شرح العمدة لابن تيمية - صفة الصلاة

ابن تيمية

الائتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة

وذلك المبين، فتكون الصلاة التي صلاها هي الصلاة التي كتبها الله على المؤمنين وأمرهم بها في كتابه, وقال صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن معه حين بعثهم إلى قومهم «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» , رواه أحمد والبخاري, «وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ فَقَالَ: اَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ, وَمَنْ عَمِلَهُ, وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ, ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ, ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاَتِهِ, ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي, وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي» , متفق عليه. وهذا دليل على الإئتمام به في صفة الصلاة, ويعلموا صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليُعمل مثله, وكان يقول «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلاَمِ وَالنُّهَى, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» يريد بذلك

قاعدة كلية

أن يحفظوا صلاته, ويعقلوها. وهذه الأقوال نصوص منه في أن الأمة مأمورة أن تصلي كصلاته, على أن القاعدة الكلية: أن أمته أسوته في الأحكام, ما لم يقم دليل التخصيص, وقد أجمعت الأمة على الرجوع في صفة الصلاة إلى فعله, إما وجوباً أو استحباباً, وأن هذا من الأفعال التي يشترك فيها هو وأمته, وقد جاءت الأحاديث بصفة صلاته من وجوهٍ كثيرةٍ, يأتي ما يُحتاج إليه منها في أثناء الباب.

مسألة: وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر يجهر بها الإمام وسائر التكبير, ليسمع من خلفه, ويخفيه غيره

مسألة: وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر يجهر بها الإمام وسائر التكبير, ليسمع من خلفه, ويخفيه غيره. أما القيام في الصلاة وافتتحاها بالتكبير: فمن العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفاً عن سلف, وتوارثوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم, وقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} , وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} , وقال سبحانه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} الآيات, وقال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، وقال سبحانه: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}. وقد روى عنه من حديث الخاصة - أنه كان يفتتح صلاته بالتكبير: علي بن أبي طالب, وعبد الله بن

عمر, ووائل بن حجر, ومالك بن الحويرث, وأبي هريرة, وعائشة وغيرهم, وكل هذه الأحاديث في الصحيح. وفي حديث أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه وقال: الله أكبر. رواه الترمذي وابن ماجة. وقال صلى الله عليه وسلم: «مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ, وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» , وقال

للمسيء في صلاته: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ» وقال: «إِذَا كَبَّرَ الإِمَامُ فَكَبِّرُوا» , وستأتي هذه الأحاديث [في غيرها] على أن النقل بذلك شاع شياعاً لا يفتقر معه إلى نقل الخاصة.

فصل

فصل وأما إن الإمام يجهر بتكبير الافتتاح وسائر التكبير وبالتسميع وبالسلام, في جميع الصلوات, كما يجهر بالقراءة في صلاة الجهر، فليسمعه المأمومون فيكبّرون بعد تكبيره, ويحمدون بعد تسميعه, ويسلمون بعد تسليمه, وليبلغ صوته لمن لا يراه من المأمومين فيعلمون بانتقالاته فيتابعونه, ولهذا أخبر الذين وصفوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر ويسمع ويسلم, ولولا أنهم سمعوا ذلك لما علموا, ألا ترى أنهم إنما علموا قراءته في [السر] بتحريك لحيته صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال أبو هريرة يا رسول الله:

«أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ» ولم يسمع دعاء الافتتاح, وذلك بَيِّن في أنه كان يجهر بالتكبير وبالقراءة, ويسر دعاء الافتتاح. وقد جاء ذلك مصرحاً به, فروى سعيد بن الحارث قال: صلى بنا أبو سعيد, فجهر بالتكبير حين افتتح, وحين ركع, وبعد أن قال سمع الله لمن حمده, وحين رفع رأسه من السجود, وحين سجد, وحين رفع, وحين قام من الركعتين, حتى قضى صلاته على ذلك, فلما انصرف قيل له: قد اختلفت الناس على صلاتك, فخرج حتى قام عند المنبر فقال: أيها الناس, إني والله ما أبالي اختلفت صلاتهم أم لم تختلف, إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يصلي.

ترك بعض الأمراء الجهر بالتكبير

وسنذكر إن شاء الله الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر هكذا. ثم إن بعض الأمراء ترك الجهر بسائر التكبير, فصار بعض الناس يجهل السنة في جهر الإمام بالتكبير, حتى اختلفوا على أبي سعيد, ولهذا لما صلى عمران خلف علي وجهر علي بالتكبير, قال: قد أذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذلك صلاة عكرمة خلف شيخٍ كبر ثنتين وعشرين تكبيرة. وعامة هذه الأحاديث إنما معناها الجهر, وهو الذي كان قد تركه بعض الأمراء, كما سيأتي إن شاء الله بيانه. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يؤم الناس بالتكبير؛ [يرفع] صوته بالتكبير. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إن لكل شيء شعاراً, وإن شعار الصلاة التكبير».

السنة في حق المأموم إخفاء صوته

رواه أبو نعيم الفضل ابن دكينٍ في كتاب الصلاة. وشعار الشيء: ما يشعر به, وهذا إنما يكون فيما يظهر ويجهر به. فأما المأموم فالسنة في حقه أن يخفي التكبير وسائر أنواع الذكر, إلا التأمين والبسملة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ لأنه إنما يصلي لنفسه, فلا يحتاج إلى سماع غيره, وأفضل الذكر: الخفي, بل يكره له الجهر بذلك, كما يكره له الجهر بالقراءة؛ لأنه يغلط غيره من المصلين, إلا أن يجهر بالكلمات أحياناً, كما جهر المستفتح بقوله: «اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا» وكما جهر العاطس بقوله: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» الحديث, وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك.

معرفة حكم التبليغ خلف الإمام للحاجة

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجهر بالآية أحياناً في صلاة السر, ولا فرق في ذلك بين المؤذن وغيره, وبين من يقصد من المأمومين تبليغ غيره بصوته أو لا يقصد, فإن التبليغ على الإمام, ولهذا استحببنا له رفع الصوت, وليس على المأموم تبليغ, والأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يبلغ المأمومين التكبير, ولم يكن خلفه أحد يبلغهم, فإن مثل هذا لو كان لنقل ولما أراد الصحابة أن ينقلوا الجهر بالتكبير أخبروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر, ولو كان خلفه مؤذن أو غيره يجهر بذلك لنقلوا ذلك, واستدلوا به على ذلك, ولم ينقلوا ذلك إلا في مرض موته صلى الله عليه وسلم, فإذا كان صوت الإمام لا يبلغ جميع المصلين إما لضعفه عن الجهر المبالغ بمرض أو كبر, أو لكثرة الجمع وتباعد أقطار المصلين, فيتسحب أن يجهر بعض المأمومين بالتكبير والتحميد والتسليم قدر ما يسمعه سائرهم؛ لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد, وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره. وفي لفظٍ: صلى بنا رسول الله

تبيين التكبير وجزمه

صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه, فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, كبِّر أبو بكر فيسمعنا. رواهما مسلم والنسائي. وينبغي أن يبين التكبير ويجزمه, ولا يطوله, ولا يمد في غير موضع المد, قال أبو عبد الله: ربما طوّل الإمام في التكبير إذا لم يكن له فقه, والذي يكبر معه ربما جزم التكبير, ففرغ من التكبير قبل أن يفرغ الإمام فقد صار هذا مكبراً قبل الإمام, ومن كبر قبل الإمام فليست له صلاة؛ لأنه دخل في الصلاة قبل الإمام وكبر قبل الإمام فلا صلاة له. قال بعض أصحابنا إنْ مد في غير موضع المد, مثل أن يمد بعض الهمزة من اسم الله، فتصير همزة استفهام, أو يزيد ألفاً بعد الباء من أكبر, فتصير جمع كبر: وهو الطبل فارسي معرب الحرة؛ لأن المعنى يتغير به.

فصل

فصل ويستحب أن يقوم الإمام والمأموم إلى الصلاة إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة؛ لما روي عن الحجاج بن فروخ الواسطي عن العوام ابن حوشبٍ عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه, قال «كان بلال إذا قال قد قامت الصلاة, نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه حرب, وأبو يعلى الموصلي وأبو حفص العكبري وغيرهم, وهو محفوظ عن الحجاج, وقد قيل:

إنه لا يروي إلا عنه, وهو وإن كان فيه لين فليس في الباب حديث يخالفه, وقد اعتضد بعمل الصحابة, قال ابن المنذر وغيره: كان أنس بن مالك إذا قيل: «قد قامت الصلاة» نهض وقام. وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما: أنه كان يفعل ذلك. رواه النجاد وغيره. ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك, وهذا يتعين اتباعه, لا سيما إذا كان الكلام في الاستحباب, ولم يوجد ما يعتمد عليه سوى ذلك. ولأنَّ قوله: «حي على الصلاة حي على الفلاح» دعاء إلى الصلاة, لكن هو مشترك بين الأذان والإقامة, فإذا قيل: «قد قامت الصلاة» تم الدعاء إلى الصلاة, فينبغي أن تكون الإجابة عقبه, ولأن قوله: «قد قامت الصلاة» فيه معنى الأمر بإقامتها, فاستحب أن يكون القيام إلى الصلاة عقبه, امتثالاً للأمر, وهو

معرفة إذا عرضت حاجة بعد الإقامة

أيضاً إخبار عن قرب قيامها, فإذا كان القيام عقبه كان أتم في القرب, ولأن قيامه قبل ذلك لا حاجة إليه, وتأخيره القيام عن ذلك يقتضي تأخير التحريم والتسوية. فأما إذا عرضت له حاجة فلا بأس أن يتأخر القيام إلى الصلاة عن الإقامة؛ لما روى أنس قال: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلاً في جانب المسجد, فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم, وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي». فأما التكبير فيستحب أن يكون بعد فراغ الإقامة إن كانت الصفوف مستويةً, كبر عقبها, وإن لم يكن مستوية سواها ثم كبّر, لأنا قد قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول كما يقول المؤذن في الإقامة, وصح من غير وجه أنه كان يعدل الصفوف بعد

القيام إلى الصلاة, وقد جاء مفسراً أنه يفعل ذلك بعد الإقامة, فروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة, فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه, فقال: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ». وفي روايةٍ [عن] رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعد أن أقيمت الصلاة قبل أن يكبر أقبل بوجهه على أصحابه. وقال إسحاق بن راهوية: [سن] رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكبر بعد فراغ المؤذن من الإقامة كلها, قال: [وأخذ بذلك بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه] , وقد روي أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقمتم الصلاة فليؤمكم أحدكم» , «إذَا قَرَأَ

معرفة وقت القيام في الصلاة

الإِمَامُ فَأَنْصِتُوا» رواه أحمد. ثم إذا كان الإمام حاضراً بحيث يرونه, قاموا عند كلمة الإقامة, قام الإمام أو لم يقم, وإن علموا بقربه من المسجد أو خارج المسجد ولم يروه, فهل يقومون؟ على روايتين. إحداهما: يقومون؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنْبٌ, فَقَالَ لَنَا: «مَكَانِكُمْ» فَمَكْثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا يَعْنِي قِيَامًا ثُمَّ رَجِعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ. متفق عليه. ولمسلم عن أبي هريرة قال: إن كانت الصلاة لتقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مقامه. والرواية الثانية: لا يقومون حتى يروه؛ لما روى أبو قتادة

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» رواه الجماعة إلا ابن ماجة, بهذا اللفظ إلا البخاري لم يذكر قوله: «خرجت» , وهذا يدل على نسخ ما كانوا يفعلونه قبل ذلك, وقد روي عن أبي خالد الوالبي قال: خرج إلينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكنا قيام, فقال: «ما لي أراكم سامدين؟» يعني قيامًا. ولأن في ذلك مشقة على المأمومين من غير فائدة, وقيام إلى الصلاة قد تحقق قرب الشروع فيها فلم يكن إليه حاجة.

فصل

فصل وإذا لم تكن الصفوف مستوية سوّاها الإمام وغيره, إلا أن الإمام أخص بذلك؛ لأنه الراعي, قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: «تَرَاصُّوا وَاعْتَدِلُوا» , وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ, فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ» متفق عليهما. وعن محمد بن مسلم بن السائب, صاحب المقصورة, قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك يوماً فقال: هل تدري, لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا والله, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذ يمينه ثم ألتفت, فقال: «اعْتَدِلُوا سَوُّوا صُفُوفَكُمْ» ثم أخذ بيساره فقال: «اعْتَدِلُوا سَوُّوا صُفُوفَكُمْ» رواه أبو داود. وعن النعمان بن بشير قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا لِلصَّلاَةِ فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ» رواه أبو داود, وعن

عمر رضي الله عنه «أنه كان إذا أقيمت الصلاة استقبل القوم ثم يقول: يا فلان, تقدم, يا فلان، تأخر, سوّوا صفوفكم, استووا. ثم يقبل على القبلة فيكبر» رواه سعيد, قال الترمذي: وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يتعاهد ذلك ويقول: استووا, وكان يقول: تقدم يا فلان, تأخر يا فلان. وعن نافع «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ, فَإِذَا جَاءُوهُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَنْ قَدِ اسْتَوَتْ كَبَّرَ». رواه مالك. وعن سهل ابن مالك عن أبيه قال كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَأَنَا أُكَلِّمُهُ فِي أَنْ يَفْرِضَ لِي, فَلَمْ أَزَلْ أُكَلِّمُهُ وَهُوَ يُسَوِّي الْحَصَا بِنَعْلَيْهِ, حَتَّى جَاءَهُ رِجَالٌ قَدْ وَكَلَهُمْ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ, فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الصُّفُوفَ قَدِ اسْتَوَتْ فَقَالَ لِي اسْتَوِ فِي الصَّفِّ. ثُمَّ كَبَّرَ. رواه مالك.

نقص الصلاة باعوجاج الصف

وقال أحمد في رسالته [وأمر أبا عبد الله] الإمام أن لا يكبر أول ما يقوم مقامه للصلاة, حتى يلتفت يميناً وشمالاً, فإن رأى الصف معوجاً, والمناكب مختلفة, أمرهم أن يدنو بعضهم من بعض حتى تماس مناكبهم. واعلم أن اعوجاج الصفوف واختلاف المناكب ينقص من الصلاة وأن الفرجة التي تكون بين كل رجلين تنقص من الصلاة, فاحذروا ذلك. وذكر بعض أحاديث الصفوف, وابن عمر الذي رواه مالك, قال: وروي أن بلالاً كان يسوي الصفوف, ويضرب عراقيبهم

بالدرة حتى يستووا, قال بعض العلماء: قد يشبه هذا أن يكون من بلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عند إقامته قبل أن يدخل في الصلاة؛ لأن الحديث جاء عن بلال أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوماً واحداً إذا أتى مرجعه من الشام, وذكر قصة تأذين بلال بالشام.

فصل

فصل والمسنون للصفوف خمسة أشياء, مبناها على أصلين, على اجتماع المصلين, وانضمام بعضهم إلى بعض, وعلى استقامتهم واستوائهم؛ لتجتمع قلوبهم وتستقيم, ويتحقق معنى الجماعة الذي هو اجتماعهم في الصلاة مكاناً وزماناً. قال أبو عبد الله: تسوية الصفوف ودنو الرجال بعضهم من بعض, من تمام الصلاة, وترك ذلك نقص في الصلاة. أحدها: تسوية الصف وتعديله وتقويمه, حتى يكون كالقدح, وذلك يحصل بالمحاذاة بالمناكب والرُّكَب والكِعاب, دون أصابع الرجلين. والثاني: التراص فيه وسد الخلل والفُرج, حتى يلصق الرجل منكبه بمنكب الرجل, وكعبه بكعبه. الثالث: تقارب الصفوف ودنو بعضها من بعضٍ, حتى يكون سجود المؤخر خلف مقام المقدم, من غير ازدحامٍ يفضي إلى أذى المصلين. والرابع: تكميل الأول فالأول, تحقيقاً للاجتماع, والدنو من الإمام. والخامس: توسط الإمام, وهو أن يكون في وسط الصف.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذَفُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» , وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه, وقدمه بقدمه, متفق عليه, والسياق للبخاري. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثِلاَثًا وَاللهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يَلْزَقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَتِهِ وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ. رواه أحمد وأبو داود وهو في «الصحيحين» بقريب من

معناه, وأحاديث الباب كثيرة, ربما يتم أمرها إن شاء الله في موقف الإمام والمأموم.

فصل

فصل والمستحب في حال القيام أن يفرق بين قدميه, فيما ذكره أصحابنا, وهكذا كان أبو عبد الله يفعل, لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً صافاً بين قدميه فقال: أخطأ هذا السنة, لو فرج بينهما كان أفضل. ومثل ابن مسعود إذا أطلق السنة فإنما يعني به سنة النبي صلى الله عليه وسلم, أنه علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يفرج بين قدميه, ولا يمس إحداهما الأخرى, ولكن بين ذلك. رواهما أبو بكر النجاد. وعن ابن عمر قال: لا تقارب ولا تباعد.

