شرح العقيدة الواسطية للغنيمان

عبد الله بن محمد الغنيمان

شرح العقيدة الواسطية [1]

شرح العقيدة الواسطية [1] استحق ربنا الحمد فحمد نفسه، وأمر عباده أن يحمدوه لذاته ولأوصافه ولأفعاله، فله الحمد كله. ونفى عن نفسه -جل وعلا- اتخاذ الولد والصاحبة، والشريك في الربوبية والألوهية؛ لأن ذلك يعد نقصاً وعيباً في حق الرب المعبود، الذي يسبحه كل من في السماوات ومن في الأرض مقالاً وحالاً، فلا يستنكف مخلوق عن طاعته، ولا يخرج شيء عن إرادته وقدرته.

الآيات الدالة على عظمة الله في إلهيته وتنزهه عن الشبيه والمثيل والند والولد

الآيات الدالة على عظمة الله في إلهيته وتنزهه عن الشبيه والمثيل والند والولد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] ، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] ، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1-2] ، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92]] .

شرح آخر سورة الإسراء: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا)

شرح آخر سورة الإسراء: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) قوله: (وقول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] ) . قوله تعالى: (قل) هذا أمر من الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولفظ (قل) دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أوحي إليه، فلما قيل له: (قل) بلغها كما جاءت من عند الله جل وعلا؛ فلم ينقص شيئاً، وهكذا لم يزد شيئاً.

استحقاق الله للحمد وبيان مرادفاته

استحقاق الله للحمد وبيان مرادفاته و (الحمد) : (أل) فيه للاستغراق، ومعناه: الإحاطة بكل حمد يستحقه الله جل وعلا. و (الحمد) : هو الثناء على الجميل الاختياري الذي يكون قائماً بالمحمود، سواء كان في مقابل نعمة أو لم يكن، وإنما يكون لما قام به من الأوصاف والأفعال التي يحمد عليها، والحمد لله جل وعلا أولاً وآخراً، فهو يستحق الحمد لذاته ولأوصافه ولأفعاله ولخلقه ولجزائه؛ ولهذا حمد نفسه جل وعلا في مبدأ الخلق ليعلم خلقه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] ، وكذلك حمد نفسه في المنتهى، كما قال جل وعلا: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] ، وعبر بهذه الصيغة: (وقيل الحمد لله) ليدل على أن كل مخلوق حمده جل وعلا، وأنه حمد على كل شيء حتى الجزاء، فإنه حتى أهل النار يرون أنها مكانهم الذي يستحقونه، فهو محمود أولاً وآخراً ومبدأ ومنتهى، على ما يفعله وعلى ما يقوم به ويتصف به، وعلى ما يقدره وعلى ما يجزيه عباده، فقال: (الحمد لله) لاستغراق الحمد كله، فإنه مستحقٌ لله جل وعلا في الأولى وفي الآخرة، وقد جاء هذاصريحاً في القرآن في أماكن متعددة. والفرق بين الحمد والمدح: أن الحمد لابد أن يكون له أثر يقوم بقلب الحامد من الحب والثناء على المحمود. أما المدح: فهو إخبار عن الأوصاف الجميلة التي تكون بالممدوح، ولا يلزم أن يكون محبوباً للمادح، فالحمد أخص من المدح. وأما الشكر فلابد أن يكون في مقابل نعمة، ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا يعني أن النعمة تقتضي الشكر بالأمور الثلاثة: باليد التي يقدم بها شيئاً مقابل النعمة، وبالثناء الذي يكون باللسان، وبالحب الذي يكون بالقلب وهو الضمير المحجب. أما الرب جل وعلا فهو ينعم على عباده ولا يطلب من ذلك أن يسدوا إليه شيئاً أو يقابلوه بشيء، وإنما أن يعبدوه وحده ولا يعبدوا غيره، ونفع عبادتهم عائد عليهم، فإنه سبحانه لا ينتفع بطاعة الطائعين، كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين. والشاهد من الآية التي ذكرها المصنف: أن تثبت الصفات الكاملة لله تعالى. فقوله: (الحمد لله) ، أي: فله الكمالات في كل شيء: في فعله وفي قوله وفي وصفه الذي يتصف به جل وعلا، فهو يحمد على ذلك.

غنى الله عن الولد والشريك

غنى الله عن الولد والشريك وقوله: {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111] هذا تنزيه له جل وعلا بعد إثبات الكمال، فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به بعض الخلق الأنجاس، الذين لم يعرفوا قدر الله ولم يتحلوا بشيء من العبودية، بل ندوا وشردوا عن الطور الذي خلقوا له، فشبهوا الله جل وعلا بالناقصات، فزعموا أن له ولداً تعالى الله عن قولهم! ومن هؤلاء اليهود الذين زعموا أن عزيراً ابن الله، وهو رجل منهم يعرفونه ولكنهم لما أصيبوا بغزو بختنصر الذي قتلهم وسلبهم ملكهم ثم أحرق التوراة وكانوا لا يحفظونها، فجاء هذا الرجل وكتبها، فعند ذلك قالوا: ما كتبها إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وكذلك إخوانهم النصارى فإنهم قالوا: عيسى ابن الله، وكذلك الجهلة من المشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وهؤلاء كلهم جهلة ظلمة، وهم من شرار خلق الله جل وعلا، ولهذا يكون مصيرهم إلى جهنم. ولهذا يقول: (الذي لم يتخذ ولداً) ، أي: لغناه وكماله، فله الحمد المطلق وله الغنى المطلق، وهو الذي لا يشبهه شيء. قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك) وهذا من تمام ملكه وغناه، فهو غني في ذاته ولذا: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) ، وهو الذي لا مثيل له ولا نظير، فإن الولد يكون مشابهاً لوالده، والوالد لا يطلب الولد إلا لنقصه وحاجته؛ لأنه يموت فيريد من الولد أن يرثه وأن يقوم مقامه، أما رب العالمين جل وتقدس فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق في السماوات والأرض عبيد له. وأما الملك فهو الذي أوجده وهو الذي يملكه الملك التام، أما ملك العباد فهو عارية مؤقتة، ثم هي هينة مقدرة لا تعدو قدرهم، ثم يسلبون ذلك ويزول من أيديهم، ويخرجون من هذه الدنيا كما دخلوا فيها قد سلبوا كل شيء، فليس ما عندهم من الملك ملكاً في الحقيقة، فالملك الحقيقي يعود إليه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] . وإذا لم يكن له شريك في الملك تعالى وتقدس، فهو الذي لا نظير له في حقه الذي يستحقه، وسواء كان الحق على عباده أو كان حقاً عاماً مطلقاً، فليس له في ذلك مشابه، فهو كامل في كمالاته.

ولاية الله لعباده ولاية إحسان لا تعزز

ولاية الله لعباده ولاية إحسان لا تعزز قوله: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)) هنا قيد نفي اتخاذ الولي حال كونه من الذل، لأن الله جل وعلا له العز المطلق، فليس بحاجة إلى أن يكون له أولياء يتعزز بهم من الذل وينتصر بهم. أما قوله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ، فهذه ولاية إحسان، وليست ولاية تعزز من الذل، فهذه قد نفاها هنا، وهو إنما تولى أولياءه لما أحبوه وامتثلوا أمره، فتولاهم إكراماً لهم وجزاءً، فالمنة له سبحانه عليهم، وإنما كان المن عليه لو كانت الولاية منه ولاية افتقار وحاجة، فالله لا يحتاج تعالى وتقدس. ولهذا السبب تسمى هذه الآية آية العز، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يعلمها أهل بيته) ، وجاء في الأثر أنها ما قرئت في بيت فيدخله سارق في تلك الليلة، فهي آية العز الذي يظهر الله جل وعلا فيها عزته لعباده، وإلا فالله جل وعلا لا يتعزز بكون العباد يضيفون ذلك إليه! قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] ، معنى التكبير: أن يكبر بلسانه معتقداً بقلبه أنه تعالى أكبر من كل شيء وأعظم، وهو الكبير المتعالي الذي يكون بائناً من خلقه، لا يماثله شيء، وكل شيء تحت قهره وبقبضته، بفعل القلب وفعل الجوارح وبالقول، ليكون القول مطابقاً للفعل.

وجه بيان الصفات في الآية

وجه بيان الصفات في الآية ففي هذه الآية من جهة الصفات أنواع: النوع الأول: إثبات الكمالات لله جل وعلا، حيث إن الحمد يدل على إثبات كل كمال، سواء تعلق بذاته كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، أو تعلق بمشيئته كالرزق والفضل والإكرام والنزول والاستواء والمجيء وغير ذلك، فله الكمال المطلق الذي يصدر عنه أو يتصف به، وهو محمود على كل ما يتصف به وعلى كل ما يفعله. النوع الثاني: الغنى، فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. النوع الثالث: أنه بائن من خلقه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأنه يجب على عباده عبادته، والثناء عليه بما علمهم أن يثنوا عليه به.

شرح أول سورة التغابن: (يسبح لله)

شرح أول سورة التغابن: (يسبح لله) وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] ، هذه الآية قريبة من التي قبلها. و (يسبح) ، جاء الفعل بصيغة المضارع، ليدل على أن التسبيح مستمر لله جل وعلا، والتسبيح هنا حقيقي على ظاهره بلسان المقال. وقوله: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) (ما) تشمل العاقل وغير العاقل، أي: فإنه يسبح لله كل من في السماء من عاقل أو غير عاقل. و (السماء) المقصود بها: كل ما فوق الأرض إلى عرش الرحمن؛ لأن السماء مأخوذة من السمو وهو العلو، فما فوق رأسك فهو سماء، وما بين السماوات والأرض داخل في هذا، والسماء المبنية كذلك وما بين السماوات المبنية، وفيها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا مما يسبح له.

حقيقة تسبيح الجمادات لله سبحانه

حقيقة تسبيح الجمادات لله سبحانه الله جل وعلا يجعل عند غير العاقل إرادة فيسبح حسب ما أراده الله جل وعلا، وليس كما يقول الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهدات والمرئيات فيقيسون ما رأوه عليه: إن هذا التسبيح بلسان الحال، بمعنى أن من رآها دلته على وجود الله، فيسبح الله. نعم، هذا موجود في المخلوقات، فإن العاقل إذا نظر إلى الجبال أو إلى الأشجار والنبات والحيوانات دله ذلك على أن لها خالقاً يستحق أن يسبح ويحمد ويعبد، وهو الله وحده، ولكن قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن:1] ، ظاهره أنه تسبيح حقيقي بلسان يسمع حسب تسبيحه؛ ولهذا جاء في الآية الأخرى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، ومعنى (لاتفقهون) أنكم لا تدركونه وتعلمونه، وهذا يدل على أنه نطق، وكذلك قوله فيما امتن به على عبده داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] ، وتسبيح الجبال لا يختص بوقت داود، بل هو مستمر قبل داود وبعده، وكذلك ما جاء من تسبيحها بالعشي والإشراق، فإن تسبيح الله جل وعلا لا يختص بالعشي والإبكار، بل هو دائم في الليل والنهار. ثم الأدلة الخاصة على حقيقة التسبيح كثيرة، منها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث) ، أي يقول: السلام عليك يا رسول الله! وقد سمع تسبيح الطعام بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الحصى. وحنين الجذع يكاد يكون متواتراً، وهو جذع نخلة كان يخطب عليه في هذا المسجد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أمر أن يصنع له منبر من الخشب، فلما صنع المنبر ونُصِب صعد عليه، فأول ما صعد عليه يخطب، سمع لذلك الجذع وهو بجواره حنيناً، كحنين الناقة التي فقدت ولدها، فنزل صلوات الله وسلامه عليه والتزمه، فجعل يهدأ كهدوء الصبي الذي يبكي إذا التزمته أمه، ثم قال: (لو تركته لبقي يحن) ، وسبب ذلك أنه فقد ذكر آيات الله وصفاته الذي كان يقال عليه، فحنَّ لذلك. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:20-21] ، يعني أنهم -كما جاء تفصيل ذلك- إذا جاءتهم الشهود تشهد عليهم، فإذا بعض الناس إذا أوقفوا على أعمالهم، وقامت الملائكة تشهد عليهم، وجاءت بالصحف التي سجلتها عليهم، فإنهم يقولون: يا رب! لا نقبل شهادة هؤلاء، ولا نقبل إلا شهادة من أنفسنا! عند ذلك يختم على أفواههم ويقال لجلودهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم: تكلمي! فتتكلم اليد تقول: تناولت كذا وكذا في وقت كذا في مكان كذا في ساعة كذا، وتقول الرجل: مشيت إلى المكان الفلاني في وقت كذا وكذا وتقول العين: أبصرت كذا وتذكر الوقت والساعة والمكان، وتقول الأذن: استمعت إلى كذا، ويقول الجلد: باشرت كذا وهكذا ثم بعد ذلك يخلى بينهم وبين النطق، فيعودون على جلودهم وأسماعهم وأبصارهم باللوم، ويقولون: كنا ننافح عنكم، فلماذا فضحتمونا؟ عند ذلك تقول الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، أي: ليس هذا بإرادتنا، ولكنه بإنطاق الله إيانا، فحينئذٍ يقول العبد: سحقاً لكنّ وبعداً، فعنكن كنت أجادل! فالمقصود أن هذا نطق يسمعونه ويسمعه الحاضرون عندهم، وبذلك تنقطع حجتهم نهائياً، مع أنهم في فعلهم هذا ازدادوا بعداً من الله جل وعلا، فالتسبيح الذي يذكره الله جل وعلا على ظاهره. وقدم السماوات على الأرض؛ لشرف السماء، ولأن السموات كل من فيها مطيع خاضع، أما الأرض فأكثر من فيها من بني آدم ومن الجِنَّة عصاة. وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] ، فالملك يدل على عزه وقوته، ويدل على كمال قدرته، وأما الحمد فهو يدل على اتصافه بجميع الصفات الكمالية التي يحمد عليها كما سبق.

عموم قدرة الله على كل شيء

عموم قدرة الله على كل شيء وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] ، (كل) : كلمة تدل على العموم، فلا يجوز أن يخرج منها شيء، وهي بحسب ما تضاف إليه، فإذا جاءت في مثل هذه الآية فهي عامة مطلقةً لا يجوز أن يخرج منها شيء، فقدرة الله جل وعلا غير محدودة، ولا يجوز أن نقيدها بما يقوله أهل الشك والريب الذين تأثروا بالمنطق وبالكلام الفاسد الذي أورث الشكوك، حتى صاروا يقيدون قول الله جل وعلا في مثل هذه الآية بالأمور التي تدل على الريب، بل ربما دلت على الكفر بالله جل وعلا، ويتبعون في هذا أهل الزندقة، وأهل محاربة الله جل وعلا ومحاربة دينه، الذين يقصدون تشكيك المسلمين في ديانتهم! فمثلاً يقولون: خرج من ذلك أمور، منها: أنه لا يقدر أن يخلق مثل نفسه، ومنها أنه لا يقدر أن يفني نفسه، وما أشبه ذلك من الخزعبلات، وهذه تقديرات ووساوس شيطانية لا حقيقة لها في الواقع؛ لأن هذا من المستحيل، فالله هو الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا مثل له، ومن المستحيل أن يوجد إله آخر كما سيأتي، فالإنسان يعرف من نفسه أنه لا يمكن أن يكون حياً ميتاً في آن واحد، وكذلك يستحيل أن يجتمع العدم والوجود في آن واحد، وكذلك يستحيل أن يكون الإنسان متحركاً ساكناً في آن واحد، وهكذا الأمور المتضادة، يستحيل اجتماعها وهذا منها. فقولهم هذا وساوس، ولكن قد ينطلي على بعض الجهلة؛ فلهذا لا يجوز الالتفات إليه بحال من الأحوال، فضلاً عن أن يؤتى ويقيد به كلام الله، كما ذكر السيوطي عفا الله عنا وعنه في تفسيره في آخر سورة المائدة، عند قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، قال: وخص العقل من ذلك ذاته فليس عليها بقادر! وهذا أخذه عن المتكلمين الذين يوجدون هذه الأمور لتشكيك الذين ليس عندهم المقدرة على المعرفة التي يعرفون بها ربهم. ثم إن (كل) إذا أضيفت إلى مخلوق فإنها تكون بحسب الإضافة، كقوله جل وعلا في الريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] ، أي: كل شيء أمرت بتدميره، وإلا فهي لم تدمر الجبال، ولم تدمر التراب، ولم تدمر أشياء كثيرة، وإنما دمرت ما أمرت بتدميره من الآدميين ومساكنهم وحروثهم وأنعامهم. وكذلك قوله في ملكة اليمن: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ، أي: أوتيت من الأشياء التي تصلح للملك وتصلح للملوك في وقتها.

تخصيص المعتزلة لقدرة الله والرد عليهم

تخصيص المعتزلة لقدرة الله والرد عليهم ومن العجيب فعل أهل البدع المعتزلة أنهم في قوله جل وعلا: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، وما أشبه ذلك، يخرجون من ذلك أفعال العباد الاختيارية التي يفعلونها، فيقولون: إن الله لا يقدر عليها -تعالى الله عن قولهم- وهذا نوع من الكفر، ثم إنهم يدخلون فيها كلام الله فيجعلونه مخلوقاً، وهذا من الأدلة الواضحة على أن أصحاب البدع يتبعون أهواءهم، ولا يتبعون الأدلة، فأخرجوا من العموم بعض المخلوقات التي هي أفعال العباد، وأدخلوا فيه ما هو وصف لله جل وعلا، وهو كلامه تعالى وتقدس؛ لأن الكلام صفة. وسيأتي أن ما يضاف إلى الله لا يخلو إما أن يكون صفة وإما أن يكون مخلوقاً، فهو إما من إضافة مخلوق إلى خالقه أو من إضافة صفة إلى موصوف، فإن كان معنىً لا يقوم بنفسه كالقول والعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والإرادة فهو صفة، وإن كان شيئاً قائماً بنفسه؛ كناقة الله وبيت الله ورسول الله وعبد الله وما أشبه ذلك، فهو من إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة تدل على التشريف والإكرام. فقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] على عمومه، فلا يخرج عن قدرة الله شيء.

شرح أول سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل)

شرح أول سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل) وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] تبارك: فعل ماض، لا يأتي منه المضارع، وهو مختص بالله جل وعلا، ولا يجوز أن يقال للمخلوق: تبارك بكذا وبكذا، كما يصدر من بعض العوام: تباركوا بالنواصي والأماكن! فهذا لا يجوز، وهو نوع من الشرك. والتبارك مأخوذ من البركة، والبركة تدل على النماء والزيادة، فمعنى ذلك أن كمالاته جل وعلا بأفعاله ومشيئته تزداد، فيستحق بها حمداً على حمد، وليس معنى ذلك أنه قبل زيادتها ووجودها كان ناقصاً تعالى وتقدس؛ لأن الكمال أن يأتي الشيء الذي فيه الكمال متعلقاً بمشيئته، كقوله جل وعلا: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، ففعله كله كمال، وهو لا يفعل إلا إذا أراد، وهو جل وعلا لم يمتنع من الفعل في وقت من الأوقات، لا في الأزل ولا في المستقبل؛ لأن له الكمال المطلق. وكذلك يدل قوله: (تبارك) على الإحسان والكرم الذي يصدر منه بأفعاله، ويدل على أن أسماءه وصفاته مباركة، وبها تنال البركة لمن ذكرها أو عبد ربه بها. وقوله: ((الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)) . الذي: نعت لله جل وعلا. ونزَّل: بصيغة المبالغة يدل على أن النزول يكون وقتاً بعد وقت، وليس جملة واحدةً. والفرقان: هو كلامه الذي يفرق بين الحق والباطل، والضلال والهدى، والغي والرشد، والفرقان هو القرآن، فهو الذي به الاهتداء وبه التفرقة بين الحق والباطل. وهذا يدلنا على أن من وصل إليه القرآن فقد قامت عليه الحجة؛ لأنه وصله الفرقان، ولا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن وهو لا يفهم منه شيء، فيجب أن يستشعر أن ربه يخاطبه به، فيتفهمه ويتدبره، وهو بلسان عربي مبين، فمن كان يعرف العربية فلابد أن يعرف المعنى الذي يخاطب به، ولا يلزم أن يعرف المعاني كلها، بل يكفي أن يعرف المدلول العام الذي يظهر من الخطاب، أما المعاني التي يشتمل عليها فذلك بعيد، بل كثير من العلماء لا يدرك كثيراً منه، فمعاني خطاب الله جل وعلا لا تنتهي، والعلم يتفاوت عند الناس بتفاوت فهومهم في كلام الله جل وعلا.

مقام العبودية من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم

مقام العبودية من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: ((عَلَى عَبْدِهِ)) ، قد يقال: لماذا لم يقل: (على رسوله) حيث إن كلمة الرسول قد يكون مدلولها عند بعض الناس أبلغ من مدلول العبد؛ لأن كل الخلق عباد له، أما الرسول فهو الذي يصطفيه الله جل وعلا لرسالته، فلماذا عبر بالعبد؟ وA أنه لابد أن يكون التعبير مقصوداً لله جل وعلا؛ لأنه علام الغيوب، فكل حرف من كتاب الله جل وعلا له معان، وله مدلولات يجب أن نتفهمها، ولا يقال إن لفظة (العبد) ولفظة (الرسول) ولفظة (النبي) سواء، ولذلك إذا عبر الله جل وعلا بلفظة، فلابد أن يكون تحتها معنى مناسب للمقام، وهو هنا: أن أشرف المقامات التي يقومها المخلوق لله جل وعلا هي أن يكون عبداً محققاً للعبودية، فإذا تتبعنا القرآن وجدنا ربنا جل وعلا ذكر رسوله بلفظ العبودية في المقامات التي يثنى عليه بها، كمقام الدعوة إلى الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] ، وهو من أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم التي بها يحيا الناس، ويخرجون من الظلمات إلى النور، فالحياة الحقيقية ليست بأن يدرك الأكل والشرب والتلذذ، بل بأن يعرف كيف يعبد ربه. وكذلك ذكره بالعبودية في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] ، فذكره بلفظ العبودية مضافاً إليه (بعبده) ، وكذلك في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، وذكره هنا في هذه الآية في مقام الإنزال والوحي: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، وكما قال في آية أخرى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] . فهذه المقامات الأربعة هي أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره جل وعلا فيها بلفظ العبودية مضافاً إليه؛ مما يدل على أن العبودية أشرف ما يتحلى به العارف المتقي القريب من الله، هذا أمر. وهنا أمر آخر: وهو أن يبين الله جل وعلا أن الرسول وإن كان كريماً على الله جل وعلا، فهو لا يخرج عن عبوديته، وليس له شيء من الألوهية ولا من الربوبية، فهذا أيضاً مقصود.

إثبات الحكمة في أفعال الله

إثبات الحكمة في أفعال الله وقوله: ((ِليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) : المقصود الفرقان، وهذا التعليل لإنزال الفرقان بأنه ليكون للعالمين نذيراً، يدل على أن أفعال الله جل وعلا لها مقاصد وغايات معللة؛ فلا يفعل شيئاً إلا لحكمة، وهذا ظاهر جداً في كثير من النصوص، ومن الصفات التي يجب أن تثبت، أن الله يفعل لغاية محمودة ولحكمة مقصودة يقصدها ربنا جل وعلا.

عدم تكليف الملائكة

عدم تكليف الملائكة و (العالمين) : المقصود بهم هنا الجن والإنس فقط، أما قول من قال: إن الملائكة داخلون في ذلك، وكذلك السموات والأرض، فهذا كلام تشم منه رائحة الغلو، ولا دليل عليه؛ لأن الملائكة هم رسل، وهم كما قال الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ، فكيف يكون نذيراً لهم؟! ثم الملائكة في السماء، فكيف ينذرهم؟! فالنذارة إنما تكون لمن قال الله جل وعلا فيهم: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] ، ولم يذكر منهم الملائكة، وإنما ذكر الناس والجن فقط، فيدل ذلك على أنهم هم الذين ينذرون. والنذارة: هي الإعلام بالمخوف المتوقع حصوله، وهذا يدل على أن من لم يمتثل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه وشيك أن ينزل به العذاب وما أقربه منه! فمن العذاب ما هو محسوس مشاهد، ومنه ما هو غير محسوس، ولكنه يشاهده من كان في قلبه حياة، ومن ذلك تمادي الإنسان في المعاصي، وكلما ازداد عمراً زاد كثرة فعل في المعاصي، فهذا عذاب وعقاب؛ لأنه كلما زاد عمره زادت كثرة أفعاله، فكثرت سيئاته، فصار تعذيبه أعظم.

ثبوت تكليف الجن ووجودهم ومجازاتهم

ثبوت تكليف الجن ووجودهم ومجازاتهم وتدل الآية على أن الجن مكلفون، ومقتضى ذلك أنهم يجزون على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة إساءة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بالجن، فيأتون إليه، أو يذهب إليهم ويجتمع بهم ويقرأ عليهم القرآن، ويأمرهم وينهاهم، ثم يذهبون إلى قومهم منذرين، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29-30] إلى آخر الآيات، وكذلك قوله جل وعلا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:2] ، إلى آخر السورة، وكذلك قوله جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأنعام:130] ، في عدد من الآيات. ولا ينكر وجود الجن إلا الزنادقة، والذي ينكرهم يكون كافراً بالله جل وعلا، وإنما بعض الناس ينكر أن يلابس الجني الإنسي، وهذا أيضاً لا دليل على إنكاره، ولا يجوز إنكار ذلك؛ لثبوته بالأدلة وبالواقع.

كمال صفات الرب جل وعلا

كمال صفات الرب جل وعلا وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:2] ، هذا كما سبق أنه من كمال صفاته جل وعلا، فالملك من صفات الأفعال. وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، يعني: أنه تعالى وتقدس له الصفات الكاملة في كل ما يتصف به، سواء كان مما يفعله ويوجده، فله كماله وتمامه، أو كان مما اتصف به في ذاته تعالى وتقدس. وهذا يدل أيضاً على أن صفات الرب جل وعلا لا يجوز أن تكون مماثلة لصفات الخلق؛ لأن الصفات تبع للذات يحتذى بها حذوها، أي: أن الموصوف تكون صفته تابعة لذاته التي هذه الصفة تكون وصفاً لها، فالمخلوق إذا وصف بأنه عليم فعلمه يليق به، ولابد أن يكون ناقصاً، ولابد أن يكون جاهلاً قبل العلم، ولا بد أن يموت ويذهب علمه، وكذلك إذا وصف المخلوق بأنه كريم أو بأنه رحيم أو بأنه رءوف، فكما يناسبه. ولكن إذا وصف الرب جل وعلا بأنه عليم، وبأنه عالم الغيب، وبأنه رءوف رحيم، وبأنه كريم، فلا يكون وصفه مشابهاً لما اتصف به المخلوق، بل له الكمال المطلق في ذاته وفي أوصافه. وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان:2] ، هذا يدلنا على أن كل الأشياء مخلوقة، ولا يخرج عن خلق الله شيء من المخلوقات، أما صفاته تعالى وتقدس، مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وعلمه؛ فهذه لا تكون قائمة بنفسها منفكة عنه، حتى يقال إنها غير الله فتكون داخلة في قوله: ((َخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) ، بل هي صفات له لا تنفك عنه ولا تفارقه، فلا تكون غيره، كما أنها لا تكون هي هو، فلا يجوز أن يقال إن أوصافه تعالى وتقدس دخلت في هذا العموم، كما يقوله أهل الباطل. وقوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، يدلنا على الدقة في خلق الله جل وعلا، وفي تقديره، وأنه تعالى وتقدس علم الأشياء قبل وجودها، وقدرها قبل وجودها، وأنها توجد على وفق تقديره بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وهذا يدل على الإيمان بالقدر، وسيأتي.

تفرد الله بالإلهية وتنزهه عن الولد

تفرد الله بالإلهية وتنزهه عن الولد وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] ، ما: نافية، وفي هذه الآية رد على المشركين والكفرة الذين لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعرفوا حقه، فضلاً عن أن يعرفوا قدره في ذاته وفي صفاته. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] ، لكمال غناه وكمال عزه ولصمديته؛ لأنه صمد، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وهو الذي تصمد إليه الخلائق كلها، أي: تفتقر إليه، وهو قائم بنفسه. فلذلك قال: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ)) ؛ لأنه إنما يتخذ الولد الفقير الذي يفنى، والذي يحتاج إلى من يساعده، فالولد يعاون والده، ويساعده ويرثه، والله تعالى وتقدس غني كامل الغنى، كامل الملك، صمد لا يحتاج إلى شيء، مستغنٍ بذاته عن كل ما سواه. قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] ، يدل على أن جعل آلهة مع الله كذب وزور، ولهذا يقول جل وعلا في آيات عدة: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:23] ، أي إنما هي مجرد أسماء وضعتموها على مسميات لا حقيقة لها من هذه التسمية. والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب وتحبه، وتنيب إليه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه، ومن مقتضى كون الإله إلهاً أن يكون مالكاً متصرفاً، يملك نفع من يتألهه ويملك ضره. والله أعلم.

شرح العقيدة الواسطية [2]

شرح العقيدة الواسطية [2] إن الله عز وجل غني عن كل ما سواه، ومن غناه سبحانه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وغيره مفتقر إليه، وما كان معه سبحانه من إله يشاركه في الملك والتدبير والخلق؛ إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، وما نرى من سير الكون على نسق ونظام دقيق يمنع أن يكون هناك إلهان اثنان، وقد جاء الوعيد الشديد لمن أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ومن فعل ذلك فقد استحق الخلود في النار وبئس القرار.

نفي الشريك عن الله عز وجل والولد

نفي الشريك عن الله عز وجل والولد يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]] . تقدم أن هذه العقيدة كتبها الشيخ رحمه الله حينما جاءه رجل من أهل واسط، وطلب منه أن يكتب له عقيدة، فاعتل واعتذر بأن العقائد كثيرة، وقال له: اذهب إلى عقائد الأئمة، خذ أيّ عقيدة اقرأها واتخذها لك طريقاً ومسلكاً، فقال: لا أطمئن إلا بشيء تكتبه لي، فألح عليه، فكتبها وهو يريد أن يذهب إلى المسجد، يعني: بين الظهر والعصر، وكتبها من حفظه، ورتب هذا الترتيب، وذكر هذه النصوص المختصرة من حفظه، ثم بعد ذلك ترتب عليها مناظرات ومناقشات، وعقد له عدة اجتماعات مع كبار العلماء يناقشونه فيها، وفي كل مناظرة ومناقشة ينصره الله جل وعلا؛ لأن الحق معه، وفي النهاية أقروا له بأن هذا اعتقاد سلفي جيد، وإن كان في نفوسهم شيء منه. ثم نسبت الواسطية إلى هذا الرجل؛ لأنه من أهل واسط، وهكذا بقية كتب الشيخ رحمه الله كلها أجوبة لأسئلة، ولا يوجد له كتاب واحد كتبه كما يكتبه غيره من الناس، بأن يكتب كتاباً من عند نفسه، وربما يهديه إلى الملك أو الكبير أو ما أشبه ذلك؛ لأن حياة هذا الإمام رحمه الله كلها جهاد. وهو يكتب في الشيء الذي يطلب منه، أو يلح الأمر الذي وقع فيه عليه ككتاب الصارم المسلول. فإن سبب كتابته: أن رجلاً من النصارى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله -حاول قتله- ثم بعد ذلك كتب هذا الكتاب، وقال: هذا أقل ما يجب أن يقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى كتبه الكبار تكون أجوبة لأسئلة، كمنهاج السنة الذي يقع في أربعة مجلدات، وقد طبع الآن في تسعة مجلدات، وهو جواب لسؤال، وبعدما سئل عن ذلك اعتل واعتذر، وقال: هؤلاء باطلهم ظاهر، وليسوا بحاجة إلى أن يكتب رد عليهم، فألحوا عليه بأننا إذا لم نكتب رداً لهذا الكتاب اعتقدوا أن أهل السنة عاجزون عن الرد عليهم أو الجواب عليهم، عند ذلك كتبها، وفي كتاباته خير كثير ونفع للمسلمين، ورد وقهر للباطل. المقصود: أن كتبه تسمى بأسماء يسميها الناس، وليس هو الذي يسميها، فهو يكتبها ثم يتركها للناس يتداولونها ويسمونها، ولهذا قيل: الواسطية، وقيل: التدمرية؛ لأن هذه المسألة جواب لرجل من أهل تدمر، وقيل: الحموية الكبرى، والحموية الصغرى؛ لأنها جواب لرجل من أهل تلك البلد، وهكذا مثل الصفدية وهي تقع في مجلدين وهي جواب عن سؤال. والمقصود: أن هذه العقيدة كتبها في هذا الوقت القصير، وصارت عمدة فيما بعد؛ لأنه تحرى فيها ألفاظ الكتاب والسنة حتى الأمور التي قد يكون فيها شيء مما يخفى على بعض العلماء تجنبه، مثل كلمة (التشبيه) ؛ فإنه لم يذكر في هذه العقيدة هذه اللفظة؛ لأنها لم تأت في القرآن، وقد يكون في التشبيه إجمال كما سيأتي، وقد يراد به حق ويراد به باطل، فتجنب هذا وعدل عن هذا اللفظ إلى التمثيل والتكييف والتعطيل؛ لأن هذا الأمر متفق عليه.

قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله)

قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92] . سبق الكلام عن هذه الآية، ولكن بقي شيء: وهو أن هذه الآية يقول عنها المتكلمون: إنها دليل التمانع، والتمانع: يكون في الخلق والإيجاد والملك، وقد جعلوه دليلاً على وجود الله جل وعلا، وهو دليل واضح جلي، وإن كان لا يعرفه إلا العقلاء والعلماء، ولكنه قاطع، وقد نوزعوا في هذا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] وهذا من الكمال؛ لأنه جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، ولأنه جل وعلا لا مثل له، ولا سمي له، والولد يتخذ لحاجة، والله غني لا يحتاج إلى شيء، وهو جل وعلا صمد، والصمد: هو الذي تصمد إليه الخلائق لحوائجها؛ لأنه مستغنٍ بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وكذلك يقول السلف: الصمد: الذي لا جوف له، وبعضهم يقول: الصمد: الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء، والله جل وعلا يطعم ولا يطعم كما جاء في قراءة، فهو جل وعلا لا يحتاج إلى شيء، ومنزه عن الحاجات من الأكل والنوم وما أشبه ذلك كالولد. وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] ، فهذا في الألوهية والعبادة، أما التمانع: فهو في الخلق والإيجاد والملك، ودليل التمانع هو قولهم: إن المشاهد من هذا الكون أنه متسق على نظام واحد، ونسق واحد، لا اختلاف فيه، ومن المعلوم عقلاً: أن هذا الكون لو كان له أكثر من صانع فلا يمكن أن يكون على هذا الاتساق والاتفاق؛ لأن التقديرات العقلية تكون على ثلاثة أمور: التقدير الأول: إذا وجد أكثر من واحد يتصرف ويملك فلا يخلو الأمر من أن يكون أحدهما مسيطراً على الآخر، فيكون المسيطر هو الإله الذي يجب أن يكون هو الخالق والمالك، فإن كان كذلك بطل أن يكون له شريك. التقدير الثاني: أن يعجز كل واحد عن السيطرة على الآخر، فإذا وجد ذلك، فلابد أن ينفرد كل واحد بخلقه وبتصرفه، كما هو المشاهد في ملوك الدنيا، فإن الملك إذا لم يستطع السيطرة على الآخر انفرد بملكه، وصار له مكان محدد؛ لأنه عجز عن السيطرة على الآخر، ولو كان الأمر كذلك لحصل التفاوت بين المخلوقات؛ لأن كل واحد سيتميز عن الآخر بخلقه وإيجاده وملكه وتصرفه، والمشاهد عكس ذلك، فيبطل هذا التقدير كما بطل التقدير الأول؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إلهان اثنان يتفقان، فدل هذا على أن الخالق واحد وهو الله جل وعلا، وهذا هو التقدير الثالث. ومثاله: مثل الشمس نراها تخرج من جهة الشرق بنظام متسق، وتذهب إلى جهة الغرب دائماً، ولا تتجاوز مسيرها، كل يوم لها مسير محدد معين، وهكذا طوال ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، كل يوم لها مطلع ومغرب، ولها مسير، ولا تتغير عن ذلك، فهذا تقدير ملك صابر قاهر ليس معه معاون ولا مناوئ، وهكذا في غير ذلك من الأمور. فالتمانع معناه: أن هذا الاتساق والنظام يمنع أن يكون له مشارك، فسمي التمانع، ولكن الآية في الواقع تمانع في الإلوهية، وهذا الذي ذكروه تمانع في الخلق والإيجاد والملك والتصرف، والآية المقصود بها: التمانع في الحق والتأله والتعلق، فهو جل وعلا يخبر عباده أنه لو كان معه في السموات أو في الأرض إله يعبد ما استقامت السماوات والأرض ولفسدت؛ لأنه يستحيل أن يعطى العبد المملوك المقهور حق الرب القاهر المتصرف، وقد يأنف الإنسان من أن يشاركه عبده المملوك في ماله، وفيما يتصرف به وهو مثله، فكيف يكون مشاركاً لله جل وعلا عبيد مقهورون ناقصون لا يملكون شيئاً؟! لا تستقيم الأحوال على هذا، فلهذا كرر ذلك في آيات متعددة، فيمتنع أن يكون مع الله جل وعلا معبود آخر. وفي قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73] ، سبق أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب مطلق وغيب مقيد. أما المطلق: فهو الذي لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا، كعلم الساعة مثلاً، وكون الإنسان لا يدري في أيِّ وقت يموت؟ وفي أيِّ ساعة يموت؟ وفي أيِّ أرض يموت؟ ومتى ينزل الغيث؟ وما في الأرحام هل هو مؤمن أو كافر؟ أو كامل الخلقة أو ناقصها؟ أو عمره مستكمل أو ناقص؟ أو غير ذلك مما تفرد الله جل وعلا بعلمه. وأما الغيب المقيد: فهو ما أطلع الله جل وعلا عليه بعض خلقه دون بعض، فالذي أطلع عليه يكون بالنسبة إليه شهادة، والذي غاب عنه يكون غيباً، والغيب لا يخرج عن هذين القسمين، وأكثره ما اختص الله جل وعلا به. أما ما يطلع الله جل وعلا به بعض عباده؛ فهذا ليكون آية على صدقهم، وعلى أن الله أرسلهم، كما قال جل وعلا في حق النبي: {إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:27] ، يعني: أنه يوجد أمور يخبر بها تدل على صدقه، وأنها من عند الله جل وعلا، ولا دخل للمخلوق فيها؛ تكون آية للنبي، كما كان عيسى عليه السلام يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، يخبرهم بالشيء الذي في بيوتهم، والشيء الذي أكلوه، وهذا من تعليم الله جل وعلا له ليكون آية على صدقه.

قوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال)

قوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال) وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] . الأمثال: هي الأقيسة العقلية، والأقيسة لا تصح إلا بين المتماثلين أو المتقاربين على أقل تقدير، أما بين المخلوق والخالق فلا يصح ذلك؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولأنه لا سمي له ولا ند له ولا مثيل له، ولهذا قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، فالأمثال: هي القياس، ولا يجوز أن تضرب لله جل وعلا الأقيسة لا قياس الشمول ولا قياس التمثيل. فقياس الشمول: هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويكثر في كلام المناطقة وأهل الكلام. أما التمثيل: فهو قياس معروف في أصول الفقه: إلحاق فرع بأصل في الحكم، لعلة تجمع بينهما، وهذا لا يجوز أن يستعمل في حق الله جل وعلا، وكذا قياس الشمول الذي تستعمل فيه أداة الشمول والعموم كما يستعمله المتكلمون، فهذا باطل بنص قول الله جل وعلا: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] ، وضرب الأمثال يكون للجاهل الذي لا يعرف ربه جل وعلا، فيضرب له المثل تعالى الله وتقدس؛ لأن المثل يجعله متعارفاً عليه بين المخلوقين، وهذا لا يجوز بحال، والسبب في هذا: أن الله جل وعلا لا مثل له في ذاته، فذاته جل وتقدس لا تشبه شيئاً من ذوات الخلق، وهذا أمر متفق عليه بين جميع الفرق من أهل الإسلام، لا يخالفون في هذا حتى الجهمية يقرون بهذا ويؤمنون به، وهذا أمر متفق عليه، فمن المعلوم أن الصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذوها، فمن كان في ذاته لا مثل له يجب أن يكون في صفاته لا مثل له، فكما أنه في ذاته لا مثيل له فهو كذلك في صفاته لا مثيل له. ومن هنا نهي عن ضرب الأمثال، ولكن استثني في مثل قياس الأولى: وقد اختلف في المراد به، ما المراد بمثل قياس الأولى؟ فمثل الأولى -الذي اشتهر عن السلف- أن الكمال الذي يتصف به المخلوق، ولا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، وأمكن أن يتصف به الخالق فاتصاف الخالق جل وعلا به أولى؛ لأنه تعالى هو الواهب للكمال، ولا يمكن أن يكون واهب الكمال معدوماً. ومن الأمثلة على هذا: أن الله جل وعلا قد عاب على المشركين كونهم يعبدون من لا ينطق ولا يسمع، يعني: لا يرد الجواب، ولا يسمع الخطاب، ولا ينفع ولا يضر، فدل هذا على أن الكلام كمال، والسمع كمال، والنفع كمال، والضر بمن يستحقه كمال، فيكون الرب جل وعلا موصوفاً بذلك، فهذا يدلنا على أن مثل الأولى لا يثبت به الشيء لاستقلاله، وإنما يقال عند المجادلة وعند إقرار الحق لمن ينكره ويخاصم به، فإن هذا يلزمه، فالكلام -مثلاً- الذي ينفيه عن الرب جل وعلا ويزعم -كما سيأتي- أنه نقص أو أن فيه تشبيه، يقال -باتفاق العقلاء: إن المتكلم أكمل ممن لا يستطيع الكلام، والكمال في المخلوق ليس الكمال الذي يكسبه المخلوق بنفسه، وليس الذي يكسبه إياه مخلوق آخر مثله، فلابد أن يكون الذي أكسبه هذا الكمال هو الخالق جل وعلا، فكيف يعطي الخالق العبد هذا الكمال وهو عار منه؟! هذا لا يجوز أن يكون ولا يصح حتى في العاقل فكيف بالخالق؟! ثم هذا في الأصل، ولا يلزم المماثلة في أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق، ولكنه يماثله في الأصل الذي هو أصل الكلام، وكونه يتكلم كلاماً يصدر منه ويسمع، وإلا فكلام الله لا يشبه كلام المخلوقين، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في الصحيح معلقاً، ورواه في خلق أفعال العباد مسنداً من حديث أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، وصوت المخلوق لا يكون كذلك، وإنما يسمع من البعد بواسطة المكبرات والآلات، أما الرب جل وعلا فهو بخلاف ذلك، ولهذا ترجم البخاري على هذا وقال: باب: أن الله يتكلم وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوق. فدل بهذه الترجمة على أنه غير مشبه له، وهذا هو قول الأئمة وهو الحق.

قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن)

قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] . أولاً: مقصود المؤلف بهذا الآية: أن القول في الصفات بلا علم من أعظم المحرمات، وأن الله حرم هذا، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في صفة من صفات الله أو في اسم من أسمائه وليس عنده في ذلك برهان، فإن ارتكب ذلك فقد وقع فيما هو أعظم من الشرك، هذا مراده من إيراد الآية. والآية فيها أمور كثيرة: فقوله: ((قُلْ)) هذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول، وقد استدل العلماء بهذا على أن القرآن كلام الله، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له في هذا دخل إلا البلاغ، فقيل له: ((قُلْ)) فقال كما قيل له، فأدى الذي جاءه به جبريل، لم ينقص منه حرفاً واحداً؛ لأن هذا أمر موجه إليه، قال الله جل وعلا له: ((قُلْ)) فقال كما قال الله له، لم ينقص حرفاً واحداً، مع أن هذا في الظاهر خاص به، ولو قال مثلاً: (إنما حرم ربي الفواحش) وترك كلمة ((قُلْ)) يكون قد أدى ما أمر به، ولكنه لم يترك حرفاً من قول الله جل وعلا، فقال كما قيل له، ولهذا لما سئل عن ذلك، قال: (قيل لي: ((قُلْ)) فقلت كما قيل لي) ، وهذا دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى كل ما سمعه من جبريل تاماً بلا نقص، ولهذا اتفق العلماء على أن ما بين دفتي المصحف كله كلام الله، لا يجوز أن ينقص منه حرف ولا يزاد عليه حرف، فمن فعل ذلك لا يكون مسلماً. وقوله: ((إِنَّمَا)) : هذه أداة حصر كما هو معروف، يعني أنها تحصر المحرمات فيما ذكر، وتخرج التحريم عما عدى ذلك، ولا يكون هذا دليلاً على أن المحرمات محصورة فيما ذكر؛ لأنه إذا جاء دليل آخر فيه زيادة على ذلك فلا يكون ذلك نص على القول الصحيح، بل يكون زيادة أمر وتشريع آخر، كما هو معروف. ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي)) : والتحريم في اللغة: هو المنع والحظر ويكون من الله جل وعلا على نوعين: الأول: تحريم قدري كقوله جل وعلا: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] ، حرام أي: قدراً وكوناً. الثاني: تحريم شرعي، كما في هذه الآية، فالتحريم الشرعي هو الذي حرمه على عباده، يعني: هو الأمر الذي يأمر به، فما أمر الله جل وعلا به ونهى عنه عباده فهو محرم. أما في الاصطلاح فالمحرم: هو ما أثيب تاركه وعوقب فاعله، وهذا في اصطلاح الفقهاء، أما مجرد الترك بدون أن يكون تركه لله فلا يثاب عليه؛ لأنه قد يكون عاجزاً عن فعله، وقد يكون غير متمكن، وقد يكون لا يريده، فلا يكون بذلك مثاباً على الترك حتى يتركه لله جل وعلا، امتثالاً لنهي الله جل وعلا. ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ)) الفواحش: هو كل ذنب كبر في نفسه، وفحش في نظر وفطر الناس الذين لم تتغير فطرهم، وإلا فالإنسان قد يكون أسوأ من البهيمة وأخبث منها، فتصبح الفاحشة عنده ليست فاحشة، بل هي مستساغة، وكما يقع لأهل الانحلال من الأمور القبيحة حتى الانحلال من الأخلاق، فيصبح الإنسان بهيمة، كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4-5] ، فرده أسفل سافلين نهايته جهنم، ولكنه في الدنيا يكون أسفل من الحيوان وأحط منه، ويكون الحيوان أرفع منه وأحسن، وهذا من الرد إلى الأسفل، فالفواحش: هي ما فحش في نفسه بأن كبر وعظم، وكذلك فحش في فطر ذوي الفطر السليمة وأذواقهم، وكذلك في شرع الله جل وعلا وأمره، فعلى هذا يشمل جميع المحرمات المعظمة، وبعضهم يطلقه على ما فيه شهوة وليس لازماً. وقوله: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) ، فسر أن ما ظهر: ما أعلن ورئي وصار مكشوفاً يراه الناس، وما بطن: ما أسره الإنسان وفعله في الخفية فكله محرم، ويقول المفسرون: السبب في هذا أن المشركين كان عندهم في فطرهم وأذواقهم أن الزنا يكون فاحشة إذا كان ظاهراً، أما إذا كان في السر فليس فاحشة، ولا يلام الإنسان عندهم عليه! فلهذا قال: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) ، هذا على قول. وقيل: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا)) : ما فعل بالجوارح بالأيدي والأبصار والأسماع، يعني: نظر إليه بالبصر أو استمع إليه بالأذن كالغناء والمزامير وما أشبه ذلك، وكذلك ما يتناول باليد أو مشي إليه بالرجل، يعني: ما فعل بالجوارح، هذا في قوله ما ظهر، وقوله: ((وَمَا بَطَنَ)) أي: ما انطوى عليه القلب من النيات والمقاصد، فإن النيات قد تكون الذنوب فيها أعظم من الذنوب في الجوارح. والصواب: أنه يشمل هذا وهذا، وكله داخل في معنى الآية، ما ظهر وما بطن: يشمل السر والعلن، ويشمل ما فعل بالجوارح والنيات والمقاصد، وانطوت عليه القلوب. قوله: ((وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) : الإثم والبغي: مقترنات وأحدهما يدخل فيه الآخر، فإذا جاءا مقترنين تداخل المعنى وصار قريباً بعضه من بعض، ولهذا قال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . أما من ناحية المعنى كإفراده فالإثم: كل ما يحصل به ذنب يترتب عليه عقاب، فكل ما حصل عليه عقاب فهو الإثم، أما البغي: فهو ما حصل فيه تجاوز وتعدي، فيكون أخص من الإثم، ولهذا لما ذكر جل وعلا حل الميتة للمضطر قيده بذلك؛ لأنه غير متعدٍ أي: لا يتعدى الشيء الذي يسد رمقه ويقوم بحياته، فإن تعدى ذلك فقد ارتكب المحرم. وكذلك البغي يكون في حق الله، ويكون في حق الإنسان، ففي حق الإنسان يلزم منه الظلم؛ لأنه قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون أيضاً بالفعل الذي لا يكون لا باليد ولا باللسان، وكله ظلم وتعدٍ؛ لأنه تعدى الشرع، فكل ما كان فعلاً وتعدي به المشروع فهو من التعدي ومن البغي، وقد فسر بعض العلماء الإثم بذنب خاص وهو شرب الخمر، فهي تسمى إثماً، كما جاء في بيت الشعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تضل به بالعقول الإثم: يعني: الخمر، والصواب أنها ليست هي المقصورة بالإثم، ولكنها داخلة فيه، فهي أم الخبائث، وهي داخلة في الإثم؛ لأنها تدعو إلى الإثم وتجر إليه كما هو واضح. وقوله: ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) : قيد للتعدي، أما إذا حصل التعدي الذي فيه تجاوز الحق الذي يكون للمخلوق على الآخر، فإن هذا قد يكون بحق؛ لأنه ظلم، واستحق أن يتجاوز، وهذا من باب المقابلة فقط، وفي الشرع لا يعد بغياً، لهذا قيده بقوله: ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) . السلطان: المقصود به: الحجة والبرهان والدليل، والحجة والبرهان والدليل ألفاظ مترادفة، بعضها يقوم مقام الآخر. والسلطان يستعمل في استعمالات ثلاثة: الأول: أنه يأتي بمعنى الحجة كما في هذه الآية. الثاني: أنه يأتي بمعنى السيطرة، كقوله جل وعلا في إبليس أنه ما كان له على المؤمنين من سلطان: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:100] ، فليس له على المؤمنين سلطان، يعني: ليس له سيطرة عليهم، وليس له قوة ولا قهر، وإنما سلطانه وقهره على الذين يتولونه بأن يطيعوه ويتركوا أمر الله جل وعلا. الاستعمال الثالث: بمعنى: الملك، لهذا خص الله جل وعلا نفسه بذلك، فهو ذو السلطان القديم جل وعلا، فله الملك التام والسلطان الكامل. وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:33] : يقول العلماء في هذه الآية: إنها تخرج مخرج الغالب، وإلا لا يوجد شرك أنزل الله جل وعلا به سلطاناً أصلاً، فكل الشرك لم ينزل الله جل وعلا به سلطاناً، فهذا القيد غير مراد، فكل شرك محرم، ولم ينزل به الله جل وعلا سلطاناً. والشرك أنواع، وقد علم أنه قسمان: أكبر وأصغر، أما تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، فالثالث لا يخلو أن يكون داخلاً في الأكبر أو الأصغر الذي هو الخفي. والخفي: إما أن يكون أصغر، وإما أن يكون أكبر، فلا يكون التقسيم خارجاً عن القسمين. والأكبر: هو أن يجعل شيئاً مما هو من خصائص الله ومن حقه للمخلوق، فكل حق أوجبه الله جل وعلا على عباده إذا صرف منه شيء للمخلوق فقد وقع ذلك الصارف في الشرك الأكبر. أما الأصغر فحده بالنصوص، فما جاء في النص: أنه سمي شركاً أصغر فهو الشرك الأصغر، وإلا لا ضابط له، أما كونه يضبط: بأنه كل وسيلة توصل إلى الشرك الأكبر فليس بصحيح، ولهذا يحده كثير من العلماء بالأمثلة، فيقولون: كيسير الرياء، وكقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ولولا الله وفلان، والحلف بغير الله، وهذا ليس مطلقاً؛ لأن هذه الأشياء قد تكون شركاً أكبر حسب ما يقوم في نفس الإنسان. ويفارق الشرك الأصغر الشرك الأكبر بأمور: الأول: أنه لا يخرج من الدين الإسلامي بالاتفاق. الثاني: أن الشرك الأصغر على القول الصحيح داخل تحت المشيئة، يعني: كسائر الذنوب يغفره إذا شاء، هذا على القول الصحيح. الثالث: أن المشرك شركاً أصغر إذا مات لا يكون حكمه حكم المشرك شركاً أكبر بأن يكون خالداً في النار، بل قد يعذب وقد لا يعذب، ثم يكون مآله الجنة، وهناك فروق أخرى معروفة ظاهرة. والشرك الأكبر أقسام كما هو معلوم؛ لأنه قد يتعلق بذات الله، وقد يتعلق بصفات الله، وقد يتعلق بحقوقه، ولكن المشهور المعروف ما يتعلق بحقوقه، وقد جاء في القرآن تقسيمه إلى أربعة أقسام: الأول: شرك الدعوة، الثاني: شرك الطاعة، الثالث: شرك الدعاء، الرابع: شرك المحبة، وكلها مذكورة في آيات معروفة مشهورة، في كتاب الله جل وعلا والتفصيل ليس هذا محله. وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، يعني: وحرم عليكم أن تقولوا عليه ما لا تعلمون، وهذا هو الشاهد من الآية وهو المراد من إيرادها. فالكلام في صفات الله أو في أسمائه بلا دليل شرعي ج

شرح العقيدة الواسطية [3]

شرح العقيدة الواسطية [3] دلت الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة على إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وهاتان صفتان لله تعالى ثابتتان تليقان به سبحانه. والعرش والكرسي مخلوقان عظيمان خلقهما الله بقدرته، لا يحملانه ولا يقلانه، بل هما وما خلق الله محمولون بقدرته، وخاضعون لجبروته.

الآيات الدالة على استواء الله على عرشه سبحانه وتعالى

الآيات الدالة على استواء الله على عرشه سبحانه وتعالى يقول المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في سبعة مواضع: في سورة الأعراف قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] . وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] . وفي سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] . وفي سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] . وفي سورة الم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]] . وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]] . قوله رحمه الله: (وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، في سبعة مواضع) لم يأت هكذا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ولكن الاستواء جاء في سبعة مواضع مرتباً على خلق السماوات والأرض، الأول: ما في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] .

قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام)

قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) فقوله: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) : الخلق: هو الإيجاد والإظهار والإبراز على أمر لم يسبق له مثيل، وهذا هو الخلق الحقيقي: وهو إيجاد الشيء من العدم، والله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والظاهر أنها أيام كأيامنا هذه، هذا هو الظاهر، أما الأقوال التي تروى عن بعض المفسرين: أن كل يوم كألف سنة ونحو ذلك فليس لهم فيه دليل، ولكن قد يرد سؤال وهو: إذا كان الله خلق السماوات والأرض قبل وجود الشمس ودورانها، فكيف عرفت هذه الأيام؟ لأن الأيام ما عرفت حتى وجدت الشمس، فصارت تسير مع الأرض في فلكها، وهو شيء مقدر لا يختلف، بل محدد تحديداً دقيقاً في جميع السنة، فكل يوم وليلة أربع وعشرون ساعة لا يزيد ولا ينقص. وإن كان كما قال الله جل وعلا: ((يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ)) ، أي: يزيد أحدهما على الآخر فينقص الآخر، ولكن لا يعدو الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة، هذا في وسط الأرض. أما في أطراف الأرض، فهذا لا عبرة فيه؛ لأن أطراف الأرض قد تطلع الشمس عليها وقتاً طويلاً، وقد لا يكون عندهم ليل في القطب؛ لأن الشمس لا تغيب عن الأرض إذ أن الأرض، لا أثر لها في ذلك، فلا يعتبر بمثل هذا، وإنما يعتبر الوسط الذي نحن فيه، وهو الذي خاطبنا الله جل وعلا به. فالظاهر: أنها أيام كأيامنا هذه؛ لأن هذا هو الظاهر من قوله (في ستة أيام) ، وقد علم أن أول هذه الأيام الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وهو الذي اجتمع فيه الخلق، وفي آخر ساعة منه خلق آدم، وفيه أيضاً تقوم الساعة كما صحت الأحاديث في ذلك. أما ما جاء في صحيح مسلم: (أن الله جل وعلا خلق يوم الأحد كذا وخلق يوم الإثنين كذا ويوم الثلاثاء كذا إلى أن قال: وخلق التربة يوم السبت) ، فهذا غير صحيح، وهو من الأحاديث التي يعلم أنها غير صحيحة، ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي خطأ من بعض الرواة، والخطأ في صحيح مسلم وصحيح البخاري هو في كلمات يسيرة فقط، مثل هذا الحديث، وكل كتاب غير كتاب الله ما يخلو من الخطأ، ولكن إذا كان الخطأ معدودا ًومعروفاً فيكفي ذلك في صحته، ونبل صاحبه كما هو معلوم. وقوله: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ)) : الرب: هو المالك المتصرف، ولا يجوز إطلاق الرب -بالألف واللام- إلا على الله. أما لفظ (رب) غير مضاف فلا يجوز إطلاقه أيضاً إلا على الله، أما إذا أضيف فيجوز أن يطلق على المخلوق، تقول: رب الكتاب، رب الدار، رب الدابة، يعني: صاحبها، والرب هنا بمعنى: المالك المتصرف، فهو الذي يملك هذا الكتاب ويتصرف فيه، وهو الذي يملك هذه الدار ويتصرف فيها بالبيع والشراء والسكنى والإيجار وغير ذلك، ولكن لا يجوز إضافة الرب للعاقل ويقصد به المخلوق، تقول: رب الغلام، رب الجارية، رب المرأة، رب الرجل وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز أن يقصد به مخلوق؛ لأن الرب قد يطلق لمعنى المعبود وهو دليل على العبادة، بل تلزم منه، فالعبادة والربوبية متلازمتان، ولهذا منع ذلك، فلا يجوز في هذا الأمر. فإذاً: يكون إطلاقه على غير الله جل وعلا فيما إذا أضيف إلى غير العاقل، أما إذا أضيف للعاقل فلا يجوز إطلاقه إلا على الله، وإذا اقترنت به (أل) لا يجوز إطلاقه إلا على الله تعالى الله وتقدس، وهذا كله صيانة وحماية للتوحيد، ولأسماء الله جل وعلا وصفاته أن يشترك في معانيها وحقوق الله مخلوق. ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ)) ، ومن المعلوم في اللغة: الفرق بين الرب وبين الله، كما في مثل هذه الآية، فإنه قال: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ)) ، فدل على الفرق، ولهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، ذو الألوهية: يعني: صاحب الألوهية الذي يتأله ويعبد، وأما الرب: فهو المالك المتصرف الخالق الرازق المدبر، وبهذا يستدل على الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، وهذا فرق واضح. {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، (ثم) : هذه للترتيب مع التراخي، ولا تحتمل إلا هذا، ولهذا جاءت مطردة في جميع مواردها التي ذكرها في السبعة مواضع، بلفظ: (ثم) المرتب على الخلق.

