فرق بين علوها واسفلها والسطح هكذا روى جماعة من السلف هكذا ذكروا لعل هذا

لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله ولذلك كره رفع الصوت في المسجد وكانوا يكرهون رفع الصوت في الذكر. فصل. السنة أن يكون موضع الصلاة مستقرا مع القدرة فإن لم يصل على مكان مستقر مثل أن يقوم على الارجوحة التي ترجحه وهو يصلي وهو معلق بالهواء أو يسجد على متن الماء أو الطين أو على منتن الهواء بان يقف على سطح ويسجد على الهواء المسامت له أو يسجد على ثلج أو قطن أو حشيش ونحو ذلك من الاجسام المنتفشة ولا يجد حجمه لم تصح صلاته لأن القيام والقعود والركوع والسجود واجب وإنما تتم هذه الأركان على المكان المستقر ولهذا لا يجوز أن يسجد بالايماء وأن بلغ إلى حد يجزيه لو كان هناك ما يسجد عليه فعلم أن المقصود لا يتم إلا بالاستقرار. فان وضع يديه أو رجليه على غير مستقر فإن قلنا السجود على الاعضاء السبعة واجب وهو المشهور فهو كالجبهة وأما أن كانت اعضاؤه على مكان مستقر وتحته هواء لم يضر ذلك. فان صلى في سفينة واتى بجميع أركان الصلاة من القيام والاستقبال وغيرهما أو على راحلة بان تكون معقولة وفوقها مقعد واسع أو يكون في

محفة كبيرة أو محمل واسع فهل تصح صلاة الفرض لغير عذر على روايتين. أشهرهما عند أصحابنا أنها تصح قالوا وسواء كانت الدابة والسفينة سائرتين أو واقفتين. وفي الأخرى لا تصح لأن مكانه ليس بمستقر لأنها أن كانت سائرة فهو تابع لها في الحركة وأن لم يكن في نفسه متحركا فهو كالمصلي في الارجوحة وأن كانت واقفة فهي في مظنة الحركة. ومن أصحابنا من حكى الروايتين في السفينة وقال في الراحلة لا تجوز الصلاة عليها رواية واحدة إلا لعذر كما سياتي أن شاء الله تعالى. ووجه الأول ما روى عبد الله بن عتبة قال: "سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا من السفينة قياما وامهم بعضهم بمقدمهم قال ولو شئنا أن نخرج إلى الحد الاخر خرجنا والحد هو الشاطىء" رواه سعيد ولأنه مكان معتاد للتمكن عليه اتى فيه بجميع الشرائط والأركان فصحت صلاته عليه كالسرير. وأما كون المصلي متحركا فليس بصحيح لأنه في نفسه ساكن مستقر وانما يوصف بالحركة على سبيل التبع لأن مستقره متحرك لكن تلك الحركة لا أثر لها في صلاته فإنه لا فرق بين الجلوس في السفينة والجلوس

على الأرض. وأما الصلاة على العجلة فقال ابن عقيل لا تصح الصلاة على العجلة قال وهي خشبة على بكر تسير على تلك البكر لأن ذلك ليس بمكان مستقر عليه فاشبه الارجوحة وعد غيره من أصحابنا الصلاة فيها كالصلاة في السفينة تصح في ظاهر المذهب وهذا اجود. فصل. فأما المعذور فمن لم يمكنه الخروج من السفينة أما لبعده عن الساحل أو لخوفه من عدو أو نحو ذلك فإنه يصلي فيها على حسب حاله فإن أمكنه القيام والاستقبال لزمه ذلك سواء كانت سائرة أو واقفة لما روى ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف اصلي في السفينة قال: "صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق" رواه الدارقطني والحاكم في صحيحه ولأن أركان الصلاة يجب فعلها مع القدرة عليها لما نذكره أن شاء الله من ادلة وجوبها. وإذا دارت السفينة فقال ابن أبي موسى وغيره يستقبل القبلة في الفرض ويدور إليها كلما دارت السفينة ويعذر في النفل أن لا يدور إلى

القبلة إذا دارت السفينة وهذا يشبه الراكب في العمارية والمحمل ونحوهما. وفي وجوب الاستدارة عليه في النفل إذا أمكنه وجهان. وان لم يمكنه القيام في السفينة بان يخاف الغرق أو يهيج به الموج فيمرض ونحو ذلك لصغرها وسيرها أو تكون مسقوفة ولا يمكنه الصعود إلى الطبقة العليا أو يخاف أن يراه عدو يؤذيه ونحو ذلك صلى جالسا وسجد على ما فيها من الاحمال والثياب والامتعة وغيرها أن أمكنه ولا بد من استعلاء عجيزته على رأسه مع القدرة فإن عجز اوما ايماء. فان أمكنهم أن يصلوا قياما فرادى واحد بعد واحد ولم يمكنهم أن يصلوا جميعا إلا بجلوس بعضهم فقال جماعة من أصحابنا يصلون وحدانا مع اتساع الوقت ولا يسقط القيام هنا للجماعة بخلاف المريض الذي لا يمكنه القيام في الجماعة ويمكنه في الانفراد فإنه يصلي في الجماعة أن شاء لأن حكم العجز لا يثبت لغير معين ولهذا قلنا في العراة أنهم يصلون في الثوب واحد بعد واحد وعلى هذا فإذا خافوا خروج الوقت بالصلاة قياما صلى بعضهم قاعدا كما في العراة وقال ابن أبي موسى لم يختلف قوله أنه أن قدر جميعهم على القيام جاز أن يصلوا جماعة في السفينة فإن عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة أم لا؟ على

روايتين أجاز ذلك في إحداهما: ومنع منه في الأخرى واختياري أن ذلك جائز. وقال غيره أن أمكن أن يقوم بعضهم دون بعض صلى من أمكنه القيام ثم قعدوا أو صلى الاخرون وأن ضاق بهم الوقت صلى كل واحد بحسب امكانه. وان عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة على روايتين. وظاهر ما اختاره ابن أبي موسى من الروايتين هو قياس المذهب وهو أن يصلوا جماعة مع قعودهم أو قعود بعضهم ثم أن كان موضع القيام واحدا قام فيه الامام وأن كان أكثر من واحد صلوا على المقاعد التي كانوا عليها قبل الصلاة لأن من اصلنا جواز القعود خلف الامام إذا صلى قاعدا لأن فضل الجماعة اسقط القيام وكذلك المريض له أن يصلي جماعة مع قعوده وأن أمكنه الصلاة وحده قائما ولأن الجماعة مع الخوف فيها مما يفسد الصلاة في الجملة أعظم من ترك القيام ثم احتمل ذلك لاجل الجماعة ومن تأمل الشريعة علم أن الشارع يحافظ على صلاة الجماعة كيفما أمكن ولا يبالي ما فات في ضمن الجماعة ولأن من أصلنا أن الجماعة واجبة والقيام واجب أيضا لكن القيام ركن خفيف يسقط في النوافل مطلقا ويسقط في الفرائض في مواضع وأما الجماعة فلم نجد الشارع اسقطها إذا أمكنت من غير ضرر قط.

فصل. وأما العذر في الراحلة فثلاثة اسباب الخوف والوحل والمرض. فأما الخوف فمثل الذي يخاف في نزوله من عدو أو من انقطاعه عن الرفقة الذين لا يحتبسون له أو لا يمكنه النزول لكونه على مركوب لا ينزله عنه إلا انسان وليس هناك من ينزله عنه أو يمكنه النزول ولا يمكنه الصعود ولا يقدر على المشي أو يخاف انفلات الدابة بنزوله ونحو ذلك مما يخاف في نزوله ضررا في نفسه أو ماله فإنه يصلي على حسب حاله كما يصلي الخائف من العدو على ما سنذكره أن شاء الله تعالى لعموم قوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً}. وفي حديث ابن عمر فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا ركبانا ورجالا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لا سيما إذا قلنا أن طالب العدو يصلي على الدابة إذا خاف من فوته فإن ما يخافه في هذه المواضع قد يكون أشد ضررا مما يخافه من فوت العدو يخاف في النزول ضررا فجاز أن يصلي على الدابة كالخائف نم العدو ولأن القيام والاستقبال من اخف فروض الصلاة يسقطان في التطوع فإذا كانت الطهارة والسترة تسقط بمثل هذا الخوف فسقوط القيام والتوجه أولى هكذا ذكر طائفة من أصحابنا.

وقال ابن أبي موسى لم يختلف قوله أن التوجه إلى القبلة في المكتوبة في سائر الأحوال من شرط صحة الصلاة إلا في حال المسايفة خاصة. السبب الثاني: الوحل فإذا خاف التأذي في بدنه أو ثيابه بالوحل والمطر والثلج بان لا يمكنه بسط شيء عليه أما لكثرته وإذاه للبسط أو لعدم البسط ولا يمكنه الوقوف عليه إلا بضرر فإنه يصلي على الراحلة بان يستقبل القبلة ويقف أن كان مسيره إلى غير قبلة. وان كان جهة مسيره إلى القبلة فقال أصحابنا: يصلي في حال سير الدابة كما يصلي في السفينة هذه احدى الروايتين. وعنه يلزمه النزول إلى الأرض والسجود على متن الطين نقلها حنبل. وكذلك الروايتان فيمن كان في ماء أو طين فعلى الرواية الأولى يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه تلوث وهذه الرواية اختيار الخرقي وأكثر أصحابنا. وعلى الرواية الأخرى يسجد على متن الماء أو الطين وهو اختيار أبي بكر.

وقال ابن أبي موسى اختلف قوله في الغريق يصلي في الماء والطين على روايتين قال في إحداهما: يومىء بالركوع والسجود. وقال في الأخرى يسجد على متن الماء. والقائم في الماء والطين العاجز عن الخروج عنه يصلي ويومىء في الركوع والسجود في ماء قولا واحدا وفرق بين الماء والطين وهو فرق حسن فإن قلنا يجب النزول ويجب السجود على الطين فلما روى أبو سعيد قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته. وعن عطاء قال سالت عائشة هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب قالت ما رخص لهن في شدة ولا رخاء" رواه أبو داود. ووجه الأول ما روى يعلى ابن امية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فامر المؤذن فاذن واقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ ايماء يجعل السجود اخفض من الركوع" رواه أحمد والترمذي وعن أنس بن مالك: "أنه صلى بهم المكتوبة على

دابته والأرض طين" ذكره أحمد وغيره وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلا أنه قال المحفوظ عن أنس فعله غير مرفوع ولم ينقل عن صحابي خلافه. السبب الثالث: المرض فعنه أنه ليس بعذر في الصلاة على الراحلة نص عليه مفرقا بينه وبين الوحل لأن ابن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يوتر على راحلته ويسبح عليها ولا يصلي عليها المكتوبة" متفق عليه. وكان ابن عمر ينزل مرضاه فيصلون بالأرض ذكره أحمد فعلم أنه فهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم استواء الصحيح والمريض في هذا الحكم ولأن المريض لا ضرر عليه في صلاته بالأرض بل ذلك اهون عليه من صلاته على الدابة وإنما قد يشق عليه حركة النزول فقط وهذا يعارضه حركة هز الدابة. وعنه أن المريض يصلي على الدابة لأن المشقة عليه في نزوله أعظم من مشقة التلوث بالطين ثم من أصحابنا من اطلق الروايتين وعلى هذه الطريقة فقد اختار جدي رحمه الله أن تضرر بنزول أو لم يكن له من ينزله فإنه يصلي على الدابة وأن لم يتضرر فهو كالصحيح. ومن أصحابنا من جوز ذلك فقال أن كان النزول يزيد في مرضه أو لا

يقدر على الركوب إذا نزل أو لا يجد من ينزله جازت صلاته على الراحلة رواية واحدة وأن لم يكن عليه مشقة في النزول وجب عليه النزول رواية واحدة وأن شق عليه النزول من غير زيادة في المرض فهو على الروايتين وهذه الطريقة اصوب والله أعلم.

الشرط الخامس: استقبال القبلة

مسألة: (الشرط الخامس: استقبال القبلة إلا في النافلة على الراحلة للمسافر فإنه يصلي حيث كان وجهه والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فإنه يصلي كيف ما أمكنه ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة). الكلام في فصلين. أحدهما: أن استقبال الكعبة البيت الحرام شرط لجواز الصلاة وصحتها وهذا مما اجمعت الأمة عليه. والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلى قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} الآيات واستدل بعض أصحابنا من القران على ذلك بقوله أيضا: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلّىً}. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس وكان صلى الله عليه وسلم يجعل الكعبة بينه وبينها محبة منه لقبلة إبراهيم فلما هاجر صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وبعض اخر ثم حولت القبلة إلى الكعبة فعن

ابن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة". والأحاديث في ذلك مشهورة متواترة وقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر" متفق عليه وعن أنس بن مالك قال قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته" رواه البخاري. الفصل الثاني: ان استقبال القبلة يسقط مع العلم بجهتها في موضعين. أحدهما: إذا عجز عن استقبالها لخوفه أن استقبلها من عدو أو سيل أو سبع بان يهرب من العدو المباح هربه منه. أو يسايفه العدو الذي يباح له أن يسايفه. وأما أن يكون مربوطا إلى غير القبلة. أو يكون بين حائطين ولا يمكنه الاستدارة إلى القبلة.

وأما بان يكون مريضا لا يجد من يديره فإنه في هذه الحال لا يتعين عليه استقبال جهة الكعبة بل أي جهة قدر على الصلاة إليها فهي قبلته لأن في حديث ابن عمر فإن كان خوف وأشد من ذلك صلوا قياما على اقدامهم أو ركبائهم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع: "لا أرى عبد الله ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا" رواه البخاري ورواه ابن ماجة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير تردد ولأن عبد الله بن انيس لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن سفيان الهذلي صلى ماشيا بالايماء إلى غير الكعببة وهذا لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهذه الآية تعم جميع المصلين لكن نسخ منها أو خص منها القادر فيبقى حكمها في العاجز كما جاء في الحديث ولأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فإذا تضرر باستقبال القبلة الكعبة كان أن يصلي إلى جهة اخرى أولى من تفويت الصلاة. فإن قيل فهلا اوجبتم الإعادة على المربط ونحوه لأنه ترك الشرط لعذر نادر غير متصل كمن صلى بلا ماء ولا رتاب وكالعاجز عن إزالة النجاسة. قلنا قد قال ابن أبي موسى من كان مصلوبا على خشبة مستدبر

القبلة أو محبوسا في موضع نجس لا يجد وضوءا ولا يقدر على التيمم صلى على حاله يومىء ايماء ويعيد إذا قدر على الوضوء في احدى الروايتين فقد جعلهما سواء. وأما غيره فلم يوجب الإعادة بحال أما على احدى الروايتين فإن جميع الشرائط تسقط بالعجز من غير إعادة وأما على الرواية الأخرى فإن القبلة أشبه بالسترة منها بالطهارة ولهذا فرق فيها بين الفرض والنفل كما فرق في السترة عندنا فإذا سقطت السترة فالقبلة الأولى لأنها اخف فإن سائر الجهات عوض عن جهة الكعبة عند العجز عنها بدليل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والشرط إذا كان له بدل لم تجب الإعادة بالعجز عنه كالوضوء ولأن الطهارة اوكد الشروط واستقبال الكعبة اخف الشروط لهذا سقطت في النافلة على الراحلة فصارت بمنزلة القيام في الأركان فلا يصح الحاق أحدهما: بالاخر. الموضع الثاني في صلاة النافلة في السفر وهو مجمع عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" متفق عليه وعن ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا اينما توجهت به وهو جاي من مكة إلى المدينة وقرا ابن عمر هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال ابن عمر في هذا أنزلت هذه