المراوحة بين القدمين

وعن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال: كنت مع أبي في المسجد - يعني مسجد البصرة - فنظر إلى رجل قائماً يصلي, قد صف بين قدميه, وألزق إحداهما بالأخرى, فقال: إبي لقد أدركت في هذا المسجد ثمانية عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما رأيت أحداً منهم صنع هكذا قط. رواهما الخلال. والمرواوحة بين القدمين أفضل من الصفن, وهو أن

يعتمد على هذه تارة وعلى هذه تارة, أفضل من أن يعتمد عليهما جميعاً, قال أحمد في رواية صالح وابن منصور, وقد سئل يصفن بين قدميه أو يراوح بينهما؟ قال: يراوح بينهما. وكذلك نقل الجماعة قولاً وفعلاً, وهذا هو الذي ذكره القاضي والآمدي وغيرهما من أصحابنا, لأن هذا أخف على المصلي وأيسر عليه.

مسألة: ويرفع يديه عند ابتداء تكبيره إلى حذو منكبيه, أو إلى فروع أذنيه

مسألة: ويرفع يديه عند ابتداء تكبيره إلى حذو منكبيه, أو إلى فروع أذنيه. وجملة ذلك أن يرفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح من السنن المتفق عليها, وأما منتهى الرفع: فإن شاء إلى حذو منكبيه, وإن شاء إلى فروع أذنيه, كلاهما جائز غير مكروه من غير خلاف في المذهب. وهل أحدهما أفضل من الآخر؟ على ثلاث رواياتٍ:

إحداهن: أن الرفع إلى حذو المنكبين أفضل؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه, ثم يكبر, فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك, وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك, وقال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» متفق عليه وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه قال في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلاَتِهِ, كَانَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ. قَالُوا: صَدَقْتَ» رواه أبو داود والترمذي وصححه. وفي حديث علي وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ

رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ» وهذا اختيار أكثر أصحابنا. والرواية الثانية: هو إلى فروع الأذنين أفضل. اختاره الخلال وقال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله رحمه الله في فتياه وفعله, أن أحب إليه فروع أذنيه, وإن رفع إلى منكبيه فهو جائز؛ لما روى مالك بن الحويرث أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ, وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ» رواه أحمد ومسلم والنسائي. وفي رواية: «يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ» رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وعن (وائل بن حجر) «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ حِيَالَ أُذُنَيْهِ» وروى ذلك أيضاً من حديث البراء بن

أسباب ترجيح الرواية الأولى

عازب وابن الزبير, رواه أحمد. والرواية الثالثة: هما سواء, وهي اختيار الخرقي وأبي حفص العكبري وأبي علي بن أبي موسى وغيرهم؛ لمجيء بكل واحد منهما, فإن صحة الروايات بكل منهما دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة وهذا تارة. ومن رجَّح الأولى قال: إن راويه من الصحابة أكثر وأفضل

[لدى الله] ومكانهم من الرسول أقرب, وهم له ألزم, فيكونون أحفظ وأضبط, ويكون ما نقلوه هو الغالب من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادةً, ثم رجعا إلى قومهما, وأيضاً فإن الإسناد إلى الصحابة بالمنكبين أثبت, اتفق عليه صاحبا الصحيح, وإسناد الرفع إلى الأذنين إنما خرجه مسلم. قالوا: وتحمل روايتهم على رواية المنكبين, ويكون معنى قولهم: حتى يحاذي بهما أذنيه, يعني يقارب محاذاة الأذنين, أو يعني رؤوس الأصابع هي التي حاذت, ويؤيد ذلك أنه قد اختلف عنهم, فروى الدارقطني في حديث مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» إلا أن هذا خلاف المحفوظ في حديثه, لكن قد روي في لفظ بإسناد جيد «حتى يجعلها قريباً من أذنيه». وأما حديث وائل بن حجر فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن حديث عبد الواحد بن زيادٍ, عن عاصم بن كليبٍ, عن أبيه, عن وائل, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فاستقبل القبلة ورفع يديه حتى كانتا حذو منكبيه» وفيه: «فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» وفيه: «فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» وكذلك رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينه عن عاصم, إلا

الرواية الثانية وأسباب ترجيحها

أن الجماهير, مثل شعبة وأبي عوانة وزائدة بن قدامة والمفضل وجماعة غيرهم, رووه عن عاصم, فقالوا في الحديث: «فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ» وقال بعضهم: «حذاء أذنيه» وكذلك رواه مسلم وغيره من حديث عبد الجبار بن وائل عن وائل عن علقمة. ومن رجَّح الثاني قال: صحة النقل بهما توجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل كل واحدٍ منهما, لكن الرفع إلى الأذن أزيد, فيكون أولى؛ لأنه زيادة عبادةٍ, ويشبه أن يكون هو آخر الأمرين؛ لأن الوفود إنما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح, ولأن الانتقال من النقص إلى الزيادة هو اللائق, لا سيما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن معه: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وقد رأوه يصلي رافعاً يديه إلى فروع أذنيه. ومنهم من قال: لعل الرفع إلى المنكبين كان لعذرٍ من به داء وغيره, وليس بشيء. واعلم أن رفع اليد إلى المنكب أو إلى فروع الأذنين هو: أن يحاذي بيده ذلك العضو, واليد جميعاً لا تحاذيه, فالمحاذاة: إما أن تكون بأصل اليد وهو الرسغ, أو تكون بطرف اليد وهو رؤوس أصابع اليد, أو توسط اليد وهو أصول الأصابع عن الكف, أما الأول فلا أعلم أحداً قال إن المحاذاة تكون بذلك الموضع. وأما الآخران ففيهما وجهان:

أحدهما: أن يحاذي منكبيه أو فروع أذنيه برؤوس أصابعه, وهذا قول القاضي في «المجرد» وطائفة من أصحابنا, منهم أبو محمد؛ لأن المفهوم من قولنا: «رفع يده إلى كذا»: أن يحاذي برأسها ذلك المكان. والثاني: أن يحاذي بكفه منكبيه أو فروع أذنيه, وهو الذي ذكره القاضي في «الجامع» و «الخلاف» وغيره من أصحابنا, وهو الصحيح المنصوص عن أحمد, قال في رواية: الأذنين. وقد سأله أبو الحرث: إلى أين يرفع يديه؟ قال: يرفعها إلى فروع أذنيه. وقال: الذي اختار له أن يجاوز بهما أذنيه. قال: ورأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يجاوز بهما أذنيه, فقد نص صريحاً إذا قلنا: يرفعهما إلى أذنيه, على مجاوزة الأذنين, ومعلوم أنه لا يجاوزهما بكفه؛ لأن ذلك لم يقله أحد, فعلم أنه جاوزهما برؤوس الأصابع, وكيف يصح أن يحمل قوله: «على رفع رؤوس الأصابع» إلى «فروع الأذنين»؟ وإن كان في الرفع إلى الأذنين, ففي الرفع إلى المنكبين

وجوه ترجيح رفع اليدين إلى المنكبين

أولى, ويدل على ذلك وجوه: أحدها: أنه ليس حمل رفع اليد على رأسها بأولى من أصلها, فيجب حمله على الوسط. الثاني: أن اليد اسم للجميع, فإذا أُريد نفس محاذاتها لموضع كان اعتبار الوسط أولى؛ لأنه أقرب إلى التعديل. الثالث: أن الروايات مصرحة بأن حاذي بيده فروع أذنيه أو منكبيه, ففي لفظ «حتى يكونا بحذو منكبيه» وفي رواية «رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ» فقد جعل المحاذي للمنكب والأذن إنما هو اليد, ولم يقل: «رفع يديه إلى منكبيه أو أُذنيه» , حتى يجعل ذلك عائداً لليد, وإنما جعل اليد تحاذي ذلك الموضع, ومعلوم أن ذلك لا يصح في رؤوس الأصابع. الرابع: أن في حديث وائل بن حجر: «رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ, وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ, ثُمَّ كَبَّرَ» رواه أبو داود, وفي رواية لأحمد: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة حتى صارت إبهامه تحاذي شحمة أذنه» , وكذلك روى البراء بن عازبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تكون إبهامه حذاء أُذنيه. رواه أحمد. فإذا حاذت الإبهام الأذن, ولو أنه

تأويل القاضي أحاديث الأذنين

شحمة الأذن, جاوزت الأصابع الفروع, وهذا مستند المنصوص, ولذلك تأول القاضي وغيره أحاديث الأذنين: على أن رؤوس الأصابع تبلغ فروع الأذنين, وأن أحاديث المنكبين على المنكب نفسه, كما جاء مفسراً في حديث وائل بن حجر, وحمل رواية من روى: إبهاميه, على المقاربة؛ لأن في حديث مالك بن الحويرث: «كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا قَرِيبًا مِنْ أُذُنَيْهِ» رواه أحمد. ولا يخرج عن هذا إلا بعض الروايات التي فيها: جاوز أذنيه, وهي قليلة.

فصل

فصل والسنة: أن يبسط الأصابع ويضم بعضها إلى بعضٍ, وعنه: أن يفرقها أفضل؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ نَشَرَ أَصَابِعِهُ» رواه الترمذي, وذكره الإمام أحمد, رواه الأثرم والخلال, ولفظه: «كان إذا كبر رفع يديه وفرج أصابعه». والأول هو المذهب, وهو الذي رجع إليه أبو عبد الله آخراً؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدَّا. رواه أحمد وأبو داود والنسائيُّ

أن النشر هو المد الوارد في الحديث, وصفة رفع اليدين لتكبيرات الانتقال

والترمذي, وقال: حسن صحيح, هذا أصح من حديث يحيى بن يمان, يعني من حديث النشر, وقال: وحديثه خطأ, وقد توقف أحمد في صحة هذا الحديث, وقال: الناس يروونه: «رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا» , وقال: كنت أذهب إلى حديث أبي هريرة: «كَانَ إِذَا كَبَّرَ نَشَرَ أَصَابِعَهُ» فظنت أنه التفريق, فكنت أفرق أصابعي, فسألت أهل العربية, فقالوا: [هذا هو التفريق وليس النشرَ, وضم أصابعه وقال: قالوا:] هذا هو الضم, وهذا النشر, ومَدَّ [أبي] أصابعُه مدًّا مضمومة, وهذا التفريق, وفرق أصابعه. وكذلك فسر ابن المديني وغيره النشر: بالمد. وأما رواية التفريج: فإنما رواها صاحبها بالمعنى الذي فهمه مِنَ النشر, وظن أنه التفريج, وإنما هو البسط؛ لأنه يقال: نشرت

ابتداء الرفع وانتهائه

الثوب, خلاف: طويته, وإن لم يكن فيه تفريق, فنشر الأصابع: بسطها. وطيها: قبضها, ولأن الرفع حال القيام كالوضع في السجود, وإنما توضع حال السجود مضمومة الأصابع, ولأنه إذا ضمها مبسوطة فإنها تستقيم منتصبةً نحو القبلة, وذلك تكميل للمستحب, فإن المستحب أن يستقبل القبلة ببطونها لا بجانبها, فيكون حين الرفع عن جانب المنكب من غير بعدٍ, مستقيمة أصابعها, لا محاذية للمنكب, لا تتقدم عنه ولا تتأخر. ويبتدي الرفع حين ابتداءِ التكبير, وينهيه مع انتهائه, فلا يسبق أحدهما صاحبه, ولا يرسلهما قبل أن يقضي التكبير, ولا يثبتهما حتى يقضي التكبير, وإن كان ذلك جائزاً؛ لأن أكثر الأحاديث: «كان يرفع يديه إذا كبر». وعن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع [التكبيرة]. رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ, فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ». رواه البخاري. وإن رفع يديه ثم كبر جاز؛ لما تقدم أن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا

بحذو منكبيه ثم يكبر. وعن وائل بن حجر رضي الله عنه: «أَنَّهُ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ, حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ, وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ». وكذلك إن أثبتهما مرفوعتين بعد التكبير, أو رفع عقب التكبير جاز؛ لما روى مسلم في «صحيحه»: أن مالك بن الحويرث كان إذا صلى كبر ثم رفع يديه, وإذا أراد أن يركع رفع يديه, وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه, وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا. ولفظ البخاري: «كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ» وإنما اخترنا الأول لأن أكثر الأحاديث تدل عليه, ولأن الرفع هيئته للتكبير, فكان معه كسائر الهيئات. ومعنى قولنا: «ينهيهما مع انتهائه» لأصحابنا فيه وجهان موماً إليهما من أبي عبد الله رحمه الله: أحدهما: أن ينهيه قبل حط يديه, فلا يرسل يديه قبل أن يقضي التكبير, وهذا ظاهر كلامه في رواية حرب: رفع اليدين مع التكبير, فإن الرفع لا يدخل فيه الوضع والإرسال, وعلى هذا فقد يحتاج أن يثبتهما مرفوعتين إذا طول التكبير, حتى يفرق, وإن جزم التكبير لم يحتج إلى ذلك, وهذا قول القاضي

والآمدي وغيرهما من أصحابنا, لأن قوله: «يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ» «وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ» يوجب ذلك. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يرفعهما مع التكبير». وإن رفعهما ثم كبر وهما مرفوعتان ثم أرسلهما جاز, كما اختاره أبو إسحاق؛ لما تقدم من حديث ابن عمر: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ, ثُمَّ يُكَبِّرُ». وإن اخترنا الأول؛ لأن الرفع هيئة التكبير, فكان معه كسائر الهيئات, ولهذا لم يستحب أن تبقى بعده. وأما إثباتهما مرفوعتين بعد التكبير فلا يستحب, وإن فعله جاز.

وقت الرفع والوضع

وقال الآمدي: يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير, وابتداء الوضع مع انتهائه, فعلى هذا يكون انتهاء الرفع هو وضعه وإن أقطع اليدين أو إحداهما رفع بحسب قدرته.

فصل

فصل ومن عجز عن استعمال الرفع رَفَعَ ما تمكن, وإن لم يتمكن الرفع إلا أن يجاوز أذنيه فعله, [وإن فعله] وإن عجز عنه بإحدى اليدين فعله بالأخرى, وإن نسيه [حتى لهيئة] سقط؛ لأنه هيئة فات محلها, وإن ذكره في أثناء التكبير بادر إليه؛ لبقاء محله, وإن كانت يداه في ثوبه رفعهما بحسب الإمكان تحت الثوب: لما روى وائل بن حجر قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّتَاءِ فَرَأَيْتُ أَصْحَابَهُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ فِي الصَّلاَةِ». وفي رواية: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ - قَالَ - ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ, وَعَلَيْهِمْ بَرَانِسُ وَأَكْسِيَةٌ». وفي رواية قالت: «ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ, فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّى, الثِّيَابِ يُحَرِّكُونَ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ مِنَ الْبَرْدِ» رواه أحمد وأبو داود.

الملتحف يخرج يديه من لحافه

والأولى له أن يخرج يديه وقت الرفع, فيرفعهما, ثم يلتحف بعد ذلك, وإن كان مرتدياً؛ لأن وائل بن حجر قال: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ, ثُمَّ الْتَحَفَ, ثُمَ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ, وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي ثَوْبِهِ -قَالَ- فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا, فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ رَفَعَ يَدَيْهِ».

مسألة: ويجعلهما تحت سرته

مسألة: ويجعلهما تحت سرته. يعني: إذا انقضى التكبير فإنه يرسل يديه ويضع يده اليمنى فوق اليسرى على الكوع, بأن يقبض الكوع باليمنى, أو يبسط اليمنى عليه ويُوجّه أصابعهما إلى ناحية الذراع, ولو جعل اليمنى فوق الكوع أو تحته على الكف اليسرى, جاز؛ لما روى وائل بن حجر أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِنَ دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ «ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى». رواه مسلم, وفي رواية لأحمد وأبي داود: «وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ». وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ» قال أبو حازم [ولا أعلمه إلا ينمي] ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد والبخاري.

عدم استحباب وضع اليمين على الشمال بعد الركوع

وعن قبيصة بن هلبٍ عن أبيه. قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة, والترمذي وقال: حديث حسن, وعليه العمل عند [أكثر] أهل العلم من أصحاب النبي والتابعين. ولأن ذلك أزين وأقرب إلى الخشوع, وهو: قيام الذليل بين يدي العزيز. ولا يستحب ذلك في قيام الاعتدال عن الركوع, لأن السنة لم ترد به, ولأن زمنه يسير يحتاج فيه إلى التهيؤ للسجود.

ويجعلهما تحت سرته, أو تحت صدره, من غير كراهةٍ لواحدٍ منهما, والأول أفضل في إحدى الروايات عنه, اختارها الخرقي والقاضي وغيرهما. رواه أحمد وأبو داود والدارقطني عن أبي جحيفة قال: قال علي رضي الله عنه: «إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ» , ويذكر ذلك من حديث ابن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد احتج به الإمام أحمد.