العرش أول المخلوقات

العرش أول المخلوقات فمعنى ذلك: أن هذا استواء خاص فعله الله جل وعلا بعد الخلق، ولا يلزم من ذلك: أنه لم يكن مستوياً على عرشه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض. ومن المعلوم: أن العرش هو أول المخلوقات، وهذا هو الصواب، بل هذا هو الذي دلت عليه النصوص. وأما القلم الذي ورد في حديث عبادة وغيره: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فالمقصود بهذا: الإخبار بالكتابة أنها وقعت بعد الخلق مباشرة بدون فاصل، يعني: أن الله جل وعلا لما خلق القلم قال: له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن، ولهذا جاء في القرآن: أنه جل وعلا ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فعلى هذا يكون العرش أول المخلوقات المعلومة لنا، والعرش معه الماء؛ لأنه على الماء، أما أن نقول: إن الله مستوٍ على عرشه، قبل خلق السماوات والأرض فهذا لم يأت فيه نص، ولكن هذا هو الظاهر. فيكون استواؤه -الذي ذكر لنا لنعتقده ونؤمن به- بعد خلق السماوات والأرض، ولهذا رتبه عليه بلفظ: (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، والملك والأمر لله جل وعلا. وهذه المخلوقات التي ذكرها الله جل وعلا من السماوات والأرض والعرش والماء هي التي نعلمها من المخلوقات، أما ما قبلها فشيء لا علم لنا به ولا يعلمه إلا الله؛ لأنه معلوم قطعاً أن العرش وجد بعد أن لم يكن موجوداً والماء كذلك وجد بعد أن لم يكن موجوداً؛ لأنه مخلوق، وكل مخلوق معين سبق بالعدم ولابد. أما الأولية التي لا نهاية لها ولا مبدأ لها فهي لله وحده جل وعلا، ولكن لا يجوز أن يعتقد أن الله كان ولا فعل له ولا صفة له، ثم بعد ذلك صار متصفاً بالصفات؛ لأن هذا نقص، والله يتعالى عن ذلك، وقد قال جل وعلا: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، ولا يجوز أن يكون هذا في وقت دون وقت، بل هو يفعل ما يريد، وهذا هو المعنى الذي ذكره العلماء في مسألة التسلسل. وقد اختلف العلماء في مسألة التسلسل، وخلاصتها: أن التسلسل في الحوادث في الماضي والمستقبل في أفعال الله التي تتعلق بمشيئته وصفاته واقع فضلاً عن أن يقال: إنه جائز، بل واجب. أما التسلسل في الفاعلين فهذا مستحيل وممتنع كما هو معلوم، وأما الحديث الذي في صحيح البخاري حديث عمران بن حصين وفي أول الحديث يقول عمران: (أتيت على راحلتي فعقلتها عند باب المسجد، فدخلت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بنو تميم فقال: أبشروا، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل أهل اليمن، فقال: يا أهل اليمن! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، فقالوا: قبلنا، جئناك نتفقه في هذا الدين، ونسألك عن مبدأ هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله) ، وفي رواية: (ولم يكن شيء غيره) ، وفي رواية: (معه) . هذه الروايات الثلاث ثابتة ثبتت: (قبله) و (غيره) و (معه) ، ولكن المقام واحد، يقول عليه الصلاة والسلام: (كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، يقول عمران: فجاءني آتٍ فقال: أدرك ناقتك فقد ذهبت، فخرجت فإذا السراب يتقطع دونها، وأيم الله! لوددت إني تركتها ولم أقم) ، هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمران بن الحصين فقط، ولم يأت في رواية أخرى عنه الاستواء: صفة فعل تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، فصفات الأفعال هي صفات كمال، فالصفات تنقسم إلى قسمين: صفة ذات وصفة فعل، وهذا التقسيم دل عليه كتاب الله جل وعلا، وهو أمر قطعي. والفرق بين صفة الذات وصفة الفعل: أن الصفات التي لا تفارق الذات، وتكون ملازمة للذات دائماً كالحياة والعلم والسمع والبصر وما أشبه ذلك تسمى صفة ذات؛ لأنها تكون ملازمة لذات الله جل وعلا أبداً، ولا يجوز أن يكون خالٍ منها في وقت من الأوقات، تعالى الله وتقدس. أما الصفات التي تتعلق بمشيئته؛ إذا شاء فعلها، وإذا شاء لم يفعلها، فهذه تسمى صفة فعل، وهي من صفات الكمال، ولا فرق بين النوعين من حيث الاتصاف والثبوت، فكلها ثابتة لله جل وعلا، وكلها يتصف الله جل وعلا بها، ولكن الله جل وعلا له غاية الكمال المطلق، كما قال الله جل وعلا: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، وهذا من صفات كماله جل وعلا وهو خاص به، لا يوجد من يفعل ما يريد إلا الله جل وعلا، فالخلق كلهم يريدون أشياء، ولكن ما يستطيعون فعلها؛ لأن الأمر كله بيد الله جلا وعلا. ثم إن الاستواء جاء خاصاً بالعرش فقط، فلا يقال: استوى على السماء استوى على الأرض استوى على كذا هذا لا يجوز؛ لأنه جاء خاصاً بالعرش. وذكر المؤلف أنه ورد في سبعة مواضع من كتاب الله؛ ليبين أن هذا لا يجوز تأويله، ولا يمكن تأويله، حيث أنه جاء في نصوص لا تحتمل التأويل، فمؤولها يكون محرفاً، والتأويل فيها يكون تحريفاً وليس تأويلاً.

أقسام التأويل

أقسام التأويل التأويل الذي يذكره العلماء أقسام ثلاثة: الأول: تأويل بمعنى: ما يئول إليه الشيء، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] ، فتأويل الشيء في هذا المعنى حقيقة الشيء المخبر عنه، إذا جاءت الحقيقة فهذا التأويل، وهذا كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى في قصة يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] ، ورؤياه أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين، فلما سجد إخوته الإحدى عشر وأبوه وأمه صار هذا تأويلها، يعني: هذا حقيقة الرؤيا، والسجود هنا معناه: الانحناء، وقد كان في شرعهم جائزاً، أما في شرعنا فهذا محرم، بل من أعظم المحرمات وأكبرها، فالسجود خاص لله جل وعلا؛ لأن شرعنا جاء بالحنيفية الكاملة، بحيث تكون العبادة كلها لله جلا وعلا، ولا يكون منها شيء لغيره، بخلاف الشرع الذي هو أمر ونهي من ناحية التعبد بالأفعال، فإن للإسلام في هذا سعة، وفيه تساهل أكثر من الشرائع السابقة. الثاني من معاني التأويل: التفسير، فالتفسير يسمى تأويل كما يقول الإمام ابن جرير وغيره: القول في تأويل قوله تعالى أي: في تفسير قوله تعالى، ومنه قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] يعني: تفسيراً، وهذان المعنيان في التأويل متفق عليهما، وهما المعروفان عند السلف. أما المعنى الثالث: فهو المعنى المبتدع الذي حدث بعد السلف، وهو صرف اللفظ عن معناه المتبادر منه إلى معنى آخر بدليل يقترن به، فهذا هو المشهور عند المتأخرين، وهو الذي يقصدونه إذا قالوا: تأويل، فإن كان الدليل شرعياً فإنه صحيح، وإن كان غير شرعي فإنه غير صحيح، وهذا هو الغالب، فإنهم يقولون: الدليل يكون عقلياً أو يكون وضعياً، يعني: حسب ما يتواطأ عليه الناس ويعرفونه، فهذا يكون تحريفاً؛ ولهذا قالوا: الاستواء هو الاستيلاء، وهذا تأويله بالدليل العقلي، وإذا قيل لهم: ما هو الدليل العقلي؟ يقولون: الدليل العقلي: أن العرش مخلوق فهو مكانه، والاستواء فعل يقتضي الحركة، ويقتضي وجود الجهة، وهذا لا يكون إلا للمخلوق، هكذا يقولون، وهذا هو الدليل عندهم، وهو دليل فاسد باطل؛ لأنه خلاف ما أخبر الله جل وعلا به، والسبب الذي بعثهم على هذا القول هو: أنهم ما عرفوا من معنى الاستواء إلا ما عرفوه من أنفسهم، مثل الذي يستوي على السيارة أو على الباخرة أو على الطائرة، فيكون محتاجاً إلى هذا الذي استوى عليه، ولو سقط هذا الشيء لسقط هو، ويكون محصوراً في مكان معين، ويكون محتاجاً إليه، وهذه كلها تتعلق بالمخلوق فقط، أما الخالق جل وعلا فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، والعرش محتاج إليه، وليس الله جل وعلا محتاجاً إلى العرش، أما كونه خلق العرش واستوى عليه، فهذا لمعنىً وحكمة أرادها الله جل وعلا بلا حاجة، وربما يكون منها ابتلاء عباده، لينظر من يؤمن بذلك، وينقاد له، ويعرف مراده، ويسلم له، ومن يأبى هذا، وينكره، فيستحق الأول الثواب، والثاني العقاب.

معنى العرش والكرسي

معنى العرش والكرسي العرش في لغة العرب التي جاء بها القرآن هو: سرير الملك الذي يجلس عليه، كما قال الله جل وعلا عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، يعني: سريرها الذي كانت تجلس عليه، وقد تأول أهل البدع العرش بأنه الملك، وهذا تأويل باطل، ويكفي في بطلانه قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، فهل يسوغ أو يجوز أن يقال: ويحمل ملك ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية؟ هذا باطل قطعاً، ثم إن الأخبار التي جاءت في صفة العرش كثيرة، وأنه يضاف إلى الله جل وعلا، كما قال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ، {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] وهذه الأوصاف تدل على الحسن والسعة والعظمة والعلو. وجاءت الأدلة بأن له قوائم، وأنه يحمل، وأنه يطاف حوله ملائكة الله الذين خلقهم واستعبدهم للطواف حوله: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] ، وكذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بأخبار لا يجوز أن تؤول؛ لأنها نصوص قاطعة بذلك، فكل هذا يبطل هذا القول الفاسد، فالعرش خلق خلقه الله جل وعلا، وهو جل وعلا يخاطبنا بما نعرف. أما الكرسي فالقول الصحيح عند السلف أنه غير العرش، وهو تحت العرش، ولهذا جاء عن الصحابة وغيرهم من السلف: أن الكرسي كالمرقاة التي تكون تحت العرش الذي يجلس عليه، وقد قال الله جل وعلا: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وجاء في الأثر: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في أرض من الفلاة) ، فأكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأرفعها هو عرش الرحمن، وليس العرش -كما يقول أهل الهيئة- مستديراً كروياً، بل الأحاديث تدل على أن له قوائم وأنه غير كروي، والعرش ليس فوقه مخلوق، وإنما فوقه رب العالمين جل وعلا. هذا الذي يعتقده أهل السنة على حسب النصوص التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد فسروا الاستواء بتفسير واضح جلي فقالوا: إن تفسيره هو قراءته لظهوره ووضوحه؛ ولهذا لما قيل للإمام مالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ أطرق الإمام مالك، وصار يتصبب عرقاً لقبح السؤال؛ ولأن فيه رائحة إنكار صفة من صفات الله جل وعلا، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأخرج من حلقته. هكذا كانوا يصنعون بأهل البدع، يبعدونهم عنهم. فقوله: الاستواء معلوم، يعني: معلوم المعنى، وليس كما يقول أهل البدع المتأخرون: معلوم الورود، فالورود في الكتاب والسنة معلوم أنه وارد، وهذا لا أحد يسأل عنه، والسائل ما يشك في هذا، فهذا تحصيل حاصل بلا فائدة، وإنما مقصوده معلوم المعنى.

معنى الاستواء

معنى الاستواء ذكر السلف لمعنى الاستواء ألفاظاً أربعة كلها مترادفة، فقالوا هو: الارتفاع والعلو والصعود والاستقرار، فهذه الألفاظ الأربعة جاءت مروية بأسانيد عن الصحابة وغيرهم، وكلها بمعنىً واحد، وهو الاستواء. ثم إذا نظرنا إلى الاستواء الذي ورد في كتاب الله وفي أحاديث رسوله، نجدها لا تعدو أربعة أمور: الأول: ما كان متعدياً بإلى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] ، وهذا باتفاق أهل اللغة وأهل التفسير معناه: العلو والارتفاع. الثاني: ما جاء متعدياً بعلى كما في هذه الآيات التي ذكرها المؤلف كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وهذا كذلك معناه العلو والارتفاع. الثالث: ما جاء مقترناً بواو المعية، نحو: استوى الماء والخشبة، وهذا معناه المساواة. الرابع: إذا لم يأت متعدياً بشيء، وإنما تعدى بنفسه كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] ، وهذا باتفاق المفسرين معناه: كمل وتم، وليس هناك معنىً للاستواء. أما الاستيلاء الذي قالوا: إنه هو المقصود، فهو دخيل على اللغة العربية، ولا يوجد من كلام العرب ما يدل عليه، والبيت الذي يذكرونه ويجعلونه دليلاً وينسبونه إلى الأخطل مصنوع، وإذا قدر أنه صحيح للأخطل فـ الأخطل نصراني، قد ضلت النصارى في دينهم وفي ربهم، وقالوا: إن اللاهوت دخل في الناسوت، ثم كيف يسوغ للمسلم أن يترك النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ويأخذ ببيت شاعر نصراني ضال، وهو أيضاً ليس من أهل اللغة؟! ولو جاء الإنسان بآية من كتاب الله لهؤلاء أو بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوقفوا في الاستدلال به، وطعنوا فيه إما معنىً وإما لفظاً، ومع هذا يقبلون هذا القول! وذلك للهوى، فمن كان عنده هوى فإنه يقبل ما يوافقه وإن كان باطلاً. ثم إن الاستواء من أدلة علو الله جل وعلا، وقد ذكر العلو بعد هذا.

شرح العقيدة الواسطية [4]

شرح العقيدة الواسطية [4] من عقيدة أهل السنة إثبات علو الله على خلقه، وهذه صفة ذاتية لله عز وجل، وَإثبات استوائه سبحانه على العرش، وهي صفة فعلية، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية على إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه.

إثبات علو الله تعالى

إثبات علو الله تعالى يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16-17]] .

قوله تعالى: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)

قوله تعالى: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) قوله رحمه الله: [وقول الله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]] هذا خطاب من الله جل وعلا، وإذا جاءت ياء النداء فلا يحتمل إلا الكلام المسموع الذي يلفظ به ويسمع، ولابد أن يكون بحروف وأصوات، لا يحتمل الأمر غير هذا، فلهذا صار هذا من أعظم النصوص وأوضحها في إثبات كلام الله جل وعلا، ومن أعظم ما يرد على أهل الباطل الذين أنكروا كلام الله. ((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) الوفاة هنا جاء تفسيرها بتفسيرين عن السلف، أحدهما: متوفيك أي: قابضك، وليس القبض هنا المقصود به الموت، بل من باب قبض الشيء إذا قبضه كاملاً وذهب به. الثاني: متوفيك أي: منيمك ثم رفعه نائماً، وهو صلى الله عليه وسلم حي لم يمت، وقد جاءت الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سينزل ويحكم بهذا الشرع، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويبذل المال حتى لا يأخذه أحد، فتكون السجدة يومئذٍ خير من الدنيا وما فيها) ، يعني: عند الناس، وهذا من أشراط الساعة الكبرى، فإنه إذا نزل يكون قد خرج الدجال قبله؛ لأنه ينزل ليقتله، فهو الذي يقتل الدجال. والمسيح مسيحان: مسيح في الخير والهدى، ومسيح في الضلالة والردى، فمسيح الضلالة هو الدجال الأعور الكذاب، أعظم كاذب على وجه الأرض، وفتنته أعظم الفتن، وهو من اليهود، واليهود ينتظرونه، ومن علامات خروجه اجتماعهم في فلسطين، فهم ينتظرونه لأنه على مذهبهم وعلى نحلتهم، وهم أخبث خلق الله جل وعلا، بل هم أعداء الله، وقد جاء في صحيح مسلم: (أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفاً على رءوسهم الطيالس) ، وجاء في وصفه أنه أول ما يخرج يدعي أنه مصلح، وأنه سيقضي على الفساد في الأرض، فيفتتن به خلق كثير ويتبعونه، ثم إذا تمكن بعد ذلك يدعي أنه نبي، فيفارقه كثير من أتباعه عند ذلك، ثم يتمادى به الأمر ويدعي أنه رب العالمين، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة مسيره قال: (كالغيث إذا استدبرته الريح) ، يعني: مثل السحاب الذي استدبرته الريح الشديدة التي تهب بسرعة. وأخبر أن مكثه أربعون يوماً فقط، وأنه يطأ كل بلاد الأرض إلا مكة والمدينة، يكون عليهما ملائكة يذودونه عنهما، ومع ذلك يأتي إلى قرب المدينة ويضرب خيامه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، ويخرج إليه المنافقون والمنافقات ويتبعونه، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع به منكم فلينأ عنه) يعني: ليبتعد عنه (فإن الرجل يأتيه واثقاً بنفسه، فلا يزال حتى يتبعه ويؤمن به؛ لما معه من الفتن) . وهذه الأيام الأربعون: يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كهذه الأيام، ولهذا السبب جاء في صحيح مسلم: (ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: الدابة، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها) ، فجعل الدجال من العلامات التي إذا جاءت لا ينفع الإيمان، ولا تنفع التوبة، والسبب في هذا هو ما جاء في هذا الحديث أن أيامه يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، فهذا إيذان باختلاف الكون، وأنه يختل وسينتهي عن قرب، فهي آيات تضطر النفس حينئذٍ إلى الإيمان بالله جل وعلا المتصرف بها، فإذا جاءت الآيات التي تضطر الإنسان إلى الإيمان، يصبح الإيمان بالغيب لا مزية له، وصار إيمان بالمشاهد، والإيمان بالمشاهد لا يفيد.

معنى قوله: (ورافعك إلي)

معنى قوله: (ورافعك إليّ) الرفع باتفاق أهل اللغة الذهاب إلى العلو، كما في قوله تعالى: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)) ، والضمير لله جل وعلا، فهذا نص لا يحتمل التأويل، يدل على أن الله فوق. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] هذا أيضاً في عيسى، وهو رد لما تقوله اليهود والنصارى، فاليهود يزعمون أنهم قتلوه، وقد كذبهم الله جل وعلا في ذلك، فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] ، وذلك أنه شبه لهم، فعندما أرادوا قتله، كان في بيت، وأحاطوا به، فمكر الله جل وعلا بهم وهو خير الماكرين، فألقى شبهه على رجل منهم فأخذوه وقتلوه، وقد رفع إلى السماء، فهو حي في السماء، وبعض العلماء يقول: إنه توفي نوع وفاة، ولكن هذه الوفاة قريبة من النوم، ولم يتوف الوفاة التي يكون فيها خروج الروح، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو حي وسينزل، فحياته متصلة من ذلك الوقت إلى الآن، وإلى أن يموت بعد أن ينزل. وأما النصارى فهم يقولون: إنه ابن الله أو إنه هو الله، وهذا معنى قولهم: إن اللاهوت دخل في الناسوت، يعنون أن الإله دخل في الإنسان، تعالى الله وتقدس، وهذا من الحلول الباطل.

قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب)

قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، ((إِلَيْهِ)) : الضمير هنا يعود إلى الله جل وعلا، والصعود نص في الذهاب إلى العلو، لا يحتمل غيره، أما أصعد ويصعد فمعناه: الإمعان في الهرب والإبعاد فيه، ومنه (تصعدون) يعني: تهربون عنه، وتبتعدون عنه، أما صعد فلا يحتمل إلا العلو، فهو نص في علو الله جل وعلا ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) ، والكلم الطيب: هو ما اصطفاه الله جل وعلا إما من كلامه وإما من التسبيح والتهليل، وذكر أوصافه، وما أشبه ذلك، فهذا هو الكلام الطيب، فهو يصعد إلى الله إذا قبله. وقوله: ((وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) : اختلف في ضمير قوله: (يرفعه) هل يعود إلى الكلم أو أنه يعود إلى الله، ويكون الكلام مستأنفاً؟ أي: والعمل الصالح يرفعه الله أيضاً، فيكون دليلاً آخر على علو الله جل وعلا، فمرة جاء بلفظ الصعود، ومرة بلفظ الرفع أو أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب؟ كلا المعنيين صحيح.

قوله تعالى عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحا)

قوله تعالى عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحاً) وقوله عن فرعون -جازاه الله بما يستحق- يخاطب وزيره: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} [غافر:36] وفرعون: اسم لكل من ملك مصر كافراً، كما أن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة كافراً، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، وقيصر اسم لمن ملك الروم من الكفار، وكل هذا لا يكون علماً على رجل واحد، بل كل من كان ملكاً منهم يكون له هذا الاسم؛ ولهذا اختلف في اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى؛ لكثرة الفراعنة. فقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] يدلنا صراحة على أن موسى عليه السلام أخبر فرعون بأن الله في السماء، والآية صريحة في ذلك، فلهذا أمر أن يبنى له بنيان؛ لتوهيم الناس وإضلالهم والتلبيس عليهم بأنه يستطيع أن يصعد في هذا البناء وينظر إلى ما أخبره به موسى عليه السلام؛ ولهذا قال: ((وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً)) يعني: في خبره الذي قال: إن الله في السماء. فالدليل في هذا من جهتين: الجهة الأولى: أن موسى أخبر بذلك. الثاني: أن هذا عام جاءت به الرسل، وهذا في الواقع تضافرت عليه أدلة الوحي، وأدلة العقل، وأدلة الفطرة، فكل هذه الأدلة شاهدة عليه. فمن أدلة العقل أن يقال: من المعلوم قطعاً أن الخالق غير المخلوق، ومن لم يعتقد هذا فهو كافر بالله جل وعلا، فإذا كان المخلوق له ذات معينة، والخالق له كذلك ذات معينة تتعالى وتتقدس أن تختلط بالمخلوق، فالمخلوق وجد بعد أن لم يكن. فيقال لهؤلاء الضلال: حينما خلق الله جل وعلا الخلق أين خلق الخلق؟ هل خلقهم في ذاته أي: داخل ذاته؟ تعالى الله وتقدس، فإن قالوا ذلك فقد كفروا؛ لأنهم لم يميزوا بين خالق ومخلوق، وإن قالوا: خلقهم منفصلين عنه بائنين عنه، فيقال: هل يجوز أن يكون المخلوق أعلى من الخالق؟ لا يجوز قطعاً. إذاً: لابد من القول: بأن الله عال على خلقه، وأن خلقه تحته، وأنه فوقهم قاهر لهم، هذا من ناحية العقل والنظر، ونحن لا نصير إلى العقل إذا كان العقل مخالفاً للوحي، وإنما نقول به إذا كان موافقاً له ومتفقاً معه، والوحي لا يأتي بمخالفة العقول السليمة الصحيحة، ولكن يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدركه؛ لأن العقول لها حدود لا تستطيع أن تصل إلى كثير من الأشياء التي تكون بقدرة الله جل وعلا.

معنى قوله: (لعلي أبلغ الأسباب)

معنى قوله: (لعلي أبلغ الأسباب) الأسباب المقصود بها هنا: الأشياء التي يتوصل بها إلى المطلوب، فهنا جعل السبب البناء العالي المرتفع، فليس عندهم صواريخ ورافعات، إنما عندهم البناء، والبناء ما يعدو الأرض، ولا يمكن أن يعدو طور قدرة الإنسان المحدودة فهو تمويه زائد، تمويه لا ينطلي إلا على السفهاء أشباه البهائم والأنعام، الذين هم أتباع كل ناعق، وإلا فكل من عنده عقل يدرك غطرسته وكذبه وتزويره، وكونه يبني بناء يصل به إلى السماء مستحيل، ولكن إذا كان الإنسان له رئاسة وله قهر وسلطة، فإنه يُصدَّق بالشيء الذي يكون مستحيلاً، فلهذا اتبعوه على ذلك وصدقوه بهذا التصديق الظاهري فقط، أما بالقلوب والعقول فلا يمكن أن يصدقوه. وكلمة أسباب تطلق على الحبال، كقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] المقصود بالسبب هنا الحبل؛ لأنه يقول: {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج:15] يعني: يضع حبلاً في السقف ثم يضعه في رقبته، ثم ليعجل بموته، يعني: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله، وكان هذا يغيظه، فليعجل بهلاك نفسه بأن يضع سبباً يعني: حبلاً في سقف بيته، ثم ليضعه في رقبته، ثم ليزهق بذلك نفسه، فإن نصر الرسول لابد أن يأتي، فالحبل يسمى سبباً. ومنه السبب الذي يخرج به الماء وهو الدلو. ومنه أيضاً الباب كما في هذه الآية: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} [غافر:36-37] المقصود بأسباب السماوات أبواب السماء، وهذا -كما قلنا- تمويه وكذب، وإلا فإنه لم يصل إلى أبواب السماء، ولم يعد قدره.

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء)

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] المقصود أأمنتم عذاب من في السماء، والعذاب نوعه مختلف، إما أن يكون خسفاً كما فعل بـ قارون وغيره، أو يكون رجماً كما في الآية الآتية أو يكون بغير ذلك، فإذا كان كذلك فكيف تخالفونه وتكفرون به؟ و (في) هنا بمعنى على، أو أن السماء يقصد بها مجرد العلو، وليست السماء المبنية، وكله معنى صحيح، إما أن تكون (في) بمعنى على، وهذا قد جاء في اللغة كثيراً كقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] ليس المعنى يدخلون في جوف الأرض، بل يسيرون عليها، وكقوله تعالى في قصة موسى: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ، ومعلوم أنه لن يدخلهم في الجذوع، وإنما يصلبهم على الجذوع، وكثيراً ما تأتي (في) بمعنى على، وهي في هذه الآية بمعنى على، وإن كانت على بابها، فيكون المراد بالسماء العلو، فيكون المعنى: أأمنتم من في العلو، وهو الله جل وعلا، وكلا الأمرين صحيح، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما كان رجل يمشي بحلتين متبختراً -يعني: متكبراً- إذ خسف الله جل وعلا به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) يعني: يتحرك ويهبط غير مستقر، فتبقى الأرض تمور به، يعني: تضطرب وتبتلعه، وكل شيء مطيع لله جل وعلا، إذا أمره امتثل لأمره. ثم قال جل وعلا: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:17] (أم) معناها: بل، يعني: أمنكم وجد، ما خفتم الله جل وعلا، ولا خشيتم عقابه، فحري أن يصيبكم الله جل وعلا بهذا العقاب، والخطاب لنا وليس لغيرنا، فالخطاب للسابقين قد انتهى، وإنما المقصود نحن، فيجب على الإنسان أن يتنبه، وأن يخاف ربه، وأن يفارق الأفعال التي تكون سبباً لغضب الله جل وعلا وعذابه. ((أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) الأمن هو ضد الخوف والمراقبة، والمعنى: خافوا عذاب الله وراقبوه، فإن من خافه وراقبه فإنه يؤمنه، بخلاف من أمن مكره وعذابه فإن هذا من أعظم أسباب الأخذ والتعذيب. {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:17] الحاصب هو: الحجارة التي تحصب، كما أرسل حاصباً على قوم لوط وغيرهم، وقد جاء في صحيح البخاري أنه سيقع في هذه الأمة رجم ومسخ وخسف، الأنواع الثلاثة ستقع فيها، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زمن ذلك قال: (إذا استحل الحر والحرير والخمر والمعازف) ، إذا استحلت هذه الأمور وقع ذلك، والحر: هو عبارة عن إحلال الزنا وكثرته، وأما الحرير فهو معروف، أي: أن الرجال يلبسون الحرير ويستحلونه، وأما المعازف: فهي آلات اللهو والطرب والغناء، فإذا كثرت -كما هو الواقع اليوم- فليرتقبوا هذه العقوبات، نسأل الله العافية! والخسف بأن يخسف بهم في الأرض، والمسخ بأن يمسخوا قردة أو خنازير، والرجم من السماء، حتى إنه جاء: (أن الناس يتحدثون فيما بينهم ويقولون: البارحة خسف بآل فلان، والبارحة مسخ آل فلان، والبارحة رجم آل فلان) ، وهذا دليل على أن الناس حينئذٍ لا يبالون، يرون العذاب ويقعون في المعاصي؛ لأن الرين استولى على قلوبهم وغطاها، فأصبحوا لا يتعظون بمواعظ، ولا يزدجرون بالكوارث إن رأوها وشاهدوها. وقوله: {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17] هذا توعد شديد، يعني: كيف إنذاري، وهل هو يتخلف أو لا؟ إنذاره جل وعلا إذا جاء لا يرد، فيجب أن يخاف ويحذر منه، والنذارة تكون لأمر مخوف متوقع الحصول، فمعنى ذلك أن هذا مخوف ومتوقع الحصول.

إثبات علو الله بالأدلة السمعية والعقلية

إثبات علو الله بالأدلة السمعية والعقلية وفي هذه الآيات أدلة واضحة على أن الله جل وعلا في العلو، وصفة العلو صفة ذاتية، ودلائله عقلية وسمعية وفطرية. أما الأدلة السمعية فهذا شيء منها، وإلا فهي كثيرة جداً، حتى قال ابن القيم: إنها تزيد على ألف دليل، يعني: من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن كثرة الأدلة وتنوعها لا تفيد إلا من يريد الحق، أما الذي أشرب قلبه بالباطل وأحبه، فإنه لا يزداد بذلك إلا قيام الحجة عليه. أما العقلية فذكرنا نوعاً منها، وأنواعها كثيرة أيضاً. وأما الفطرية فقد فطر الله جل وعلا جميع خلقه أنهم إذا سألوا ربهم يمدون أيديهم إلى السماء، ويجدون في أنفسهم دافعاً يدفعهم إلى أن يطلبوا ربهم من فوق، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ولا تحت، وإنما يسألون ربهم من فوق، وهذا موجود عند كل إنسان إذا اضطر وسأل ربه أنه يسأله من العلو، ولهذا لما كان أحد أئمة الأشاعرة يقرر هذا المبدأ -يعني: أن الله ليس فوق- في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الحرمين عبد الملك الجويني، وكان يقول للناس وهو على كرسي: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان. فقال له رجل: أيها الشيخ! دعنا من هذه الأمور التي تذكر، وأخبرني عن ضرورة أجدها في نفسي أنا وغيري وأنت وكل الخلق، إذا قلت: يا الله! أجد دافعاً يدفعني من الداخل أني أطلب ربي من فوق، كيف أصرف هذه الضرورة؟ كيف أمنعها؟ ما أستطيع، فوضع يده على رأسه ثم نزل من على الكرسي وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل، ما أدري ماذا أقول؟! وما أدري ماذا أعتقد؟! لماذا؟ لأنه بنى عقيدته على غير أساس، بناها على هذيان مثل هذا الهذيان: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان؛ وترك النصوص الجلية التي تتفق مع الفطر ومع العقل، فهذا دليل الفطرة، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173] ، وتفسير هذه الآية الذي عليه المحققون: أن هذا الميثاق هو الفطرة التي فطروا عليها، فإن الله فطرهم على معرفته، وهذا دليل على وجوب عبادتهم لله؛ ولهذا علل ذلك بشيئين: أحدهما: ألا يغفلوا عنه، وهذا موجود كامن في النفوس لا أحد يغفل عنه، أي: الفطرة. الثاني: ألا يتبعوا آباءهم وغيرهم مقلدين لهم؛ لأن الفطرة موجودة في كل واحد على أن الله ربه، وإذا كان ربه الذي خلقه وهو فقير إليه وجب أن يعبد ربه.

أنواع العلو

أنواع العلو العلو لله جل وعلا ثابت بمعانيه الثلاثة: علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات. أما علو القهر وعلو القدر فليس فيهما خلاف بين الناس، حتى أهل البدع يقرون بهما، ويقولون: نثبت له علو القهر وعلو القدر، ويقولون: ومعنى أنه فوق خلقه كما تقول: الذهب فوق الفضة، وهذا في الواقع من الكلام السخيف، كيف يقال: إن الله فوق خلقه بمعنى أنه أحسن منهم وأرفع منهم قدراً تعالى الله وتقدس؟! قال الشاعر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين خالق ومخلوق؟! تعالى الله وتقدس. علو القدر هو التعظيم الذي يكون في قلوب العارفين، ليس في قلوب المنكرين، أما المنكر فعنده الرب والمربوب سواء! تعالى الله وتقدس. فعلو القدر: هو قدره الذي يجب أن يكون في قلب عبده، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] ، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] ، يعني: تعظيماً وتقديراً. المقصود: أن إثبات هذا الشيء متفق عليه، أما تفسيره فهم يختلفون فيه. أما المعنى الثاني وهو: علو القهر وهذا أيضاً لا خلاف فيه إلا في بعض الجزئيات، كقول القدرية: إن الله جل وعلا لا يقدر على أن يخلق مثل أفعال العباد تعالى الله وتقدس، وهذا ضلال وكفر؛ لأنه تعجيز لله جل وعلا. أما عند أهل السنة وأهل الحق فعلو القهر بمعنى أنه فوق عباده قاهر لكل أحد، ولا يمكن لأحد أن يخرج عن مراده وعن قدره وقهره، وكل من في السماوات ومن في الأرض يأتيه ذليلاً عبداً خاضعاً؛ لأنه هو القاهر القهار جل وعلا. أما علو الذات: فهو الذي فيه الكلام، وهو الذي يستدل العلماء على إبطال قول المخالفين فيه. يجب على الإنسان أن يعلم أن الهدى والنور والحق في كتاب الله، وأن ما خالف كتاب الله يجب أن يرد، ولا يقبل من أقوال الناس -مهما كانت- إلا ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والكتاب والسنة صنوان لا يفترقان، وكلاهما حق وهدى ونور، كما أنه يجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن رسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك شيئاً مما يحتاجه المسلم من العقيدة أو العمل إلا وبينه ووضحه. ويجب عليه أن يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفصح الناس وأبلغهم، وأقدرهم على البيان، وأنصحهم للناس، فإذا اجتمعت هذه الأمور فلابد أن يقتنع الإنسان بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وجب تصديقه وقبوله، ولا يجوز التشكك فيه، والبحث عن أوجه اللغة الغريبة، وصرفه إلى ذلك الغريب؛ لأن هذا في الواقع نوع من التكذيب ونوع من الرد، والهداية بيد الله جل وعلا.

حرمة القول على الله بلا علم

حرمة القول على الله بلا علم سبق أن ذكرنا مسألة المحرمات، وقلنا: إنها رتبت على أربع مراتب، بدأ الله بأسهلها، ثم ثنى بما هو أعظم، ثم ثلث بما هو أعظم، ثم ربع بما هو أعظم، والثالث: هو الشرك، والرابع: هو القول على الله بلا علم، فيكون القول على الله بلا علم أعظم من الشرك، فما هو السبب في هذا؟ A أن القول على الله بغير علم يتضمن الشرك وزيادة، وقلنا: إن المؤلف أراد بهذا أن القول على الله في صفاته وفي أفعاله في خلقه وفي شرعه يتضمن الشرك وزيادة، فهو أعظم من الشرك، أما كونه يتضمن الشرك فلأن الذي يقول على الله بخلاف صفاته يكون معطلاً ما وصف به نفسه، ومن عطله فقد ألحقه بالناقصات، فيكون ممثلاً له من هذه الناحية، وهذا شرك لكونه شبه الله جل وعلا بالمخلوقات. وأما في أفعاله فكذلك لكونه يلحقه بالمخلوقين مشابهاً لهم؛ ولهذا يقول أهل العلم: إن الجهمية والمعتزلة لا ينفكون عن الشرك، ووقوعهم في الشرك كثير، حتى أحياناً في الأمور الظاهرة الجلية، مثلاً يقول أحدهم إذا نفى كلام الله: إن الذي يتكلم ملك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) يقولون: هو ملك، أي: المنادي، فنقول: هل الملك يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له؟ هل الملك يغفر؟! تعالى الله عن ذلك. وكذلك كثير من أقوالهم مثل هذا، وهذا مما يبين أن القول على الله بلا علم يتضمن الشرك وإبطال الشرع، ومن هنا كان القول على الله بلا علم أعظم من الشرك، فهو أعظم المحرمات، وليس ذلك غريباً، فقد استغرب بعض الناس كيف يكون القول على الله بلا علم أعظم من الشرك، والله جل وعلا أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ؟! والجواب ما سمعتم.

الأسئلة

الأسئلة

صفة العلو ذاتية وصفة الاستواء فعلية

صفة العلو ذاتية وصفة الاستواء فعلية Q هل صفة العلو صفة فعلية؟ A هي صفة ذات، فإنه لا يمكن أن يكون الله جل وعلا أسفل متدنياً؛ بل هو عالٍ دائماً، ولا يمكن أن يكون شيء من خلقه فوقه، فمخلوقاته جل وعلا كلها تحته، وهو فوق مخلوقاته كلها؛ لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأعلى من كل شيء، له العلو المطلق، وله العظمة المطلقة، وهو الكبير المتعال، ومن هنا امتنع أن تكون هذه الصفة فعلية؛ لأنها ملازمة للذات أبداً، وأما الأخبار التي جاءت في القرآن وفي الأحاديث من أنه جل وعلا يأتي يوم القيامة إلى الأرض لفصل القضاء بين خلقه؛ لأن الناس يكونون على الأرض واقفين، فيأتي إليهم، كقوله الله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:68-69] ، فإشراق الأرض بنوره إذا جاء لفصل القضاء، وقوله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] ، وقوله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، هذا كله دليل على أنه يأتيهم إلى الأرض، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينزل عشية عرفة إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف الملائكة) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى؟) ، وفي رواية: (لا أسأل عن عبادي غيري) ، فهذه الأدلة كلها تدل على النزول إلى السماء الدنيا، والنزول إلى الأرض، ينزل وهو فوق العرش، ولا يكون شيء فوقه، لا سماء، ولا عرش، ولا غيرهما، فهو جل وعلا لا سماء تظله، ولا شيء يقله بمعنى يحمله، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، لا يحتاج إلى شيء. والمقصود أنه يجب أن يعلم العبد أن الله أكبر من كل شيء، والسماوات على سعتها يقبضها ربنا جل وعلا بيده، ويطويها بيمينه، وتكون حقيرة صغيرة ليست شيء بالنسبة إليه، فكيف يتصور أن شيئاً من المخلوقات يكون أكبر منه تعالى وتقدس؟! ولهذا شرع للإنسان أن يقول: الله أكبر عندما يرى شيئاً عظيماً، أو إذا ارتفع على مرتفع أو غير ذلك؛ لأن الله أكبر من كل شيء. فهذا وجه كون صفة العلو ذاتية، وإنما الفعلي هو الاستواء، والاستواء خاص ثبت بالأدلة الشرعية، أما هذا فهو عام.

وجه صحة تقسيم الصفات إلى ذاتية وفعلية

وجه صحة تقسيم الصفات إلى ذاتية وفعلية Q ما صحة تقسيم بعض العلماء الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية، وصفات لازمة وصفات متعدية، وما هو الفرق بينهما؟ A التقسيم إذا لم يفد شيئاً لا يصار إليه، ولكن هذا التقسيم كله صحيح، ولكن يجب أن يفهم المراد، من تقسيم الصفات إلى ذاتية وفعلية، وإلى صفات اختيارية وغير اختيارية. الله جل وعلا لا يوصف بغير ما يصف به نفسه، ولا أحد يلزم الله بشيء تعالى الله وتقدس، والوصف الاختياري هو الذي يتعلق بمشيئته، ويقابل هذا الصفات الذاتية، فلا يقال: إنها على حسب المشيئة، وقد مثلنا لها بالحياة، السمع، البصر، العلم، فلا يجوز أن يقال: إن الحياة -مثلاً- تتعلق بمشيئة إذا شاء حيي، وإذا شاء لم يحي، تعالى الله وتقدس عن هذا، هذا لا يمكن، ومن هنا جاء التقسيم. فالتقسيم يراد به التفريق بين المعاني، وإلا فهو ثابت لله جل وعلا، وقد علم أن الصفات لا تثبت إلا بالسمع، والعقل لا يثبت به شيء، ولكن السمع هو الذي ينبه العقل على ذلك، ويكون العقل موافقاً له، فهذه التقسيمات صحيحة، وإذا أراد الإنسان بالتقسيم التفرقة بين المعاني صار إليه، وإلا فلا يلزم الناس به، ولا يقال: لابد أن تعرف هذه الأقسام، لا يلزم أحد بذلك، واللازم هو أن يؤمن بما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفاة عيسى عليه السلام

وفاة عيسى عليه السلام Q ما حكم من ينكر القول بأن التوفي في الآية على ظاهره؛ لأن الواو في الآية لا يقتضي الترتيب؟ A قيل هذا، ولكن هذا بعيد، وقد قاله بعض العلماء، وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب، فقد جاء ما يدل على الترتيب.

معنى قول الله في عيسى: (إني متوفيك)

معنى قول الله في عيسى: (إني متوفيك) Q هل يصح أن نقول في قول الله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] : هي الوفاة الحقيقية ثم يحييه الله عز وجل فينزل ويحكم بشريعة الإسلام؟ A لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنه رفعه إليه، ثم قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] ، فالإنسان ما يموت مرتين، لا يموت إلا موتة واحدة، فأخبر أن من أهل الكتاب الموجودين في وقته يؤمنون به قبل موته، وموته: الضمير يعود على عيسى عليه السلام.

متى حصل الاستواء؟

متى حصل الاستواء؟ Q فضيلة الشيخ! قلت: إن الاستواء وقع قبل خلق السماوات والأرض، فما الدليل؟ A لا، ما قلت هذا، استواء الله وقع بعد خلق السماوات والأرض؛ لأنه جل وعلا يقول: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، و (ثم) تقتضي الترتيب مع التراخي، يعني: الاستواء على العرش جاء مرتباً، وجاء هذا الترتيب بلفظة (ثم) مما يدل على أنه ليس قبل، أما السؤال المقدر الذي قد يقول السائل فيه: هل كان الله مستوياً على العرش قبل خلق السماوات؟ فنقول: العلم عند الله، علينا أن نؤمن بالشيء الذي أخبرنا الله جل وعلا به، أما الشيء الذي ما أخبرنا به فنقف، وقد علم أن الله لا يحتاج إلى العرش، فهو غني عن العرش وعن غيره، واستواؤه لأمر يتعلق بمشيئته وحكمته، والله أعلم، وإنما علينا أن نؤمن بالشيء الذي أخبرنا الله به.

اسم النجاشي لملوك الحبشة غير مستمر بعد الإسلام

اسم النجاشي لملوك الحبشة غير مستمر بعد الإسلام Q هل يطلق على ملك الحبشة المسلم نجاشي؟ A المسلم لا يسمى النجاشي، بل هو ملك مسلم، كما أن المسلم الذي يملك مصر لا يسمى فرعون، كذلك المسلم الذي يكون على المجوس لا يسمى كسرى، فهذا خاص بمن كان في الجاهلية قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فذهبت هذه الأسامي.

إسلام النجاشي

إسلام النجاشي Q هل كان النجاشي كافراً قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أم كان على النصرانية الحقة؟ A النجاشي الذي اسمه أصحمة يعني: عبد الله، آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم، ولا فائدة في بحث ما ذكر.

شرح العقيدة الواسطية [5]

شرح العقيدة الواسطية [5] الله عز وجل عالٍ على خلقه مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وعلوه سبحانه وتعالى لا ينافي معيته لخلقه؛ فهو سبحانه قريب في علوه، عليّ في دنوه، ومعيته سبحانه وتعالى قسمان: معية عامة لكل الخلق، ومعية خاصة لأنبيائه وأوليائه وعباده المؤمنين.

إثبات معية الله لخلقه

إثبات معية الله لخلقه يقول المصنف رحمة الله عليه: [وقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، وقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ، وقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]] . تقدم الكلام عن الاستواء، وأن الله جل وعلا مستوٍ على عرشه، ثم أتبعه الكلام في علو الله جل وعلا، ثم أتبع ذلك الكلام في المعية؛ ليبين أن هذا كله حق على ظاهره، ولكن يجب أن يُصان عن الظنون الكاذبة وعن خصائص المخلوقين، فإن صفات الله جل وعلا تليق به، ويجب أن يعلم قدر الله جل وعلا وأن يعظم حق عظمته، وليس بين هذه اختلاف أعني: بين العلو والمعية كما سيأتي إن شاء الله، وكذلك القرب، ولم يذكره، ولكن سيأتي فإنه يناسب أن يذكر مع العلو ومع المعية؛ لأنه يبدو لبعض من لم يعرف أوصاف الله جل وعلا على ما يليق به أن هناك تعارض بين هذه الأمور الثلاثة: بين العلو والقرب والمعية، والواقع أنها كلها حق، ويجب أن يعتقد فيها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] . في هذه الآية جمع الله جل وعلا بين استوائه على عرشه وبين معيته لخلقه؛ ليبين أن الاستواء لا ينافي المعية، كما أن الاستواء لا ينافي قربه، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] .

أقسام أفعال الله

أقسام أفعال الله وقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) : في هذه الآية شيئان من الأفعال التي يوصف الله جل وعلا بها: القسم الأول: الله جل وعلا له أفعال تتعدى ويوصف بها تعالى، حسب تعلقها بمشيئته مثل الخلق والإماتة كقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ)) ، وفي ضمن هذا أن الخلق الذي هو فعله غير المخلوق، فالسماوات ليست هي خلقه الذي هو صفته، بل هي مفعوله الذي هو أثر الخلق، فيجب أن يفرق بين هذا وهذا؛ لأن أهل الباطل لا يفرقون، ولاسيما الأشاعرة، فإن عندهم أن الخلق هو المخلوق ولا فرق بين هذا وهذا، وهذا باطل؛ فإن الخلق الذي هو صفة الله التي بها يفعل غير المخلوق الذي هو منفصل عن الله وبائن عنه، ومشاهد ويرى وتجري عليه أقداره وأحكامه وأوامره. وقوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) : سبق أن الظاهر من كلام الله جل وعلا وكلام رسوله: أن هذه الأيام الستة هي مثل أيامنا هذه، والذي يقول: إن تلك الأيام اليوم منها كألف سنة لا يستند إلى دليل، وليس هناك دليل إلا ما يؤخذ من خرافات علماء أهل الكتاب الذين يريدون أن يفسدوا عقائد المسلمين، وكم من البلاء دخل على المسلمين بسبب ما ينقل عن أهل الكتاب من الخرافات، والأمور التي لا يجوز أن يترك كتاب الله جل وعلا من أجلها، ولا يجوز أن تكون تفسيراً لكتاب الله، بل يجب أن يُبتعد عنها، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الذي يروى عن أهل الكتاب على ثلاثة أنحاء: منها: ما هو مخالف لما عندنا، فهذا يجب رده ولا نلتفت إليه. ومنها: ما هو مصدِق لما عندنا، وهذا قد أغنانا الله عنه بما عندنا، فلا حاجة إليه. ومنها: ما هو مسكوت عنه، وهذا الذي جاء الإذن بالتحديث عنه، ولكن لا يصدق ولا يكذب، والله أعلم به. وعلى هذا تكون مقدار الستة الأيام في علم الله جل وعلا، ولو لم يكن هناك شمس وقمر وأرض فإن كل شيء معلوم لدى الله جل وعلا بمقداره، بحيث إنه يعلم الأشياء التي لم تكن على ما هي عليه، ولا يزيد وجودها في علمه شيء، فهو خلق السماوات والأرض وما بينها في هذه الأيام الستة، وأولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة. وأما ما في صحيح مسلم: (أن الله خلق التربة يوم السبت) . فهذا مما هو غلط قطعاً؛ لأنه مخالف لكتاب الله، والأحاديث الصحيحة، فالخلق كان في ستة أيام فقط وليس في سبعة؛ لأن مقتضى هذا أن الخلق كان في سبعة، وهذا مخالف لنص القرآن الذي ذكره الله جل وعلا في سبعة مواضع وعطف عليه الاستواء بلفظة (ثم) . فخلق السماوات والأرض والإحياء والإماتة وما أشبه ذلك، هذه الصفة من الصفات التي تسمى: أفعالاً متعدية. والقسم الثاني: ما ذكره في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وهذا هو الفعل اللازم، فهو جل وعلا يوصف بالأفعال المتعدية وبالأفعال اللازمة، واللازمة مثل الاستواء ومثل النزول والمجيء والإتيان وما أشبه ذلك. والصفات المقصود بها هنا: الأفعال التي تتعلق بمشيئته يفعلها إذا شاء؛ فهو فعَّال لما يريد. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، سبق معنى الاستواء، وأن هذا المعنى ظاهر جداً في لغة العرب، ولا يجوز أن يؤول عن ظاهره، ولما كثر الخوض في ذلك اضطر علماء السلف أن يفسروه بألفاظ مترادفة، فجاء تفسيره عنهم بأربعة ألفاظ مترادفة، قالوا: استوى: علا، وقالوا: صعد، وقالوا: ارتفع، وقالوا: استقر، وكلها ألفاظ ظاهرة يفهم معناها السامع الذي يعرف اللغة، ومجرد ما يسمع ذلك يفهمه. والاستواء لا يجوز أن يكون بمعنى الاستيلاء، فإن الاستيلاء يتطلب المغالبة، ويتطلب أنه كان قبل ذلك مغلوب عليه تعالى الله وتقدس، كما يقال: استولى الملك الفلاني على البلد الفلاني بعدما كان خارجاً عن ولايته وعن حكمه، فلو كان معنى الاستواء على العرش: الاستيلاء لصح أن نقول: إنه استولى على الأرض، واستولى على السماء، واستولى على كل شيء، وعلى هذا نقول: استوى على الأرض، واستوى على السماء، واستوى على كل مخلوق، ولكن الاستواء جاء خاصاً بالعرش فقط، فلا يجوز أن يطلق على الله جل وعلا إلا ما أطلقه على نفسه، وأما التأويلات التي تئول إلى إبطال كلام الله جل وعلا وأوصافه فيجب أن ترد ولا يلتفت إليها.

علم الله شامل لكل شيء

علم الله شامل لكل شيء وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [الحديد:4] ، الولوج: هو الدخول في الشيء، يعني: يعلم الذي يدخل فيها في طبقاتها من جميع الأشياء سواء: حيوانات أو معادن أو نبات أو غيره ذلك، فلا يخفى عليه شيء تعالى الله وتقدس. وقوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد:4] ، كذلك الذي يخرج من الأرض من جميع الأشياء لا يخفى عليه. وقوله: {وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ، ما ينزل منها، يعني: هذا تفصيل لعلم الله جل وعلا بعدما ذكر أنه يعلم مجملاً ذكر التفصيل، وهذا يذكر لبيان حقيقة الواقع ولوجوب اعتقاد ذلك، وأنه لا يخرج عن علم الله شيء، فهو عليم بالأشياء التفصيلية، وليس كما يقول الفلاسفة الذين يكفرون بهذه الأشياء، يقولون: عَلِمَ الله بالأشياء المجملة فقط، أما الأمور التفصيلية فهو لا يعلمها حتى توجد، تعالى الله وتقدس! وهذا كفر بالله جل وعلا، وفي هذه الآية رد على كل من يقول بهذا القول أو بشيء منه. وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ} [الحديد:4] ، أي: الذي ينزل من السماء من الأشياء التي يعلمها الله، من غيث أو رحمة أو عذاب أو أمر أو ملائكة أو أرواح أو رياح أو غير ذلك. والمقصود بالسماء: كل ما كان فوق، فكل ما كان فوق الإنسان فهو سماء، ونهاية السماء عرش الرحمان؛ فهو سقف المخلوقات كلها، وفوق عرش الرحمان الرحمان تعالى.

الرد على الذين يزعمون أن السماء غير حقيقية وأنها فضاء

الرد على الذين يزعمون أن السماء غير حقيقية وأنها فضاء ومعلوم أن السماء حقيقة على ما يعتقده المسلمون، لا كما يقوله اليوم أهل الباطل ويلزمون الناس بما ينكرونه، وأن يعتقدوا ما يعتقدونه، فهم الآن يقولون: الفضاء، فيجعلون السماء فضاءً، يعني: أنه ليس هناك سماء مبنية حقيقة، وإنما هو فضاء تسبح فيه الكواكب فقط، هذه هي عقيدتهم، ويقولون: نحن نشاهد هذه الأشياء مشاهدة؛ فإذا صعدنا إلى مسافة معينة انعدمت هذه الرؤية التي نراها فوقنا وذهبت، فلا نرى شيئاً، ويقولون: هذا دليل على أن هذه انعكاسات لما في الأرض من أبخرة متصاعدة من البحار وما أشبه ذلك، فتنعكس وبسببها نرى هذه الزرقة، وهذا تكذيب لله جل وعلا في كتابه، ولما يعتقده الأولون والآخرون، وهؤلاء أصبحوا لا يؤمنون إلا بالمحسوس المشاهد، والسبب في انعدام الرؤية: أن الشيء المرئي لابد أن يكون له مقابل يعكسه فيرى به، فإذا لم يكن له مقابل لا تمكن رؤيته، فإذا ارتفعوا وذهب تأثير الأرض ذهبت الرؤية، هذا هو السبب، وإلا فهي على حالها لا تتغير، ولكن يبعدون عن تأثير الأرض التي تأخذ انعكاس السماء فتشاهد، فإذا أبعدوا عن الأرض وذهب تأثيرها زال الذي يرونه، فاعتقدوا أن هذا الذي يُرى هو -كما يقولون- انعكاسات بحار أو أوكسجين أو أبخرة أو غيرها، ومن المعلوم أن العاقل نفسه لا يصدقه؛ لأن هذا لا يتغير لا عند البحر ولا بعيداً عن البحر، ففي وسط آسيا التي تبعد عنها البحار كثيراً جداً بحيث لا يكون للبحار تأثير في الرقعة التي فوق هذه المنطقة البعيدة، ومع ذلك فالمشاهدة لا تتغير، ثم لسنا بحاجة إلى ما يقولون، فالله جل وعلا يقول: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، فهل يأمرنا أن ننظر إلى شيء لا حقيقة له؟! والرسول صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء، واستفتحت له أبواب السماء، سماءً سماءً إلى أن علا السماء السابعة. وأخبرنا صلوات الله وسلامه عليه: (أن الروح يعرج بها ثم تستفتح لها أبواب السماء فإما أن تفتح وإما أن تغلق وتطرح إلى الأرض طرحاً) ، كما جاء ذلك في حديث البراء بن عازب الذي هو في صحيح البخاري وغيره. والمقصود: أن السماء إذا جاءت مطلقة -بدون أن تقيد بما يدل على أنها السماء المبنية- فيقصد بها السماء المبنية وقد يقصد بها مجرد العلو.

معية الله جل وعلا للخلق هي بعلمه وإحاطته

معية الله جل وعلا للخلق هي بعلمه وإحاطته وقوله: {وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] ، العروج: هو ضد النزول، وهو الارتفاع والصعود: ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) ، من الأعمال الصالحة، والملائكة والأرواح وغير ذلك مما يكون بأمر الله جل وعلا ولا نعلمه، بل الله جل وعلا يعلمه؛ فهو يعلم كل شيء. وقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، هذا هو الشاهد الذي سيقت الآية من أجله، وهو أنه معنا تعالى أينما كنا، و (أين) يقال للمكان، كما يقال أين فلان؟ يعني: في أيّ مكان هو؟ فقوله: ((أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: في أي مكان كنتم، فالله يعلمنا ويعلم حالنا ويعلم ما في قلوبنا. والمقصود بهذا: بيان إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء. وقوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) : زيادة بيان؛ لأنه بصير بكل عمل نعمله، والبصير مبالغة في العلم فهو يبصره بعد علمه المحيط به، ويعرف ويعلم حقيقته، وهل هو عمل صالح قد خلصت به النية أو أن النية قد انطوت على أمر آخر يفسد العمل؟ فهذه المعية لها مقتضى وهو المراقبة والخوف لقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، يعني: اعلموا أن الله لا يخفى عليه من أحوالكم شيء، فراقبوه وخافوه وأصلحوا أعمالكم، ولتكن قلوبكم متجهة إلى الله، ومخلصة العمل لله، هذا مقتضى ذلك. وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ، أول الآية يقول جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] ، وهذه الآية يقول الإمام أحمد وغيره: إنها تدل على أن المعية يقصد بها العلم؛ لأنه بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، فيقول: بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المقصود بالمعية هي العلم، وسيأتي الكلام على هذا. فقوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ)) ، النجوى هي: الكلام الذي يكون بين اثنين وأكثر في الخفية، لا يريدون أن يطلع عليه غيرهم، فيقول جل وعلا: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ)) ، وهنا بدأ بالثلاثة، ولماذا لم يبدأ بالاثنين؟ لأنه جاء بالأعداد التي يمكن فيها الشفع والوتر، فالوتر في الثلاثة الذي لا يمكن أن ينقسم إلا على نفسه، والذي فيه الشفع هو ما بعده: ((وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ)) ؛ لأن هذا فيه الشفع والوتر، والأول وتر فقط، فصار شاملاً لجميع الأعداد، واكتفى بهذا عما عداه من الأعداد الأخرى، ومن لغة العرب أن المضاف في مثل هذه الأعداد إذا كان من جنس المضاف إليه فإنهم يقولون: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة، وسادس ستة، هذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، أما إذا كان المضاف من غير جنس المضاف إليه، فإنهم يقولون: رابع ثلاثة، وخامس أربعة، وسادس خمسة، ولهذا جاء هذا على مقتضى لغة العرب: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ)) ؛ لأنه تعالى وتقدس من غير جنسهم على ما تعارف عليه العرب، وما يعرفونه من لغتهم. وقوله: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ)) ، وهذا محيط شامل للأقل والأكثر: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ)) ، فبين جل وعلا أنه مع كل أحد من الناس بالنجوى وغير النجوى، الكثيرين والقليلين، وأنه لا يخفى عليه مناجاة مناج، ولا تشغله عن علم مناجاة الآخر، ولا الاستماع لقول واحد عن الاستماع إلى قول الآخرين، وهذا من خصائص الله جل وعلا، ولهذا أراد منا جل وعلا أن نعلم قدرته على سماع كلام عباده واطلاعه على أعمالهم، فكل الذين في السماء وفي الأرض إذا اتجهوا يدعونه فإن كل قولهم يقع في سمع الله، ولا يخفى عليه منهم شيء، ولا يشغله استماعه إلى آخرين عن استماعه إلى البقية، وإن كانوا في آنٍ واحد، وهذا خلاف صفة المخلوق الضعيف؛ فإنه لا يمكن أن يستمع إلى قوم إلا واشتغل باستماعه إياهم عن الآخرين، ولا يمكنه أن يستمع لهذا ولهذا، فصفات الله جل وعلا على خلاف صفات عباده، وسيأتي الكلام على هذا في صفة النزول التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن الله ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر) . وأورد بعض الذين لم يعرفوا صفة الله جل وعلا على هذا إيرادات باطلة لا ترد على صفات الله، وإنما ترد على صفات المخلوقين، فقالوا: إذا كان ينزل ثلث الليل الآخر فإن أثلاث الليل في الأقطار تختلف، فثلث ليل هؤلاء هو أول الليل عند أولئك، وثلث الليل عند هؤلاء هو نهار عند الآخرين وهكذا، فلزم على هذا أن يكون نزوله دائماً، هكذا قالوا، وهذا قول الذين -في الواقع- لم يعرفوا الله تعالى وتقدس، ولم يقدروه حق قدره، بل إنما قاسوا صفات الله جل وعلا على أوصافهم هم، تعالى الله وتقدس عن ذلك، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله. وقوله: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) ، هذا مثلما سبق أن (أين) يسأل بها عن المكان، ولهذا السبب قال الجهمية: إن الذين يعتقدون قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟) ، يسمونهم: أينية، والأينية نسبة إلى هذا اللفظ، وهذه التسمية عندهم من باب الاحتقار والاستهانة بهم وذمهم على ذلك، وكم ذموا أهل السنة بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم! والعيب لهم هم وليس لأهل السنة، فأهل السنة يفتخرون بذلك؛ لأنهم يقولون بما قاله الله وبما قاله رسوله، فإذا سموهم أينية أو سموهم مجسمة أو مشبهة أو ما أشبه ذلك فإنه لا يضرهم هذا ولا يضيرهم، ولا يهمهم التسميات إذا كانوا متمسكين بقول ربهم وقول رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن العداوة تحدث بسبب هذه المخالفات؛ لأن العداوة الحقيقة هي عداوة العقائد، فإذا كان الإنسان يخالفك في عقيدتك فهو يعاديك أشد العداوة، فهذه العداوة العقدية ليست كالعداوة لأجل مال أو لأجل اختلاف وجهة نظر أو ما أشبه ذلك، ولهذا تجد أن ما بين المسلمين واليهود من العداوة متأصلة، وما بين اليهود والنصارى من العداوة أشد؛ لأن هذه العداوة في العقيدة. وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) ، شيء هنا نكرة، فلا يخرج عن علمه شيء من الأشياء، وهذا عموم مطلق لا يجوز أن يخصص بشيء، كقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، أما التقديرات التي يقدرها أهل الوساوس والشكوك فلا قيمة لها، فإنهم يقدرون أشياء مستحيلة وأمور ممتنعة، الأمور الممتنعة ليست بشيء، ولا تسمى شيئاً؛ لأنها عدم، والعدم ينقسم إلى قسمين: عدم مطلق قد علم الله جل وعلا أنه لن يكون ولا يكون، فهذا لا يسمى شيئاً، وعدم مقيد، يعني: كان عدماً ثم وجد، فهذا يسمى شيئاً في علم الله وكتابته، ولكنه في الوجود لا يكون شيئاً حتى يوجد، وهذا كما قال الله جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] ، أي: شيئاً مذكوراً مشاهداً ومرئياً في الوجود، ولكنه شيء في علم الله وكتابته، فهذا هو المعدوم المقيد. وأما المعدوم المطلق فليس بشيء مطلقاً، ومن هذا القبيل ما يقوله أهل الوسوسة: هل الله جل وعلا يقدر على أن يخلق مثل نفسه؟ هل الله تعالى يقدر على أن يعدم نفسه؟! ويقول الشكاك: أنا موجود في ملك الله، فهل الله يستطيع أن يخرجني من ملكه؟! هذه وساوس لا حقيقة لها، وهي مثل كون الإنسان حياً ميتاً في آنٍ واحد، وهذا لا حقيقة له، ومثل كونه قائماً جالساً في آنٍ واحد، وكونه متحركاً ساكناً في آنٍ واحد وفي لحظة واحدة، هذا عدم مطلق؛ فهو مستحيل، والمستحيل لا يدخل في مسمى الشيء.