الآية" رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي صححه. وعن عامر بن ربيعة قال: "رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته يسبح يومىء برأسه قبل أي وجه توجه ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة" متفق عليه وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته تطوعا حيث توجهت به في السفر فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة" رواه أحمد والبخاري وهذا في الحقيقة يعود إلى المعنى الأول لأن المسافر أكثر اوقاته سائر وإذا كان سائرا لا يمكنه التنفل إلى جهة قصده أو أن يبطل سفره وفي ابطال السفر ضرر عليه فصار عاجزا عن النافلة إلا على هذا الوجه بخلاف المكتوبة فإن زمنها يسير ولا فرق في ذلك بين السفر الطويل والقصير لأن احتياج الإنسان إلى التطوع في السفر القصسير كالحتياجه إليه في الطويل. فأما الراكب السائر في المصر فلا يجوز ذلك في المشهور عنه. وعنه يجوز له ذلك كما يجوز له في السفر. ووجه الأول أن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول

عنه لأن المسافر لو لم يجز له التطوع لافضى إلى ترك التنفل فإن اغلب اوقاته يكون سائرا بخلاف المقيم في الحضر فإن اغلب اوقاته المكث فلا يفضي منعه إلى تعطيل التطوع في حقه. فصل. ويجوز التنفل على الدابة سواء كانت بعيرا أو فرسا أو بغلا أو حجمارا أو فيلا أو غير ذلك من المراكب وسواء كان طاهرا أو نجسا إذا كان ما يلاقي المصلي طاهرا هذه احدى الطريقتين لأصحابنا. ومنهم من قال إذا كانت الدابة نجسة نجاسة عينية أو عارضة خرج فيه الروايتيان فيمن فرش طاهرا على نجس لأنه كذلك. ومن فرق بينهما قال ابدان الدواب غالبا لا تسلم من نجاسة لا سيما والبغل والحمار إذا قلنا هما نجسان فإن الحاجة ماسة إلى ركوبهما فعفي عن ذلك للحاجة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي على حماره وقد تقدم ذلك فلا وجه لخلاف السنة ولا يجوز أن يجعل في هذه الصور خلاف في المذهب لكن يكون من اشترط الطهارة يقول بطهارة الحمار أو يفرق بين الدواب وغيرها أو يفرق بين الفرش على نجاسة رطبة أو يابسة وأما مخالفة عين ما جاءت به السنة فلا يحل بوجه من الوجوه ولذلك لم

يختلف نص أحمد في جواز التطوع على الحمار والبعير وغيرها. فصل. وهل يجوز التطوع إلى غير القبلة للماشي حيث يجوز للراكب على روايتين. إحداهما: لا يجوز وهو مقتضى ما ذكره الخرقي والشيخ المصنف وغيرهما لان ذلك لم ينقل عن النبي إلا في حال الركوب وليس الماشي كالراكب لأن الماشي متحرك بنفسه فهو يعمل في الصلاة عملا كثيرا وذلك مبطل للصلاة إلا إذا كان لضروروة مثل صلاة الخوف ولا ضرورة هنا ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالوا يسافرون مشاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان احيانا يتعقب هو وبعض أصحابه على بعير واحد ومع ذلك لم ينقل أنهم صلوا مشاة. والثانية: يجوز اختارها القاضي وأبو الخطاب وكثير من أصحابنا وذكره عن أحمد عن عطاء لعموم قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد ذكر ابن عمر أنها نزلت في التطوع في السفر لأن راكبها لا أثر له كما سياتي وذلك المعنى الذي أبيح للراكب الذي يصلي لأجله موجود في

الماشي لأنه مسافر سائر فأما أن يترك التطوع حال سيره أو يترك الاستقبال فقط وكونه يعمل عملا كثيرا يقابله أن الراكب ليس على مكان مستقر فإن كليهما مبطل ويقابله أن الراكب بمنزلة الجالس والماشي قائم والقائم صلاته أفضل من صلاة القاعد. ويجوز أن يصلي ماشيا طالبا للعدو في المكتوبة كما فعل عبد الله بن انيس رضي الله عنه فكذلك في النافلة في عموم السفر. فصل. ويلزم الماشي أن يستقبل الكعبة حين الافتتاح وهو واقف ثم يسير إلى جهة قصده فإذا أراد أن يركع ويسجد ففيه وجهان. أحدهما: يلزمه أن يقف ويركع ويسجد إلى الكعبة ويسجد بالأرض قاله القاضي وغيره لأن ذلك متيسر عليه فاشبه الافتتاح. والثاني: له أن يركع ويسجد موميا ماشيا إلى جهة قصده كما في القيام قاله الآمدي وغيره وهو الأظهر لأن الركوع والسجود وما بينهما مكرر في ركعة ففي الوقوقف له وفعله بالأرض قطع لسيره فاشبه الوقوف حالة القيام.

وأما الراكب فإن كان يشق عليه استقبال القبلة حين الاستفتاح مثل أن تكون دابته مقطورة بغيرها ويشق عليه أن يستدبر أو تكون الدابة مستعصية يشق ادارتها إلى الكعبة لم يجب عليه في المشهور في المذهب. وقد قيل أنه يجب عليه ذلك. فأما أن تعذر ذلك عليه فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف. وان تيسر ذلك عليه وجب عليه في احدى الروايتين المنصوصتين. وفي الأخرى لا يجب كسائر اجزاء الصلاة لكن يستحب وهذا قول أبي بكر وابن أبي موسى. وجه الأول وهو اختيار أكثر أصحابنا ما روى أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فاراد أن يتطزع استقبل القبلة بناقته فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه" رواه أحمد وأبو داود ومدار تطوع الراكب على فعله صلى الله عليه وسلم فإذا كان إنما كان يفتتح الصلاة مستقبلا للكعبة وجب اتباعه في ذلك وحديث أنس قد فسر فعله وسائر الأحاديث لم يتعرض لذلك بنفي ولا اثبات ولأنه قد تيسر عليه الاستقبال حيث الافتتاح فاشبه الماشي. وأيضا فإن الاستقبال شرط من شروط الصلاة فمتى اتى به في اوله جاز أن يستصحب حكمه إلى اخرها إذا شق استصحاب حقيقته كالنية وإذا

استفتح الصلاة إلى القبلة ثم الصلاة إلى جهة مسيره فإن كان سيره يختلف فينحرف فيه تارة إلى جهة ثم ينحرف عنها إلى جهة اخرى كان على صلاته لأن قبلته جهة سيره فأيهما ولى سيره إليه فذاك قبلته هكذا ذكره القاضي وغيره من أصحابنا وعلى هذا فلا فرق بين راكب التعاسيف وغيره. ومن أصحابنا من قال لا تباح الصلاة لراكب التعاسيف لأنه ليس له صوب معين. وإذا عدل راحلته عن جهة سيره فإن كان إلى جهة القبلة لم تبطل صلاته لأنها القبلة الاصلية. وان عدل إلى غيرها فقال أصحابنا: تبطل صلاته سواء عدلها هو أو عدلت هي فلم يرددها مع قدرته على ذلك لأن جهة سيره هي قبلته وقد تركها عمدا. وان عدلت لغفلته أو نومه أو عجز عن ضبطها أو عدلها ظنا أنها جهة سيره لم تبطل صلاته سواء تمادى بهخ به أولم يتماد به إلا أن يتمادى به بعد زوال العذر ولا يرددها فإنه تبطل صلاته هذا أشهر الوجهين ولأنه معذور في ذلك قال القاضي وغيره ويسجد للسهو أن تمادى به لأنه ادخل في الصلاة ما ليس منها. وفي الاخر أن تمادى به ذلك بطلت صلاته بكل حال لأنه عمل كثير في الصلاة لغير ضرورة.

فصل. وإذا أمكنه السجود على ظهر الدابة بان يكون في محمل وغيره لزمه لأنه ركن مقدور عليه فإن تعسر ذلك عليه أو اذى الدابة اوما وجعل ايماءه بالسجود اخفض من ايمائه بالركوع وقد نص أحمد على ذلك. وعنه ما يدل على أن السجود في المحمل ونحوه مستحب وليس بواجب. وقال ابن أبي موسى أن كان في محمل وقدر على الركوع والسجود بحيث لا يشق على البعير ركع وسجد ولم يجزه الايماء وأن كان ذلك يشق على البعير اوما في الأظهر من قوله وانما جاز الايماء لما تقدم من حديث عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومىء برأسه قبل أي وجهة توجه وعن جابر رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل في كل جهة ولكن يخفض السجود من الركعة ويومىء ايماء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وان أمكن الراكب الاستقبال في جميع الصلاة كالراكب في المحفة

الواسعة والعمارية لزمه الاستقبال وأن استدبر جهة سيره نص عليه ال مشقة عليه في ذلك على ما تقدم لأنه ركن يقدر عليه فلزمه فعله كالمصلي في السفينة فإنه يجب عليه أن يستقبل القبلة إذا أمكنه ثم أن قدر على الركوع والسجود لزمه والا اوما. وعنه ما يدل على أن ذلك مستحب وليس بواجب. وقال ابن أبي موسى في راكب السفينة: يستقبل القبلة في الفرض ويدور إليها كلما دارت السفينة ويعذر في النفل أن لا يدور إلى القبلة إذا دارت السفينة فإذا لم يلزمه الاستدارة إلى القبلة في السفينة فعلى الراحلة أولى وأن شق ذلك على البعير فهو كما لو شق عليه السجود على ظهر الدابة على ما تقدم من الروايتين. فصل. ومتى عزم على الاقامة في اثناء صلاته أو صار مقيما بحصوله في وطنه وجب عليه اتمام صلاة مقيم بأن ينزل ويستقبل فإن اجتاز بمدينة ولم يصر مقيما فله التطوع ما دام سائرا فمتى وصل إلى منزله الذي يريد نزوله نزل واتم الصلاة على الأرض مستقبلا لأن الصلاة على الراحلة إلى غير القبلة إنما تجوز ما دام مسافرا سائرا.

فأما المسافر الراكب الذي ليس بسائر وهو الواقف على الدابة فهذا تجوز له الصلاة عليها لكن عليه استقبال القبلة في جميع صلاته هكذا ذكره القاضي الآمدي وغيرهما من أصحابنا لأنه محتاج إلى التطوع عليها لأن ركوبه عليها مظنة حاجته إليه وليس بمحتاج إلى الاعراض عن جهة القبلة فيلزمه استقبالها ومتى لم يمكنه أن يديرها صلى كيف كان ومتى وقفت به الدابة في اثناء سيره لزمه أن يلوي بالزمام أو اللجام إلى جهة القبلة أن أمكنه. قال الآمدي ومن أصحابنا من قال لا يجوز التطوع على الراحلة إلا للسائر فأما الواقف فلا. وان كان يصلي نازلا إلى القبلة ثم عرض له السفر فهل يجوز أن يركب ويتم صلاة مسافر على وجهين ذكرهما الآمدي وغيره. أحدهما: يجوز وهو قول القاضي لأنه بمنزلة الامن إذا خاف. والثاني: لا يجوز وهو أظهر لأنه يمكنه أن يتم الصلاة بالأرض من غير مشقة بخلاف الخائف فإنه مضطر إلى الركوب. فصل. ولا فرق في هذا بين جميع النوافل من الرواتب وركعتي الفجر والوتر وغير ذلك نص عليه في مواضع وقد توقف في موضع عن ركعتي الفجر.

قال ابن أبي موسى: اختلف قوله في المسافر هل يصلي ركعتي الفجر على الظهر أم لا على روايتين. اظهرهما أن ذلك جائز قال وله أن يوتر على الراحلة قولا واحدا. ووجه الفرق أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما إلا بالأرض ولأنه يتوكد فعلهما في السفر ويفعلان تبعا للفرض فينزل لهما بالنزول له ويفعلان معه على وجه الأرض وبهذا يظهر الفرق بينهما وبين سائر التطوعات لأنها أما أن لا تتوكد في السفر كسنة الظهر والمغرب أو تفعل منفردة كالوتر. والصحيح التسوية بين الجميع لعموم المعنى لذلك فإنها من جملة التطوع ويجوز أن يصليهما قاعدا فكذلك على الراحلة.

مسألة: (فان كان قريبا منها لزمته الصلاة إلى عينها وأن كان بعيدا فالى جهتها). وجملة ذلك أن الناس في القبلة على قسمين. أحدهما: من يمكنه استقبال عين الكعبة وذلك على ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون بحيث يراها مثل أن يكون داخل المسجد أو خارجا عنه وهو ينظرها فعليه أن يستقبلها بجميع بدنه حتى لا يخرج شيء منه عنها وأن خرج شيء منه عنها لم تصح صلاته نص عليه. الثاني: أن يعلم ذلك لكونه من أهل البلد وقد نشأ فيه سواء كان بينه وبينها حوائل حادثة أو لم يكن فإنه من طال مقامه بمكان نم مكة علم أين تكون القبلة منه. الثالث: أن يخبره بذلك ثقة من أهل البلد لكونه غريبا أو بينه وبينها حائل وعلى الحائل من يخبره بذلك فإن الإخبار بالأخبار كالإخبار بدخول الوقت عن علم فإن هذا الخبر لا يدخله الخطا وجواز الكذب من الثقة غير ملتفت إليه في مثل هذا. قال أصحابنا: وحكم من كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم حكم من كان بمكة.

لأن قبلته متيقنة الصحة لأنه لا يقر على الخطا. القسم الثاني البعيد فهذا فرضه الاستدلال والاجتهاد لكن هل الواجب عليه طلب العين أو طلب الجهة على روايتين. إحداهما: أن فرضه طلب العين فمتى غلب على ظنه أنه مستقبل العين أجزاه ذلك وأن تبين له أنه اخطأها فيما بعد ذلك أو انحرف عنها انحرافا يسيرا وهذا اختيار أبي الخطاب لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} وقد روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ثم خرج فركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة" متفق عليه وفي حديث اخر أنه عد الكبائر وذكر منها استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم أحياء وامواتا وإذا كان نفس الكعبة هي القبلة فيجب عليه أن يستدل على قبلته بحسب الامكان ولا يكفيه مجرد التوجه إلى جهتها لأن المستقبل لجهتها قد لا يكون مستقبلا لها ولأنه مخاطب باستقبال الكعبة فوجب عليه أن يقصد عينها حسب الطاقة كالقريب وذلك لأنهما لا يفترقان في

فرض استقبال الكعبة وإنما يفترقان في أن ذلك متيقن للصواب على التحديد وهذا مجتهد في الاصابة على التقريب. ولأن المسافر يلزمه حين اشتباه الجهات تحري جهة الكعبة فكذلك العالم بجهة الكعبة يلزمه تحري جهة سمت الكعبة حسب الطاقه وأن كان على وجه التقريب والتخمين وعلى هذه الوراية متى تيامن أو تياسر عن صوب اجتهاده لم تصح صلاته لأنه يغلب على ظنه أنه منحرف عن قبلته فاشبه القريب بخلاف ما إذا توسط الجهة وتحرى نفس البيت. والرواية الثانية: ما ذكره الشيخ رحمه الله أن فرضه اصابة الجهة فلو تيامن أو تياسر شيئا يسيرا ولم يخرج عن الجهة جاز وأكثر الروايات عن أحمد تدل على هذا ولهذا أنكر وجوب الاستدلال بالجدي وقال إنما الحديث ما بين المشرق والمغرب وهذا اختيار الخرقي وجماهير أصحابنا لأن الله سبحانه قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمسجد الحرام اسم للحرم كله وشطره نحوه واتجاهه فعلم أن الواجب تولية الوجه إلى نحو الحرم والنحو هو الجهة بعينها ثم قال بعد ذلك {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} والوجهة الجهة فعلم أن الواجب تولي جهة المسجد الحرام وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث صحيح وروي ذلك من حديث أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي أيضا مسندا من حديث ابن عمر وغيره وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا". وهذا بيان لأن ما سوى التشريق والتغريب استقبال للقبلة أو استدبار لها وهذا خطاب لأهل المدينة ومن كان على سمتهم وقريبا من سمتهم أهل الشام والعراق واليمن ونحوهم دون من كانت إلى الركن الأسود أو الركن الغربي وما يقرب منهما من أهل المشرق والمغرب الذين مساكنهم بين شام الأرض ويمنها على مسامتة مكة وما يقارب ذلك ولأن ذلك اجماع الصحابة رضي الله عنهم قال عمر: "ما بين المشرق والمغرب قبلة كله إلا عند البيت" رواه أبو حفص وذكره أحمد وقال ما بين المشرق والمغرب قبلة إلا عند البيت فهذا لا يكون ثم لأنه يأتم بالبيت كيف دار وأن صلى قريبا من الركن فزال عن الركن قليلا ترك القبلة فمكة غير

البلدان وفي رواية إذا توجهت قبل البيت وروى الأثرم عن عمر وعلي وابن عباس أنهم قالوا ما بين المشرق والمغرب قبلة وعن عثمان أنه قال كيف يخطي الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة ما لم يتحر المشرق عمدا وروى أبو حفص عن ابن عمر قال إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق يعني به أهل العراق ونحوهم. وروى أبو حفص عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام" يعني والله أعلم إذا وجهت وجهك قبله وتجاهه وذلك يحصل باستقبال جهته كما في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي نحوه وتلقاءه واراد أن يبين صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من قصد جهتها وأيضا فانهم اجمعوا على صحة صلاة الصف المستطيل الزائد طوله على سمة الكعبة مع استقامته بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجد كثيرة تصلى كلها إلى جهة واحدة مع أنها يمتنع أن تكون قبلتها على خط مستقيم وهي كلها

على سمت عين الكعبة. فإن قيل مع البعد تحصل المواجهة والمحإذاة لكل واحد مع كثرة المحاذين وطول صفهم لأن المحاذي مع البعد وأن احتاج إلى تقوس وانحناء فهو مع البعد شيء يسير لا يظبط مثله. قلنا لو كان المفروض محإذاة نفس العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة وأن لا يتعمد تركه كما في القريب فمتى سلم جواز تعمد تركه فلا يعني باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك فيرتفع الخلاف وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد فإن البعد إذا طال يكون المستقبل للجهة والعين متقاربين جدا حتى لا يكاد يميز بينهما ومثل هذا يعفى عنه كما عفونا عن سائر الشرائط عما يشق مراعاته مثل يسير النجاسة ويسير العورة والتقدم اليسير بالنية وشبه ذلك فإن الدين ايسر من تكلف هذا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين فيهما أنه قال: "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي".