وروى ابن بطة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الصَّلاَةِ تَحْتَ السُّرَّةِ» , والصحابي إذا قال: «السنة» انصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولأن ذلك أبعد عن التكفين المكروه. وفي الأخرى: تحت الصدر أفضل, اختارها طائفة من أصحابنا, لما روى جرير الضبي قال: «رَأَيْتُ عَلِيًّا يُمْسِكُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى الرُّسْغِ فَوْقَ السُّرَّةِ» رواه أبو داود. وروى قبيصة بن هلبٍ عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع هذه على صدره. ووضع

وضع اليدين على الصدر

يحيى بن سعيد «الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَوْقَ الْمِفْصَلِ» رواه أحمد. والرواية الثالثة: هما سواء: اختارها ابن أبي موسى وغيره؛ لتعارض الآثار في ذلك. فأما وضعهما على الصدر, فيكره, نص عليه, وذكر عن أبي أيوب عن أبي معشر قال: يكره التكفير في الصلاة, وقال:

التكفير: يضع يمينه عند صدره في الصلاة, وما روى من الآثار على الوضع على الصدر, فهل هو محمول على مقاربته؟

مسألة: ويجعل نظره إلى موضع سجوده

مسألة: ويجعل نظره إلى موضع سجوده. وجملة ذلك: أنه يكره للمصلي رفع البصر إلى السماء أو الالتفات يمنة ويسرة لغير حاجةٍ كراهة شديدة؛ لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ؟» فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: «لَيَنْتَهُنَّ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» رواه الجماعة إلا مسلَّماً والترمذي. وعن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «[لَيَنْتَهِيَنَّ] أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارَهُمْ» رواه أحمد ومسلم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: «اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ» رواه أحمد والبخاري. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزَالُ اللهُ مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ, فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكَ وَالاِلْتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ, فَإِنَّ الاِلْتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ هَلَكَةٌ, فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ, فَفِي التَّطَوُّعِ لاَ فِي الْفَرِيضَةِ» رواه الترمذي وصححه. وعن عطاءٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة, إنه بين عيني الرحمن عز

النظر إلى ما يلهيه

وجل, فإذا التفت قال له الرب: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك مني؟ ابن آدم, أقبل عليّ فأنا خير لك ممن تلتفت إليه». ويكره أن ينظر إلى شيء يلهيه, كائناً من كان. ويكره أن يغمض بصره؛ لأنه من فعل اليهود.

النظر إلى الإمام

ولا يكره أن ينظر أمامه؛ لأن الأفضل أن ينظر إلى موضع سجوده. وقال أبو الحسن الآمدي: يستحب أن ينظر في حال

قيامه إلى موضع سجوده, وفي حال ركوعه إلى قدميه, وفي حال سجوده إلى أنفِه, وفي حال جلوسه إلى موضع يديه؛ لأنه أجمع لهمته, وأبعد لفكرته؛ لقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}. وخشوع البصر: ذله واختفاضه, كما قال: {أَبْصَارُهَا

خَاشِعَةٌ} وكذلك جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «كان خافض الطرف, ونظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء» قال مجاهد: «الخشوع: غض البصر وخفض الجناح كان الرجل من أصحاب محمد إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء, أو يحدِّث نفسه بشيء من شأن الدنيا». رواه ابن جرير وغيره. ورواه الإمام أحمد وسعيد وغيرهما عن محمد بن سيرين:

النظر حال التشهد

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقلب بصره في السماءِ, فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فطأطأ رأسه. قال ابن سيرين: «فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ أَنْ لاَ يُجَاوِزَ بَصَرَهُ مُصَلاَّهُ». النظر حال التشهد: ويستحب في التشهد: أن ينظر إلى إشارته؛ لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ أَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ, وَلَمْ يُجَاوِزْ بَصَرَهُ إِشَارَتَهُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

وإذا أحس بشيء, فقال أحمد: ما يعجبني أن يلتفت, قال الآمدي: هذا على طريق الورع.

مسألة: ثم يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك))

مسألة: ثم يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ». لا يختلف المذهب أن استحباب الاستفتاح في صلاة الفريضة والنافلة بعد التكبير, فبأيها استفتح فحسن, وقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنواع عديدة, لكن عامتها إنما كان يستفتح به النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل في النوافل, فبأيها استفتح فحسن, وإنما استحببنا هذا الاستفتاح على غيره, لوجوه: أحدهما: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه: فروى أبو سعيد الخدري قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ» رواه الخمسة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبر ثم يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ» رواه الدارقطني بإسنادٍ جيدٍ وروي أيضاً عن [ابن] عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, والمشهور أنه عن عمر. ورواه الطبراني في «الدعاء» من حديث ابن مسعود وعبد الله بن عمر

ورود الأمر في الاستفتاح

والحكم بن عمير اليماني, وفي رواية له: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول: «إذا قمتم إلى الصلاة فقولوا: سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك, ولا إله غيرك, وإن لم تزيدوا على التكبير [أجزأكم]». وهذا أمر منه ولم يجيء في الاستفتاح الأمر إلا في هذا. ورواه النجاد من حديث جابر وابن مسعودٍ. الثاني: أنه يختاره عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال الترمذي: عليه العمل عند الصحابة والتابعين. وروى سعيد عن أبي بكر

وجوه اختيار الإمام لـ ((سبحانك اللهم وبحمدك))

الصديق رضي الله عنه أنه كان يستفتح بذلك, وكان أبو بكر أشبه الناس صلاة برسول الله, وهو مشهور عن عمر, رواه مسلم في «الصحيح» عن عبد الله: أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ». ليسمعنا ذلك ويعلمنا, وعلى هذا الوجه اعتمد أحمد لوجوه: أحدها: أن عامة الاستفتاحات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي في النوافل. الثاني: أن هذا جهر عمر به في الفريضة؛ ليعلمه الناس بحضرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ولم ينكروه عليه, وهو إنما يعلم الناس سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا شيء يختاره لنفسه, وكذلك أقره الناس على ذلك ولم ينكره عليه أحد, بل قد روى الدارقطني عن عثمان مثل ذلك, وروى [ابن] المنذر عن ابن مسعودٍ مثل ذلك, وإذا كان الخلفاء الراشدون على ذلك علم أنه المسنون

غالباً. الثالث: ما روى سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك في قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال: حين تقوم إلى الصلاة, قال: تقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء في صلاته: «لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ, ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ, وَيَقْرَأُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» رواه أبو داود والنسائي. فالافتتاح بهذا أشبه بامتثال الأمر في الكتاب والسنة. الرابع: أن أفضل الكلام بعد القرآن أربع, وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, فاستفتح الصلاة بالتكبير

وضم إليها سبحانك اللهم وبحمدك ولا إله غيرك فقد أتى بمعنى هذه الكلمات, وضم إليها: تبارك اسمك وتعالى جدك, والجدّ هو العظمة والكبرياء, وهو الأمثل الأعلى في السماوات والأرض. فإذا انضم إلى الباقيات الصالحات أسماؤه سبحانه وصفاته, فقد حصل الثناء في جميع الجهات. الخامس: إن هذه الكلمات كلها في القرآن أمراً وثناءً, والذكر الموافق للقرآن أفضل من غيره, أما التكبير فقال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} وأما التسبيح والتحميد فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» يتأول هذه الآية, فعلم أن قول العبد: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» يكون امتثالاً لها, وكذلك قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} , {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. وأما التبريك فقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. وأما التعلية فقال تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} وأما التهليل فكثير. السادس: أن هذا ثناء محض على الله وما سواه؛ إما إخبار عن الحال التي هو فيها, أو دعاء ومسألة, والثناء على الله أفضل منهما, وكذلك اختير التسبيح في الركوع والسجود, على قول العبد: لك سجدت, وعلى الدعاء. السابع: أن ما سواه فيه طول ينافي ما يشرع في المكتوبة من التخفيف, وكذلك من يختاره من العلماء لا يختار جميعه, فكأن الذكر المعمول بجميعه [أولى] من الذكر المعمول ببعضه, ولهذا والله أعلم كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقول غالباً في قيام الليل؛

الأفضل قول: ((ولا إله)) بالفتح

لطوله. الثامن: أنه قد ثبت أن هذا مسنون في المكتوبة, وغيره مما يختاره بعض العلماء إنما روي أنه كان في النافلة. والأفضل أن يقول «ولا إله» بفتح الهاء وإن قالها بالضم

والتنوين جاز, قال ابن عقيل: وهو أفضل؛ لأن التنوين حرفان يعيد في الصلاة. والمذهب أن الفتح أفضل؛ لأنه هو اللغة الغالبة التي يقرأ بها, وإن ضمها ففيه خلاف [من النحاة العامة] , وكذلك جاءت ألفاظ الأذان وغيره في قولنا: لا إله إلا الله, ولأن معناها أكمل وأتم لأنها .... . وأما سائر أنواع الاستفتاح, فمنها: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ سَكَتَ هُنَيْئَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, أرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ, مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ, اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا تُنَقِّي الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ, اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه. وهذا صريح في المكتوبة, قال

أحمد: ما أحسن حديث أبي هريرة في الاستفتاح, ولعله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بهذا أحياناً, أو كان يقوله بعد: سبحانك اللهم, كما كان يقوله في الاعتدال عن الركوع بعد التحميد, كما نذكر إن شاء الله. ومنها: ما رواه علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ, إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ, اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ, أَنْتَ رَبِّي, وَأَنَا عَبْدُكَ, ظَلَمْتُ نَفْسِي, وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي, فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاَ, إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ, [وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ, لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ, وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا, لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ] , لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ, وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَأَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ, تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ, أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي, والترمذي وصححه, وفي رواية لأبي داود «أَنَّهُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ» وروى بعض ذلك أيضاً من حديث جابر ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر, وفي

حديث محمد بن [مسلمة]: كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تَطَوُّعَاً قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» رواه النسائي. ومن ذلك: ما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, الْحَمْدُ للهِ كثيرًا, الْحَمْدُ للهِ كثيرًا, الْحَمْدُ للهِ كثيرًا, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ». وفي رواية: «يَقُولُ فِي التَّطَوُّعِ» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.

قال أحمد: حديث جبير بن مطعمٍ يدل على صلاة الليل, وحديث أبي هريرة يدل على صلاة النهار. وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ وَنَحْنُ فِي الصَّفِّ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, فَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيراً, وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. فَرَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ وَاسْتَنْكَرُوا الرَّجُلَ وَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ هَذَا الْعَالِي الصَّوْتَ» فَقَالُوا: هُوَ هَذَا, فَقَالَ: «وَاللهِ رَأَيْتُ كَلاَمَكَ يَصْعَدُ فِي السَّمَاءِ حَتَّى فُتِحَ لَهُ بَابٌ فَيَدْخُلَ فِيهِ» رواه سعيد وأبو نعيم, وروى من حديث وائل بن حجر وعبد الله بن عمر: فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيراً,

وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ, مَا أَرَدْتُ بِهِنَّ إلاَّ خَيْراً. قَالَ: «لَقَدِ رَأَيْتُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُنَّ فَما تَنَاهَن دُونَ الْعَرْشِ» رواه أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الجبار عن أبيه. وعن عبد الله بن عمرو: أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: «الله أكبر كبيراً, والحمد لله كثيراً, وسبحان الله بكرةً وأصيلاً, اللهم اجعلك أحبَّ وأحسن شيء إليَّ وأخشى شيء عندي» رواه سعيد وأبو نعيم. ومن ذلك: ما روى [أبو العباس]: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَقُّ أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ, وَوَعْدُكَ الْحَقُّ, وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ, وَالْجَنَّةُ حَقٌّ, وَالنَّارُ حَقٌّ, وَالسَّاعَةُ حَقٌّ, وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ, اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ, وَبِكَ آمَنْتُ, وَعَلَيْكَ

تَوَكَّلْتُ, وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ, وَبِكَ خَاصَمْتُ, وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ, فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ, وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ, أَنْتَ [الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ -أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ-]» رواه الجماعة. وفي رواية لأبي داود: «كَانَ فِي التَّهَجُّدِ يَقُولُ بَعْدَ مَا يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ». ومن ذلك ما روت عائشة: أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ, عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ, أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ, اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ, إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» رواه الجماعة إلا البخاري. وفي رواية لأحمد وأبي داود: «كَانَ إِذَا قَامَ كَبَّرَ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ» الحديث. ومن ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سُئلت: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَسْتَفْتِحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِيَامَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: «كَانَ إِذَا قَامَ

حكم بقية الاستفتاحات

كَبَّرَ عَشْرًا, وَحَمِدَ اللهَ عَشْرًا, وَسَبَّحَ عَشْرًا, وَهَلَّلَ عَشْرًا, وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا, وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أحمد وأبو داود. ومن ذلك: ما روى حذيفة: «اللهُ أَكْبَرُ, ذُو الْمُلْكِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ والْكِبْرِيَاءِ والْعَظَمَةِ» رواه أبو نعيم. وفي رواية: «إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ, ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ والْكِبْرِيَاءِ والْعَظَمَةِ» رواه أبو نعيم, فهذه الاستفتاحات مستحبة في النافلة, كما جاءت بها السنة, ولا بأس بها في الفرض, بل الاستفتاح بها حسن, نص عليه في غير موضعٍ, قال في رواية منصور: أنا أذهب إلى حديث عمر [وإن قال] كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم, فليس به بأس, وعامةِ ما قال في صلاة الليل. وقال: ما أحسن حديث أبي هريرة في الافتتاح. وقال في حديث جبير بن مطعم: ما أدفع من ذهب إليه وقال في رواية ابن

الحارث: اذهب إلى ما روي عن عمر, ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي من الاستفتاح كان حسناً. فقد نص على جواز الجميع واستحسانه, مع تفضيل استفتاح عمر, وقد قال أيضاً: اذهب في الصلاة إلى افتتاح عمر, قيل له: فهذه الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ترى أن افتتاح النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت عنه أنه في التطوع إلا حديث عائشة, وقال في رواية أبي القاسم: ما يروى من تلك الأحاديث إنما هي عندي في صلاة التطوع. قال القاضي: فإذا ثبت أنها كانت في نوافل الليل لم يستحب فعلها في صلاة الفرض؛ لأنها لو كانت مستحبة فيها لَخَصَّ بها النفل دون الفرض, وهذا كالدعاء في الركوع والسجود, فلم يكره في الفرض دون النفل, على إحدى الروايتين, وكالقنوت فإنه مشروع في النفل دون الفرض, والصحيح الصريح هو الرواية الأولى, وأن ذلك جميعه حسن في الفرض أيضاً, لأن حديث أبي هريرة صريح أنه كان في الفريضة, وحديث [علي] قد روي فيه أنه كان في الفريضة, وحديث جبير قد روى ابن أبي

أوفى نحوه في الفريضة؛ لأن الرجل الذي افتتح الفريضة بقوله: «اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذا جاء رجل وقد حفزه النفس وقال: «اللهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ» فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ قَالَ: «أَيُّكُمِ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟» فَأَرَمَّ الْقَوْمُ, فَقَالُواْ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا, فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ, جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهُنَّ, فقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا». وفي رواية ابن إبراهيم وقد سُئل عن الرجل يقول: الله أكبر كبيراً, فقال: ما سمعت [بقول]: الله أكبر سبحانك. قال القاضي: فإن قال الله أكبر وأجل وأعظم أو قال: الله أكبر كبيراً أو

قال: الله أكبر من كل شيء, انعقدت صلاته ولم تستحب هذه الزيادة, بل تكره, وقال الآمدي وغيره: لا تستحب ولم يصفها بكراهة. والصحيح أن قوله: الله أكبر كبيراً, لا يكره, بل هو حسن وإنْ كان غيره أفضل منه بخلاف قوله: [الله] أكبر من كل شيء, ونحوه, فإنه غير مأمور به, قال القاضي والآمدي: وهذا يدل على أنه لا تستحب الزيادة على التكبير في صلاة الفرض.

فصل

فصل إذا نسي الاستفتاح في موضعه, لم يأت به في الركعة الثانية؛ لفوات محله, هذا عامة قول أصحابنا, وذكر الآمدي أنه [إن] قلنا بوجوبه, كما اختاره ابن بطة, فإنه يأتي به في الثانية: وإن قلنا: لا يجب, فهل يأتي به في الثانية؟ على اختلاف في المذهب, وظاهر المذهب أنه لا يأتي به. والصواب: طريقة أصحابنا أنه لا يأتي بالاستفتاح؛ لأنه ذكر مشروع في موضعٍ, وقد فات محله, فلا يأتي به, كالتسبيح في الركوع والسجود, وقراءة السورة إذا نسيها في الأوليين. وإن ترك الاستعاذة في الركعة الأولى, أتى بها في الثانية, ولا يأتي بها في أثناء القراءة؛ لفوات محلها, كذا ذكر.

مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. السنة: لكل من قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة: أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} يعني: إذا أردت القراءة كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي: يريدون العود. فإن قيل: هذا أمر [لمن] كان أكبر مقصوده القراءة فقط, وهو القارئ خارج الصلاة, والقارئ للقرآن في صلاة التراويح. قلنا: الآية تعم القسمين, بل إذا استحب الاستعاذة للقارئ في غير الصلاة, فهي للقارئ في الصلاة أوكد؛ طرداً لوسوسة الشيطان عنه, ولما تقدم من حديث جبير بن مطعم, وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة استفتح, ثم يقول: «أَعُوذُ بِاللهِ

يستعاذ في الفريضة والنافلة

السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». وفي رواية: «مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» رواه أحمد, والترمذي, وقال: (هذا [أشهر حديث] في هذا الباب) والذي قبله, وإن كان في النافلة, فإنه لا فرق في الاستعاذة [بين] الفريضة والنافلة, [ولو لم يكن كان يبلغنا أنه كان يستعيذ امتثالاً لأمر الله سبحانه, كما لم ينقل عنه نقلاً ظاهراً أنه كان يستعيذ عند القراءة خارج الصلاة, إلا في حديثٍ أو حديثين] , ومعلوم أن ذلك لا مُحَالة له.

وقال الأسود بن يزيد. رأيتُ عمر حين يفتتح الصلاة يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ, وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ, وَلاَ إِلَهَ غَيْرَكَ» ثم يتعوذ. رواه النجاد والدارقطني. وجاءت الاستعاذة في الصلاة عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة.