معنى قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا)

معنى قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا) وقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، هذا في ما ذكره الله جل وعلا عن نبيه حينما أراد الكفار قتله ودبروا ذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مهاجراً إلى الله ومعه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه، فذهبا إلى غار ثور في جبل في مكة واختفيا فيه، فجاء الكفار ومعهم القافة يقتصون الأثر ويبحثون، فصاروا يدورن على الغار، وصار عند أبي بكر رضي الله عنه شيء من الجزع والخوف، فذهب يقول: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لأبصرنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) ، يعني: أن الله جل وعلا إذا كان معهم فسيحميهم ويقيهم ويمنعهم من الكفار. وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] ، والحزن: هو ضد السرور والفرح، ويكون من توقع الأمر المخوف أو على شيء قد فات كان يحبه فيحزن عليه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، يعني: أن الله مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دون الكفار.

معنى قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى)

معنى قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى) وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، هذا في قصة موسى وأخيه هارون، حينما أمرهم الله جل وعلا بالذهاب إلى فرعون فقال موسى: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] ؛ لأن طغيان فرعون معروف؛ ولأنه يقدم على القتل وعلى ما يريد بلا مبالاة، فخافا منه. وقال الله جل وعلا لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، يعني: مع موسى وهارون دون فرعون، وقيد ذلك بالسماع والرؤية، فلهذا قال العلماء: إن المعية معناها: العلم والرؤية.

معنى قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)

معنى قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، التقوى: هي فعل المأمور واجتناب المحذور، وحقيقتها: هي أن يجعل الإنسان بينه وبين المخوف واقياً يقيه؛ وذلك لا يكون إلا بامتثال أمر الله واجتناب نهيه، فالمتقون هم: الذين اتقوا بفعل ما أمرهم الله، وترك ما نهاهم عنه. أما الإحسان: فهو غاية ما يستطيع العبد في تحسين العمل، فهو درجة فوق التقوى. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، فأخبر أنه مع المتقين ومع المحسنين.

معنى قوله تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين)

معنى قوله تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين) وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، والصبر هو: الحبس، ويختلف باختلاف موارده، ولكنه حسب ما جاءت به النصوص أقسام ثلاثة، وكل الأقسام داخلة في هذا الأمر، فهو إما صبر على أوامر الله، أو صبر على أقدار الله، أو صبر عن معاصي الله تعالى، هذا هو الصبر المأمور به في الأمور الثالثة، وكل هذه الأمور الثلاثة داخلة في قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] .

معنى قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإن الله والله مع الصابرين)

معنى قوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإن الله والله مع الصابرين) وقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] ، وقيدت هنا بأنها قليلة، ومع ذلك غلبت فئة كثيرة، و (كم) : خبرية، ومعناها: كثير، أي: وقع ذلك كثيراً؛ لأن الله مع الصابرين، وهذا يدلنا على أن الغلبة والنصر ليست بالكثرة وليست بالعدة، وإنما هي لمن كان الله معه، ومن المعلوم: أنه يجب الأخذ بالأسباب؛ لأن الله جل وعلا أمر بذلك، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ، وهذا أمر يجب امتثاله وفعله، فهو سبب، والأسباب مأمور بفعلها، ولكن ليس النصر بالقوة، وإنما النصر بالله جل وعلا، ومن كان الله معه فهو المنصور.

معنى قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)

معنى قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] ، المقصود بذلك: أنه معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، وأنه مع أهل السماء ومع أهل الأرض، فيستوي أهل السماء وأهل الأرض في ذلك.

أقسام المعية

أقسام المعية وهذه الآيات التي ذكرها المصنف في المعية قسمها إلى قسمين: قسم في المعية المطلقة العامة، وقسم في المعية الخاصة، وهذا مما يدل على أن المعية في كتاب الله تنقسم إلى قسمين: معية عامة: وتقتضي المراقبة والخوف والاطلاع، ومعية خاصة: وتقتضي النصر والتأييد والحماية، وهذه تكون على حسب ما أضيفت إليه. ثم إن المعية في لغة العرب: معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فقول الإنسان مثلاً: معي علمي غير قوله: معي مالي، وقوله: معي زوجتي، غير قوله: معي صاحبي، كذلك في بقية الإضافات، وقد سمع من كلام العرب: سرنا والقمر معنا. إذاً: المعية لا تقتضي الممازجة والمداخلة، فإذا قيل: إن الله مع عباده فلا يفهم من هذا أنه مداخلهم، وحال معهم تعالى الله وتقدس، وإنما تكون المعية حسب ما أضيفت إليه. فمعية الله مع خلقه لا تخرج عن هذين النوعين: إما أن تكون عامة مطلقة، ومعناها: أن الله جل وعلا يسمع كلامهم، ويرى أعمالهم ويطلع عليها، ويبصرهم وهم لا يخرجون عن قبضته، وهو محيط بهم، وهذا هو معنى قول السلف: إن المعية تفسر هنا بالعلم، وقولهم هذا رد على الذين يقولون: إن المعية تقتضي الممازجة والمداخلة يعني: يردون بهذا على أهل الحلول وأهل الاتحاد الذين يقولون: إن الله حل في الأمكنة، تعالى الله وتقدس. وهذا واضح في الآيات التي سبقت كقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، هذه عامة لجميع الخلق، لا يخرج من هذا أحد: مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم، ولهذا صار مقتضاها: اطلاع الله على أعمالهم، وعلى قلوبهم، وسماعه لكلامهم، وكونهم في قبضته، وهو محيط بهم، ولا يخرجون عن قبضته، فلهذا قالوا: على الإنسان أن يخاف ربه ويراقبه، وهذه الآية تدل على ذلك: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، يعني: اعلموا أني أسمع كلامكم، وأرى أعمالكم، وأنتم في قبضتي، فخافوني وأحسنوا الأعمال. وكذلك في الآية الثانية آية المجادلة وهي قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) ، وهذه عامة للخلق كلهم. أما قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، فهذه معية خاصة، ومعناها: أن الله مع نبيه وصاحب نبيه دون الكفار الذين أحاطوا بالغار، وكذلك قوله في خطابه لموسى وأخيه هارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه، وهذه المعية مقتضاها غير مقتضى المعية الأولى، مقتضى هذه المعية النصر والتأييد والحفظ، وهي معية بالعلم والاطلاع والإحاطة، يعني: مثل الأولى بالعلم والاطلاع؛ لأن علم الله عام شامل، واطلاعه عام، وسمعه عام شامل، وقبضته لا أحد يخرج عنها تعالى وتقدس، فهو محيط بالخلق، فدل ذلك على أن المعية ليست هي المخالطة، كما يقول أهل الحلول الذين يقولون: إن المعية تكون فيما أضيفت إليه، وهذا يمكن أن يعرف في المخلوق، فالعرب يقولون: سرنا مع القمر، ويقول الإنسان: معي زوجتي، ومعي مالي، ومعي صاحبي، ويقول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، أي: معه في الصحبة، والإيمان وقتال العدو وغير ذلك، وليسوا مخالطين لذاته ولا مداخلين له. فإذاً: تكون المعية المفهومة على حسب الموارد، ومعية الله جل وعلا لا تخالف علوه، فهو مع الخلق أينما كانوا وهو على عرشه. أما قول السلف: إن المعية هي العلم، فهذا لأجل رد اعتقاد أهل الحلول الذين يقولون: إن الله في كل مكان، وإنه معنا في الأرض. فعلى هذا يتبين أن معية الله جل وعلا خاصة به، وليست مثلما يقال: إن فلان مع فلان، بل هي معية خاصة به؛ وذلك أن علم الله عام، وسمعه عام، وإحاطته عامة وشاملة، ولكن يجب أن يعلم أن علوه واستواءه حقيقي على ظاهره، وأن معيته لخلقه حقيقة على ظاهرها، وأن أحدهما لا تناقض الأخرى؛ لأن الأخبار في هذه قطعية، وفي هذه قطعية كذلك، وليس واحد من الأخبار يعارض الآخر، بل يجب أن يصان عن الظنون الكاذبة، وعن خصائص المخلوقين، فإن الله جل وعلا لا يتصف بشيء مما يخص المخلوق؛ فصفاته خاصة به، فهو مع موسى عليه السلام وقريب منه، وعندما كلمه من طور سيناء كان على عرشه.

أقسام القرب

أقسام القرب والقرب ينقسم إلى قسمين كما سيأتي: القسم الأول: قرب يكون للداعي والسائل كقوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] ، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الذي في الصحيحين لما رفعوا أصواتهم في الدعاء والذكر، قال: (أربعوا على أنفسكم -يعني: أرفقوا بأنفسكم- إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً؛ إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، فهذا قرب للداعي والسائل، ولكن مع قربه إليهم هو مستوٍ على عرشه وعالٍ على خلقه جميعاً، ويكون قربه قرباً يليق به، وهو قرب على حقيقته، وعلى ظاهره، ولكنه لا ينافي علوه؛ لأن هذا من خصائص الله سبحانه. والقسم الثاني: هو مثل المعظم الذي يعظم نفسه أو يكون له خدم وعبيد يمتثلون أمره؛ فإنه يقول: فعلنا، ونحن نفعل، كما يقول الرئيس: نحن نأمر بكذا وكذا، وإن كان المنفذ غيره، والكاتب غيره، والمبلغ غيره، فإذا قال الله جل وعلا: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] وما أشبه ذلك، فهذا يصح أن يكون أمر ملائكته بذلك فامتثلوا أمره، ونفذوا ما أمرهم به، فأضاف ذلك إلى نفسه، وهذا معلوم في لغة العرب ومعروف. ولا يكون منافياً أيضاً لما سبق، بل يحمل على ظاهره، وليس ذلك تأويلاً؛ لأننا إذا تبين لنا أن مراد المتكلم هو الظاهر فهذا لا يسمى تأويلاً، وبهذا يعلم أن معية الله ليست منافية لعلوه واستوائه، كما أن قربه لا يخالف علوه واستواءه، فهو قريب من داعيه، وكذلك قريب من السائلين والتائبين والمنكسرة قلوبهم وهو على عرشه، ومثل ذلك مجيئه يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] ، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، فإنه سبحانه وتعالى يوم القيامة يجيء إلى الأرض للفصل بين عباده، ولكن يجيء وهو على عرشه عالٍ على خلقه لا يمكن أن يكون شيء فوقه؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، والأشياء كلها -كالسماوات والأرض- بالنسبة إليه صغيرة، ولهذا يقبضها تعالى بيده ويطويها، ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وكل الخلق الذين في السماء وفي الأرض، يكونون في قبضته بيمينه تعالى وتقدس، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: السماوات والأرض كلها مطوية بيمينه وشماله فارغة وإنما يستعين بشماله من كانت يمينه مشغولة. هكذا قال حبر الأمة. فالمقصود: أنه يجب أن يعلم عظمة الله، وأنه أعظم وأكبر من كل شيء، فكيف يسوغ للجاهل الظالم أن يقول: إن الله يحل في الأرض ويداخل خلقه؟ تعالى الله وتقدس.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الصفات المتعدية والصفات اللازمة

الفرق بين الصفات المتعدية والصفات اللازمة Q قلتم: إن الاستواء فعل لازم، فما هو الفعل اللازم؟ وهل إذا نزل الله إلى السماء الدنيا أو جاء يوم القيامة انفك عن صفة الاستواء على العرش؟ A الواجب أن الإنسان يسأل عن اللازم الصناعي في النحو؛ لأن علماء النحو يقسمون الأفعال إلى قسمين: فعل لازم، وفعل متعدي، فالمتعدي: هو الذي يتعدى إلى مفعول، واللازم: هو الذي ليس له مفعول، وهذا هو المقصود هنا. فمثلاً: فعل استوى ليس له مفعول، ومثله: جاء وأتى، بخلاف خلق؛ فإن الخلق يتعدى إلى المخلوق، ولابد أن يظهر أثره؛ ولهذا نقول: السماوات والأرض مخلوقاته، وخلقه صفته، وكذلك الإحياء والإماتة والرزق وغير ذلك.

معنى قوله تعالى: (وما يعرج فيها)

معنى قوله تعالى: (وما يعرج فيها) Q ورد في الآية الكريمة قوله: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ، والأصل في هذا الفعل أنه يجوز أن يُعدى بإلى فما توجيهكم لهذا؟ A الحروف تتناوب، وكثيراً ما يأتي حرف بدل الآخر، ويأتي بمعنى الآخر، وهذا شيء معروف، فمثلاً (في) و (على) كثيراً ما تتناوب، كما يقول جل وعلا حاكياً قول فرعون: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ، ويقول سبحانه: {سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] ، وليس معنى ذلك أنه يصلبهم في داخل الجذوع، وليس معنى ذلك أنه المشي في داخل الأرض، ولكنه عليها، فـ (في) هنا بمعنى: (على) .

وجوب الإيمان بما أخبر الله دون التكلف في معرفة غيره

وجوب الإيمان بما أخبر الله دون التكلف في معرفة غيره Q فضيلة الشيخ: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، هل تدل هذه الآية الكريمة على أن الله عز وجل حين خلق السماوات والأرض لم يكن عالياً على العرش؟ A هذا من التكلف الذي لا ينبغي؛ لأن الواجب علينا أن نقول بما علمنا وما ذكره الله جل وعلا لنا، أما ما وراء ذلك فشيء قد لا تحتمله عقولنا ولا تصل إليه، مع العلم أن الله جل وعلا أول بلا بداية، وأنه ليس بحاجة إلى غيره، بل العرش فقير إليه، وكونه خلقه واستوى عليه ليس لأنه سبحانه محتاج إليه؛ بل خلقه لحكمة، وقد يظهر لنا شيء من ذلك وقد لا يظهر، فيجب على الإنسان أن يقف حيث أوقفه الله، ولا يتعدى ذلك إلى الأمور التي لم تأت الأخبار من الله إلينا يعلمنا إياها، فعلينا أن نقف عند حدنا. وهذا السؤال قد أجاب عنه بعض العلماء، ولكنه جواب بمقتضى النظر فقط؛ لأنه ليس فيه نصوص، فقال: إنه كان مستوياً قبل ذلك؛ لأنه لما خلق العرش استوى عليه، ولم يكن ليخلقه ويتركه، والاستواء بعد خلق السماوات والأرض استواء خاص، هكذا قال والله أعلم.

الفرق بين العلو والاستواء

الفرق بين العلو والاستواء Q كيف نجمع بين قولنا: إن العلو صفة ذاتية وبين قولنا: إن الله علا على العرش؟ A سبق أن تكلمنا على هذا وقلنا: العلو صفة ذاتية، بمعنى: أنه لا يمكن أن يكون شيء فوق الله تعالى وتقدس، وأنه سبحانه ملازم للعلو، وصفة الذات هي: التي تلازم ذات الرب جل وعلا أبداً لا يمكن أن تفارقه، والعلو لا يمكن أن يفارق الرب جل وعلا وتعالى وتقدس، ولهذا قال: إنه صفة ذات، فهو الأعلى دائماً وأبداً على خلقه، لكن الاستواء، هو استواء على مخلوق والذي هو العرش، وهذا لا نعرفه إلا بالنص فقط، فإذا جاء النص قلنا به وآمنا به واتبعناه، ولهذا فرقوا أيضاً من ناحية الثبوت بين هذا وهذا، ومن ناحية الدليل كذلك، فقالوا: الاستواء سمعي، وأما العلو فهو عقلي فطري سمعي.

من معاني المعية العلم وليس هو معناها فقط

من معاني المعية العلم وليس هو معناها فقط Q فضيلة الشيخ! ذكرت أن المراد بالمعية العلم، وهذا تفسير باللازم، وهل هذا ينافي التفسير للكلمة بالحد المطابق الأصلي، ثم بعد ذلك التفسير باللازم؟ A يقولون: آفة الأخبار رواتها؛ أنا ما قلت: إن المعية العلم، إنما قلنا: هذا من معاني المعية، وقلنا: إن العلم عام شامل، وأما المعية فلها مقتضيات: مقتضى الخوف والمراقبة، ومقتضى الحفظ والكلاءة والنصر، فيختلف هذا عن هذا؛ ولو كانت المعية معناها العلم لم يكن هناك فرق بين هذه وهذه، ولكانت كلها سواء، هذا شيء. والشيء الآخر أنني قلت: إن المعية من معناها العلم والمراقبة والإحاطة، وإن الخلق في قبضته سبحانه كل هذا من معاني المعية وليس العلم فقط، إنما العلم شيء من ذلك، وقلت: إن السلف فسروا المعية بالعلم رداً على الذين يقولون: إن الله مع خلقه بذاته داخل فيهم، ففسروها بالعلم لأجل الرد على هذا القول؛ لأنه باطل، وقالوا: إنه معهم بعلمه، أما هو فهو مستوٍ على عرشه فوق خلقه.

فهم مراد المتكلم على حقيقته ليس تأويلا وإن صرف النص من ظاهره

فهم مراد المتكلم على حقيقته ليس تأويلاً وإن صرف النص من ظاهره السؤال يقول: هل تفسير القرب في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] : بأنه قرب الملائكة تأويل وصرف للآية عن ظاهرها؟ A ليس تأويلاً؛ لأن السياق يدل على أنهم الملائكة، ونحن نقول: لا يجوز للإنسان أن يأخذ اللفظ في جميع موارده على وتيرة واحدة، بل يجب أن ينظر في السياق والقرائن ودلائل الخطاب، ويعرف ما هو مراد المتكلم، فإذا تبين له مراد المتكلم فذاك هو الظاهر، فمثلاً: قوله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] ، نقول: هذا الإتيان هو إتيانه جل وعلا بنفسه حقيقة بدليل هذه الأمور المقترنة بهذا الخطاب: ذكر الملائكة، وأن هذا يوم القيامة حينما يجتمع الخلق، وذكر القضاء، وكون الأمور ترجع إليه: ((وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)) ، وغير ذلك من القرائن التي حُفت بهذا. أما إذا نظرنا إلى قوله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] ، فنقول: الإتيان هذا إتيان عذابه وجنده الذين سلطهم عليهم، وجنده هم رسوله والمؤمنون، أما هو جل وعلا لم يأتهم، وهذا يفهم من القرائن والسياق والحال، وكذلك قوله جل وعلا: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ} [النحل:26] ، نقول: هذا من إتيان عذابه وهذا هو الظاهر، وليس هذا تأويلاً؛ لأن الله لا يأتي إلى الحيطان تعالى الله وتقدس، وإنما هو عالٍ على جميع خلقه. والمقصود: أن الإنسان يجب عليه أن يتفهم مراد المتكلم، فإذا تبين له مراده، فهذا هو الظاهر، وليس تأويلاً.

لا يقال: المعية صفة ذاتية

لا يقال: المعية صفة ذاتية Q هل المعية العامة من الصفات الذاتية؟ A لا، لا يطلق هذا على المعية ولا يذكر؛ لأن العلم ذاتي والإحاطة ذاتية والسمع كذلك، وهذه من معانيها، أما أن نقول: المعية ذاتية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا قد يفهم منه أن الله مع خلقه بذاته، وهذا كفر بالله جل وعلا، وكون الله جل وعلا يكون مخالطاً لخلقه -تعالى الله وتقدس- منافٍ لعلوه، فلا يجوز إطلاق هذا القول.

علاج الوسوسة

علاج الوسوسة Q ما توجيهكم لمن يكون عنده بعض الشبهات التي سببها الوسوسة، كأن يقول: ما فائدة خلق البشر؟ ونحو ذلك، فكيف يطرد هذه الوساوس؟ A يطردها بالعلم، وأن يؤمن بأن الله جل وعلا هو الذي كلف الخلق بعبادته، وأنهم كلهم في قبضته، وليسوا ينقصون ملكه لو عصوه أو يزيدون ملكه لو أطاعوه، وأن الأمور كلها بيد الله، وأن الله لا يُسأل عما يفعل، وأن الإنسان يجب أن يقف عند حده ولا يتعدى طوره، فلا يذهب ينظر في الأمور التي يعترض بها على الله جل وعلا، فإنه قد يكون هذا سبب تعذيبه، فإن الله جل وعلا يخاطبنا على حسب عقولنا فقط، ومن وقف على خطاب الله كفاه ذلك.

شرح العقيدة الواسطية [6]

شرح العقيدة الواسطية [6] مسألة إثبات صفة الكلام لله جل وعلا من المسائل الكبار التي اختلف فيها الناس، ومذهب أهل السنة والجماعة: أنهم يثبتون صفة الكلام لله عز وجل، فيقولون: إن الله يتكلم كلاماً حقيقياً، متى شاء وإذا شاء، بحرف وصوت، وصفة الكلام قديمة النوع، حادثة الأفراد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، أما أهل البدع فقد خاضوا في هذه المسألة العظيمة بعقولهم وآرائهم فتناقضوا وضلوا وأضلوا.

أدلة إثبات صفة الكلام لله تعالى

أدلة إثبات صفة الكلام لله تعالى يقول المصنف رحمه الله: [وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:116] {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] {وَإِذْ نَادَى رَبُّك مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:74] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15] {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنْ كِتَابِ رَبِّك لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27] {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:155] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْته خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل:101] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]] . لا يزال المصنف رحمه الله في مسألة الكلام، ومسألة الكلام -كلام الله جل وعلا- اختلف الناس فيها كثيراً، ولكن أدلة الحق واضحة وجلية، ومنها هذه الآيات التي ذكرها المؤلف، وبدأها بقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، وكذلك التصريح بالقول: {وإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [آل عمران:55] ، وكذلك التصريح بأن له كلمات، وأنه يتكلم: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ، وكذلك التأكيد بمصدر الفعل على أنه يكلم من يشاء: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، وهذا إذا جاء بهذه الصيغة فإنه لا يحتمل إلا الحقيقة، كما نص على ذلك أهل النحو وأهل اللغة، وكذلك قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، هذا لفظ الكلام والقول، ثم يذكر النداء، والنداء لا يكون إلا بالقول الذي يستند على الحرف والصوت؛ لأن النداء لمن بعد بخلاف النجوى، فإن النجوى للقريب، والنداء للبعيد، وإن كان الرب جل وعلا كل شيء لديه قريب، ولكنه ينادي من يشاء من عباده كما سيأتي، وهذا جاء في أحد عشر موضعاً من كتاب الله جل وعلا، وهو من أصرح الأدلة على أن الله جل وعلا يتكلم كلاماً بحرف وصوت كلاماً حقيقياً، وكذلك قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، والإضافة تمنع أن يكون الكلام لغيره جل وعلا وقد أضافه إليه؛ والمعنى إذا أضيف يتعين أن يكون صفة، بخلاف العين القائمة بنفسها فإنها تكون من إضافة المخلوق إلى خالقه كقوله: رسول الله نبي الله عبد الله بيت الله ناقة الله، فهذه وإن كان يقصد بها التشريف والتكريم والاختصاص ولكن هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، بخلاف كلام الله سمع الله بصر الله وما أشبه ذلك، فإن هذا يتعين أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف. قال رحمه الله: [وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] ، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]] وهذا في قصة الحديبية وبيعة الرضوان لما بايع الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت أو على ألا يفروا حسب ما جاء في الحديث، وإذا كانوا لا يفرون فيلزم من ذلك أن الإنسان يقاتل حتى ينتصر أو يقتل ولابد، فأثابهم الله جل وعلا بأن عجل لهم مغانم خيبر التي وعدهم بها، وأمر ألا يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من حضر تلك الغزوة، فأراد بعض المنافقين -لما علموا أن الغنائم مضمونة- أن يتبعوهم وليس عندهم رغبة في الأجر، فأمر الله جل وعلا نبيه أن يقول: ((لَنْ تَتَّبِعُونَا)) [الفتح:15] وأخبر أن اتباعهم هذا خلف لوعد الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، ووعد الله الذي وعدهم به هو بكلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا على قول. والقول الآخر: أن التبديل لا يكون لخلق الله، كما قال الله جل وعلا: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] ، وإنما التبديل يكون للكلام كما أخبر الله جل وعلا أن اليهود يبدلون كلام الله بغيره، فالكلام يمكن تبديله ولو كان الكلام مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- ما أمكن تبديله، هذا وجه الاستدلال من الآية: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، فكونهم أرادوا ذلك فهذا يدل على إمكانه، وقد أخبر جل وعلا أن من اليهود من بدل كلام الله، أما لو كان مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- فإنه لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} [الروم:30] ، فخلق الله لا يبدل، إذا خلق الله شيئاً فلا يمكن أن يبدل بغيره.

كلام الله هو كتاب الله

كلام الله هو كتاب الله قال رحمه الله: [وقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27] ، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] ، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92]] هذا نوع آخر من إبطال قول بعض أهل البدع؛ لأنهم يفرقون بين كلام الله وبين كتاب الله، فالكتاب عندهم: ما كان مشتملاً على الحروف والأصوات، وما كان مكتوباً، وما كان مقروءاً، وما كان مسموعاً، فإن هذا هو كتاب الله عندهم، ولكنه مخلوق، ولم ينزل من عند الله، وإنما قاله الرسول إما الرسول الملكي أو الرسول البشري، وأمر بكتابته محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل الرسول إليه بشيء من عند الله، وإنما نزل بكلامه الذي عبر به عن المعنى القائم بنفس الله جل وعلا! هذا حقيقة مذهبهم وقولهم، فلم ينزل -عندهم- من عند الله كتاب، ولم يتكلم الله جل وعلا بكلام يسمع، ولم يكن كلامه مشتملاً على حروف أو أقوال، وإنما كلامه معنى واحد قائم بنفسه، وهو عبارة عن أمور أربعة هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وزعموا أن معناها واحد، ولكن إذا عبر عنها بالأمر صارت أمراً وإذا عبر عنها بالنهي صارت نهياً، وإذا عبر عنها بالخبر صارت خبراً، وإذا عبر عنها بالاستفهام صارت استفهاماً، فلا فرق بين هذه الأمور في الواقع عندهم، وكذلك إذا عبر عن هذا المعنى باللغة العربية صار قرآناً، وإذا عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وإذا عبر عنه بالعبرية فهو توراة، وعلى هذا تكون آية الدين هي عين آية الكرسي، وسورة (تبت) هي عين سورة (قل هو الله أحد) ؛ لأن المعنى الذي عبر عنه واحد قائم بنفس الله جل وعلا، وهذا لا يعقله عاقل، بل هو باطل شرعاً وفطرة وعقلاً وإجماع من لم تتغير فطرته، وهذا مذهب كثير من الناس إلى اليوم! والناس المقصود بهم العلماء، ومن المصائب الكبيرة أنهم ينسبون هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بريء من ذلك، فأراد المؤلف أن يبين بطلان هذا بذكر هذه الآيات: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف:27] ، فالكتاب والقرآن والتنزيل والكلام والوحي كله سواء عند أهل الحق، لا فرق بين هذا، والذي يفرق بين هذه الأمور هم أهل البدع، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] ، والإشارة إلى ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ونزل به جبريل وألقاه على قلبه فعلمه وعقله ثم بلغه إلى أصحابه، وأصحابه بلغوه إلى الأمة، وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ، المقصود هنا لفظ التنزيل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنعام:92] ، {َلوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} [الحشر:21] ، والتنزيل يعرفه أهل اللغة، بل يعرف العقلاء أنه ما نزل من فوق إلى تحت، فهو نزل من الله؛ لأن الله في العلو فأنزله مع رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

أقسام النزول في القرآن

أقسام النزول في القرآن والنزول جاء في القرآن على أقسام ثلاثة: 1- نزول مقيد بأنه من الله، وهذا في مثل هذه الآيات. 2- نزول مقيد بأنه من السماء {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون:18] . نزول مطلق كقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25] ، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] ، فالنزول في هذه الآية مطلق؛ لأنه يجوز أن يكون: نزول الماء من الفحل في رحم الأنثى، وأما الحديد: فيجوز أن يكون من الأمكنة المرتفعة كالجبال وغيرها، أما النزول المقيد بأنه من السماء -والسماء ما كان فوق- فهذا خاص بإنزال المطر، وأما النزول المقيد بأنه من عند الله فهو خاص بالقرآن، فصار إنزال القرآن صفة من صفاته تعالى، وقيده بأنه نزل من عنده، وأنه أنزله على رسوله، وليس هناك نزول غير هذه الأمور. أما كون الجبل لو نزل عليه هذا القرآن لتصدع وتفطر فعلى ظاهره، وفي هذا أن الجمادات لها إحساس يعلمه الله جل وعلا وإن كنا لا نعرفه نحن، فهي تسبح لله وتخاف الله، وقد أخبر جل وعلا: أن بعض قلوب بني آدم تكون أشد قساوة من الحجارة، وبين أن الحجارة منها ما يتصدع ويخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله، والهبوط هو الخضوع والذل حقيقةً. وفي هذه الآية يخبر أنه لو نزل هذا القرآن على جبل يعني: لو خوطب الجبل به لخشع وتصدع من خشية الله، وإن كان من حجارة قاسية، ولكن كثيراً من الناس لا تتأثر قلوبهم بهذا القرآن، وهذا يدل على أن التصدع والخشوع والتسبيح أمر محسوس يعلمه الله ويسمعه، وأما خلقه فإنه يسمعهم ما يشاء من ذلك، وقد علم أن الطعام كان يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه سلم، والحصى سبح بين يديه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي يقول: السلام عليك يا رسول الله) ، ومن الأمور المشهورة أنه لما كان يخطب صلوات الله وسلامه عليه على جذع نخلة يابس في مسجده، ثم أمر أن يصنع له منبر من الخشب، فلما صنع له ترك الجذع، فأول ما قام يخطب على المنبر صار ذلك الجذع يحن كحنين الناقة العشراء إذا فقدت ولدها، وسمعه كل أهل المسجد حتى نزل من على المنبر والتزمه فصار يهدؤه حتى انخفض صوته مثل الطفل حتى يبكي فتلتزمه أمه، وهذا أمر حقيقي، وقد أخبر الله جل وعلا أن كل شيء يسبح بحمده ولكن الناس لا يفقهون تسبيحه. إذاً: فهذا على ظاهره، وهذا هو الواجب: أن يحمل الكلام على ظاهره إذا لم يأت دليل يمنع ذلك، ولا دليل هنا إلا العقل الذي لا ضابط له، فكل يدعي أن العقل معه.

الرد على من قال: إن كلام الله معنى واحد

الرد على من قال: إن كلام الله معنى واحد قال رحمه الله: [وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101]] . المقصود بهذا الرد على الذين يقولون: إن كلام الله معنىً واحد، وأنه لا يبدل ولا يغير ولا ينسخ ولا يرفع منه شيء، ولا يكون منه شيء بدل شيء؛ لأنه معنى واحد، أراد المؤلف بهذا الرد على هذه الفرية، وفي قولهم هذا تعجيز لله جل وعلا، وكأنهم يدعون أنهم أكمل من الله تعالى، مع أنهم لا يقبلون أن يقال: إنكم تعجزون الله جل وعلا أن يتكلم، ولكن هذا هو الواقع حيث جعلوه جل وعلا: غير مخاطب وغير متكلم وغير منزل قوله! ثم من المعلوم أن هذا يلزم منه ألا يكون الرب جل وعلا أرسل أحداً، بل ولا خلق شيئاً، بل ولا يقدر على شيء؛ لأن خلقه يكون بقوله إذا أرد شيئاً: (كن) فيكون تعالى الله وتقدس، فنفي ذلك إنكار لصفات الكمال لله جل وعلا؛ وذلك لأن الكلام هو الأصل في هذا، ومن ينكر الكلام يلزمه أن ينكر الرسالة؛ لأن رسالة الله جل وعلا لعبارة عن أمره عباده ونهيه لهم، وتشريعه لهم فمن أنكر ذلك لزمه إنكار الرسالة. وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] ، هذا الإنزال مقيد بأنه من الله، وهذا خاص بالقرآن الذي نزل من الله قولاً وقوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] ، يعني: أن الهدى في القرآن، ومن اهتدى فإنما يهتدي بالوحي الذي أوحاه الله، وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ} [سبأ:50] فإذا كانت هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحاه الله إليه فغيره لا يمكن أن يهتدي إلا بالقرآن الذي أنزله الله تعالى، وهذا معناه: أنه لا يجوز للمسلم أن يعبد الله بغير شرع الله جل وعلا، وقوله: {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] ، البشرى: بضم الباء ما يعطاه المبشر، والبشارة مأخوذة من البشرة، والناس يسمون بشراً؛ لأن أبشارهم بارزة ليس فيها شعور تغطيها كالبهائم؛ فسموا بشراً لذلك، وإذا بشر الإنسان فإن أثر البشارة يظهر على وجهه، والبشارة إذا أطلقت فالغالب أنها تكون في الخير، أما إذا كانت في الشر فإنها تقيد. وقد جعل الله جل وعلا هذا القرآن بشرى للمسلمين؛ وذلك لأن فيه: وعد الله بالجنة لهم، ووعده لهم بالنصر والتأييد والظهور في الدنيا إذا تمسكوا بهذا القرآن، والمسلم هو المنقاد للأمر، المستسلم لله جل وعلا، الذي ليس عنده اعتراض أو إباء وامتناع، بل هو منقاد مستسلم راغب في أمر الله، هذا هو المسلم حقيقةً، ومن كان بهذه المثابة فهو مبشر بالنصر والظهور في الدنيا، ومبشر بالجنة بعد الموت. وقال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] وفي هذا قصة وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم -قبل الوحي- كان يجلس إلى رجل أعجمي، فلما جاء بهذا القرآن قالوا: إن ذلك الرجل الأعجمي هو الذي علمه هذا القرآن! كيف أعجمي ويعلمه القرآن العربي المبين الفصيح؟! فهذا من الافتراء ومن الكذب الذي يدركه كل أحد. هذه الأدلة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى يقرر فيها: أن الله جل وعلا يتكلم، وأن كلامه يسمى حديثاً، ويسمى كلاماً، وأنه أنزل كلامه، وإذا كان كلامه منزلاً على رسوله فلابد أن يكون مسموعاً مقروءاً، ولابد أن يكون بالحروف والصوت، وكذلك لا فرق بين كونه يسمى كلاماً أو كتاباً أو أنه تنزيل من رب العالمين أو غير ذلك مما وصفه الله جل وعلا به، وأما التفريق بين ذلك فهو تفريق أهل البدع، وهو تفريق باطل.

مذاهب الناس في صفة الكلام

مذاهب الناس في صفة الكلام اختلف الناس في مسألة الكلام اختلافاً كثيراً، ولكن الموجود الآن من المذاهب هو الذي ينبغي أن يبين، فمن الأقوال المخالفة مخالفة صريحة وظاهرة، إنكار صفة الكلام، وإنكار كونه نزل من السماء إلى آخر أقوالهم الشنيعة التي يلزم منها إنكار وجود الله جل وعلا، وهذا معلوم بطلانها، ولا أحد من المسلمين يلتفت إلى مثل هذه الأقوال، ولكن قد يشتبه على بعض الناس إذا سمع من يقرر المذهب الباطل ويذكر بعض الشبه؛ ولذلك وجب التنبيه، فنذكر المذاهب المشهورة المعروفة:

مذهب الجهمية والمعتزلة

مذهب الجهمية والمعتزلة المذهب الأول: مذهب الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، ولا يجوز أن يتكلم الله جل وعلا بكلام يسمع؛ وذلك لأن الكلام الذي يسمع ويقال يلزم منه أن يكون حالاً في المحل الذي يتكلم به، ومن المعلوم أن الكلام حروف متعاقبة، والتعاقب يحتاج إلى زمن، ويكون هذا بعد هذا، فإذا قلت: باسم الله، فإن الباء قبل السين، والسين قبل الميم، والقبلية والبعدية زمن، والزمن يكون محلاً للحوادث، فهذه حوادث، والله ليس محلاً للحوادث، هكذا يقولون، وهذه حججهم في نفي كلام الله جل وعلا.

مذهب الكلابية والأشاعرة

مذهب الكلابية والأشاعرة القول الثاني: أن كلام الله جل وعلا معنى قائم في نفسه، ولكنه أربعة أمور: الخبر والاستفهام والأمر والنهي، وهذا قول ابن كلاب ومن تبعه، وأما القرآن الذي بين أيدينا فهو حكاية عن هذا المعنى وعن هذه الأمور الأربعة، ومذهب ابن كلاب قد انقرض، ولكن تبعه الأشاعرة إلا أنهم غيروا شيئاً من ذلك وقالوا: إنه لا يكون أربعة، ولكنه معنى واحد؛ ولا يكون حكاية، ولكنه عبارة؛ لأن الحكاية تحاكي المحكي وتمثله، فلا يجوز أن نقول: إن القرآن حكاية عن كلام الله، ولكن نقول: إنه عبارة عن كلام الله! والمعبر إما جبريل أو محمد صلوات الله وسلامه عليه! ويلزم على هذا القول أن الله جل وعلا لا يستطيع أن يتكلم، فعلم جبريل ما في نفس الله فعبر عما في نفسه! وهم يقولون: ما علم جبريل ولكن الله أعلمه بما في نفسه فعبر عنه! وموسى عليه السلام لما سمع الكلام ما سمع من الله -على قولهم- وإنما سمع كلاماً خلق إما في الشجرة أو في الهواء! ويلزم من هذا أن الشجرة هي التي قالت: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، وهذا كفر بالله جل وعلا. ثم إنهم قالوا: الدليل على هذا: أن الله جل وعلا لا يجوز أن يكون مشابهاً لخلقه، والتشبيه كفر بالله، فإذا وصف الإنسان ربه جل وعلا بأنه مثل المخلوق فهذا كفر، فلا يجوز أن نقول بشيء يدل على التشبيه، ولو قلنا بالكلام الحقيقي للزم من ذلك التشبيه، كيف يلزم؟ يقولون: الكلام يتطلب لساناً، ويتطلب شفتين، ويتطلب لهوات وحبالاً صوتية، ويتطلب زمناً بعد زمن ليكون الكلام متعاقباً، وهذا كله تشبيه لله جل وعلا بالمخلوق. هذا دليلهم، وأيدوه بقوله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] جاء هذا في آيتين من كتاب الله: في آية الحاقة، وفي آية التكوير، فهذا نص في أن القرآن قول الرسول، فإذا كان قول الرسول فلا يمكن أن يكون قول الله تعالى، هذا أهم ما استدلوا به، واستدلوا بأشياء أخرى منها: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فجعل الذي في النفس غير الكلام، وكذلك قول عمر رضي الله عنه: (زورت في نفسي كلاماً كنت أريد أن أتكلم به يوم السقيفة) ، قالوا: إذاً: يصح أن نسمي ما في النفس كلاماً وحديثاً فصح قولنا: إن كلام الله جل وعلا ما قام في نفسه، وسلمنا من التشبيه، وأثبتنا الكلام لله جل وعلا على هذا الوضع! هذا خلاصة قولهم واستدلالهم. والجواب عن هذا: أولاً: مذهب المعتزلة والجهمية يقولون: إن كلام الله مخلوق، وهذا واضح وصريح ولا إشكال في رده وفي كفره. ثانياً: الكلام ينقسم عند الأشاعرة إلى قسمين: الأول: كلام هو المعنى الذي يقوم بالنفس، وهذا هو كلام الله، ولا يجوز أن يكون مخلوقاً. القسم الثاني: كلام يكون ملفوظاً ومكتوباً ومنطوقاً به وهذا مخلوق؛ لأن هذا هو كلام البشر وليس كلام الله جل وعلا، إذاًَ: فهؤلاء يفرقون بين المعنى واللفظ، فالمعنى -عندهم- هو كلام الله، أما اللفظ فليس هو كلام الله.

مذهب أهل السنة

مذهب أهل السنة المذهب الثالث: مذهب أهل السنة والحق، وهو: أن مسمى الكلام يدخل فيه المعنى واللفظ، وأن كلام الله كلام حقيقي يتكلم متى شاء إذا شاء، ويكلم من يشاء، ولم يزل متكلماً بما يشاء، ولم يكن في وقت من الأوقات لا يستطيع الكلام ثم حدث له الكلام تعالى وتقدس، بل يتكلم بما يشاء في الأزل، وجنس كلامه تعالى ونوعه أزلي؛ لأنه من صفاته الأزلية، أما أفراده فهي تتجدد وتحدث بعد أن لم تكن بمعنى: أنه إذا شاء أن يكلم أحداً كلمه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة) ، ويقول جل وعلا: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ، فحدث الله هو أمره وقوله وفعله، وهذا لا حصر له، وهذا هو القول الحق الذي يجب أن يعتقد، ولا فرق بين كتاب الله وقول الله والقرآن والنزول، وإذا شاء الله جل وعلا أن يبدله بدله بالنسخ ورفع بعضه وأنزل غيره، والقرآن يمكن تحريفه من قبل المحرفين ولكن الله تولى حفظ هذا القرآن بنفسه، فأصبح محفوظاً لا يستطيع أحد أن يبدله، وإلا فقد بدلت التوراة والإنجيل، وكونه يجوز عليه التبديل يدل على أنه غير مخلوق؛ لأن خلق الله لا يبدل.

الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن

الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن قول المعتزلة والجهمية ظاهر البطلان، ولا حاجة إلى التكلف في رد ذلك والاستدلال على بطلانه؛ لأنه معلوم أن من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله جل وعلا؛ لأنه يجعل صفة من صفات الله تعالى مخلوقة، وإذا كانت صفة من صفاته مخلوقة فيلزم من ذلك أن الله جل وعلا مخلوق تعالى الله وتقدس، وهذا كفر لا إشكال فيه؛ ولهذا نص العلماء على أن من قال: إن كلام الله مخلوق فإنه كافر، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان في المقبرة في جنازة تبعها، فقال رجل: اللهم رب القرآن اغفر له، فقال: مه! القرآن كلام الله وليس مربوباً؛ لأن المربوب مخلوق، ولكن يقال: الذي تكلم بالقرآن ويقال: بالقرآن اغفر لي أو اغفر له، فيسأل الله به ويقسم به؛ لأنه صفة من صفاته جل وعلا، ذكر فيه الأوامر والنواهي والأخبار التي يخبر بها سواء كانت في الماضي أو في المستقبل، وفيه أنه يخاطب من يشاء ويقول ما يشاء كما قال جل وعلا: (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم) متى قال هذا؟ هل قال هذا القول قبل أن يوجد آدم وقبل أن توجد الملائكة؟! وأخبر الله جل وعلا أنه خاطب الملائكة وسمعوا قوله فسجدوا إلا إبليس أبى، ثم إن الله كلم إبليس وخاطبه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وصارت محاورة، والأدلة على هذا لا حصر لها كثيرة جداً، فنقول: إن بطلان هذا المذهب ظاهر جداً؛ ولهذا نص العلماء على كفر من قال به لظهور بطلانه وللأدلة الكثيرة التي إنكارها إنكار للضروري.

الرد على الأشاعرة القائلين: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس

الرد على الأشاعرة القائلين: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس أهل المذهب الذي يقول: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، استدلوا باستدلال باطل، والاستدلال الذي اشتركوا فيه مع الجهمية والمعتزلة هو: أن إثبات الكلام يلزم منه أن يكون الرب جل وعلا محلاً للحوادث، نقول: الحوادث وحلول الحوادث من الكلام المجمل الذي قد يراد به حقاً، ويراد به باطلاً، فلا يجوز أن نقبله ونسلم به ولا أن نرده مطلقاً، بل إذا قالوا: إنه يدل على أن الله يكون محلاً للحوادث، قلنا: ماذا تقصدون بالحوادث؟ هل تقصدون بالحوادث أن شيئاً من المخلوقات يحل في ذات الله جل وعلا؟ فهذا لا يجوز أن يقال، ومن قال ذلك فهو كافر، أما إذا قصدتم بالحوادث: قوله وأمره ونهيه، وأنه يفعل ما يشاء، فهذا حق ولا يضير الحق أن تسموه حوادث، فنحن نثبت ذلك ولكن ننفي هذا الاسم؛ لأنه يوهم باطلاً ونقول: إن الله يفعل ويقول ويخلق ويأمر، وذلك يتعلق بمشيئته، وليس ربنا جل وعلا محلاً للحوادث، أما تسميتكم للصفة حوادث فهي تسمية باطلة. هذا الجواب المجمل. وأما قولهم: إنه يلزم منه التعاقب في الزمن والحروف، والتعاقب هذا لابد أن يكون في زمن، نقول: الأمر كذلك فإن الله يتكلم، ويقول، وقوله أنزله علينا، فنقول: إن الحروف متعاقبة، وهذا من الكمال وليس من النقص، وقد عاب الله جل وعلا على المشركين أنهم يعبدون ما لا يسمع لهم قولاً، ولا يكلمهم، ولا يرد عليهم جوابه؛ لأن المتعين أن يكون المعبود سميعاً بصيراً قادراً على نفع عابده وضره إذا لم يعبده، وهذه الأصنام لا تستطيع شيئاً من ذلك، ثم إنه بإجماع العقلاء: أن الذي يتكلم أكمل مِن مَنْ لا يتكلم، والكمال الذي في الإنسان ليس من نفسه ولا من والده أو والدته وإنما هو من الله ولا يمكن أن يكون واهب الكمال عادماً له، بل هو أولى بالكمال كما قال جل وعلا لما ذكر أنهم ينزهون أنفسهم عن البنت وأنهم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] وهم يضيفون البنت لله، ولله المثل الأعلى والمقصود: أنه يجب أن يكون لله الكمال المطلق من كل شيء، فكيف تنزهون أنفسكم عن شيء وتضيفونه إلى الله تعالى؟! تعالى الله وتقدس، وأما قولهم: إن الكلام يتطلب أن يكون من لسان وكذا وكذا إلى آخره فنقول: هذا كلام باطل، وهذا في الواقع منشؤه التشبيه الذي هو مستكن في نفوسهم ولكنهم لا ينطقون به، فحملهم التشبيه المستكن في نفوسهم على نفي الكلام؛ ولهذا ذكروا الشيء الذي يكون منهم، فاللسان والشفتان واللهوات والحبال الصوتية وما أشبه ذلك؛ صفة المخلوق، والله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولا يجوز أن نصف الله جل وعلا بصفات المخلوق فمن قال: إن كلام الله يلزم منه ذلك فهو مبطل؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته، فاللوازم التي تلزم المخلوق غير لازمة لله جل وعلا، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن أشياء كثيرة تتكلم، ونحن لا نعرف لها لساناً ولا لهات ولا شيء، فالحجارة تهبط من خشية الله، والجبل يتصدع، وكل شيء يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحهم، والجذع حن أمام الناس وشهدوا بذلك، وسمعوا له صوتاً، فمن أين خرج الصوت؟! هل خرج من فم فيه أسنان وفيه لسان وشفتان؟! كلا ليس له شيء من ذلك، وكذلك الحجر الذي كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له لسان ولا شفتان، ويقول الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:20-23] . هذا كلام الله يخبرنا أن الجلود والأسماع والأبصار والأعضاء تتكلم، فهل الجلد له فم ولسان وشفتان؟! فإذا أمكن أن يتكلم المخلوق وليس له فم ولا لسان إلخ، فكيف يمتنع الكلام على الخالق البصير العظيم إلا بهذه اللوازم الباطلة؟! وبهذا يتبين بطلان هذا القول. أما قولهم: إن الكلام معنى قائم بالنفس. فنقول: هذا المعنى الواحد هل سمعه موسى كله؟ فيكون قد سمع كل كلام الله! لأنهم قالوا: كلام الله لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو معنى واحد! فيلزمهم أن موسى سمع جميع كلام الله هذا شيء، الشيء الثاني: أن الله جل وعلا يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، أرأيتم أن الله جل وعلا يتحدى الناس بالشيء الذي في نفسه ولا يعرفه الخلق! هل يمكن هذا؟! كل يعلم أن هذا من أمحل المحال، وإنما تحداهم بالشيء المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (لا يأتون بمثله) أي: بمثل الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرد على قولهم: إن القرآن كلام الرسول وليس كلام الله

الرد على قولهم: إن القرآن كلام الرسول وليس كلام الله قال الأشاعرة: إن القرآن دل على أنه كلام الرسول كما في قوله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:40-43] . هذه واحدة والأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] . استدلوا بهذه الآيات وقالوا: إنه قول الرسول؛ لأنه أضيف إليه. وA الإضافة هنا لأن الرسول هو الذي بلغه، لا أنه ابتدأه، ويدل على ذلك: أنه أضافه مرة إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله جل وعلا {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40-41] . ومرة أضافه إلى الرسول الملكي كما في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] فالمراد هنا: الرسول الملكي، وأضاف القول إليه؛ لأنه بلغه، أما القائل حقيقة فهو الذي ابتدأ القول وهو الله جل وعلا؛ ولهذا قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] ، وليس في كلام الله تناقض، فكل إضافة بحسبها، فتارة إضافة تبليغ، وتارة إضافة إلى قائله، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فإياكم وإياهم فإنهم الذين عناهم الله جل وعلا) ، فتعلقهم ببعض النصوص المتشابهه وتركهم النصوص المحكمة يُعدّ زيغاً وفتنة، وهكذا أهل الباطل يتعلقون بالمتشابه ويتركون الشيء الواضح الجلي، مع أن هذا ليس فيه إشكال، فإنما أضيف للرسول؛ لأنه أداه مبلغاً عن المرسل، ومعلوم أن الرسول يؤدي الرسالة ولا يأتي بشيء من عند نفسه، وكل من نقل كلاماً لغيره فإن ذلك النقل وذلك التبليغ لا يخرج الكلام عن كونه كلاماً لقائله الذي ابتدأه وأنشأه.

العقل لا يستقل بمعرفة صفات الله جل وعلا وسبب ذلك

العقل لا يستقل بمعرفة صفات الله جل وعلا وسبب ذلك إن كلامه جل وعلا كصفاته الأخرى يجب أن تثبت لله جل وعلا كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تأويلها بالتأويلات التي تخرجها عن المعنى المراد، كما لا يجوز نفيها وتعطيلها، أو جعلها مشابهة لصفات المخلوقين. والأصل الذي بني عليه الإيمان بالله جل وعلا وبصفاته هو ما جاء من قوله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، أما النظريات وما يسمونه بالبراهين العقلية فهذا لا يلتفت إليه إذا خالف الوحي، وقد سبق بيان أن العلة في ذلك لشيئين: أحدهما: أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ومعلوم أن العقل يقيس الغائب بالشاهد، فإذا لم يكن لدى العقل شيء يقيس عليه فإنه لا يستطيع أن يصل إلى الحق في هذا. الأمر الثاني: أن الله جل وعلا غيب لم يشاهده أحد حتى يمكن أن يصفه، فصار المرجع في هذا قوله جل وعلا وقول رسله الذين جاءوا بالوحي.

قواعد مهمة في صفة الكلام

قواعد مهمة في صفة الكلام

كلام الله صوت وحرف

كلام الله صوت وحرف الآيات التي ذكر المؤلف اشتملت على أمور منها: الأمر الأول: أن الله يتكلم كلاماً حقيقياً، وأن كلامه بحروف وأصوات، إلا أنها لا تشابه أصوات المخلوقين فإنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .

لا فرق بين كتاب الله وكلام الله

لا فرق بين كتاب الله وكلام الله الأمر الثاني: أنه لا فرق بين القرآن والكتاب، فكلام الله وكتاب الله لا فرق بينهما عند أهل السنة، والذين فرقوا في هذا أهل الباطل، فجعلوا الكتاب مخلوقاً منفصلاً عن الله جل وعلا، وأما الكلام عندهم فهو: المعنى الواحد القائم بذات الرب جل وعلا، والقرآن عبارة عن المعنى القائم بذات الله، وهذا باطل حتى إن العقل يستبعده.

الكلام ينسب إلى قائله الذي أنشأه ولا يجوز أن ينسب إلى من بلغه

الكلام ينسب إلى قائله الذي أنشأه ولا يجوز أن ينسب إلى من بلغه الأمر الثالث: أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً منشئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، وأما قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] . وكذله قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] . فهي نسبة بلاغ، ومن المعلوم أن الرسول يبلغ ما أرسل به؛ ولهذا يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] ، فلو كان القرآن من كلام الرسول فلا يصح أن يسمى الرسول مبلغاً، بل هو منشئ ومبتدئ؛ لأنه تكلم بكلامه هو لا بكلام غيره، فهذه الآية تدل على بطلان قولهم. ثم إن النسبة قد اختلفت، ففي الآية الأولى نسبه إلى الرسول البشري فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40-41] ، فالمراد بالرسول هنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ومن المعلوم أن هذا القرآن ليس من قوله وإنما هو قول الله جل وعلا، وفي الآية الثانية قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] فنسبه هنا إلى الرسول الملكي الذي هو جبريل عليه السلام، فلو كان قول واحد منهما ما صح أن ينسب إلى الثاني، فدل ذلك على أن نسبته إلى الرسولين البشري والملكي إنما هي نسبة بلاغ، فالرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى أمته ويوضح هذا: أن الله جل وعلا حكم على الذي قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] أنه سيصليه سقر، فلو كانت نسبته إلى الرسول صحيحة لكان قول هذا المشرك حقاً، ولكن لما قال الله جل وعلا {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] دل على أن هذا القول كفر، وأن نسبته إلى البشر كفر. قال الله بعد هذه الآية: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40-42] ثم قال بعد ذلك: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] ثم قال بعده: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] ، فدل هذا على أنه قول رب العالمين، وأن نسبته إلى الرسول نسبة إبلاغ وبيان لمن أمر أن يبلغه، فبطل بذلك تعلق أهل البدع بهذه الآية، وأن تعلقهم بها مجرد شبهة وتغبير في وجه الحق ولكن الحق واضح.

الفرق بين التلاوة والمتلو والقراءة والمقروء

الفرق بين التلاوة والمتلو والقراءة والمقروء مسألة: التلاوة والمتلو واللفظ والملفوظ والقراءة والمقروء، والتمييز بين فعل العبد وبين صفة الرب جل وعلا فإن هذا مما التبس على كثير من الناس، وزاد الأمر التباساً كون هذا فيه اشتباه، والأمر المشتبه لا يجوز إطلاقه إلا بالبيان والتمييز حتى لا يقع الإنسان في الخطأ؛ ولهذا جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع) ولما كان هذا يخفى على كثير من الناس فقد أنكر بعضهم هذا القول عن الإمام أحمد، مثل الإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتابه (اللفظ) فإنه قال: هذا لا يصدر عن الإمام أحمد وإنما قال هذا؛ لأنه خفي عليه مراد الإمام أحمد، وإلا فهذا ثابت من طرق صحيحة منقولة عن الإمام أحمد، بل مشهور جداً عنه، ومن ذلك ما وقع للإمام البخاري رحمه الله فإنه ابتلي بهذه المسألة، ولكن ما وقع له خالطه شيء من الحسد له، فحينما سئل عن اللفظ وعن التلاوة قال: القرآن كلام الله، وألفاظ العباد مخلوقة، فاشتبه الأمر -وكان قد برز علمه في ذلك الوقت فحُسد حتى من بعض مشايخه- فقالوا: إنه خالف قول الإمام أحمد، فالإمام أحمد يقول: اللفظية أشر من الجهمية. فأوذي وأخرج من بلده بسبب ذلك، والقصة معروفة ثم إنه رحمه الله ألف كتابه خلق أفعال العباد، وكله يدور على هذه المسألة، فكرر القول فيه وبينه ووضحه، وكذلك في آخر كتابه الصحيح أيضاً ذكر ألفاظاً عدة في هذا المعنى. والمقصود: أن هذه المعاني قد تلتبس على بعض الناس، والواجب التمييز بين ما هو صفة لله جل وعلا وبين ما هو فعل للمخلوق، فإذا قيل: لفظي، فهذا يحتمل شيئين: يحتمل أنه يقصد الشيء الذي يتلفظ به، ويحتمل أنه يقصد حركات لسانه وشفتيه والصوت الذي يخرج منه، فيحتمل هذا وهذا، فلما كان الأمر محتملاً لما هو حق ولما هو باطل منع الإطلاق على أنه مخلوق أو غير مخلوق؛ لأنه على أي وجه قاله فإنه يحتمل الخطأ، سواء قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فإن قال: لفظي بالقرآن مخلوق وسكت، فهذا يحتمل أنه قصد الشيء الذي يلفظ به ويسمع، وهذا كلام الله ولا يجوز أن يكون مخلوقاً، ويحتمل أنه أراد حركة لسانه وحركة شفتيه وصوته وهذا مخلوق، وإذا قال: غير مخلوق، صار مبتدعاً حيث جعل كلامه غير مخلوق، فتبين بهذا أنه لابد من الإيضاح. أما الأشاعرة فإنهم يقولون: اللفظ مخلوق، والملفوظ به مخلوق، أما الكلام فهو المعنى الذي يقوم بالذات، وهذا الملفوظ الذي يتلفظ به هو عبارة عنه فهو مخلوق، وهذا على أصلهم وهو: أن الكلام معنى واحد يقوم بذات الرب جل وعلا، وأنه يمتنع عليه الصوت والحرف فضلاً عن النطق والإسماع بذلك، على هذا بني مذهبهم، وما بني على باطل فهو باطل، أما أهل الحق فإنهم يقولون: إذا قرأ الإنسان كلام الله فالكلام كلام الباري، ولكن الصوت صوت القاري، يعني: حركة لسانه وصوته الذي يسمع وينطق به شيء مخلوق، أما المصوت به المقروء المسموع منه فهو كلام الله جل وعلا، ولهذا جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، وقال: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، فجعل الصوت للقارئ، والمصوت به هو القرآن المتلو وهو كلام الله.