مسألة: (وان خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين فإن أخطأ فعليه الإعادة وأن خفيت في السفر اجتهد وصلى ولا إعادة عليه وأن اخطا). اما الاستدلال بمحاريب المسلمين فلان أهل الخبرة والعلم بجهة الكعبة نصبوها على ذلك وليس فيها خطأ وأن فرض فهو شيء يسير لا يجب مراعاته مع قولنا باستقبال الجهة. وإذا قلنا يجب استقبال العين فإنه يعفى عن الخطا اليسير مع الجهل. وكذلك إذا أخبره مخبر ثقة بجهة القبلة عن علم فإنه يقبل خبره وذلك لأن الاخبار عن جهة القبلة ونصب المحراب إليها ليس هو من باب الاجتهاد حتى يكون الرجوع إلى المخبر والثاني: فيه الرجوع إلى تقليد مجتهد وإنما هو من باب الاخبار عن الأمور المعلومة لأن أهل الامصار يعلمون الجهات ولا يخفى ذلك على أحد اصحاء السماء ويعلمون أيضا مكة من جهاتهم فصار ذلك كالعلم بدخول الوقت والعلم بطلوع الشمس من بعض الجهات والراجع إلى المخبر بذلك كالراجع إلى المخبر بدخول الوقت عن علم وبطلوع الشمس من جهة من الجهات. فان أخطأ في الحضر بان تبين خطأ المخبر أو كذبه أو فساد بناء المحراب أو غير ذلك فعليه الإعادة في المشهور من المذهب وقد نص عليه أحمد فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة يعيد لأن عليه

أن يسأل وقال القاضي في خلافه ظاهر كلام أحمد حكم المكي وحكم غيره سواء في أنه لا يجب عليه الإعادة فإنه قال في رواية صالح قد تحرى فجعل العلة في الاجزاء وجود التحري وهذا موجود في المكي وغيره وإذا كان هذا في المكي ففي المقيم بسائر الامصار اولى. ووجه المشهور أنه كان قادرا على اليقين فلم يعذر بالجهل وأن جاز له العمل بغالب الظن كمن افطر بخبر انسان عند غروب الشمس ثم تبين أنها طالعة أو صلى بخبره عن دخول الوقت ثم تبين أنه لم يدخل ولقد كان القياس يقتضي انه لا يجوز له العمل بدليل تدخله الشبهة ولو على بعد مع الاقتدار على الاستيقان وإنما جاز لأن احتمال الخطا في ذلك نادر جدا لا يكاد يقع فجعل كالمعدوم فإذا تبين خطأ الدليل لزمته الإعادة في الوقت إلى اخبار المخبر الواحد إذا أمكنه العلم وهذا الباب مثله فعلى ذلك الوجه لا يرجع إلى اخبار واحد بالجهة مع قدرته على اليقين لكن العلم هنا بالجهة لا يمكن بالعيان لمن لم يسافر إلى مكة ويعلم اين هي من بلده وإنما يمكن بالسماع المتواتر وهو مثل العيان ولذلك جاز الرجوع إلى المحاريب. فصل. وأما إذا خفيت في السفر فإنه يجتهد بالاستدلال عليها بالأدلة المنصوبة ولا إعادة عليه وأن تبين له الخطا فيما بعد قال أبو بكر: لا

يختلف قول أبي عبد الله رحمه الله في ذلك. وكذلك أن صلى بتقليد من فرضه ذلك ثم تبين أنه أخطأ فلا إعادة عليه. وذكر الامام أبو بكر الدنيوري صاحب أبي الخطاب أن بعض المتأخرين قال يجب عند الاشتباه أن يصلي أربع صلوات إلى الجهات الاربع وزعم أنه رواية عن أحمد قال الدنيوري وهو قياس المذهب كما إذا كان معه ثياب طاهرة ونجسة قال الدنيوري وهذا صحيح فإنه قادر على اداء فرضه بيقين من غير ضرر يلحقه في بدنه وماله فيلزمه ذلك كما لو نسي صلاته من يوم لا يعلم عينها وذلك لأنه اشتبه الواجب بغيره فوجب فعل ما يتيقن به فعل الواجب وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وكما لو اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو اشتبه الموضع الطاهر من ثوبه بالنجس. وهذا قول شاذ مسبوق الإجماع على خلافه والصواب والمنصوص لأن الله سبحانه قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وهذه الآية تدل على جواز استقبال جميع الجهات نسخ ذلك في حق العالم القادر في صلاة الفرد فيبقى في حق الجاهل بالقبلة والعاجز عن استقبالها لخوف ونحوه في حق المتنفل في السفر لم

ينسخ وهذا لأن الأصل جواز استقبال الوجه إلى جميع الجهات لكن إذا لم يكن بد من الصلاة إلى واحدة منها عين الله سبحانه لنا استقبال أحب الوجوه إليه واوجب ذلك فإذا تعذر ذلك بالجهل وبالعجز سقط هذا الوجوب حينئذ لأن الايجاب حينئذ محال. وأيضا ما روى عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ابيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في ليلة مظلمة فلم يدر اين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما اصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ليس اسناده بذلك لا نعرفه إلا من حديث اشعث السمان واشعث يضعف في الحديث قلت وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن اشعث بن سعيد وعمر بن قيس عن عاصم بن عبيد الله وهو يقوي رواية اشعث ويزيل تفرده به.

وقد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فاصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل احدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يامرنا بالاعادة وقال قد اجزات صلاتكم" رواه الدارقطني وغيره وقال هما ضعيفان. ورواه الباغندي والحسن بن علي المعمري وغيرهما عن أحمد ابن عبيد الله بن الحسن العنبري قال وجدت في كتاب أبي ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطأ وقال بعضنا القبلة ها هنا قبل الجنوب وخطوا خطأ فلما اصبحنا وطلعت الشمس أصبحت

تلك الخطوط لغير القبلة فقدمنا من سفرنا فاتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسالناه عن ذلك فسكت وانزل الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " وهو اسناد مقارب. وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل وهو محفوظ فإن المحدث إذا كان إنما يخاف عليه من سوء حفظه لا من جهة التهمة بالكذب فإذا عضده محدث اخر أو محدثان من جنسه قويت روايته حتى يكاد احيانا يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث لا سيما إذا جاء به محدث اخر عن صحابي اخر فإن تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة بعيد لا يلتفت إليه إلا أن يعارض حديثهم ما هو أصح منه وقد روى أصحاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة فتحروا القبلة وصلوا فمنهم من صلى قبل المشرق ومنهم من صلى قبل المغرب فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا فلما قدموا سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية فهذا وأن لم يكن مما يحتج به منفردا فإنه يشد تلك الروايات ويقويها وقد استدل أحمد بهذه الآية وتاولها على ذلك قال إذا تحرى القبلة ثم صلى فعلم بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة مضت فتأول بعض

قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاينما تولوا فثم وجه الله. وقال في موضع اخر في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد فاينما تولوا فثم وجه الله وهذا دليل على أن الصحابة تأولوها على حال التحري كما ذكرنا ويشبه والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم تلك الليلة وإنما كان قد سراهم سرية فلما اصبحوا لقوه وقد قفلوا من وجوههم ذلك هكذا تدل عليه الروايات. فإن قيل ففي حديث ابن عمر أن هذه الآية نزلت في صلاة التطوع في السفر. قلنا لا منافاة بين هذين فإن الآية الجامعة العامة تنزل في أشياء كثيرة أما أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد وأما أن يتعدد الإنزال أما بتعدد عرض النبي صلى الله عليه وسلم القران على جبريل عليه السلام أو غير ذلك وفي كل مرة تنزل في شيء غير الأول لصلاح لفظها لذلك كله على أن قول الصحابة نزلت الآية في ذلك قد لا يعنون به سبب النزول وإنما يعنون به أنه اريد ذلك المعنى منها وقصد بها وهذا كثير في كلامهم وأيضا فإن المصلي استقبل غير القبلة جاهلا بها جهلا يعذر به فلم تجب عليه الإعادة كاهل قباء فانهم لما بلغهم الخبر في اثناء الصلاة استداروا إلى جهة الكعبة ولم يستانفوا الصلاة إلى الكعبة ولم يامرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاعادة مع أن القبلة كانت قد حولت بعد دخولهم في الصلاة ولا فرق بين عدم العلم

بوجود الاستقبال لتجدد النسخ وعدم العلم بالجهة الواجبة إذا كان في كلا الأمرين معذورا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهذه الدلالة اعتمدها أحمد رضي الله عنه في غير موضع من مسائله. وقد ذكر عن عطاء وقتادة أن النجاشي كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات وقد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعددة فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقي في انفس الناس لأنه كان يصلي إلى غير الكعبة حتى انزل الله هذه الآية وهذا والله أعلم بأنه قد كان بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه ولهذا لم يصل إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى ثم لم يبلغه خبر النسخ لبعد البلاد فعذر بها كما عذر أهل قباء وغيرهم فإن القبلة لما حولت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين ومن كان بارض الحبشة من المهاجرين مثل جعفر وأصحابه ومن كان قد اسلم ممن هو بعيد عن المدينة إلى مدة طويلة أو قصيرة ولم يامر النبي صلى الله عليه وسلم احدا منهم باعادة ما صلاه إلى بيت المقدس قبل علمه بالناسخ وما ذلك إلا لأنه معذور لعدم العلم وأنه كان متمسكا بشريعة فلما لم يبلغه نسخها لم يثبت في حقه حكم النسخ لأن الله لا يكلفه علم الغيب فكذلك من اجتهد واستفرغ وسعه أو عميت عليه الأدلة لا يكلفه الله إلا وسعه ولأن القبلة المعينة تسقط بالعجز حال المسايفة وكذلك بالجهل حال الاشتباه لأن كلاهما معذور في ذلك ولأنه فعل ما أمر به كما أمر به فلم تلزمه الإعادة كالمصلي إلى القبلة وذلك أن السماء إذا اطبقت بالغيوم وهو

في صحراء من الأرض قد عميت عليه سبل الأدلة وانحسمت مسالك الاجتهاد فمن المحال أن يؤمر باستقبال جهة الكعبة. ولأن الطهارة ابلغ من الاستقبال ولو اجتهد في طلب الماء ثم تبين أنه كان مدفونا تحت الأرض التي هو عليها لم تجب عليه الإعادة حيث لم يقصر في الطلب فالمجتهد في القبلة أولى ولهذا حيث اوجبنا الإعادة على من اخل ببعض الشرائط ناسيا أو جاهلا اوجبناها لأنه في مظنة التقصير. فصل. وأما دلائل القبلة فقد جرد الناس التصنيف فيها من أهل الفقه والحساب فإنها تختلف باختلاف البلاد فاهل كل ناحية يخالف وجه استدلالهم وجه استدلال الناحية الأخرى والاشتباه له سببان. أحدهما: أن لا تعرف الجهات لغيم السماء ونحو ذلك ولو علم الجهات لعلم اين مكة منه لعلمه بانها يماني بلده أو شامي بلده ونحو ذلك وهذا هو الاشتباه الذي يعرض كثيرا فمتى قدر هذا على معرفة جهة القبلة فقد اجزاته صلاته وأن قلنا أن الفرض تحري عينها مع القدرة لأنه عاجز عن ذلك في هذه الحالة. الثاني: أن يعلم الجهات لكن لا يدري اين مكة منه فهذا لا يكاد يشتبه عليه جهة القبلة وإنما يشتبه عليه عينها وصلاته أيضا مجزئة إلى الجهة إذا لم يمكنه أكثر من ذلك قولا واحدا وقد يقع هذا كثيرا لمن قرب

من مكة وهو سائر لا يعرف الأرض إذا وقع في طرقات مشيه. والأدلة العامة ثلاثة أصناف سمائية وهوائية وارضية كل منها مبني على مقدمتين. إحداهما: أن يعلم النسبة التي بين مكان الصلاة التي يريد معرفة قبلته وبين الكعبة أن قصدت الاستدلال على العين أو بينه وبين جهة الكعبة أن قصدت الاستدلال على الجهة. والثانية: أن يعلم النسبة التي بين الدليل أو بين الكعبة أو جهتها فإذا علمت هاتين المقدمتين علمت النسبة التي يجب أن يكون المصلي إلى ذلك الدليل. مثال ذلك إذا اردت الاستدلال على قبلة أهل الشام والعراق وما بينهما من الجزيرة فقد علمت أن جهة الكعبة من هؤلاء الجهة اليمانية وأما العين فإن أهل الشام يستقبلون ما بين الركن الشامي والميزاب وأهل العراق يستقبلون ما بين الركن الشامي والباب واهل نجران ونحوهم يستقبلون نفس الركن الشامي والعلم بهذا ونحوه من مسامتات الأرض بعضها بعضا تحريره لأهل الحساب. والمقدمة الثانية العلم بجهة المشرق والمغرب وهذا ظاهر وأما العين فإن تعلم أن القطب يحاذي الركن الشامي ويواجهه وحينئذ تعلم أن الشامي إذا جعل القطب بين اذنه اليسرى ونقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشامي والميزاب وأن العراقي إذا جعل القطب بين اذنه اليمنى ونقرة القفا فقد استقبل قبلته. فأما دلائل السماء فمنها الشمس إذ هي أظهر والاستدلال بها أيسر

فانها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب فمن كانت قبلته الركن الذي يلي الحجر من ناحية المشرق ويسمى الركن الشامي والركن الاخر الذي يلي الحجر الركن الغربي ويسميان جميعا الركنين الشاميين وقد يسمى الأول الركن العراقي والثاني: الركن الشامي وركن الحجر الأسود الركن البصري وأما الركن الرابع: فإنه يسمى اليماني بلا اختلاف في العبارة ويسمى هو وركن الحجر الأسود الركنين اليمانيين فمن كانت قبلته هذا الركن الذي يسمى العراقي والشامي وما يليه من ناحية الباب وما يليه من ناحية الحجر من أهل لمدينة والشام والجزيرة والعراق وخراسان وما وراء هذه البلاد إذا جعلوا المغرب عن ايمانهم والمشرق عن شمائلهم فقد استقبلوا جهة القبلة وفي ذلك جاءت الاثار المتقدمة. قال أبو عبد الله رحمه الله بين المشرق والمغرب قبلة ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء إذا صلى بينهما فصلاته جائزة إلا انا نستحب أن يستقبل القبلة ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره فيكون وسطا من ذلك وأن هو صلى فيما بينهما وكان إلى أحد الشقين اميل فصلاته جائزة إذا كان بين المشرق والمغرب ولم يخرج من بينهما. ومنها القمر فإنه يستدل بطلوعه في النصف الاخر من الشهر فإنه يطلع من المشرق لا سيما اواخر الشهر فإنه يطلع اخر الليل من المشرق وأما النصف الأول فإنه يستدل بغروبه فإنه يغرب في ناحية المغرب لا سيما ليالي الاهلال فإنه يغرب ويطلع في المغرب وليلة السابع: يكون أول الليل