فصل

فصل وفي صفة الاستعاذة أربعة أنواع: أحدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, كما ذكره الشيخ, وذكره جماعة من أصحابنا, وذكره الآمدي, رواية عن أحمد؛ لظاهر قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وقال: ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وقد روى سليمان بن صرد قال: أستبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه, فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ هَذَا أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» رواه البخاري ومسلم. ولأن في حديث جبير بن مطعم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» وكذلك روى النجاد ثلاث روايات: «أعوذ

بالله من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم» قاله في رواية جماعة, واختاره أبو بكر والقاضي والآمدي وابن عقيل وغيرهم. وقد روي ذلك عن مسلم بن يسّار, وهو من أفضل التابعين؛ لأن ذلك فيه جمع بَيْنَ ظاهِرِ قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} مع قوله في الآية الأخرى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} , وهو أبلغ معنى؛ لأن ذكر الصفة بعد الحكم بحرف «إن» يقتضي أن يكون علمه وسمعه سبحانه لدعاء الداعي, وعلمه بما في قلبه, سبب لإعاذته وإجارته من الشيطان. وثانيها: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن فيه جمعاً بين صفة الله تعالى مع تقديمها, وقد تقدم في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يقول بعد الاستفتاح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».

وروى أبو داود والنجاد في قصة الإفك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». وروى أحمد في «المسند» عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح ثلاث مراتٍ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان [الرجيم] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ...} إلى آخر سورة الحشر, وكَّل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يمسي, ومن قالها إذا أمسى, وكَّلَ الله به سبعين ألف ملكٍ يحفظونه حتى يصبح». وروى النجاد عن ابن عمر أنه كان يقول: أعوذ بالله [السميع العليم] من الشيطان الرجيم, وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

وثالثهما: أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم. واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب, تخصيصاً للصفة بإعادتها, وعملاً بظاهر قوله: «إن الله هو السميع العليم» مع السنة الواردة لذلك, وكيف ما استعاذ بما روى فقد أحسن, مثل أن يقول: «أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» وهمزه: الموتة, وهي الصرع. ونفخه: الكبر والخيلاء. ونفثه: الشعر والأغاني الكاذبة.

مسألة: ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرجيم, ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم))

مسألة: [ثم يقرأ]: بسم الله الرحمن الرجيم, ولا يجهر بشيء من ذلك؛ لقول أنس: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». السنة: أن يقرأ البسملة قبل الفاتحة, وأن يخفيها, أما قراءتها فلما روى أبو نعيم المجمر, قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ, وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسْولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» رواه النسائي والدارقطني بإسنادٍ جيد, وهو مروي عن إسماعيل بن حمادٍ بن أبي سليمان عن خالد الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ

صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه الترمذي وقال: [هذا حديث] ليس إسناده بذاك, رواه المعتمر عن إسماعيل محتجاً به, وذكر إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: أنه قال: إسماعيل بن حمادٍ ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي خالد الوالبي, فقال: صالح الحديث. وعن علي رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه الدارقطني, وعن ابن عباس قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه الترمذي والدارقطني, وإسناده ليس بذاك؛ ولأن أحاديث أنسٍ كلها إنما نفي فيها الجهر, فعلم أنهم كانوا يقرؤونها سرًّا, كما صرح به في بعض الروايات, يعني ابتداء القراءة كما سيأتي. ولأن الصحابة

السنة بالإسرار بالبسملة

رضي الله عنهم كانوا يقرؤونها وينكرون على من رغب عن قراءتها, وهم أعلم بالسنة, ولأنه يشرع قراءتها في النافلة, فكذلك في الفريضة, ولأنه يشرع قراءتها في أول السورة خارج الصلاة, فكذلك في الصلاة وأولى, ولأنها مكتوبة في المصحف, وإنما كتبت لتقرأ. وهل قراءتها واجبة أو سنة؟ يأتي إن شاء الله توجيهها. والسنة: الإسرار بها, هذا مذهبه الذي لم تختلف فيه نصوصه, وهو قول عامة أصحابه, والجهر بها مكروه, نص عليه, وقد ذهب بعض أهل مذهبه إلى استحباب الجهر بها, وهو قول أبي القاسم عبد الرحمن بن منده, وربما حكى بعض

الناس هذا رواية عنه, وهو غلط, وإنما مذهبه الإسرار؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ». وفي لفظ «يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ» رواه الجماعة, وفي لفظ «كَانُوا لاَ يَذْكُرُونَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلاَ فِي آخِرِهَا» رواه أحمد ومسلم, وفي لفظٍ متفقٍ عليه: «فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رواه أحمد بإسنادٍ جيد شرط الصحيح, ولفظه: «كَانُوا لاَ يَجْهَرُونَ بِبِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وفي لفظ لابن شاهين: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يخفون بسم الله الرحمن الرحيم» , وفي لفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بسم الله الرحمن الرحيم وأبو بكر وعمر». فإن قيل: قوله: «بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» أراد به السورة, يعني أنه كان يقرأ الفاتحة قبل السورة, والروايات الصريحة لعلها من بعض الرواة رواها بما فهمه من المعنى, يدل على ذلك ما روي سعيد بن زيد عن أبي مسلمة قال: «سَأَلْتُ أَنَسًا: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِبِسْمِ

اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, أَوْ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ, وَلاَ سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَطْ قَبْلَكَ» رواه أحمد والترمذي وصححه النسائي, وإسناده على شرط الصحيحين, وقال الدارقطني: إسناده صحيح. قلنا: هذا التأويل لا يصح لو تجرد عن الروايات الصريحة؛ لأنه لو أراد السورة. لذكرها باسمها, فقال: «بالفاتحة» أو «أم الكتاب» أو «أم القرآن» كما عادتهم في سائر الخطاب, فأما تسميتها بالحمد بأول كلمةٍ منها, كما تقول سورة «والعاديات» وسورة «اقرأ» ونحو ذلك كما عرف أهل زماننا, فأما تسميتها الحمد لله رب العالمين بالجملة جميعها, فليس يعرف في اللسان قديماً ولا حديثاً, ثم لو كان المقصود أن يبتدئ القراءة بسورة أم الكتاب, لم تكن فيه فائدة, لأن هذا من العلم العام, مثل كون قراءة الليل يجهر بها وقراءة النهار يخافت بها, وسنَّة ذلك. وفي حديث قتادة: أنهم سألوا أنساً عن ذلك, من توهم بعض الرواة, فقال قولاً عظيماً؛ لأن في الحديث ذِكر لفظ أنس في قوله: «لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلاَ فِي آخِرِها» وهذه زيادة على الرواية الأخرى, ثم قد رواه عن أنسٍ جماعة, كل منهم يؤدي لفظاً صريحاً غير الآخر, ومن تتبع

طرق الحديث علم ذلك. وأما الحديث الآخر: إنْ كان محفوظاً فالظاهر: أن السائل سأل أنساً عن قراءتها سرًّا, فلم يكن إذ ذاك يعلم ذلك, وإنما كان الذي يعلمه أنهم لا يجهرون بها, وعَلم من طريق آخر أنهم كانوا يسرون بها, فرواه في وقتٍ آخر, إن كانت مسألته لأنسٍ قديماً, وإن كان ذلك حديثاً, فلعل أنساً قد نسي؛ لأنه كان في آخر عمره وسعيد ابن يزيد [...]. وبكل حال: مثل هذا لا يصلح أن يعارض الروايات المستفيضة عنه. وأيضاً مما روى أبو الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْد للهِ, رَبِّ الْعَالَمِينَ» رواه أحمد ومسلم, وقد تقدم الكلام على تأويله بالسورة.

وروى ابن شاهين من حديث ابن عمر وأبي هريرة, وعُصمة بن مالك الخطمي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ». وعن أم الحصين قالت: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما افتتح الصلاة قرأ الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين». وهذه الرواية صريحة بأنهم أرادوا الآية وما بعدها. وأيضاً ما روى ابن عبد الله بن المغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم, فقال: «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ -قَالَ: وَلَمْ أَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ حَدَثًا فِي الإِسْلاَمِ مِنْهُ- فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا, فَلاَ تَقُلْهَا, إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ, فَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» رواه الخمسة إلا أبا

داود, وقال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لابن شاهين: «فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يقرءون بالحمد لله رب العالمين» وهذا -مع أنه نص في عدم الجهر بها- فيه بيان أن قوله: «الحمد لله رب العالمين» إنما كانوا يعنون به الآية وما بعدها ولا يعنون أنه كان يبتدئ بالفاتحة المسماة بالحمد لله رب العالمين, والذي يحقق ذلك مما تقدم أن أنساً وعبد الله بن مغفل وأم الحصين وغيرهم, ممن أطلق إنما كان يروي ذلك لموضع الشبهة واللبس لما اختلفوا في آخر عصر الصحابة, فمن الناس من كان يجهر بها, ومنهم من كان يخفيها, فاحتاج الناس إلى استعلام السنة والرجوع إلى الصحابة في ذلك. فأما أن الفاتحة تقرأ قبل غيرها: فلم يكن عند أحد في ذلك شبهة, ولا يحتاج أن يروى عن فلان أو فلان, أو يحتج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على من خالفه, حتى لو فرضنا أن المراد أنهم كانوا يفتتحون بالسورة, فإن البسملة ليست من السورة, على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وأيضاً حديث: «قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ...» على ما سنذكره, فإنه كالنص في أنه لا يجهر بها.

وأيضاً: فإن هذا قول أكابر الصحابة وجماهيرهم, وهم أعلم بالسنة وأتبع لها, قال الترمذي: على هذا العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم, وقد تقدم ذكر ذلك عن الخلفاء الثلاثة. وروى ابن شاهين وابن أبي موسى عن أبي وائل قال: «كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم» , وعن علي وعمار «أنهما كانا لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم» , وعن الأسود بن يزيد قال: «صليت خلف أمير المؤمنين عمر سبعين صلاة, يكبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك, ولا إله غيرك. ثم يقول: الحمد لله رب العالمين» وروى أحمد عن ابن عباس قال: «الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة

الأعراب» وقال بسر بن سعيد -وهو أحد أجلاء التابعين:- «ما أدركت أحداً يفتتح إلا بالحمد لله رب العالمين» , «وسئل الحسن عن الجهر بها في الصلاة فقال: إنما يفعل ذلك الأعراب» , وقال إبراهيم النخعي: «الجهر بدعة» رواهن ابن شاهين. والآثار في ذلك كثيرة في الزجر عن تركها. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ أنه جهر بها, رواها الدارقطني وغيره, وكذلك عن كثير من أصحابه, وروي أيضاً أحاديث كثيرة في الزجر عن تركها. فإما أن تكون رواية من روى ترك الجهر, أراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفض بها صوته ويجهر بها جهراً خفياً, ثم يرفع صوته بسائر السورة. وإما أن يكون الجهر بها والإسرار سواء؛ لمجيء الأحاديث

قسما الأحاديث الواردة في الجهر بالبسملة

بهما, بنى على أنه كان يجهر أحياناً ويخفي أحياناً. قال بعضهم: يكون الجهر بها على حرف من يعدّها من الفاتحة, وتركه على حرف من لا يعدها من الفاتحة, وهما حرفان مشهوران. أو يكون الجهر أوْلى؛ لأنها إما أن تكون آية من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة, أو آية من القرآن فيجهر بها كسائر القرآن, وإذا كانت التسمية مشروعة في أول الوضوء ففي الصلاة أوْلى. قلنا: أما الأحاديث فضربان ما صرّح فيه بذكر الجهر فليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح يخرج به الحجة, ولذلك لم يخرج عن أصحاب السنن منها شيء. وقال الدارقطني, وقد سئل عن أحاديث الجهر: ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح. وأما عن الصحابة فمنه صحيح و [منه] ضعيف. ومن تتبع أسانيدها علم الضعيف فيها, ويؤكد ذلك أن أكثرها من رواية الصحابة الذي قد صح عنهم عدم الجهر, مثل علي وعمار وأنس, فكيف وما لم يصرح فيه بالجهر وإنما فيه بسم الله الرحمن الرحيم, فهذا يدل على استنان قراءتها, والرد على من رغب عنه. قال أبو عبيد: الأحاديث التي ذكرناها في ترك قراءة:

«بسم الله الرحمن الرحيم» فليس هو على الجهر بها, وإنما غلَّطوا ترك قراءتها في الصلاة أو غير الصلاة, إلا أنه يسرها في الصلاة. ومن نقل عنه من أصحابه الجهر, مثل ابن عباسٍ وابن الزبير وابن عمر, فقد نقل عنهم الإسرار بها, وهذا يدل على أن من جهر بها من الصحابة كان مقصوده تعليم الناس أن قراءتها سنة, كما جهر عمر بالاستفتاح, وكما جهر أبو هريرة بالاستعاذة, وكما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة, وهذا -والله أعلم- معنى قول الإمام أحمد وقد سأله أبو طالب:

أتجهر ببسم الله الرحمن الرحيم, قال: بالمدينة نعم, وهاهنا من كان يقول إنها آية من كتاب الله, مثل ما قال ابن عباسٍ: بسم الله الرحمن الرحيم آية, وأبو هريرة: هي إحدى آياتها, وابن الزبير: كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم, ويتأولونها أنها آية من كتاب الله وحمل القاضي هذا على أن أهل المدينة كانوا يرون الجهر, فإذا خافت استنكروا فِعله فلم يصلوا معه, وليس كذلك, فإن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها سرّاً ولا جهراً, فأراد أحمد رضي الله عنه أن يجهر بها الرجل هناك؛ ليبين أن قراءتها سنّة, ويكون قدوته في الجهر بها من جهر بها من الصحابة على هذا التأويل, ولذلك ما أمر بقراءتها بعد الاستعاذةِ, قال: ومالك لا يرى ذلك, وما يعجبني هذا من قوله, والجهر بها على الوجه مستحب؛ لما قدمناه. فأما اتخاذ الجهر بها سنة فمكروه, نص عليه في غير موضع, لأنه خلاف السنة. فأما النبي صلى الله عليه وسلم: فلا شك أن المعروف من حاله كان ترك الجهر, كما نطقت به الأحاديث الصحيحة, وعمل به الخلفاء الراشدون. وما نقل عنه من الجهر بها إنْ صح وكان له أصل, فله ثلاثة أوجه:

تخريج ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بالبسملة

أحدهما: أنه يكون جهر بها أحياناً؛ ليعلمهم أنه يقرأها, كما ذكرنا عن أصحابه, ويؤيد هذا أن الجهر بها مروي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه, وهو الراوي لحديث: «قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي» مع أن المحفوظ غيره, تبيين أصل قراءتها. الثاني: أن يكون جهر بها أحياناً, كما في حديث أبي قتادة: كان يجهر بالآية أحياناً؛ لأن الجهر بها جائز في الجملة, ولا بأس به في الأحيان, وإنما المكروه المداومة عليها.

ترك الجهر بالبسملة لحكمة

الثالث: أن يكون ذلك [من] أول الأمر ثم نسخ, وكان آخر الأمرين عنه: ترك الجهر, ويدل على أنه آخر الأمرين: أن أكابر الصحابة عملوا به. وما روى أبو داود في «الناسخ والمنسوخ» عن سعيد بن جبير «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة, قال: وكان أهل مكة يدعون مسيلمة الرحمن, فقالوا: إن محمداً يدعوا إلى إله اليمامة, فأمر الله رسوله بإخفائها, فما جهر بها حتى مات» رواه الطبراني في «المعجم» عن سعد عن ابن عباس مسنداً, ويحقق هذا أن الجهر بها أكثر ما يعرف عن المكيين, مثل عطاء وطاووس ومجاهد, وبهذا يتبين أنه لا يستوي الجهر بها والإسرار مطلقاً. وقول من خرّج ذلك على القراءتين ضعيف, فإنه قد يجهر بها وإن لم تكن قرآناً, كما يجهر بالتأمين, وقد يخافت بها وإن كانت من القرآن, كما سنذكر, ولو صح ذلك لم يمنع أن تكون المخافتة بها أولى, كما تختار بعض الحروف على بعضٍ. وأما كون الجهر بها أولى؛ لأنه من القرآنِ أو من السورة,

فليس ها بمطردٍ فإنه قد يجهر ببعض القرآن دون بعض, [كما] يجهر في بعض الصلواتِ والركعات دون بعضٍ. وأيضاً: فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بها لحكمة كانت في زمانه, ثم صار ذلك سنةً لمن بعده, كما رمل واضطبع في طواف القدوم؛ لمعنى كان في ذلك الزمان, ثم صار سنة للمسلمين إلى يوم القيامة, وكما أن أصل السعي بين الصفا والمروةِ ورمي الجمرات وذبح الهدي, لما يروى من قصة فِعل إبراهيم وابنه الذبيح وهاجر, ثم جعل الله ذلك عبادةً لمن بعدهم. وأيضاً: فهي وإن كانت آيةً من القرآن, لكن إنما أنزلت لأجل ما بعدها من السورة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم, والتسمية إنما تكون عند ابتداء الأمور وفي أوائلها, فصارت كالتابع لغيره

الفرق بين ما يقصد لنفسه وما يقصد لغيره

المقصود من أجله, ففرق بين ما يقصد لنفسه وما يقصد لغيره بصفة القراءة في الجهر والإخفاتِ, كما يخافت بالاستعاذة لما كانت مقصودة لغيرها, ألا ترى أن التسمية مقصودة لما بعدها من حمد الله والثناء عليه والصلاة له؟ والمعنى: بسم الله أقرأ وأصلي, أو: بسم الله صلاتي وقراءتي فبيّن أن يميز بين المقصود لنفسِه والمقصود لغيره.