لا يجوز إطلاق الألفاظ المجملة في صفات الله

لا يجوز إطلاق الألفاظ المجملة في صفات الله لا يجوز إطلاق الألفاظ المجملة في صفات الله جل وعلا، مثل: لفظ الجهة أو لفظ الحيز أو لفظ العرض أو الجسم وما أشبه ذلك، فإن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حق وتحتمل باطل، وإذا كانت ما جاءت في الكتاب والسنة فيجب أن تبين وتفصل، فإذا تبين أن مراد القائل لهذه الأمور حق قبل الحق ورد الباطل، وقيل له: يجب أن تعبر عن المعاني الصحيحة بالألفاظ الشرعية التي جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الألفاظ المبتدعة فلا يجوز استعمالها في هذا، أما إذا تبين أنه يريد باطلاً فيقال له: اللفظ والمعنى مردود. مثال ذلك: إذا قال: إن الله في جهة، أو قال: إنه ليس في جهة، نقول: هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل: ماذا تريد بأن الله في جهة؟ فإن قال: أريد أن الله في العلو، وأنه عال على خلقه، ومستو على عرشه. نقول: هذا المعنى صحيح ومقبول، ولكن يجب أن تعبر عن ذلك بالعبارات التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله: بأن الله فوق، وأنه في السماء، وأنه استوى على العرش، وما أشبه ذلك، وإن قال: أريد أن الله في جهة تحويه أو تحيط به. نقول: هذا باطل لفظاً ومعنى، ومثل الجهة الحيز، فإذا قال: إن الله في حيز أو ليس في حيز. وكذلك كلمة العرض أو الجوهر إذا قال: إن الله ليس بعرض، أو إن الله ليس بجوهر، فمن المعلوم عند المتكلمين أن العرض: هو الذي لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره، وأما الجوهر: فهو القائم بنفسه ويرى، العرض مثل: العلم والألوان وما أشبه ذلك التي لابد أن تقوم بغيرها، فإذا قال هذا، نقول: ما مرادك؟ فإن قال: أريد بهذا أنه جل وعلا منزه عن العوارض التي تعرض للناس أو تحل بهم من النقائص، نقول: هذا حق، ولكن التعبير عن هذا يكون بالعبارات الشرعية كقوله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] وما أشبه ذلك، فإنه لا ند له، ولا مثل له، ولا سمي له، ولا نظير له، فهذه العبارات هي التي يجب أن تعبر بها، أما هذه العبارة فخطأ، وإن قال: أريد أن أنفي عنه الشيء الذي يدل على أنه جسم مثل الكلام والسمع وما أشبه ذلك؛ لأننا لا نعقل شيئاً تقوم به هذه الأمور إلا الأجسام، فنقول: هذا الكلام باطل لفظاً ومعنى. وهكذا بقية الألفاظ المجملة يسلك فيها هذا المسلك، وهذه طريقة أهل السنة.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على استدلال أهل البدع بقوله تعالى: (وما يأتيهم محدث)

الرد على استدلال أهل البدع بقوله تعالى: (وما يأتيهم محدث) Q استدل أهل البدع بقوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (الظن أكذب الحديث) فما وجه الاستدلال بالآية والحديث؟ وما الرد عليهم؟ A بالعكس، هذا استدل به أهل السنة، وهو قول الله جل وعلا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] ، وقد جاء في آيتين من كتاب الله، لكن الجهمية استدلوا به من طريق آخر وهو أن المحدث مخلوق، وهذا باطل؛ لأن المقصود بالمحدث: الجديد، ولا يشترط أن يكون مخلوقاً، وقد قال ابن عباس: (ما بالكم تسألون أهل الكتاب؟! وكتابكم أحدث شيء بالله، والله ما رأينا واحداً منهم أتى يسألنا) فهو محدث يعني: جديد؛ ولهذا قال أهل السنة: آحاد كلام الله يتجدد، وقد يقال: حادث، يعني: جديد، وأما جنسه ونوعه فهو قديم أزلي؛ لأنه صفة من صفات الذات الأزلية.

الرد على قولهم: إن كلام الله إذا عبر بالعبرية فهو قرآن وإذا عبر بالسريانية فهو إنجيل

الرد على قولهم: إن كلام الله إذا عبر بالعبرية فهو قرآن وإذا عبر بالسريانية فهو إنجيل Q نرجو التوضيح لما جاء في أثناء الدرس في قول من يقول: إن القرآن كلام الله، وإذا عبر بالسريانية فإنه إنجيل، وإذا عبر بالعبرية فهو توراة، وهل هذا الصواب؟ A هذا الكلام كلام أهل البدع كالأشعرية، فإنهم يقولون: إن كلام الله معنىً واحد قائم بنفسه لا يتجزأ ولا يتعدد، أما القرآن والإنجيل والتوراة والزبور وسائر الكتب المنزلة فإنها عبارة عن كلام الله وليست هي كلام الله، وبما أنهم قالوا: إن الكلام معنى واحد لا يتجزأ قالوا: إذا عبر عنه باللغة العربية صار قرآن -عن هذا المعنى الواحد- وإذا عبر عنه باللغة السريانية صار إنجيلاً، وإذا عبر عنه بالعبرية صار توراة، وهكذا، وهذا كله فرع عن المذهب الباطل، وهو باطل لا يدل عليه شيء من الأدلة الشرعية، ولا من العقل ولا من الفطر، بل جميع الأدلة تدل على بطلانه، وما أظنه يحتاج إلى تكلف في الاستدلال على بطلانه؛ لظهور بطلانه فتصوره يكفي في إبطاله.

فائدة تقسيم الإنزال إلى ثلاثة أقسام

فائدة تقسيم الإنزال إلى ثلاثة أقسام Q إذا قال قائل: الإنزال لا يلزم أن يكون من الله، بل قد يكون منزلاً بواسطة جبريل؛ فلهذا قال الله تعالى: (أنزلناه) يعني: بصيغة الجمع، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه} [ق:16] ، فما هو الجواب؟ A الإنزال الذي ذكره الله في القرآن ثلاثة أقسام: قسمان مقيدان: الأول: مقيد بأنه من عنده، والثاني: مقيد بأنه من السماء، والقسم الثالث: مطلق، وليس في القرآن إنزال غير هذه الأقسام، أما الذي من عنده فهو خاص بالقرآن الذي نزل به جبريل، وأما الذي من السماء فمنه المطر ومنه غيره، وأما المطلق فمثل إنزال الحديد وإنزال الأنعام، فإن الله أخبرنا أنه أنزل لنا ثمانية أزواج، من أين أنزلها؟ ليس في هذا قيد، وأخبر أنه أنزل الحديد: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] ، من أين نزل؟ هل قال: من السماء أو من عنده؟ لا. والمقصود بهذا التقسيم أن نبين أن القرآن نزل من عند الله جل وعلا؛ ولذلك فهو صفة من صفاته، والذي نزل به جبريل ليس فيه إشكال، فإن الله لم يكلم الناس بنفسه وإنما كلمهم بالوحي، والوحي يأتي به أمينه الذي هو جبريل.

القرآن نزل يقظة لا مناما

القرآن نزل يقظة لا مناماً Q يقول بعض العلماء في أقسام الوحي: إن القرآن كله نزل يقظةً ولم ينزل منه شيء مناماً، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً فكيف الجمع مع ما ورد في صحيح مسلم من نزول سورة الكوثر، عن أنس رضي الله عنه: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة) ، فهل المقصود بالإغفاءة سنة من النوم؟ A أولاً: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رؤيا الأنبياء وحي) ؛ ولهذا جاءت بعض الشرائع بالرؤيا التي رأى، وكذلك قص الله جل وعلا علينا قصة إبراهيم حينما أمر في المنام بذبح ابنه، وأراد تنفيذ ذلك، وأثنى الله عليه بهذا، فلو قدر أن هذا وقع فلا ضير في ذلك، ولكن الذي ذكره العلماء: أن القرآن نزل يقظةً لا مناماً، وهذا لا ينافي أن يكون صلى الله عليه وسلم قد رأى شيئاً أنزل عليه في المنام ثم نزل به جبريل، ومعلوم أن الوحي عدة أنواع، وأشدها أن ينزل عليه جبريل عندما يكون متيقظاً ثم يتغشاه الشيء الذي يثقل عليه جداً حتى إنه ليتصبب عرقاً في اليوم الشاتي من شدة ما يتغشاه، حتى إنه أحياناً إذا نزل عليه وهو راكب على راحلته ما تستطيع الراحلة أن تحمله فتبرك لثقل الوحي، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1-5] .

حكم الحلف بالمصحف

حكم الحلف بالمصحف Q قلت في الدرس الماضي: إنه يجوز الحلف بالمصحف، فما الدليل على ذلك؟ A لأن القرآن صفة من صفات الله، وليس المراد بالمصحف الورق والحبر، وإنما المراد: الكلام الذي فيه وهو كلام الله، والحلف يكون بالله أو بصفة من صفاته.

حفظ الله لكتابه من التحريف

حفظ الله لكتابه من التحريف Q ذكرتم أن القرآن لا يبدل كما بدلت الكتب السماوية قبل، فهل هو بصرف الناس عن ذلك أو إعجازاً في القرآن فلا يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ A ليس لأجل التحدي ولا بالصرف كما تقول المعتزلة، ولكن لأن الله حفظه، ولولا ذلك لأمكن تبديله كما بدلت التوراة والإنجيل قال الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فالله تولى حفظه، ومن حفظه: أن الأمة تحفظه: صغارها وكبارها، وكذلك هو محفوظ كتابة فلو حاول إنسان أن يغير شكلة في آية فأراد أن يجعل الرفع نصباً أو النصب خفضاً؛ فإنه لا يستطيع، ولرد عليه الصبيان الذين في المدارس وهذا من حفظ الله له، بخلاف الكتب السابقة فإن أهلها لم يحفظوها. والمقصود أن الكلام يمكن تبديله، والذي لا يمكن تبديله هو خلق الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] .

الانتحار كبيرة من الكبائر وليس كفرا

الانتحار كبيرة من الكبائر وليس كفراً Q انتحرت فتاة شابة بسبب أن والدها ضربها ضرباً مبرحاً وأهانها أمام الناس، فهل يجوز الترحم عليها وأداء العمرة عنها؟ وهل ينفعها ذلك؟ A يجوز أن يترحم عليها، ويعمل عنها عمرة، ويصلى عليها، والإثم على من حملها على ذلك، أما هي -وإن كانت متوعدة على هذا- لا تخرج من الدين الإسلامي، لكن إثم الذي حملها على ذلك أكبر من إثمها، نسأل الله العافية.

لا تبديل لخلق الله

لا تبديل لخلق الله Q قلتم حفظكم الله: إن الخلق لا يبدل بخلاف الكلام فإنه يبدل، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] ؟ A المقصود إنه إذا قال شيئاً فإنه لا يبدل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ، فهو لما أخبر أن جهنم ستمتلئ من الجن والإنس أجمعين فلا أحد يستطيع أن يبدل هذا فيجعل جهنم -مثلاً- تمتلئ من الحجارة فقط.

شرح العقيدة الواسطية [7]

شرح العقيدة الواسطية [7] مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من المسائل التي حصل فيها الاختلاف بين الناس، فنفاها قوم نفياً مطلقاً، وأثبتها قوم إثباتاً مطلقاً، حتى زعموا أنهم يرون الله في الدنيا، وقوم توسطوا في ذلك وساروا مع أدلة الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة، فقالوا: إن الله عز وجل يُرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا؛ لأن الخلق الدنيوي لا يحتمل رؤية الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله عز وجل قد جعل رؤيته من زيادة النعيم لأهل الجنة.

رؤية الله عز وجل يوم القيامة

رؤية الله عز وجل يوم القيامة يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقوله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، وقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، وهذا الباب في كتاب الله كثير، ومن تدبر القرآن طالباً للهدى منه؛ تبين له طريق الحق. ] .

ثبوت الرؤية في القرآن

ثبوت الرؤية في القرآن إن مسألة الرؤية -رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة- من المسائل العظام، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على وقوعها في الآخرة، وأما في الدنيا فإن النصوص جاءت بنفيها وأنها لا تقع في الدنيا. قوله: (وقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ) (يومئذ) : يعني: يوم القيامة، (ناضرة) يعني: بهية وجميلة، من النضرة والبهاء والحسن من النعيم الذي نالته ومنّ الله جل وعلا عليها به، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، ناظرة بأبصارها، تنظر إلى ربها، وهؤلاء هم المؤمنون الذين يمن الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، فإنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، وهذا لا يحتمل إلا هذا، أما تكلف المعتزلة وغيرهم بأن معنى ناظرة: منتظرة إلى ثواب الله؛ فهذا باطل فهم يقولون ناضرة إلى الآلاء وهي النعم، وناظرة: يعني منتظرة، وهذا تكلف محض لا يدل عليه وضع الكلام، ولا عقل ولا شرع، بل إن العقل والشرع يدلان على بطلانه، فهو تحريف لكلام الله جل وعلا. قوله: (وقوله جل وعلا: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ) الأرائك: جمع أريكة، والأريكة هي المجالس التي يتكئون عليها في الجنة، {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ، ينظرون إلى الله جل وعلا، فهذه الآية مثل الآية التي قبلها تدل على أن النظر إلى الله يكون في الجنة للمؤمنين. قوله: (وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] ) ، الإحسان هو: الإتيان بالعمل على أكمل وجه وأتمه، فهو أن يأتي الإنسان بالعبادة كأنه يرى الله كأنه يشاهده، ومعلوم أنه إذا كان بهذه المثابة فلابد أن يحسنها غاية الإحسان، فقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] ، الحسنى: هي الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، الزيادة: هي النظر إلى وجه الله جل وعلا، وهذه الآية صريحة؛ لأنه جعل الجنة ثواباً لإحسان العمل فلما عطف على الجنة الزيادة دل على أن الزيادة غير الجنة. أمر آخر يدل على أن المراد بالزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا، ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه الآية: (بأن الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا) ، فهذا تفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز مخالفته. قوله: (قوله جل وعلا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ) يعني: لهم ما يشاءون في الجنة من المآكل والمشارب وغيرها من سائر ما تشتهيه النفوس، وقوله: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ليس المزيد من جنس المآكل والمشارب، بل هو أمر آخر فوق ذلك، وهو النظر إلى الله جل وعلا؛ لأن النظر إلى الله هو أعلى نعيم أهل الجنة؛ ولذلك يقول الله في شأن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فهذا من العذاب، ولما حجب الأشقياء والكفرة دل بالمقابل على أن أهل الإيمان لا يحجبون عن الله جل وعلا.

ثبوت الرؤية في السنة المتواترة والآحاد

ثبوت الرؤية في السنة المتواترة والآحاد تقدم ذكر الآيات الدالة على الرؤية، وأما الأحاديث فسيأتي ذكر بعضها عندما يذكر المؤلف الصفات من السنة؛ لأنه أراد أن يبين أن أصل المسلم الذي يجب أن يرجع إليه هو كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا غير، أما ما يدعى من أن الأمور الاعتقادية لا يجوز الاعتماد فيها إلا على الأمور اليقينية القطعية، ثم يجعلون ما دلت عليه آراءهم وأنظارهم وأفكارهم القاصرة أموراً يقينية قطعية، وما دلت عليه النصوص أموراً ظنية! فالواقع أن الأمر عندهم معكوس تماماً، فإذا عكست القضية كانت هي الصواب كما هو مذهب أهل الحق. وأما نصوص السنة الدالة على إثبات الرؤية فكثيرة جداً، ومنها: حديث جرير البجلي رضي الله عنه -وهو ثابت ثبوتاً يكاد أن يكون متواتراً- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، ليس بينكم وبينه حجاب) ، ولو تكلف إنسان مهما أوتي من البلاغة والفصاحة أن يبين الرؤية التي يرى بها المؤمنون ربهم بأكثر مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع، فهي في غاية البيان، ومن خالف ما دل عليه هذا الحديث ونحوه فليس له عذر يعذر به، ويخشى عليه أن يحجب يوم القيامة؛ لأنه أنكر أمراً متواتراً وهو رؤية الله جل وعلا. والأحاديث في هذا كثيرة جداً ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله، أما الآيات القرآنية فذكر المؤلف بعضاً منها، وترك كثيراً مما يدل على الرؤية، وهي كثيرة جداً في كتاب الله، وليست محصورة في أربع آيات أو خمس بل قد يعسر على الإنسان استقصاؤها من كتاب الله جل وعلا، ولكن العلماء ذكروها إجمالاً، فكل آية فيها ذكر اللقاء فإنها تتضمن الرؤية كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، فملاقيه: تتضمن رؤية الله جل وعلا، ولكن هذه رؤية مجملة، وليست كالرؤية التي ذكرت في الآيات السابقة، وكذلك ما جاء في حديث عدي عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان) ، ولكن هذا اللقاء يحتمل أنه للنعيم، ويتضمن الجزاء والثواب ويحتمل أنه للمحاسبة؛ فقد يجازى الإنسان بعده بالعقاب، وقد يجازى بالثواب وأما الآيات التي نص عليها المؤلف فهي صريحة وواضحة لا إشكال فيها على أن الرؤية من أعلى نعيم أهل الجنة وهذا واضح وبين في كتاب الله وسنة رسوله، ومع ذلك فإن أهل البدع يخالفون في هذا.

أقسام الناس في مسألة الرؤية

أقسام الناس في مسألة الرؤية والناس في الجملة بالنسبة للرؤية أقسام ثلاثة طرفان ووسط: الطرف الأول: النفاة الذين نفوا الرؤية مطلقاً، وهم المعتزلة والجهمية ومن سار على نهجهم من الرافضة والخوارج وغيرهم، فإنهم نفوا الرؤية نفياً مطلقاً. الطرف الثاني: وهو يقابل الطرف الأول، من يثبتونها إثباتاً زائداً على الحق، ويقولون: إنه يُرى حتى في الدنيا، وهم كثير من الصوفية، ويقولون: إنا نشاهده في بعض الأحيان، والمشاهدة لا تقبل الإنكار، فنحن نشاهده مشاهدةً بأبصارنا، ونحن مقتنعون بذلك! ويقال لهم: نعم أنتم تشاهدون ربكم، ولكن الذي تشاهدونه ليس هو رب العالمين، ولكنه الشيطان، فهو ربكم يتمثل لكم ويغويكم في ذلك، أما رب العالمين فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، وكما قال الله جل وعلا في قصة كليمه موسى عليه السلام لما طلب من ربه أن يراه: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة وغير واقعة كما دل على ذلك الحديث صراحة. الطرف الثالث: أهل السنة الذين يقولون: إن رؤية الله ممكنة في الدنيا، ولكنها غير واقعة في الدنيا، وهي واقعة في الآخرة للمؤمنين في الجنة وفي الموقف، أما في الجنة فهم يتفاوتون في الرؤية؛ فمنهم من يرى ربه بكرةً وعشياً، مرتين في اليوم، ومن المعلوم أن أهل الجنة ليس عندهم شمس ولا ليل ولا نهار، وإنما نور الجنة من نور العرش، ونوره من نور الله جل وعلا، ولكنهم يعرفون مقدار اليوم والليلة، فيرون ربهم بكرة وعشياً؛ ولهذا في حديث جرير أنهم قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا؟ قال: (هل ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا قتر؟ قالوا: نعم، قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا قتر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاتين: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) ، قال العلماء: في هذا دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين يكون من جزائه رؤية الله جل وعلا في الجنة.

اختلاف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج

اختلاف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج اختلف الصحابة ومن بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، فجاء نفيه عن أكثر الصحابة، وجاء إثبات ذلك عن بعضهم مثل ابن عباس، والصواب أن ابن عباس جاء عنه شيء مجمل، فقد جاءت عنه روايتان: الأولى: أنه قال: رآه، يعني: رؤية مطلقة، والثانية: جاءت مقيدة فإن رآه بفؤاده، ومن المعلوم أنه إذا جاء نص فيه إطلاق وجاء نص أخر مقيد أن المطلق يحمل على المقيد. وأما عائشة رضي الله عنها فإنها نفته نفياً باتاً بل لما قال لها السائل: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، قالت: لقد تكلمت كلمة قف منها شعري! من قال لك: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب والله جل وعلا يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، ومن قال: إنه كتم شيئاً فقد كذب والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ، فأنكرت ذلك إنكاراً عاماً، والصواب في هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر (أنه قال: قلت: يا رسول الله! هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّى أراه؟!) وفي رواية: (رأيت نوراً) وفي رواية: (رأيت ناراً) ، وهذا نص صريح في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره. من الناس من إذا قيل له: إن صفات الله جل وعلا وأسماءه والتوحيد لم يقع فيه خلاف بين العلماء يعترض بمثل هذه المسألة، وهذا الاعتراض ليس في مكانه؛ لأن هذه مسألة فرعية في الصفات، ولو ثبتت لوجب القول بها، ولكنها لم تثبت فإذا لم تثبت فإنه لا يكون في ذلك خلاف، وأما الخلاف الذي وقع فقد ارتفع.

الأصل الذي بنى عليه نفاة الرؤية مذهبهم

الأصل الذي بنى عليه نفاة الرؤية مذهبهم الذين نفوا الرؤية يعتمدون -على زعمهم- أن الرؤية لا تقع إلا على جسم، وقالوا: لو أثبتنا الرؤية لأثبتنا أن الله جسم وهذا كفر، وإذا انتفى هذا ينتفي الملزوم فلازم الكفر كفر، فعلى هذا يكون عندهم القول بإثبات الرؤية كفر، وهكذا ينعكس الأمر عند من أراد الله جل وعلا فتنته، فيصبح الحق باطلاً والباطل حقاً {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ، وشابهوا الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات. ولذلك فإن أصل التعطيل هو التشبيه فهم عندما لم يفهموا ويعقلوا رؤية الله إلا بما فهموه من أنفسهم قالوا: إنها لا تقع إلا على شيء مقابل، والمقابل لابد أن يكون جسماً يصطدم به الشعاع الذي ينطلق من العين حتى إذا انعكس حصلت الرؤية، أما لو لم يكن هناك شيء يقابل الرائي فلا يمكن أن يرى شيئاً، هذا هو أصلهم الذي بنوا عليه نفي الرؤية، وقد سبق أن قلنا: إن كلمة جسم من الكلام المجمل الذي لا يجوز إثباته ولا نفيه، فإذا أراد بالجسم ما يعرفه به المتكلمون، فإنهم مختلفون في تعريف الجسم! ولكن الجسم في اللغة العربية: هو البدن، بدن الإنسان أو بدن الحيوان، وكذلك ما لم يكن حياً مثل الحصى وغيرها فهي أجسام، وهو كل شيء له مكان يشغله أما أهل الكلام فقد اختلفوا في تفسير الجسم، فمنهم من قال: الجسم كل ما شغل مكاناً، ومنهم من يقول: الجسم ما صح أن يقال: هو هنا أو هناك أو فوق أو تحت، ومنهم من قال: الجسم ما صحت الإشارة إليه، إلى غير ذلك من تفسيراتهم، وكلها باطلة، مع أنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم ولا نفيه على الله؛ لأنه إذا أطلق فقد يوهم باطلاً: قد يوهم أنه جسم كأجسام الخلق تعالى الله وتقدس، وإذا نفي فقد يوهم أن الله لم يقم بنفسه تعالى وتقدس. إذاً: فالمبنى الذي بُني عليه نفي الرؤية مبنى باطل، وما بني على باطل فهو باطل، ومع ذلك نقول: إن الواجب على العبد أن يعلم أن الله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، وأنه فوق المخلوقات كلها، وأنه تعالى يقبض السماوات كلها ويطويها بيده وتكون صغيرة بالنسبة إليه هذا أمر، الأمر الثاني: أنه يجب على العبد أن يؤمن بما قاله الله جل وعلا ولو لم يدركه عقله وكذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا حكم على قول الله وقول رسوله بعقله فهو ضال وتائه. ومن المعلوم منطقياً وعقلياً أنه لو وجد رجلان، واحد يؤمن بما قاله الله وما قاله الرسول: من أن الله يرى رؤيةً حقيقية إلخ، والآخر يقول: هذا كفر؛ لأنك إذا قلت ذلك لزمك أن تجعله جسماً، وإذا جعلته جسماً كفرت؛ لأن التجسيم كفر، ثم مضيا إلى الله جل وعلا كل على اعتقاده، فأوقفهم الله جل وعلا بين يديه، فقال الأول لما سأله ربه: يا رب! آمنت بقولك وبقول رسولك صلى الله عليه وسلم، واتبعت ذلك، وعلمت أنك خاطبتنا باللغة العربية التي نفهمهما، وهذا الذي أفهمه من اللغة، وقال الآخر: يا ربي! اعتمدت على عقلي وفكري، وتأولت قولك الذي قلته وقول رسولك الذي قاله، وأرجعتهما إلى عقلي، فدلني عقلي على أن هذا كفر، فأيهما أولى بالعذر وقبول الحجة الأول أم الثاني؟ لا شك أنه الأول، أما الثاني فلا حجة لديه، وليس معذوراً؛ لأنهما لم يكلفا بعقلهما، وإنما كلفا بكتاب الله جل وعلا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أدلة النفاة والرد عليهم

أدلة النفاة والرد عليهم احتج نفاة الرؤية بقول الله جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، وقالوا: إن (لن) في لغة العرب تدل على النفي المؤبد! وهذا كما يقول ابن القيم رحمه الله: كذب على اللغة العربية، فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، وقد جاء في القرآن ما يدل على خلاف ذلك، فإن الله جل وعلا ذكر عن اليهود أنهم لن يتمنون الموت أبداً، وزيادة على (لن) جاءت (أبداً) بعدها فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95] ، ولما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ، قيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت؛ لأن الذي هو حبيب لله جل وعلا وقريب إليه إذا مات يكون سعيداً سعادة لا تشبه سعادة الدنيا، فإذا كنتم صادقين فتمنوا الموت، فأخبر الله جل وعلا أنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني: بسبب ما عملوه، ثم أخبر في آية أخرى أنهم يتمنون الموت إذا كانوا في النار، فقال: {َوَنَادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، ليقض: يعني ليمتنا: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، فدل هذا على أن دعواهم أن (لن) تفيد التأبيد باطلة، ثم الآية تدل على عكس ما استدلوا به، وتدل على بطلان قولهم من وجوه: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل ربه الرؤية، وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً مستحيلاً، ولا يسأل شيئاً غير ممكن، وهذا يتنزه عنه الأنبياء؛ ولهذا قال العلماء: إن رؤية الله في الدنيا ممكنة ولكنها غير واقعة لضعف خلق البشر؛ فإنهم لا يستطيعون ذلك، بل الجبل ما استطاع أن يقوم لرؤية الله بل تدكدك؛ لأن المخلوقات في هذه الحياة خلقت للفناء فلا يمكن أن تقوم لرؤية الله جل وعلا كما جاء في حديث أبي موسى الذي في صحيح مسلم: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، قال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، ومن المعلوم أن بصر الله جل وعلا لا يحجبه شيء، ولا يمكن أن يستتر عن بصر الله جل وعلا شيء، فمعنى ذلك: أنه لو كشف الحجاب لذاب كل شيء، وقوله: (سبحات وجهه) ، يعني: بهاؤه وجماله جل وعلا. الوجه الثاني: أن الله جل وعلا علق إمكان رؤيته على إمكان استقرار الجبل في مكانه، واستقرار الجبل ممكن؛ فدل على أن الرؤية ممكنة. وهناك أوجه أخرى كثيرة في الآية تدل على بطلان قولهم. أما استدلالهم بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، فهو أيضاً لا يدل على ما قالوا، ونحن نقول أيضاً: إن الله جل وعلا لا تدركه الأبصار، ولكن نفي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، نحن نرى السماء ولكن لا ندركها، ونرى الشمس ولا ندركها وهي صغيرة بالنسبة للسماء فكيف برب العالمين؟! ويدل على هذا ما ذكره الله جل وعلا في قصة موسى مع فرعون فإن موسى لما أمره الله جل وعلا أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فسرى بهم ليلاً، فلما علم فرعون أرسل في المدائن حاشرين يحشدون الجنود لاتباعهم وقتلهم، فتبعهم فرعون بجنوده فلما صار بنو إسرائيل مع موسى أمام البحر، ويرون فرعون خلفهم، فقالوا لموسى: إنا لمدركون، فنفى موسى عليه السلام ذلك وقال -كما أخبر الله عنه-: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فدل هذا على أن الإدراك غير الرؤية، فتصح الرؤية مع نفي الإدراك، قالوا: إنا لمدركون، قال: كلا لن ندرك، وكل فريق يرى الثاني {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] فتبين بهذا أن الإدراك شيء آخر، وهو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه. وجميع ما استدلوا به وتسمكوا به في الواقع أنه شبه وليس أدلة، ومن العجب أن ترى النفاة يتمسكون بهذه الشبه، ويتركون الأدلة الواضحة الجلية السالمة عن المعارضات، والكثيرة الوفيرة حتى في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المروية عنه، فقد جاء فيها تقرير هذه المسألة، فجاء عنه أنه قال: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) ، فهذا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دلت النصوص على أن أعلى نعيم يتمتع به أهل الجنة هو مشاهدة ربهم ورؤية وجهه الكريم جل وعلا.

رؤية الله في أرض المحشر عامة

رؤية الله في أرض المحشر عامة الرؤية التي تكون في المحشر هل هي للناس عامة أو للمؤمنين خاصة؟ الأحاديث التي جاءت فيها تدل على أنها ليست خاصة بالمؤمنين، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه إذا شفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه جل وعلا ليفصل بين خلقه يقول: ثم آتي وأقف مع الناس -يعني: في الموقف- ثم يأتي رب العزة جل وعلا فيقول: يا عبادي! أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا فيقولون: بلى يا رب! فيؤتى بكل معبود عُبد في الدنيا من الأصنام وغيرها، أما إذا كان المعبود من عباد الله الصالحين فإنه يؤتى بتمثاله بصورته بشيطان على صورة ذلك المعبود ثم يقال لهم: اتبعوهم، فيتبعونهم إلى النار ويكبكبون هم ومعبوداتهم فيها -كما قال جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]- فيبقى المؤمنون ومعهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم ماذا تنتظرون وقد ذهب الناس؟! فيقولون: فارقناهم أحوج ما كنا إليهم، وإن لنا رباً ننتظره، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية؟ فيقولون: نعم الساق، فيكشف عن ساقه جل وعلا فيخر له كل مؤمن ساجداً، ويبقى المنافقون ظهر أحدهم طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر على قفاه) ، وهذا تفسير لقوله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] ، يعني: كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم أصحاء ليس فيهم علة فيأبون الإجابة، فجزاءهم أنهم منعوا من السجود، وهذا يدلنا على أن المنافقين يرون الله جل وعلا في ذلك الموقف، ولكن هذه الرؤية ليست رؤية نعيم، بل رؤية عذاب والعياذ بالله!

شرح العقيدة الواسطية [8]

شرح العقيدة الواسطية [8] القرآن الكريم والسنة النبوية وحي من الله تعالى، فهما متفقان لا يخالف أحدهما الآخر، وتأتي السنة مبينة ومفسرة وموضحة لما في القرآن، فيجب الإيمان بالسنة وما ورد فيها كما يجب الإيمان بالقرآن وما ورد فيه، ومن ذلك: إثبات أسماء الله تعالى وصفاته على ما وردت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

منزلة السنة

منزلة السنة يقول المصنف رحمه الله: [ (فصل) : ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته) الحديث متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة) متفق عليه. وقوله: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) حديث حسن. ] . مضى في ما ذكره المؤلف رحمه الله من صفات الله جل وعلا وأسمائه من القرآن، ولم يستقص وإنما ذكر أمثلة؛ لأن النهج والطريق واحد، ويكفي النوع عن الاستقصاء والإكثار، ثم بعد ذلك ثنى بذكر سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك أن القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلاهما وحي، ولا يخالف أحدهما الآخر، بل السنة تبين وتفسر وتوضح القرآن.

السنة بيان للقرآن

السنة بيان للقرآن الواقع أن السنة مع القرآن أقسام ثلاثة: الأول: قسم يأتي بإيضاحه وبيانه وتفسيره، وهذا كثير جداً، فإن الله جل وعلا أمرنا بالصلاة، وأمرنا بالزكاة، وأمرنا بالصوم، فبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات وأوقاتها وعددها، وعدد ركعاتها، وكذلك الزكاة وغيرها مما جاء مجملاً في القرآن، وهذا الذي أخبر الله جل وعلا عنه أنه أنزل إليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد قرن ربنا جل وعلا في مواضع متعددة: ((الكتاب والحكمة)) ، والحكمة فسرت بأنها السنة. الثاني: ما يأتي مطابقاً لقول الله جل وعلا: فيكون ذلك من توارد الأدلة واتفاقها. يعني: يأتي مطابقاً تماماً ليس فيه زيادة ولا نقص، وهذا أيضاً موجود بكثرة. الثالث: ما يأتي مؤسساً لشيء لم نعرفه من كتاب الله وآياته، وإنما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون الكتاب دل عليه في الجملة فقط، كما لعن عبد الله بن مسعود الواصلة والمستوصلة، فقيل له في ذلك فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه الله ورسوله، فقيل له: أين لعن الله جل وعلا في كتابه للواصلة والمستوصلة؟ فقال: في قول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة) .

وجوب الإيمان بالسنة الصحيحة

وجوب الإيمان بالسنة الصحيحة كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله جل وعلا بقبوله، وقد سلك السلف الصالح طريقة ابن مسعود حيث يستدلون بآيات الله ثم بأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، كما فعل الإمام أحمد والبخاري وغيرهما ممن سبقهما وممن أتى بعدهما ممن يسلك هذا الطريق، بخلاف أهل البدع فإنهم لا يقبلون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنها أخبار آحاد، إلا أن تكون متواترة، وهذا مع الأسف قد تعدى إلى بعض من يشتغل بالحديث، وممن يحسب من أهل السنة، وإن كان عن اجتهاد، ولكنه اجتهاد غير مفيد، بل هو خطأ محض، مثل ما يذكر بعض من يشتغل في شروح الأحاديث -بل ويشتغل في نقل السنة- أنه لا يقبل من السنة إلا ما كان متواتراً، وهذا تأثر بأهل البدع، وهذا المسلك سلكه جماعات، وبعضهم يعد من كبار العلماء، مثل الخطابي عفا الله عنا وعنه، فإنه ذكر في شرحه للبخاري أشياء من هذا القبيل، مع أنه ذكر في غير شرحه للبخاري قواعد لم يدل عليها كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ما دلت عليه أحاديث الأفراد، مثل حديث ابن مسعود الذي فيه ذكر الأصابع، مع أنه حديث متفق عليه، فنص على أنه لم يدل على الأصابع كتاب ولا سنة، هكذا قال، وقصده السنة المتواترة، والمقصود: التمثيل فقط، وأن هذا من نهج أهل البدع، فيجب أن يقبل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان صحيحاً أو حسناً؛ فإن الحسن من أقسام الصحيح، والصحيح هو ما توافر فيه شروط خمسة كما هو معروف عند أهله: أن ينقله العدل عن مثله، وأن يكون السند متصلاً، وألا يكون فيه شذوذ ولا علة. وشروط الحسن هي نفسها، إلا أنه يكون من نقلها أخف ضبطاً ممن ينقل الحديث الصحيح، وهذا الحسن لذاته، أما الحسن لغيره فهو أن يختل فيه شرط، ولكنه ينجبر لكثرة طرقه كما هو معروف، وكل هذا مقبول عند أهل السنة، ولا فرق بين كون الحديث جاء بهذه الصفة وكان يدل على أحكام تتعلق بأفعال المكلفين، أو يدل على علم وعقيدة، لا فرق بين هذا وهذا، ويجب أن يقبل الجميع، وأهل السنة لا يفرقون بين العقائد وبين الفروع والأحكام في علم السند، إنما عندهم كل دليل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على شيء من العلم سواء كان من الفروع أو من الأصول وجب قبوله. قوله: (فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه) ، هذه ألفاظ مترادفة. تفسره: التفسير هو الإيضاح والكشف والبيان. والتبيين: تبينه؛ لأنه يكون مجملاً في بعض الأماكن فتبينه. وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي أقواله وأفعاله وتقريراته، فإذا أقر إنساناً على فعل من الأفعال فإن ذلك يعد سنة، ويكون من هذا النوع، إما مبيناً ومفسراً موضحاً أو يكون مطابقاً كما سبق، أو يكون أصلاً أثبت فيه ما لم يثبت في كتاب الله جل وعلا، ويدل على هذا ما رواه أهل السنن من قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، فالكتاب هو القرآن، ومثله: أحاديثه التي يوحيها الله جل وعلا إليه، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . وقد اشتغل العلماء في بيان ذلك وإيضاحه، ففرقوا بين الوحيين تفريقاً لا يؤثر في القبول أو في إثبات الأحكام والعقائد، وإنما الفرق من ناحية أن كلام الله جل وعلا معجز، ومتحدى به، ومتعبدٌ بتلاوته، أما أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فليست كذلك.

وجوب العمل بالحديث الصحيح

وجوب العمل بالحديث الصحيح قوله: (وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول) قوله: (تلقاها أهل المعرفة بالقبول) يقصد بهذا: أهل الحديث، فلا عبرة بقول غيرهم الذين ينكرونها وليسوا من أهل المعرفة، ولا عبرة بمن يقبل كل حديث وإن كان ضعيفاً، وإنما العبرة بأهل المعرفة، أي: معرفة الرجال والأسانيد، الذين يميزون بين المقبول وغير المقبول، فإذا حكم إمام من أئمة أهل الحديث أن هذا الحديث صحيح أو أنه حسن وجب العمل به.

وجوب الإيمان بآيات وأحاديث الصفات على ظاهرها

وجوب الإيمان بآيات وأحاديث الصفات على ظاهرها قوله: (وجب الإيمان بها كذلك) ، (كذلك) : يعني: مثلما سبق في وجوب الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه في كتابه من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تحريف ولا تكييف. يعني: يجب أن يؤمن به بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف، بل يقبل النص على ظاهره كما قاله الله جل وعلا وكما قاله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الواجب لأمور: الأول: أن الله جل وعلا خاطبنا بلغة فصحى، وخاطب قوماً فصحاء بلغاء يعرفون اللغة، ولم يخاطبهم بألغاز وأحاج وكلام غريب، وهذا هو الخطاب الذي يقصد به القبول. الثاني: أن المتبادر هو الظاهر، فلا يجوز أن نعدل عنه. الثالث: أننا أمرنا بقبول ذلك وأخذه. الرابع: أن الله كلف رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت عنه كلمة واحدة في أن -مثلاً- يد الله نعمته، أو أن استواءه على عرشه استيلاؤه على خلقه، أو أن رجله نوع من الخلق، أو أن رحمته ثوابه وما أشبه ذلك، ما جاء شيء من ذلك ولا في حديث ضعيف، وهذا يعطينا الثقة بأن المقصود هو الظاهر. الخامس: أن الصحابة الذين تلقوا ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه لم يعرف عنهم شيء لا بأفعالهم ولا بأقوالهم يدل على أنهم فهموا من خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم غير الظاهر، وهم أولى بالحق وأجدر به كما شهد لهم ربنا جل وعلا، وشهد رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون، وأنهم أفضل الأمة، بل الله اختارهم له إلى غير ذلك من الأوجه. أما السنة فنقول أيضاً: إن الظاهر الواجب قبول ظاهر اللفظ على ما يفهم من لغة العرب، هذا الواجب ولا يجوز العدول عن ذلك؛ لما سبق، ولأن الله جل وعلا بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بأفصح الكلام، وهو أفصح الناس وأقدرهم على البيان، وهو صلوات الله وسلامه عليه شفيق على أمته، حريص على هدايتهم، ومع هذه الأمور لا يمكن إلا أن يبين ويوضح صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أمر واضح وجلي لا يخفى، ولكن من أشرب قلبه البدع والهوى واتباع الباطل فإنه قد يعمى عن الأمور الظاهرة الجلية الواضحة.

إثبات صفة النزول

إثبات صفة النزول قال: (مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، جاء بالنصب: فأغفر له، فأستجيب له، فأعطيه، وجاء بالرفع. أما النصب فهو على جواب الطلب كما هو معروف، وأما الرفع فهو على الاستئناف، وكلاهما صحيح، وكلاهما روي به الحديث؛ فلهذا تجده في بعض كتب الحديث مرفوعاً، وفي بعضها منصوباً، وكله صحيح. وهذا من الكلام الفصيح الجلي الظاهر، وتأويله يكون تحريفاً. فالنزول في اللغة: هو الإتيان من العلو إلى ما هو أسفل، ولا يفهم منه إلا هذا، والنزول هنا أسند إلى الله جل وعلا: (ينزل ربنا) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. (ينزل ربنا) فينزل: فعل مضارع، والفاعل هو الرب جل وعلا، فالتكلف بل التحريف بأن النازل شيء آخر رد لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كفعل أهل التأويل مثل الأشاعرة وأساتذتهم وقدوتهم من المعتزلة ممن يقبل الحديث، وإلا فكثير منهم لا يقبله. المؤولة يقولون: (ينزل أمره) ، أو (تنزل رحمته) ، أو (ينزل ملك) وما أشبه ذلك، وهذا باطل، والحديث يبطله من وجوه عدة: الوجه الأول: أن النزول هنا مغيّا بغاية، وهو آخر الليل، ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن أمر الله ينزل دائماً ليس في آخر الليل فقط، بل ينزل في الليل والنهار وفي أوله وآخره ووسطه، وفي كل وقت أراد الله جل وعلا، وهذا الوجه واضح وجلي. الوجه الثاني: أنه لا يعقل أن الأمر يقول: من يدعوني فأستجيب له! ولا الرحمة تقول ذلك إلى آخره، فهذا باطل قطعاً، وكذلك الملك لا يمكن أن يقول: من يستغفرني فأغفر له، من يسألني فأستجيب له، لا يمكن أن يقول هذا الملك ولا أحد من الخلق، فتعين أن يكون النازل والقائل هو الله جل وعلا لا غيره، وهذا واضح أيضاً وجلي. الوجه الثالث: أنه جعل النزول إلى سماء الدنيا، وأمر الله ينزل إلى الأرض وإلى كل مكان ورحمته وملائكته كذلك، فدل هذا على أن التأويل باطل. الوجه الرابع: أن مذهبهم يبطل تأويلهم، وهو أنهم أنكروا علو الله جل وعلا. إذاً: أمره من أين ينزل وهو في كل مكان؟! عندهم أن الله في كل مكان تعالى الله وتقدس، فمن أين ينزل الأمر؟! فلا بد أن يكون المذهب باطلاً حتى يصح تأويلهم، وكل ذلك باطل، إلى غير ذلك من الأوجه الكثيرة التي أوصلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ما يقرب من أربعين وجهاً في شرح هذا الحديث، وكلها تبطل التأويلات، ويكفينا هذه الأوجه. وقد احتج الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري على أن النازل ملك بالحديث الذي رواه النسائي وقال الحافظ: إنه صحيح، وهو: (أن الله جل وعلا يمهل حتى إذا صار آخر الليل أمر ملكاً فينادي: من يستغفر الله فيغفر الله له؟ من يدعوه فيستجيب له؟) إلى آخره. وقال: (يتعين أن يكون هذا هو المراد، والأحاديث التي جاءت على خلاف ذلك يجب أن تأول إليه) وبهذا قال الأشاعرة، وكأنه أمر متفق عليه عندهم، والجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث لا يساوي ما في الصحيحين، وهذا الحديث رواه ما يقرب من ثمانية عشر صحابياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال بعض الحفاظ: إنه متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يترك ما كان بهذه الصفة بحديث قد تكلم فيه، وضعفه بعض الحفاظ، ثم كيف يحكم على الأحاديث التي بلغت حد التواتر بحديث هذه صفته، فهذا تحكم لا يجوز. الوجه الثاني: على تقدير صحة ما رواه النسائي رحمه الله، فإنه لا يخالف هذه الأحاديث الثابتة، فيكون ربنا جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك، ويأمر أيضاً ملكاً أن يقول ذلك، فيكون بذلك اتفاق الأحاديث، ولا يكون فيها خلاف، وليس في هذا أي إشكال. وقوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة) كل ليلة هذا عام في الليالي، ولكن في آخر الليل، وقوله: (حين يبقى ثلث الليل الآخر) (الآخر) صفة للثلث، فالليل ثلاثة أقسام: أول ووسط وآخر، والأمر واضح لا إشكال فيه. وقوله: (فيقول) يعني: أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا يقول: من يدعوني؟ والدعاء -كما سبق- نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، ودعاء العبادة أعم، والقراءة والتسبيح والتكبير والصلاة والصوم وغير ذلك هذا كله دعاء عبادة؛ لأن كل من يفعل شيئاً من هذه الأمور يريد بذلك القرب إلى الله والإثابة، ودفع الهم والعذاب، فهو في الواقع داعٍ لربه. وقوله: (فأستجيب له) يدلنا على أن الداعي يستجاب له ولابد، فمن دعا الله استجاب له، ولكن هذا المفهوم قد قيد بنصوص أخرى: أولاً: أن الله لا يستجيب إلا بمشيئته جل وعلا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألتم الله فاعزموا المسألة فإنه لا مستكره له) . يعني: أن دعاء الداعي لا يحمله على أن يعطي شيئاً كرهاً، فالأمر بمشيئته، إذا شاء أن يستجيب استجاب، وإن شاء ألا يستجب لا يستجيب. ثانياً: أن السائل قد يكون تخلفت الإجابة بسببه هو، بأن يكون يأكل حراماً، أو يكون قلبه مشغولاً لاهٍ، فإنه جاء في الحديث: (إن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه) ، أو أنه يكون مستعجلاً؛ فإنه جاء في الحديث: (إن الله يجيب دعوة العبد ما لم يعجل) ، أي: ما لم يستجعل، يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فيترك الدعاء. وقد يؤخر الله جل وعلا إجابة عبده حتى يسمع إلحاحه ودعاءه وابتهاله؛ لأنه جل وعلا يريد ويحب ما ينفع العبد ويقربه إلى ربه جل وعلا كما سيأتي. وقوله: (من يسألني) قال أولاً: (من يدعوني) ، ثم قال: (من يسألني) ، وسبق أن الدعاء أعم، والمسألة أخص؛ ولهذا فرق بينهما، فالسؤال هو طلب الشيء المعين الذي يسأل من أمور الدنيا والآخرة، أما الدعاء فهو عام، وقال في الأول: (فأستجيب له) ، وقال في الآخر: (فأعطيه) فالدعاء الذي في ضمنه العبادة، أو يشتمل على العبادة يناسبه الإجابة، وأما المسألة فيناسبها العطاء. وقوله: (من يستغفرني فأغفر له) الاستغفار استفعال، وهو طلب المغفرة، والمغفرة هي: الستر والوقاية. يعني: أن يستر ذنبه، ويوقى تبعته، فيسأل الإنسان ربه أن يستر ذنبه، وأن يقيه تبعة الذنب الذي كان عليه، وفي ضمن هذا: أن يمحي ذنبه، حتى لا يفتضح به في صحيفته، وقد يبقى ولكن الله يستره كما جاء في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين حينما سئل وقيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعته يقول: (يدني الله جل وعلا عبده المؤمن فيضع عليه كنفه -يعني: ستره- فيقرره بذنوبه. يقول: عملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، فإذا رأى أنه قد هلك قال الله جل وعلا له: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفته بيمينه) . وقوله: (فيضع عليه كنفه) حتى لا يتبين للناس حينما يذكّر بذنوبه تغير الوجه، فإنه يتغير وجهه عندما يرى أنه قد هلك حتى يبشره ربه جل وعلا بمغفرته وستره له، فهذا نوع.

الرد على المتكلمين المنكرين لصفة النزول

الرد على المتكلمين المنكرين لصفة النزول ونوع: أن الله يبدل السيئات حسنات. اعترض على هذا الحديث من ناحية الواقع والعقل المتكلمون الرادون لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذا لا يمكن في الواقع ولا في العقل، قالوا: إننا نشاهد اختلاف الليل، فمثلاً: آخر الليل هنا هو أول الليل لقوم غربنا، وهو نهار لقوم شرقنا، فإذا قيل: إنه ينزل آخر الليل لكل قوم، يلزم من ذلك أن يكون دائماً نازلاً في الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة. وهذا باطل. والجواب عن هذا: أن هذا القول مبني على القياس -أي: قياس أفعال المخلوق المحصور المحدود على أفعال الله جل وعلا- وهذا هو أصل التشبيه وأصل البلاء، وأصل التعطيل أيضاً، فيحصل التشبيه أولاً، ثم ينفى ما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله، ويعطل عن ذلك، فنقول: يصح هذا القول لو كان النازل مخلوقاً محصوراً محدوداً، وإلا فأفعال الله جل وعلا لا يجوز قياسها بمثل هذه الأقيسة التي تكون للمخلوق، فهو على كل شيء قدير، يكلم ويحاسب ويرى المخلوق أنه وحده يكلم وهو جل وعلا يكلم الجميع كلهم في آن واحد، ونزوله من هذا النوع في آن واحد، وإن اختلفت الأوقات والأماكن، فلا يجوز قياسه على ما يكون من فعل المخلوق الضعيف، وقد علم أن الله جل وعلا وسع كرسيه السموات والأرض، وأن الكرسي بالنسبة للعرش صغير جداً، وأنه جل وعلا فوق عرشه، وهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، فلا يجوز أن يقاس بشيء محدود محصور. ثم إن هذا النزول الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما مضى في الآيات: شيء يليق بالله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون مثل نزول المخلوق، ولا يجوز أن يعتقد بأنه إذا نزل إلى سماء الدنيا أن شيئاً من السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة والسابعة يكون فوقه تعالى الله وتقدس، فهو ينزل إلى السماء الدنيا وهو فوق عرشه عالٍ على خلقه؛ لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وكذلك يوم القيامة ينزل إلى الأرض وهو فوق عرشه؛ ولهذا اتفق علماء أهل السنة على أن العلو من صفات الذات، وصفات الذات هي الصفات التي لا تفارق الله جل وعلا سبحانه في حال من الأحوال، بل تكون ملازمة له دائماً وأبداً، بخلاف صفات الأفعال فإنها تتعلق بمشيئته، إذا شاء فعلها وإذا شاء لم يفعلها، والنزول من صفات الأفعال، أما العلو فهو من صفات الذات.

إثبات صفة الفرح

إثبات صفة الفرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته) الحديث. هكذا المؤلف رحمه الله: (الحديث) منصوب، والناصب له شيء مقدر، إما اقرأ الحديث أو أعني الحديث، وفي هذا دليل على أنه يرى جواز اختصار الحديث، وقد أكثر منه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والقول الصواب الصحيح، أنه يجوز ذلك إذا أمن اللبس، وأمن أن يقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يقله: فيجوز أن يختصر على موضع الشاهد، وكثير من العلماء يفعل ذلك، وكأنه شيء اتفقوا عليه، كما أن رواية الحديث بالمعنى أيضاً تجوز على الصحيح بشروط، منها: أن يكون المعنى الذي أدلي به لا يختلف عن المعنى الذي نقل عنه، وأن يكون الذي رواه بالمعنى يعرف ذلك ويفقهه. والحديث هو في الصحيحين، ولكن في رواية مسلم أشياء ليست في رواية البخاري وتمامه: (الله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته يضلها في أرض مهلكة، عليها متاعه وشرابه، فييئس منها، فيأتي إلى المكان الذي فقدها فيه ويضع رأسه تحت شجرة ينتظر الموت، يقول: أموت هاهنا، فبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فأخذ بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) .

مسائل في حديث: (لله أشد فرحا بتوبة عبده)

مسائل في حديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده) في هذا الحديث مسائل: الأولى وهي المقصودة: أن الله جل وعلا موصوف بأنه يفرح، وأن فرحه من صفاته تعالى وتقدس، ولكن فرحه ليس كفرح المخلوق؛ لأن فرح المخلوق يليق بضعفه وبفقره أما فرح الله جل وعلا فهو عن غنى وعن رحمة وإحسان، ثم لا يجوز أن يكون الرب جل وعلا والعبد يماثل أحدهما الآخر في شيء من الصفات، وهذا أصل يجب أن يكون بين أعيننا دائماً، فالله ليس كمثله شيء، لا في صفته ولا في ذاته. وأصل ثان هو: أن باب الصفات باب واحد، فما قيل في صفة يقال في الصفة الأخرى، لا فرق بين الاستواء والنزول، ولا فرق بين النزول والفرح، ولا بين اليد والعزة، يعني: صفة ذات أو صفة معنى، كلها سواء، فالله يختص بصفاته، والعبد يختص بصفاته وما يليق به. الثانية: أن فرح الرب جل وعلا بتوبة عبده ليس عن حاجة، فهو غني عن طاعة المطيعين وتوبة التائبين، ولكنها رحمته وفضله وإحسانه، وهذا يدلنا على أنه جل وعلا يكره عذاب العباد، ولكن تعذيبهم إنما هو بأفعالهم وكفرهم ومعاصيهم. الثالثة: أن هذا يدلنا على فضل التوبة، وأنها محبوبة إلى الله، وكذلك التائب، وأنه تغفر ذنوبه. الرابعة: أن الإنسان لو أخطأ من شدة فرحه، أو من شدة غضبه أو ما أشبه ذلك، فتكلم -مثلاً- بكلام الكفر لا يكون كافراً ولا يؤاخذ بذلك؛ لأن قوله: (اللهم أنت عبدي، وأنا ربك) بسبب أنه غلب عليه الفرح، وأصبح لا يميز بين الكلام، ولو اعتقده لكان كافراً، لكنه لا يؤاخذ بذلك. وهذا يدل على أن حكاية الكفر ليست بكفر، فإذا حكى الإنسان قول كافر فلا يكفر بذلك.

إثبات صفة الضحك

إثبات صفة الضحك قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة) متفق عليه) . فيه إثبات صفة الضحك لله جل وعلا، وهي صفة كمال كالفرح، وضحكه يليق به تعالى وتقدس ولا يجوز أن يكون كضحك المخلوق، وما يلزم منه أن يكون المخلوق قد فعل شيئاً خرج به عن العادة التي اعتادها فأوجب له الرحمة، والله جل وعلا ضحكه يليق به، والمخلوق يجهل أشياء كثيرة جداً، والله علّام الغيوب، فضحكه ضحك يخصه ولا يشاركه فيه المخلوق، ولا يجوز أن يكون ذلك، ولا يلزم من ضحك المخلوق نفي ضحك الرب جل وعلا كما يقول أهل البدع: هذا يجب أن يرد ولا يثبت على أصولهم التي سبق أن قررناها. وفي هذا دليل ظاهر على فضل الشهادة في سبيل الله، وأن الذي يقتل في سبيل الله يدخل الجنة، وأن القتل في سبيل الله يكفر الذنوب، وأن التوبة تمحو كل ذنب حتى القتل، وبهذا يرد على الذين يقولون: (إن القاتل لا توبة له) ، ويستدلون ببعض النصوص كقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] إلى آخر الآية. نقول: هذه الآية من النصوص التي يجب أن يوقف عليها ولا تؤول، ولكن لا يعارض بها الثابت من النصوص الأخرى، مثل قوله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] ، ومثل هذا الحديث ونحوه. وقد فُسر هذا الحديث تفسيراً جلياً كما في صحيح مسلم: كيف يقتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة؟ فذكر أنه الرجل يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر، ثم يسلم ذلك الكافر ويقاتل في سبيل الله فيقتل فيدخل الجنة. وهذا التفسير جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وله حكم المرفوع.

إثبات صفة العجب

إثبات صفة العجب قال: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب خيره) وفي رواية: (ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره] . المقصود هنا: إثبات العجب لله جل وعلا، وأنه يعجب، والعجب صفة من صفاته، وقد جاء في قراءة: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]-بضم التاء- (عجبتُ) ، فيكون المقصود: الله جل وعلا، فيكون ذلك مطابقاً لهذا الحديث، ومن توارد الأدلة، والعجب ظاهر ولا يحتاج إلى تفسير، فيجب أن يثبت لله كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، وذكر السبب في قوله: (من قنوط) . والقنوط هو: شدة الإياس من الشيء، وكون الإنسان ييئس من رحمة الله جل وعلا ليس له وجه لأمور: الأول: أن الله جل وعلا هو الرب، والرب هو الذي يتولى تربية عباده لمصالحهم فلا يضيعهم. الثاني: أنه الرحمن الرحيم. الثالث: أن فضله وخيره ملأ السموات والأرض. الرابع: أنه جل وعلا يستجيب الداعين كما مر إلى غير ذلك من أمور كثيرة كلها تمنع من كون الإنسان يقنط، لهذا قال (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره) ، (غيره) يعني: تغييره الحالة التي أنتم عليها إلى حال أحسن، فإنه قد علم أن مع العسر يسراً، وأنه ما اشتد أمر إلا وأعقبه الفرج قريباً؛ ولهذا كان من أمثال العرب: (اشتدي أزمة تنفرجي) ، هذا من أمثالهم، كل إنسان يقع في أزمة وفي شدة، وإذا اشتدت انفرجت، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه. وأما قوله: (وقرب خيره) بالخاء فهذا أيضاً له وجه، وأن خيره قريب من عباده، وقوله: (ينظر إليكم) فيه إثبات النظر لله جل وعلا، وأنه ينظر إلى خلقه، ولا يخفى عليه شيء. (أزلين) يعني: أنكم في حالة شدة، والأزل هو المشتد، وأمر مشتد، (ينظر إليكم أزلين) يعني: من تأخر المطر. يعني: في شدة. وقوله: (قنطين) يعني مستبعدين الخير، آيسين منه. (فيظل يضحك) هنا: إثبات صفة الضحك. (فيظل) يعني: يبقى. وهذا يكون وقتاً دون وقت، فليس دائماً يضحك، بل يضحك إذا شاء كما أنه يعجب إذا شاء. (يعلم أن فرجكم قريب) يعني: تغير حالكم التي أنتم عليها قريب.