في وسط السماء بين المشرق والمغرب وليلة احدى وعشرين يكون اخر الليل في وسط السماء. ويستدل أيضا باستواء الشمس وقت الزوال لمن يعرفه بزيادة الظل فإنها تكون حينئذ بين المشرق والمغرب والظل بعد يميل إلى جهة المشرق فمتى جعلها على رأسه أو تجاهه والفيء عن يساره كان مستقبلا جهة القبلة وكذلك القمر ليلة سابعة وقت المغرب وليلة احدى وعشرين وقت المشرق يكون في وسط الفلك فمن جعله فوق راسه أو تجاهه فقد استقبل القبلة. فصل. ومنها النجوم قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق في رواية عنه تعلموا من النجوم ما تهتدون في بركم وبحركم ثم امسكوا" رواه حرب. وعن علي رضي الله عنه قال: "أيها الناس اياكم وتعلم النجوم إلا ما

تهتدون بها في ظلمات البر والبحر" رواه أبو حفص ولذلك استحسن أحمد معرفة منازل القمر وأن يتعلم بها كم مضى من الليل وكم بقي وذكر أنه تعلمها من أهل مكة. والنجوم اقسام. إحداها: منازل القمر الثمانية والعشرون فالاستدلال بها كالاستدلال بالشمس والقمر سواء لأنها تطلع من المشرق وتغرب في المغرب وهي السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد الاحبية وسعد السعود والفرع المتقدم والفرع المؤخر وبطن الحوت فمن عرف كل منزل منها بعينه أمكنه الاستدلال بها فإن الاربعة عشر الأول هي شامية تميل في طلوعها إلى جهة الشمال والاربعة عشر الاواخر يمانية تميل في طلوعها إلى ناحية الجنوب ومن عرف المتوسط منها وقت طلوع الفجر وراه متوسطا استدل به كما يستدل بتوسط الشمس والقمر. وأثبت الأدلة على نفس الكعبة القطبان الشمال والجنوبي والقطب الشمالي هو الظاهر في عامة المسكون من الأرض مثل أرض الشام والعراق وخراسان والمشرق ومصر والمغرب وهذان القطبان هما قطبا الفلك المذكور في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

قالوا فلكه مثل فلكة المغزل ويقرب من القطب الشمالي نجم صغير يسميه الفقهاء القطب وهو كوكب خفي يمتحن الناس به ابصارهم يرى إذا لم يكن في السماء قمر وحوله انجم دائرة كفراشة الرحا في أحد طرفيها الفرقدان وفي الاخر الجدي وهو كوكب نير معروف إذا جله المصلي خلفه كان مستقبلا القبلة في الشام والجزيرة العراق وخراسان. وقال أبو عبد الله في غير موضع الجدي يكون على قفاه ويطلع من قبل المشرق وقال أيضا قبلتنا نحن وقبلة أهل المشرق كلهم واهل خراسان الباب وقد قال مرة اخرى وقيل له اين تحب أن يكون الجدي من الإنسان إذا قام إلى القبلة فقال أما الجدي فلم يرد في الجدي شيء إنما يروى إذا جعلت المشرق عن يسارك والمغرب عن يمينك فما بينهما قبلة وقيل له أيضا قبلة أهل بغداد على الجدي فجعل ينكر الجدي وقال ليس الجدي ولكن على حديث ابن عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة ومعنى كلامه هذا أنه لا يجب على المصلي أن يتحرى الجدي ولا القبلة معلقة باستدباره كما يقول من يعتبر استقبال العين وإنما الواجب استقبال الجهة ويكفي في ذلك ما بين المشرق والمغرب لأن السائل كان غرضه أن ذلك كان واجبا فانكر أحمد رضي الله عنه ذلك فأما المستحب فهو تحري الجدي كما نص عليه في موضع اخر لأنه اقوم استقبالا وبه يخرج من الشبهة والخلاف ثم أن أهل الشام ينحرفون إلى

الشرق قليلا فيكون القطب بين الاذن اليسرى وصفحة العنق وكلما امعن في المغرب كان الانحراف أكثر. واهل العراق ينحرفون إلى المغرب أكثر من ذلك فيكون القطب محاذيا لظهر الاذن اليمنى وكلما امعن في المشرق كان الانحراف أكثر وما كان بحران وسميساط وما كان على سمتها بين المشرق والمغرب محاذيا لمكة شرفها الله فإنه يجعل القطب خلف نقرة القفاء ولهذا يقولون اعدل القبل قبلة حران لكون القطب الذي هو أثبت الدلائل وابينها يجعل خلق القفا بلا انحراف فيتيقن اصابة العين لكون البلدة محاذية للركن الشامي بعدها عن المشرق والمغرب كبعد مكة ولهذا يجعل الشام من المغرب حتى فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين" بأنهم أهل الشام ويجعل العراقي من المشرق لأن الأرض إذا قسمت قسمين قسما شرقي مكة وقسما غربي مكة كانت الشام في الجانب الغربي والعراق في الجانب الشرقي وحران وما كان على سمتها على مسامته مكة بين الجانب الشرقي والجانب الغربي فالمستقبل لعين الكعبة في البلاد الشرقية والغربية لا بد له من انحراف وقد لا ينضبط ذلك غاية الضبط لما

في رعايته من الكلفة ولأن قدر الانحراف قد لا يتحقق والا فلا بد لكل بلاد من قبلة معتدلة وأن شق ضبطها وهذا القدر من الإنحراف معفو عنه بالإجماع وأن قلنا يجب استقبال العين. ومتى كان الجدي عاليا والفرقدان تحته أو بالعكس فالقطب بينهما فاستدبارهما كاستدباره وأن كان أحدهما: في المشرق والاخر في المغرب فالقطب بينهما وهو إلى الجدي اقرب وبكل حال فإذا استدبر الجدي أو الفرقدين أو بنات نعش فهو مستقبل للجهة بكل حال وهو كافيه فإذا أراد مراعاة التحديد انحرف إلى ناحية القطب قليلا. فصل. وأما الدلائل الهوائية فهي الرياح ومهابها أربع تخرج من زوايا الأرض الاربعة ويقال أن الكعبة مبنية على مهابها فجدر الكعبة الاربعة مستقبلة لمهاب الريح واركان الكعبة مستقبلة بجهات الأرض الاربعة. احداهن الصبا سميت بذلك لأنها تصبو إلى الكعبة وهي تهب إلى وجهها ما بين مطلع الثريا ومطلع الجدي. والدبور تجاهها تهب إلى دبر الكعبة ما بين مطلع سهيل ومغرب الثريا. والجنوب تهب إلى جانب الكعبة اليماني ما بين مطلع الثريا ومطلع سهيل. والشمال تجاهها ما بين مطلع الجدي ومغرب الثريا فهذه الرياح من عرف خواصها وصفاتها أمكنه أن يستدل بها إذا كان في فضاء من

الأرض حيث تجري الريح على سنها ثم نسبة المصلي إليها تختلف باختلاف مكانه ولهذا تختلف عبارة أصحابنا العراقيين والشاميين وغيرهم في نسبة الرياح والشمس والقمر والجدي إلى المصلي لأن كل قوم وصفوا دلائل قبلة ارضهم خاصة على سبيل التحديد. فصل. وأما دلائل الأرض فقد قال بعض أصحابنا: أن ذلك لا ينضبط انضباطا عاما لكن من كان في موضع قد علم جهات ما فيه من الجبال والأنهار والابنية ونحو ذلك أمكنه الاستدلال. فأما بدون ذلك فإن الجبال والأنهار ليست كلها على وجهة واحدة حتى يحكم عليها بحكم عام. وقال كثير من أصحابنا يستدل بالجبال والأنهار الكبار. اما الجبال فإن لها وجوها يعرفها سكانها ولذلك لكل شيء وجه يعرف بالمشاهدة قالوا ووجوه الجبال جميعها إلى جهة بيت الله سبحانه وتعالى. اما الأنهار فقالوا أكثر الأنهار الكبار التي خلقها الله سبحانه وتعالى لم يحتفرها الناس لاغراضهم تجري من مهب الريح الشمال إلى مهب الريح

الجنوب مثل الفرات ودجلة قالوا إلا نهرين أحدهما: بالشام يسمى العاصي والاخر بخراسان يسمى جيحون يسمى كل واحد منهما المقلوب فإذا كانت هذه الأنهار تجري من يمنة المصلي إلى يسرته وقرب كتفه الايمن من الماء وبعدها اليسرى منه إذا كان الماء امامه وأن كان الماء خلفه فبالعكس فقد استقبل جهة الكعبة والنهران المقلوبات يجعلهما بالعكس جاريين من ميسرته إلى ميمنته وهذا والله أعلم في قبلة أهل العراق وخراسان ومن قاربهم من أهل الشام ونحوهم والا فنيل مصر يجري من الجنوب إلى الشمال ونهر الاردن بالشام يجري إلى ناحية الجنوب وهي ناحية القبلة.

مسألة: (وان اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما: صاحبه وتبع الأعمى والعامي اوثقهما في نفسه). وجملة ذلك أن المجتهد في القبلة هو العالم بدلائلها القادر على الاستدلال بها سواء كان فقيها أو لم يكن. فأما الأعمى أو البصير الذي لا يعلم ادلتها أو يعلمها اسما ووصفا ولا يعلمها عينا فليس بمجتهد سواء كان فقيها أو لم يكن لأن المجتهد في كل فن هو القادر على الاستدلال على مطالبه بسهولة فأما المجتهد ففرضه العمل بما اداه اجتهاده إليه سواء خالفه غيره أو وافقه وسواء كان أعلم منه أو لم يكن وسواء اجتهد أو لم يجتهد إذا كان الوقت متسعا للاجتهاد كما قلنا في المفتي والقاضي وكما في الاجتهاد في امور الدنيا وغيرها. قال أصحابنا: وأن أمكنه أن يتعلم دلائل القبلة ويستدل بها قبل أن يضيق الوقت لزمه ذلك لأنه قادر على التوجه بالاجتهاد فلم يجز له التقليد كالعالم بالأدلة وذلك لأن مؤنة تعلم ادلة القبلة يسيرة لا تشغل الإنسان عن مصالحه فاشبه تعلم الفاتحة وصفة الوضوء وغيرها من فرائض الصلاة بخلاف تعلم ادلة الأحكام الشرعية وطريق الاجتهاد فيها فإن تكليف العامة ذلك يشغلهم عن كثير من مصالحهم التي لا بد منها لهم منها. فان ضاق الوقت عن تعلم الأدلة والاستدلال بها فهو بمنزلة العاجز عن

تعلم الأدلة يقلد غيره فإن تعذر عليه الاجتهاد مع قدرته عليه لكونه محبوسا في ظلمة صار فرضه التقليد بمنزلة المقلد الذي لا يحسن الاستدلال هكذا ذكر القاضي وغيره من أصحابنا وذكروا أن أحمد اوما إليه ومن أصحابنا من قال هذا بمنزلة المقلد الذي لا يجد من يقلده يصلي على حسب حاله. والصواب أن هذا الاطلاق يجب أن يحمل على ما إذا لم يجد من يقلده والا فلا فرق بين المحبوس في ظلمة وبين الأعمى. وان ضاق الوقت عن الجتهاد مع علمه بالأدلة فخاف أن اشتغل به أن يفوته الوقت فإنه يصلي بالتقليد عند جماهير أصحابنا. ومنهم من قال يصلي على حسب حاله وهو كالذي قبله وقال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله بل يجتهد لأن الاجتهاد في حقه شرط صحة الصلاة فلم يسقط بخروج الوقت كسائر الشرائط ولأنه مجتهد لا يجوز له التقليد مع سعة الوقت فلا يجوز له مع ضيقه كالمجتهد في الأحكام الشرعية مفتيا وقاضيا. والأول هو الصواب لأن الصلاة في الوقت بالتقليد خير من الصلاة بعد خروج الوقت بالاجتهاد كمن يقدر على تعلم الأدلة لكن يخاف أن اشتغل بتعلمها فوات الوقت ولأن الصلاة في الوقت الحاضر فرض فلم يجز

تفويتها للاشتغال باسباب الشرائط كمن يعلم أنه يقدر على الماء أو على الثوب بعد الوقت ولأن الاجتهاد ليس هو الشرط وإنما هو الطريق إلى معرفة الشرط فلم يجز تفويت الصلاة بسببه كطلب الماء ولأن التقليد طريق صحيح وهو يدل على الاجتهاد فوجب العمل به عند خشية الفوات كالتيمم عند الماء ولا نسلم أن الاجتهاد هو الشرط كما تقدم ثم ينتقض بمن يعلم أنه يجد الماء بعد الوقت أو تتبين له القبلة أو يجد السترة أو يقدر على إزالة النجاسة بعد الوقت ولأنه لو أدركته الصلاة حال المسايفة وجب عليه أن يصلي في الحال إلى غير القبلة وأن كان بقتاله مجتهدا في الامن الذي يقدر به على استقبال القبلة. فإن قيل أما أن كان زمن الاجتهاد يطول فما ذكرتموه ظاهر أنه قد تقدم أن الشروط كلها متى كان الاشتغال بتحصيلها من أول الوقت تفوت معه الصلاة لم يجز تفويت الصلاة لاجلها وأما أن كان زمن الاجتهاد قريبا مثل رجل استيقظ قبيل طلوع الشمس فقد قلتم في مثل هذا أنه يشتغل باسباب التوضىء واللبس وأن فات الوقت لأن ذلك وقته. قلنا الخلاف في هذه الصورة اقرب والفرق بين القبلة وغيرها أن امرها خفيف يسقط في حال الخوف وفي صلاة التطوع في السفر من غير إعادة بالإجماع ويسقط بالجهل كاهل قباء ومن تحرى فاخطا ولأن المقلد عامل بطريق وأن كان اضعف الطريقين {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وأما المفتي والحاكم فليس للإجتهاد به وقت

محدود في الشرع ولم يتعين على هذا الحاكم والمفتي ومتى تبين له أنه خالف النص نقض حكمه وفتياه ولا يجوز له العمل بخلاف النص في وقت من الاوقات واستقبال الكعبة يسقط بالجهل والعجز من غير إعادة وفي القبلة إذا استوت عنده الجهات صلى إلى أي جهة شاء والعالم إذا استوت عنده الاقوال لم يجز له أن يفتي أو يحكم بشيء وذلك لأن العالم قد أخذ عليه أن لا يقول إلا بعلم والتقليد له طريق إلى العلم الذي أمر به فيسكت كما لو لم يكن مجتهدا والصلاة لا بد له من فعلها أما باجتهاد أو تقليد. وفي الحقيقة لا فرق بين الموضعين لأن الوقت إذا ضاق عن الاجتهاد صار المجتهد كالقاضي في الموضعين والعامي يصلي بالتقليد في الموضعين ويحرم عليه أن يفتي أو يقضي بالتقليد. فصل. وان استوت الجهات كلها في نظر المجتهد لتعارض الأدلة في نظره أو لعدمها بان تكون السماء مطبقة بالغيوم ولا دليل له يستدل به فهذا أيضا كالعاجز عن الاستدلال لكونه محبوسا في ظلمه ونحوه. قال بعض أصحابنا: يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء. وعلى ما ذكره سائر أصحابنا فإنه يقلد غيره أن وجد من يقلده لأن استواء الجهات في نظره تلحقه بالعامي فيقلد كما يقلد العامي

فأما إذا تعذر التحري على المجتهد لاستواء الجهات في نظره أو لكونه ممنوعا من رؤية العلامات أو لضيق الوقت على المشهور أو ضاق الوقت عن التعلم على من يمكنه التعلم وتعذر عليهم التقليد أيضا كالجاهل بدلائل القبلة إذا تعذر عليه التقليد وكالأعمى إذا تعذر عليه التقليد وجماع ذلك أن تستوي الجهات عند المكلف فلا يترجح بعضها على بعض باجتهاد ولا تقليد فهذا يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء ويسقط عنه فرض استقبال جهة معينة هذا هو المذهب. وعلى الوجه الذي ذكره أبو بكر الدينوري عليه أن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات. وعلى المذهب هل يستحب أن يصلي أربع صلوات قال ابن عقيل الاحوط أن يصلي أربع صلوات وظاهر كلام أحمد وأكثر أصحابنا أن هذا لا يستحب بل يعيد قال أبو بكر فيه قولان يعني روايتين. أحدهما: لا يعيد لأنه لم يكلف غير هذا. والثاني: يعيد لأنه دخل في الصلاة بغير دليل ولذلك خرجها القاضي على الروايتين فيمن عدم الماء والتراب وقال ابن حامد أن أخطأ اعاد وأن اصاب فعلى وجهين.