فصل

فصل وهل تجب قراءتها في الصلاة؟ على روايتين منصوصتين. إحداهما: يجب, بناء على أنها من فاتحة

الكتابِ, فإن لم يجعل البسملة أنه كان رأس الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وليس نسبة لرؤوس الآي؛ لأن ما قبل الحرف الآخر يكون حرف لين, كما في سائر الآي.

البسملة ليست من الفاتحة

وأيضاً: فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: «إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم, إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني, وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» , وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه, من عدة وجوهٍ رواها الدارقطني وغيره؛ لأنها مكتوبة في أولها في المصحف, فوجبت أن تتلى حيث كتبت كسائر آياتها. والرواية الثانية: لا تجب قراءتها, لكن يكره ترك قراءتها كالاستعاذةِ وأولى, بناءً على أنها ليست من الفاتحةِ, والمفروض أنما هو قراءة الفاتحة, ويمكن أن يقال: هي وإنْ جعلتْ من الفاتحة باعتبار, فليست من القراءة المفروضة, وهذه الرواية هي الصحيحة عند عامة الأصحاب, وهي الغالب على كلام أحمد, وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الدليل على أن البسملة ليست من الفاتحة

«مَنْ صَلَّى صَلاَةً لاَ يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ» يقولها ثلاثاً, فقيل لأبي هريرة: إنما نكون وراء الإمام, فقال: اقرأها في نفسك, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ, وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ, فَإِذَا قَالَ: الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللهُ: حَمَدَنِي عَبْدِي, وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي, وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي, فَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ, وَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَؤُلاَءِ لِعَبْدِي, وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة, وقال أبو زرعة: حديث صحيح. وفيه دلالة من أربعة أوجه: أحدها: أن أبا هريرة هو راوي الحديث, وقد فهم أن أم الكتاب هي الحمد لله رب العالمين, إلى آخرها ولهذا فسر أحد الحديثين بالآخر, وهذا يضعف ما روي عنه بخلافه.

الثاني: أنها لو كانت منها أو هي واجبة لذكرها في القسمة, كما ذكر غيرها؛ لأن المراد بالصلاة: القراءة الواجبة في الصلاة.

.............................................

الثالث: أن القسمة باعتبار الآيات؛ لأنه وقف على رأس كل آية, وجعل يشير إليها, فلو كانت البسملة فيها لكان الذي لله أربع آيات ونصفاً, والذي للعبد اثنتين ونصفاً.

الرابع: أنه قال في آخره: فهؤلاء لعبدي, وهذه صيغة جمع, إنما يشار به إلى ثلاثة آيات, ولو لم تكن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} رأس آية لقال: «فهاتان» والإشارة إنما هي إلى [الآي] دون الكلمات والحروف, كما قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين, ولعبدي ما سأل. وأيضاً: حديث [أبي بن كعب] وحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث ابن جابر, ولأنها لو كانت من الفاتحة

لكانت السنة الجهر بها, فإن الفرق بين آيات السورة بعيد عن القياس, بخلاف ما ليس من السورة وإنما نزل لأجلها, ولأنها لو كانت من أول الفاتحة لكانت من أول سائر السور؛ لأنها سورة من السور, ولا يختلف المذهب أنها ليست من غير الفاتحة, وقد دل على ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ, وَهِيَ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن. قال أصحابنا: وقد أجمع القراء على أنها ثلاثون آية بدون التسمية, فلو كانت منها لكانت آية وكانت إحدى وثلاثين, ولأن الناس مجمعون علي أن الكوثر ثلاث آياتٍ, ولو كانت منها لكانت أربع آياتٍ, ولأن الصحابة والتابعين وسائر الأمة يسمون حروف الهجاء فواتح السور, والحروف المقطعة في أوائل السور, ولو كانت البسملة أول آيةٍ من السور لما صح, ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كتبوها في المصحف سطراً مفصولاً عن

البسملة بعض آية من سورة النمل, وآية مفردة أنزلت أول السور

السورة ولو كانت منها لخلطوها في سائر آياتها كغيرها. ومع هذا فلا تختلف النصوص عن أحمد أنها آية من كتاب الله في كل موضعٍ كتبت في المصحف, إلا في سورة النمل, فإنها بعض آية, ومن لم يقرأها فقد أسقط مائة وثلاث عشرة آيةً من كتاب الله, وهي آية مفردة أنزلت في أول السورة وإن لم تكن منها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كتبوها في المصحف, فعلم أنها من القرآن, مع اعتنائهم بتجريده عما ليس منه, حتى عما فيه مصلحة من التعشير والتخميس والنقط [وأسماء] [السور] وغير ذلك. وروى أبو داود عن ابن عباسٍ قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ

يَعْرَفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنَزَّلَ عَلَيْهِ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» , وفي كتابة الصحابة لها في أول الفاتحة دون أول براءة, وكتابتها سطراً مفصولاً عما قبلها, دلالة واضحة علي ذلك. هذه حقيقة المذهب, ومن تأمله علم الطريقة المثلى فيما اضطرب الناس فيه في شأن البسملة. وطائفة من أصحابنا يحكون روايةً أخرى أنها بعض أيةٍ, وأنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل, وربما اعتقد كثير منهم أن هذا هو المذهب, ظناً منهم أنا إذا قلنا: ليست من السورة, فقد قلنا: ليست من القرآن, وهذا غلط على المذهب توهَّموه عن مذهب غيرنا. والله أعلم.

فصل

فصل السنة لمن قرأ سورة من القرآن: أن يقرأ في أولها البسملة, إلا في أول براءةِ, سواء ابتدأ السورة أو وصلها بما قبلها, إلا في الصلاة يخفيها, وخارج الصلاة إن شاء جهر بها, وإن شاء خافت, كالاستعاذة وسائر القرآن؛ لأن الجهر والمخافتة مؤقت في الصلاة, وليس مؤقتاً في غيرها, وأما في الصلاة فيخافت بها, إلا إذا قرن بين السورتين في التراويح ونحوها, ففيه روايتان: إحداهما: لا يجهر بها كسائر الصلوات. والثانية: إن جهر فلا بأس؛ لأن النافلة أخف من الفريضة, وإذا قرن بين السورتين كأن قد جهر بما قبلها, وما بعدها فألحُقت بذلك, بخلاف ما إذا كان قبلها سكوت أو مخافتة, فإنها تلحق به, وإن ابتدأ من أثناءِ سورة أو من أول براءة لم يستحب أن يقرأها؛ لأنها لم تكتب هناك, والمستحب أن تقرأ كما في المصحف في

مواضعها, وإنْ قرأها فلا بأس, بخلاف الاستعاذة فإنها مشروعة في أول كل قراءةٍ.

مسألة: ثم يقرأ الفاتحة, ولا صلاة لمن لم يقرأ بها, إلا المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة, ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه

مسألة: ثم يقرأ الفاتحة, ولا صلاة لمن لم يقرأ بها, إلا المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة, ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه. هذا الكلام فيه فصول: أحدها: في قراءة الفاتحة في الصلاة, أما قراءة الفاتحة في الصلاة, فهذا من العلم العام المتوارث بين الأمة خلفاً عن سلف عن نبيها صلى الله عليه وسلم, وظاهر المذهب أن صلاة الإمام والمنفرد لا تصح إلا بقراءة الفاتحة, سواء تركها عمداً أو سهواً, وعنه: إذا صلي بآيةٍ واحدةٍ أجزأته. وقوله: «لاَ صَلاَةَ إِلاَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» على طريق الفضل؛ لأن الله تعالى قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} , وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء في صلاته: «كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ, ثُمَ ارْكَعْ» , ولأن المفروض في

الصلاة هو القرآن بقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} سمي الصلاة قرآناً, وإنما يعبر عن الشيء باسم بعضه إذا كان ركناً فيه, كما سمي ركوعاً وسجوداً وقياماً. وكذلك قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وسائر الصورة دليل على أن الصلاة لا بد فيها من القراءة. وقد روى أبو الدرداء أنَّ رجلاً قال: يَا رَسُولُ اللهِ أَفِي كُلِّ صَلاَةٍ قُرْآنٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» , وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: «وَجَبَتْ هَذِهِ» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الآدَمِيِّينَ, إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» رواه مسلم وغيره. وهذا يعم جميع القرآن, وكله كلام الله, فاستوى في انعقاد

الصلاة بما تيسر منه, كما استوى في جهة تلاوته وصحة الخطبة به, وإنما اعتبرت الآية كما اعتبرناها في الخطبة. ومن أصحابنا من قال: إذا لم تشترط الفاتحة فعليه أن يأتي بسبع آياتٍ, وهل يشترط أن تتضمن قدر الحروف؟ على وجهين, وهو مع مخالفة النصوص فاسد الوضع؛ لأن اعتبار سبع آيات على إيجاب الفاتحة, فكيف يوجب مع القول بعدم وجوبها؟ والصحيح الأول؛ لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» رواه الجماعة. فإن قيل: هو محمول على نفي الفضل والكمال؛ لأن حقيقة الصلاة قد وجدت, فلا يمكن نفيها فلا بد من إضمار الإجزاء أو الكمال, إذ لا يمكن إضمارها؛ لما بينها من التنافي, ولأن المقتضي لا عموم له, فإن الإضمار أوجبته الضرورة, فيتقدر بقدرها, وليس أحدهما أولى, فتقف الدلالة, أو يحمل على الكمال؛ لأنه المتيقن, ولما قدمناه من الدلالة. قلنا: بل المنفي حقيقة الصلاة؛ لأن الصلاة المطلقة في لسان الشرع هي: الصلاة المشروعة المأمور بها, وهذه لم توجد مع

أدلة وجوب قراءة الفاتحة

عدم الفاتحة, كما لا توجد مع عدم الركوع والسجود, وإنما يتوجه مثل هذا الكلام في مثل قوله: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» , وأما الأشياء التي تناول الاسم المطلق صحيحها دون فاسدها [فيكن رفع حقيقها قد ارتفعت حقيقته]. وأيضاً: فلو كانت حقيقة الصلاة موجودةً, لوجب حمل مطلق النفي على نفي الإجزاء والصحة, لأن الشيء إذا عدم إجزاؤه وصحته كان كالمعدوم في المعنى, فيحسن إطلاق النفي عليه؛ ويكون أولى بالنفي من الشيء الذي هو صحيح مجزئ. وأيضاً: فإن نفي الشيء باعتبار انتفاء فائدته وجدواه طريقة معرفته في الكلام, بل قد صارت حقيقة عرفية, فيجب حمل الكلام عليها, ويحتاج حمله على انتفاء كمال وفضلية إلى دليل, وفي هذا جواب عما قالوه, وهذا إنما قلناه تأسيساً لغير هذا الموضع, وإلا فقد روي الحديث بلفظ ماض «لاَ تُجْزِي [صَلاَةٌ لاَ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الكتاب]» رواه الشافعي والدارقطني وقال: إسناده صحيح.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((خداج))

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيُنَادِيَ: أَنْ لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ, فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ». رواه الجماعة إلا البخاري, والخداج: النقصان في ذات الشيء. فعلم أن الصلاة ناقصة في أركانها؛ لأنهم يقولون: خدجت الناقة: إذا ولدت قبل أيامها, وأخدجت: إذا ولدت ولداً ناقص الخلقة وإن تمَّت أيامه, وربما اجتمعا. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم نقص الأيام فقط؛ لأن ذلك لا نقص فيه حتى تشبه به الصلاة, فعلم أنه أراد الذي نقص خلقه, وقد فسر ذلك بقوله «غير تمام» ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاتحة هي الصلاة, وقسمتها قسمتها, فإذا لم يقرأ الفاتحة لم تبق الصلاة المقسومة, فلم تبق صلاة أصلاً؛ لأنه أخبر بقسم مسمى الصلاة, ولأن الفاتحة اختصت من بين القرآن بكونها أم القرآن وفاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم, ولأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن

القرآن أفضل من التوراة والإنجيل

مثلها, إلى غير ذلك من الخصائص والمزايا, فلم يجز إلحاق غيرها بها, والقرآن وإن كان جميعه كلام الله, وبعضه أفضل من بعضٍ, كما أن آية الكرسي أعظم آيةٍ في القرآن, وقل هو الله تعدل ثلث القرآن, ويس قلب القرآن, ولا شبهة أن كلام الله الذي يذكر به نفسه ويتضمن أسماءه وصفاته أفضل من كلامه الذي يذكر به مخلوقاته, ولا خلاف بين الأئمة أن القرآن أفضل من التوراة والإنجيل, وهو المهيمن عليها, وفضل كل شيء بحسبه, ففضل الكلام قد يكون بحسب المتكلم به, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» وقد يكون بحسب معانيه وما يتكلم فيه, وكلما كانت معانيه أشرف وأنفع كان

أفضل, ولهذا فضلت سورة الفاتحة والإخلاص وآية الكرسي وغير ذلك من القرآن على بعضه.

الفصل الثاني

الفصل الثاني أن المأموم لا تجب عليه القراءة, لا في صلاة السر ولا في الجهر, من غير اختلاف في المذهب, حتى كان الإمام أحمد بعد الخلاف في ذلك يقول: ما سمعت أحداً في الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقرآن لا تجزي صلاة من خلفه إذا لم يقرأ, وقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون, وهذا مالك في أهل الحجاز, وهذا سفيان في أهل العراق, وهذا الأوزاعي في أهل الشام, وهنا الليث في أهل مصر, ما قالوا: الرجل [إذا] صلى خلف إمامه ولم يقرأ هو صلاته باطلة. أما إذا جهر الإمام فالأدلة عليه كثيرة. وأما إذا خافت فيدل عليه وجوه: أحدها: ما روى موسى بن أبي عائشة قال: سألت عبد الله بن شداد بن الهاد عن القراءة خلف الإمام في الظهر والعصر, فقال:

صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ورجل خلفه يقرأ, وبجنبه رجل فجعل يومئ إليه وينهاه, حتى عرف المنهي أنه ينهاه عن القراءة, فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فقال المنهي: ما إقبالك علي؟ أتنهاني أن اقرأ القرآن؟ فقال: أتقرأ ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمامنا؟ فقال المنهي؟ يا رسول الله, إن هذا ينهاني أن أقرأ خلفك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان له إمام فقراءته له قراءة» رواه سعيد وأحمد وغيرهما, وهذا حديث معروف ثابت عن موسى بن أبي عائشة, وقد أسنده بعضهم عن جابر, والمشهور عنه مرسلاً لوجوه: أحدها: أن الذي أرسله احتج به, فلولا أنه قد حدثه به ثِقة ما جاز الاحتجاج به, وهو من كبار التابعين.

الثاني: أنه قد عضده أقوال الصحابة, كما سيأتي وذلك نص وحجة على من لا يقول بالدليل المجرد. الثالث: أنه روي من غير هذا الوجه, (فليعتضد به ما يعضده). الرابع: أنه شهد له ظاهر الكتاب والسنة. الخامس: أن الإمام أحمد وابن ماجة رواه من حديث جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَتُهُ لَهُ قِرَاءَةٌ» رواه الدارقطني من حديث ليث وجابر عن

أبي الزبير وجابر الجعفي: قد وثقه سفيان وشعبة, وقال أحمد: لم يتكلم فيه لحديثه, بل لرأيه, وليث قد حدث عنه الناس, وقد تكلم فيهما بالجملة, لكن الحديث محفوظ عن جابر, رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قال: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ». فإذا كان للمستمع أجرين وللقارئ أجر, فلا حاجة إلى

........................