الأسئلة

الأسئلة

الكتاب والسنة ميزان العقيدة

الكتاب والسنة ميزان العقيدة Q كيف نرد على من يقول: إن بعض الحفاظ على غير عقيدة السلف؟ وإذا كان كذلك فكيف نقبل الإيضاح منهم في شرح الأحاديث؟ A أولاً: ليس كل الحفاظ على عقيدة السلف، والحفظ ملكة يعطيها الله جل وعلا من يشاء، ولا يلزم أن يكون الحافظ على عقيدة صافية. ثانياً: الإيضاح والبيان والكلام يجب أن يعرض على كتاب الله ممن قاله، فكل من قال قولاً يجب أن يعرض قوله على كلام الله وكلام رسوله، فإن كان موافقاً لذلك قبل، ليس لأنه قاله فلان، بل لأنه وافق كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان القائل عدواً، ولا يجوز يعرف الحق بفلان وفلان، إذا جاء من فلان قبل، وإذا جاء من الآخر لا يقبل! هذا لا يجوز أن يكون.

نسخ السنة لأحكام القرآن

نسخ السنة لأحكام القرآن Q أليس نسخ السنة لبعض أحكام القرآن قسم رابع من من أقسام السنة؟ A لا. فالقرآن أيضاً ينسخ بعضه بعضاً، فهذا مثله.

بيان من الفرقة الناجية

بيان من الفرقة الناجية Q ما هي الفرقة الناجية؟ وهل يقال لمن خالف ذلك: مبتدع؟ A الفرقة الناجية لا يحتاج أن يسأل عنها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينها فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ، هذه الفرقة الناجية.

مصادر التشريع

مصادر التشريع Q ما هي مصادر التشريع؟ وما حكم من أنكر مصدراً منه؟ A مصادر التشريع الكتاب والسنة، أما الإجماع والقياس فلا بد أن يستند إلى أصل من الكتاب والسنة، فهذه مصادر التشريع، وإذا أنكر الإنسان كتاب الله وسنة رسوله فالأمر واضح، لا يحتاج إلى أن يسأل عن حكم هذا.

متى يبدأ الثلث الأخير من الليل

متى يبدأ الثلث الأخير من الليل Q متى يبدأ الثلث الأخير من الليل بالساعة؟ A يختلف الليل والنهار، فمرة يطول، ومرة يقصر، فهو مختلف ولا ينضبط بالساعة التي كل وقت له تحديد، لكن ينبغي أن يعرف متى يبدأ الليل، ومتى ينتهي، فإذا عرف ذلك فالأمر سهل، فالليل يبدأ من غروب الشمس وينتهي بطلوع الفجر الثاني، هذا الليل الذي جاء ذكره في الشرع.

وقت الأذان الأول في آخر الليل

وقت الأذان الأول في آخر الليل Q هل الوقت بين أذان الفجر الأول والأذان الثاني من ثلث الليل الآخر؟ A إذا كان الأذان قبل طلوع الفجر فهو من آخر الليل. يعني: من الثلث الأخير. والأمر واضح، ولا يحتاج أن يسأل عن مثل هذا.

أدب السؤال

أدب السؤال Q هل هذه العبارة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) صحيحة؟ A أولاً: الأسئلة يجب أن تكون من نفس الدرس، ولا تخرج عن الدرس، أما أن تخرج عن الدرس فلا يصلح أن نجيب عليها. الثاني: السؤال يجب أن يكون في أمر مشكل، يستفهم الإنسان عنه ويريد الإفادة، فإذا كان السؤال ليس كذلك فلا يجوز الإجابة عليه.

الفرق بين السنة الخلقية والخلقية

الفرق بين السنة الخلْقية والخُلُقية Q ما هي السنة الخلْقية؟ وهل يلزمنا التأسي بالنبي فيها؟ A لا؛ لأن السنة الخلْقية تتمثل في صفاته صلى الله عليه وسلم، كونه طويلاً، وكونه كذا وكذا، أما الخُلُقية فهي الصفات التي تخصه، وينبغي للإنسان أن يتشبه به فيها، والشيء الذي يلزم الناس معرفته هو ما يلزمهم العمل به.

تفسير قوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا)

تفسير قوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) Q ما هو المراد بقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] ؟ وهل يحمل على الفعل الحقيقي أم يؤول بإتيان أمره وقضائه؟ A هذا ظاهر من سياق الآية، ولو فسر بأنه حقيقي لصار باطلاً، فإن هذه السورة تسمى سورة بني النضير، وهم اليهود الذين أنزل الله جل وعلا في قلوبهم الرعب، وقال فيهم جل وعلا: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] ، فأتاهم أمره بجند من ملائكته، ورسوله ومن معه من عباد الله، هذا ظاهر الآية، ومثلها قوله جل وعلا: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} [النحل:26] ؛ لأن الله لا يأتي من سيسان الحيطان ومن قواعد الأرض، وهذا هو ما يجب أن يفهم، وهو يدلنا على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ لفظاً معيناً على نسق واحد في جميع موارده، بل يجب عليه أن يتعرف على مراد المتكلم من قرائن الأحوال والسياق.

رؤية الله عز وجل في المنام

رؤية الله عز وجل في المنام Q هل يمكن رؤية الله في المنام، نرجو بيان ذلك؟ A نعم يمكن رؤية الله عز وجل في المنام، ولكن يجب أن يعلم أن الذي يراه النائم في منامه ليس هو الله وإنما هو مثال يمثل له على حسب ما في قلبه من الإيمان، فإذا كان إيمانه صحيحاً وحسناً يرى صورة تناسب إيمانه، وإن كان ضعيفاً رأى ما يناسب إيمانه؛ ولهذا لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن الخلق إيماناً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) ، يعني: في النوم، والذي رآه صلوات الله وسلامه عليه هو مثال لله جل وعلا حسب ما عنده من الإيمان، وكذلك الحال مع كل نائم. أما الله جل وعلا فهو لا يرى في الدنيا، كما أن رؤيته في الآخرة لا يصاحبها إحاطة به، وإنما يرى المؤمنون وجهه جل وعلا، ولهذا قال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ؛ لأن الإدراك: هو الإحاطة إحاطة بالشيء كما بين القرآن ذلك، فإنه جل وعلا قال في قصة موسى مع فرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] ، فبين أن كل جمع كان يرى الجمع الآخر، ومع ذلك نفى موسى عليه السلام الإدراك وقال: كلا، فالإدراك غير الرؤية.

الفرق بين التفويض المحمود والتفويض المذموم

الفرق بين التفويض المحمود والتفويض المذموم Q ما الفرق بين التفويض المحمود والتفويض المذموم، حيث إن هناك من يستدل بقول الإمام مالك في تفسيره للاستواء، ويقول: هذا هو التفويض؟ فهل هذا صحيح بارك الله فيكم? A التفويض المحمود هو تفويض حقيقة الشيء، أما المعنى فلا يجوز تفويضه، والمطلوب من المسلم في ذلك الفهم والإيمان والعمل، والله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، وهذا ذم للذين لا يعرفون معاني القرآن، والله لا يخاطبنا بشيء لا يفهم، ولكن الشيء الذي لا يدرك ولا يمكن للعقل استيعابه وإدراكه؛ ومعرفته فهذا الذي يفوض، ومنه حقائق صفات الله جل وعلا، أما المعاني والتي منها كونه ينزل إلى السماء الدنيا، ويأتي إلى الأرض فهذا نعرفه، أما كيفية النزول فهو مما لا يدرك ولا يعرف؛ لأن الكيفية يلزم لها أمران: الأمر الأول: أن تشاهد الشيء حتى تعرف كيفيته، والمشاهدة هنا ممتنعة، فلا أحد يشاهد الله ولا يراه. الأمر الثاني: أن يكون لهذا المكيف شيء مثله، والله لا مثيل له تعالى وتقدس. فانتفت الكيفية بهذين الأمرين قطعاً، فالتفويض الجائز: أن يفوض الإنسان حقيقة الشيء إلى الله جل وعلا ويؤمن بالشيء الذي يدركه ويعلمه ويعرفه.

دراسة العقيدة سبب زيادة الإيمان ومعرفة الرحمن

دراسة العقيدة سبب زيادة الإيمان ومعرفة الرحمن Q هناك من يقول: إن دراسة العقيدة ليست ضرورية في ازدياد الإيمان ومعرفة الله عز وجل، فما حكم ذلك؟ A نسأل الله العافية! إن هذا الكلام يدل على أن قائله ما عرف الحقيقة؛ لأن الإنسان لن يؤمن إلا بالعقيدة، ولن يزداد إيماناً إلا بالعقيدة، ولن يعرف ربه إلا بالعقيدة، فالله جل وعلا بعدما أخبرنا أن له الأسماء الحسنى أمرنا أن ندعوه بها، ولا يمكن للإنسان أن يعرف ربه جل وعلا إلا بصفاته، والمؤمنون تتفاوت درجاتهم ويتفاوت إيمانهم في هذا المعنى، فالجاهل الذي يقول: لا معنى لدراسة العقيدة؛ ما عرف الحقيقة من وجوده في الواقع، فيجب عليه أن يجتهد في تعلم ما يتعلق بأسماء الله وأوصافه وأفعاله التي يفعلها؛ لأن الله جل وعلا لا يعرف على الحقيقة إلا بهذه الطريقة، ولا تكون هذه الطريق إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، أما مجرد معرفة الآثار التي تكون للصفات فهذا يشترك فيه البهائم والكفار والمؤمنون، مثل: الرزق والرحمة وما أشبه ذلك، فإنها من آثار صفات الله، ويستدل بها أيضاً على ثبوت الصفات، ولكن هذه لا تكفي، فيتعين أن يعرف الإنسان ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله من كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن العلماء يسمون التفقه في الصفات وفي الأسماء الفقه الأكبر، ويقابله الفقه الأصغر الذي هو في أفعال الخلق، وهي الأحكام التي يجب عليهم أن يفعلوها، فيفرقون بين هذا وهذا.

شرح العقيدة الواسطية [9]

شرح العقيدة الواسطية [9] من أصول أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله تعالى، ومن ذلك صفة الضحك والعجب والقدم لله عز وجل، كما أخبر عن نفسه، وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتاً يليق بجلاله، دون إعمال للعقول في كيفية صفاته؛ لأن ذلك يؤدي إلى الانحراف والخروج عن المنهج الحق.

قواعد مهمة في أسماء الله وصفاته

قواعد مهمة في أسماء الله وصفاته يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) حديث حسن، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ] .

صفات الله توقيفية لا تثبت إلا بالكتاب والسنة

صفات الله توقيفية لا تثبت إلا بالكتاب والسنة لما ذكر الشيخ رحمه الله الأسماء والصفات من القرآن على شبه قواعد وكليات، أراد أن يذكر شيئاً من ذلك من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن أهل العلم متفقون على أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل يثبت به كل ما يثبت بالقرآن من عقائد وأحكام وغيرها، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل: ما جاء في كتاب الله آمنا به وأخذنا به، وما لا فلا، وأخبر أنه أوتي الكتاب ومثله معه، وأخبر أن ما يبلغه من سنته مثل ما جاء به كتاب الله جل وعلا، كلاهما أتى به جبريل صلى الله عليه وسلم إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لإبلاغ الناس، فالذي يرد السنة يكون ممن آمن ببعض وكفر ببعض، وهؤلاء يقول الله جل وعلا فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:151] والناس تجاه السنة ثلاثة أقسام: قسم ردوها، فهؤلاء الكلام معهم مفروغ منه؛ لأن من فعل ذلك عرف. وقسم تأولوها تأويلات تخرجها إلى التحريف والإلحاد، وليس تأويل القابل لها، المؤمن بها، وهؤلاء يلتحقون بالقسم الأول، وقد يكونون أشر من القسم الأول؛ لأنه قد يخفى أمرهم على بعض الناس، فيكون ضررهم أعظم. قسم ثالث: هم الذين قبلوها قبول انقياد واستسلام، وتصديق وإيمان، وهؤلاء هم الذين انتفعوا بها، فانتفعوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقاً، والقسمان الأولان لا يخرجان من الدين الإسلامي، ولا يقال: إنهما كفار خرجوا من الدين الإسلامي، ولكنهم من أهل الوعيد، الذين توعدهم الله جل وعلا، فإن شاء أمضى وعيده، وإن شاء فعل ما يشاء؛ لأن العباد كلهم عباده، يتصرف فيهم كيف يشاء جل وعلا وسبق أن ذكر المؤلف حديث النزول، وقد أوجد حوله كثير من الناس إشكالات كثيرة، والسبب في الإشكالات عدم الإيمان به على الوجه المطلوب؛ لأنه صفة من صفات الله، إن كان فعلاً فهو من صفات الأفعال التي تتعلق بمشيئته.

ليس كمثله شيء

ليس كمثله شيء القاعدة التي عليها أهل السنة في هذا وغيره أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يتصف به، سواء صفات الذات أو صفات الأفعال، هذه واحدة، فإذا كان ليس كمثله شيء فكل الإشكالات والإيرادات التي يوردها هؤلاء تكون باطلة؛ لأنها على نزول يتصورونه من أنفسهم، كقولهم مثلاً: إن آخر الليل يختلف باختلاف الأقطار، ولو قلنا: إنه ينزل آخر الليل عند كل قوم لبقي نازلاً طوال الزمن، ولا يكون مستوياً على عرشه، ولا عال على خلقه، ومعلوم أن هذا القول من أبطل الباطل، ولهذا لجئوا إلى التأويلات الباطلة؛ لأنهم اعتقدوا أن هذا باطل عقلاً وشرعاً، وهو على التصور الذي اعتقدوه باطل عقلاً وشرعاً بلا شك، ولكن ليس نزوله كذلك، فوصف الله جل وعلا بالنزول كوصفه جل وعلا بأنه سميع، وبأنه بصير وغير ذلك؛ فنزوله لا يشبه نزول المخلوق الذي إذا كان على شيء عالٍ فنزل عنه؛ لزم أن يكون ذلك الشيء فوقه تعالى الله وتقدس. وصفات الله حقائقها لا تحتملها عقول البشر، ولهذا يكتفى بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقف عند ذلك فقط، ولا يبحث عما وراءه هذه قاعدة.

الإيمان بأن الله على كل شيء قدير

الإيمان بأن الله على كل شيء قدير القاعدة الثانية: أن الله على كل شيء قدير، فأي شيء أراد فعله لا يحول بينه وبين ذلك شيء؛ ولهذا لما قال أحد النفاة لـ إسحاق بن راهويه: أتقول: إن الله ينزل؟ قال: نعم، فقال: إذا نزل فهل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟! قال: أتقول: إن الله على كل شيء قدير؟ قال: نعم، قال: إذاً: نزوله على ما يشاء حسب قدرته، وليس كما تتصور، وفي رواية أنه لما قال له: كيف تثبت ذلك؟ قال: يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، فقال له أحد الحاضرين: هذا يوم القيامة، فقال: الذي يأتي يوم القيامة ما الذي يمنعه أن يأتي إذا شاء، والمقصود تقعيد هذه القاعدة: أنه على كل شيء قدير. إذاً: القادعة الأولى: أن أفعاله وصفاته ليست كأفعال الناس، وليست كصفات الناس. القاعدة الثانية: أنه على كل شيء قدير. فعلى هذا؛ فالإشكال الذي يورد على بعض الصفات إذا لم تستطع أن تستوعبه بعقلك، فعليك أن تستحضر عظمة الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فإذا كانت الأرض والمخلوقات كلها يطويها بيده تعالى وتقدس، فكيف يتصور أن شيئاً من المخلوقات تظله أو تقله؟! فالصواب في هذا أن نزوله يليق به، وأنه ينزل وهو على عرشه بائن من خلقه، وأن نزوله يكون آخر الليل لكل قوم، وهو وإن تعدد بالنسبة لهم فهو غير متعدد بالنسبة لله جل وعلا، فنزوله كسماعه دعاء الداعين في آن واحد، لا يختلط عليه دعاء هذا بدعاء هذا، ولا يشغله دعاء هذا عن دعاء هذا، وكذلك محاسبته لخلقه يوم القيامة في آن واحد، وكل رجل يناقشه ويحاسبه على كثرتهم، من أولهم إلى آخرهم، ويرى الإنسان أنه هو وحده الذي يحاسب، والخلق كلهم يحاسبون في وقت واحد، فصفاته لا تشبه صفات الخلق، وأفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فعلى هذا كل إيراد يورد على ذلك باطل، ولا يلتفت إليه، ونكتفي بهذا عما عساه أن يثار من إشكالات أو تساؤلات حول ذلك؛ لأن هذه القاعدة يرجع إليها في كل ما قد يثيره بعض الذين لم يثبتوا صفات الله جل وعلا على ما يليق به.

إثبات صفة الضحك والفرح لله عز وجل على ما يليق به

إثبات صفة الضحك والفرح لله عز وجل على ما يليق به ثم بعد ذلك ثنى المؤلف بذكر صفتي الضحك والفرح، وكلاهما صفة كمال، والله جل وعلا له الكمال، والقاعدة واحدة لا تختلف، فإن فرح الله جل وعلا ليس فرح خفة وسرور وطرب، أو فرح أشر وبطر كما يكون من المخلوق تعالى الله وتقدس! ففرحه في أسبابه ونتائجه مخالف لفرح المخلوق تماماً، فهو ناشئ عن رحمته، وعن غناه وكرمه جل وعلا كسائر صفاته، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وجب علينا قبوله. وهنا قاعدة أخرى بالنسبة لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أنه يجب على كل مسلم أن يعلم علماً يقينياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بالله جل وعلا، وأتقاهم لله تعالى، وأنه أقدر الخلق على البيان والإيضاح، وأنه أنصح الخلق للخلق صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قال قولاً وجب قبوله بلا تردد، ولا يلتفت إلى قول المؤولين الذين يظنون به الظنون السيئة، شعروا أو لم يشعروا، حيث ظنوا أن ظاهر قوله يدل على التجسيم والتشبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الظن أيضاً ظنوه في رب العالمين، فإذا تحلى الإنسان بهذا، وعلم ذلك علماً يقينياً؛ علم أنه حق، فإن فهم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما قاله ربه فليحمد الله، فإنها نعمة أنعم الله جل وعلا بها عليه فلابد أن يشكرها، وإن لم يتبين له ذلك فعليه أن يتهم رأيه وفهمه، ولا يتهم ربه، ولا يتهم رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه القاعدة في كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن رب العالمين جل وعلا. ثم إن التكلف، وبحث الأمور، وطلب غرائب اللغة، حتى يحمل عليها كلام سيد الخلق الذي أعطي البيان والإيضاح والنصح؛ ليس من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، بل هو يخدش في معنى الشهادة، فعلى الإنسان إذا كان بهذه المثابة أن يصحح شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فعلى هذا أقول: إذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر ولو لم يكن موجوداً في القرآن فإنه يجب علينا قبوله، ويجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الظن السيء، ويجب أن نعلم أنه من الوحي الذي أوحاه الله إليه، فنؤمن به كما آمنا بقول ربنا جل وعلا، وقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم فرح رب العالمين لنا تقريباً لأفهامنا بأقصى ما يمكن تصوره من الفرح، فقال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضلت راحلته في أرض مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فيئس من وجودها، فأتى حيث فقدها ووضع رأسه ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فأخذ بخطامها، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح) . هذا الحديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدة طرق، ورواه ما يقرب من ثمانية عشر صحابياً، فهذا فرح ليس لأنه جل وعلا محتاج إلى توبة عبده أو طاعته؛ كلا، هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولكن هذا من كرمه وجوده ورحمته جل وعلا، ورحمته وسعت كل شيء، فهو يفرح بتوبة عبده التائب، وهو الغني تعالى وتقدس، فيجب أن يثبت ذلك كما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك الضحك، فقد صحت فيه أحاديث كثيرة ومتعددة، فهي صفة فعل كالفرح والنزول، وكل هذه صفات أفعال تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها، وهذه هي التي تسمى: الصفات الخبرية، ومعروف أن الأشاعرة الذين هم أقرب الطوائف إلى أهل السنة يؤولون هذه؛ لأنهم لا يجرءون على رد الأحاديث الصحيحة الثابتة، ويجعلون التأويل عندهم واجباً متعيناً لابد منه؛ لأن الظاهر عندهم غير مراد، بل هو باطل، والسبب في هذا أنهم اعتقدوا أن ظاهرها ما يعرفونه من أنفسهم تعالى الله وتقدس. وضحكه جل وعلا صفة كمال، وله الكمال المطلق غير أنه جل وعلا لا يشاركه المخلوق في صفاته، وإن حصل الاشتراك في المسمى، بل وقد يكون في المعنى، ولابد أن يكون الاشتراك في الاسم والمعنى، ولكن إذا أضيف هذا الفعل أو هذه الصفة زال الاشتراك نهائياً، فيصبح ما يخص المخلوق لا يشاركه الرب جل وعلا فيه، وما يخص الرب جل وعلا لا يشاركه المخلوق فيه، ولولا هذا الاشتراك في الاسم والمعنى لم يفهم الخطاب، وهذا شيء لابد منه غير أنه عند الإضافة والتخصيص يزول الاشتراك نهائياً.

إثبات صفة العجب لله جل وعلا

إثبات صفة العجب لله جل وعلا نثبت صفة العجب لحديث: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره) . والقنوط ما له موجب، وهذا حالة تعترض للناس عندما يتأخر المطر وهم محتاجون إليه؛ لأن حياتهم تتعلق به فيقنطون، والقنوط: استبعاد الشيء، وقد يكون اليأس منه، وقد اختلف العلماء أيهما أشد القنوط أم اليأس؟ وقد جاء ما يدل على أن كل واحد منهما ضلال وكفر، فمن أعظم الذنوب أن الإنسان يقنط من رحمة الله، ولكن في هذه الحالة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين؛ فيظل يضحك) ، فهو مثل قوله: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره) ، يعني: قرب تغييره للحال من حالة الشدة إلى حالة الخير والانفراج، بإنزال الرحمة، وهذا مدعاة للعجب؛ لأن الله جل وعلا هو رب الخلق، والرب من مقتضى ربوبيته أن يرزقهم ويعطيهم ما به قوام حياتهم، ولا يمنع خيره جل وعلا، فهو عجيب في الواقع، وقد أخبر الله جل وعلا أن مع العسر يسراً، ولكن ليس هذا فقط، بل ذلك لأنه الرب، والرب معناه: المربي لخلقه، القائم عليهم بما يصلحهم، وإن كان يملكهم ويتصرف فيهم فلابد أن يقوم عليهم بما يصلحهم، فإذاً: لابد أنه جل وعلا يغيثهم ويعطيهم ما فيه صلاحهم، ولكنه جل وعلا خبير بعباده، وقد أخبر أنه لو أعطاهم على حسب ما يريدون لتغيرت حالهم، ولكنه ينزل بقدر ما يشاء، وهو بعباده خبير بصير جل وعلا، وقد قرأ ابن مسعود: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] ، بضم التاء، ويكون الضمير لله، ويكون هذا أيضاً موافقاً لهذا الحديث من كلام الله جل وعلا، يعني: عجبت من رد الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ظهور آياته ووضوح صدقه، كيف يسخرون منه؟! وكيف يردون دعوته؟! فإنه عجب مع أنهم عندهم عقول وأفكار، وهم لا يمترون بذلك، ولكن التقليد والشقاوة واتباع الهوى يدعوهم إلى المخالفة والتكذيب، فعلى هذا يكون العجب صفة فعل يجب أن تثبت كما أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (إنه حديث حسن) ، يعني: أن الحديث إذا كان حسناً فهو من أقسام الصحيح، فيجب أن تثبت به العقائد، خلاف ما يقوله أهل البدع من التفرقة بين الفروع والأصول، ويقولون: الفروع تثبت بأخبار الآحاد، أما الأصول فلابد أن تكون بخبر متواتر، ولا تثبت بخبر الآحاد، وهذا شيء اخترعوه من عندهم، وهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدعوته وإبلاغه، والأمر في هذا واضح وظاهر، ولم يزل العلماء يردون عليهم في ذلك ويستدلون بالأدلة الكثيرة. والحديث الحسن من أقسام الصحيح التي تثبت به العقائد، وإن كان حديثاً فرداً، كما تثبت به الأحكام، ولا فرق بين العقائد والأحكام في ذلك، فإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث وجب قبوله، ووجب العمل بمقتضاه.

إثبات صفة القدم لله جل وعلا

إثبات صفة القدم لله جل وعلا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية:- يضع عليها قدمه؛ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط وعزتك وجلالك) ، فهو حديث متفق عليه. أولاً: هذا يدلنا على أن قول النار فيما ذكره الله جل وعلا: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] استفهام لطلب الزيادة، وهذا الحديث يدل على ذلك. ثانياً: هذا القول يجرى على ظاهره، وأن جهنم تقول قولاً يسمع، وتتكلم، والله جل وعلا أخبر فيما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه وعد الجنة والنار كل واحدة منهما ملؤها، فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحاجت الجنة والنار -يعني: اختصمتا- فقالت الجنة: مالي يدخلني الضعفاء والمساكين؟! وقالت النار: أوثرت بالجبارين والمتكبرين! فقال الله جل وعلا للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها) . فأما الجنة فإنها لا يزال فيها فضل مساكن بعد دخول أهلها فيها، فينشئ الله جل وعلا لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة، وأما النار فلا يزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ يعني: حتى ينتهي الخلق، ومعلوم أنها كما أخبر الله جل وعلا لا يلقى فيها إلا الجن والإنس كما قال جل وعلا: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] ، وهذا قسم منه جل وعلا، فهي تطلب الزيادة حتى يضع عليها رجله، وربك ليس ظلاماً للعبيد، أما ما جاء في الصحيحين من حديث أنس: (أن الله جل وعلا ينشئ للنار خلقاً، فيسكنهم في النار، فيملأ النار بهم) ، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما: حديث مقلوب، يعني: أنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، وقد بين ذلك البخاري، فإنه لما رواه أتبعه بالرواية الصحيحة التي تبين ذلك، والبخاري رحمه الله إذا غلط الراوي لا يتركه، لابد أن يبينه، بخلاف مسلم رحمه الله، فإنه يذكر السند والمتن على حسب ترتيبه الذي رسمه لنفسه، وتنتهي عهدته؛ ولهذا وجد في صحيح مسلم بعض الكلمات التي فيها خطأ واضح، وقد تكون مخالفة للقرآن، وإن كان السند صحيحاً، ولكن من المعلوم قطعاً أن الراوي وإن كان ثقة ثبتاً لا كلام فيه فإنه يجوز عليه الخطأ؛ لأنه غير معصوم، مثل ذلك الحديث الذي فيه: (وخلق التربة يوم السبت) ، فهذا خطأ ظاهر؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وليس في سبعة أيام، وأخبرنا أن آخر الأيام التي تم الخلق فيها الجمعة، فإذا كان آخرها الجمعة فأولها الأحد، والسبت ليس فيه خلق، وهذا ثابت حتى عند أهل الكتاب ولا مرية فيه. والمقصود أن هذا الحديث لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، وإنما هذا خطأ من الراوي، وقد بين العلماء ذلك، فالصواب أن الخلق الذي ينشؤه الله هو للجنة، كما ثبت ذلك في الروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما. وهذا الحديث حاول أهل التأويل تأويله كما فعلوا في غيره، وقد جاءوا في تأويله بشيء، يضحك العاقل، حيث لم يقبلوا أن يوصف الله جل وعلا بأن له رجلاً، وكلمة (قدمه ورجله) كلاهما سواء لا فرق بينهما، فمرة عبر الرسول صلى الله عليه وسلم برجله، ومرة بقدمه، والمعنى واحد، ومن الاعتراضات التي اعترضوا بها أنهم قالوا: هذا الحديث مخالف للقرآن، ما وجه المخالفة؟ قالوا: إن الله أخبر أن جهنم تمتلئ بالجنة والناس، وليس بقدمه أو رجله. والجواب عن هذا: أنه ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فينزوي بعضها إلى بعض) ، يعني: تتلاقى وتجتمع، فتمتلئ بما فيها، فتكون امتلأت من الجن والإنس، وليس بغيرهم. كذلك قالوا: إن هذا يقتضي التشبيه والتجسيم، ومعروف فيما سبق أن هذا باطل، فإذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف ربه جل وعلا بأن له قدماً وجب إثبات ذلك. وقالوا: إن هذا فيه تشويه؛ لأنها رجل واحدة وقدم واحدة، فنقول: تعالى الله أن يكون كذلك، ولكن لا يلزم من التعبير المفرد أن يقصد ظاهر ذلك، وهذا جاء وروده كثيراً، وقد جاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي موضع القدمين. وقالوا: إن المقصود بالرجل جماعة من الناس الجبابرة ومن غيرهم، يجمعون ويسمون رجلاً، مثل ما يقال لجماعة الجراد: رجل جراد وهذه سخافة، وما يستحق مثل هذا أن يتكلم عليه. وقالوا: القدم: هو ما يقدمه إلى النار، وكل هذه محاولات لرد الحق، وهي في الواقع لا تضر الحق شيئاً، وإنما تضر أصحابها. والمقصود: أن نعرف شيئاً من تأويلاتهم الباطلة التي يؤولون بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون: أولاً: الاستفهام في قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] لطلب الزيادة، وقد اختلف المفسرون في ذلك، وهذا هو أصح القولين فيه. الثاني: أن جهنم تتكلم كلاماً حقيقياً، وقد جاء ذلك كثيراً في روايات غير ما ورد في الآية، كما في حديث المحاجة، وإذا جاء نص وجب حمله على الظاهر حتى يأتي دليل يدل على خلاف ذلك. ثم إن وضع الرب جل وعلا رجله في النار من صفات الأفعال، والله جل وعلا يفعل ما يشاء، وهو جل وعلا على كل شيء قدير، فيجب أن نؤمن بذلك على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: (فينزوي بعضها إلى بعض) ، الانزواء: هو الاجتماع، تجتمع وتتضايق على أهلها وتبقى مملوءة بمن ألقي فيها؛ لأن الكفرة والشياطين انتهوا عند ذلك، وهذا يدلنا على سعة النار وعظمها، ومعلوم أن أكثر الناس كفرة، نسأل الله العافية، وكذلك الجن أكثرهم كفرة، والمؤمنون منهم قلة، ومع ذلك ينتهي آخرهم وجهنم تطلب الزيادة، فهذا دليل على سعتها العظيمة، وقد جاء أن النار يلقى الحجر على شفيرها ويبقى سبعين عاماً لم يصل إلى قعرها، وهذا يدل أيضاً على أنها دركات تذهب إلى أسفل في العمق، وليست كالجنة في السعة، وعذاب أهل النار يختلف. وقوله: (فتقول: قط قط) ، هذا اسم فعل، يعني: قد امتلأت فليس فيّ اتساع لغير من وضعوا فيّ، فهذا الذي وعدها الله جل وعلا به ستتكلم به، وهذا أيضاً من الأدلة على أنها تنطق وتتكلم كلاماً حقيقياً، كما تكلمت الجنة، وإذا أراد الله جل وعلا للشيء -وإن كان ليس له عقل وليس له لسان ولا لهاة، ولا حنجرة، ولا غير ذلك- أن يتكلم تكلم، فهو إذا أراد أنطق كل شيء: {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، هكذا تقول الجلود والأسماع والأبصار. كذلك جاء أنه جل وعلا يسبح له من في السموات والأرض، ولكن نحن لا نفقه تسبيحهم، والصواب أن هذا على ظاهره حقيقةً، فلا يؤول.

إثبات النداء والصوت والكلام له سبحانه

إثبات النداء والصوت والكلام له سبحانه [وقوله: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ] . هذا الحديث في صحيح البخاري بهذا اللفظ، وكذلك في غيره، والمقصود به إثبات الكلام لله جل وعلا، وأن كلامه يكون بحرف وصوت، وصرح به هنا وإن كان النداء في لغة العرب لا يكون إلا بحرف وصوت؛ لأن النداء هو كلام من بعد؛ ولهذا خص العرب له حروفاً معينة، التي تقتضي مد الصوت كالياء والهمزة والواو؛ لأن مد الصوت يقتضي ذلك، وهذا أمر متفق عليه عند أهل اللغة ولا إشكال فيه، فيكون ذكر الصوت هنا من باب الإيضاح والتأكيد فقط، فينادي بصوت، وكونه ينادي آدم عليه السلام؛ لأن آدم هو أبو البشر، وتمام الحديث: (فيقول آدم: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) يعني: من ذريته، فيكون واحد فقط من الألف من أهل الجنة، والباقي كلهم من أهل النار، وهذا مما يؤكد أن أكثر الناس كفار، وأن كثرتهم ليست متوازية مع أهل الجنة وأهل الخير، وإن كان أهل الجنة كثير، ولكن هؤلاء أكثر، عند ذلك قال الصحابة: وأينا ذلك الواحد؟ -يعني: اشتد هذا عليهم- فقال: (أبشروا، ما أنتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو قال: كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض) ، وفي رواية أنه قال: (فإن من يأجوج ومأجوج ألف، ومنكم واحد) ، وهذا يدلنا على أن يأجوج ومأجوج يشمل الكفرة، فهم داخلون فيهم، والخطاب للصحابة رضوان الله عليهم، ولكن المؤمنون الذين يتبعونهم تبع لهم في ذلك بلا إشكال. وقوله: (لبيك) هذه الكلمة جاءت على التثنية، ومعنى لبيك: أنا مجيب لك مرة بعد أخرى، أو أنا مقيم على طاعتك، أو أنا محب لك حباً يلازمني، عابد لك عبادة ملتزم بها. (وسعديك) يعني: إسعاداً لك بعد إسعاد، كما في التلبية. والمناسبة أن آدم هو أبو البشر فكلف أن يخرج بعث النار، والله جل وعلا إذا أمره بهذا، فإنما ذلك لأنه أبوهم، ومن وراء ذلك الأمور التي يشاؤها الله جل وعلا بتكليف ملائكته الذين يسحبونهم ويجرونهم، ويدعونهم إلى جهنم دعاً، مثل الذي يسوق الغنم بقوة، فلله ملائكة موكلون بذلك، وهذه أمور هائلة، ومن هنا يقول في هذا الموطن: (فذلك حين تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد) ، هذه المناظر هائلة ومخيفة جداً؛ لأن النار ليست سهلة نسأل الله السلامة! والمقصود من هذا أن الله جل وعلا يتكلم بصوت يسمع، والكلام صفة كمال، فالذي يتكلم أكمل من الذي لا يتكلم، ولكن كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق؛ ولهذا قال في حديث أنس: (فينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، قال البخاري: هذا صفة كلام الله، فهو لا يشبه كلام الخلق؛ لأن كلام الخلق لا يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، ثم إن كلامه جل وعلا لا يلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن ذكرنا أنها من شبهات وتغبير أهل البدع في وجه الحق، وأنه لا يضر الحق شيئاً، وهذا فقط من باب تضافر الأدلة، وقد جاء ذلك في كتاب الله في آيات متعددة تقرب من إحدى عشرة آية، فيها ذكر النداء لله جل وعلا، وأن الله ينادي. [وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ] . هذا أيضاً من الأحاديث التي فيها إثبات الكلام لله جل وعلا، ولكن هذا الكلام عام، وهو كلام عند المحاسبة، ولهذا قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) يعني: عند المحاسبة، فيناقشه الحساب، ويحاسبه عن أعماله، فإذا أراد الله تعذيبه ناقشه الحساب، فمن نوقش الحساب عذب، ولهذا جاء في تمام هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، ثم أشاح يوجهه) ، وقال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، فهذا يدل على أن هذا التكليم عند المحاسبة. أما ما جاء في بعض خلقه أنه لا يكلمهم، فيحمل نفي الكلام في ذلك على أنه كلام الرحمة والنعيم، وهذا يكون لأهل الجنة فقط، أما أهل النار فلا يكلمون، وهذا لا ينافي قوله جل وعلا لأهل النار: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، وكذلك في غير هذه الآية، وقد أخبر جل وعلا أنه يخاطبهم ولكن خطاب تقريع وتعذيب، وهذا يكون كلام محاسبة؛ لأنه جاء عاماً، فهو دليل على أنه جل وعلا يتكلم إذا شاء وقد سبق ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث إثبات صفة العجب لله

حال حديث إثبات صفة العجب لله Q يقول السائل: الحديث في العجب ضعفه بعض المحدثين؟ A هذا التضعيف لا ينفي صفة العجب، فقد صححه الشيخ وقال: إنه حسن.

إثبات أن مؤمني الجن يدخلون الجنة

إثبات أن مؤمني الجن يدخلون الجنة Q لقد ثبت في القرآن أن الجن يدخلون النار، ولكن لم يثبت لا آية ولا حديث أن الجن يدخلون الجنة، فهل صحيح أن مسلمي الجن لا يدخلون الجنة؛ لعدم وجود الدليل؟ A هذا عجيب! أولاً نقول: من أين لك أنه ما ثبت آية ولا حديث أن الجن لا يدخلون الجنة، توجد آيات وأحاديث، الله جل وعلا قال في سورة الرحمن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ، وقال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ، فالسورة من أولها إلى آخرها خطاب للثقلين الجن والإنس، وهناك آيات كثيرة تدل على هذا، أما الأحاديث فهي أكثر. فالواجب على الإنسان أن يقول: ما أعلم، ولا يقول: لا يثبت شيء؛ لأن قوله: لم يثبت في هذا شيء صعب؛ لأن هذا معناه أنه لم يأت شيء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ورود التثنية في صفة القدم لله جل وعلا

ورود التثنية في صفة القدم لله جل وعلا Q هل ورد في صفة القدم التثنية؟ A ذكرنا الأثر الذي ورد عن السلف، وهو عن ابن عباس وغيره أن الكرسي موضع القدمين.

شرح العقيدة الواسطية [10]

شرح العقيدة الواسطية [10] من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الله عز وجل عالٍ على خلقه، مستو على عرشه، وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين، وأن له الربوبية العامة لكافة خلقه، فهو رب كل شيء ومليكه سبحانه وتعالى.

إثبات تكليم الله لخلقه يوم القيامة

إثبات تكليم الله لخلقه يوم القيامة يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره، وقوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!) حديث صحيح، وقوله: (والعرش فوق الماء. والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره] . ذكر المؤلف فيما مضى الأحاديث التي فيها إثبات صفات الفعل لله جل وعلا مثل: النزول، والفرح، والعجب، ثم أتبعها أيضاً بصفة فعل مقترنة بصفة ذات، وهي وضعه قدمه في جهنم جل وعلا، وفي رواية: (رجله) ، وسبق أن المقصود هنا الوضع الذي هو فعله، والرجل والقدم من صفات الذات، وكذلك أتبع هذا بصفة تكون مشتركة بين الفعل والذات، فمرة تكون صفة ذات، ومرة تكون صفة فعل، وهي الكلام، فالقول مشترك بين هذا وهذا، وذكر أنه جل وعلا في الحديث ينادي آدم، والمناداة من أدل الدلائل على إثبات الكلام لله جل وعلا، ووجه كون هذه الصفة صفة ذات: أنه جل وعلا لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات منفياً عنه الكلام؛ لأن الكلام صفة كمال، ولا يمكن أن يكون جل وعلا خالياً من الكمال. ووجه كونها صفة فعل: أن الكلام يتعلق بمشيئته، يعني: لا يكون دائماً متكلماً، وإنما يتكلم إذا شاء بالشيء الذي يشاؤه، ومراد المؤلف بهذا الرد على أهل البدع؛ لكونه نص في هذا الحديث بقوله: (يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك) ، وذلك أنهم قالوا: إن الكلام ينقسم إلى قسمين: كلام لفظي حرفي، وكلام معنوي نفسي، أما الكلام الذي هو بالحرف واللفظ فلا يختلف أهل البدع في أن الله لا يوصف به، فالأشاعرة والكلابية وأصلهم المعتزلة والجهمية وغيرهم من الفرق الضالة متفقون على هذا، فكلهم نفوا هذه الصفة التي هي صفة كمال، فنص الشيخ رحمه الله على هذا الحديث؛ لأن فيه دلالة ظاهرة على إبطال هذا الزعم وهذا القول؛ لأن النداء والقول لا يمكن أن يقال: إنه بالنفس، أو إنه معنى مستحيل، وإذا تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام فكلامه هو الهدى، وفيه الشفاء، وهو واضح جلي، فاكتفى بهذه الإشارة في الرد عليهم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأوجه الواضحة الجلية في إبطال هذا المذهب الباطل، والفطر تبطله، والشرع والعقل يبطله، بل إجماع الرسل والأمم المؤمنة كلها على خلافه، وذكرنا من الأوجه السابقة: أن الله جل وعلا يتحدى الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال تعالى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، ولو كانوا متساعدين ومتعاونين لا يمكن أن يأتوا بمثله، فهل الله يتحدى الخلق بأن يأتوا بشيء في نفسه؟! تعالى الله وتقدس! وهم يجعلون هذا القرآن الملفوظ به المسموع المتكلم به عبارة عن كلام الله، ومعلوم أن العبارة تحتاج إلى معبر، فمن المعبر عندهم؟ لا يخرج المعبر عن شيئين: إما أن يكون الرسول الملكي أو الرسول البشري، وبهذا يتفقون مع إخوانهم بل مع أساتذتهم المعتزلة أن القرآن مخلوق، وهذا كفر بالله جل وعلا، وقد ذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هؤلاء ما يقرب من تسعين وجهاً، كل وجه من الأوجه يكفي في إبطال هذا المذهب الباطل، وذلك في كتابه الذي يسمى التسعينيات، ومن المعلوم أن الله جل وعلا ذم الكافر الوحيد الذي {فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:18-23] . ثم بعد هذه الأمور التي وقعت له من الاجتهاد يأتي بقول يمكن أن يرضاه بعض من لا يطلع على الحقائق، ويلتبس عليه الأمر فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، يعني: إن هذا الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قول البشر، فقال الله جل وعلا متوعداً له: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فهذا الوعيد في الواقع يستحقه هؤلاء الذين يقولون: إنه قول الملك أو قول البشر، وزعموا أن لهم دليلاً على هذا، وهو قول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:38-40] ، قالوا: أضافه إليه مما يدل على أنه يقوله، وهكذا أهل الباطل يتمسكون بالأمور المشتبهة الملتبسة على بعض الناس، ويفرحون بمثلها كما وصفهم الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، هذا شأنهم، ويقال لهم: إنه أضيف إليه؛ لأنه هو الذي يبلغه، وما جاء به شيطان أو كذاب، بل جاء به رسول من عند الله، فأضيف إليه لأنه هو الذي كلف ببلاغه؛ ولهذا جعل في هذه الآية قولاً للرسول البشري صلوات الله وسلامه عليه، وفي الآية الأخرى أضيف إلى الرسول الملكي: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] وهذا هو جبريل عليه السلام، فدل على أنه أضافه إليه؛ لأنه جاء به من الله فبلغه، فالرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري صلوات الله وسلامه عليهما، والكلام في الحقيقة مضاف إلى من قاله مبتدئاً منشئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، فهاتان هما الآيتان اللتان تمسك بهما هؤلاء المبطلون، وتركوا الآيات الواضحة التي يقول جل وعلا فيها: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] وما أشبهها كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّه} [الزمر:1] ، فكثير جداً تأتي آيات واضحة جلية لا تحتمل التأويل، وكقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ومن المعلوم أنه يسمعه ممن يبلغه سواء كان الرسول أو غير الرسول، وأخبر جل وعلا أنه خص موسى بالكلام: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، وهذه آيات واضحة جداً ما فيها إشكال، وقد حذرنا الله جل وعلا من الذين يتركون الواضح الجلي، ويتمسكون بما هو مشتبه، ومعلوم أن الذي فيه اشتباه يجب أن يرد إلى المحكم الواضح الجلي، فيتفق هذا مع هذا، ويصبح ليس هناك أي اشتباه، وهذا هو شأن طالب الحق، أما الذي في قلبه مرض وانحراف فيمكن أن يستدل على الكفر الصريح بشيء من القرآن كما استدل النصارى على التثليث لقوله جل وعلا: (إنا ونحن) وما أشبه ذلك مما هو في القرآن، ومعلوم أن هذا باطل، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي أن عقيدة المسلم أن كلام الله حق، وأنه لا يدل على الباطل، وكذلك قول الرسول، فإذا جاء مبطل يستدل على باطله بشيء من كلام الله أو من كلام رسوله فنجزم جزماً أن ذلك ليس معنى كلام الله، وإنما هو تحريف وتأويل الكلام بما يوافق الأهواء ابتغاء الفتنة. والشيخ رحمه الله ذكر هذا الحديث: (يقول الله: يا آدم!) ، فذكر النداء الذي يدل على رفع الصوت، فلابد أن يكون النداء بحرف وصوت، كما أن الكلام لا يعقل إلا بذلك، واكتفى بهذا الحديث، وإلا فالأحاديث في هذا كثيرة.

إثبات علو الله على خلقه

إثبات علو الله على خلقه بعد ما تقدم ننتقل إلى معنى آخر، وهو الاستدلال على علو الله جل وعلا، وأنه عال على خلقه، وسبق أن العلو تضافرت عليه أدلة الشرع الذي نزل من عند الله، وأدلة العقل والفطرة والإجماع -إجماع المؤمنين من أتباع الرسل- على هذا هذا المعنى. وهذه الصفة وصف الله جل وعلا بها نفسه في آيات كثيرة، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ومنها الحديث السابق الذي ابتدأ به المؤلف في أول الفصل وهو أنه جل وعلا ينزل إلى سماء الدنيا، فالنزول لا يكون إلا من علو إلى أسفل، وسبق الكلام عليه فقال: (وقوله في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما أن رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة ً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ) حديث حسن) بين الشيخ رحمه الله أن الحديث حسن، وسبق أن الحديث الحسن من أقسام الصحيح الذي يثبت به الحكم، سواء كان الحكم عقدياً أو عملياً من الأعمال التي تجب، ولا فرق بين هذا وهذا، هذا هو مذهب أهل السنة، وقد رواه أبو داود والإمام أحمد والبيهقي والنسائي والحاكم وغيرهم، وهو حسن بذاته. فقوله: (ربنا الله) ، الرب في لغة العرب: هو المالك المتصرف، الذي يملك الشيء ويتصرف فيه، والله جل وعلا يملك كل شيء ويتصرف فيه، ولا أحد يتصرف مع الله تعالى وتقدس، وهذا من أظهر أسمائه جل وعلا، وسيأتي أن معنى هذا الاسم ينقسم إلى قسمين، وسبق أن الاسم يجب الإيمان به، وبما دل عليه من المعنى، وبأثره، وأثره أنه جل وعلا رب كل شيء، وأما معناه: أنه جل وعلا هو الذي يتصرف في كل شيء، ويربي خلقه بنعمه. وقوله: (الذي في السماء) لفظ (في) إما أن تكون بمعنى: على، وقد جاءت كثيراً (في) بمعنى على كقوله جل وعلا في قصة فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] يعني: على جذوع النخل، وقول الله جل وعلا: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] ، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، فهذا كثير في القرآن، وكلها تدل على أن (في) بمعنى على، والحروف تأتي متعاقبة كثيراً. وإما أن تكون (في) بمعنى العلو، فلفظ (السماء) يكون المراد به أن الله في العلو، أي: ربنا الله الذي في العلو، وسواء قلنا هذا أو هذا فهي تدل على علو الله جل وعلا وارتفاعه على خلقه، وهذا هو المقصود. وهذا -كما سبق- دلت عليه الأدلة المتضافرة، وإذا جاءنا دليل الشرع وجب أن نقول بمقتضاه، ونعتقد ما دل عليه، ونؤمن به، وما سواه إذا كان مخالفاً له لا نلتفت إليه، وإذا توافرت الأدلة صار زيادة ثبوت، وزيادة خير وتأكيد. وقلنا: إن العقل والفطرة والإجماع يدل عليه والإجماع لا يكون إلا بدليل، ولكن إذا انعقد فهو يدل على الحق؛ لأن هذه الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) ، وأما العقل فليس كل عقل ينظر إليه، وإنما ينظر إلى العقل الذي سلم من الانحراف والتغير، ومن المعلوم أن عقل أبي بكر ليس كعقل أبي جهل، فلا مساواة بين عقل المؤمن الذي يعرف ربه وعقل الكافر الذي ينكر ربه، والمؤمنون إذا سألوا المبطل الذي ينفي هذا: أرأيت هذه المخلوقات من السماوات والأرض هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ كيف يكون الأمر إذا قال: إنها غير مخلوقة؟ فهذا لا يمكن؛ لأن هذا كفر بالله جل وعلا، فلابد أن نقر بأنها مخلوقة، فإذا قال: إنها مخلوقة، نقول له: من الذي خلقها؟! لابد أن يقول: الله، فإذا قال: خلقها الله نقول: عندما خلقها هل خلقها في ذاته أو خلقها فوقه أم أين خلقها؟ فإن قال: خلقها في ذاته، فهذا كفر بالله جل وعلا، وإن قال: إنه خلقها فوقه تكون هي أكمل منه؛ لأن الفوق صفة كمال وعلو، فلابد أن يقول: إنه خلقها وهو فوقها أعلى منها، خارج عنها، ليس داخلاً فيها، فهذا نوع من الأدلة العقلية، وهي كثيرة، مع أننا لا نحتاج إليها لوجود الأدلة الشرعية، ولكن لما كثر الخوض والجدل أغري بعض الناس بمثل هذه المجادلات، فصار لا يقتنع إلا بمثل هذا، فإذا كان لا يقتنع إلا بمثل هذا فلا بأس أن يذكر له الشيء الذي يقنعه أو يوقفه عند حده. أما الإجماع فإنه مبني على ما في الفطر التي فطر الله جل وعلا خلقه عليها، وكل من يعترف بربوبية ربه جل وعلا لا ينفك عن الفقر والحاجة، فإذا أراد أن يسأل ربه فإنه يجد دافعاً يدفعه من داخل نفسه، بأن يسأل ربه ويرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب! لا يلتف يميناً ولا شمالاً ولا تحت، يسأل ربه متجهاً إلى العلو، وهؤلاء المبطلون يقولون: إن الله في كل مكان، هذه عقيدتهم، ويقولون: ليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس أمام ولا خلف، ولا فوق العالم ولا داخل العالم، لا مداخل ولا محايد، ولا يسأل عنه بأين، ولا يجري عليه زمان، وليس في مكان، إذاً ماذا يكون؟! هذا هو العدم المحض، فهذا الوصف لا يمكن أن ينطبق إلا على المعدوم الذي لا وجود له، إذاًَ: هذه مجرد فكرة في أدمغتهم فقط، هذا هو الواقع، وهو الذي يدل عليه قولهم، وهذا هو مبدأ الإلحاد، بل هو أصل الإلحاد الذي آل إلى إنكار وجود الله جل وعلا، وهذا من أبطل الباطل، الله جل وعلا يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، هل ممكن هذا؟ هذا مستحيل! لا يكون الموجود هكذا من غير منشئ؛ لأنك لن تجد سيارة قائمة صنعت نفسها أبداً، لابد أن يكون لها صانع متصرف أكمل منها. ثم بعد هذا نقول: إن المؤمن يعترف أن ربه فوقه دائماً، وهذا إجماع الخلق؛ ولهذا لما كان أحد هؤلاء الكبار -الذين يقررون هذه العقيدة الزائفة الباطلة- في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن الخامس تقريباً وهو الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، كان جالساً على كرسي، وأمامه الناس يستمعون لدرسه وقوله، وصار يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فصار يتكلم على هذه المسألة وينفي أن يكون الله في السماء، ويتأول تأويلاً باطلاً، فقام رجل من الناس وقال له: يا إمام! اترك هذا الكلام الذي تقوله وتقرره، وأخبرني عن ضرورة نجدها في نفسي ونفسك وفي نفس كل الناس ما دعا أحد: يا رب! إلا ووجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه إلى فوق، ولا يلتفت لا يميناً ولا شمالاً، من أين جاءت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها؟! لابد من جواب، فوضع الرجل يده على رأسه، ثم نزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل! لماذا حيره؟! لأنه أفسد عقيدته التي كان يبنيها وينافح عنها بهذه الكلمة، فما استطاع أن يجيب، كما أنه لما حضرته الوفاة صار يبكي ويقول: ما علمت شيئاً، ونهى أصحابه عن الخوض في علم الكلام، وقال: يا ليتني أموت على عقائد عجائز نيسابور! والمقصود أن هذا إجماع مبني على الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، والأصل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها، قوله: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك) ، (تقدس) يعني: تنزه وتطهر عما يقوله الظالمون ويصفونه به، فله الكمال المطلق.

حديث: (ربنا الله الذي في السماء)

حديث: (ربنا الله الذي في السماء) وقوله: (أمرك في السماء والأرض) ، الأمر هنا يقصد به الأمر الكوني أو القدري وهو الذي يكون في السماء والأرض، يعني: الذي لا يرد، فإذا قدر أمراً من أموره جل وعلا لابد من نفوذه، وهذا من مقتضى ربوبيته جل وعلا، وأمر الله ينقسم إلى قسمين: أمر كوني كما في هذه الفقرة، وأمر ديني. أما الأمر الكوني فكقوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، والأمر الديني كقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] ، وقوله: (أمرك في السماء والأرض) ، يقصد به الأمر الكوني، بدليل أنه جعله عاماً في السماء والأرض، يعني: أنه نافذ لا يمكن أن يرد، ولا يمكن أن يعترض عليه، وهذا الذي توصف به كلماته؛ لأن كلمات الله جل وعلا تكون قدرية وتكون شرعية، فالقدرية يستعان بها ويدعى الله بها، والشرعية كذلك؛ ولهذا جاء في الحديث كما سيأتي: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) ؛ لأن المجاوزة معناها ومقتضاها العصيان. والكلمات الشرعية الدينية أكثر الناس يجاوزونها ويعصون الله فيها، أما الكلمات الكونية القدرية ما أحد يتجاوزها، والأمر مثل ذلك. وقوله: (كما أن رحمتك في السماء) ، هذا توسل إلى الله جل وعلا، فأولاً توسل بربوبيته، ثم بعموم ملكه وتصرفه جل وعلا، وأن أمره هو النافذ، وليس لأحد معه أمر، ثم توسل برحمته التي وسعت كل شيء، والرحمة تأتي ويراد بها الصفة التي يتصف بها الرب جل وعلا، ويراد بها أثرها المترتب، والأثر يكون مخلوقاً؛ ولهذا جاء وصف الجنة بأنها رحمة الله كما قال جل وعلا للجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء) ، فهي رحمة مخلوقة، وجاء في الحديث الصحيح: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء) ، فهذه المخلوقة ليست هي صفته، وإنما هي أثر صفته. ثم قال: (اجعل رحمتك في الأرض كما رحمتك في السماء) ؛ لأن السماء ليس فيه معاصي، وليس فيها إلا من هو خاضع مطيع مستكين لربه جل وعلا، (اجعل رحمتك في الأرض) يعني: الرحمة التي هي أثر الصفة، ثم قال: (واغسل لنا حوبنا) ، والحوب: هو أثر الذنب، كما قال جل وعلا: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] يعني: آثاره، (وخطايانا) الخطايا: الذنوب.

ربوبية الله العامة والخاصة

ربوبية الله العامة والخاصة قوله: (أنت رب الطيبين) ، هذه ربوبية خاصة، فهذا توسل آخر غير التوسل الأول، أولاً: توسل بالربوبية العامة المطلقة التي تعم كل شيء، ثم توسل بالربوبية الخاصة التي هي ربوبيته جل وعلا للطيبين من الملائكة والرسل والمؤمنين، ووجه ذلك: أن تربيته جل وعلا لرسله وعباده المؤمنين أخص من تربيته لسائر الخلق، حيث أنعم عليهم بالهداية، وبمعرفته وطاعته، فصارت ربوبيته لهم أخص وأكمل، فهذا يدلنا على أن الربوبية تنقسم إلى قسمين: ربوبية عامة تشمل الخلق كلهم، وربوبية خاصة تكون للملائكة والرسل والمؤمنين المطيعين. وقوله: (أنزل رحمة من رحمتك) ، هذا عام، كل ما يمن به جل وعلا على خلقه فهو من رحمته وهو أثرها، ثم خص وقال: (وشفاءً من شفائك) الشفاء عام يكون للوجع والمرض، ويكون لما في الصدور من الشبهات والشهوات وغيرها، (وشفاءً من شفائك على هذا الوجِع) ، هكذا جاء بكسر الجيم، يعني: هذا المريض، وجاء: (فيبرأ بإذن الله) يعني: إذا توسل بهذا الدعاء صادقاً مخلصاً فإنه يبرأ بإذن الله، وقد جاء في هذا الحديث أن عبادة بن الصامت شكى إليه رجل وقال: إن أبي أصيب بحبس البول، وإنه يألم ألماً شديداً، فأمره أن يرقيه بهذا الدعاء، فبرأ وشفي من ذلك.

فوائد حديث: (ربنا الله الذي في السماء)

فوائد حديث: (ربنا الله الذي في السماء) هذا الحديث يدل على مشروعية الرقية أو جوازها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى بعض أهله، ورقي حيث رقاه جبريل، فإذا كان قد فعله وفعل له، فمن هذه الناحية نقول: إن الرقية مشروعة، والفرق بين كلمة جائزة أو مشروعة واضح: وذلك أنها إذا كانت مشروعة فإن الإنسان يثاب عليها إذا رقى نفسه أو رقى غيره، قاصداً بذلك النفع، ومخلصاً لله جل وعلا، وبأسماء الله وآياته، أما إذا كانت جائزة فلا يلزم أن يحصل الثواب، وإنما يحصل النفع، فهي مشروعة، وفيها دليل على أن الرقية تكون بأسماء الله وصفاته وآياته. وفيه أنه ينبغي للداعي سواءً كان راقياً أو سائلاً أن يبدأ بالثناء على الله جل وعلا بذكر أوصافه وأسمائه الحسنى التي يتمدح بها، ويمدح عليها، ويثنى بها عليه، ثم بعد ذلك يذكر طلبه، ويذكر الأسماء التي تناسب الطلب، وهذا كثير جداً في القرآن وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أن الدعاء ينبغي أن يكون باسم الرب، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم، وأنه يكون على نوعين: توسل إليه بربوبيته العامة، وتوسل إليه بربوبيته الخاصة، وإذا تأمل الإنسان أدعية الرسل فإنها كلها -إلا ما شاء الله- بلفظ الرب: ربي ربنا، وذلك لأن له ربوبية عليهم خاصة بهم، ليست لسائر الخلق، فهم توسلوا إليه بهذه الربوبية الخاصة، وقد قيل: إن هذا من أسباب إجابة الدعاء، كون الإنسان يسأل بهذا الاسم الكريم، ويكرره.

قوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)

قوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) قوله: [ (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) ] . وهذا قاله لسبب: وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان في اليمن بعث بذهبية في تربتها لم تحصل بعد -يعني: لم تصف- فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة: عيينة بن حصن وزيد الخيل وعلقمة بن علاثة والأقرع بن حابس وقيل عامر بن الطفيل شك الراوي، وهؤلاء رؤساء قبائل، فهو أعطاهم حسب أمر الله جل وعلا لمصلحة الإسلام؛ يتألفهم بالدنيا لعلهم يدخلون في الإسلام، فيكون في دخولهم للإسلام دخول قبائلهم، فهو أمر عظيم جداً، ولكن هذا لم يتضح لبعض من أعمى الله قلبه، فجاءه رجل فقال: (هذه قسمة لم يرد بها وجه الله -هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام،- عند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك: رحم الله أخي موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر) . وفي رواية: (أن بعض الأنصار صار في نفوسهم شيء من ذلك، فقال لهم: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!) ألا تأمنوني على شيء من المال أضعه في موضعه اللائق به، وقد أمنني ربي جل وعلا على شرعه وقوله ودينه وأمره؟! والمقصود قوله: (وأنا أمين من في السماء) وسبق أن (في) هذه يجوز أن تكون بمعنى (على) ويجوز أن يكون المراد بالسماء العلو، وأي شيء قيل فهو حق، ثم إن هذه القصة شيء معتبر، ويقال: إن هذا الرجل الذي جاء معاتباً مبدأ الخوارج الذين صاروا فتنة إلى اليوم، وقد جاء أن آخرهم يكونون من شيعة الدجال، فهم يبقون، ولكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم اندحروا، ولما استأذنه بعض الصحابة في قتله قال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصومكم مع صومهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية) ، ومعنى قوله: (من ضئضئ) يعني: من جنسه وأشباهه ونظرائه، وقد جاء أنه كان محلوق الرأس، ناتئ الجبهة، فليس معناه أن كل من كانت هذه صفته يكون مذموماً، ولكن هكذا اتفق الأمر بهذا الرجل، ثم إن مقتضى الإيمان أن يرضى الإنسان بما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد في النفس حرجاً من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإيمان منتفٍ تماماً؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فإذا وجد اعتراض أو ضيق في النفس وتحرج وقال: الحكم ليس كذا ليته كان كذا وكذا فالإيمان منتف عمن كان هذا وصفه، وأقسم الله جل وعلا أنه لا يؤمن حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشيء الذي يعرض له، وكان هناك شجار فيه، بأن يسلم ويذعن، ولا يكون عنده حرج ولا ضيق. والمقصود: إثبات أن الله في السماء، وهذا نص صحيح ثابت، كما أن الذي قبله حديث حسن، والحديث الحسن يثبت به الحكم، والعادة أن العلماء يذكرون الأحاديث الواضحة البينة، ثم يتبعونها بما هو أكثر ثبوتاً، وإن كان أقل وضوح.

قوله: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش)

قوله: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش) قال: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) ، حديث حسن رواه أبو داود وغيره] . هذا الحديث حكم الشيخ عليه بأنه حسن، وكثير من الناس يقول: إنه ضعيف، بسبب محمد بن إسحاق أحد رجال سنده، وقد أطال الكلام عليه الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه: تهذيب السنن، وأجاب عن كل ما قيل في ابن إسحاق وفي النهاية قال: ذنب ابن إسحاق كونه خالف الجهمية، وقال: إن الحديث صحيح، وله طرق متعددة، وكذلك قال غيره مثل محمود أحمد بن محمود الطشتي فإنه حكم بأنه صحيح، وهو مروي عن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فقال: ما تقولون في هذه؟ فقلنا: السحاب، فقال: والمزن، فقلنا: والمزن؟ فقال: والعنان؟ فقلنا: والعنان، ثم سكت ثم قال: أتدرون ما بين السماء والأرض مسيرة كم؟ قلنا: لا، فقال: إما اثنتين وسبعين أو ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين سنة، وما بين سماء وسماء كذلك إلا أن ذكر السماء السابعة ثم قال: وفوق السماء السابعة بحر بينه وبين السماء مثل ما بين السماء والأرض، وكثافته مثل ما بين السماء والأرض، وفوق البحر عرش الله، والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه) ، وجاء في روايات غير هذه أن المسيرة تختلف، وأنها خمسمائة سنة، وجاء أكثر وأقل، وقد تكلم الحفاظ على هذا، وقالوا: الجواب عن ذلك: أن هذا يختلف باختلاف السير، فالسير يكون مسرعاً ويكون بطيئاً، وخمسمائة عام مسافة شاسعة جداً وهو كذلك، وقد جاء قول الله جل وعلا: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] وهذه الآية فيها خمسة أقوال للمفسرين، أحدها أن هذا مسافة ما بين الأرض إلى العرش، والعلم عند الله جل وعلا، ولكن هذا يدلنا على أمور: الأول: أن السماء حقيقة مبنية بناء حقيقياً، لها كثافة وسكان، وأنها سبع سموات واحدة فوق الأخرى، وهذا الذي دل عليه القرآن، وهذه السماء التي نرى فوقنا هي السماء، وليست كما يقول ملاحدة اليوم وغيرهم: إنها فضاء، وإن الكواكب تسبح في الفضاء، وبعضها فوق بعض، أما أن يكون هناك شيء مبني فلا، ويقولون: إننا إذا صعدنا إلى فوق تزول هذه التي نراها، وأصبح لا يرى شيء أصلاً، ولو ذهبت الصواريخ مهما ذهبت ما تجد إلا السماء فوقها، وهؤلاء لا يستطيعون أن يصلوا إلى السماء، ولا قريباً منها، بل يقفون عند حدهم، فهم ضعفاء، والسماء بعيدة جداً، ولكن لابد للمرئي الذي يرى أن يكون له شيء يقابله فينعكس به فتحصل الرؤيا، فإذا ذهب أثر المقابل فلا يرى شيء، من شدة البعد تنعدم الرؤيا نهائياً، فهذا هو السبب، ثم نحن نؤمن بما قال ربنا الله جل وعلا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6] ، ويأمرنا أن ننظر إليها ونكرر النظر فيرجع البصر خاسئاً وهو حسير، ما يجد فيها أي عيب، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى العدم؟ هل نصدق هؤلاء الملاحدة أم نصدق ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا؟ فقد كثر عند بعض الناس الكلام في السماء، وأنه ليس هناك إلا فضاء، وهذا خطأ، فإن السماء فوق، ولها مسافة، ثم إن السماء لها سكان، والسماوات عددها سبع كما جاءت النصوص الكثيرة جداً، وكل واحدة فوق الأخرى، وكل سماء أوسع وأكبر من التي تحتها، حتى تكون السماء السابعة أوسع السماوات وأعظمها وأكبرها، ثم فوقها بحر عظيم كما ذكر، وهذا البحر هو الذي عليه عرش الرحمن جل وعلا، ثم الله فوق العرش، وكل هذه المخلوقات بالنسبة لله صغيرة حقيرة ليست شيئاً؛ لأنه إذا كان يوم القيامة يضعها في يده وفي كفه تعالى وتقدس، ويقبضها كلها كما أخبرنا في القرآن. ثم إن هذا يدلنا على أن العرش مخلوق، وأنه أعظم المخلوقات وأرفعها، وليس فوقه شيء إلا رب العالمين تعالى وتقدس، وهو يعلم ما أنتم عليه، حيث لا يخفى عليه شيء مما يجري من مخلوقاته كلها، ومن ذلك ما يكنه العباد في نفوسهم، وما يعملون، وهذا المعنى جاء في كتاب الله، حيث جمع بين استوائه، وأنه معنا كما قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، فهو جل وعلا يجمع بين علوه واستوائه وبين كونه معنا، وهذا هو معنى قول السلف: إنه مع خلقه بعلمه، وإلا فهو على عرشه، وقد سبق الكلام على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين صفة البصر والنظر

الفرق بين صفة البصر والنظر Q هل النظر الذي جاء في حديث: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين) إلى آخر الحديث؛ هو نفس البصر؟ وهل يقال: إن النظر من الصفات الفعلية؟ وما صحة قول من قال ذلك؟ وهل يقال: إن البصر قديم النوع حادث الأفراد كما قيل ذلك في الكلام والنزول وغيرها من صفات الأفعال؟ A ما يقال هذا، البصر صفة ذات، أما النظر فهو صفة فعل، ومعلوم أن النظر يصدر من البصر، ولا يقال: إن النظر هو البصر، والبصر من الصفات الأزلية التي لا تنفك عن رب العالمين جل وعلا، فهو بصفاته أزلي، وهو كذلك دائم بها، والنظر الذي ذكر في الحديث يتعلق بمشيئته، إذا شاء نظر إلينا، وإذا شاء أعرض عنا تعالى وتقدس، ولكن هذا خاص في حالة خاصة كما سبق أنه في حالة ما إذا تأخر المطر، واشتد الأمر على العباد، فإنه جل وعلا يعجب بحالهم، كيف تقع فيهم هذه الحالة من الأزل والقنوط وهم يعلمون أن الله ربهم الذي رباهم بنعمه، ونعمه لا تزال تترى عليهم، وخيره قريب، جاء لفظ (الخير) ، وجاء (غيره) يعني: أنه يغير الأحوال من حال إلى حال.

حكم التوسل إلى الله جل وعلا بصفاته

حكم التوسل إلى الله جل وعلا بصفاته Q نعلم أنه يجوز التوسل إلى الله بصفاته كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) هل يجوز التوسل بيد الله ورجله وغيرها من الصفات أم أن هناك تفصيل؟ A لا يتوسل بقوله: أسألك برجلك! هذا كلام غير لائق، يجب أن تتوسل بما ذكر الله جل وعلا لك بالأسماء والصفات، والذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وذكره، فهذا هو الذي يتوسل به، أما إذا توسلت بصفة الذات فيجوز كأن تتوسل به نفسه: أسألك يا ألله، والمقصود كون الإنسان يعرف ما لله جل وعلا من أوصاف، الله تعرف إلى عباده بهذه الأشياء حتى يعرفوه، وقال لنا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أمرنا أن ندعوه بالأسماء الحسنى وهي هذه، فإذا أردت أن تدعو الله لشيء فتذكر الشيء الذي يناسبه، لا تقول: أسألك برجلك، ولا أسألك بيدك! لابد أن تذكر الشيء الذي يترتب على هذا، أما التوسل بهذا الذي ذكرت فهو بدعة من البدع؛ لأنه لا يترتب عليه شيء، أما أن تسأل وتقول: أسألك بيدك التي تقبض بها خلقك أو تبسطها بالعطاء أو ما أشبه ذلك فهذا من التوسل المشروع.

تكليم الله للكفار يوم القيامة

تكليم الله للكفار يوم القيامة Q هل يكلم الله تبارك وتعالى الكفار يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) فـ (من) من ألفاظ العموم لو فسرت بهذا الحديث؟ A لا، ليس كذلك؛ لأن الخطاب للمؤمنين: (ما منكم من أحد) الخطاب للمؤمنين، أما الكافرون فإنهم يخرجون من هذا، ولو كان عاماً -مع أنه ليس بعام- فهو خاص بالأدلة الأخرى التي يخبر الله فيها بأنه لا يكلمهم، ولا يدخل في هذا العموم الكلام الذي يكون للتوبيخ؛ لقول الله جل وعلا لهم وهم في النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ولكنه كلام عذاب، ليس هو الكلام الذي فيه التنعم والتلذذ، وإنما هذا كلام محاسبة، وقد يكون فيه عذاب ونقمة، وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) يعني: يحاسبه، والله سبحانه يحاسب الناس يوم القيامة، بماذا يحاسبهم؟ يحاسبهم بكلامه، ومعلوم أن الناس ينقسمون إلى أقسام في هذا، قسم يؤمر بهم إلى الجنة بلا حساب، وهؤلاء قلة، وقسم يؤمر بهم إلى النار بلا حساب: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] كفار ما عندهم حسنات، ولا عندهم إيمان يحاسبون عليه، أعمالهم كلها سيئات، وقسم خلطوا فهؤلاء هم الذين يحاسبون، ولا يلزم من هذا الخطاب العام أنه جل وعلا يخاطب الخلق كلهم عامة، إذا حصلت الشفاعة فقد وعد الله جل وعلا أنه يأتي إليهم ليقضي بينهم، فيأتي ثم يخاطبهم ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ هذا خطاب عام للخلق كلهم، وكلهم يجيبون، ويقولون: بلى يارب، فيمثل لكل عابد ما كان يعبده في الدنيا فيقال له: اتبعه، فيتبعون معبوداتهم إلى جهنم ويلقون فيها، ويبقى المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا إلى آخر الحديث، وهو حديث ثابت في الصحيحين.

حكم تشريع القوانين الوضعية

حكم تشريع القوانين الوضعية Q فضيلة الشيخ قلت حفظك الله: إن من معنى الربوبية التصرف في كل شيء، وتدبير شئون الخلق، وهذا يكون بإرسال الرسل، وإنزال الشرائع حتى تستقيم حياة الناس، السؤال: هل من وضع قانوناً من عنده يسير عليه الناس، ويحتكمون إليه، يعتبر مشرعاً مع الله، ينازع الله في ربوبيته؟ A بلا شك، من وضع أحكاماً يرجع إليها الناس ويتحاكمون إليها، نابذين شرع الله، تاركين له، ويجعلون محاكم لها مراجع من القوانين، القانون الفرنسي أو غيره، فهم قد نازعوا الله جل وعلا في ربوبيته، وهذا لا إشكال فيه وهو واضح. بعض العلماء يقول: إن هذا شرك في العبادة، ووجه ذلك أن العباد كلفوا أن يتعبدوا الله بشرعه، ولا يعبدوا الله جل وعلا إلا بما جاءهم به، فبالنظر إلى فعل العباد يكون من شرك العبادة، أما بالنظر إلى أن هذا وضع ليكون بدلاً للشرع يرجع إليه وهو حكم فالحكم لله، وهو من معاني الربوبية، فيكون شركاً في الربوبية، ومعنى ذلك أنه يدخل فيه هذا وهذا.

حكم طلب المريض الرقية من الغير

حكم طلب المريض الرقية من الغير Q هل طلب المريض الرقية من أهل العلم فيه حرج، وإن كان يعرف القراءة؟ A إذا طلب الإنسان الرقية لا يكون من السبعين الألف الذين يسبقون إلى الجنة؛ لأنه طلب من الخلق، والواجب على المؤمن أن يكون غنياً بربه جل وعلا عن الخلق كلهم، وأن يكون طلبه وسؤاله من الله وحده، والسبب في هذا كما يقول العلماء: أن الإنسان إذا طلب من المخلوق فإن الطلب يكون له أثر في القلب، وهو نوع من الافتقار والالتفات إلى المطلوب منه، وهذا يكون نوعاً من العبادة، وإن كان هذا قد يكون خفيفاً عند بعض الناس، ولكن من هذه الناحية صار نوع افتقار إلى المخلوق، فمنع من قام به ذلك أن يكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بلا حساب، وقالوا: الدليل على هذا أن الله حرم مسألة المخلوق إلا في حالات ثلاث فقط، إذا وقع الإنسان في ضائقة لا يجد عنها مندوحة، وإذا حصلت له جائحة اجتاحت ماله، وإذا تحمل حمالات، ففي هذه الحالات فقط تجوز له المسألة كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة، وقال بعد ذلك: (وأما ما عدا ذلك فالمسألة سحت) ، وجاء أنها خموش وكدوش في وجه الإنسان، فمسألة الرقية من هذا النوع.

خروج من يطلب الرقية ممن يدخلون الجنة بغير حساب

خروج من يطلب الرقية ممن يدخلون الجنة بغير حساب Q ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف السبعين الذين يدخلون الجنة من غير حساب أنهم لا يرقون ولا يسترقون فكيف أجمع بين هذه الأحاديث وحديث الرقية؟ A تكرر الجواب عن هذا، وأن المقصود بقوله: لا يسترقون: الطلب، يعني: لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، أما لفظ: (لا يرقون) فقد حكم الحفاظ أنها رواية غلط، لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كون الإنسان يرقي غيره فيه إحسان، فكيف يكون الإحسان سبباً لمنع السبق إلى الجنة، وإن كانت في صحيح مسلم فهي غلط، والصواب: (لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) ، وأما كونهم يرقون فغير ثابت. والسبب الذي جعل المسترقين غير داخلين في السبعين ألفاً كما يقول العلماء: لأنهم سألوا الرقية من غير الله، سألوها من الناس، وسؤال الناس فيه نوع افتقار إليهم، وذل القلب للمسئول، وفيه نوع من العبودية لغير الله، فهذا السبب هو الذي منعهم من السبق إلى الجنة.

المقصود بالرحمة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل رحمة من رحمتك)

المقصود بالرحمة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل رحمة من رحمتك) Q ما المراد بالرحمة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنزل رحمة من رحمتك) ، هي هي الرحمة التي هي صفة ذات؟ A تقدم أن بينا أن المقصود من هذه الرحمة الرحمة المخلوقة، فإن التي تنزل مخلوقة، كالشفاء، والعطاء، والفضل الذي يتفضل به، والرحمة التي طلبت هنا هي شفاء المريض، وشفاؤه ليست هي رحمة الله التي هي صفته، ولكنها من أثر رحمته.

تسمية الله جل وعلا بالمسعر والقابض والباسط

تسمية الله جل وعلا بالمسعر والقابض والباسط Q هل المسعر والقابض والباسط من أسماء الله عز وجل أم من صفاته؟ A لا أسماء ولا صفات، ولا يجوز أن تكون أسماء ولا صفات، ولكن الله يُخبر عنه بأنه يفعل هذه الأشياء وباب الخبر واسع، كما يقال: إن الله موجود، وإنه شيء، ولا يسمى بأنه موجود، ولا بأنه شيء، وباب الخبر واسع، ولا يقال: إنه هو الزارع؛ ولا نسميه الزارع، ولهذا يطلق على بني آدم ذلك كثيراً ولا أحد ينكره.

الرقية سبب من الأسباب وليست مؤثرة بذاتها

الرقية سبب من الأسباب وليست مؤثرة بذاتها Q ما معنى قول الإمام السيوطي في جواز الرقية: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بنفسها؟ A هذا ليس قول السيوطي، بل هو ينقله عن العلماء، يقول: أجمعوا على ذلك، يعني: ألا يعتقد أن الرقية هي التي تشفي بنفسها، وإنما الشافي هو الله بسبب الرقية.

إطلاق الرحمة على المطر

إطلاق الرحمة على المطر Q هل يجوز أن نقول: المطر رحمة الله؟ A يجوز، وهو مثل الشفاء.

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا) Q ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث زينب بنت حجش الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا) ؟ A الله أعلم، ولكن أكثر العلماء على أنه فتح من الشر الذي انتشر وبدأ يظهر كمثل هذا، أي: هذا مبدأ ظهور الشر، وبعضهم يقول: هو على ظاهره، الردم ردم حقيقي، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في كتابه في قصة ذي القرنين، وأنه ينفتح ثم يخرجون، فجاء بوصفهم أنهم من كل حدب ينسلون، وإذا كانوا من كل حدب ينسلون فليسوا من أهل الصين، بل يأتون من جميع الجهات، وهذا يشمل أن يكونوا من أهل الأرض كلهم، والله أعلم، والأمر هذا فيه إشكال؛ لأنهم -كما هو معروف- من بني آدم، والأرض الآن عُرِفت، وليس فيها شيء مخفى على الناس اليوم، فقد عرف الناس مجاهيل الأرض كلها، فأين الذين يملئون الأرض كلها، وقد يشربون الأنهار؟ أين هم؟! الله أعلم، فالعلم عند الله، ولكن خبر الله حق لابد من وجوده. فالمقصود أنه استشكل ذلك كثير من الذين تكلموا فيه، وصار فيه إشكال عندهم.

معنى قول الله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله)

معنى قول الله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله) Q ما معنى قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ؟ A السؤال عن الاستثناء في قوله: (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، فالمعنى أن خلود أهل الجنة وأهل النار كله بمشيئة الله، ولا يستطيعون أن يكتسبوا الخلود بأنفسهم، ولا أكسبتهم إياه النار، وإنما هو بمشيئة الله، فالأمور كلها بمشيئته، ولو شاء ما حصل ذلك، لكنه أخبرنا أن مشيئته تستمر حقاً في أهل الجنة والنار.

شرح العقيدة الواسطية [11]

شرح العقيدة الواسطية [11] يشرع السؤال بـ (أين الله؟) للتعليم، كما سأل النبي عليه الصلاة والسلام الجارية فقالت: في السماء، فأقرها، وقد تواترت الأدلة على إثبات أن الله في السماء، ومنها: دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) ، ومع علو الله تعالى فإنه سبحانه مع الخلق جميعاً بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته.

الله في السماء

الله في السماء يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت) ، حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه] . علو الله جل وعلا على خلقه ثابت بأدلة الوحي، وبأدلة العقل، وبأدلة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ونفي العلو شذوذ جاء به أهل البدع، شذوذ عن الإيمان الذي ركزه الله جل وعلا في قلوب عباده بأنه فوقهم تعالى وتقدس. أما مخالفته للوحي فأمر ظاهر لا كلام فيه، ولا يجادل في ذلك إلا ضال في دينه، أو جاهل لا يعرف شيئاً من الحق، وقوله للجارية: (أين الله؟) ، هذا من تمام الأدلة التي ذكرها، والأدلة كثيرة، حتى أوصلها بعض العلماء إلى ألف دليل، كلها تدل على علو الله، وهذا لأنواعها وليس لأفرادها، أما أفرادها فكثيرة جداً، فحصرها صعب، ومعلوم أنه يكفي المؤمن لاتباع الحق ولو دليل واحد، ولكن كثرة الأدلة وتضافرها تدل على قوة ذلك.

جواز السؤال عن الله بأين

جواز السؤال عن الله بأين حديث الجارية رواه مسلم، ورواه غيره، وهو حديث ثابت في الصحيح، وهو يدل على جواز السؤال عن الله بأين، وأهل البدع يشنعون على أهل السنة ويسمونهم الأينية، يعني: أنهم يثبتون الأين لله بالسؤال عنه، فينبغي أن يسألوا من الذي أثبت هذا؟ هل هم أهل السنة من ذات أنفسهم أو أنهم يقتدون بسيدهم وبنبيهم صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أن الذي يرد هذا يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أن علو الله ثابت في الفطر، فهذه الجارية بفطرتها أخبرت بما انطوى عليه قلبها من الإيمان والفطرة التي فطر الله عليها عباده، فهذا علم يثبت في النفس وتميل إليه وتريده كما أنها تريد اللبن، فإن المولود وقت وضعه يطلب اللبن بفطرته، فكذلك الفطرة على وجود الله وأنه فوق، وهذه الفطرة قد يغيرها المربي. (قالت: في السماء) سبق أن (في) بمعنى (على) يعني: على السماء، وهذا أمر واضح، وإن قدر أن (في) على بابها فيكون المقصود بالسماء: العلو، والمعنى: أن الله في العلو. وقوله: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله) ، وفي رواية أنها أشارت إلى السماء أيضاً وقالت: (أنت رسول من في السماء) ، فالله جل وعلا في السماء، وهذا أمر ثابت بالعقل والفطرة والشرع: ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اعتقها فإنها مؤمنة) ، وفي هذا دليل على أن الإيمان شرط في العتق؛ لأنه قال: (اعتقها فإنها مؤمنة) فجاء الحكم مرتباً على ما سبق بالفاء، وهذا يدل على أن هذا علته، ولو تخلف ذلك تخلف الحكم؛ ولهذا قال: (فإنها مؤمنة) ، فالذي يثبت أن ربه في السماء يحكم بأنه مؤمن. وفي هذا دليل على أن الواجب على العبد معرفة الله جل وعلا بالفطرة وبالوحي، وليس كما يقول أهل الضلال أنه يعرفه بالشك أو النظر أو القصد للنظر، ثلاثة أقوال عندهم، وهي أقوال باطلة، بل قال بعض العلماء: إنها كفر، لماذا؟ لأن هذه الأمور لا يعرفها سادات الخلق من الصحابة وأتباعهم، وإنما جاء بها الجهمية وأضرابهم من معتزلة وأصحاب الكلام، والمشكلة أن هذا بقي عند الأشاعرة كما هو موجود في كتبهم، وحاول كثير من أئمتهم إبطال هذه الدعوة فقال: هذه مسألة بقيت في المذهب عن المتكلمين، وليست هذه فقط التي بقيت في مذهب الأشاعرة من المتكلمين، بل بقيت مسائل كثيرة جداً، ولكن أنكرت هذه لظهور بطلانها ووضوحه. وفي هذا الحديث -كما تقدم- جواز السؤال عن الله بأين هو؟ وقد سئل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأجاب كما روي أنه قيل له: أين كان ربنا قبل خلق العرش وقَبل خلق السموات والأرض؟ قال: (كان في عمى، فوقه هواء وتحته هواء) ، وكلمة عمى هذه رويت بالمد والقصر، فإذا كانت بالمد (عماء) فقالوا: معناها السحاب الرقيق كما جاء ذلك في القرآن: {هل يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ} [البقرة:210] ، ويكون المقصود: أي: كان في ظلل من الغمام، وإذا كانت بالقصر (عمى) فمعنى ذلك أنه شيء لا يعلم، أي: أنه أمر لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وليس في هذا متمسك لأهل الباطل الذين يقولون: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، تعالى الله وتقدس، فإن هذا من اختراعهم ومن بدعهم، والذي يقول: إن هذا الكلام حديث فقد أبعد عن الصواب كثيراً، فليس ذلك حديثاً، وإنما هو قول أهل البدع. وفيه أنه يكتفى بالحكم بإيمان الإنسان أن يؤمن أن الله جل وعلا ربه، ومقتضى ذلك أنه معبوده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والصواب أن هذا هو أول ما يجب على الإنسان.

التعبير عن الله بالجهة

التعبير عن الله بالجهة في حديث الجارية إثبات العلو لله جل وعلا كما هو ظاهر، وهذا هو المقصود من سياق الحديث، فالله فوق، وبعض الناس يقول: إن الله في جهة العلو، وكلمة (جهة) هذه لم تأت لا في الكتاب ولا في السنة، ولا يجوز التعبير بالشيء الذي لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتاب الله، وإنما الواجب أن يعبر بالألفاظ الشرعية، ومعلوم أن ما يوصف الله جل وعلا به يجب أن يكون بالنص لا بقياس ولا بعقل، وهذا معنى قول أهل السنة: صفات الله جل وعلا توقيفية، فإذا قال قائل: هل الله في جهة أو ليس في جهة؟ فقل: هذا القول بدعة، لا ينفى ولا يثبت، بل يستفسر ويعلم ما مراده، فإن كان مراده أن الله في جهة العلو، فنقول: هذا المعنى صواب، ولكن العبارة باطلة؛ لأنها بدعة، وكذلك إذا قال: إن الله ليس في جهة يتوقف فيه حتى يتبين مراده، فإن أراد بقوله: إن الله ليس في جهة، أي: أنه ليس هناك جهة تحويه تعالى وتقدس، ولا شيء يقله أو يظله، فنقول: المعنى صواب وحق، ولكن العبارة باطلة، ويجب أن يعبر بالعبارة الشرعية وهي أن الله فوق، وأن الله هو العلي الأعلى، وما أشبه ذلك من العبارات التي جاءت في الكتاب والسنة، أما إذا أراد أمراً باطلاً فيرد لفظه ومعناه.

معية الله عز وجل

معية الله عز وجل قال: (وقوله: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما ما كنت) حديث حسن) هذا انتقال إلى صفة أخرى من صفات الله جل وعلا، وهي المعية، والشيخ رحمه الله ذكر المعية بعد العلو ليبين أن المعية لا تخالف العلو، بل توافق ذلك، فمعيته لا تنفي علوه، وعلوه لا ينفي معيته، وسبق أن المعية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: معية عامة، ومقتضاها التخويف والاطلاع، وهذا ورد كثيراً في كتاب الله جل وعلا كقوله جل وعلا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، وقوله: (يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وهو معهم) . القسم الثاني: معية خاصة، ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ كقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، وقوله جل وعلا في خطابه لموسى وأخيه هارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، وقوله جل وعلا في إخباره عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو مع صاحبه أبي بكر في الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] يعني: إنه معهما دون الكفار الذين هم بجوار الغار عند بابه، فالله معهما بحفظه واطلاعه على حالتهما ونصره وتأييده، وليست هذه المعية مقتضية للمخالطة والممازجة تعالى الله وتقدس، ولو كانت المعية تقتضي المخالطة لما أصبح لتقسيمها إلى عامة وخاصة أي فائدة. وقول العلماء عن المعية العامة: إن الله معهم بعلمه، لا يقصدون بهذا مجرد العلم فقط، وإنما ذكروا هذا لأنه ظاهر جداً، كل يعلمه ولا ينكره أحد، وإنما هو معهم بعلمه، وكذلك بنظره وإحاطته وقبضته، وهم لا يخرجون عن ذلك، وسبق أن المعية في لغة العرب معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، وكل من أضيفت إليه المعية تكون معيته على ما يليق بذلك المضاف، فقد يقول الإنسان مثلاً: مالي معي، ويكون لها معنى، ويقول: زوجتي معي، فيكون لها معنى، ويقول: صاحبي معي، فيكون له معنى، ويقول: متاعي معي، وهكذا، فإذا أضيفت إلى الله يجب أن تكون على ما يليق به جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] أي: معه على الإيمان، وقتال الكفار، والامتثال لأمر الله، والقيام بما أوجبه عليهم، وليس المعنى أنهم معه أي: مختلطين به، ممازجين للحمه ودمه. هذا لا يقوله من يعرف اللغة، وبهذا يتبين أن الذين يقولون: إن المعية تدل على الاختلاط والكون مع الناس في الأرض -تعالى الله وتقدس- ضلال بين. وفي هذا الحديث دليل على تفاضل الإيمان، وأن بعضه أفضل من بعض، ودليل على أن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وأنها أيضاً تتفاضل؛ ولهذا قال: (أفضل الإيمان أن تعلم) والعلم هذا من عمل القلوب، وهذا مقام الإحسان، وهو أفضل المقامات، وهو أن يؤدي الإنسان جميع ما يؤديه، وينتهي عما ينتهي عنه وهو على هذه الصفة: عالم بأن الله معه ينظر إليه، ويسمع كلامه، ويعلم ما في خلجات نفسه، وينظر إلى حركاته، فإذا تيقن ذلك فإنه يستحي من الله جل وعلا، ولا يقدم على المنهي، ولا يحجم عن الواجب الذي أوجبه الله عليه. ثم هذا العلم قد قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجتين، إحداهما أعلى من الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) ، هذه الدرجة العليا كأنك تراه، أي: تشاهده أمامك، ومعلوم أنه إذا كان يراه فإنه لن يدخر وسعاً في إحسان العمل، وأدائه على الوجه الأكمل، ولن يدخر وسعاً في الانتهاء عن المنهي والابتعاد عنه، فإن لم يستطع ذلك، ولم يصل إلى هذا، فينتقل إلى درجة أقل من هذه فقال: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) يعني: أن تنتقل إلى العلم بأنه يراك، فتعلم أنه يراقبك ويراك، وهذه أيضاً من درجات الإحسان، وهي من أفضل الأعمال، ولكن الدرجة التي قبلها أعلى. وقوله: (حيثما كنت) يعني: في أي وقت كنت، وعلى أي حال كنت، فهي عامة في الأوقات وفي الحالات، يعني: دوام ذلك، وليس معنى هذا أن هذا يلم به الإنسان مرة ويفقده أخرى، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أفضل الإيمان استدامة الإنسان على هذه الحال، والإنسان قد تختلف أحواله في الإيمان، فمرة يزداد إيماناً وعلماً، ويحس بذلك في نفسه، ومرة يضعف إيمانه إذا غفل، واقتراف المعاصي يضعف إيمانه، وإذا ذكر الله واستحضره بقلبه وعمل الطاعات يزداد إيماناً على إيمانه السابق.

حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه)

حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه) قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه. يبصق ويبزق لغتان، ولكن لغة الزاي أشهر، وهذه قليلة، وكلاهما صحيح، ولغة ثابتة. وقوله: (قبل وجهه) يعني: أمامه، وهذا فيه تحريم البصاق أمام الإنسان، وكذلك عن يمينه، وهذا مطلق ليس في الصلاة فقط، بل حتى وإن كان خارج الصلاة؛ ولهذا قال: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) وإذا كان في الصلاة يجوز له ذلك إذا لم يكن يصلي في المسجد؛ لأن هذا خصص بالحديث الذي فيه: (البصاق في المسجد خطيئة) ، فلا يجوز أن يفعل الإنسان الخطيئة، قال: (وكفارتها دفنها) ؛ ولهذا جاء الإرشاد إلى أن يبصق في ردائه، فإذا بدره البزاق يضعه في ردائه ثم يفركه، وهذا دليل على أن البزاق طاهر ليس بنجس ولكنه مستقذر، وجاء في صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة: (أن رجلاً كان يصلي بقوم فبصق أمامه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يكون إماماً، وأمرهم أن يتخذوا إماماً غيره، وقال له: إنك آذيت الله وآذيت رسوله) ، وهذه الأذية ليست لمجرد أدب، ولهذا قلنا: هذا يدل على التحريم، فالله جل وعلا أذيته أمر عظيم، وكذلك أذية رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فإن الله قبل وجهه) قال الشيخ رحمه الله: هذا يجب أن يكون على ظاهره، فالله قبل وجهه وهو فوق عرشه، ومثل هذا قد يثبت للمخلوق، فمثلاً إذا قدر أن الإنسان يناجي السماء، فإن السماء تكون قبل وجهه وهي فوقه، والله أكبر من كل شيء، ولا يجوز أن يؤول هذا، ومن الغريب أن بعض المعتزلة استدل بهذا الحديث على مذهبه الباطل، وهذا من الغرائب فإنهم لا يستدلون بالحديث مهما كان، ولكن أهل الهوى إذا صار لهم متمسك في شيء مما يريدونه استدلوا به، وإلا قالوا: هو خبر آحاد، فهذا الرجل قال: حديث (لا يبزق قبل وجهه ولا عن يمينه) يدل على أن الله في كل مكان. وليس معنى ذلك أنه يكون مرئياً؛ ومن أهل البدع من يقول: إن الله لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا كذا ولا كذا إلى آخره، ومقصودهم بهذا الكلام نفي أن الله جل وعلا فوق، وأنه ليس في السماء، وليس مستوياً على عرشه، ووجه استدلاله بهذا جعل الأمام مثل العلو، فدل على أنه لا فوق ولا أمام، وكذلك يكون في بقية الجهات، يعني: لا خلف، ولا يمين، ولا شمال، ولا تحت، كما أنه لا فوق ولا أمام، وهذا استدلال عجيب. فهو استدلال بما هو دليل عليه، لكن هكذا إذا أراد المبطل أن يثبت باطله، ونظير ذلك أن بعض عظمائهم وكبرائهم استدل بدليل قريب من هذا على نفي العلو، فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فجعل الضمير يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما وجه الاستدلال بهذا على نفي العلو؟ فشرط عليهم أن يدفعوا له مالاً حتى يخبرهم بوجه ذلك؛ لأنه قد أضافه غيره فلم يجد ما يقدمه له، فأعطوه مقصوده فقال: وجه ذلك أن يونس بن متى عليه السلام لما التقمه الحوت قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء السابعة صار أعلى مقاماً، لكن في هذا المقام هو ويونس سواء؛ لأنه قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ، فهما في القرب من الله سواء، الذي في بطن الحوت في ظلمات البحار وقاع البحار والذي فوق السموات السبع سواء، هذا وجه الاستدلال. وهو استدلال أعور، بل ليس له نظر أصلاً، وهكذا كلام أهل البدع، ولكن وجه الغرابة أنهم يردون نصوص الأحاديث، ثم إذا كان لهم فيها شيء يتعلقون به قالوا: إنه دليل لنا.

حديث: (اللهم رب السماوات السبع)

حديث: (اللهم رب السماوات السبع) قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع)) (اللهم) يقول العلماء: إن الميم عوض عن ياء النداء؛ ولهذا لا تجتمع ياء النداء مع هذه الكلمة (اللهم) ، وأما ما جاء في قول بعض العرب: إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهم فقالوا: هذا شاذ لا يقاس عليه. والرب هو المالك المتصرف، الذي أوجد الأشياء، وقام على مصالحها مما يدل على وجوده، وسبق أن الربوبية تكون عامة وتكون خاصة، وهذا توسل عام بأنه رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، وعطف الأرض على السماوات السبع بالإفراد، وقد جاء في بعض الأحاديث: (ورب الأراضين) ، والذي جاء في القرآن ذكر السماء بالجمع إلا إذا أريد شيء آخر، والأرض لم تأت في القرآن مجموعة إلا في آية لما عطفها على السماوات قال: {وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] يعني أنهن سبع، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أراضين) ، ويوجد أحاديث أخرى، وبهذا يثبت أن الأراضين سبع أيضاً مثل السماوات، أما كون السماوات سبع فهو ظاهر وجلي، وهي سبع طبقات، وقد تكاثرت النصوص في ذلك، فهي سماء فوق الأخرى، وسبق في الحديث: أن بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام أو ثلاثة وسبعون عاماً على حسب الروايات التي جاءت، وهذا الاختلاف في التقدير على اختلاف المسير، ولها كثافة، وثبت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أن السماء لها أبواب، وأنها تستفتح، وفي القرآن أخبر جل وعلا أن للسماء أبواباً، وأنها لا تفتح لأعمال الكفار، وبهذا ثبت أن السماء حقيقية، وأنها مادية، وأن لها أبواباً، وفيها سكن، وهي منفصلة بعضها عن بعض، وبين سماء وأخرى مسافة شاسعة جداً.

معنى كون الأرض سبع أرضين

معنى كون الأرض سبع أرضين هل الأرض سبع طبقات مثل السماء؟ ذكر القرطبي في تفسيره أن للعلماء في هذا قولين: أحدهما: أن المقصود بسبع أراضين أنها طبقات بدون فتوق. والثاني: أنها مفتوقة، كل طبقة بينها وبين الأخرى فتوق، يعني: فضاء، ورجح هذا القول، وذكر أدلته على ذلك من أقوال بعض السلف، وذكر قولاً ثالثاً، وهو قول مردود، وهو أن المقصود بسبع أراضين سبعة أقاليم ظاهرة، وهذا باطل، يبطله الحديث وغيره، وقوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] فالمثلية لا تتأتى على ذلك؛ لأن الأقاليم طبقة واحدة كلها، والقول الذي اختاره القرطبي ليس هو الصواب، والصواب هو القول الأول والعلم عند الله جل وعلا،، وما ذكره من أقوال السلف الظاهر أنه مأخوذ عن أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا يجوز الاعتماد عليهم في مثل هذه الأشياء، فالراجح أنها سبع طبقات ليس بينها فضاء، كل واحدة تحت الأخرى كما قال الله جل وعلا، ويكفينا هذا، أما ما ذكره الحافظ ابن كثير ورواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: لو أخبرتك لكفرت، وفي رواية أخرى أنه قال: في كل أرض من هذه الأراضين مثلما على وجه هذه الأرض، حتى ذكر في كل أرض نبي مثل النبي الذي جاء على وجه هذه الأرض، فهذا من الكذب، بل هذا من زنادقة أهل الكتاب الذي أرادوا به إفساد عقائد المسلمين، فإذا صح عن ابن عباس أنه قاله فقد نقله عن أمثال كعب الأحبار وغيره من الذين ينقلون عن كتب المتقدمين من اليهود وغيرهم الشيء الذي يكذبه ما عندنا من كتاب، وقد جاء شيء كثير عن وهب بن منبه رحمه الله وعن كعب الأحبار وغيره، وفي صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال منكراً على الذين يستمعون ويأخذون من أهل الكتاب: ما لكم تأخذون عنهم؟ فإن من أصدقهم كعب الأحبار، وإننا لنبلوا عليه الكذب. هكذا ذكره البخاري في صحيحه: وإننا لنبلوا عليه الكذب. يعني: في الشيء الذي ينقله مثل قوله: قرأت سبعين كتاباً من الكتب التي أنزلها الله! من أين له سبعون كتاباً من الكتب التي أنزلها الله؟! وما أشبه ذلك من أشياء يكذبها الواقع. والمقصود أن قوله: (والأرض) ذكرها مفردة لهذه العلة، ويكون هذا هو سر ذكرها مفردة في كتاب الله جل وعلا، فإنها إذا عطفت على السماوات التي جاءت بالجمع تذكر مفردة، ولا بد أن اللفظ الذي يذكره الله جل وعلا يكون له معنى، فيجب أن يتفطن له، وكذلك إذا ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا قوله: (والأراضين) في الحديث الآخر: (اللهم رب السماوات السبع وما أظلت، ورب الشياطين وما أضلت، ورب الأراضين وما أقلت) ، فهذا لا ينافي هذا، فلكل كلام معنى.

توسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله في هذا الدعاء

توسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله في هذا الدعاء قال: (ورب العرش العظيم) هذا من التوسل الخاص؛ لأن ربوبية الله للعرش غير ربوبيته للسماوات والأرض، فهي ربوبية خاصة، ثم قال: (ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى) ، وهذا عموم بعد خصوص، فالتوسل يكرر، ويذكر الشيء الذي يليق بالله جل وعلا، وقوله: (فالق) الفلق هو: الشق، والحب هو: ما يخرج من النبات يعني: أنه يفلقه للإنبات، والنوى هو: فصم التمر، فإنه يشبه الحصى، ومع ذلك يكون رقيقاً، وإذا أراد الله جل وعلا أن ينفلق عن نبات أخضر: يخرج ويشق الأرض، وهذا بقدرة الله، ولا أحد من الخلق يستطيع أن يفعل ذلك. ثم قال: (منزل التوراة والإنجيل والقرآن) هذا توسل آخر بأنه أنزل هذه الكتب التي فيها الهدى والنور، فيها هداية البشر إلى الحق، وفيها علاج مرض الشبهات، ومرض الشهوات لمن أراد الله جل وعلا، فهي تهدي إلى رب العالمين، ونص على هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها أعظم الكتب التي أنزلها الله جل وعلا، وآخرها هو أعظمها، وهو المهيمن عليها.

الاستعاذة من شر النفس ومن شر كل دابة

الاستعاذة من شر النفس ومن شر كل دابة قوله: (أعوذ بك من شر نفسي) العياذ هو الالتجاء من المخوف، أن يلتجئ ويعتصم من شيء يخافه، واللياذ قد يكون بهذا المعنى، ولكن بعض العلماء ذكر أن اللياذ يكون في الخير، والعياذ يكون من الشر، واستدل على ذلك بقول المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله ويا من أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره وهذا يقوله في مخلوق نسأل الله العافية، وهذا لا يجوز أن يقال إلا في الله جل وعلا؛ لأنها من صفات الله وليست من صفات المخلوق، ولكن هكذا الشعراء يبالغون المبالغات التي قد تخرج بهم إلى الشرك نسأل الله العافية، وبهذا يتبين لنا الفرق بين العياذ واللياذ، وإن كان بعض العلماء لم يفرق بين هذا وهذا. قوله: (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) المقصود بالدابة كل ما يدب على وجه الأرض، واصطلح على أن الدابة هي التي تمشي على أربع، وبعضهم عندهم اصطلاح أخص، فيطلقونها على الحمار، ولكن هذا اصطلاح فقط، وإلا فاللغة تدل على أن كل ما دب على وجه الأرض فهو دابة، والحديث هذا يدل على ذلك، ويدخل في هذا الجن والإنس والحيوانات وغيرها، قال: (أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) ، والناصية هي مقدم الرأس، ومعنى ذلك أنك تملكها وتتصرف فيها كيف تشاء، فهي بقبضتك، لا تتحرك إلا بمشيئتك، ولا يصدر منها شيء إلا بإرادتك.

قوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء)

قوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء) قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء) هذا هو المقصود بالحديث، (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ومحل الشاهد قوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ، وهذا تفسير لهذه الأسماء الأربعة المتقابلة، ولا يجوز أن يعدل عن هذا التفسير؛ لأن هذا تفسير المعصوم صلوات الله وسلامه عليه الذي لا ينطق عن الهوى، فتفسير قول الله جل وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] أنه الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن دون كل شيء، فهذه الأسماء الأربعة اثنان للأزلية والأبدية، واثنان للإحاطة، إحاطة العلو والظهور والبطون، وليس معنى ذلك أنه في كل مكان تعالى الله وتقدس، فهذا مثل كونه جل وعلا على العرش وهو معنا، وهذا هو المقصود من قوله: (ليس دونه شيء) ، فهو باطن ليس دونه شيء، فكل الخلق في قبضته، وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه، يتصرف فيه كيف يشاء، هذا معنى الباطن، وهذا الذي يجب أن يعلم.

قوله: (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر)

قوله: (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر) قوله: (اقض عني الدين) هذا هو الدعاء المقصود، والأول كله توسل وثناء على الله جل وعلا، والدعاء أتى بعد ذلك، (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر) وهذا يدلنا على خطر الدين، وينبغي للإنسان أن يهتم به؛ لأنه حق الغير، والعلماء يفسرون هذا بما هو أعم من الدين الخاص الذي هو دين الإنسان، فيعم كل حق، أي: اقض عني كل حق، فيدخل فيه حق الله جل وعلا وحق المخلوق. وقوله: (أغنني من الفقر) يدلنا على أن الفقر يستعاذ منه، وأن الغنى مطلوب، ولا ينافي هذا كون الرسول صلى الله عليه وسلم اختار أن يشبع يوماً ويجوع يوماً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا شبع حمد الله وأثنى عليه، وإذا جاع ذكر ربه وسأله، فإنه صلوات الله وسلامه عليه أكمل الخلق، ولكن ليس كل الناس هكذا، فالفقر قد يكون كفراً؛ لهذا جاء في الأثر: (كاد الفقر أن يكون كفراً) وذلك أن الإنسان إذا افتقر قد يبذل دينه لدنيا يريدها، والفقر في اصطلاح بعض الفقهاء أخص من المسكنة، فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ فلهذا يقول الفقهاء: الفقير من وجد نصف الكفاية أو أقل، والمسكين: من وجد نصف الكفاية فأكثر، واستدلوا على هذا بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79] فسماهم مساكين ولهم سفينة، ولكن إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر.

حديث: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا)

حديث: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) قال رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه. ] معنى (أربعوا) أي: أرفقوا بأنفسكم يعني: لا تكلفوا أنفسكم، ولا ترفعوا أصواتكم، فيشق ذلك عليكم، (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) . هذا الحديث يدل على المعية، وهذه المعية لا تنافي القرب، ولكن الفرق بين المعية والقرب سيأتي، ويدلنا هذا الحديث على أن الذكر برفع الصوت منهي عنه، فالذكر يكون مع خفض الصوت؛ وذلك لأن الله مع الإنسان يسمعه ولا يخفى عليه شيء، وقد قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] يعني: بينك وبين نفسك، وهذا أفضل الذكر، إلا الأمور التي ورد أنها تستثنى من ذلك، مثل التلبية، فإنه جاء استحباب رفع الصوت بها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) ، والثج هو: نحر الدماء وإراقتها تقرباً إلى الله، والعج: رفع الصوت بالتلبية، وهذا يكون للرجال، فهذا مستنثى لورود النص به، أما ما عدا ذلك فإن الذكر يكون إخفاؤه أفضل، ويجوز أن يكون جهراً، ولكنه يكره لهذا الأمر، والسبب في هذا أنه إذا كان بين الإنسان وبين نفسه فإنه أدعى إلى التفكر، وأدعى إلى الخشوع، وأدعى إلى الإخلاص، ومن الأمور المستثناة أيضاً ما ورد في حديث ابن عباس وغيره -وهو حديث صحيح- من رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر لاسيما بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر حتى يسمع ذلك من خارج المسجد، وحتى يكون للمسجد ارتجاج من أصواتهم، فهذا أيضاً يستثنى من ذلك. وقوله: (أيها الناس!) خطاب عام ولكن يقصد به من يذكر الله جل وعلا. وقوله: (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) الأصم: الذي لا يسمع، والغائب: لا يبصر، ومعنى ذلك أن الله سميع بصير، فالذي تدعونه سميعاً بصيراً، يسمعكم وإن أخفيتم الذكر، ويراكم ولا يخفى عن نظره شيء، لا في بواطنكم ولا في ظواهركم؛ لأن نظر الله جل وعلا لا يحجبه حائل؛ ولهذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) ، وبصره لا شيء يحول بينه وبين منتهاه أبداً، فبصره ينتهي إلى كل شيء، فهو بصير بكل شيء تعالى وتقدس.

معنى قرب الله عز وجل من خلقه

معنى قرب الله عز وجل من خلقه قوله: (لا تدعون أصم ولا غائباً) يدلنا على أنه ينفى عن الله جل وعلا صفات النقص، وأن صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات سلب، وصفات إثبات، فيسلب عنه كل نقص، ويثبت له كل كمال، وهذا بالإجمال. وقوله: (ولا غائباً) يدل على القرب، ثم قال: (إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً) فأثبت ضد ما نفى، وقربه تعالى يكون على جهتين: الجهة الأولى: قرب من داعيه، وقد جاء ذلك في القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] . الجهة الثاني: قرب يكون بالإجابة يعني: بإنالة المطلوب، فلا تستبعد الإجابة، بل كن واثقاً بالله، فإن الإجابة قريبة؛ لأنها بيد الله جل وعلا، فهو قريب من ذلك. ولم يأت أن القرب يكون خاصاً وعاماً كما قال بعض العلماء: قرب الله ينقسم إلى قسمين: قرب عام، وقرب خاص، فالعام كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، والخاص كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] ، ولكن هذا فيه نظر والعلم عند الله تعالى؛ لأن قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] جاء أيضاً بهذه الصيغة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، وهذه الجملة (ونحن أقرب إليه) وما أشبه ذلك من العبارات التي تدل على الجمع قال شيخ الإسلام: إن هذا يكون لمن له أعوان يطيعونه ويمتثلون أمره، ومعنى ذلك أن الملائكة التي تمتثل أمره وتتصرف بأمره هي القريبة، ويكون هذا ليس من هذا الباب، والله أعلم. والمقصود بهذا أن قربه لا ينافي علوه، فهو قريب وهو على عرشه كما سبق في حديث العباس لما ذكر المسافة التي بين السماء والأرض، ثم بين سماء وسماء ثم بين السماء السابعة والبحر، ثم بين البحر والعرش، ثم قال: (والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء مما تعملون) ، فهو في علوه قريب، فعلوه لا ينافي دنوه، ودنوه لا ينافي علوه تعالى وتقدس، فيجب أن يجمع بين هذا وهذا على ما يليق بالله جل وعلا، ثم ليعلم أن قربه ونزوله وإتيانه إلى الأرض ليس كصفة المخلوقين، فقد يتصور الجاهل أن الشيء إذا كان فوق ثم نزل إلى تحت فإن العلو يخلو منه، ويكون خالياً منه، فالله تعالى صفاته خلاف صفات المخلوقين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته.

الأسئلة

الأسئلة

معنى: (وكان الله غفورا رحيما) ونحوها من الآيات

معنى: (وكان الله غفوراً رحيماً) ونحوها من الآيات Q يقول السائل: نقرأ في بعض الآيات: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:96] ، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25] وغيرها، فهل معنى (كان) هنا الاستمرارية؟ وهل هي صفة ذات أو صفة فعل جزاكم الله خيراً؟ A قد أجاب عن هذا ابن عباس رضي الله عنه فقال: كان ولا يزال. يعني: أنه مستمر على ذلك، وليس معنى ذلك أنه كان ثم انقطع، وهذا الكلام معروف في لغة العرب، والله يخاطبهم بلغتهم، فهي تدل على الدوام، كما أنها تدل على الأزلية، وكان قد تأتي بهذا المعنى.

اختبار الناس في عقائدهم

اختبار الناس في عقائدهم Q هناك فئة من الناس يختبرون الناس في عقيدتهم، ويستدلون بحديث الجارية على جواز امتحان الناس في عقائدهم، هل هذا يصح أم لا؟ A ما يمتحن المسلم الذي ظاهره الحق، وظاهره الخير، لا يمتحن المسلم بالسؤال، فإن الامتحان لا يجوز، ولما رجع البخاري رحمه الله إلى بلاده وهو يحمل العلم الكثير، استفاد منه من استفاد، وقال شيخه الذهلي: انتهزوا الفرصة واستفيدوا من هذا الرجل. فاختلت حلقته، فإن الناس وجدوا عنده ما لا يجدون عند غيره، وعند ذلك بدأ بينهما ما يكون بين الناس، فأرسل إليه أسئلة فيها: كيف تقول في اللفظ؟ فعرف أن هذا امتحان فأنكر ذلك وقال: لا يجوز امتحان المسلم، وهذا الشاهد الذي نريده، فلا يمتحن المسلم، لكن إذا أظهر شيئاً من الخطأ يبين له أن هذا خطأ، أما أن يمتحنه ليرى هل هو يعرف هذا أو لا يعرف فلا، وقد يكون يجهل بعض الأشياء ولا يعتقد الباطل.

تفسير المعية بالعلم ليس من التأويل الباطل

تفسير المعية بالعلم ليس من التأويل الباطل Q يقول السائل: ما توجيهكم على ما قاله الإمام الصنعاني: تفسير المعية بالعلم من التأويل الذي ليس من اعتقاد أهل السنة والجماعة؟ A ليس الأمر كذلك، فهذا ليس من التأويل الباطل، فهذا تفسير مشهور عن السلف، فالمعية المقصود بها العلم، وليس المقصود مجرد العلم فقط؛ ولهذا قسموا المعية إلى قسمين كما ذكرنا، ولو كان قصدهم بالمعية العلم فقط لما صار لهذا التقسيم أي فائدة، وهم قالوا بذلك للرد على المبطلين الذين يقولون: إن الله في كل مكان، فأرادوا تنزيه الله جل وعلا عن أن يكون في الأمكنة السفلية، وأن يكون مختلطاً مع الخلق؛ ففسروها بالعلم لذلك؛ لأن القول بالحلول اشتهر في الحقيقة عند الجهمية ومن سلك مسلكهم.

لا يجوز القول بأن الله معنا بذاته

لا يجوز القول بأن الله معنا بذاته Q هل قال أحد من السلف: إن الله معنا بذاته، ولا يلزم من هذه المعية الاختلاط، وهو مع ذلك على عرشه؟ A ما أعرف أحداً قال بهذا، ولا يجوز أن يكون هذا القول صدر من السلف؛ لأن من قال: الله معنا بذاته، فمعنى ذلك أن ذاته حالة معنا تعالى الله وتقدس، بخلاف إذا ما قالوا: المعية حقيقة على ظاهرها، فإن هذا حق وصواب، قال قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله: المعية على ظاهرها، وهي معية حقيقية، وليس معنى هذا أنه معنا بذاته، بل بينهما فرق شاسع جداً، فالمعية الذاتية أن تكون الذات المقدسة حالة مع الخلق، ومختلطة معهم، تعالى الله وتقدس، وهذا كفر لا يقوله السلف ولا غيرهم ممن يعرف الحق ويتبعه، وإذا صدر ممن لا يفرق بين هذا وهذا فيجب أن يبين له ذلك.

عموم حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه)

عموم حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه) Q يقول السائل: ما هو دليل إخراج الحديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه) من الخصوص إلى العموم خارج الصلاة؟ A جاء في حديث آخر: (البصاق في المسجد خطيئة) ، فيكون هذا أخص، ويكون مقيداً للعام، وعند العلماء الخاص يقيد العام، فيتقيد به. ولا يجوز أن يبصق أمامه، وفي الحديث أن عن يمينه ملك، فتعليل النهي عن البصاق في اليمين لأجل ذلك، وهذا في صحيح البخاري، وأما البصق جهة اليسار وتحت القدم فأبيح، والحديث الذي في صحيح ابن حبان وابن خزيمة يدل على العموم في هذه الحال.

لا يلزم من نزول الله إلى السماء الدنيا أن تحيط به مخلوقاته

لا يلزم من نزول الله إلى السماء الدنيا أن تحيط به مخلوقاته Q هل يلزم من نزول الله تعالى إلى السماء أن تحيط به مخلوقاته؟ وما الرد على من قال بهذا؟ A تعالى الله وتقدس، هذا كفر بالله جل وعلا، الإنسان إذا كان عنده جهل بذلك فعليه أن يستعين على فهم ذلك بقدرة الله جل وعلا وبعظمته، فإنه يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، كل السماوات يطويها بيده كما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنه لهذه الآية أنه قال: يطوي السماوات والأرض كلها بيمينه، وتكون شماله فارغة، وفي رواية: ويده الأخرى فارغة، وإنما يستعين بشماله من كانت يمينه مشغولة. فكل مخلوقاته في السماء والأرض ومن فيهما يقبضها بيد واحدة تعالى الله وتقدس، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود (أن حبراً من أحبار اليهود أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يضع السماوات على أصبع، والأراضين على أصبع، والشجر على أصبع، والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الدنيا! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقاً لما قال، وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ) ، وشرع لنا أن نقول: الله أكبر في كل خفض ورفع، لنعلم أنه أكبر من كل شيء تعالى وتقدس، ولا يكون شيء في نفس الإنسان مساوياً لله تعالى وتقدس، فالله جل وعلا لا يماثله شيء، ولا يكون في مخلوقه أكبر منه تعالى وتقدس، وكل المخلوقات بالنسبة إليه حقيرة ليست بشيء.

حكم التوسل بصفات الله

حكم التوسل بصفات الله Q يقول: هل يجوز التوسل بصفات الله كما يجوز التوسل بذاته وأسمائه والأعمال الصالحة كقول القائل: يا رحمة الله؟ A التوسل بصفات الله من أفضل الأعمال، فهي كالتوسل بالذات ولكن ليس معنى ذلك أن الصفة تدعى ويقال: يا رحمة الله! يا عزة الله! يا قدرة الله! لا، بل يسأل الله بقدرته وبعزته وبرحمته التي وسعت كل شيء، هذا هو التوسل بها، أما الصفة نفسها فلا تدعى ولا تنادى؛ لأن الصفة لا تكون صفة قائمة بنفسها منفردة تجيب وتعطي وتمنع وتخفض، الصفة قائمة بالموصوف تعالى وتقدس لا تنفك عنه.

الكلام على حديث الأوعال

الكلام على حديث الأوعال Q حديث الأوعال هل هو صحيح أم لا؟ A سبق الكلام على هذا، والشيخ حسنه وقال: حديث حسن، ومن أراد زيادة الكلام عليه فليرجع إلى كلام ابن القيم في تهذيب السنن، فإنه أطال عليه الكلام.