فان قلنا يعيد مطلقا فلأنه ترك المفروض عليه في الاستقبال بعذر نادر غير متصل فاشبه الحائض إذا تركت الصوم ومن عدم الماء والتراب لأنه وأن اصاب فذاك على وجه البحث والاتفاق وذلك لا يكفي. وان قلنا يعيد أن أخطأ فقط فلان المقصود استقبال القبلة وقد حصل وانما يعيد إذا قدر على التحري وصلى بغير تحر وأن اصاب لأنه ترك المفروض عليه وهذا فعل ما أمر به. وان قلنا لا يعيد مطلقا وهو الصحيح وهو الذي يدل عليه كلام أحمد واستدلاله قال في رواية محمد في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد {وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهو الذي تقتضيه اصوله خصوصا في مسائل القبلة. والقولان الاخران بعيدان على المذهب فإن القبلة إذا لم يمكن العلم بها صارت جميع الجهات له قبلة كما نص عليه أحمد ولهذا لم يختلف قوله أنه لا إعادة على المخطىء وذلك لأن الله سبحانه قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد تقدم أنها نزلت في الجاهل بالقبلة والعاجز عنها وكذلك الحديث المذكور ظاهره أن القوم لا يترجح عندهم جهة القبلة فصلى كل رجل على حسب حاله وجميع الأدلة المذكورة في مسألة: (من اجتهد فاخطا يعم هذا الموضع لأن سقوط الاصابة عن المجتهد والمقلد لكونه غير قادر عليها كسقوط

الاجتهاد والتقليد عن العاجز عنهما ولأن القبلة شرط من الشروط فسقط بالجهل به على وجه يعذر به كسائر الشروط والتعليل بالندرة ضعيف كما تقدم وبتقدير صحته فالقبلة اخف من غيرها كما تقدم وسر المسألة ان المصلي إلى أي الجهات توجه فثم وجه الله وقبلته لكنه سبحانه عين اشرف الجهات عند العلم والقدرة فإذا تعذر ذلك استوت الجهات كلها والله سبحانه أعلم هذا فيمن كان بدار الاسلام. فأما من كان بدار الحرب ولا طريق له إلا إلى العلم بالقبلة فقال أبو بكر لا إعادة عليه هنا قولا واحدا بخلاف من هو في دار الاسلام لأن العذر يكثر ويطول في اسارى المسلمين المحبوسين في مطامير الكفار وقصة النجاشي تؤيد هذا. فصل. فان ترك الاجتهاد مع قدرته عليه أو التقليد مع قدرته عليه أو صلى إلى غير الجهة التي أمر من قلده بها فإنه يعيد بكل حال اصاب أو أخطأ في ظاهر المذهب لأنه فعل ما لم يؤمر به فلم تنفعه الاصابة اتفاقا كمن افتى بغير علم أو قضى للناس على جهل أو قال في القران برايه أو شهد بما لا يعلم فإن هؤلاء لا ينفعهم الاصابة في نفس الأمر لأنهم لم يعلموا أنهم مصيبون وعكس هؤلاء من اجتهد فاخطا في قضاه أو فتياه أو حلف على

شيء يظنه كما حلف عليه أو اجتهد أو قلد في القبلة فأخطا فإن الخطأ عن هؤلاء محطوط لأنهم فعلوا ما يقدرون عليه. فصل. وأما الأعمى والجاهل بادلة القبلة الذي لا يمكنه التعلم أو الذي يضيق وقته عن التعلم فإنه إذا اختلف عليه مجتهدان فإنه يتبع اوثقهما عنده علما بدلائل القبلة وورعا في تحريها وذلك واجب عند أكثر أصحابنا فإن قلد المفضول لم تصح صلاته. وقال بعض أصحابنا: يجوز تخريجا على أن للعامي أن يقلد من شاء من المفتين فإن فيه روايتين أشهرهما جوازه لأنه أخذ بدليل يجوز العمل به منفردا فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا فانهما إذا استويا قلد من شاء منهما وحكى الحلواني في هذه المسألة روايتين أيضا وقدم رواية التخيير كالروايتين في الاستفتاء. والأول اقيس لأنه إنما جاز له أن يقلده حال النفراد لعدم المعارض كما يعمل في خبر الواحد والقياس والعموم مع عدم المعارض فإن غلبة الظن بمعرفة المجتهد تزول إذا خالفه من هو أعلم منه ولأن أمر

القبلة مبني على العمل بالأقوى فلم يجز العمل بالاضعف كما لو تعارضت الأدلة عند المجتهد فإنه يجب عليه العمل باقواها وكما لو اخبر المحبوس والأعمى رجلان كل مهما يزعم أنه يخبره عن علم بجهة القبلة واختلفا فإنه يجب عليه أن يعمل باصدقهما واوثقهما ولأنه عمل بالمرجوح فيما لم يبن على التوسعة والرخصة فلم يجز كالعمل بالدلالة الضعيفة. وأما تقليد المفتين فإن ابن عقيل وغيره سووا بينهما في وجوب تقليد اوثقهما في نفسه وهو احدى الروايتين طردا للقياس قالوا لأن الحق في جهة واحدة وعلى المكلف أن يطلبه بأقوى الأدلة في نفسه واقوال المفتين للعامي كالأدلة الخاصة للمجتهد وله نوع اجتهاد فيمن يقلده فكما وجب على المجتهد رايه في ادلة الأحكام أن يتبع أقوى الدلالتين كذلك يجب على المجتهد رايه في اقوال المفتين أن يتبع اوثق القائلين وأكثر أصحابنا جوزوا له تقليد من شاء وهو أشهر الروايتين إذا لم يكن من أحد الجانبين نص ونحوه. ثم أن طائفة من أصحابنا منهم ابن عقيل وأبو بكر الدينوري ذكروا رواية عن أحمد أن كل مجتهد مصيب بناء على اذنه لبعض من استفتاه أن يقلد غيره من المفتين إذا افتاه بخلاف قوله وصنف رجل كتابا سماه كتاب الاختلاف فقال سمه كتاب السعة ولا تسمه كتاب الاختلاف وقال لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه قال ولو كان يعتقد أنهم على خطأ لما دل عليهم وأمر بالاستفتاء لهم وبنى الدينوري على

هذا أن المصلي إلى القبلة باجتهاده مصيب لما عند الله وأن استقبل غير جهة الكعبة وعلى هذا فيظهر تخيير العامي في تقليد من شاء في القبلة وأيضا فلا فرق بل يقال التخيير في القبلة أولى من التخيير بين اعيان المفتين لأن من استوت عنده الجهات صلى إلى حيث شاء ومن تكافات عنده الدلالات امسك عن الفتيا حتى يتبين له الحق وذلك لأن {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ولا يجوز أن يقال أي شيء قلتم فهو حكم الله ولأن التخيير بين الجهات لا تناقض فيه بل هو كالتخيير بين انواع القراءات في التشهد بخلاف التخيير بين اعتقاد التحليل والتحريم ونحو ذلك فإنه متناقض والمنصوص عنه في غير موضع وهو مذهب معروف أن الحق عند الله واحد وعلى المكلف أن يطلبه والمصيب له واحد وليس هذا موضع استقصاء في ذلك ولا ريب أن كون الحق عند الله واحدا في باب الأحكام ابلغ في باب الاستقبال ونحوه لأن المختلفين في القبلة وأن كان يعلم أن بعضهم مستقبل غير القبلة فجعل جهة غير القبلة قبلة أمر معهود في الشرع في حال الخوف والتطوع على الراحلة وهو في هذه الحال مستقبل القبلة التي شرعها الله له ظاهرا وباطنا فكذلك في حال الجهل بها للاشتباه أي جهة ولاها فثم وجه الله بخلاف حكم غير الحكم الذي حكم الله فإنه لا يجوز أن يكون هو حكم الله ظاهرا وباطنا بالنسبة إلى أحد من المكلفين كما هو مقرر في موضعه وأن قلنا هو مصيب في اجتهاده مخطىء بحكم الله أو قلنا هو مخطئ فيهما جميعا لكن الفرق بين التقليد في القبلة والتقليد في الأحكام أن تقليد الاوثق فيه

القبلة ليس فيه عسر ولا حرج إذ الجهات بالنسبة إلى المصلي سواء فيبقى تقليد المرجوح لا وجه له بخلاف الأحكام فإن الزام العامة بقول واحد بعينه في جميع الأحكام فيه عسر وحرج عظيم منفي بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقد جعل اختلاف العلماء رحمة وتوسعة على الأمة وما زال المسلمون في كل عصر ومصر يقلدون من العلماء من علم عندهم بالعلم وقد كان الصحابة يعلمون فضل بعضهم على بعض في بعض انواع العلم ثم لم يقصروا العامة على استفتاء ذلك الافضل في ذلك النوع وأيضا فإنه يجب الرجوع إلى قول اوثق الطبيبين والقائفين والمقومين فكذلك في قول اوثق المجتهدين في القبلة لأنها امكور جزئية ولا يشق تعيين الأقوى منها بخلاف الأحكام الشرعية فإنها كثيرة ومتسعة ولربما كان المفضول في كثير من المسائل اوثق من الفاضل ختلاف المطلوبات فيها والمسألة محتملة. هذا إذا اختلف مجتهدان وعلم اختلافها فأما إذا كانت هناك عدة مجتهدين ولم يدر ايتفقون أم يختلفون. مثل أن يكون في جيش عظيم أو ركب عظيم فهل له أن يقلد من تيسر عليه منهم أم يجب عليه أن يسال اوثقهم لأصحابنا في الاستفتاء وجهان فكذلك يخرج هنا مثله لكن ظاهر كلامهم هنا أن ذلك لا يجب عليه لأنهم قصروا اتباع الاوثق على حال الاختلاف ولأنه لو كان قريبا منه امارة تدل على القبلة جاز له اتباعها ولم يجب عليه أن يقطع مسافة إلى

امارة اخرى لجواز أن تخالفها ولأن الأصل عدم الاختلاف. فصل. وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يجز أن يأتم أحدهما: بصاحبه في المنصوص المشهور ومتى ائتم أحدهما: بالاخر فصلاة الماموم باطلة وفي صلاة الامام وجهان. وقال بعض أصحابنا: قياس المذهب جوازه كما لو ائتم بمن يخالف اجتهاده في بعض شروط الصلاة كمن يصلي خلف من يصلي في جلود السباع فإنه تصح صلاته في المنصوص عنه ولأن خطأ الامام هنا لا يمنع صحة الصلاة ظاهرا ولا باطنا لأن الامام لا يعيد إذا تبين له الخطا بخلاف ما لو اعتقد الماموم أن الامام محدث. ووجه الأول ما تقدم من الحديث المذكور فإن الصحابة ضوان الله عليهم حينئذ صلى كل واحد منهم على حدته ولم يصلوا جماعة واحدة ولو كان ذلك جائزا لفعلوا لأن الجماعة واجبة أو سنة مؤكدة ولأن الماموم يعتقد أن الامام يترك شرطا من شرائط الصلاة للعجز عنه فاشبه ما لو كان الامام عاريا أو محدثا وعدم الماء والتراب أو مربوطا إلى غير القبلة أو حاملا لنجاسة لا يقدر على إزالتها أو اميا أو اقطع وأيضا فإنه هنا يتيقن أن

صلاته اشتملت على ترك استقبال القبلة وكل صلاة تيقن أنه ترك فيها استقبال القبلة فهي باطلة لأنه أن كان هو المصيب فصلاته مبنية على صلاة امامه وصلاة امامه على هذا التقدير إلى غير القبلة فتكون صلاته إلى غير القبلة مع القدرة على ترك ذلك. وان كان امامه هو المصيب فصلاته هو إلى غير القبلة وبهذا يظهر فقه المسألة فان العفو عما يجوز أن يكون صوابا أو خطأ إذا ضم إليه ما يتيقن باجتماعهما حصول الخطا لم يحصل العفو عنهما جميعا كما لو احدث أحد رجلين ولم يعلم عينه وقلنا لكل منهما أن يصلي فليس لأحدهما: أن يأتم بالاخر وكما لو قال رجل أن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر وقال اخر أن لم يكن غرابا فعبدي حر فإذا اجتمع العبدان في ملك واحد حكمنا بعتق أحدهما وبهذا يظهر الفرق بينه وبينما إذا ترك الامام ما يعتقده الماموم ركنا أو شرطا لأنه لا يتيقن اشتمال الصلاتين على مبطل لجواز أن يكون اعتقاد امامه صوابا وحينئذ فتكون صلاة الامام صحيحة في الباطن وكذلك صلاته لأنه لم يترك شيئا ومجرد اعتقاد ايمانه لا يؤثر في صلاته نعم نظير مسألة القبلة أن يفعل أحدهما: شيئا ويتركه الاخر وهو عند أحدهما واجب فعله وعند الاخر مبطل فإنه هنا أن كان واجبا فقد تركه أحدهما: وأن كان مبطلا فقد فعله أحدهما: فالصلاة مشتملة على ترك واجب أو فعل محرم بيقين على أن القياس على مسائل الاجتهاد الفقهية قد فرق بينهما إذا سلم بما تقدم في التي قبلها وذلك أن مسائل الاجتهاد إذا لم يخالف الرجل فيها كتابا ولا سنة ولا اجماعا فإنه لا ينقض حكمه ولا حكم بخطاه ولا يحكم ببطلان صلاته ولا ينهى عن

استفتائه ولا ينهاه أن يعمل باجتهاده بل قد يؤمر باستفتائه أما لأن الحكم يختلف باختلاف الاجتهادات كما يقوله من يعتقد كل مجتهد مصييب ولأن الناس لم يكلفوا إلا ما يقتضيه رأيهم وأن كان في الباطن أشبه كما يقول أصحاب الشبه أو لم يكلفوا إلا طلب ما هو الحق في الباطن سواء اصابوه أو اخطاوه وقد عفي عنهم إذا اخطاوه. أو لأنه وأن كان مخطئا في اجتهاده وحكمه فإن الله تعالى رفع الحرج فيها عن المخطىء وجعل له اجرا على اجتهاده اقرارا لكل ذي راي على رأيه مع أن الحق عند الله واحد بخفاء مدركها وخفة امرها ومشقة اصابة الحق فيها وعموم الرحمة والمصلحة في تيسير ذلك وتفاقم الفساد من هدم بعض الاجتهادات ببعض وهذان القولان هما اللذان يقولهما أصحابنا وأن كان الأول قد حكي في المذهب أيضا وهذا الواقع في احكام الشريعة لا يلزم مثله في قبله يقع في الدهور مرة ولا يلزم العفو فيما تعم به البلوى العفو عما لا تعم به البلوى. فان اتفقا على الجهة واختلفا في العين فقال أحدهما: تنحرف يمينا وقال الآخر تنحرف شمالا فقال القاضي في الجامع أن قلنا المطلوب العين لم يجز له أن يتبعه وأن قلنا المطلوب الجهة وهو الصحيح من قوله جاز له أن يتبعه وقال في المجرد وغيره من أصحابنا من يجوز الائتمام هنا مطلقا وهذا أصح لانا أن قلنا المطلوب العين فإن الانحراف اليسير مع الخطا معفو عنه بكل حال بالإجماع والصلاة إلى قبلة واحدة في مثل هذه الحال.