القراءة معه, ولأنه إذا قرأ مع جهر الإمام نازع الإمام القراءة وخالجه إياها, وربما منع من يليه من كمال الاستماع والإصغاءِ, وفاته هو الاستماع والإنصات, ولم يكد يفقه ما يقرأه من أجل إسراعه بالقراءةِ, واشتغاله بقراءةِ الإمام, ومثل هذا لا يكون مشروعاً إلى التحريم أقرب منه إلى الاستحباب أو الإيجاب, ولأن القراءة في حال الجهر منهي عنها, والاستماع واجب فكيف يترك ذلك لقراءة الفاتحة وهي مستحبة للمأموم؟ ولأن حقيقة

المؤتم هو المتبع المقتدي للإمام في أقواله وأفعاله, كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي استمع له, فإذا لم يفهم ما هو فيه كان كالحمار يحمل أسفاراً, وإلى هذه المعاني أشارت الصحابة رضوان الله عليهم, وما اعتل به بعض أصحابنا من الخروج من الخلاف, ففيه أجوبة:

الجواب عما علل بعض الأصحاب من القراءة خلف الإمام خروجا من الخلاف

أحدها: أن السنة إذا تبينت تعين اتباعها, ولم يقدح في حرمتها خفاؤها على بعض الأئمة, ولهذا نظائر كثيرة, ذكرنا بعضه في باب التيمم. الثاني: أن الخلاف هنا شاذ مسبوق بالإجماع قبله. الثالث: أن الخروج من الخلاف في هذه المسائل لا سبيل إليه, فإن أكثر الناس ينهون عن القراءَةِ ويرون ذلك مما ينتقص

الصلاة, فرعايتهم في الاختلاف أوْلى. وأما الحديث المذكور فقد ضعفه الإمام أحمد وغيره وقال: لا يصح عندنا, وقد وقفه رجاء بن حيوة على عبادة, وهو أشبه بالصحة, والإسناد الذي وقفه الدارقطني قد طعن فيه جماعة, وبالجملة فإسناده لو تجرَّد عن معارضٍ لكان مقارب الحالِ, لكن [اختلاف] الرواة في الإسناد وقفاً ورفعاً, ومن وقفه أوثق ممن رفعه, واختلافهم في رجاله أوجب علةً في الحديث مع

معنى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

معارضة الأحاديثِ التي هي صحيحة. وبكل حالٍ فما صح في هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه فمعناه -والله أعلم-: لا تقرؤوا في صلاة الجهر إلا بأم الكتاب في حال سكتاتِ الإمام, لا في حال جهره؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان أو ثلاثة, تتسع لقراءة الفاتحة فيها, فلا يحتاجون إلى القراءة في غيرها, ولذلك قصرهم على الفاتحة؛ لعلمه بأن زمن السكتات لا يتسع لغيرها, بخلاف صلاة السر, فإنها تتسع لأكثر من ذلك, ولهذا قال أبو سلمة: «للإمام سكتتان, فاغتنم القراءة فيهما» أو لعل هذا كان مقصوده, فرواه بعض الرواة بالمعنى, وبين ذلك أن قراءة غير الفاتحة لا تشرع في

تأويل القراءة خلف الإمام

حال جهر الإمام, مع أنه سنة مؤكدة للإمام والمنفرد, فإذا نهى عن هذه السنة المؤكدة وسقط, اعتياضاً بالاستماع الواجب, جاز أن تسقط الفاتحة الواجبة, اعتياضاً بالاستماع الواجب. وحمل بعضهم القراءة خلف الإمام على الحال الذي كانوا يقضون ما فاتهم ثم يتابعون الإمام, ثم نسخ ذلك.

فصل

فصل فأما القراءة في حال إسرار الإمام: فتستحب؛ لأنه غير مشغولٍ عنها باستماع, ولا يشغل غيره عن الاستماع, والسكوت في الصلاة غير مشروع, ولأن تلاوة القرآن في الصلاة من أفضل الأعمال, فهي أولى بالاستحباب من غيره, ولأن الإمام إذا أسر يحتمل أنه لا يقرأ لنسيان أو غيره, فلا يسقط الفرض عن المأموم حتى يقرأ لنفسه, والقراءة في حال الجهر إنما جاءت لأنها تشغل عن الاستماع, وتوجب منازعة

الإمام, وهذا مقصود في الإسرار, وقد روى عمران بن حصينٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ فَقَرَأَ رَجُلٌ خَلْفَهُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى, فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «أَيُّكُمْ قَرَأَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى» فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا قَالَ: «قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا» متفق عليه, ومع هذا لم ينهه عن القراءة كما نهى عن القراءةِ معه في حال الجهر, ولعل هذا الرجل قوَّى قراءته حتى صار ينازع النبي صلى الله عليه وسلم, وإلا مجرد القراءة ليس فيها منازعة, كما لا منازعة في تسبيحتي الركوع والسجود والتشهدين, وقد تقدم عن علي

وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وغيرهم القراءة خلف الإمام بما زاد على الفاتحة, وبعضهم كره ذلك في حال جهر الإمام. فأما كراهة القراءة مع انتفاءِ هذه المفاسد, فبعيد. وبعضهم كره ذلك لمن يقرأ خلف الإمام, معتقداً أنه لا بد من قراءته في صلاة السر, ومن روى عن الصحابة في ذلك من الترك: فبعضهم أراد به الاجتزاء بقراءة الإمام دون كراهة القراءة للمأموم.

.................

وقد قال الترمذي: أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين يرون القراءة خلف الإمام.

فصل

فصل ويستحب أن يقرأ في صلاة السر بفاتحة الكتاب وسورة كالإمام, وكذلك في صلاة الجهر إن اتسعت السكتات لذلك, وإلا اقتصر على الفاتحة, فإن كان لا يسمع قراءة الإمام في حال الجهر؛ لكونه بعيداً, لم تكره له القراءة في ظاهر المذهب المنصوص عنه, بل تستحب, وحكي عنه أنه يكره؛ لعموم الأمر بالإنصات, لقوله: «لاَ يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ» , والأول أصح؛ لأنه في معنى: من لا يسمع قراءة الإمام لسكوته وإسراره, ولأن الأمر بالإنصاتِ إنما يكون للمستمع, وكذلك قوله: «لا يقرأن أحد منكم معي إذا جهرت» إنما يكون لمن يعلم الجهر, ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان صغيراً يبلغ صوت الإمام إلى عامة من فيه, فإن سمع هممة الإمام أو شيئاً يسيراً, مثل الحرف بعد الحرف, فهل يقرأ؟ على روايتين: إحداهما: لا يقرأ؛ لأنه سامع في الجملة, ولأن بقراءته ربما

خلط على من يليه, ممن يمكن استماعه, وربما ارتفع صوت الإمام فسمع أكثر, وهذه الرواية أشهر عنه, فإن كان لا يسمع القراءة لطرشه وبعده. وروى عبيد الله بن أبي رافع قال: كان علي يقول: «اقْرَءُوا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ خَلْفَ الإِمَامِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ» رواه النجاد, والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح. وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: سألت أبي بن كعبٍ: اقرأ خلف الإمام؟ قال: «نعم» ورواه النجاد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أنه قرأ خلف الإمام في الظهر والعصر في الركعتين بفاتحة الكتاب وسورة». وعن مجاهد: «سمع عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإمام في الركعتين في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة». وقال أبو السائب: قلت لأبي هريرة: إني أكون أحياناً وراءَ

الإمام, فقال: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ يَا فَارِسِيُّ». وقال أسامة بن زيدٍ الليثي سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به الإمام, فقال: «إن قرأت فلك أسوةٌ برجالٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وإن تترك فلك أسوة برجالٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم». وقال مجاهد: «صليت إلى جانب عبد الله بن عمرو, فسمعته يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم» وفي رواية: «كان ابن عمر لا يقرأ» رواهما سعيد.

قلنا: ليس في شيء من الحديث عنهم أنهم أوجبوا القراءة على المأموم, وإنما كان بعضهم يستحب القراءة, ويراها, وبعضهم لا يستحبها, وبعضهم لا يفعلها, كاختلافهم في الصوم والفطر في السفر, ولو كانت القراءة واجبة على المأموم وجوبها على الإمام, لأفصحوا بذلك وبينوه, ولم يفسروا حديث النبي بأن قراءة الإمام تكفي المأموم. وأيضاً: فلعل من شدَّد في ترك القراءة لما بلغه أن أناساً يرونها واجبةً, حتى إنهم يقرؤون مع جهر الإمام, فبالغ في الإنكار عليهم, بأن أمر بتركها بالكلية؛ ليتبين للناس أنها ليست واجبة, كما أمر بعضهم من صام في السفر بالقضاء, لما رأى منه تعظيماً للفطر في رمضان, وضرباً من الغلو في الدين, وكما أنكر بعضهم على من يرى الاستنجاء بالماء؛ لما رأى من محافظتهم على الماءِ

محافظة من يعتقد وجوبه, وكما قال بعضهم: «صلاة السفر ركعتان, من خالف السنة كفر» يعني: من اعتقد أن ركعتين لا تجزيانه, وهذا كثير في أمورهم, ومن أمر بها فلعله لما رأى من رغبة بعض الناس عن القراءةِ بالكلية, كما [يؤمر] الناس بالسنن المستحبة. وأيضاً: فلو كانت القراءة على المأموم واجبة, لأنكر من فعلها على من يتركها, كما أنكر من تركها على من فعلها, والمأثور عنهم مجرد الفعل لا الإنكار على التارك. الرابع: أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ» وكما

في حديث أبي بكرة حين ركع والنبي صلى الله عليه وسلم راكع, وكما كان الصحابة يفعلون ذلك, ولو كانت واجبة على المأموم لم تسقط بفوات محلها, كالركوع والاعتدال عنه وسائر الأركان. الخامس: أن الإمام وافد المصلين إلى الله تعالى, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا أئمتكم خياركم, فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله» , والمفروض من القراءة هو قراءة الفاتحة, ونصفها ثناء على الله ونصفها دعاء للعبد, والوافد هو: لسان القوم فيما يأتي به من ثناءٍ, ولذلك جاء الدعاء فيها بصيغة الجمع في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أم قوم فخص نفسه بدعاء دونهم فقد خانهم» وهذا إنما يكون فيما يفعله

الإمام عن نفسه عن المأمومين, ولذلك قال: «الإِمَامُ ضَامِنٌ». السادس: أن الإمام خص بالقراءة في قوله: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ

أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» وقوله: «وَلْيَؤُمُّكُمْ أَقْرَأَكُمُ» وغير ذلك من الأحاديث, حتى يخبر عن الإمام بالقارئ في قوله: «إِذَا أمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا» فلولا أن قراءته يتعدى حكمها إلى المأمومين لم تكن لإمامة القارئ مزية, إذا كان واحد من الإمام والمأموم إنما يقرأ لنفسه خاصة. السابع: أن الأدلة الواضحة قد قامت على أنها لا تجب في حال جهر الإمام, فكذلك في حال إخفائه؛ لأن الأذكار الواجبة على المأموم من التكبيرات لا تسقط بجهر الإمام.

فصل

فصل ويستحب للمأموم أن يقرأ في صلاة السر, فإن ترك القراءة لم يكره له ذلك. فأما في صلاة الجهر: فإن أمكنه أن يقرأ في سكتات الإمام بالفاتحة, قرأ, فإن لم يكن للإمام سكتات يتمكن فيها من القراءة, كره له أن يقرأ, هذا هو المنصوص عنه في عامة رواياته وهو الذي عليه عامة أصحابه, وصرح القاضي وغيره: أن القراءة في هذه الحال لا تجوز, وهو مقتضى كلام أحمد, ويتخرج أنه يكره كراهة تنزيه, كالكلام والإمام يخطب وأوْلى. ومنهم من استحب له أن يقرأ بالفاتحة بكل حالٍ, وإن لم يكن إلا في حال جهر الإمام؛ لأن الصلاة بدون ذلك مختلف في صحتها, ففي القراءة خروج من الخلاف, ولما روى محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ, فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ, فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إِمَامِكُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ, إِي وَاللهِ, قَالَ: لاَ تَفْعَلُوا, إِلاَّ بِأُمِّ الْقُرْآنِ, فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» رواه أبو داود, والترمذي, وقال: حديث

حسن, ورواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه. ورواه أبو داود من حديث زيد بن واقد عن مكحول, والنسائي [من حديث] عن حرام بن حكيم, كلاهما عن نافع عن محمود بن [الربيع] عن عبادة, وقال فيه: «لا تقرءوا فيه بشيء من القرآن إذا جهرت به, إلا بأمّ القرآن» وخرجه الدارقطني عنهما, وقال: إسناد حسن, ورجاله كلهم ثقات. وفي رواية عن نافع بن محمود بن [الربيع] قال: أبطأ [علينا] عبادة عن صلاة الصبح, فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة, وكان أبو نعيم أول من أذن في بيت المقدس, فصلى بالناس أبو

نعيم, وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم, وأبو نعيم يجهر [بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت لعبادة: قد صنعت شيئاً فلا أدري أسنة هي أم سهو كانت منك؟ قال: ما ذاك؟ قال: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر] قال: أجل, صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ, فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ, فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «هَلْ تَقْرَءُونَ إِذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ؟» فَقَالَ بَعْضُنَا: إِنَّا لَنَصْنَعُ ذَلِكَ: قَالَ: فَلاَ تَفْعَلُواْ «وَأَنَا أَقُولُ: مَا لِي أُنَازِعُ الْقُرْآنُ, فَلاَ تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إِلاَّ بِأُمِّ الْقُرْآنِ». وأيضاً: فقد تقدم حديث أبي قلابة وقوله: «فَلاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُكُمْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ». وأيضاً: فقد تقدم حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة ورجال من الصحابة في قراءة الفاتحة مع جهر الإمام, ويُحمل الأمر بالأنصات في حال غير قراءة الفاتحة, جمعاً بين العام والخاص. فإن قيل: فهلا أوجبتم القراءة على المأموم بهذا التقرير, لا سيما مع قوله: «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة [مكتوبة أو تطوعاً فليقرأ فيها بأم الكتاب وسورة

معها فإذا انتهى إلى أم الكتاب فقد أجزى ومن صلى صلاة] مع إمام يجهر فليقرأ بفاتحة الكتاب في بعض سكتاته, فإن لم يفعل فإن صلاته خداج غير تمام». قلنا: لأن الدلالة قد قامت على أنها لا تجب كما تقدم, وهذه الأحاديث وإن احتججنا بها في الاستحباب, فلا يلزم مثله في الإيجاب, فإن فيها ضعفاً لا يقاوم الأحاديث الصحيحة, ثم المراد بها استحباب القراءة؛ لأن في حديث أبي قلابة المتقدم: «إن كنتم لا بد فاعلين فليقرأ بفاتحة الكتاب في نفسه» وفي لفظ: «فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه» وهذا صريح في أنه أراد الإذن والإباحة, لا سيّما وقد استثناه من النهي, وذلك لا يفيد إلا الإذن, ولأن في حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «فإني أراكم تقرؤون وراء إمامكم» وفي لفظ: «هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟» فلو كانت قراءة المأمومين واجبة كما يجب عليهم التكبير والتشهد والتسليم, لم يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: هل يفعلون ذلك؟ بل كان يكون قد أمرهم بذلك وبيّنه لهم قبل ذلك؛ لأن تأخير البيان لا يجوز, وأيضاً فوجوده في تلك الصلاة دون غيرها دليل على أنه لم يكن عادة, وأنه لم يكن يفعلوه كلهم. وأما قوله في تمام الحديث: «فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا».

معرفة فعل عبادة ودرجة حديث عمرو بن شعيب

تعليل لتخصيص الفاتحة بالذكر؛ لأنه المفروض من القراءة, وإنما يتحملها الإمام عن المأموم, فمن أحب أن يأتي بها بنفسه ولا يتحملها الإمام فَعَلَ وكان ذلك عذراً له فيما دون غيرها مما ليس بواجب عليه, ولا على الإمام, وهذا كما قال القاسم بن محمد: لرجلٍ سأله عن القراءة خلف الإمام فقال: إذا قرأت خلف الإمام فقد قضيت ما عليك, وإن لم تقرأ فقد أجزأك ذلك الإمام. وفعل عبادة إنما يدل على الجواز والاستحباب دون الوجوب, وحديث عمرو بن شعيب ضعيف. والصحيح هو المنصوص المشهور؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} , وروي عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباسٍ وسعيد بن المسيب وعبيد بن عمير وأبي العالية وعطاء ومجاهد والحسن وإبراهيم ومحمد بن كعبٍ والزهري وقتادة وزيد بن أسلم وغيرهم: «نزلت في القراءة في الصلاة».