الكلام على حديث: (كان الله ولا شيء معه)

الكلام على حديث: (كان الله ولا شيء معه) Q هل ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولا شيء معه) ، وقوله: (كان في عمى) ؟ A هذا الحديث فيه نظر، فهو ضعيف، أي قوله: (كان في عمى) ومع ذلك استدل به بعض العلماء، لكن إذا كان فيه معارضة وهو ضعيف ما ننظر إليه.

قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولا تبصرون)

قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولا تبصرون) Q ذكرتم قول شيخ الإسلام: إن هذا فيمن له أعوان يعينونه، أو يطيعونه، فهل ثبت هذا؟ A ثبت في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، فهذه الآية في الميت حين يحتضر.

شرح العقيدة الواسطية [12]

شرح العقيدة الواسطية [12] يعتقد أهل السنة والجماعة أن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا يوم القيامة وفي الجنة بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضارّون في رؤيته، ورؤية الله تعالى في الجنة هي غاية نعيمهم ومنتهى مرادهم، وهي أعظم نعيم في الجنة. وأهل السنة وسط بين جميع فرق الأمة، كما أن الأمة المسلمة وسط بين سائر الأمم.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) متفق عليه] . هذا الحديث جاء عن عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه بلغ حد التواتر، أما الاستفاضة فلا إشكال في أنه مستفيض عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول يحيى بن معين: (عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحيحة) وقد بلغت أكثر من ذلك، وقد ألف العلماء في هذه المسألة مؤلفات خاصة، مثل: الدارقطني والآجري وغيرهما، وهذه المؤلفات معروفة عند طلبة العلم؛ وذلك لأن هذه المسألة كبيرة جداً، وأهل السنة يتميزون بإثباتها خلافاً لأهل البدع. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم) فيه تأكيدات بليغة؛ فأكد بـ (إن) ثم بـ (السين) التي تدل على التأكيد أيضاً ثم بالفعل، وكل هذه تأكيدات بليغة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لو أن إنساناً تكلف أن يأتي ببيان أكثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما استطاع أن يأتي بكلام فيه إثبات الرؤية بأكثر من هذا البيان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي البلاغة والفصاحة، كما أنه أعرف الخلق بالله جل وعلا بما يجب له وما يستحيل عليه، وقد وكل الله جلا وعلا إليه بيان الإيمان للناس، وبيان ما نزل إليهم، وهناك أمور كثيرة تدل على وجوب اعتقاد أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم حق يجب أن يؤخذ به، ومن المعلوم أن أهل السنة لا يترددون في هذا، بل غاية مقصودهم أن أحدهم يسأل أن يمكنه ربه جل وعلا من رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، والغريب أن طوائف من المبتدعة ينكرون أفضل ما يجزي به رب العباد عباده، وأفضل ما ينعم به عليهم، وهذا بناء منهم على بدعهم الضالة، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون الصفات بحسب النصوص، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة متواترة على إثبات الرؤية كما تقدم في الآيات، والنظر إلى الله جل وعلا ثابت في عرصات القيامة في المواقف؛ فإن الله جل وعلا يراه عباده المؤمنون، وكذلك يرونه إذا دخلوا الجنة، وهذا هو الذي يكون نعيماً، كما أن الأول أيضاً من النعيم والكرامة، ومقابل النعيم العذاب، فإن الكفار يحجبون عن رؤية الله جل وعلا تعذيباً لهم.

ذكر الذين أنكروا الرؤية وأدلتهم والرد عليهم

ذكر الذين أنكروا الرؤية وأدلتهم والرد عليهم من الذي أنكر النظر إلى الله جل وعلا؟ الذين أنكروه هم من ذكرهم عبد الجبار المعتزلي في كتابه "المغني" حيث يقول: أجمع أهل العدل كافة: الزيدية والخوارج وبعض المرجئة على عدم الرؤية، والمقصود بأهل العدل: المعتزلة؛ لأنهم يسمون أنفسهم أهل العدل والعدلية، مع أنهم أهل الجور والظلم؛ لأنهم أنكروا الرؤية. أنكروا الرؤية مع أن الأحاديث فيها -كما يقول بعض العلماء:- متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم! ويقول الله جل وعلا: {وجوه يَوْمَئِذ نَاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة:22-23] ، ويقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنوا الْحسْنَى وَزِيَادَة} [يونس:26] ، وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ لأن الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الله، وهو أعلى من نعيم الجنة. وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجوبونَ} [المطففين:15] ، والشافعي رحمه الله يقول: لما حجب أعداءه دل على أنه ينعم على أوليائه برؤيته، وأنهم يرونه. وأما الأحاديث في هذا الباب فهي كثيرة جداً وصريحة وواضحة، ومن المعلوم عند أهل السنة أن ما دلت عليه الأحاديث هو كالذي دلت عليه الآيات، ولا فرق، فيجب قبوله والإيمان به، ولا عذر لمن أنكر ذلك. أما الشبه الواهية التي يتعللون بها فهي أصل دينهم الذي بنوا عليه مذهبهم؛ فإنهم يقولون: إن العقل: هو الذي يرجع إليه، ويسمون أدلة العقل: براهين. أما أدلة الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالة الآيات فيجعلونها ظنية، وهذا من أبطل الباطل، ولا ينطلي على أهل الحق مثل هذا الكلام، ولا يؤثر في عقيدتهم، ولكن قد يوردون بعض الشبه التي تؤثر على بعض من لم يعرف الحقائق. وأهل الباطل مذهبهم: أنهم لا يستدلون بدلالة الآيات، وبدلائل الأحاديث إلا إذا كانت لهم، فكيف يكونون أهل العدل وهكذا يصنعون؟! واستدلوا على نفي الرؤية بقول الله جل وعلا: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، مع أنهم يقولون: دلالة النصوص ظنية، فلا يثبت بها ما هو من العقائد! واستدلوا أيضاً باللغة وكذبوا عليها؛ قالوا: إن اللغة العربية تدل على تأبيد النفي، وهذا ليس صحيحاً، ولهذا نص ابن مالك في الألفية على نفي ذلك، وإبطاله؛ لأنه معروف مشهور. ولا يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن رده فمعنى ذلك: أنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: اعتقاد أنه رسول، وطاعته في أمره، واجتناب نهيه، وإلا لم يكن قائلها صادقاً في كونه شهد أن محمداً رسول الله وهو يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يؤْمِنونَ حَتَّى يحَكِّموكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهمْ ثمَّ لا يَجِدوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيسَلِّموا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فالأمر ليس سهلاً، ولا يجوز أن يتساهل في مثل هذه القضية؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار ينطبق عليهم ما ينطبق على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك. وأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم أنهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، وكيف عرفوا الله بحدوث الأجسام؟! يقولون: إن هذه المخلوقات إذا نظرنا إليها فإنها فقيرة، تعتريها العوارض، مثل الجهل والعلم، والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير، وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة، فنقول: نعم، هذا صحيح، فيقولون: إذاً: الأصل هو هذا، والذي صار فقيراً محدثاً وجد بعد أن لم يكن موجوداً، فلابد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة نهائياً، وبطلت الأديان، هكذا يزعمون، وهذا قولهم، فعلى هذا يقولون: لابد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لابد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، وأن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر، هذه هي أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل الكرامية فقالوا: نعم، نقول بذلك، ونحن أسعد بالنصوص منكم؛ لأن هذا دلت عليه النصوص، فنحن نقول به، ولا ضير علينا أن نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وقول هؤلاء، وقول هؤلاء باطل بلا شك، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، فيعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هذه الفرق يبطل قول الفريق الثاني. والرد الصحيح الذي يجب أن يرد به على هؤلاء من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، وأصل المسألة بدعية، والرسل لم يأتوا يأمرون الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجساد؛ حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل تأتي بالإيمان الذي يكون بالوحي، والخلق ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فإن أصل مقالتهم فاسدة ومردودة. الوجه الثاني: أننا كُلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بلا رجوع إلى عقولنا في ذلك. الوجه الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهوَ السَّمِيع البَصِير} [الشورى:11] ، فهو جل وعلا له سمع وله بصر وله وجه وله يدين حقيقة كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى:11] . الوجه الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكل ما كان له ذات ووجود يصح في العقل نظره، مع تضافر الشرع على ذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا هو الذي جاء به القرآن، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هذه مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل، وأما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وقد أبطل العلماء أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة من وجوه كثيرة، وهذه الطائفة ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع الشبه، وتترك النصوص الواضحة الجلية، والأمر كما قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قلوبِهِمْ زَيْغ فَيَتَّبِعونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} [آل عمران:7] ، مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع، بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا كما سبق بأدلة كثيرة، ومنها مجملة؛ مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فإنها تدل على الرؤية، كقوله جل وعلا: {يَا أَيّهَا الإِنسَان إِنَّكَ كَادِح إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَملاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، وقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَظنّونَ أَنَّهمْ ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهمْ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة:46] ، وما أشبهها، وهي كثيرة جداً، فاللقاء في اللغة هو: المعاينة بعد المسير والكدح، فهو يتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة، وأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجهد في دعائه ربه أن يبيحه النظر إلى وجهه الكريم.

شرح حديث: (إنكم سترون ربكم)

شرح حديث: (إنكم سترون ربكم) قوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) ، القمر: يسمى في اللغة قمراً بعد ثلاث ليال إلى آخر الشهر، والبدر هو: التمام إذا امتلأ نوراً، وذلك ليلة أربعة عشر، وسمي بدراً لأنه يبادر طلوعه غروب الشمس، وغروبه طلوع الشمس؛ ولأنها تتم مقابلته للشمس فيمتلئ نوراً، وأي شيء أوضح من هذا؟ وقد جاء أيضاً التشبيه بالشمس: (كما ترون الشمس ضحوةً، ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب) ، ثم إن هذه الكاف هي كاف التشبيه: (كما ترون) والتشبيه للرؤية في الوضوح والجلاء وسهولة وصول كل أحد إليها، يعني: أنكم ترونه بارزاً جلياً واضحاً، وكل أحد يراه مخلياً به كما يرى هذا الشيء الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث أبي رزين ما يوافق هذا، بل هو أصرح، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تلقون ربكم فيحاسبكم، فقال له: كيف نلقاه ونحن كثيرون، وهو واحد؟! قال: ألا أخبرك بآية ذلك؟ قال: بلى، قال: هذا القمر أليس كل واحد منكم يراه مخلياً به؟ قال: بلى، قال: إنه مخلوق صغير من آيات الله) ، فالله أكبر وأعظم، فهذا التشبيه تشبيه الرؤية بالرؤية، والجامع بينهما الوضوح والجلاء والبروز، ولهذا جاء في حديث جرير وحديث جابر: (إنكم ترون ربكم عياناً) ، أي: معاينة، وقوله: (كما ترون القمر) تأكيد بعد تأكيد، والتأكيدات كثيرة في هذا الحديث، وهذا كله ينفي كل توهم أن يكون مجازاً أو يكون شيئاً آخر، فجاءت هذه التأكيدات لتبطل كل احتمال. وقوله: (لا تضامّون في رؤيته) ، هكذا جاء بضم التاء وتخفيف الميم، ويكون ذلك من الضيم، وهو: الظلم، يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيم، أي: أنكم تتمكنون من الرؤية تمكناً تاماً ليس فيه أي نقص، وجاء أيضاً: تضامّون بتشديد الميم، يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض عند الرؤية، مثل إذا كان هناك الشيء الخفي، فإن العادة أن الناس يساعد بعضهم بعضاً على رؤيته، فإنه رؤية الهلال، فكل واحد يقرب إلى الثاني حتى يساعده على رؤيته، وأما الله جل وعلا فلا يحتاج في رؤيته إلى ذلك، والله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، وسبحات وجهه أي: بهاؤه وجماله ونوره، ومعلوم أنه لا يحجب بصر الله شيء أبداً، فهو بصير بكل شيء، فلولا الحجاب لاحترق كل شيء بنوره جل وعلا، ولكن في الآخرة المؤمنون قد كمل إيمانهم؛ ولذا أعطوا الكمال الذي ليس فوقه شيء للمخلوق؛ فلهذا صح أن يروا ربهم جل وعلا، ويدل على ذلك أن الرؤية لا تمكن في الدنيا، كما جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم في قصة الدجال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، وفي قصة موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنظرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: في هذه الدنيا، فجعل مثالاً لذلك أن الجبل إذا ثبت للرؤية فإنه يمكن ثبوتك، فلما تجلى ربه للجبل تدكدك الجبل، عند ذلك (خر موسى صعقاً) فلما أفاق قال: {سبْحَانَكَ تبْت إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّل الْمؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] .

أقسام الناس في إثبات رؤية الله جل وعلا

أقسام الناس في إثبات رؤية الله جل وعلا الناس في الرؤية ثلاثة أقسام: قسم من الناس أثبتها في الدنيا والآخرة، وقالوا: إن الله جل وعلا يُرى، وليس معنى ذلك أنه يرى في المنام، أما رؤية المنام فإنها ليست حقيقة؛ لأنها أمثال، مثل يضربه الملك الذي وكل بالرؤية؛ ولهذا يمكن للمخلوق أن يرى ربه في المنام، وليست رؤية حقيقية، فإن كان إيمانه حسناً، فإنه يرى صورةً حسنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة) ، يعني: في منامه، لما كان إيمانه هو أحسن الإيمان رآه في أحسن صورة، أما غيره فلا يمكن أن يراه في الصورة التي رآه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يكون أدنى من ذلك. والمقصود من ذلك: أن الرؤية المنامية ليست حقيقية، وهي ممكنة، ولكن هؤلاء الذين أثبتوا الرؤية في الدنيا لا يقصدون هذا؛ لأن هذا لا خلاف فيه بين أهل السنة، وإنما يقصدون الحقيقة، وهؤلاء هم أصحاب أمراض وأوهام وخيالات، فيخيل إليهم أنهم يرون شيئاً، وأحياناً يكونون أصحاب شطحات في عبادة الله جل وعلا ومعاملته، فيخيل لهم الشيطان أنه ربهم، فيتراءى لهم، وربما جلس على كرسي بين السماء والأرض وقال لهم: أنا ربكم، فيصدقون ذلك، فإذا قال أحدهم: إني رأيت ربي فهو رأى الشيطان. القسم الثاني: الذين نفوا الرؤية في الدنيا والآخرة. أما الدنيا فلا إشكال فيها؛ فهي منفية، ولكن الباطل هو نفيها في الآخرة. القسم الثالث: هم الذين توسطوا وأثبتوا ما أثبته الله جل وعلا وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (كما ترون القمر) ، قلنا: إن هذه الكاف كاف تشبيه، والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي، يعني: أن التشبيه ليس تشبيه القمر بالله جل وعلا، وإنما هو تشبيه رؤية الرب جل وعلا في الوضوح والجلاء بالقمر ليلة البدر في الوضوح والجلاء. وقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) ، يقول العلماء: في هذا فضل هاتين الصلاتين، وتأكيد للمحافظة عليهما، وهذا فيه الإشارة إلى أن الصلاة هي أفضل الأعمال، وأن الذي يحافظ عليها -خاصة في هذين الوقتين- يجزى بالرؤية؛ لأن الرؤية هي أعلى النعيم، والصلاة هي أفضل الأعمال، هذه هي المناسبة في ذكر الصلاة هنا، وبعض العلماء ذكروا مناسبة أخرى، فقالوا: إن أعلى أهل الجنة يرى ربه بكرة وعشياً، فمن حافظ على هاتين الصلاتين التي إحداهما في البكور، والأخرى في العشي؛ فإنه يرى ربه بكرة وعشياً جزاءً له على المحافظة على هاتين الصلاتين، ومن حافظ عليهما لزم أن يحافظ على بقية الصلوات.

موقف أهل السنة والجماعة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات لله جل وعلا

موقف أهل السنة والجماعة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات لله جل وعلا قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به؛ فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك؛ كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ بل هم الوسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية. وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج] . هذه قاعدة ذكرها الشيخ رحمه الله في طريقة أهل السنة في قبول النصوص، وفي المنهج والتلقي، ومعلوم أن العمل والعقيدة لابد أن يُبنى على نصوص؛ فهم لا يفرقون بين الكتاب والسنة، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم ما قاله الله جل وعلا. ولما كانت الأحاديث التي ذكر قليلة، والأحاديث في صفات الله جل وعلا وأسمائه كثيرة قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث) يعني: هناك أحاديث كثيرة، ولكن المقصود: بيان طريقة أهل السنة ومنهجهم، ويجب على الإنسان أن يعرفه، فإذا عرفه سلك ذلك في كل حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان صحيحاً أو حسناً؛ فإن الحسن من أقسام الصحيح كما هو معروف، ويثبت به ما يثبت بالصحيح من العقائد وغيرها، وأما إذا كان الحديث قد قبلته الأمة واستفاض فيها فهذا بلا شك يفيد العلم كما قرر ذلك علماء أهل السنة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك، وقال: الحديث إذا صح سنده فهو يفيد العلم، فالأحاديث إذا صحت أسانيدها أفادت العلم، كأحاديث البخاري ومسلم؛ فإذا اتفقا عليها فإنها تفيد العلم، وبنوا على هذا أحكاماً فقالوا: لو أن إنساناً طلق زوجته وقال في حديث في الصحيحين: زوجتي طالق إن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الحديث؛ فإنها لا تطلق؛ لأن هذا معلوم أنه قاله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس تمثيل هذا هو المقصود، بل المقصود هو البناء على كل ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه حق، أما بعض الألفاظ التي قد يكون سندها صحيحاً ولكن قد تكون غلطاً فهذه نادرة جداً، ومن المعلوم أن احتمال الغلط والخطأ وارد، ولكن إذا قبلته الأمة، ولاسيما الذين لهم معرفة بالآثار وبالرجال وبأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الاحتمال يكون ضعيفاً جداً فلا يلتفت إليه، أما الغلط الذي قد يقع في أحاديث صحيحة فهو كما مر في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر احتجاج الجنة والنار، قال: (ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يلقي فيها رب العزة جل وعلا قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض. وأما الجنة فلا يزال فيها فضل مساكن فينشأ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة) ، هذا الحديث جاء في الصحيحين منقلوباً؛ لأنه جعل ما للجنة للنار وما للنار للجنة، ولكن البخاري رحمه الله بين أنه غلط بذكر الصواب بعده مباشرة، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: طريقة البخاري إذا وقع في حديث من الأحاديث غلط في متنه أو في سنده فإنه لا يتركه، بل لابد أن يبينه، لكن بيانه ليس بالتصريح والقول؛ لأن عادته التي جرى عليها أنه يعتني بالإشارات، ويعتني بالأمور التي تتطلب فهم ونظر، وذلك لتدريب الطالب على الاستنتاج والاستخراج من النصوص. وكذلك حديث التربة الذي في صحيح مسلم: (خلق الله التربة يوم السبت) قال العلماء: هذا غلط، لأن يوم السبت ليس فيه خلق، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وجاء في الأحاديث الصحيحة أنه خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، وأنه عليه السلام آخر الخلق، فآخر الأيام التي خلق الله فيها الخلق هو يوم الجمعة، فيكون أولها هو يوم الأحد. وما جاء في الصحيحين من هذا فهو نادر ولا ينظر إليه، ولكن المقصود أن الأحاديث إذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح سندها، لا فرق بين كونها في صفات الله جل وعلا وأسمائه، أو في الأحكام التي فيها المعاملات وفيها الحلال والحرام، فلا فرق بين هذا وهذا، والذين فرقوا بين الفروع والأصول هم أهل البدع، أما أهل السنة فإنهم لا يفرقون بين أصول وفروع، بل كل ما ثبت به حكم من أحكام الفروع فهو مثل الذي يثبت به أصل من أصول الشرع. ولهذا قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة) . قوله: (الفرقة الناجية) سيأتي تفصيل ذلك. وأما قوله: (أهل السنة والجماعة) فهو وصف آخر؛ لأن الفرقة الناجية يجب أن يكونوا على سنة، وقوله: الجماعة؛ لكونه يجب أن يكونوا مجتمعين، ولا يجوز أن يكون بينهم اختلاف وتفرق، فإن كان بينهم الاختلاف والتفرق، فقد تركوا صفة من الصفات التي يجب أن تكون لهم، فأهل السنة لا يتفرقون، بل يجتمعون على الحق، وإن كان بينهم تفاوت في الفهوم والنظر فإن هذا لا يدعو إلى التفرق، ولا إلى التباغض والتنابز والتقاطع، فإن هذا ليس شأن أهل السنة، وهذا شيء معروف. قوله: (يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) يعني: أنه لا فرق بين أن يكون الاسم أو الصفة ثبت بالكتاب أو ثبت بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كله حكمه واحد يجب قبوله والإيمان به.

معنى التحريف والتعطيل والتكييف

معنى التحريف والتعطيل والتكييف قوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) ، سبق بيان معنى التحريف والتعطيل في أول العقيدة، وأن التحريف يدخل فيه التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلاً ويجعلونه واجباً، كما هو معروف عند الأشاعرة وغيرهم، فإنهم يجعلونه واجباً ومتعيناً وهو في الواقع تحريف، لا يجوز سلوكه، ومن سلكه فقد وقع في الخطأ. وأما التعطيل فهو إخلاء النص عن معناه الذي أراده المتكلم؛ لأن التعطيل مأخوذ من العطل وهو الخلو كما سبق. وقوله: (من غير تكييف) ، التكييف هو: طلب معرفة كيفية الشيء، وأهل السنة لا يسألون عن الكيفية؛ لأن الكيفية لا مطمع فيها؛ وذلك أن الكيفية تتطلب أمرين لابد منهما: أحدهما: المشاهدة، أن ترى الموصوف وتشاهده بعينك؛ لأن الكيفية هي حكاية الشيء على ما هو عليه، فإذا رأيته تستطيع أن تصف الكيفية التي رأيت، والله لا يرى، ولا أحد يشاهده سبحانه في الدنيا. الأمر الثاني: أن يكون له نظير نراه ونشاهده، والله جل وعلا ليس له نظير، تعالى الله وتقدس، وبذلك ينقطع الطمع في إمكان الحصول على الكيفية، فالكيفية لا مطمع فيها، والله جل وعلا لا يدرك تعالى وتقدس ولا يحاط به، وإن رُؤي في الآخرة فالرؤية تكون لوجهه جل وعلا، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، وليس كما يقوله أهل البدع أن نفي الإحاطة تدل على نفي الرؤية، كلا. ولكن الإحاطة هي: أن يدرك الشيء من جميع جوانبه، والله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، فهو لا يدرك ولا يحاط به، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك، كما قال جل وعلا في قصة موسى مع فرعون لما رأوا فرعون وجنوده خلفهم والبحر أمامهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] .

التعبير بالتمثيل أولى من التعبير بالتشبيه وذكر الفرق بينهما

التعبير بالتمثيل أولى من التعبير بالتشبيه وذكر الفرق بينهما الشيخ رحمه الله عدل إلى كلمة (تمثيل) بدل كلمة (تشبيه) ، وغيره ممن يكتب في العقائد يقول: (بلا تكييف ولا تشبيه) ، وهو رحمه الله أراد أن تكون هذه العقيدة صافية ليس فيها كلمة من كلام أهل البدع أو كلمة ليست في الكتاب والسنة؛ لأن كلمة (التشبيه) لم يأت نفيها في الكتاب والسنة ولم يأت إثباتها، فهذا السر في عدوله إلى كلمة (التمثيل) ، والتمثيل جاء نفيه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، فالتمثيل هو: المماثلة التي تقتضي مشابهة ولو بصفة من الصفات، ولو بحق من الحقوق، وأصحاب التشبيه قسمان: قسم في الواقع قليل؛ ولكنه حدث في شذوذ الناس، وأكثر من حدث فيهم هم الرافضة في أول أمرهم، ثم بعد ذلك صاروا معتزلة. وليعلم أن التشبيه أصبح أمراً إضافياً، فكثير من الكتب والمؤلفات فيها ذكر التشبيه وذم أصحابه، ولو أنك بحثت عن طائفة معينة لها كتب مستقلة، ولها أئمة وعلماء يسمون المشبهة فلن تجد ذلك، والسبب في هذا: أن كل فريق إذا خالف فريقاً آخر أو أثبت ذلك الفريق المخالف خلاف ما يقوله هذا الفريق سماه مشبهاً، ولهذا متطرفة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الأسماء، والمعتزلة يسمون الأشعرية مشبهة؛ لأنهم يثبتون بعض الصفات، والأشعرية يسمون أهل السنة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وهكذا أصبح مفهوم التشبيه على حسب الاعتقاد، وقد يكون في الواقع ليس صحيحاً، وبعض الناس رمي بالتشبيه وليس ثابتاً عنه، وهذا يوجد في كتب المقالات، مثل مقاتل بن سليمان يقولون عنه: إنه مشبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أظن ذلك يثبت عنه، وما وجدت شيئاً من كلامه يستدل به على ذلك، والذين رموه بالتشبيه أخذوا ذلك من أعدائه، والآن قد طبع كثير من كتبه مثل التفسير وغيره، ومعلوم أن التفسير هو مظنة ذلك، ولا يوجد في تفسيره كلمة واحدة تدل على أنه مشبه، وهذا يعطينا فائدة وهي: أن الإنسان يجب عليه أن يتثبت، فإذا قيل له: إن الطائفة الفلانية كذا وكذا وفيها كذا وكذا، فيجب أن يرجع إلى كلامها أو إلى كلام الشخص نفسه، ولا يأخذ هذا من كلام الناس، وهذا في الواقع خطأ يضر كثيراً جداً، فتجد إنساناً -مثلاً- ينقل عن آخر قولاً يكون خطأ؛ لأنه فهمه على غير مراده غلطاً، فينقل عنه شيئاً حسب ما فهم، وربما انتشر ذلك فنسب إليه قول لم يقله، وهذا كثير، فالواجب على الإنسان أن يتثبت في مثل هذه الأمور، ويكون على بصيرة، ولا يغتر بالنقل، وليس كل من نقل شيئاً أخذ به، وإنما تؤخذ العقائد وأقوال الناس من كتبهم، ومنهم أنفسهم، ولا يؤخذ من أعدائهم؛ لأن العدو قد يقول عن عدوه ما لم يقله، وهذا لا يسري على جميع الناس؛ فإن أهل الحق الذين هم أهل السنة يمنعهم إيمانهم وخوفهم من الله أن يقولوا على الإنسان ما لم يقله، فأقوالهم إذا قالوها فهي موثوق بها. وأصحاب المقالات يتناقلون الأقوال بعضهم عن بعض.

أقسام التشبيه

أقسام التشبيه التشبيه ينقسم إلى قسمين: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا قليل كما قلنا، وهو باطل، والإمام أحمد يقول: ذلك مثل أن يقول القائل: إن يد الله كأيدينا، وسمع الله كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، ووجهه كوجوهنا، تعالى الله وتقدس، فهذا التشبيه هو المنفي بقوله جل وعل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] ، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي سبقت. القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق، وهو كثير جداً في الناس، والتشبيه يكون ولو في حق من الحقوق، فمثلاً: المشركون مشبهة؛ حيث جعلوا أصنامهم آلهة فشبهوها بالله جل وعلا، وكذلك العابدون الذين يعبدون غير الله، أو يجعلون للمخلوق ما هو خالص حق الله ولو كان جزئياً، فإنهم يكونون مشبهة في ذلك، وهذا أقبح التشبيه وأخبثه، وصاحب هذا التشبيه إذا مات عليه فإن الجنة عليه حرام، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وقال جل وعلا: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] ، فهذا هو الشرك الأكبر الذي هو تشبيه المخلوق بالخالق تعالى وتقدس، وهذا جاء تفصيله في القرآن كثيراً، ولكن أصحاب المقالات والمتكلمون أعرضوا عن هذا فوقعوا فيه، كما سيأتي التنبيه على ذلك.

وسطية أهل السنة بين الفرق

وسطية أهل السنة بين الفرق قوله: (بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم) ، الوسط يقصد به: الخيار، ويقصد به: العدل والتوسط في الشيء، وأهل السنة وسط في الفرق، يعني: أنهم لم يجفوا ولم يغلوا، بل جانبوا الغلو الذي هو زيادة الإثبات على الحق، وكذلك الجفاء الذي هو النفي وعدم الإيمان والقبول، فهم وسط في الفرق، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم السابقة، كما أخبر الله جل وعلا أنه جعلهم أمة وسطاً، يعني: عدولاً وخياراً، فهم وسط بين الذين جفوا في الأنبياء فقتلوا بعضهم كاليهود، والذين ألحقوا الأنبياء بالرب جل وعلا وجعلوهم آلهة كالنصارى، وهم وسط كذلك في الأفعال التي أمروا بها بين هؤلاء وهؤلاء، فأولئك اليهود عندهم الغلظة والجفاء، والنصارى عندهم من ذلك؛ فإنهم يجعلون قول الحواريين كقول الأنبياء، وأما اليهود فيردون الحق إذا لم يكن على هواهم ومقصدهم، وإن قال به من قال، وكذا أهل السنة هم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.

الأسئلة

الأسئلة

رؤية الله في الدنيا

رؤية الله في الدنيا Q هل رؤية الله في الدنيا مستحيلة أم هي ممكنة ولكنها لم تقع ولن تقع؟ A لا فائدة من هذا السؤال، والعلماء يقولون: هي ممكنة؛ لأن موسى عليه السلام سألها ربه، وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً غير ممكن، ولكنها غير واقعة، فهي ممكنة عقلاً وغير واقعة فعلاً.

نسبة مقاتل بن سليمان إلى التشبيه

نسبة مقاتل بن سليمان إلى التشبيه Q ذكر الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) عن بعض الأئمة أنه قال: إن مقاتل بن سليمان من المشبهة؟ A هذا ذُكر، ولكن هل يصح عنه أو لا؟! جاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: مذهبان جاءانا من الشرق: مذهب مقاتل ومذهب جهم، وهما متطرفان: واحد في نفي الإثبات، وواحد في التشبيه. وجاءت عنه أقوال ولكن كلها غير صحيحة وغير ثابتة؛ فيجب أن يتثبت في هذا الشيء؛ لأن أعداءه كانوا ينشرون عنه هذه الأشياء، وهو أيضاً جاءت عنه أقوال تنفي هذا، فقد استدعاه أحد الأمراء فقال: إنهم يقولون: إنك مشبه؟ قال: أما أنا فإني أقول: إن الله سميع بصير، وإنه ليس كمثله شيء، هكذا قال، فالمقصود: ثبوت الشيء الذي ينقل أو يقال؛ لأن الشيء الذي يقال كثير.

الفرق بين الرؤية في عرصات القيامة وبين الرؤية في الجنة

الفرق بين الرؤية في عرصات القيامة وبين الرؤية في الجنة Q جاء في الحديث الصحيح: أن المؤمنين يعرفون ربهم يوم القيامة بالساق، وهذا دليل على أنهم يرون ساقه سبحانه، فكيف نوفق بين هذا الحديث وبين قولكم: إن الرؤية تكون يوم القيامة لوجهه فقط؟ A هذا في الجنة، فإن رؤية النعيم في الجنة هي لوجهه جل وعلا، وأما هذه فهي علامة جعلها الله بينه وبينهم، يعرفونه بها؛ فهذه الرؤيا تكون في العرصات في الموقف، فإنه سبحانه يأتيهم متنكراً لا يعرفونه -وذلك من الابتلاء- فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، الساق، فإذا كشف عن ساقه خروا له سجداً.

شرح العقيدة الواسطية [13]

شرح العقيدة الواسطية [13] رؤية الله عز وجل في الآخرة لا شك فيها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فهم وسط بين من يثبتون الرؤية في الدنيا والآخرة حقيقة، وبين من ينكرون الرؤية في الدنيا والآخرة. والآيات القرآنية صريحة واضحة وجلية في إثبات الرؤية، والأحاديث النبوية الصحيحة مستفيضة ومتواترة في إثبات الرؤية أيضاً، وما على المؤمن الصادق إلا أن يؤمن بذلك ويصدق به.

رؤية الله عز وجل أحكام ومذاهب

رؤية الله عز وجل أحكام ومذاهب يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . متفق عليه] . سبق بعض الأحاديث التي ذكرها في بعض الصفات مثل العلو والاستواء وكذلك النزول، ثم كذلك ما ذكر من الجمع بين الاستواء وبين المعية، ثم ذكر هذا الذي في الرؤية: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . متفق عليه.

استفاضة أحاديث الرؤية عن النبي عليه الصلاة والسلام

استفاضة أحاديث الرؤية عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث جاء عن عدد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه بلغ حد التواتر، أما الاستفاضة فهذا لا إشكال فيه، فإنه مستفيض عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول يحيى بن معين: عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحيحة. وبلغت أكثر من ذلك، وقد ألف العلماء في هذه المسألة مؤلفات خاصة كـ الدارقطني والآجري وغيرهما وهي معروفة عند أهل العلم؛ وذلك لأن هذه مسألة عظيمة جداً، فأهل السنة يتميزون بإثباتها، خلافاً لأهل البدع، وهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم) فيه تأكيدات بليغة أكدت بإن ثم بالسين التي تدل على التأكيد أيضاً، ثم بالفعل وكل هذه تأكيدات بليغة، مع أنه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لو أن إنساناً تكلف أن يأتي ببيان أكثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع أن يأتي بكلام فيه بيان إثبات الرؤية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي البلاغة والفصاحة، كما أنه من المعلوم أنه أعرف الخلق بالله جل وعلا وبما يجب له وما يستحيل عليه، وقد وكل الله جل وعلا إليه بيان الإيمان للناس، وبيان ما أنزل إليه. وهناك أمور كثيرة تدل على وجوب اعتقاد أن ظاهر قوله حق يجب أن يؤخذ به، ومن المعلوم أن أهل السنة لا يترددون في هذا، بل غاية مقصودهم أن يسأل أحدهم أن يمكنه ربه جل وعلا من رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، والغريب أن هؤلاء الطوائف المبتدعة ينكرون أفضل ما يجزي به رب العباد عباده، وأفضل ما ينعم به عليهم، وهذا بناء منهم على بدعهم الضالة، وأهل السنة والجماعة إنما يثبتونه بحسب النصوص وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة متواترة على ذلك كما تقدم. وهو ثابت في عرصات القيامة في المواقف أنه يرى جل وعلا، يراه عباده المؤمنون وكذلك إذا دخلوا الجنة، وهذا هو الذي يكون نعيماً، كما أن الأول أيضاً من النعيم والكرامة، ومقابل النعيم العذاب، فإن الكفار يحجبون عن رؤية الله جل وعلا تعذيباً لهم. أما لماذا أنكروا ذلك؟ ومن الذي أنكره؟ فالذين أنكروه كما يقول عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني يقول: أجمع أهل العدل كافة على عدم الرؤية، والزيدية والخوارج وبعض المرجئة. أما قوله: أهل العدل فمقصوده بأهل العدل هم المعتزلة، فهم يسمون أنفسهم: أهل العدل، والعدلية مع أنهم أهل الجور والظلم بلا إشكال، وهذا شيء معروف، أما لماذا أنكروا الرؤية مع أنه قد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فلأنهم يستندون إلى العقل، ويقدمونه على الكتاب والسنة.

آيات قرآنية في إثبات الرؤية

آيات قرآنية في إثبات الرؤية قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وقوله جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقد ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ لأن الحسنى الجنة والزيادة: هي النظر إلى وجه الله، وهو أعلى من نعيم الجنة، والنصوص كثيرة: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] يقول الشافعي رحمه الله: لما حجب أعداءه دل على أنه ينعم على أوليائه برؤيته، وأنهم يرونه. وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً وصريحة وواضحة، ومن المعلوم عند أهل السنة أن ما دلت عليه الأحاديث كالذي دلت عليه الآيات ولا فرق، فيجب قبوله والإيمان به، فلا عذر لمن أنكر ذلك، أما الشبه الواهية التي يتعللون بها فهي أصل دينهم الذي بنوا عليه مذهبهم وهو أن العقل هو الذي يرجع إليه، ويسمون أدلة العقل: براهين، أما أدلة الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالة الآيات فإنهم يجعلونها ظنية، وهذا من أبطل الباطل، ومعروف أنه لا ينطلي على أهل الحق مثل هذا الكلام، ولا يؤثر في عقيدتهم، ولكن قد يوردون بعض الشبه التي تؤثر على بعض من لم يعرف الحقائق. أهل الباطل لا يستدلون بالآيات أو ما تدل عليه الأحاديث إن كانت عليهم، فكيف يكونون هم أهل عدل وهم هكذا يصنعون، فقد استدلوا بقول الله جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] على نفي الرؤية مع أنهم يقولون: دلالة النصوص ظنية، فلا يثبت بها ما هو من العقائد، وهذا أيضاً من طريقتهم. وكذبوا أيضاً على اللغة وقالوا: إن (لن) في اللغة العربية تدل على تأبيد النفي، وهذا معروف أنه ليس بصحيح، ولهذا نص ابن مالك في الألفية على نفي ذلك وإبطاله؛ لأنه معروف ومشهور. وليس هذا هو المقصود، إنما المقصود الشبه التي يوردونها ما العلة؟ ما السبب؟ هل يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يأتيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيرده؟. من رده معنى ذلك أنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله بعد اعتقاد أنه رسول أنه تجب طاعته، وإلا لم يكن صادقاً في كونه شهد أن محمداً سول الله، فيرجع الأمر إلى أصل الدين في رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم، الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .

الرد على شبهات منكري الرؤية

الرد على شبهات منكري الرؤية الأمر ليس سهلاً فلا يتساهل في مثل هذا، بل الأمر صعب جداً؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار، يجب عليهم ما يجب على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك، فأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، يقولون: إن هذه المخلوقات لما نظرنا إليها وجدنا أنها فقيرة تعتريها الأعراض، مثل: الجهل والعلم والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة. نقول: نعم هذا صحيح، يقولون: إذاً الأصل هو هذا، والذي صار كثيراً محدثاً وجد بعد إن لم يكن موجوداً فلا بد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة وبطلت الأديان، والمرئي لا بد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لا بد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، أن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر. هذه أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل: الكرامية، قالوا: نعم نقول ذلك ونحن أسعد بالنصوص منكم، لأن هذا دلت عليه النصوص فنحن نقول به ولا ضير علينا، نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وهذا كله باطل بلا شك سواء، قول هؤلاء وقول هؤلاء. ولكن مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب هؤلاء المبطلة من أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، ويعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هؤلاء يبطل قول الفريق الثاني. والرد الصحيح الذي يجب أن يرد على هؤلاء أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، أصل المسألة بدعية، الرسل لم يأمرو الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجسام حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل إنما أتت بالإيمان والإيمان إنما يكون بالوحي، فهم ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فيكون أصل مقالتهم فاسدة ومردودة، هذا أمر. الأمر الثاني: أننا كلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، بدون أن نرجع إلى عقولنا في ذلك. الأمر الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فهو جل وعلا حقيقة له سمع وله بصر وله وجه وله يدان كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) . الأمر الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكلما كان له ذات ووجود، يصح في العقل نظره، مع مجيء الشرع بذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا الذي جاء به القرآن وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق، ونحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هي مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل. أما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وغيره كثير مما أبطل العلماء به أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة التي ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع شبهاً وتترك النصوص الواضحة الجلية، ويكون الأمر مثلما قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا -كما سبق- بأدلة كثيرة مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فهي تدل على الرؤية كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46] وما أشبه ذلك، فاللقاء كما هو ثابت في اللغة: هو المعاينة بعد المسير والكدح، فهي تتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة؛ لأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجتهد في دعائه ربه أن يمنحه النظر إلى وجهه الكريم.

حقيقة الرؤية في قوله: (كما ترون القمر)

حقيقة الرؤية في قوله: (كما ترون القمر) أما لفظ الحديث، فإنه يقول: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) القمر في اللغة يكون قمراً بعد ثلاث ليال إلى آخر الشهر، والبدر: هو التمام إذا امتلأ نوراً، وذلك ليلة أربعة عشر، وسمي: بدراً؛ لأنه يبادر طلوعه غروب الشمس، وغروبه طلوع الشمس، ولأنها تتم مقابلته للشمس فيمتلئ نوراً، وأي شيء أوضح من هذا، والغريب أنه جاء في الشمس أيضاً، (كما ترون الشمس ضحوةً ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب) . ثم إِن هذه الكاف هي كاف التشبيه، (كما ترون) والتشبيه للرؤية في وضوحها وجلائها، وسهولتها، أي: سهولة وصول كل واحد إليها، يعني: أنكم ترونه بارزاً جلياً واضحاً كل واحد يراه مخلياً به كما يرى هذا الشيء الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث أبي رزين ما يوافق هذا بل هو أصرح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تلقون ربكم فيحاسبكم، قال له: كيف نلقاه ونحن كثيرون وهو واحد قال: ألا أخبرك بآية ذلك؟ قال: بلى، قال: هذا القمر أليس كل واحد منكم يراه مخلياً به؟ قال: بلى، قال: إنه مخلوق صغير من آيات الله، فالله أكبر وأعظم) ، فهذا تشبيه الرؤية بالرؤية، والجامع بينهما الوضوح والجلاء والبروز، ولهذا جاء في نفس حديث جرير: (إنكم ترون ربكم عياناً) أي: معاينة، وقوله: (كما ترون القمر) تأكيد بعد تأكيد، وهذا كله ينفي كل توهم بأنه يجوز أن يكون مجازاً أو يكون المقصود شيئاً آخر ثواباً أو غير ذلك، فجاءت هذه التأكيدات تبطل كل احتمال مع أنها واضحة جلية. وقوله: (لا تضامون في رؤيته) هكذا جاء بضم التاء وتخفيف الميم (تضامون) ويكون ذلك من الضيم وهو الظلم، يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيم، بل إنكم تمكنون من الرؤية تمكناً تاماً دون تعب أو مشقة. وجاء أيضاً: (تضامون) بتشديد الميم، يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض عند الرؤية، مثل إذا رأيتم الشيء الخفي فإن العادة أن الناس يساعد بعضهم بعضاً على رؤيته، مثل: رؤية الهلال، كل واحد يقرب إلى الثاني حتى يساعده على رؤيته فهذا لا يحتاج إلى ذلك، لأنه بارز وواضح، والله جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) . وسبحات وجهه بهاؤه وجماله ونوره، ومعلوم أنه لا يحجب بصر الله شيء أبداً فهو بصير بكل شيء، فلولا الحجاب لاحترق كل شيء بنوره جل وعلا، ولكن المؤمنون كمل إيمانهم في الآخرة، فأعطوا الكمال الذي ليس فوقه شيء للمخلوق، فلهذا صح أن يروا ربهم جل وعلا، وهذا يدل على أنه لا يمكن ذلك في الدنيا، كما جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم في قصة الدجال: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت) ، وفي قصة موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: في هذه الدنيا، فجعل مثالاً لذلك أن الجبل إذا ثبت للرؤية فهو ممكن ثبوتك؛ فلما تجلى ربه للجبل تدكدك الجبل، عند ذلك خر موسى صعقاً فلما أفاق قال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] .

أقسام الناس في رؤية الله عز وجل في الدنيا والآخرة

أقسام الناس في رؤية الله عز وجل في الدنيا والآخرة والناس في الرؤية بين متطرف وبين غال، وبين متوسط، أي أن الناس في الرؤية ثلاثة أقسام: القسم الأول: هم الذين أثبتوها في الدنيا والآخرة، وقالوا: إن الله جل وعلا يرى، وليس معنى ذلك أنه يرى في المنام، أما الرؤيا في المنام فهي ليست حقيقة؛ لأنها مثل يضربه الملك الذي وكل بالرؤية، ولهذا يمكن للمخلوق أن يرى ربه في المنام؛ لأن هذا ليس هو رؤية الله حقيقةً، فإن كان إيمانه حسناً فإنه يرى صورة حسنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة) يعني: في منامه، فلما كان إيمانه هو أحسن الإيمان رآه في أحسن صورة، أما غيره فلا يمكن أن يراه في الصورة التي رآه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يكون أدنى من ذلك. والمقصود بهذا أن الرؤية المنامية ليست حقيقية، وهي ممكنة، ولكن هؤلاء الذين أثبتوا الرؤية في الدنيا لا يقصدون هذا؛ لأن هذا لا خلاف فيه بين أهل السنة، وإنما يقصدون الحقيقة، وهؤلاء أصحاب أمراض وأصحاب أوهام وأصحاب خيالات، فيخيل إليهم أنهم يرون شيئاً، وأحياناً يكونون أصحاب أمراض وشكوك، وأصحاب شطحات في عبادة الله جل وعلا ومعاملته، فيخيل لهم الشيطان أنه ربهم، فيتراءى إليهم وربما جلس على كرسي بين السماء والأرض وقال لهم: أنا ربكم فصدقوا ذلك. فإذا قال أحدهم: إني رأيت ربي، فمعناه: أنه رأى ربه الذي هو الشيطان؛ لأن كثيراً منهم يعبد الشيطان فهو ربه، فهذا يوجد عند كثير من الصوفية، وهذا باطل بنص القرآن وبنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: هم الذين نفوا الرؤية في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فهي منفية، ولكن في الآخرة. القسم الثالث: هم الذين توسطوا وأثبتوا ما أثبته الله جل وعلا، وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (كما ترون القمر) قلنا: إن هذه الكاف كاف تشبيه، هو تشبيه الرؤية بالرؤية وليس تشبيه المرئي بالمرئي، يعني: أنه ليس تشبيه القمر بالله جل وعلا، وإنما هو تشبيه رؤية الرب جل وعلا في الوضوح والجلاء برؤية القمر ليلة البدر بوضوح وجلاء، بمعنى: أنهم يرونه واضحاً جلياً، فالتشبيه يكون في الرؤية وليس في المرئي.

من أسباب حصول الرؤية لله عز وجل

من أسباب حصول الرؤية لله عز وجل وقوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) ، يقول العلماء: في هذا تأكيد للمحافظة على صلاتي الفجر والعصر، وهذا فيه الإشارة إلى أن الصلاة هي أفضل الأعمال، وأن الذي يحافظ عليها ولاسيما هاتين الصلاتين أنه يجزى بالرؤية؛ لأن الرؤية هي أعلى النعيم، والصلاة هي أفضل الأعمال فهذه هي المناسبة في ذكر الصلاة هنا. وبعض العلماء ذكر مناسبة أخرى وهي أنه يقول: إن أعلى أهل الجنة يرى ربه بكرة وعشياً، فمن حافظ على هاتين الصلاتين التي إحداهما في البكور والأخرى في العشي، فإنه يرى ربه بكرة وعشياً، جزاءً له على المحافظة على هاتين الصلاتين، ومن حافظ عليهما لزم أن يحافظ على بقية الصلوات.

منهج أهل السنة في التلقي والاستدلال

منهج أهل السنة في التلقي والاستدلال يقول المصنف رحمه الله تعالى: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك؛ كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج. ] . هذه قاعدة ذكرها الشيخ رحمه الله في طريقة أهل السنة في قبول النصوص، يعني: نهجهم في التلقي، ومعلوم أن العمل والعقيدة لا بد أن تبنى على نصوص، فهم لا يفرقون بين الكتاب والسنة، بل كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم ما قاله الله جل وعلا، ولما كانت الأحاديث التي ذكر قليلة والأحاديث في صفات الله جل وعلا وأسمائه كثيرة قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث) يعني: هناك أحاديث كثيرة ولكن المقصود أن على المسلم أن يعرف طريقة أهل السنة ومنهجهم في التلقي والاستدلال فإذا عرفه سلك ذلك في كل حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان سنده صحيحاً أو حسناً، فإن الحسن من أقسام الصحيح كما هو معروف، ويثبت به ما يثبت بالصحيح من العقائد وغيرها. وأما إذا كان الحديث قد قبلته الأمة واستفاض فيها فهذا بلا شك أنه يفيد العلم، كما قرر ذلك علماء أهل السنة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وقال: الأحاديث إذا صحت أسانيدها فإنها تفيد العلم كأحاديث الصحيحين البخاري ومسلم، وبنوا على هذا أحكاماً، منها لو أن إنساناً طلق زوجته على لفظ في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، فإنها لا تطلق؛ لأن هذا معلوم أنه قاله صلى الله عليه وسلم، والمقصود البناء على كل ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه حق. أما بعض الألفاظ التي قد يكون سندها صحيحاً، ولكن قد تكون غلطاً فهذه نادرة جداً، ومن المعلوم أنه يحتمل الغلط والخطأ وأنه وارد، ولكن إذا قبلته الأمة ولاسيما الذين لهم معرفة بالآثار وبالرجال وبأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الاحتمال إليه يكون ضعيفاً جداً فلا يلتفت إليه، أما الغلط الذي نقول: إنه قد يقع في أحاديث صحيحة مثلما مر معنا في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر احتجاج الجنة والنار قال: ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع عليها رب العزة جل وعلا قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وأما الجنة فإنه لا يزال فيها فضل مساكن فينشئ الله لها خلقاً فيسكنه فضل الجنة) ؛ هذا الحديث جاء في الصحيحين منقلباً؛ لأنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، في البخاري وفي مسلم، ولكن البخاري رحمه الله بين أنه غلط بذكر الصواب بعده مباشرة، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه طريقته إذا وقع حديث من الأحاديث في متنه غلط أو في سنده، فإنه لا يتركه بل يبينه، ولكن بيانه لم يكن بالتصريح والقول؛ لأن من عادته التي جرى عليها أنه يعتني بالإشارات ويعتني بالأمور التي تتطلب فهم ونظر؛ وذلك لتدريب الطالب على الاستنتاج والاستخراج من النصوص. وكذلك ما في صحيح مسلم حديث التربة: (خلق التربة يوم السبت) قال العلماء: هذا غلط، فيوم السبت ليس فيه خلق، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ومعلوم أنه جاء في الأحاديث الصحيحة أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة آدم فهو آخر الخلق، فيكون أولها يوم الأحد. وهذا نادر ولا ينظر إليه، ولكن المقصود أن الأحاديث إذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح سندها فلا فرق بين كونها في صفات الله جل وعلا وأسمائه، أو في الأحكام التي فيها المعاملات من الحلال والحرام، والذين فرقوا بين الفروع والأصول هم أهل البدع، أما أهل السنة فعندهم لا فرق بين أصول وفروع، ب لكل ما ثبت به حكم من أحكام الفروع يثبت به أصل من أصول الشرع، ولهذا قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة) . قوله: (الفرقة الناجية) سيأتي تفصيل ذلك في وصفهم، وأما قوله: (أهل السنة والجماعة) فهو وصف آخر؛ لأن الفرقة الناجية يجب أن يكونوا على سنة، وقوله: (الجماعة) يجب أن يكونوا مجتمعين، ولا يجوز أن يكون بينهم اختلاف وتفرق، فإن حصل بينهم الاختلاف والتفرق فقد تركوا صفة من الصفات التي يجب أن تكون لهم، فأهل السنة لا يتفرقون بل يجتمعون على الحق والنظر، ولا يدعو ذلك إلى التفرق ولا إلى التباغض والتنابز والتقاطع، فإن هذا ليس شأن أهل السنة، وهذا شيء معروف. قوله: (يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) يعني: أنه لا فرق بين أن يثبت الاسم أو الصفة في الكتاب أو في حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكله حكمه واحد يجب قبوله والإيمان به. وقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) سبق بيان معنى التحريف والتعطيل في أول العقيدة، وأن التحريف يدخل فيه التأويل الذي يسميه أصحابه: تأويلاً، ويجعلونه واجباً، كما هو معروف عند الأشاعرة وغيرهم، فهم يجعلونه واجباً ومتعيناً، وهو في الواقع تحريف لا يجوز سلوكه، ومن سلكه فقد وقع في الخطأ، وأما التعطيل: فهو إخلاء النص عن معناه الذي أراده المتكلم؛ لأن التعطيل مأخوذ من العطل وهو الخلو كما سبق.

حقيقة التكييف وأقسام المشبهة

حقيقة التكييف وأقسام المشبهة وقوله: (ومن غير تكييف) التكييف: هو طلب معرفة كيفية الشيء، وأهل السنة لا يسألون عن الكيفية؛ لأن الكيفية لا مطمع فيها، وذلك أن الكيفية تتطلب أمرين لا بد منهما: أحدهما: المشاهدة، بأن ترى الموصوف وتشاهده بعينك؛ لأن الكيفية هي حالة الشيء على ما هو عليه، فتستطيع أنك تذكر ذلك، والله ولا يرى ولا يشاهد لأنه غيب. الأمر الثاني: وهو أن يكون له نظير نراه ونشاهده، والله جل وعلا ليس له نظير تعالى وتقدس، وبذلك ينقطع الطمع في الحصول على الكيفية، والله جل وعلا لا يدرك ولا يحاط به، وإن رئي في الآخرة فالرؤية تكون لوجهه جل وعلا ولا يحيطون به علماً. وليس كما يقول أهل البدع: إن نفي الإحاطة يدل على نفي الرؤية، كلا، ولكن الإحاطة أن يدرك الشيء من جميع جوانبه، والله جل وعلا أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء فهو لا يدرك ولا يحاط به، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك، كما قال جل وعلا في قصة موسى وأصحابه لما رأوا فرعون وجنوده والبحر أمامهم قال أصحاب موسى له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي} [الشعراء:61-62] ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] . أما الشيخ رحمه الله فقد عدل إلى كلمة: تمثيل، بدل كلمة: تشبيه، ممن يكتب في العقائد يقول: (بلا تكييف ولا تشبيه) وهو يريد أن تكون هذه العقيدة صافية ليس فيها كلمة من كلام أهل البدع، أو كلمة ليست في الكتاب والسنة؛ لأن كلمة التشبيه لم يأت نفيها في الكتاب والسنة ولم يأت إثباتها، فهذا السر في عدوله إلى كلمة التمثيل، والتمثيل جاء نفيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فالتمثيل هو المماثلة التي تقتضي مشابهة ولو بصفة من الصفات ولو بحق من الحقوق. وأصحاب التشبيه قسمان:

القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق

القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهو في الواقع قليل ولكنه حدث في شذاذ الناس، وأكثر من حدث فيهم الرافضة في أول أمرهم، ثم بعد ذلك صاروا معتزلة. ولكن ليعلم أن التشبيه أصبح أمراً إضافياً، فكثر ذكره في الكتب والمؤلفات، وذم أصحابه، ولو أنك مثلاً بحثت عن طائفة معينة لها كتب مستقلة، ولها أئمة ولها علماء يسمون المشبهة لم تجد ذلك، والسبب في هذا أن كل فريق إذا خالف فريقاً آخر فأثبت ذلك الفريق المخالف خلاف ما يقوله هذا الفريق سماه مشبهة، ولهذا فإن متطرفة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الأسماء، والمعتزلة يسمون الأشعرية مشبهة؛ لأنهم يثبتون بعض الصفات، والأشعرية يسمون أهل السنة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وهكذا فيكون. التشبيه حسب الاعتقاد، ويكون في الواقع ليس صحيحاً، وبعض الناس رمي بالتشبيه وليس ثابتاً، وهذا يوجد في كتب المقالات، مثل: مقاتل بن سليمان يقولون: إِنه من المشبهة، وإِنه مشبه، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أظن ذلك يثبت عنه وما وجدت شيئاً من كلامه يستدل به على ذلك، والذين رموه بالتشبيه أخذوا ذلك عن أعدائه. والآن قد طبع كثير من كتبه مثل: التفسير وغيره، ومعلوم أن التفسير هو مظنة ذلك، ولا يوجد في التفسير كلمة واحدة تدل على أنه مشبه، وهذا يعطينا فائدة: وهي أن الإنسان يجب عليه أن يتثبت إذا قيل له: إن الطائفة الفلانية كذا وكذا وفيها كذا وكذا، فيجب أن يرجع إلى كلامها أو إلى كلام الشخص نفسه، ولا يأخذ هذا من كلام الناس فهذا في الواقع خطأ يضر كثيراً جداً، حتى في الشيء الذي يكون بين الحاضرين، تجد إنساناً مثلاً ينقل عن آخر قولاً يكون خطأ؛ لأنه فهم غير مراده، فينقل عنه شيئاً حسبما فهم، فيكون مخطئاً في ذلك، ثم ربما انتشر ذلك فنسب إليه القول وهذا كثير. فالواجب على الإنسان أن يتثبت في مثل هذه الأمور وأن يكون على بصيرة ولا يغتر بالنقل، فكل من نقل شيئاً أخذ به، وإنما تؤخذ العقائد وأقوال الناس من كتبهم ومن أنفسهم، ولا يؤخذ من أعدائهم، إذا أخذ الإنسان من أعدائه فإن العدو قد يقول ما لا يقوله، وهذا ما يسري على جميع الناس، أما أهل الحق الذين هم أهل السنة فيمنعهم إيمانهم وخوفهم من الله من أن يقولوا على الإنسان ما لم يقله، فأقوالهم إذا قالوها فهي موثوق بها، ولكن قصدي أصحاب المقالات. ثم هناك شيء آخر: وهو أن أصحاب المقالات ينقل بعضهم عن بعض، فيكون مثلاً هذا متوارداً على النقل، والمقصود أن التشبيه كما قلنا: ينقسم إلى قسمين: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا قليل كما قلنا وهو باطل، والإمام أحمد يقول: إن التشبيه مثل أن يقول القائل: إن يد الله كأيدينا، وسمع الله كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، ووجهه كوجوهنا تعالى الله وتقدس، فهذا التشبيه الذي هو منفي بقوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وما أشبه ذلك من الآيات التي سبقت.

القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق

القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق القسم الثاني: وهو كثير جداً في الناس، وهو تشبيه ولكنه بعكس هذا، يعني أن يشبه المخلوق بالخالق، وهذا كثير جداً، والتشبيه كما قلنا: يكون ولو في حق من الحقوق، فمثلاً المشركون مشبهة حيث جعلوا أصنامهم آلهة، فشبهوها بالله جل وعلا، وكذلك العابدون الذين يعبدون غير الله، أو يجعلون للمخلوق ما هو خالص حق الله ولو جزئياً، يكونون مشبهة في ذلك، وهذا أقبح التشبيه وأخبثه، فصاحب هذا التشبيه إذا مات عليه فإن الجنة عليه حرام، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] . فهذا هو الشرك الأكبر الذي هو تشبيه المخلوق بالخالق تعالى وتقدس، وهذا جاء تفصيله في القرآن كثيراً، ولكن أصحاب المقالات والمتكلمون أعرضوا عن هذا كثيراً، ولهذا وقعوا فيه كما سيأتي التنبيه على ذلك.