فصل. إذا صلى بالاجتهاد ثم تبين له في اثناء الصلاة أن جهة القبلة خلاف ذلك عن يقين استقبل القبلة ويبني على صلاته كاهل قباء لأن أولى صلاته كانت صحيحه ظاهرا وباطنا فهو كالعاري إذا وجد السترة في اثناء صلاته. وان تبين له ذلك باجتهاد انحرف إلى الجهة التي تبين له أنها القبلة نص عليه وهو قول أكثر الأصحاب وقال ابن أبي موسى والآمدي وغيرهما يبنى على صلاته لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. والأول أصح لاننا لا ننقض الاجتهاد الأول وإنما نامر أن يتم الصلاة إلى الجهة الأخرى كما لو علم القبلة يقينا وهذا ممكن هنا دون القضايا والفتاوى فإن ذلك لا يمكن فيها إلا في حادثتين ثم أن كان امام فارقه المامومون إذا لم يتغير اجتهادهم واتموا جماعة وفرادى. وان كان ماموما فارق امامه وبنى ولم يبق اجتهاده إلى تلك الجهة ولم يؤده اجتهاده إلى جهة اخرى وبنى على جهته لأنه لم يتبين له خطاه وقد دخل دخولا صحيحا. وان صلى بتقليد ثم أخبره في اثناء صلاته مخبر أن القبلة في جهة اخرى فإن كان الثاني ممن لا يقبل خبره ولا اجتهاده أو أخبره باجتهاده وهو عنده مثل الأول لم ينصرف عن قبلته وأن كان الأول أخبره باجتهاده والثاني: عن علم انحرف إلى الجهة التي أخبره بها وأن كان الثاني أخبره

باجتهاد وهو اوثق من الأول فهو كما لو تغير اجتهاده وهو من أهل الاجتهاد فهل ينحرف على وجهين فصل. وإذا صلى بالاجتهاد ثم حضر صلاة اخرى جدد الاجتهاد فإن تغير اجتهاده صلى بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول كالمفتي والحاكم يجدد اجتهاده في قضاياه وفتاويه والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد لأنه لم يتيقن الخطا فيما فعله اولا مع أنه لو يتيقن ذلك في القبلة لم يعد فاولى أن لا يعيد مع استمرار الشك في الجملة. فصل. ولا يتبع دلالة مشرك بحال مثل أن يدخل بلدا فيه محاريب هل هي بناء المسلمين أو المشركين أو يخبره الكفار أنها مبنية إلى القبلة ونحو ذلك. ولو رأى على المحراب اثار المسلمين وهو في بلد كفار أو في بلد خراب لا يعلم هل هو بلد مسلم أو كافر لم يصل إليه لإحتمال أن يكون الباني له كافرا مستهزئا غارا للمسلمين إلا أن يكون مما يعلم أنه من

محاريب المسلمين. قال بعض أصحابنا: لو علم قبلة الكفار فله أن يستدل بها على قبلة المسلمين مثل أن يرى قبلة النصارى في كنائسهم وقد علم أنهم يصلون إلى الشرق فإنه يستدل بها على القبلة فيجعله عن يساره وأن كانت هذه قبلته لأن خبرهم عن قبلتهم بمنزلة التواتر وهم لا يتهمون فيه.

الشرط السادس: النية

مسألة: (الشرط السادس: النية للصلاة بعينها). النية لها ركنان. أحدهما: أن ينوي العبادة والعمل. والثاني: أن ينوي المعبود المعمول له فهو المقصود بذلك العمل والمراد به الذي عمل العمل من اجله كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فميز صلى الله عليه وسلم بين من كان عمله لله ومن كان عمله لمال أو نكاح والذي يجب أن يكون العمل له هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإن هذه النية فرض في جميع العبادات بل هذه النية أصل جميع الاعمال ومنزلتها منها منزلة القلب من البدن ولا بد في جميع العبادات أن تكون خالصة لله سبحانه كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ إلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أن أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وقال

تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} وقال سبحانه: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} في عدة مواضع وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وهذه الآيات كما دلت على فرض العبادة ففرضت العبادة وأن تكون لله خالصة وهذه حقيقة الاسلام وما في القران من قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالآنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى غير ذلك من الآيات كلها تدل على هذا الأصل بل جماع مقصود الكتاب والرسالة هو هذا وهو معنى قول لا اله إلا الله وهو دين الله الذي بعث به جميع المرسلين. وضد هذه النية الرياء والسمعة وهو ارادة أن يرى الناس عمله وأن يسمعوا ذكره وهؤلاء الذين ذمهم الله تعالى في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} وقال: {وَإِذَا قَامُوا إلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} ومن صلى بهذه النية فعمله باطل يجعله الله هباء منثورا وكذلك من ادى شيئا من الفرائض. والكلام في هذه النية وتفاصيلها لا يختص بعبادة دون عبادة إذ الفعل بدون هذه النية ليس عبادة اصلا. الركن الثاني: أن ينوي ما تتميز به عبادة عن عبادة فينوي الصلاة لتتميز عن سائر اجناس العبادات وينوي صلاة الظهر مثلا لتتميز عن صلوات سائر الاوقات وهكذا في كل ما يميز تلك العبادة من غيرها سواء كانت مفروضة أم مستحبة وهذه النية هي التي يتكلم عليها في هذه المواضع إذ الكلام هنا في فروع الدين وشرائعه وتلك النية متعلقة باصل الدين وجماعه والفقه في شرائع الدين وفروعه إنما هو بعد تحقيق اصوله إذ الفروع كمال الأصول واتمامها. إذا تبين هذا فيجب على المصلي أن ينوي الفعل وهو الصلاة ليتميز قيامه عن قام العادة وكذلك سائر افعاله. ويجب أن يعين الصلاة مثل أن ينوي صلاة الظهر أو العصر أن كانت ظهرا أو عصرا ونحو ذلك هذا ظاهر المذهب.

وعنه ما يدل على أنه يكفيه نية مطلقة إذا تعذر تعيين الصلاة وأمكن الاكتفاء بنية مطلقة بان ينوي فرض الوقت أو تكون عليه فائتة رباعية أما الظهر وأما العصر ينوي الواجب عليه كما قلنا في الزكاة. والأول المذهب لأن مقصود كل صلاة واسمها ووقتها يخالف الأخرى فلا بد من تمييزها بالنية. ولهذا لو كانت عليه فوائت فصلى رباعية ينويها عما عليه لم يجزه اجماعا ولو كانت عليه شياه عن ذود وغنم أو صيعان من طعام من صدقة فطر وعشر فاخرج شاة أو صاعا مما عليه أجزاه لأن الواجب ثم لم يختلف اسمه ولا مقصوده وإنما اختلف سبب وجوبه فإن مواقيت الصلاة حدود للصلوات صارت صفات لها فالعبادة المفعولة على غير ذلك الحد والصفة لا تسد مسدها معها كالبعير بالنسبة إلى البقرة ولهذا كانت الصلوات الخمس لا بد أن تخالف كل صلاة الأخرى في بعض واجباتها أو في بعض مستحباتها كما خالفتها في الوقت. فصل. وهل يجب عليه في المكتوبة أنها فرض على وجهين. أحدهما: يجب عليه قاله ابن حامد لأن الظهر قد تكون نفلا كظهر الصبي والظهر المعادة وكما لو صلى الظهر اولا تطوعا قبل أن يصلي

المكتوبة. والثاني: لا يجب وهو قول الأكثرين لأن الظهر المطلق ممن في ذمته ظهر لا يقع إلا فرضا فإذا نوى الظهر واطلق لم تكن إلا فرضا كما أن الزكاة المطلقة لما لم تقع إلا فرضا لم يجب أن ينوي الفرض وكذلك الوضوء من الحدث وغسل الميت وغسل الجنابة وأن كان مع التقييد قد تكون الزكاة نافلة كما يقال زكاة الحلي عاريته وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة اوسق صدقة إلا أن يشاء ربها" وكما قد يستحب له إخراج الزكاة في مواضع تذكر أن شاء الله تعالى في مواضعها. وسبب ذلك أن نية صفات العبادة تندرج في نية العبادة فإذا نوى الظهر اندرج في ذلك أربع ركعات وانها واجبة ونحو ذلك إذا كانت تلك العبادة لا تقع إلا على تلك الصفة أو تنصرف عند الاطلاق إلى تلك الصفة وعلل القاضي وغيره من أصحابنا ذلك بان الظهر الأولى من المكلف لا تقع إلا فرضا فلم يحتمل الفعل وجهين لتميز النية بينهما إلا أن هذا يشكل بمن نوى ظهرا تطوعا قبل المكتوبة كما حملوا عليه حديث معاذ بن جبل فانهم قالوا كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم تطوعا ثم يصلي بقومه المكتوبة وهذا جائز بل مستحب إذا كان لغرض صحيح مثل أن

يكون امام مسجد راتب فتقام الصلاة اولا في غير مسجده فيصلي الظهر معهم والتعليل بالاطلاق اجود. فأما نية الوجوب في ابعاض الصلاة مثل أن ينوي وجوب قراءة الفاتحة ووجوب الركوع والسجود ونحو ذلك فلا يجب بل يكفي أن ياتي بالواجبات مع اعتقاد وجوب الصلاة في الجملة هكذا ذكره أصحابنا لأن تمييز الواجبات من غيرها إنما يدرك بالظن في كثير من المواضع وفيه من الخلاف والاشتباه ما لا خفاء به فلو كانت هذه النية واجبة لكان لا يصلي أحد صلاة متيقنة الصحة ولا صلاة مجمعا على صحتها ولأن ذلك لو كان واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا قاطعا للعذر كما بين لهم وجوب الصلوات الخمس دون غيرها فلما لم يكن ذلك علم أن هذا ليس واجبا. فصل. وهل يحتاج أن ينوي في الحاضرة أنها الحاضرة أو المؤداة أو فرض الوقت وينوي في الفائتة أنها الفائتة أو المقضية أو فرض الوقت الفائت على ثلاثة أوجه. أحدها: يجب عليه لأن احكام الفائتة تخالف احكام الحاضرة فإنها واجبة في وقت محدود يقتل بتركها ويحرم تأخيرها عن وقتها اجماعا ويشرع لها من الآذان والاجتماع وغير ذلك ما لا يشرع للفائتة وبنى

القاضي هذا الوجه على قول من لا يجيز ائتمام المؤدي بالقاضي فعلى هذا لو كان عليه ظهران فائتة وحاضرة فصلى ظهرا مطلقة لم تجزه عن واحدة منهما وأن لم يكن عليه إلا ظهرا فائتة أو حاضرة وصلى ظهرا لم يخطر بقلبه هل هي صلاة الوقت الحاضرة أو صلاة الوقت الفائتة لم يجزه. والثاني: لا يجب ذلك بناء على أنهما صلاتان من جنس واحد ولهذا جوز اقتداء المؤدي بالقاضي من لم يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل ولأن حاصل ذلك يرجع إلى تعيين الوقت وهو غير واجب لأنه لو كان عليه فائتة لم يحتج أن ينوي يومها اتفاقا وكذلك لو كان عليه فائتتان من جنس كفاه أن يصلي إحداهما: ينوي أنها السابقة وأن لم يعين يومها فعلى هذا يجزئه في الصورة الثانية ويجزئه في الصورة الأولى ويقع عن الفائتة إذا كان ذاكرا لها لأن فعلها قبل الحاضرة واجب إلا أن يكون الوقت قد ضاق فيقع عن الحاضرة. والوجه الثالث: تعتبر النية للفائتة دون الحاضرة لأن وقت الحاضرة يوجب انصراف النية إليها وأن جاز أن يفعل غيرها بخلاف الفائتة. فأما أن نوى ظهر يومه معتقدا بقاء الوقت فتبين فواته أو معتقدا فواته فتبين بقاؤه أو غير معتقد شيئا ناويا ظهر يومه من غير أن يخطر بقلبه وصف القضاء أو الاداء أجزاه قولا واحدا وكذلك لو نوى الظهر التي عليه قبل اليوم في الفائتة وشبه ذلك لأنه قد عين الصلاة التي وجبت عليه في وجه

لا تشتبه بغيرها وذلك كاف فإن نية القضاء والاداء تلزم ذلك وكل صفة لازمة لما نواه لا يجب أن ينويها. ولهذا قلنا لا يجب أن ينوي كونها أربع ركعات إذا كانت حاضرة ولا أن ينوي وصف الاداء إذا قصد فعلها في وقتها ولا أن ينوي وصف القضاء إذا قصد فعلها بعد خروج وقتها قولا واحدا لأن ذلك تابع لازم لما نواه. ولو كان عليه ظهران فائتة وحاضرة فصلاهما ثم ذكر أنه ترك شرطا من إحداهما: لا يعلم عينها اجزاته صلاة واحدة ينوي بها ما عليه على الوجه الثاني: وعلى الأول والثالث: تلزمه صلاتان. ولو كانتا فائتتين اجزاته صلاة واحدة قولا واحدا. وعلى الاقوال الثلاثة إذا نوى صلاة بعينها اداء أو قضاء لم تجزه عن غيرها مثل أن ينوي ظهرا حاضرا وتكون عليه فائتة فإنه لا يجزئه عن الفائتة أو ينوي ظهر امس يعتقد أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه فإنها لا تجزئه ظهر اليوم سواء كانت فائتة أو حاضرة. ومن أصحابنا من خرج وجها بالاجزاء الغاء لوصف التعيين كما الغينا وصف القضاء والاداء عند الاشتباه لأنهما من جنس واحد وهذا ضعيف لأن هذا نوى الصلاة لم تكن عليه فكيف تجزئه عما هو عليه خلاف وصف القضاء والاداء فإنه لا يخل بعين المكتوبة ولأنه لم يقصد

امتثال الأمر فيما يحكيه فيبقى في عهدته ولأنه لا يلزم من انصراف النية إليه عند الاطلاق انصرافها إليه إذا نوى غيرها كنية الفريضة ولأنه لو اخرج زكاة ماله الغائب فبان تالفا لم يجزه عن الحاضر ولو كفر عن يمين عينه بنيته ثم بان أنه لم يحنث لم يجزه عن يمين اخرى إذا كان الواجب عليه كفارتين ففي الصلاة أولى ولو كان عليه فائدتان من جنس فنوى إحداهما: لا بعينها أجزاه في أحد الوجهين لاتحاد الجنس كالزكوات والكفارات وهذا اختيار الآمدي وغيره. وفي الاخر لا تجزئه حتى ينوي الأولى منهما لأن الترتيب شرط وهو قادر عليه. فصل. ولا يستحب أن يقصد في نيته أو لفظه نية اليوم الذي يصلي فيه ولا استقبال القبلة ذكره الآمدي وكذلك نية العدد أن كان مقيما أو مسافرا لأن هذا من شرط صحة الصلاة فلو شرع ذكره لشرع ذكر جميع الشرائط والأركان ولان المصلي وأن كان ينقسم إلى مستقبل وغيره كالخائف ونحوه والصلاة وأن كانت تنقسم إلى رباعية كصلاة المقيم وثنائية كصلاة المسافر فإن

الحالة التي هو عليها تميز بين الواجب عليه وغيره وتميز بين الواقع وغيره. فصل. والمنذورة كالمكتوبة في افتقارها إلى التعيين وإلى نية القضاء والاداء أن كانت كذلك عند من يقول به. فأما التطوع فإن كان مقيدا لوقت أو سبب كالسنن الرواتب والضحى وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح فإنه يفتقر إلى التعيين وإلى نية القضاء أو الاداء عند من يقول به وكذلك تفتقر صلاة العيد والجنازة إلى نية الفرض على الكفاية عند من يقول باشتراط نية الفرضية فيما ذكره بعد أصحابنا.