ومنهم من قال: «في الصلاة والخطبة». قال أبو داود: قيل للإمام أحمد: إن فلاناً قال: قراءة فاتحة الكتاب [يعني] خلف الإمام مخصوص من قوله: {إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنْصِتُواْ} فقال: عمن يقول هذا أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة, وقال في رواية المروذي في هذه الآية: هي في الصلاة والخطبة. وهذا لأن القراءة في الصلاة والخطبة إنما شرعت لأجل استماع الناس, فلو لم يكن ذلك واجباً لبطل معنى الاقتداء في الصلاة والخطبة. والإنصات: السكوت على وجه الإصغاء إلى الشيء, ويقال: الاستماع. والإنصات: الإصغاء إلى الكلام, والإقبال عليه, فقد أمر باستماع القرآن وبالسكوت إذا كان الإمام يقرأ, وفي الإشتغال بالقراءة ترك لهذين الواجبين, والفاتحة وغيرها في ذلك سواء. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن نبي الله خطبنا, فعلمنا سنتنا, وبين لنا صلاتنا, فقال: «لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ, فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا, وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا». رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ, فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا, وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» رواه الخمسة إلا الترمذي, [وقال مسلم: هو عندي صحيح]. وصحح هذين الحديثين أحمد واعتمد عليهما, وهذا أمر بالإنصات عن الفاتحة وغيرها, ولو كانوا مأمورين بالإنصات إلا حال قراءتهم الفاتحة لوجب بيان ذلك, فإن مثل هذا الكلام لا يجوز إطلاقه وتعميمه لقوم يراد تعلمهم من غير تفسير لا سيما وهم لا يفهمون الإنصات عن القراءة المشروعة في الصلاة, وأعظم القراءة المشروعة قراءة الفاتحة. وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ, فَقَالَ: هَلَ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ, فَقَالَ: إِنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَجْهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ, حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». رواه الخمسة إلا ابن ماجة,

وقال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لأبي داود: قال أبو هريرة؛ فانتهى الناس. وفي رواية أخرى: قال الزهري: فانتهى [الناس]. وفي رواية «أنها الصبح» , وأن القراءة إنما جهر فيها لاستماع المأمومين, فإذا لم ينصتوا كان الجهر ضائعاً بمنزلة من يتكلم والإمام يخطب, ولأن الاستماع يحصل مقصود القراءة, ويذكر عن علي رضي الله عنه قال: «أقرأ خلف الإمام أو أُنصت؟ قال: بل أنصت, فإنه يكفيك» قال الدارقطني: والمرسل عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أصح. الثاني: وروى سعيد عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أَتَقْرَءُونَ خَلْفَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ بَعْضٌ: نَعَمْ, وَقَالَ بَعْضٌ: لاَ, قَالَ: «إِنَ كُنْتُمْ لاَ بُدَّ فَاعِلِينَ فَلْيَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي نَفْسِهِ» ورواه أحمد في «المسند» بإسنادٍ صحيح عن أبي قلابة بن محمد بن عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ الإِمَامِ وَالإِمَامُ يَقْرَأُ» قَالَ: إِنَّا لَنَفْعَلُ ذَلِكَ, قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُكُمْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وقال: بفاتحة الكتاب. وهذا دليل

على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أنهم يقرءون خلف الإمام, وكان فيهم من لا يقرأ, ولو كانت القراءة واجبةً على المأموم لكان قد أمرهم بها وأعلمهم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأما قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ ...} فليس المراد به القراءة المفروضة في الصلاة, بدليل قوله بعد ذلك: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولأن هذه السورة نزلت بمكة في أول الأمر قبل أن تفرض الصلوات الخمس, وكان وجوب الفاتحة بالمدينة وإنما المراد به -والله أعلم- التلاوة المأمور بها عوضاً عن قيام الليل, فإن حافظ القرآن ينبغي له أن يتلوه, وإذا نسيه فإنه يجب عليه أن يتلوه بحيث لا ينساه, وسياق الآية يدل على هذا, حيث قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} إلى قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} إلى قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...}. وقد قيل: إن المراد به قراءة ما تيسر بعد الفاتحة, كما قال أبو سعيد: «أَمَرْنَا نَبِيُّنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ» رواه أحمد,

وعلى هذا يحمل قوله للأعرابي, فإنه قد روي قصة رفاعة بن رافع وفيها: «ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ, ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا شِئْتَ» -رواه أحمد- إذْ لم يكن يحسن الفاتحة, فيدل هذا على أن الناس قد أجمعوا لو قرأ كلمة أو كلمتين أو بعض آيةٍ, لم تصح صلاته, وإنما يشترط [بعضهم]: آيةً, وبعضهم,: ثلاث آياتٍ, فاشتراط ما شرطه الله ورسوله أولى إذا كان ما ادعوه من ظاهر الكتاب قد دخله التأويل وفاقاً. فإن قيل: هذا قد روى سعيد والدارقطني عن يزيد بن شريك أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام, فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب, قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا, قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت. وإسناده كلهم ثقات. وعن عباية بن رداد قال: كنا مع عمر بن الخطاب في

موكبه, فقال: «لا تجوز صلاة إلا بفاتحة الكتاب وبشيء معها. فقال رجل: يا أمير المؤمنين, أرأيت إن كنت خلف إمام, أو كان بين يدي إمام؟ قال: اقرأ في نفسك». لأن من أصحابنا من يوجبه وقد أوما أحمد إلى ذلك, وقد أمر صلى الله عليه وسلم به, وتركه مكروه, بخلاف القراءة, فإنهم لم يختلفوا أن القراءة عليه لا تجب, لكن يكره تركها؛ لأن القراءة يحصل مقصودها بالاستماع, بخلاف الاستفتاح, ولأن القراءة يتعدى حكمها إلى المأموم, فيضمنها عنه الإمام وجوباً واستحباباً, بخلاف الاستفتاح, وأما الاستفتاح حال جهر الإمام فهو مثل الاشتغال عنه بتكبيرة الإحرام؛ لأنه من توابعها, ومثل اشتغال الداخل إلى المسجد والإمام يخطب عن الاستماع بركعتي التحية, ولعل الاستفتاح للمصلي أوكد من التحية للداخل؛ لأن هذا من تمام الدخول إلى الصلاة, وإلى المسجد, فلا يعد الاشتغال به إعراضاً عن الاستماع والإنصات, وقد تقدم حديث عبد الله بن أبي أوفى في الذي دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال: «اللهُ أَكْبَرُ

كَبِيرًا, اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا, الْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا, الْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً, حَتَّى رَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ وَقَالُوا: مَنِ هَذَا الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وَمَعْ هَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ رَأَيْتُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهَا فَمَا تَنَاهَنَّ شَيْءٌ دُونَ العَرْشِ» , وكذلك الرجل الذي انتهى إلى الصف وقد انتهز, أو حَفَزَهُ النَّفْسُ, فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ, قَالَ: «مَنْ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا» فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ, أَسْرَعْتُ لِشَيْءٍ فَجِئْتُ وَقَدْ انَتَهَزَتْ فَقُلْتَهَا, فَقَالَ النَّبِيُّ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» فهذا رجلان قد استفتحا في حال جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل جهرا بالاستفتاح, ومع هذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كما أنكر على الذين كانوا يقرءون في حال جهره, بل حمد هذا الأمر, وذكر ما فيه من الفضل والبركة.

فصل

فصل ويقرأ في حال ثبوته قبل القراءة, وإن قرأ بعضها في هذه السكتة, وبعضها في سكتة أخرى, فلا بأس, وإن لم يكن له سكتة قرأ عند انقطاع نفسه؛ ليكمل قراءة الفاتحة. فأما قراءة بعض آية أو بعض كلمةٍ عند انقطاع نفسه فيكره؛ لأن ذلك وحده ليس بقراءة مشروعةٍ, وليس قبله أو بعده شيء يضم إليه بخلاف الفاتحة إذا فرقها, ولأن قراءة الفاتحة أوكد بكل حالٍ؛ لأنها من القراءة المفروضةِ عليه, وإنما تحملها عنه الإمام. ويقرأ في كل سكتة يسكتها الإمام في أول القراءة أو وسطها أو آخره, سواء سكت لاستراحةٍ أو غفلةٍ أو نعاسٍ أو ارتياح, أو غير ذلك قال ابن أبي موسى إذا أسرّ القراءة أو كانت له سكتات يمكن القراءة فيها, فالمستحب هاهنا للمأموم أن يقرأ, ويستحب للإمام أن يسكت على ما جاءت به السنة, فروى الحسن عن سمرة رضي الله عنه: «أّنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ سَكْتَتَانِ: سَكْتَةٌ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ, وَسَكْتَةٌ إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ, فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَأَنْكَرَهُ, فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ, فَقَالَ: صَدَقَ سَمُرَةُ».

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة, وفي لفظ لأحمد وأبي داود: سكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وروى الترمذي وابن ماجة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سعيد: فقلنا لقتادة: ما هاتان السكتتان؟ قال: إذا دخل في صلاته, وإذا فرغ من القراءة. ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ: {وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه. فأما السكتة الأولى: فهي سكتة الاستفتاح, وهي سكوت عن الجهر والاستماع, لا عن أصل الذكر والكلام, كما في حديث أبي

هريرة: «أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ, مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ ...» الحديث, ولهذا قال: سكتة إذا كبر حتى يقرأ, فبين أنه أراد السكوت الذي يلي تكبيرة الافتتاح, وهو محل الافتتاح, لا سكوت محض, وهذه السكتة إنما تكون في الركعة الأولى, فأما في الثانية فلا؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أّنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَسْكُتْ. رواه مسلم. وأما السكتة الثانية: فقال الإمام أحمد: إذا كبر الإمام فليسكت سكتتين: سكتة إذا كبَّر, وإذا فرغ من القراءة قبل أن يركع, مثل حديث سمرة وأبي بن كعب رضي الله عنهما, وقال أيضاً: يثبت قائماً ويسكت, حتى يرجع إليه نفسه قبل أن يركع, ولا يصل قراءته بتكبيرة الركوع, جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له سكتتان عند افتتاح الصلاة وإذا فرغ من القراءة, وذكر أن الصحيح في حديث سمرة أن السكتة الثانية عند الركوع, وكذا رواه عن الحسن الأكثرون, منهم حميد الطويل

ويونس وأشعث وقتادة, في أول مرة, ثم رواه على السكوت [بعد] الفاتحة, وهذه السكتة عند انقضاء القراءة سكتة يسيرة؛ ليرجع إليه نفسه فيستريح, وليفصل بين القراءة والتكبير؛ ولئلا يحصل شيء من القراءة في الركوع, أو شيء من التكبير في القيام. وهذا قول ابن أبي موسى. فأما السكوت بعد قراءة الفاتحة: فلا يستحب علي ما ذكره هنا؛ لأن السنة إنما جاءت بسكتتين, فلا يشرع ثالثة, ولأن السكوت في الصلاةِ غير مشروع إلا لحاجة, ولا حاجة إلى السكوت هنا, ولأنه فصل بين السورة والتي تليها, فلم يشرع, كما لا يشرع السكوت بين السورة لمن يقرأ بسورة في قيامه: اللهم إلا أن يحتاج إلى السكوت, مثل أن يريد أن يقرأ سورة, فيبسمل قبل قراءتها, أو يسكت ليتفكر فيما يريد أن يقرأ, وشبْه ذلك, إلا أن هذا قد يكون في أثناء القراءة إذا ارتج عليه, وإذا فرغ من سورة وشرع في أخرى.

وعنه ما يدل على أن الإمام يسكت بعد الفاتحة, لأنه قال: يقرأ بفاتحة الكتاب قبل أن يقرأ الإمام. قيل: فإن قرأ الإمام قبل أن يتمها يقرأ الباقي إذا سكت الإمام من الحمد أو من السورة الأخرى؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال أيضاً: إذا كان له سكتات قرأ الحمد, وإذا لم يكن له سكتات قرأ عند انقطاع نفسه, والسكتات إنما تطلق على ثلاث, فمن أصحابنا من استحب هذه السكتة أيضاً ليستريح فيها, وليقرأ من خلفه الفاتحة؛ لئلا ينازعوه فيها؛ لأنها في إحدى روايتي حديث سمرة, وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان, فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب, إذا دخل في الصلاة, وإذا قال: {وَلاَ الضَّالِّينَ} , وقال عروة بن الزبير: أما أنا فاغتنم من الإمام اثنتين, إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. فأقرأ عندها, وحين يختم السورة فأقرأ قبل أن يركع. رواه الأثرم.

سكتات الإمام

ومنهم من قال: [لا] يستحب له أن يسكت؛ لأجل قراءة من خلفه, وإنما هذه السكتة سكتة يسيرة لأجل الاستراحة وتراجع النفس إليه, ويبسمل فيها ويتفكر فيما يقرأه, كالسكتة عند انقضاء القراءة, وهو أشبه بكلامه؛ لأنه قال: يقرأ فيما لا يجهر, وإن أمكنه أن يقرأ قبل الإمام, ولا تعجبني القراءة خلف الإمام فيما يجهر, أحب إلي أن ينصت. فجعل قراءة الفاتحة قبل الإمام, ولو استحببنا للإمام أن يسكت بقدر قراءة الفاتحة لم يحتج إلى ذلك. وقال أيضاً: لا تقرأ فيما يجهر, وتقرأ فيما يسر, وإن كان للإمام سكتة فيما يجهر يقرأ. ولأنه شبه السكوت من الحمد بالسكوت من السورة, وكما تقدم, وتلك سكتة يسيرة لا يقصد بها قراءة المأموم؛ وهذا لأن السكوت المذكور لا يدل عليه شيء من الأحاديث، فلا وجه لإثباته. ولأنه لو سنَّ السكوت لقراءة الفاتحة, لسن لقراءة السورة,

ولسن عند الركوع بقدر الفاتحة, لمن أدركه بعد الفاتحة, ولجاز أن يجهر المأموم بالقراءة فيه, ولأن قراءة الفاتحة ليست مستحبة للمأموم إلا بشرط سكوت الإمام؛ لئلا تخلو الصلاة عن قراءة أو استماع, فلو استحببنا السكوت لأجلها كان دوراً, ولأن المأموم لو ترك قراءة الفاتحة لم يكره له ذلك, والسكوت في الصلاة مكروه في الأصل, فكيف يلتزم المأموم فعل المكروه ليحصل ما لا كراهة في تركه؟ ولأن من نازع الإمام القراءة فقد أخطأ السنة, فكيف يترك الإمام السنة احترازاً من خطأ المخطئ؟ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكتها, وأصحابه يقرءون فيها, لم يصح احتجاج من يحتج لقراءة الفاتحة حين الجهر بما تقدم, فلا يبقى شيء يتوكد به القراءة على المأموم في حال الجهر. وإذا لم تكن القراءة متوكدة في حق المأموم لم يحتج إلى السكوت, وإن كان لا يسكتها في وجه لاستحباب سكوتها, فإما أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في قراءتها في حال جهره, مع أنه كان يسكت لهم سكتة بقدرها, فهذا لا يجوز, ولأن أبا هريرة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟

علم أنه لم يكن له سكتة بقدر هذه, ولو كانت سكتة بعد الفاتحة بقدرها لكانت أكثر من هذه. ولأن هذه المذاهب كلها من فروع توكيد قراءة الفاتحة على المأموم, وهو ضعيف, ولأن الإمام لو ترك هذه السكتات لم يكره له ذلك, كما قد نص عليه أحمد: أن من الأئمة من يسكت, ومنهم من لا يسكت, ولَمِ يعبْ على من يسكت, ولو كان تفويت المأموم القراءة مكروهاً لكره ترك السكوت.

فصل

فصل وتجب قراءة الفاتحة مرتبة كما أنزلها الله, فإن نكسها لم تصح, كالأذان وأولى, وتوالى القراءة, فإن قطعها لأمر مشروع, مثل تأمينه على قراءة الإمام, أو سجوده لتلاوته, أو تنبيهه أو تنبيه غيره بالتسبيح, أو فتحه على الإمام, ونحو ذلك, بنى على قراءته كما لو سكت ليستمع قراءة الإمام, وسواء طال أو قصر. وإن كان لغير أمر مشروع وطال الفصل, [أبطلها] سواء كان سكوتاً أو ذكراً, إلا أن يكون لعذر, مثل نوم أو غفلة, أو انتقال إلى غيرها غلطاً, وإن لم يطل الفصل لم تبطل, إن كان سكوتاً, وكذلك إن كان قراءةً أو دعاءً في أقوى الوجهين؛ لأنه يشترط فيه السكوت اليسير, وفي الأخرى تبطل, قاله القاضي والآمدي, لأنه زاد فيها ما ليس منها عمداً, فأشبه ما لو زاد في الصلاة, وإن نوى قطعها لم تنقطع, وإن سكت معه سكوتاً يسيراً, ففيه وجهان, كالوجهين في الذكر اليسير.

الحرف المشدد حرفان

وفي الفاتحة إحدى عشر تشديدةً, وفي البسملة ثلاث تشديدات: في اللام من اسم الله, والراءين من: الرحمن الرحيم. واللام من: الحمد لله رب العالمين, والراء من: رب, والراء من: الرحمن الرحيم, والدال من: الدين, والياءين من: إياك وإياك, والصاد من: اهدنا الصراط المستقيم, واللام من: الذين, والضاد واللام من: الضالين, فإن ترك تشديدةً منها لم تصح صلاته عند كثير من أصحابنا, كما لو ترك حرفاً, لأن الحرف المشدّد حرفان: أولهما ساكن, وثانيهما متحرك, وإنما هما من جنسٍ واحدٍ, وقد يكونان متماثلين من أصلهما, كربّ والضالين, وقد يكونان في الأصل متقاربين, كالرحمن والصراط, وإنما قُلبت لام التعريف من جنس ما بعدها, ثم أدغمت فيه, وقد يكتبان في الخط حرفين على الأصل, وقد يكتبان حرفاً واحداً؛ لأن الخط له طريقة غير طريقة اللفظ. وقال القاضي في «الجامع» وأبو الحسن الآمدي: تصح؛ لأن الشدة صفة في الحرف, فأشبه الحركة من إياك نعبد, ولأنه ليس له صورة في الخط فليس بحرفٍ, وهذا يتوجه إن أراد بذلك تليين التشديد, فإن الصلاة تصح معه اتفاقاً, وكذلك لو فك

ترك الشدة

الإدغام ونطق بالأصل, مثل أن يقول: الرحمن الرحيم, بإظهار لام التعريف؛ لأنه لحن لا يحيل المعنى. فأما إن ترك الشدة بالكلية فإسقاط حرفٍ محقق بلا ريب, وكونه ليس له صورة في الخط, إنما يصح في بعض الحروف المشدَّدة, ثم المعتبر ما كان حرفاً في [النطق] دون [الكتابة] , فإن اعتبار الحرف فيه غير مؤثر طرداً ولا عكساً, فإن ألفات الوصل حروف مكتوبة غير منطوقةٍ, والمدات وبعض الهمزات منطوق غير مكتوب, وقد صرح من قال بهذا الوجه أنه لم يرد به تليين التشديد, بل حذف الشدة بالكلية, ذكره الآمدي وقال: تليين التشديد لا يختلف المذهب في صحة الصلاة معه.

فصل

فصل ويستحب أن يقرأ قراءة مرتلة [يمكن] فيها حرف المد من غير تمطيط, ويقف عند كل آيةٍ, لقوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ولحديث أم سلمة وأنس.