مسألة: (ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها). لا نعلم خلافا في المذهب أنه يجوز أن تتقدم النية على التكبير ويكفي استصحاب حكمها لأن التكبير جزء من اجزاء الصلاة فجاز أن تكون النية مستصحبة فيه حكما وأن لم تكن مذكورة كسائر اجزاء الصلاة ولأن ايجاب مقارنة النية للتكبير يعسر ويشق على كثير من الناس ويفتح باب الوسواس المخرج لهم عن الصلاة إلى العبث واللغو من القول. ولأن المقصود بالنية تمييز عمل عن عمل وهذا يحصل بالنية المقترنة والمتقدمة ولأن المعروف من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يكبرون بيسر وسهولة من غير تعمق وتكلف وتعسير وتصعيب ولو كانت المقرانة واجبة لاحتاجوا إلى ذلك ولأن المصلي يحتاج أن ينوي الصلاة وعينها ووقتها وكونها فرضا عند من يقول بذلك وحضور هذه الارادات فيي قلبه لا يكون إلا في زمن فإن أراد احضار هذه الارادات في قلبه عند أول حرف من التكبير لم يمكن ذلك وأن بسط هذه الارادات على حروف التكبير خلى أول التكبير عن تمام النية الواجبة ولم يقارن اخره لبعض النية فعلم أن مقارنة النية المعتبرة للتكبير أو لبعض اجزائه محال وإنما الممكن ايقاع التكبير عقب النية المعتبرة فعلم أن الموجود حال التكبير حكم النية المعتبر ذكرها وإذا كان حكمها كافيا فلا فرق فيه بين التقدم والتأخر ولأن التكبير كلام له معنى فلا بد أن يتدبره ويتصوره ويفهمه لأنه لم يتعبد بلفظ

لا يتدبر معناه بل أكثر المقصود فهمه وتصوره وذلك إنما يكون حال النطق باللسان فلو كلف أن يحضر بقلبه ارادة تلك الامور حينئذ لم يمكن ذلك فعلم أنه حين التكلم إنما يستحضر معنى التكبير ونحوه من الاقوال وأن النية المعتبرة لذلك القول لا بد أن تسبقه سواء كان بينهما فعل أو لم يكن. إذا تبين ذلك فقال كثير من أصحابنا إنما يجوز تقديمها بالزمن اليسير لأن ذلك هو الذي تدعو الحاجة إليه ولأن النية مرتبطة بالمنوي ارتباط القبول بالايجاب وارتباط ما يوصل بالكلام من الاستثناء ونحوه به فلا بد أن يتقارب ما بينهما من الزمن لأن طول الفصل يقطع الارتباط. وقال الخرقي وأن تقدمت النية قبل التكبير وبعد دخول الوقت ما لم يفسخها أجزاه وهذا كالنص في جواز التقديم بعد دخول الوقت وحمل القاضي وغيره ذلك على التقديم بالزمن اليسير. والصواب اقراره على ظاهره وقد صرح أبو الحسن الآمدي بمثل ذلك فقال يجوز تقديم النية على الصلاة بالزمن الكثير كما يجوز بالزمن اليسير ما لم يفسخها لأنه إذا لم يفسخها لا يزال له فسخها فهو مستصحب بحكمها. والمنصوص عن أحمد يشبه ذلك فإنه سئل عن الذي يخرج من بيته يوم الجمعة ينوي قال خروجه من بيته نية وقال إذا خرج الرجل من بيته

فهو نيته افتراه كبر وهو لا ينوي الصلاة. ووجه ذلك أنها عبادة مؤقتة فجاز تقديمها في أول الوقت المضاف إليها كالصوم واولى لأن الصلاة تجب باول وقتها والصوم إذا غربت الشمس فإنما تدخل الليلة المضافة إلى اليوم ولأنه إذا نوى من حين الوجوب فقد قصد امتثال الأمر بعد توجهه إليه ولم يفسخ هذا القصد فكان قصدا صحيحا كالمقارن ولأن من اصلنا أن ما يتقدم العقود من الشروط والصفات فإن العقد يقع على موجبه ما لم يفسخه المتعاقد أن فكذلك ما يتقدم عقود العبادات واولى فإنه إذا لم يكن فرق بين الشرط المقترن بالعقد والمتقدم عليه بزمن طويل أو قصير إذا لم يفسخ ذلك الشرط فكذلك لا فرق بين القصد المقترن بفعل العبادة والمتقدم عليها لأن بقاء القصد هنا ثابت بلاريب وهناك بقاء الحكم المشروط قد يرجع عنه أحد المتعاقدين لأن حكم الارادات المعتقدة لا يزول إلا بفسخ تلك الاعقادات بل يترتب عليها الثواب والعقاب في كل وقت كما أن حكم المعلوم المعتقد كذلك ولذلك يوصف الرجل بالاعتقاد للعلم والاعتقاد للعمل حتى يقال هو محب ومبغض وعالم ونحو ذلك مع غروب هذه الأشياء عن قلبه إذا لم ينفسخ وإذا لم يزل حكمها فيجب اعتباره. فصل. قال القاضي وغيره ويستحب أن تقارن النية التكبير ذكرا إلى آخر جزء

منه بان ينوي قبل التكبير ما يريده من الصلاة ويديم استحضار ذلك في قلبه إلى اخر التكبير ليخرج بذلك من الاختلاف ولأنه يستحب له اصطحاب ذكر النية إلى اخر الصلاة فاصطحابه إلى اخر التكبير أولى وليس لهذا أصل في كلام أحمد وأكثر أصحابه وكلام بعضهم يدل على أنه إنما يستحب له اصطحاب ذكر النية إلى حين التكبير وهذا هو المقارنة المستحبة على هذا القول لأنه بعد ذلك ينبغي أن يشتغل بالتكبير وتدبره وفي ذلك شغل عن غيره وكذلك اصطحاب ذكر النية المعتبرة في جميع الصلاة لا يؤمر به على هذا لأن الصلاة فيها ذكر مشروع في جميعها من قراءة وتكبير وتسبيح ودعاء وغير ذلك ففي تدبره شغل عن تصور غيره ولانا قد بينا أن استحضار النية حين النطق بالتكبير بغيره من الاذكار متعذر أو متعسر فيجب تقديم استحضار معنى التكبير لثلاثة أوجه. أحدها: أنه هو المقصود وإنما النية وسيلة اليه. الثاني: أن استحضار معناه لا يتقدم النطق به ولا يتأخر عنه فإن معنى اللفظ مقارن له بخلاف النية فإن تقدمها واجب لأن ارادة القول والفعل لا بد أن تسبق المراد. الثالث: أن الكلام إذا لم يتصور معناه ولم يتدبره كان لفظا بلا معنى وذلك تشبيه له بالمهمل وإخراج له عن حقيقته حتى يصير كجسد لا روح فيه وأما النية فإن استحضارها عند ارادة التكبير كاف وهذا الكلام إنما يرد إذا كانت العبادة قولا من الاقوال كالتكبير فأما إذا كانت فعلا كالوضوء والغسل فإن استدامة ذكر النية في أول جزء من الفعل سهل متيسر لأن استحضار النية لا يشغل عن الفعل وقد يقوى القلب عن استحضار النية

مع استحضار معنى القول في حالة واحدة لكن هذا يكون في قليل من الناس. فإن قيل فقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وهذا يقتضي وجود الاخلاص حين العبادة لأن الحال في الأمر يجب أن تكون مقارنة للفعل العامل فيها. قلنا اولا هذا في نية الاخلاص لا في نية العمل المييزة له عن غيره وهما نيتان كما تقدم لأن هذه حقيقة المقصود وتلك تكملة له. وثانيا أن النية المستصحبة حكما نية صحيحة وبها يكون الإنسان مخلصا وناويا بدليل الإجماع على جواز الذهول عن ذكر النية في اثناء الصلاة. فصل. ومحل النية القلب فلو تلفظ بخلاف ما نواه فالاعتبار بما نواه لا بما لفظ به لأن الفظ النية ليس من الصلاة. وان لفظ بما نواه فقال القاضي وخلائق من أصحابنا هو اوكد وافضل ليجمع بين القلب واللسان وقال ابن عقيل أن كان ممن يعتريه الوسواس ولا تحصل له نية بقلبه إلا أن يستنهضها بلسانه فعل ذلك

لأن عليه تحصيل العقد باي شيء يحصل له كما يجب عليه تحصيل الماء بالشراء والسعي إليه إذا بعد واستعاره إذا كان في قعر بئر وغير ذلك من التسبب إلى العبادات وقد قال أحمد في رواية أبو داود وسأله هو قبل التكبير تقول شيئا قال لا وحمله بعض أصحابنا على أنه ليس قبل التكبير ذكر مشروع وكلام أحمد عام في الذكر واللفظ بالنية وذلك لأن النية محض عمل القلب فلم يشرع اظهارها باللسان لقوله سبحانه: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وفاعل ذلك يعلم الله بدينه الذي في قلبه ولهذا قال العلماء في قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لم يقولوه بالسنتهم وإنما علمه الله من قلوبهم ولهذا لم يستحبوا أن يتلفظ بنية الاخلاص. ولأن التلفظ بذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن أحد من التابعين لهم باحسان ومعلوم أن ذلك لو كان مستحبا لفعلوه وعلموه وامروا به ولو كان ذلك لنقل كما نقل سائر الاذكار وإذا لم يكن كذلك كان من محدثات الامور ولأن النية مشروعة في جميع الواجبات والمستحبات

بل يستحب أن تكون جميع حركات العبد وسكناته بنية صالحة فلو كان اللفظ بها مستحبا لاستحب لمن يشيع جنازة أن يقول اتبعها ايمانا واحتسابا ولمن جاهد في سبيل الله أن يقول نويت بجهادي أن تكون كلمة الله هي العليا وإذا انفق نفقة أن يقول ابتغي بهذه النفقة وجه الله إلى سائر الاعمال ومعلوم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين والتابعين لم يكونوا يتكلمون بهذه النيات مع وجودها في قلوبهم ولأن حصول النية في القلب أمر ضروري للفعل حتى لو أراد أن يفعله بلا نية لم يمكن. وإذا حضرت النية فلو عبر عنها بما يدل على خلافها لم يؤثر ذلك لأنها مما يعرض للقلب بمنزلة الفرح والحزن والحب والبغض والرضى والسخط والشهوة والنفرة ومعلوم أن قصد تحقيق هذه الأشياء بالتعبير عنها قبيح ولأن ذلك تكثير لكلام لا أصل له وفتح لباب اللغو من القول فكان حسمه أولى والقول في الطهارة والصيام مثل هذا. فإن قيل قد استحببتم أن يتكلم بما ينوي في الحج وقد نص أحمد على ذلك وروي عن جماعة من السلف. قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه. أحدهما: أن التكلم في الحج ماثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ومأثور عن الصحابة والتابعين قبل التلبية وفي اثناء التلبية. الثاني أن الحج ليس في اوله ذكر واجب عند أصحابنا ولا له حد من الافعال الظاهرة يدخل به فيه فاستحب أن يتكلم بالنية ليبين أول الاحرام. الثالث: أن أكثر الناس لا يعلمون ما يقصدون بالاحرام حتى يتكلموا به بخلاف الصلاة والصوم فإن المقصود معلوم لهم والنية تتبع العلم وبكل

حال فلا يستحب الجهر بشيء من اللفظ بالنية بل يكره الجهر به في الامام والمأموم كدعاء الاستفتاح وتسبيح الركوع والسجود واولى. فصل. إذا قطع النية في الصلاة بطلت لفوات اصطحاب النية لأن جزءا من الصلاة خلا عن النية فلم يصح بدون النية ومتى بطل بعضها بطل جميعها ولأنه شرط من شرائط الصلاة فوجب استدانته إلى اخر الصلاة كالاستقبال والسترة. وان عزم أن يقطعها فيما بعد أو تردد هل يقطعها أم لا ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: أنها تبطل قاله القاضي وغيره لأن الواجب عليه استدامة النية ولم يستدمها فاشبه ما لو احرم بالنية قبل الاحرام ثم تردد حين الاحرام أو نوى حينئذ سيقطعها ولأن القياس كان يقتضي استدامة ذكر النية وإنما سقط لمشقته ولا مشقة في الامساك عن التردد. والثاني: لا تبطل قاله ابن حامد لأن في حديث ابن مسعود قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال حتى هممت بأمر شر قيل له: وما

هممت به قال هممت أن اجلس وادعه" متفق عليه. وعن أنس: "أن ابا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة لينظر الينا وهو قائم فكأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم فضحك فههمنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة فاشار الينا النبي صلى الله عليه وسلم أن اتموا صلاتكم وارخى الستر" متفق عليه ولأن المبطل إنما افسد النية وهذا لم يوجد وإنما تردد في فعله أو عزم عليه فاشبه ما لو نوى أن يتكلم فإنه لو نوى أن يفعل ما يبطل الصلاة غير قاصد لابطالها لم تبطل بلا تردد. والثالث: يبطل بالعزم على قطعها دون التردد في قطعها لأن التردد لا يقطع نية جازمة بخلاف العزم الجازم. فصل. وان شك في اثناء الصلاة هل نوى أم لا أو شك هل كبر للافتتاح ابتدا الصلاة لأن الأصل عدم ما شك فيه فإن ذكر أنه كان نوى أو كبر قبل أن يقطعها بنيته أو ياخذ في عمل منها بنى على ما مضى لأنه لم يوجد مبطل فإن الشك وحده غير مبطل كما لو شك هل صلى ركعة ثم ذكر أنه

كان صلاها وأن ذكر بعد أن فعل شيئا منها فقال ابن حامد يبني أيضا وهو الذي ذكره القاضي في المجلد والجامع الكبير لأن الشك لا يزيل حكم النية كما لو لم يحدث عملا وذلك لأن كل جزء من اجزاء الصلاة يجب فيه اصطحاب النية ومع هذا فلو شك وبقي ساعة يفكر ثم ذكر بنى على صلاته ولو كان ذلك الجزء في حكم غير المنوي لم تصح الصلاة فكذلك العمل. وحكي عن القاضي أن ذلك يبطل لأن هذا العمل من الصلاة فإذا خلا عن النية لم تصح ومتى بطلت بعضها بطل جميعها ولأن عليه أن يفعل شيئا من الصلاة حال الشك فمتى خالف وفعل لم تصح صلاته وأن كان مصيبا في الباطن كما في نظائره. وقال جدي أبو البركات ما فعل مع الشك كما فعل بغير نية فلا يعتد به ويكون زيادة في الصلاة فإذا كان مما لا تبطل الصلاة زيادته كالقراءة والتسبيح فله أن يبني على ما قبله وأن كان مما يبطل الصلاة زيادته كالركوع والسجود بطلت به. وإذا شك هل احرم بنفل أو فرض اتمها نفلا إلى أن يذكر أنه نوى الفرض قبل أن يحدث عملا وأن ذكره بعد عمل أخذ فيه فعلى الوجهين. وان شك هل احرم بظهر أو عصر فهل هو كما لو شك في أصل النية أو في نية الفرض على الوجهين.

باب أدب المشي إلى الصلاة

باب أدب المشي إلى الصلاة. مسألة: (يستحب المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار ويقارب بين خطاه ولا يشبك اصابعه). قال أبو عبد الله رحمه الله في رواية مهنى ويستحب للرجل إذا اقبل إلى المسجد أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع وأن تكون عليه السكينة والوقار ما ادرك صلى وما فات قضى بذلك جاء الاثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني وجاء عنه أنه كان يأمر باثقال الخطى يعني قرب الخطى إلى المسجد. ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح جاء الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوت التكبيرة الأولى وطمعوا في ادراكها وذلك لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الاقامة فامشوا وعليكم السكينة ولا تسرعوا فما ادركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا" وعن أبي قتادة قال: "بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال ما شانكم قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا اتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما ادركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا" متفق

عليهما. فعلى هذا يكره الاسراع الشديد مطلقا وأن فاته بعض الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ويكره الاسراع اليسير إلا إذا خاف فوت تكبيرة الافتتاح وطمع في ادراكها لما ذكره الامام أحمد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوت التكبيرة وطمعوا في ادراكها" وقد روى سعيد في سننه عن رجل من طيء قال كان عبد الله ينهانا عن السعي إلى الصلاة فخرجت ليلة فرأيته يشتد إلى الصلاة فقلت يا ابا عبد الرحمن كيف تنهانا عن السعي إلى الصلاة فرأيتك الليلة اشتددت إليها قال اني وابيك بادرت حد الصلاة يعني التكبيرة الأولى وهذا يدل على أن هذا الموضع غير داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم لأن أصحابه أعلم بمعنى ما سمعوه منه فإن ابن مسعود من جملة رواة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وسياق الحديث يدل على أن النهي إنما هو لمن فاتته تكبيرة الافتتاح لأنه في اناس سمع جلبتهم وهو في الصلاة وهذا بعد التحريم وفي الحديث الاخر إذا سمعتم الاقامة فامشوا إلى الصلاة فغالب من يكون بعيد الدار عن المسجد إذا اتى حين يسمع الاقامة تفوته التكبيرة والفرق بين هذا الموضع وغيره أنه جاء فضل عظيم فيمن يدرك حد الصلاة وادراك

الحد أن يدرك اولها وهو أن يدرك الصلاة قبل تكبيرة الامام ليكون خلف الامام إذا كبر للإفتتاح وهذا القدر لا ينجبر إذا فات لأنه يكون مدركا للركعة ولو ادرك الامام في الركوع بخلاف ما إذا فاتته الركعة فإنه يمكن أن يقضي ما فاته وبخلاف ما إذا فاته حد الصلاة فإنه قد ايس من ادراك الحد فإذا كان هذا المقصود العظيم الذي لا ينجبر فواته يحصل باسراع يسير لم يكره ذلك. فأما الاسراع لادراك الركعة فباق على عموم الحديث بل هو المقصود منه لأن الفوات إنما يكون بفوات الركعة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لابي بكرة لما اسرع لادراك الركوع زادك الله حرصا ولا تعد". وان خشي فوات الجماعة أو الجمعة بالكلية فلا ينبغي أن يكره له الاسراع هنا لأن ذلك لا ينجبر إذا فات وقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالسكينة لقوله فما ادركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا فمن لا يرجوا ادراك شيء إذا مشى عليه السكينة يدخل في هذا الحديث وقد قيده في الحديث الاخر إذا سمعتم الاقامة فعلم أن الخطاب لمن ياتي الصلاة طامعا في ادراكها ولا فرق فيما ذكرناه من كراهة الاسراع لمن رجى الادراك بين الجمعة وغيرها لعموم الحديث وقد روى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاناة من الله والعجلة من الشيطان وقال صلى الله عليه وسلم: "إن فيك لخلتين

يحبهما الله الحلم والأناة" رواه مسلم وكان قد استأنى في دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم دون رجال قومه واصل ذلك في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً} قال الحسن وغيره سكينة ووقار وقال لقمان في وصيته لابنه {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}. ولأن الاسراع الشديد يذهب بالحلم ويغير العقل والراي فكره لما فيه من هذه المفاسد وغيرها ولأنه إذا استانى وصلى البعض في الجماعة والبعض منفردا كان اصلح وابلغ في اجتماع همه على الصلاة من الاسراع الشديد الذي تتعقبه الصلاة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لابي بكرة زادك الله حرصا ولا تعد" ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم بتقديم العشاء والخلاء على الصلاة ليجمع القلب عليها. فإن قيل فقد قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}. قلنا السعي في كتاب الله لمعنى الفعل والعمل دون العدو قال

تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وقال: {وَمَنْ أراد الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} وقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} وقال تعالى عن فرعون: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} وقال: {وأما مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} وقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} ومنه يقال السعي على الصدقات كما يقال العامل عليها وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: "فامضوا إلى ذكر الله وذروا البيع" ويقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي فقد اتفقوا على أنه ليس المراد بالعدو ولكن من فهم من السعي أنه العدو كما في الحديث اختار الحرف الاخر وأما حرف العامة فقد تبين معناه. وإنما استحببنا المقاربة بين الخطأ لما روى أبو هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تطهر الرجل ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة" متفق عليه. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تطهر

الرجل ثم اتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والقاعد يرعى الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع اليه" رواه أحمد وعن زيد ابن ثابت رضي الله عنه قال: " اقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وانا معه فقارب الخطى ثم قال تدري لم فعلت هذا لتكثر خطاي في طلب الصلاة" رواه عبد ابن حميد. وأما التشبيك بين الاصابع فيكره من حين يخرج وهو في المسجد أشد كراهة وفي الصلاة أشد واشد لما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا توضا أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وعنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشبك اصابعه في الصلاة ففرج

رسول الله صلى الله عليه وسلم بين اصابعه" رواه ابن ماجة وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وأن أحدكم لا يزال في الصلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه" رواه احمد. قال أبو عبد الله في رسالته واعلموا أن العبد إذا خرج من منزله يريد المسجد يأتي الله الجبار الواحد القهار العزيز الغفار وأن أن كان لا يغيب عن الله تعالى حيث كان ولا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا اصغر من ذلك ولا أكبر في الأرضين السبع ولا في السماوات السبع ولا في البحار السبع ولا في الجبال الصم الصلاب الشوامخ البواذخ وإنما يأتي بيتا من بيوت الله يريد الله وتوجه إلى الله وإلى بيت من البيوت التي اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فإذا خرج من منزله فليحدد لنفسه تفكرا وادبا غير ما كان عليه وغير ما كان فيه قبل ذلك من حالات الدنيا واشغالها وأن يخرج بسكينة ووقار فإن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أمر وليخرج برغبة ورهبة وبخوف ووجل وخضوع وذل وتواضع لله عز وجل فإنه كلما تواضع لله عز وجل وخشع وذل لله عز وجل كان ازكى لصلاته وأحرى لقبولها واشرف للعبد واقرب له من الرب وإذا تكبر قصمه الله ورد عمله وليس يقبل من المتكبر عملا جاء الحديث عن إبراهيم عليه السلام خليل الله عز وجل أنه أحيا ليلة

فلما أصبح اعجب بقيام ليلته فقال نعم الرب رب إبراهيم ونعم العبد إبراهيم فلما كان غداؤه لم يجد احدا ياكل معه فنزل ملكان من السماء فاقبلا نحوه فدعاهما إبراهيم إلى الغداء فأجاباه فقال لهما تقدما بنا إلى هذه الروضة فإن فيها عينا وفيها ماء فنتغذى عندها فتقدموا إلى الروضة فإذا العين قد غارت فليس فيها ماء فاشتد ذلك على إبراهيم واستحيا مما قال إذ رأى غير ما قال فقالا له يا إبراهيم ادع ربك وأسأله أن يعيد الماء في العين فدعا الله عز وجل فلم يرى شيئا وفاشتد ذلك عليه فقال لهما ادعوا الله فدعا أحدهما: فرجع وهو بالماء في العين ثم دعا الاخر فاقبلت العين فاخبراه أنهما ملكان وأن اعجابه بقيام ليلة رد دعاءه عليه ولم يستجب له"

مسألة: (ثم يقول بسم الله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} الآيات إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ويقول اللهم اني أسألك بحق السائلين عليك إلى آخره ويستحب لكل من خرج من بيته إلى الصلاة وغيرها أن يقول ما روي أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلى بالله قيل له هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه شيطان فيلقاه شيطان اخر فيقول مالك برجل قد هدي وكفي ووقي" رواه وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا في هذا الوجه وعن أم سلمة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال بسم الله توكلت على الله اللهم انا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا" هذا لفظ الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وأما الخارج إلى الصلاة خصوصا فقد روي أنه يقول بسم الله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. والدعاء الاخر رواه فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة وقال اللهم اني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي أنه لا يغفر الذنوب إلا انت" رواه أحمد وابن ماجة والطبراني.

مسألة: (فان سمع الاقامة لم يسع اليها). قد تقدمت هذه المسألة: مسألة: (إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). وجملة ذلك أنه إذا شرع المؤذن في الاقامة فلا يشتغل عن المكتوبة بتطوع سواء خشي أن تفوته مع الامام الركعة أو لم يخش وسواء كان التطوع سنة راتبة أو غير راتبة وسواء في ذلك ركعتا الفجر وغيرهما وسواء كان يريد أن يصلي التطوع في بيته أو في المسجد إلا أن يكون يريد أن يصلي في مسجد اخر أو جماعة اخرى حيث يشرع ذلك وصرح بعض أصحابنا بان ذلك لا يجوز فإن خالف وصلى ففي انعقاد صلاته وجهان وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" رواه الجماعة إلا البخاري وفي رواية لاحمد إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي اقيمت وعن عبد الله بن بحينة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد اقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آلصبح

اربعا آلصبح اربعا" متفق عليه وعن عبد الله بن سرجس قال دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان أي الصلاتين اعتددت ابصلاتك وحدك أو صلاتك معنا" رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال اقيمت صلاة الصبح وفقام رجل يصلي الركعتين فجذب النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه وقال: "اتصلي الصبح اربعا" رواه أحمد وذلك لأن المؤذن إذا أخذ في الاقامة فقد وجب الدخول في الصلاة معه ولأن الجماعة واجبة فلا يجوز أن يشتغل عن ذلك بما هو دونه لأنه من اخذه في الإقامة تعين وقت فعل الصلاة لأن الوقت الذي تفعل فيه الصلاة من وقتها المحدود شرعا الذي اجيزت فيه الصلاة ليس هو مؤقتا من جهة الشارع وإنما هو مفوض إلى الامام فهو الذي يعين الوقت الذي يصلي فيه الناس بتعيينه وتقدر صلاة المامومين بتقديره ولهذا كان الامام املك بالإقامة فإذا اقيمت الصلاة فقد دخل الوقت الذي عينه الامام وهو وقت مضيق لأنه حين فعل الصلاة لا يمكن الاشتغال بعبادة اخرى فأيما

صلاة صليت بعد الاقامة كانت كأنها هي الصلاة المأمور بها المشروعة حينئذ لأن ذلك الوقت لا يتسع لغير ما أمر به فمن صلى بعد ذلك غير المكتوبة فكانه زاد في المكتوبة أو صلاها مرتين ولهذا والله أعلم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله آلصبح اربعا وبقوله باي صلاة اعتددت بصلاتك وحدك أو بصلاتك معنا إذ لا صلاة بعد الاقامة إلا ما دعي إليه بالاقامة وأيضا فإن السنن يمكن أن تفعل بعد الفريضة قضاء وما يفوته من إدراك حد الصلاة وما يفوته من الصلاة خلف الامام ولو بعد ركعة جماعة لا يستدرك بالقضاء فكانت المحافظة على ما لا يستدرك أولى من المحافظة على ما يمكن استدراكه. ولأن ما يدركه من تكبيرة الافتتاح والتامين والركوع أفضل من جميع التطوعات لما ورد في فضل من ادرك حد الصلاة ومن ادرك التامين مع الامام ولأن الاشتغال بأجابة المؤذن أولى من الاشتغال بالنافلة على ما تقدم لكون ذلك وقت الأجابة فلان يكون الاشتغال بما دعي إليه أولى من النافلة بطريق الأولى. فان كان قد شرع في النافلة واقيمت الصلاة اتمها أن رجى اتمامها وادراك الجماعة وأن خشي إذا اتمها أن تفوته الجماعة قطعها في احدى الروايتين لأن الفرائض اهم فإن الجماعة واجبة واتمام النافلة ليس واجبا في المشهور.

وفي الأخرى يتمها لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}. لكن أن علم أن الصلاة تقام قريبا فهل ينبغي أن يشرع في نافلة ينبغي أن يقال أنه لا يستحب أن يشرع في نافلة يغلب على ظنه أن حد الصلاة يفوته بسببها بل يكون تركها لادراك أول الصلاة مع الامام وأجابة المؤذن هو المشروع بما تقدم من أن رعاية جانب المكتوبة بحدودها أولى من سنة يمكن قضاؤها أو لا يمكن.

مسألة: (وإذا اتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول وقال بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال ذلك إلا أنه يقول وافتح لي ابواب فضلك). اما تقديم اليمنى فلما ذكره البخاري عن ابن عمر أنه: "كان يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى" ولأن ما اشتركت فيه اليدان أو الرجلان وكان من باب الكرامة قدمت فيه اليمنى وأن كان خلاف ذلك قدمت فيه اليسرى. ولهذا يقدم في الانتعال اليمنى وفي الخلع اليسى كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم في دخول الخلاء اليسرى دخولا واليمنى خروجا كما تقدم. فان كان خلع نعله على باب المسجد بحيث يخلع النعل ويدخل قدمه فينبغي أن يقال هنا أنه يخلع اليسرى ويضعها على النعل ثم يخلع اليمنى ويضعها على النعل كذلك ثم يدخل اليمنى ثم يدخل اليسرى ليكون مؤخرا لليمنى في الخلع مقدما لها في الدخول. وأما الذكر فلما روت فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب فضلك" رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال فيه صلى على محمد وسلم بدل قوله: "بسم الله والسلام على رسول الله" وقال حديث حسن وليس اسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسن لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم اشهرا وقد روي هذا الحديث من وجوه متعددة بهذا الاسناد واتفقت جميعها على أنه كان يقول إذا دخل: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك". وإذا خرج يقول مثل ذلك إلا أنه يقول ابواب فضلك" رواه أحمد والنسائي ورواه مسلم وأبو داود وقالا عن ابن حميد أو أبي اسيد ورواه ابن ماجة وقال عن أبي حميد ورواه الطبراني وقال في أوله:

فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره وافتح لي ابواب فضلك وقد روى عبد الرزاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فصل. ولا يجلس إذا دخل المسجد حتى يصلي ركعتين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" رواه الجماعة إلا النسائي فصل. ويستحب إذا جلس لانتظار الصلاة أن يجلس مستقبلا القبلة لأن

خير المجالس ما استقبل به القبلة ولأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ومن سنة المصلي أن يكون مستقبل القبلة قال القاضي ويكره الاستناد إلى القبلة وقد نص أحمد على أنه مكروه قبل صلاة الغداة قال أحمد ابن احرم رأيت أبا عبد الله دخل المسجد لصلاة الصبح فإذا رجل مسند ظهره إلى القبلة ووجه إلى غير القبلة قبل صلاة الغداة فأمره أن يتحول إلى القبلة وقال هذا مكروه وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه رأى رجالا قد اسندوا ظهورهم بين إذان الفجر والإقامة إلى القبلة فقال عبد الله: "لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتهم" وفي لفظ: "تحولوا عن القبلة لا تحولوا بين الملائكة وبينها فإن هذه الركعتين تطوع" وقال إبراهيم: "كانوا يكرهون أن يتساندوا إلى القبلة قبل صلاة الفجر" رواهن النجاد وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "نهى أن تستدبر القبلة في مواقيت الصلاة" رواه أبو حفص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن التشبيك في المسجد وعلله بأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة" فكره لمن ينتظر الصلاة ما يكره للمصلي إلا ما تدعو إليه الحاجة ولأنه في مواقيت الصلاة يدخل الناس إلى المسجد ففي استدبار القبلة استقبال للمصلي من الملائكة وذلك مكروه كراهية شديدة وإلى هذا المعنى أومأ عبد الله بن مسعود. ويستحب أن يتقدم في أوقات الصلوات إلى مقدم المسجد لأن السنة أن يكمل الصف الأول فالأول ولا بأس في ذلك في كل وقت.

فأما وقت السحر فقد روي عن أبي النعمان قال: "حججت في خلافة عمر رضي الله عنه فقدمت المدينة فدخلت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتقدمت إلى مقدم المسجد اصلي إذ دخل عمر رضي الله عنه فرآني فاخذ برأسي وجعل يضرب به الحائط ويقول ألم أنهكم أن تقدموا في مقدم المسجد بالسحر أن له عوامر" وعن عبد الله بن عامر قال: "دخل حابس بن سعد الطائي المسجد من السحر وكانت له صحبة فإذا أناس في صدر المسجد يصلون فقال أرعبوهم فمن أرعبهم فقد أطاع الله ورسوله" قال جرير بن عثمان: "كنا نسمع أن الملائكة تكون قبل الصبح في الصف الأول" رواهما جعفر الفريابي قال القاضي وهذا يدل على كراهة التقدم في صدر المسجد وقت السحر.

§1/1