فصل

فصل ويستحب التأمين بعد الفاتحة, والسنة للمصلي إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أن يقول: آمين, ويقولها الإمام والمأموم والمنفرد, يجهر بها الإمام والمأموم فيما يجهر بقراءته تبعاً للفاتحة, وكذلك المنفرد إن جهر؛ لما روى أبو هريرة: أّنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا, فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه الجماعة. وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آمين» وفي رواية أحمد والنسائي: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ, فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ, وَإِنَّ الإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ, فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وقد تقدم عن بلالٍ نه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» , وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ بالتَّكْبِيرِ, وَيَفْتَتِحُ قِرَاءَتَهُ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ» رواه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «إِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَلاَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الأَوَّلِ» رواه أبو داود وابن ماجة وقال: «حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الأَوَّلِ, فَيَرْتَجُّ الْمَسْجِدُ» , وفي رواية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين, ويأمرنا بذلك» رواه الأثرم, وفي رواية: «كَانَ إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ آمِينَ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن. وفي روايةٍ: قال: «آمين» يمد بها صوته. وقال الدارقطني:

حديث صحيح. وعن وائل بن حجر قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, فَجَهَرَ بِآمِينَ». فهذه كلها نصوص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتأمين, وقد أمر المأمومين أن يؤمنوا مع تأمين الإمام, وظاهره أنهم يؤمنون مثل تأمينه؛ لأن التأمين في حقهم أوكد؛ لكونهم أمروا به, فإذا كان هو يجهر به فالمأموم أولى, وقد تقدم التصريح بذلك, ولذلك فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر بالجهر به, وأجمعوا* على ذلك, فروى إسحاق بن راهويه عن عطاء قال: أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} سمعت لهم ضجَّة بآمين, وعن عكرمة قال: أدركت الناس في هذا المسجد ولهم ضجة بآمين, قال إسحاق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بآمين، حتى يسمعوا للمسجد رِجَّة. ولأن المؤمّن داع, ولهذا قال الله سبحانه لموسى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وإنما كان يدعو موسى ويؤمن هارون.

_ [تعليق معد الكتاب للشاملة] * في الأصل المطبوع: (وأجمعهوا)، وهو خطأ تم تصويبه.

قضاء التأمين

وقد شرع التأمين للقارئ ومستمعه, حتى الملائكة في السماء تقول: آمين. وإذا ترك الإمام التأمين أو الجهر به أمَّن المأموم وجهر به, وسواء كان قريباً من الإمام يسمع قراءته ويسمع همهمته, أو كان لا يسمع له صوتاً, فإنه يؤمن, ثم إن كان في قراءةٍ تركها وأمَّن, ثم يبني على قراءته. وإذا ترك التأمين في موضعه لم يأتِ به بعد ذلك, مثل أن يأخذ في قراءة السورة حتى يشرع في القراءة, فقد فات في محله فلا يعيده, وإن ذكر قبل أن يطول الفصل أتى به؛ لأن محله باقٍ, ولا يجب عليه سجود السهو, نص عليه؛ لأنه دعاء لا يتميز بفعل فلم يشرع له سجود السهو, كالتعوذ من أربع في التشهد. وفيه لغتان: «آمين» على وزن فعلي, و «آمين» على وزن فاعيل, فالياء ممدودة فيهما, وفي إحدى اللغتين يأتي بألفٍ ممدودة بعد الهمزة, فيجتمع فيه كلمتان, وقال القاضي والآمدي: هذه اللغة أشبه بالسنة؛ لأنَّ في حديث «مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» ولا حجة فيه؛ لأن مدّ الصوت قد يكون في الياء, وهو أظهر منه في الألف, فإن قال: «آمِّين» بتشديد الميم, وأتى بألف, أو لم يأت بها, قال

معنى التأمين

الآمدي لا يجوز؛ لأن «آمِّين» قاصدين, من قوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}. ومعناها: اللهم استجب, وهي عند أهل العربية من [أسماء] الأفعال, التي يطلب بها, مثل: هلم وهيئت, ولذلك بُنيت. وتركها مكروه, قال أحمد: «آمين» أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا» فهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم أوكد من الفعل. وقياس قول أبي [بكر] وجوبها, عن أبي مُصبِّح المقرائي قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري, وكان من الصحابة, فيتحدث أحسن الحديثِ, فإذا دعا الرجل منا قال: اختمه بآمين, فإن «آمين» مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير: أخبركم عن ذلك, خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ, فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ

أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ, فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: «بِآمِينَ» فَمَا مَرَّ أَنْ خَتَمَ بِآمِينَ هَذَا أَوْجَبَ, فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَأَتَى الرَّجُلَ فَقَالَ: «اخْتِمُ يَا فُلاَنُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ» رواه أبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى: آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ آمِينَ» رواه النجاد. فإن قال: آمين رب العالمين, فقال القاضي والآمدي وغيرهما: قياس قول أحمد أنه غير مستحب, كما لم يستحب الزيادة على تكبيرة الافتتاح, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وهو صلى الله عليه وسلم إنما قال: آمين, من غير زيادة.

مسألة: ثم يقرأ سورة تكون في الصبح من طوال المفصل, وفي المغرب من قصاره, وفي سائر الصلوات من أوساطه.

مسألة: ثم يقرأ سورة تكون في الصبح من طوال المفصل, وفي المغرب من قصاره, وفي سائر الصلواتِ من أوساطه. قراءة السورة بعد الفاتحة في الأوليين من الصلواتِ المكتوباتِ من السنة المجمع عليها, المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإن تركها ناسياً فلا بأس, وإن تركها عامداً كره له ذلك, نص عليه. ويفتتحها بالبسملة, كما تقدم عن ابن عمر, وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأما ما ذكره من مقدار القراءة فلما روى سُليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: «مَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلاَنٍ الإِمَامٍ, كَانَ بِالْمَدِينَةِ, قَالَ سُلَيْمَانُ: فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ, فَصَارَ يُطِيلُ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ, وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ, وَيَقْرَأُ فِي الأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ, وَفِي الأُولَيَيْنِ مِنَ الْعِشَاءِ مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ, وَيَقْرَأُ فِي الْغَدَاةِ بِطُوَالِ الْمُفَصَّلِ». رواه أحمد والنسائي, وأبو داود, وله في رواية أحمد: قال الضحاك بن عثمان: وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول: ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن

عبد العزيز- قال الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز فكان يصنع مثل ما قال سليمان بن يسار. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِقَافٍ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, وَنَحْوِهَا, وَكَانَتْ صَلاَتُهُ بَعْدَ [إلى] تَخْفِيفٍ». وفي رواية: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ, وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ, وَنَحْوِهِمَا مِنَ السُّوَرَةِ». وعن جابر بن عبد الله: أنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا طَوَّلَ فِي الْعِشَاءِ: «أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى, وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا, وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؟» متفق عليه. «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنِ اقْرَأْ بِالنَّاسِ فِي الْفَجْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ, وَفِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ, وفِي الْمَغْرِبِ بِآخِرِ الْمُفَصَّلِ». رواه [أبو حفص بإسناده].

قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر

ويستحب له أن يطيل الظهر بقدر ثلاثين آية, والعصر على النصف من ذلك, مثل ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَدْرِ ثَلاَثِينَ, وَفِي الأُخْرَيَيْنِ: قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً, أَوْ قَالَ: نِصْفَ ذَلِكَ, وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ خَمْسَةَ آيَةً, وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ». رواه احمد ومسلم. ورواه بإسناده قال: «اجْتَمَعَ ثَلاَثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَقِيسَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لاَ يَجْهَرْ فِيهِ مِنَ الصَّلاَةِ, فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمْ رَجُلاَنِ, فَقَاسُوا قِرَاءَتَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ ثَلاَثِينَ آيَةً, وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ, وَفِي صَلاَةِ الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ عَلَى قَدْرِ النِّصْفِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ عَلَى قَدْرِ النِّصْفِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ».

قال أحمد: يقرأ في الظهر قدر ثلاثين آية, وقدر تنزيل السجدة. وقال أيضاً: يقرأ في الظهر بنحو تنزيل السجدة أو ثلاثين آيةً أو نحو ذلك, وفي العصر على النصف من ذلك, أذهب إلى حديث أبي سعيد. وقال أيضاً: الركعتان من العصر, ولو قرأ أزيد من ذلك أو أنقص جاز, إلا أنه يكره تخفيف القراءة في الفجر لغير عذرٍ, ويكره الإطالة على المأمومين, إلا أن يكونوا ممن يؤثر ذلك, ولأن الفجر خفَّفت؛ لأجل طول القراءة فيها, وقراءتها مشهودة, يشهده الله وملائكته, وفيها وقت استيقاظ الناس من منامهم ونشاطهم إلى الصلاة, فقلوبهم أوعى وأصفى لقراءة القرآن وسمعه, والمغرب وتر النهار, ووقتها المستحب مضيق, فكما أن السنة المبادرة بفعلها, فكذلك بتخفيفها, لترتفع مع عمل النهار, والعشاء بعدها النوم, وفي إطالتها إضجار للناس, وإملال لهم, ووقتها شاسع, فيتوسط الأمر فيها. وأما الظهر والعصر فقال القاضي: يقرأ في الركعة الأولى ثلاثين آيةً, نحو ما ذكرنا من السور في صلاة الفجر, وفي الثانية على النصف من ذلك, وفي العصر على النصف من ذلك.

تطويل الركعة الأولى على الثانية

وقال الخرقي وابن أبي موسى: يقرأ في الركعة الأولى بنحو من الثلاثين آيةً, وفي الثانية بأيسر من ذلك, وفي العصر على النصف من ذلك, وهذا معنى كلام أحمد, وقد روى ابن ماجة حديث أبي سعيد فقال فيه: «قَاسُوا قِرَاءَتَهُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنَ الظُّهْرِ بِقَدْرِ ثَلاَثِينَ آيَةً, وَفِي الرَّكْعَةِ الأُخْرَى قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ, وَقَاسُوا ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ النِّصْفِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ» وأكثر الأحاديث على الأولى, فإن حديث أبي سعيد وأبي هريرة وأنس المتقدم يدل على إطالة الأوليين من الظهر, إلا أن قراءة الفجر بكل حالٍ أطول من سائر الصلوات, وكل ذلك متقارب؛ لأن قراءة الجهر يقع فيها ترتيل وترسيل, فيطول بذلك, بخلاف قراءة السر. وتطويل الظهر لأنه ليس قبلها صلاة, فأشبهت الفجر, والعصر قريبة منها, فخففت مع أن وقت الظهر وقت فراغٍ لغالب الناس, ووقت العصر وقت الشغل. وينبغي أن يطيل الركعة الأولى على الثانية [من] جميع الصلوات, فإن عكس ذلك كره ذلك ونهى [عنه] الإمام نص عليه؛ لأن فيه حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ كَانَ

يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِمَّا لاَ يُطَوِّلُ فِي الثَّانِيَةِ, وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ, فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيد بِذَلِكَ أنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الأُولَى» وهو حديث متفق عليه. ولأنه إذا أطال الأولى أدرك الناس الركعة الأولى, ولأن النفوس أنشط في أول الصلاة, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركعات الأُوَلَ من قيام الليل على الأواخر, ولذلك أطيل الركعتان الأوليان من الصلاة على الأخريين, وأطيلت الصلوات الأولى, فالأولى على التي بعدها.

فصل

فصل ولا بأس أن يقرأ بعض السورة من أولها في ركعةٍ, سواء أتمها في الثانية, أو قرأ في الثانية من غيرها, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ الأعراف في ركعتي المغرب, وأنه قرأ بعض «المؤمنون» في الركعة الأولى من الفجر. فإما قراءة أواخر السور وأواساطها في الفرض, فعنه يكره ذلك؛ لأنه خلاف المأثور من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه, وقد قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» والغالب أن أواخر السور مرتبطة بأوائلها فأشبه من ابتدأ من أيها آية, وعنه: يكره أن يقرأ من وسطها, لا من آخرها؛ لما روى الخلال عن عبد الله أنه كان يقرأ

في آخر ركعةٍ من الفجر آخر آل عمران وآخر الفرقان. وعن عبد الصمد قال: كنت جالسًا عند الحسن، فسأله رجل عن الرجل يقرأ في الصلاة ببعض هذه السورة؟ قال: فقال الحسن: غزوت إلى خراسان في جيشٍ فيه ثلاثمائة رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يأُم أصحابه في الفريضة فيقرأ بخاتمة البقرة، وبخاتمة الفرقان، وبخاتمة الحشر، وكان بعضهم لا ينكر على بعْضٍ، بل يقرأ الرجل الآية الواحدة من حيث شاء إذا كانت كبيرة، مثل آية الكرسي، وآية الدين؛ لأن تلاوتها لا تكره خارج الصلاة، فكذلك في الصلاة، ولأنها لا تكره في النافلة، فكذلك في الفريضة. وقد دل على الأصل ما ورد في قراءة آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، وقراءة العشر الأواخر من آل عمران، وما كان يقرأه في خطبه، وهو كثير وقرأ:

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ...} الآية في قيام الليل. ولا بأس أن يقرأ سورتين وأكثر في ركعة في النافلة؛ لأن ابن مسعود قال: «إِنِّي لأَعْرِفُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ, سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» متفق عليه. وروى عنه حذيفة رضي الله عنه: «أَنَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي رَكْعَةٍ». رواه مسلم. وهل يكره ذلك في الفرض؟ على روايتين. إحداهما: يكره؛ لما روى أبو العالية قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لِكُلِّ سُورَةٍ حَظُّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»

رواه أحمد. والثانية: لا تكره, وهي أشهر وأصح؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ, فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ, حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا, ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا, فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ, فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ: «وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟». فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا, فَقَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» رواه الترمذي, والبخاري معلقاً مجزوماً به. وروى مالك عن ابن عمر: أنه كان يقرأ أحياناً بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة في صلاة الفريضةِ, فأما تكرار الآية الواحدة أو السورة الواحدة في الركعتين, فلا يكره في الفرض ولا النفل, لما روى أبو داود عن رجل من جهينة أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ: «إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ, فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا». وعن أبي ذر رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يَرْكَعُ بِهَا, وَيَسْجُدُ حَتَّى أَصْبَحَ وَهِيَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}» رواه الترمذي. والأفضل: أن يقرأ من البقرة إلى أسفل. وهل يكره أن يقرأ السورة على خلاف ترتيب مصحف عثمان؟ مثل أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الناس, وفي الثانية بالفلق؟ على روايتين: إحداهما: يكره؛ لأنه تنكيس للقرآن, فأشبه تنكيس آيات السورة, فإنه يكره كتابته وتلاوته في الصلاة وغيرها, من غير خلاف في المذهب, وقد سئل ابن مسعودٍ رضي الله عنه عمن

يقرأ القرآن منكوساً؟ فقال: ذاك (القلب) , ولأنه لو نكسه في ركعةٍ واحدةٍ أو خارج الصلاة. والرواية الأخرى: لا تكره؛ وهي أصح؛ لأن الصبي يعلم على ذلك, ولأن ذلك لا يخرج عن القرآن عن الوجه الذي أنزل عليه والنظم والتأليف الذي له, فأشبه ما لو قرأ سورة, وقرأ في الثانية بعدها سورة لا تليها, وقد تقدم حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران, وحديث الذي كان يفتتح بقل هو الله أحد, ويقرأ بعدها سورة أخرى, فإذا لم يكره التنكيس في ركعةٍ واحدةٍ ففي ركعتين أَوْلى. واحتج أحمد بأن أنس بن مالك صلى المغرب فقرأ في أول ركعةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. وقال البخاري: قرأ الأحنف بالكهف في الأولى, وفي الثانية بيونس أو يوسف, وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بها.

فأما تكرار الآية أو السورة الواحدة في الركعةِ الواحدةِ, فلا تبطل الصلاة, سواء كانت الفاتحة أو غيرها؛ لأن أقصى ما فيها أنها ركنٌ قوليٌّ وتكرار الأركان القولية لا تبطل, بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بقوله: الله أكبر كبيراً, الله أكبر كبيراً, الله أكبر كبيراً. وكذلك الرجل الذي افتتح الصَّلاةَ. ـــــــــــــــــــــــــ «قال ناسخه الشيخ علي حفظه الله تعالى»: هذا آخر ما تيسر لي الآن من المجلد الثاني من هذا المصنف المبارك, والله تعالى المسئول والمعول على فضله وكرمه وجوده أن يمن بأوله وآخره, علقه لنفسه الفقير إلى الله عز شأنه علي بن إبراهيم بن صالح بن حمود بن مشيقح غفر الله له ولمؤلفه ووالديهما ومشايخهما وقع الفراغ منها نهار الأحد خامس عشر جماد الأولى من شهور سنة ثمان وستين وألف وثلاثمائة وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أمين. وانتهى التعليق عليه ومراجعته حسب الوسع والطاقة, بقلم الفقير إلى عفو ربه عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن حمود بن علي بن حمود بن مشيقح غفر الله له ولوالديه وذريته ولمشائخه

ولمؤلفه وناسخه ووالديهما ومشائخهما وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات, سائلاً المولى جل شأنه أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم مقرباً للفوز لديه بأعلى درجات الفردوس في جنات النعيم. حرر في صبيحة يوم الخميس الخامس عشر من شهر شوال من عام 1422 هـ في مدينة بريدة حرسها الله وبلاد المسلمين من كل سوء, مصلياً ومسلماً على أفضل البرية محمد عليه وآله وأصحابه وأزواجه وذرياته من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. آمين. تم والحمد لله

§1/1