وسطية أهل السنة بين الفرق

وسطية أهل السنة بين الفرق وقوله: (بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم) ، الوسط يقصد به الخيار ويقصد به العدل والتوسط في الشيء، وأهل السنة وسط في الفرق، يعني: أنهم لم يجفوا ولم يغلوا، بل جانبوا الغلو الذي هو زيادة الإثبات على الحق، وكذلك الجفاء الذي هو النفي وعدم الإيمان، وعدم القبول، فهم وسط بين الفرق، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم السابقة، حيث إن الله جل وعلا جعلهم أمة وسطاً، يعني: عدولاً وخياراً، فهم وسط بين الذين جفوا في الأنبياء فقتلوا بعضهم كاليهود، والذين ألحقوا الأنبياء بالرب جل وعلا وجعلوهم آلهة كالنصارى، وهذه الأمة وسط. كذلك في الأفعال التي أمروا بها بين هؤلاء وهؤلاء، فأولئك يعني اليهود عندهم الغلظة والجفاء، والنصارى عندهم التطرف في ذلك، فيجعلون مثلاً قول الحواريين كقول الأنبياء. أما اليهود فيردون الحق، وإن قال به من قال، إذا لم يكن على هواهم ومقصدهم.

وسطية الفرقة الناجية بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

وسطية الفرقة الناجية بين أهل التعطيل وأهل التمثيل (فهم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة) : الجهمية: نسبةً إلى الجهم بن صفوان الترمذي، والجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب من الجعد بن درهم؛ لأنه هو أول من تكلم به ونشره، وقد أخذه خالد بن عبد الله القسري أحد قواد بني أمية في آخر عهدهم، لما انتشر ذلك عنه وسمعه، وشهد عليه، فاستشار العلماء في وقته، فأشاروا عليه بقتله، فجاء به مقيداً بالحديد وطلب منه الرجوع ولكنه لم يرجع، وفي يوم عيد الأضحى، وكانت العادة المشروعة عند أهل ذلك الوقت وبعدهم أيضاً أن القائد هو الذي يتولى الصلاة والخطبة؛ لأنه لا يولى إذا كان جاهلاً، وإنما يولى القيادة إذا كان عالماً عارفاً. فجاء به وصار يخطب الناس فحثهم على الأضحية، وقال في آخر خطبته: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل وذبحه تحت المنبر الذي كان يخطب عليه، متقرباً به إلى الله جل وعلا، فشكره العلماء على هذا الصنيع، وقد اتفقوا على أن قتله واجب ليستراح من شره. وكان أخذ هذا المذهب الخبيث من أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان أخذه من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، ولبيد بن الأعصم هذا يقولون: إنه أخذه عن يهوديٍ من يهود اليمن، فهذه سلسلة يهودية جاء بها اليهود ليفسدوا هذا الدين كما أفسدوا دين النصارى، فهم دخلوه نفاقاً وأفسدوه كما هو معروفٌ، وهذا صنع نفس الطريقة، فدخل الإسلام هو وغيره لا حباً فيه، ولكن ليفسدوه، فصار كلامه في رب العالمين، وأنه لا يحِب ولا يحَب، وليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان إلى آخر الهذيان الذي يقولونه، وكل هذا إذا سمعه الإنسان أو تصوره علم أنهم أهل التعطيل الذين ينكرون وجود الله، فهي أمورٌ متخيلة في أذهانهم فقط إذا كانوا يؤمنون بشيء، والواقع أنهم لا يؤمنون بشيء! أما أهل التمثيل والتشبيه فهم الذين يشبهون الله جل وعلا بخلقه، والتشبيه الذي عندهم يقولون: إن يد الله كأيدي الخلق، وسمعه كسمع الخلق، وعلمه كعلم الخلق، وما أشبه ذلك، فهؤلاء ليس لهم فرقةٌ معينة لها إمامٌ أو علماء، وليس لها كتب باسم المشبهة، وإنما التشبيه نسبي، كلٌ يرمي من خالفه في إثبات ما يعتقد أنه لا يجوز إثباته بأنه مشبه، ووجد أفراد قالوا بالتشبيه، وأثبتوا إثباتاتٍ غلوا فيها وتجاوزوا الحد، فنسبوا إلى التشبيه، أما أن يكون هناك طائفة مثل طائفة الجهمية بعدما قتل الجهم بن صفوان وقد أخذ عنه بشر المريسي، وبشر المريسي تلميذه أحمد بن أبي دؤاد، ثم تشتتوا إلى عشرين فرقة أو أكثر، وكل فرقةٍ تضلل الأخرى كعادة أهل البدع. أما المشبهة فليس لهم فرق معينة، وليس لهم كتب؛ مما يدل على أنه أمرٌ باطل، فالتشبيه باطلٌ لا أحد يقول به إلا أفراد معينون، وعرفوا بأنهم مشكوكٌ في أمرهم، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يصوم، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، فمثل هؤلاء لابد أن يعلم أنهم ليس قولهم معتبراً، ولا أنهم أئمة في هذا الشيء، بل هم ضلالٌ ضلوا، وقالوا ما قالوه ليضلوا، لأنهم دخلوا الإسلام لا رغبة ًفيه، ولكن نكايةً فيه، وطلباً لتفرقة أهله فيه. وسبق أن التشبيه ينقسم إلى قسمين: تشبيهٌ للخالق جل وعلا بالمخلوق، بأن يقول مثلاً: إن وجه الله كوجوه خلقه، ويده كيد خلقه، ورجله كأرجل خلقه وهكذا، وهذا في الأمة قليلٌ جداً، وقد لا يوجد، وبعض الذين ينسب إليهم هذا كذباً عليهم ما قالوا ذلك، والمشهور أن الكرامية هم الذين يرمون بالتشبيه، وليس هذا قول الكرامية، وإنما ابن كرام لما صار يجادل المعتزلة المعطلة، قالوا له: في قواعدهم واصطلاحاتهم: إن الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بما هو جسم، والمعاني تقوم إلا بالأجسام، فأنت إذا أثبت الصفات يلزمك أن تقول: إن الله جسمٌ، فقال: إذا كانت الصفات لا تقوم إلا بأجسام فأنا ألتزم ذلك، وأقول: إن الله جسمٌ ولكن لا كالأجسام، فلما التزم هذا وقال به سموه مشبهاً، فقالوا: إنه مشبه لأجل ذلك. ثم اشتهرت نسبة التشبيه إليه وأتباعه، ومعلوم أن هذا ليس كما مثلنا، وكما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن التشبيه أن يقول: يدٌ كيدي، ووجهٌ كوجهي، وكذلك قال غيره من الأئمة، فإنهم لا يقولون هذا، وما ذكر عن مقاتل بن سليمان أنه يقول ذلك، فهذا كذبٌ عليه لم يثبت، وإنما يقوله أعداؤه، وكتبه ليس فيها شيءٌ من ذلك. القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه المخلوق بالخالق، أي: عكس الأول، بأن يشبه المخلوق بالخالق، وهذا كثيرٌ جداً، في قديم الزمان وحديثه، الكثير من الناس يلحق المخلوق بالرب جل وعلا، فسموا مثلاً أصنامهم آلهة وأرباباً، وصاروا يطلبون منها ما يطلبونه من الله جل وعلا وهذا من التشبيه، وهو الشرك الأكبر، وكذلك الذين يدعون الأولياء والأموات شبهوهم برب العالمين، بأنهم يعلمون الغيب، ويعلمون ما في القلوب، وأنهم يقدرون على أن يجيبوهم في طلباتهم، وكذلك يقدرون على أن ينجوهم من عذاب الله، وأن يتوسطوا لهم لمطلوباتهم، أو يستطيعون أن يقوموا بها استقلالاً، فهذا تشبيهٌ لهم برب العالمين جل وعلا، وهو من أعظم التشبيه، ومن أعظم الظلم، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه.

وسطية الفرقة الناجية بين الجبرية والقدرية

وسطية الفرقة الناجية بين الجبرية والقدرية وقوله: (وهم وسطٌ في باب أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية) : يعني: أن أهل السنة وسطٌ في أفعال الله وأفعال عباده، بين الجبرية والقدرية؛ لأن الجبرية والقدرية فرقتان متقابلتان، الجبرية هم الجهمية ومن تابعهم، ولكن الجبرية ينقسمون إلى قسمين كما هو معلوم. أولاً: الجبرية، هم الذين يقولون: إن العبد مجبورٌ على ما يفعله، وما يأتي به، وليس له اختيارٌ في ذلك والجبر: هو القهر والقسر على الشيء من غير إرادةٍ ومن غير مشيئة له، فعندهم أن العباد لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيروا مما هم فيه شيئاً، وإنما الأفعال لله جل وعلا، فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقاً في جميع أفعالهم، فإذا آمن أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فعله إلا على سبيل المجاز، وإلا فهو فعل الله جل وعلا، لأنه لا يستطيع أن يغير شيئاً من ذلك، ولا يقدر عليه. وهذا المذهب من أخبث المذاهب وأبطلها، وهذا لا يستقيم عليه دين ولا دنيا، لا في ملة المؤمنين، ولا في ملة الكافرين، فهو من أخبث المذاهب على الإطلاق. وقابلهم القدرية، وسموا قدرية لأنهم نفوا القدر، وهؤلاء أثبتوه وبالغوا في إثباته، فقد أخرجوا أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة من الله، فضلاً عن أن تكون مفعولةً له. بل هي خلق للعباد أنفسهم وبتصرفهم والله لا يقدر على أن يخلقها فيه، فأثبتوا مع الله خالقين، وهذا شرك في الربوبية، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد عندما يذكره المؤلف. ثم الجبرية فريقان: فريقٌ غالٍ جبرية محضة، فنفوا أن يكون للعبد أي اختيار أو مقدرة على الأفعال التي يفعلها، وفريقٌ آخر قالوا: إن الإيمان هو التصديق مع القول -قول اللسان- ولكن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، إلا أن الله جل وعلا يعاقب على المعاصي، ويثيب على الطاعات، فإذا ترك الإنسان أمراً واجباً فإن الله يعاقبه. وقالوا: إن أهل الذنوب والكبائر إذا دخلوا النار من الموحدين فإنهم تنفعهم الشفاعة، ويخرجون بها، فالخلاف عندهم في إخراج الأعمال أن تكون داخلة في مسمى الإيمان فقط، ولهذا كثيرٌ من أهل السنة يقولون: هذا خلاف لفظي، وليس معنوياً، وهؤلاء سموهم مرجئة الفقهاء أو مرجئة أهل السنة، هكذا قالوا، فليسوا كأولئك ولا يجوز إلحاقهم بأولئك؛ لأن الإرجاء الذي هو الجبر هو أن يقال في الإيمان: إنه مجرد معرفة القلب، وهؤلاء قالوا: هو تصديقه، وفرقٌ بين هذا وهذا، ولهذا أولئك قيل لهم: يلزمكم أن يكون الشيطان مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه جل وعلا، وأنتم لا تعرفون ربكم؛ لأن الذي تصفونه ليس هو رب العالمين، فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، في أفعال الله وفي أفعال الخلق، أما أفعال الله جل وعلا فهي في أحكامه وجزائه، ووعده ووعيده، وسيأتي الكلام في ذلك، وأما أفعال العباد فهي ما يترتب عليها من الجزاء والعقاب.

وسطية الفرقة الناجية بين المرجئة والوعيدية

وسطية الفرقة الناجية بين المرجئة والوعيدية قوله: (وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم) . المرجئة عندهم: لا يضر مع الإيمان معصية، والناس عندهم في الإيمان سواء لا تفاوت بينهم، فالصديق والذي يشرب الخمر ويترك الصلاة كلهم سواء مادام أنه عارف بالله، فالإيمان عندهم شيءٌ واحد، فلا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، إذا وجد الكفر والطاعات، فطاعات الكافر لا تفيده، وكذلك المؤمن عندهم إذا كان مؤمناً لا تضره المعصية، فلهذا صاروا دعاة إلى التحلل وترك أمر الله جل وعلا؛ لأنه عندهم يكفي أن يكون الإنسان مؤمناً، ولا يلزم أن يفعل الواجبات أو يمتنع من المحرمات، وهذا دينٌ خاص بهم. أما الوعيدية فهم الذين يقولون بوجوب تنفيذ الوعيد، وهم المعتزلة الذين هم القدرية، وقوله: (وغيرهم) ، يقصد بذلك الخوارج؛ لأن الخوارج وافقوهم في الحكم، وإن كانوا خالفوهم في الاسم، فعند المعتزلة يجب على الله أن يعاقب العاصي؛ لأنه لا يخلف الوعد، والوعيد والوعد سواء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يخلف الميعاد، وقد توعد بعض الناس على فعل المعاصي، فيجب أن ينفذ ذلك، ويجب أن يؤمن بهذا، فسموا وعيدية من أجل ذلك. وأما إخوانهم الخوارج الذين وافقوهم في الحكم فلأنهم يقولون: مرتكب الكبيرة إذا مات فهو في النار، ولكنه لا يسمى كافراً في الدنيا، ولا يحل دمه ولا ماله، إذا ارتكب الكبائر خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين -منزلة الإيمان والكفر- وهذا شيءٌ اختصوا به، وابتدعوه وجعلوه ركناً من أركان الدين، فالمنزلة بين المنزلتين أحد أركان دينهم الخمسة، يعني: عندهم أركان الإسلام خمسة، كما هي خمسةٌ عند أهل السنة، ولكنها ليست سواء. فمن أركان الإسلام عند المعتزلة: المنزلة بين المنزلتين، والثاني: تنفيذ الوعيد، أي: فيمن خالف، والخوارج وافقوهم في كون مرتكب الكبيرة يكون خالداً في النار، ولكنهم خالفوهم في الاسم، فسموه كافراً خارجاً من الدين، حلال الدم والمال، واتفقوا معهم في الآخرة، فاختلفوا في الأسماء، وهم من أهل الوعيد الذين يقولون بالوعيد. فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء الضلال المرجئة الذين أخروا الأعمال عن الإيمان؛ لأن الإرجاء من التأخير، فصار الإيمان عندهم يكفي، أما الأعمال فهي لا تكون لازمة، ويكفي الإنسان أن يكون مؤمناً بقلبه، وهؤلاء الذين قابلوهم، قالوا: إن الإنسان إذا ترك شيئاً من الأعمال فإنه يكون إما كافراً وإما خارجاً عن الدين الإسلامي وغير داخل في الكفر، ثم في الآخرة يكون خالداً في النار، واستدلوا على هذا بأدلة كقوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15] ، فقالوا: هذا يرد عليكم، أنتم تقولون الذين يدخلون النار يخرجون بالشفاعة، والله يقول: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15] ، فمن دخلها فهو أشقى، فلا تلحقه شفاعة، ولهم أدلة غير هذا سيأتي ذكرها، ولكنها شبه باطلة.

وسطية الفرقة الناجية في أفعال العباد

وسطية الفرقة الناجية في أفعال العباد قوله: (وفي أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية) ، هؤلاء الذين هم المعتزلة يسمون القدرية، وسموا قدرية لإنكارهم القدر، فقابلوا الجبرية، ومعلومٌ أن مذهبين متقابلين لا يمكن أن يكونا صحيحين، هذا مستحيل! فيقطع قطعاً لا تردد فيه أن أحدهما على الأقل باطل؛ لأن هذا يقابله تماماً، ولكن الواقع أن كل واحد من الفريقين معه شيءٌ من الحق ومعه شيءٌ من الباطل؛ ولهذا السبب قال: إن أهل السنة وسطٌ بينهم، فهذا معنى الوسط أي: أنهم توسطوا، فأخذوا الحق الذي مع الفريقين واجتنبوا الباطل الذي مع الفريقين، وهكذا في بقية ما ذكر، أنهم وسطٌ بين كذا وبين كذا. وذلك أن سبب خفاء الحق على كثيرٍ من الناس لبسه بالباطل، فيلتبس على من ليس عنده تمييز، ويخيل له أنه الحق، وهو في الواقع حقٌ خلط بباطل، فمن هنا لما قال الجبرية: إن العبد مجبورٌ على فعله، فهم نظروا إلى أن الله جل وعلا مشيئته هي النافذة في كل شيء، وأنه ليس لأحد مع الله تصرف، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن الله جل وعلا نفى بعض ما هو فعلٌ للإنسان وأخبر أنه فعله، كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، فنفى الرمي الذي هو حركة اليد والقذف بها عن العبد وأثبتها لله جل وعلا، فدل ذلك على أن أفعال العباد كلها أفعالٌ لله. ومعلومٌ أنه لو طرد هذا المذهب لصار كل شيءٍ على نمط واحد، يعني: أنه لا يكون هناك معصية؛ لأنها أفعال الله، وقد طرده كثيرٌ ممن اعتنق هذا المذهب من الصوفية وغيرهم، فلهذا يقول أحدهم: أصبحت منفعلاً لما يراد بي، ففعلي كله طاعات، لماذا؟ لأن فعله هو فعل الله، ويقول أحدهم: أنا وإن عصيت أمره الشرعي، فقد أطعت أمره القدري الكوني، فأنا في طاعة، يعني: حتى إذا زنا وسرق فهو في طاعة؛ لأنه موافقٌ أمره الكوني، فهو لم يخرج عن تكوينه ومشيئته، فإذاً: يكون العبد ليس له تصرف ينسب إليه. ومعلومٌ أن مثل هذا من أبطل ما يكون، حتى أمور الدنيا لا تستقيم عليه؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته، وإلا فكل إنسان يقول: ليس هذا فعلي، وهذا فعل غيري، والمصيبة أنهم يضيفونه إلى الله، ولهذا يقال: إن علاج مثل هذا أن يقابل صاحبه بالفعل كأن يضرب ويقال له: مذهبك أن الضارب ليس له تصرف، فلا تلمه، فهل يمكن أن يسكت؟! هذا لا يمكن ولابد أن يرجع الإنسان إلى تصرفاته. أما الذين قابلوهم فقد أخذوا بمثل هذه الآية ونحوها، فوجه خلط الحق بالباطل في هذا أنهم جعلوا ما للمخلوق لله، الله جل علا يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] ، وهذه الآية نزلت في وقعة بدر كما هو معروف، وذلك أن الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لما قابله المشركون أن يأخذ حصى الوادي ويرميهم بيده، فذهبت هذه الرمية ودخلت في مناخرهم وعيونهم، وهم بعيدون عنه، فالذي نفي عنه غير الذي أثبت له، فالمنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إيصال المرمي إلى عيونهم ومناخرهم، فإن هذا ليس باستطاعة الإنسان، وإنما هذا بأمر الله وقدره وكونه ومشيئته. أما أخذ الحصباء وحركة اليد به ورميه فهذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية فيها إثباتٌ شيء للرسول صلى الله عليه وسلم ونفي شيء، وليس أن الآية جعلت كل الذي حصل لله، فإن الله قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] ، فقوله: (إذ رميت) إثباتٌ له أنه رمى، والشيء الذي أثبت له هو بفعله وحركة يده، وأما الذي نفي عنه فهو إيصال ذلك التراب الذي لا يصل في العادة إلى مناخرهم وأعينهم وهم بعيدون عنه. فإذاً: لا يكون في الآية دليلٌ لهم، والمشكلة أن فعل الإنسان لا يختلف، فما الفرق في كونه صلى أو كونه أكل وشرب؟ كله يقع باختياره ومقدرته، فإذا نفيت عنه الصلاة مثلاً فقل: ما صلى وإنما صلى الله، تعالى الله وتقدس! كذلك الأكل تقول: العبد ما أكل ولا شرب، ومن الآكل؟ هل يستطيع أن يقول: إن الآكل والشارب هو الله؟ تعالى الله وتقدس! وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الخبيث. أما المذهب الذي قابله فهو مذهب القدرية، وسموا قدرية كما قلنا لأنهم نفوا القدر، والقدر كما سيأتي عبارة عن علم الله جل وعلا، وكتابته، ومشيئته وخلقه، لا يخرج عن ذلك شيء، فأوائلهم أنكروا العلم ولكن لما علموا أنه كفر رجعوا، وأقروا بأن الله علام الغيوب وعالمٌ بكل شيء، وأنكروا الكتابة وعموم المشيئة والخلق، فقالوا: إن الإنسان هو الذي يؤمن، وهو الذي يكفر حقيقةً، وهذا ليس عليه اعتراض، ولكن مقصودهم أن الله لا يخلق الإيمان في قلب الإنسان يعني: أنه لا يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً، بل العبد هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يكفر باختياره وقدرته، ليس لله عليه في ذلك منة، ولا دخل له فيه، وهكذا سائر الأعمال، ما السبب؟ السبب أنهم يقولون: لو قلنا: إن الكفر والإيمان يزينه الله جل وعلا وييسره ويهيئ أسبابه، لكان هذا فعلٌ من أفعال الله، فيلزم على ذلك أن يكون الله ظالماً، يعني: يعاقب على الكفر الذي يخلقه في القلب، ويثيب على الإيمان الذي يخلقه في القلب؛ فيكون ظالماً، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وتناقضوا في هذا، فجاءت هذه الشبهة، فنفوا من أجلها القدر، وأثبتوا أن العباد خالقين مع الله. والجواب عن هذا أن يقال لهم: إن الله جل وعلا خلق القدرة على الفعل في الإنسان، ولم يكلفه إلا بالشيء الذي يقدر عليه، وخلق له العقل والاختيار والنظر، وأمره بالخير، ونهاه عن الشر، وقال: هذا الخير افعله باختيارك ومقدرتك، فإذا فعلته فلك الجزاء والمثبوبة، وهذا الشر فاتركه باختيارك ومقدرتك، ولم يأمر بشيء لا يقدر عليه ولا يستطيعه، فإذا فعل الخير والإيمان والطاعات، فإنه يفعله باختياره، ويكون فعلاً له حقيقةً، فهو الذي صلى، وهو الذي صام حقيقةً، ولكن هذا لا يقع إلا بعد مشيئة الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلق له الأدوات، وخلق له ما يفعل به، فصار في هذا جمع بين ما أنكره هؤلاء وما نفاه أولئك، وهذا معنى كون أهل السنة وسطاً في هذا الباب، وهذا بابٌ لا يزال الناس فيه مرتبكون، وكثيرٌ منهم وقع في شيء من الجبر أو شيءٍ من نفي القدر، وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه إن شاء الله.

وسطية الفرقة الناجية بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية

وسطية الفرقة الناجية بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية قوله: (وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية) : أسماء الإيمان والدين: الإسلام، الإيمان، الإحسان، البر، الصلاة، الصوم، التقوى، وما أشبه ذلك، هذه أسماء شرعية ولها معانيها، وأهل السنة آمنوا بها، وأخذوها على مدلوها، ولكن المعتزلة والحرورية الذين هم الخوارج، وسموا حرورية نسبةً لحروراء، القرية التي كانوا فيها لما خرجوا على علي بن أبي طالب، وقاتلهم فيها وقتلهم، فنسبوا إليها. فالإيمان عندهم قولٌ وعمل وعقيدة، ولكنه لا يزيد ولا ينقص، وعندهم أن الإنسان إذا ترك واجباً فإنه يكون خارجاً من الدين. ثم الخلاف الذي سبق أن المعتزلة لا يدخلونه في الكفر، والخوارج يدخلونه في الكفر ويخرجونه من الدين، أما المعتزلة فهم يقولون: لا مؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين الإيمان والكفر. أما أهل الحق فهم يقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو يقولون: مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، لا يعطونه الإيمان الكامل، ولا يسلبونه الإيمان، بل يقولون: معه أصل الإيمان ولكن إيمانه ناقص، وعندهم أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهذا معنى قوله: (إنهم وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء) . وأما المرجئة فعندهم الإيمان شيءٌ واحد لا يتفاوت، بل إيمان أفسق الناس مثل إيمان جبريل بلا فرق، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض عندهم سواء، لا تفاوت بينهم في الإيمان، وهو عندهم شيءٌ واحد لا يقبل التفاوت، ولا يكون زائداً ولا ناقصاً، وأخرجوا من الإيمان جميع الأعمال، فهي لا تدخل في الإيمان.

وسطية الفرقة الناجية بين الرافضة والخوارج

وسطية الفرقة الناجية بين الرافضة والخوارج قوله: (وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج) : الرافضة يقولون بتكفير الصحابة، أو بأنهم ضلوا وخرجوا عن الصراط السوي، ولم يبق على الهدى إلا أربعة، أو أكثر قليلاً مثل: عمار، وأبي ذر، المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، أما البقية فقد كفروا بما فيهم الخلفاء الثلاثة، وبما فيهم الذين شهد لهم بالجنة، وغير ذلك. وأما الخوارج فهم يكفرون علي بن أبي طالب، أي: هم عكس الرافضة الذين يجعلون علي بن أبي طالب رضي الله عنه معصوماً لا يتطرق إليه خطأ، هو والأئمة الاثنا عشر. فالخوارج يجعلونه كافراً؛ لأنه رضي بتحكيم الرجال وبالقتال الذي حصل؛ لأن القتال من كبائر الذنوب، والكبيرة إن لم تكن كفراً فهي ذات صلةٍ بالكفر، فهم في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين طرفين. أما أبو بكر وعمر ومن كان على منهجهما ولم يدخل في الحروب فإن الخوارج لا يكفرونهم ولا يضللونهم، وإنما الكلام فيمن دخل في القتال والتحكيم عندهم. والمقصود أنهم صاروا متناقضين، فهؤلاء يزعمون أن علي بن أبي طالب معصوم، وأنه لا يتطرق إليه خطأ، وهؤلاء يزعمون أنه كافر، وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فهم يرون أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأمة على الإطلاق، وأنه لا أحد يلحقهم في فضلهم، وأفضلهم الخلفاء، أولاً: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم العشرة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الوقوع فيهم، وقال: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) ، وأخبر أن خير القرون القرن الذي بعث فيهم صلوات الله وسلامه عليه، فأهل السنة يرون حقهم، ويترضون عنهم. أما ما وقع بينهم أخيراً من نزاعٍ وقتال فإنهم لا يخرجون عن أمرين: إما أن يكونوا مجتهدين طالبين للحق والصواب، فأخطئوا، فلهم أجرٌ وخطؤهم معفوٌ عنه، أو يكونوا مصيبين فلهم أجران، لا يخرجون عن ذلك، فضلاً عن أن يضللوا أو يكفروا كما تقوله الخوارج الضلال، فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، لا جفاة يجفون، ولا غلاة يغلون، فالرافضة جفوا من جهة، وغلوا من جهة أخرى، وهؤلاء جفوا -يعني: الخوارج- لأنهم كفروا الفريقين الذين وقع منهم شيءٌ من النزاع والقتال، ومعلومٌ أن الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم طعن في الدين، وذلك أن الذي نقل لنا ديننا، والواسطة الذي نقل ديننا هم الصحابة رضوان الله عليهم، فهم الذين نقلوا القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك سنته، فالطعن فيهم طعن في ديننا. ولهذا يقول أبو زرعة رحمه الله: الذين يطعنون في الصحابة يطعنون في الدين الإسلامي وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم لما رأوا أن الذين نقلوا الدين الإسلامي هم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهوا الطعن إليهم لأنهم لا يستطيعون أن يوجهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان الذي ينقل الدين الإسلامي كافراً فكيف يوثق به، وهو غير مأمون، ونقله غير صحيح. والصحابة قد رضي الله عنهم، قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] ، هذا خبر الله، فكيف يأتي متقول ويقول: إنهم كفروا، أو إنهم ضلوا؟ والله جل وعلا إذا أخبر عن أشخاص أو شخص أنه رضي عنه لم يجز أن يرتد؛ لأن الله علام الغيوب، يعلم ما سيكون. كذلك يقول جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] .

الأسئلة

الأسئلة

بطلان إطلاق العبارة: الإنسان مخير ليس مسيرا)

بطلان إطلاق العبارة: الإنسان مخير ليس مسيراً) Q هل هذه الكلمة صحيحة: الإنسان مخير ليس مسيراً؟ A هذه الكلمة باطلة، فلا يجوز أن تقول: الإنسان مسير ولا مخير، فالإنسان لا مسير ولا مخير؛ لأنه إذا قال إنه مسير، فمعنى ذلك أنه يجبره، وإذا قال: مخير، معنى ذلك أنه يفعل باختياره، وهذا قول القدرية، وأنه لا دخل لتقدير الله، فالإنسان جعل الله له حداً ومقدرة، خلق فيه إرادة وقدرة على الفعل، وجعل ذلك إليه، ثم مشيئة الله جل وعلا من وراء هذا، فلا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، وإذا أراد جل وعلا تزيين الإيمان في قلب الإنسان وحسنه كره إليه الردة، فأقبل عليه وأحبه، فهذا فضل الله، أما إذا منعه من ذلك فإنه يكله إلى نفسه، ونفسه قد يكون الباطل عندها أحسن، فيتبع الباطل فيهلك. ولابد للإنسان أن يسأل ربه وأن يعلم فقره وضعفه، وأنه إذا لم يكن له من ربه عون فإنه هالك لابد، أما أن يعتز بنفسه يقول: أنا الذي أفعل، أنا أؤمن بقوتي ومقدرتي واستطاعتي، وليس لله علي فضل، كما يقوله هؤلاء الضلال، فإنه خليقٌ بأن يضله الله جل وعلا، ويكله إلى نفسه، فلا يستطيع أن يتحصل على شيء من السعادة.

عقيدة أهل السنة في الصحابة

عقيدة أهل السنة في الصحابة Q ما حكم من قال: إن الصحابة تقاتلوا على الملك، أو إن علياً على حق أو معاوية؟ A مذهب أهل السنة -الفرقة الناجية- الإعراض عما شجر بين الصحابة، وعدم الدخول فيه في شيء، لأنها أمورٌ وقعت وانتهت فيقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ، فلا فائدة في الدخول في ذلك، هذا في الجملة، وأما إذا قيل: لابد من النظر، فالنظر أن نقول مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنه يمرق مارقة على حين اختلافٍ من المسلمين يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق) ، وهذا يدلنا على أن الطائفتين كلاهما معه شيءٌ من الحق، ولكن أقربهما إلى الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم الذين أخطئوا معذورون باجتهادهم. أما ما يروى في كتب التاريخ من الأشياء الكثيرة، فكتب التاريخ وللأسف غالب رواتها إن لم يكونوا كلهم من الرافضة، ففيها مزيد وفيها منقوص، وفيها محرف عن وجهه، فإذا جاءت هذه الأمور لا يجوز أخذها على القبول، بل يجب أن تمحص وينظر فيها إلى السند هل هو ثابت أو غير ثابت؟ فإن لم يثبت فلا يجوز أن نثبته، وإذا كان ثابتاً فينظر ما وجهه، ووجهه لا يخلو إما أن يكون صاحبه مجتهداً مخطئاً، أو مجتهداً مصيباً، والمجتهد المخطئ له أجرٌ، وخطؤه مغفور، وإذا كان مصيباً فله أجران، هذه عقيدة أهل السنة في الصحابة رضوان الله عليهم.

طوائف الروافض وفرقهم

طوائف الروافض وفرقهم Q ما هي أقسام الروافض من حيث شدة غلوهم في علي رضي الله عنه؟ A هم أقسام وطوائف كثيرة: اختلفوا إلى أكثر من عشرين فرقة، وهي مذكورة ومعروفة.

الخوارج لا يكفرون بصغائر الذنوب

الخوارج لا يكفرون بصغائر الذنوب Q هل صحيح أن مذهب الخوارج تكفير صاحب الصغيرة؟ A لا، فإن مذهبهم تكفير صاحب الكبيرة، ولكن منهم من يقول بالذنوب مطلقاً، وذكروا أشياء تدل على هذا من قصص، ولكن يجب أن يعلم أنهم طوائف متعددة، وليست طائفة، هم أكثر من عشرين طائفة، وكل واحدة تكفر الأخرى، وهذا من العجيب!

الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسمى الإيمان

الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسمى الإيمان Q ما الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسمى الإيمان؟ وهل يصح أن نقول: إن أهل السنة يجعلون العمل شرطاً لصحة الإيمان، والخوارج يجعلونه شرطاً لكمال الإيمان؟ A سيأتي هذا البحث إن شاء الله، ولكن هنا جواب مجمل: الإيمان عند أهل السنة والخوارج أنه: قولٌ وعمل واعتقاد، ولكن أهل السنة يقولون: يزيد وينقص، وأما الخوارج فيقولون: لا يزيد ولا ينقص، وإذا ترك الإنسان شيئاً من العمل يكون كافراً كما سبق، هذا عندهم، وهو عند أهل السنة ناقص الإيمان ولا يكون خارجاً منه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

إمكان رؤية الله في الدنيا

إمكان رؤية الله في الدنيا Q هل رؤية الله في الدنيا مستحيلة أم هي ممكنة ولكنها لم تقع لأحد ولن تقع أيضاً؟ A ما الفائدة في هذا السؤال! العلماء يقولون: ممكنة؛ لأن موسى عليه السلام سألها ربه وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً غير ممكن، ولكنها غير واقعة، فهي ممكنة عقلاً غير واقعة بالفعل.

عدم صحة ادعاء أن مقاتل بن سليمان من المشبهة

عدم صحة ادعاء أن مقاتل بن سليمان من المشبهة Q يقول السائل: ذكر الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) عن بعض الأئمة أنه قال في مقاتل بن سليمان: إِنه من المشبهة؟ A نعم، هذا ذكر ولكن هل يصح؟ جاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: مذهبان جاءا من الشرق: مذهب مقاتل ومذهب جهم وهما متطرفان، واحد في الإثبات وواحد في التشبيه. وغير ذلك جاءت أقوال، ولكن كلها غير ثابتة، فيجب أن يتثبت في هذا الشيء؛ لأن أعداءه صاروا ينشرون هذه الأشياء، وهو أيضاً جاء عنه أقوال تنفي هذا، فقد استدعاه أحد الأمراء فقيل له: إنهم يقولون: إنك مشبه؟ قال: أما أنا فإني أقول: إن الله سميع بصير، وأنه ليس كمثله شيء. فالمقصود التثبت في الشيء الذي ينقل أو يقال.

رؤية الساق في الموقف ورؤية الوجه في الجنة

رؤية الساق في الموقف ورؤية الوجه في الجنة Q يقول السائل: جاء في الحديث الصحيح: (أن المؤمنين يعرفون ربهم يوم القيامة بالساق) وهذا دليل على أنهم يرون ساقه سبحانه، فكيف نوفق بين هذا الحديث وكون الرؤية يوم القيامة تكون لوجهه الكريم فقط؟ A رؤية الوجه تكون في الجنة، أما الساق فهذه علامة جعلها الله بينه وبينهم يعرفونه بها، فرؤية الساق تكون في العرصات في الموقف، فيأتيهم متنكراً لا يعرفونه من باب الابتلاء فيقول: (أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم. الساق، فإذا كشف ساقه خروا له سجداً، كل مؤمن يخر ساجداً، أما المنافق فيبقى ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه) .

تفاوت المؤمنين في رؤيتهم لربهم

تفاوت المؤمنين في رؤيتهم لربهم Q هذا يقول: ذكرتم الحديث الذي يقول: (إنكم سترون ربكم) وهذه الرؤية مما لا شك فيها أنها ستكون لعباده المؤمنين، هل المسلمون جميعاً مستوون في رؤية المولى سبحانه وتعالى، حتى الذين يعذبون في النار ثم يدخلون الجنة، أم أن الرؤية مقتصرة على الذين نصت عليهم الآية: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] ؟ A كل من دخل الجنة فسيرى الله، ولكن الرؤية تتفاوت، منهم من يراه بكرة وعشياً، ومنهم من يراه في الأسبوع مرة في يوم جمعة، كما جاء النص في ذلك، فالرؤية تتفاوت حسب الأعمال والإيمان كما تتفاوت درجات الجنة.

حقيقة تجلي الله عز وجل للجبل كما في قصة موسى

حقيقة تجلي الله عز وجل للجبل كما في قصة موسى Q هل تجلي الله عز وجل للجبل على حقيقته؟ A لا، تجلى شيئاً قليلاً، حتى قال بعض العلماء: كشف من الحجاب قليل جداً مثل سم الخياط، فتدكدك الجبل من هذا القليل.

حقيقة رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام لربه حين المعراج

حقيقة رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام لربه حين المعراج Q قرأت في بعض الكتب في موضوع مراتب الوحي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بلا واسطة مع الرؤية، وذلك في الإسراء والمعراج، وفي الحديث: (نور أنى أراه) كيف نوفق بين هذا وذاك؟ A الوحي غير الرؤية، الوحي يمكن والكلام كذلك يمكن من وراء حجاب، والوحي أبعد من ذلك، فلا يلزم من كونه كلمه أن يراه، فموسى عليه السلام يسمع كلام ربه بلا واسطة وهو في الأرض، والله فوق عرشه، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى سدرة المنتهى؟! فهو كذلك سمع كلام ربه وخطابه، ولكن الرؤية ما رآه، ولذلك لما سأله أبو ذر كما في صحيح مسلم، قال: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) وفي رواية: (رأيت نوراً) ، وفي رواية: (رأيت ناراً) .

معنى الصورة في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة)

معنى الصورة في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) Q (رأيت ربي في أحسن صورة) هل يدل على أن الصورة مخلوقة؟ A كل موجود له صورة إذا كان له حقيقة، أما إذا كان معنى من المعاني فهذا لا يمكن أن يكون قائماً بنفسه، لا بد أن يقوم بغيره، أما الموجود القائم بنفسه فله صورة وصورته هي التي هو عليها. نعم، الناس ينفرون من كلمة صورة؛ لأنها غريبة عندهم، الصورة كما يقول ابن قتيبة رحمه الله: ليست بأغرب من اليد ومن الوجه، فقد ثبت أن لله يدين والمؤمنون يؤمنون بذلك، وهذا أبلغ، واليدان لها أصابع كما ثبت في الصحيحين، وكل يد لها خمسة أصابع كما ثبت ذلك، فإنه ثبت أن حبراً من اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر والثرى على أصبع، والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال: وقرأ قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ) .

معنى قوله: (أربعوا على أنفسكم)

معنى قوله: (أربعوا على أنفسكم) Q في الدرس الماضي حديث: (أربعوا على أنفسكم) هل يؤخذ من هذا الحديث أن المأمومين عندما يكونون خلف الإمام في صلاة القنوت لا يرفعون أصواتهم بآمين؟ A لا، فقد جاء أنه يشرع رفع الصوت بآمين، وأن هذا يغيظ اليهود، ويحسدوننا على ذلك، الشيء الذي جاء فيه النص يجب أن يثبت، ولكن عند الدعاء إذا كنت تناجي ربك، وتدعوه فلا ترفع صوتك؛ لأن الله قريب منك يسمع كلامك وإن كان بينك وبين نفسك.

عدم وجود المتشابه في آيات الأسماء والصفات

عدم وجود المتشابه في آيات الأسماء والصفات Q هل آيات الأسماء والصفات محكمة كلها أم بعضها متشابه وبعضها محكم؟ A ليس فيها شيء متشابه، وكلها محكمة؛ لأن معانيها واضحة وجلية لا إشكال فيها، أما دعوى أهل البدع أنها متشابهة فهذه دعوى باطلة، وآيات الصفات أكثر من آيات الأحكام بكثير، ولو كانت متشابهة كان كل القرآن متشابهاً، والمقصود أنها لم تشكل على أحد من الصحابة ولم يسأل واحد منهم عن معناها، بخلاف الأحكام، فإنهم سألوا عن بعضها، فسألوا عن المحيض وسألوا عن اليتامى، وسألوا عن غير ذلك، أما آيات الصفات فلم يسألوا عن شيء من ذلك؛ مما يدل على أنه واضح وجلي، والأسئلة التي جاءت في غير هذا ليست من باب الإشكال.

حكم رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل

حكم رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل Q هل يرى الكفار والمنافقون الله تعالى كما جاء هذا في الحديث الصحيح؟ A لم يأت هذا في الحديث الصحيح، شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: من قال إن الكفار يرون الله فإنه من أهل البدع، أما المنافقون فثبت أن الله يأتيهم مع المؤمنين، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد: (إذا جاء الله للفصل بين عباده وكلمهم وقال: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى، فيمثل لكل عابد معبوده في الدنيا فيقال: اتبعه، فيتبعون معبوداتهم إلى النار، حتى اليهود يقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً، ويقال للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: المسيح ابن الله؟ فيقول الله: كذبتم ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً. ثم يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: ظمئنا نريد الماء، فيخيل إليهم جهنم كأنها سراب ويقال: انظروا! فيردون إلى جهنم، فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله جل وعلا في الصورة التي لا يعرفونها فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا) إلى آخره.

شرح العقيدة الواسطية [14]

شرح العقيدة الواسطية [14] الله عز وجل مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه، وهو عز وجل مع خلقه بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وخالف في ذلك الجهمية والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، وحكموا عقولهم في نفي العلو، وتركوا الأدلة من الكتاب والسنة، فمنهم من ردها، ومنهم من أولها، مع أن الأدلة في إثبات ذلك قد تواترت تواتراً لفظياً ومعنوياً.

وجوب الإيمان باستواء الله ومعيته وعدم التنافي بينهما

وجوب الإيمان باستواء الله ومعيته وعدم التنافي بينهما يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] . وليس معنى قوله: (وهو معكم) : أنه مختلطٌ بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آيةٌ من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، وهو موضوعٌ في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. وهو سبحانه فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريفٍ ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطلٌ بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] . وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه] . قد سبق الكلام في العلو، وأن العلو تكاثرت فيه النصوص التي جاءت بها الأنبياء، وكذلك ما أجمع عليه المؤمنون الذين اقتفوا ما جاء عن ربهم جل وعلا، وكذلك الفطرة التي خلقوا عليها، فإنهم مجمعون على هذا، وكذلك إجماع المؤمنين، أما الذين شذوا وفسدت فطرهم وفسد تصورهم فلا عبرة في مخالفتهم لذلك، وسبق أن الأدلة على هذا كثيرة جداً، حتى ذكر ما يقرب من عشرين نوعاً، وكل نوعٍ تحته مئات من أسراب الأدلة، حتى قال ابن القيم: تبلغ الأدلة أكثر من ألف دليل على هذا، ولكن لا تفيد الأدلة إلا من يؤمن بها ويمتثل ما جاء عن الله جل وعلا، أما الذي انحرف وزين له سوء عمله فلا تزيده كثرة الأدلة إلا عمى، نسأل الله العافية.

حكم من لا يؤمن بعلو الله واستوائه على عرشه

حكم من لا يؤمن بعلو الله واستوائه على عرشه وقوله هنا: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه) : معنى الكلام: أن الذي لا يؤمن بعلو الله واستوائه أنه غير مؤمن بالله جل وعلا؛ لأن هذا من الإيمان بالله، ولهذا يقول إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله: من لم يؤمن بأن الله مستوٍ على عرشه عالٍ على خلقه فهو كافر، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ورمي كما ترمى الولائش، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، يعني: أن حكمه يكون غير مؤمن، فإن كان قد امتثل أولاً في الظاهر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون مرتداً لذلك، على ما قاله ابن خزيمة رحمه الله.

أدلة العلو من الكتاب والسنة وتواترها

أدلة العلو من الكتاب والسنة وتواترها وقوله: (ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) الأخبار في كتاب الله جل وعلا في هذا كثيرة، كقوله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] ، وقوله جل وعلا: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وقوله جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] آيات كثيرة جداً في هذا، وقصده الإخبار بعلو الله جل وعلا، وكذلك ما جاء من لوازم ذلك من كون الكتاب نزل من عند الله جل وعلا، ومعلوم أن النزول لا يكون إلا من العلو، وهذا كثير جداً في كتاب الله. وقوله: (وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الأخبار في علو الله جل وعلا وأنه مستوٍ على عرشه متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر كما هو معروف نوعان: تواتر لفظي: وهو التتابع في اللغة، بأن يجتمع عليه عدد كثير يستحيل عليهم الكذب أو الخطأ يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التواتر لابد أن يستند إلى شيء محسوس، إما مشاهد أو مسموع، يسمعونه منه صلى الله عليه وسلم، ثم ينقله عنهم عدد كبير أيضاً، وهكذا إلى أن يصل إلى منتهاه، وهذا قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتراً. والقسم الثاني: تواتر معنوي: والتواتر في المعنى كثير، فكثير من الأمور التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في المعنى، وهذا من الأدلة الضرورية القطعية، إذا وجد فهو دليل قطعي ضروري لا يجوز مخالفته، ولا يعذر الإنسان بمخالفته. وقوله: (أجمع عليه سلف الأمة) ، السلف: هو الماضي الذي يكون فيه القدوة، وسلف الأمة المقصود بهم الصحابة وأتباعهم، وهم أجمعوا على هذا، ولا يمكن أن يأتي عنهم شيء يخالف ذلك، لو تكلف الإنسان أن يبحث أن واحداً من الصحابة أو من التابعين جاء عنه حرف واحد بأن الله جل وعلا ليس فوق خلقه مستوياً على عرشه ما استطاع إلا أن يكون شيئاً مكذوباً، والكذب معلوم أنه يوجد في طوائف من الناس ممن يكذب لغرض معين، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، حتى إنك تجد الآن كتباً كثيرة كبيرة في مجلدات وكلها مملوءة بالكذب، تسمى: كتب الموضوعات التي جمعها العلماء وبينوا أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة نسبها أناس إليه وهي كذب، ومعلوم أن الكذب على الله جل وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم الكذب. قوله: (إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه) ، أما في الكتاب فالأمثلة كثيرة، وأما في السنة فهي كذلك يصعب حصرها، بل لا يستطاع؛ لأنها كثيرة جداً؛ لأنها مثلما قال: (متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، ولكن من أظهر ذلك حديث المعراج حينما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، حتى ارتفع فوق السماء السابعة وانتهى إلى سدرة المنتهى، فكلمه الله بدون واسطة وأمره بخمسين صلاة، أمره بها وأمته، (فنزل إلى السماء السابعة فلقي موسى عليه السلام فسأله ماذا فرض عليك؟ قال: خمسين صلاة، فأشار عليه أن يرجع إلى ربه جل وعلا ويسأله التخفيف، فإن أمته لا تستطيع ذلك، فرجع بعدما استشار جبريل، فسأل التخفيف، فحط عنه عشراً، ثم هبط إلى موسى فأمره بالرجوع) وهكذا صار التردد بين موسى وبين المكان الذي كلمه الله جل وعلا فيه، وهو يخاطبه جل وعلا، إلى أن صارت خمس صلوات، عند ذلك قال له موسى عليه السلام: (ارجع إلى ربك واسأله التخفيف، فإني بلوت بني إسرائيل على أقل من ذلك فلم يستطيعوه، وهم أقوى أجساماً من أمتك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد ترددت حتى استحييت من ربي) . وكذلك منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ -يسأل الجارية- فقالت: في السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) ، في أحاديث كثيرة جداً، صريحة واضحة، لا خفاء فيها.

عدم المنافاة بين فوقية الله سبحانه وتعالى وبين نزوله

عدم المنافاة بين فوقية الله سبحانه وتعالى وبين نزوله وقوله: (فوق سماواته على عرشه) ، جاء هذا صريحاً في كتاب الله أنه فوق خلقه، فوق عباده، الفوقية من صفاته جل وعلا، وهي من صفات الذات، بحيث إنها لا تنفك عنه أبداً، فدائماً هو فوق كل شيء، وصفاته لا تشبه صفات خلقه. فإذا أخبر جل وعلا بخبره الذي قاله وأنزله على رسوله، أو بالخبر عنه الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن خبره قوله جل علا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] ، وقوله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، وقوله جل وعلا: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69] ، ونحو ذلك من الآيات التي يخبر بها أنه يجيء إلى الفصل بين خلقه وهم في الأرض، ينزل إليهم، يأتي إليهم. وأما خبر رسوله صلى الله عليه وسلم فكقوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر، وذلك كل ليلة، ويبسط يده ويقول: هل من مستغفر فيغفر له، هل من سائل فيعطى، هل من تائب فيتاب عليه، حتى يطلع الفجر) ، ونحو ذلك من الأخبار التي يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا أخبرنا بهذه الأخبار وجاءت، فإن هذه لا تنافي أنه على عرشه وأنه فوق كل شيء، وأنه لا يكون شيء فوقه، فهو يجيء إلى الأرض وهو على عرشه، والمخلوقات كلها تحته، بسماواته وعرشه وجميع المخلوقات؛ لأن علوه ذاتي لازم له، ولا يمكن إلا أن يكون هو العلي الأعلى؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، والسماوات كلها يقبضها بيده جل وعلا، فتكون في يده جل وعلا صغيرة حقيرة، ثم يهزها ويقول: (أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون المتكبرون؟) ، ثم يقول: (لمن الملك اليوم؟ فلا يجيب أحد؛ لأنهم مقبوضون في قبضته، فيجيب نفسه جل وعلا، ويقول: لله الواحد القهار) . فهو الواحد الذي ليس كمثله شيء، القهار الذي قهر كل شيء، وكل شيء مخلوق له يتصرف فيه كيف يشاء، وعلوه لا ينافي نزوله كما أنه لا ينافي معيته التي أخبر أنه جل وعلا مع خلقه، كما ذكر جل وعلا الجمع بين العلو وبين المعية؛ لأن هذه من خصائصه، ولا يمكن أن يختص بها مخلوق.

معية الله سبحانه وتعالى معناها وأقسامها

معية الله سبحانه وتعالى معناها وأقسامها فقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، فأخبر أنه مستو على العرش عالٍ على جميع الخلق، وهو معنا أينما كنا، وهذه المعية جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله، ولكنها جاءت على قسمين: معية عامة: كهذه (وهو معكم) ، وكقوله جل وعلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] ، فهذه عامة شاملة للخلق كلهم، وليس معناها كما يتصوره الذين فسدت فطرهم وفسدت لغتهم، وانحرفت عقائدهم، وساءت مقاصدهم، ليس معناها كما يتصورون: أنها تقتضي الاختلاط والامتزاج والحلول، تعالى الله وتقدس، فإن هذا لا يجوز أن يظن. ولكن المعية معناها كما جاء في اللغة العربية: المصاحبة المناسبة؛ لما تضاف إليه، فالمعية تكون للمصاحب، كما قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، أي: تبعوه وصاروا معه على الإيمان، وليسوا معه مداخلين لجسده، حالين فيه، وكقول الرجل مثلاً: معي متاعي، وقد يكون متاعه فوق رأسه حاملاً له، وقد يكون متاعه ليس معه، أعني ملاصقاً لجسده، بل هو مهيمن عليه ومسيطر عليه، وكذلك يقول: معي مالي، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد. فالمعية تختلف باختلاف ما أضيفت إليه في لغة العرب، ولهذا جاء في كلام العرب: سرنا والقمر معنا، مع أن القمر فوقهم في السماء وهم في الأرض، ومع ذلك يكون الكلام صحيحاً، فتكون المعية التي تضاف إلى الله أعلى وأجل وأعظم من المعية التي تكون للمخلوقات، وهذا يبين لنا أن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج.

انقسام المنكرين لعلو الله إلى قسمين

انقسام المنكرين لعلو الله إلى قسمين فقال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، فأخبر أنه مستو على العرش عالٍ على جميع الخلق، وهو معنا أينما كنا، وهذه المعية جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله، ولكنها جاءت على قسمين: معية عامة: كهذه (وهو معكم) ، وكقوله جل وعلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] ، فهذه عامة شاملة للخلق كلهم، وليس معناها كما يتصوره الذين فسدت فطرهم وفسدت لغتهم، وانحرفت عقائدهم، وساءت مقاصدهم، ليس معناها كما يتصورون: أنها تقتضي الاختلاط والامتزاج والحلول، تعالى الله وتقدس، فإن هذا لا يجوز أن يظن. ولكن المعية معناها كما جاء في اللغة العربية: المصاحبة المناسبة؛ لما تضاف إليه، فالمعية تكون للمصاحب، كما قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، أي: تبعوه وصاروا معه على الإيمان، وليسوا معه مداخلين لجسده، حالين فيه، وكقول الرجل مثلاً: معي متاعي، وقد يكون متاعه فوق رأسه حاملاً له، وقد يكون متاعه ليس معه، أعني ملاصقاً لجسده، بل هو مهيمن عليه ومسيطر عليه، وكذلك يقول: معي مالي، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد. فالمعية تختلف باختلاف ما أضيفت إليه في لغة العرب، ولهذا جاء في كلام العرب: سرنا والقمر معنا، مع أن القمر فوقهم في السماء وهم في الأرض، ومع ذلك يكون الكلام صحيحاً، فتكون المعية التي تضاف إلى الله أعلى وأجل وأعظم من المعية التي تكون للمخلوقات، وهذا يبين لنا أن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج.

القسم الأول: القائلون بأنه في كل مكان

القسم الأول: القائلون بأنه في كل مكان معلوم أن الذين أنكروا علو الله وارتفاعه قسمان كما سبق: قسم قالوا: إنه في كل مكان، ولم ينزهوه عن مكان من الأمكنة حتى الأمكنة التي تكون محلاً للشياطين، كمحل قضاء الحاجه ونحوه، تعالى الله وتقدس، بل حتى أجوافهم؛ لأنهم قالوا: في كل مكان، وهؤلاء قسم من الجهمية ومن الأشاعرة ومن غيرهم، وليس لهم على هذا أي دليل، إلا ما انتحلوه وزعموا أن العقل دل عليه، وهذا لا يمكن أن يكون عقلاً صحيحاً. ويجب أن يسأل هؤلاء، ويقال لهم: الله جل وعلا أليس هو الخالق؟ فلابد أن يقروا بأنه هو الخالق للمخلوقات المشاهدة وغيرها، فيقال لهم: لما خلق المخلوقات أين خلقها؟ هل خلقها في ذاته؟ ومعلوم أن هذا كفر، والذي يقوله يكون كافراً، فلابد أن يقروا بأنه خلقها خارج ذاته تعالى وتقدس، منفصلة متميزاً عنها، فإذا كان متميزاً عنها فلابد أن يكون فوقها؛ لأن التحت مقر الشياطين وهو صفة سفول وصفة نقص، وليس هناك إلا تحت وفوق، فالله جل وعلا يتنزه عن صفة النقص، فلابد أن يوصف بالفوقية. هذا على سبيل المجادلة، مع أننا لا نحتاج إلى مثل هذا؛ لأن الله أغنانا بما أنزل علينا من قوله وبما قررته رسله، وبما خلق فينا من الفطر، ولابد أن كل إنسان يحتاج إلى ربه في وقت من الأوقات، فإذا احتاج إليه فإنه يتجه إليه يسأله، فهل يمكن أن يلتفت يميناً أو شمالاً أو تحت قدمه؟! لابد أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، وهو لم يعلم في ذلك، وإنما فطره الله جل وعلا على هذا وخلقه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ} [الروم:30] ، وهذا أمر ضروري. ولهذا لما كان أحد كبار الأشاعرة، يتكلم في هذا المسجد -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- ويقرر عقيدته الباطلة ويقول في كلامه: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، قام رجل من الناس وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا يفهمه الناس، ولسنا مكلفين به، ولكن أخبرني عن أمرٍ أجده في نفسي أنا وأنت وكل من قال: يا ألله، فإنه يجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى السماء، فيرفع يديه يقول: يا رب! يا رب! من أين أتت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها، أخبرني عن ذلك؟ فسكت الرجل، ثم وضع يده على رأسه وكان على كرسي، ثم نزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، يعني: أنه أفسد عقيدته التي كان يقررها ويدعو إليها، ففسدت بكلمة واحدة، وصار يبكي ما يدري كيف يعتقد! هكذا الباطل إذا قذف بقذيفة من قذائف الحق دمغته وبطل، والأدلة الدالة لهذا كثيرة جداً، ولكن هذا نوع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا أحد يستطيع أن يدفع ذلك. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب المنزل عليه ما جاءا، إلا مؤيدين للفطرة ومرشدين للعقول، أما العقل بذاته فإنه يختلف اختلافاً كبيراً جداً؛ لأن كل إنسان يدعي أنه عاقل وأن العقل معه، والله جل وعلا لا يقاس بالأقيسة ولا تضرب له الأمثلة؛ لأنه ليس له مثل جل وعلا، كما أنه جل وعلا لا يشاهده أحد فيخبر عنه، وقد أخبرنا أنه أكبر من كل شيء، وشرع لنا عند كل خفض أو رفع في الصلاة وفي غيرها أن نقول: الله أكبر، أي: أكبر من أي شيء؟! من عقول هؤلاء الذين جعلوه محصوراً في داخل المخلوقات الصغيرة، تعالى الله وتقدس. الله أكبر من كل شيء، وأكبر مما يتصوره المتصورون، وخلقه كله صغير حقير بالنسبة إليه، لا يجوز لمسلم أن يتصور أن السماوات على عظمها وكبرها تكون مظلة لرب العالمين، أو تكون مقلةً له، تعالى الله وتقدس! وهي خلق من مخلوقاته، وذرة من قدرته الهائلة الباهرة التي لا يعجزها شيء، وهو على كل شيء قدير. ولهذا قال: (وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة) ، أي: لا تدل عليه اللغة العربية؛ لأن المعية في اللغة هي المصاحبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) ، فهو يكون مع المسافر، ويكون مع أهله الذين تركهم في بلده، وهو على عرشه تعالى وتقدس. ثم ليعلم أن علماء السلف إذا جاءوا إلى مثل هذه الآية: (وهو معكم) ، قالوا: بعلمه، ففي كتب التفسير وفي شروح الحديث وفي كتب العقائد يجمعون على قوله: (وهو معكم) يعني: بعلمه، كما قال الإمام أحمد في قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، يقول: إنه العلم؛ لأن الآية بدأت بالعلم وختمت بالعلم، ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)) ، ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) ، فختمها بالعلم كما بدأها بالعلم، فدل ذلك على أن المقصود بقوله: (وهو معكم) أي: بعلمه، وهكذا يقول غيره من الأئمة، ولكن ليس معنى هذا أن المعية هي العلم، ليس هذا المراد، ولكنهم بذلك يردون على الجهمية ومن سلك مسلكهم؛ لأن الجهمية كما سبق انقسموا إلى قسمين: القسم الأول الذي ذكرناه: أنهم قالوا: إن الله في كل مكان.

القسم الثاني: القائلون بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه

القسم الثاني: القائلون بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه والقسم الثاني الذين يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال العالم، وليس خارج العالم ولا داخله، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تصح إليه الإشارة، ولا يحس بحاسة إلى آخره. فأين يكون؟! يكون عدماً على حسب كلامهم هذا، فهؤلاء هم الذين يسمون: بالمعطلة، وهم في الواقع ملاحدة ينكرون وجود الله؛ لأنه لو قيل لأحدهم: ما هو العدم؟ لما أمكن أن يصفه بأكثر مما وصف به رب العالمين، تعالى الله وتقدس. فالقسم الأول هو الذي رد عليه العلماء بقولهم: المعية المقصود بها العلم، يعني: لئلا يفهم أن الله مخالط خلقه ممازج لهم تعالى الله وتقدس، هذا مقصودهم بقولهم: المعية العلم، وإلا المعية ليست هي العلم وإنما العلم من لوازم المعية، ومعلوم أن علم الله في كل مكان، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأن علمه لا يتغير بقرب الزمن ولا بعده، ما علمه مما سيكون يوم القيامة وبعد الدنيا يقع على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان؛ لأن علمه كامل وتام تعالى وتقدس. ولكن المعية أكثر من ذلك، المعية هي العلم والإحاطة والسمع والبصر وأن الخلق لا يخفون عليه ولا يعجزونه، وهذه كلها من المعاني التي تدل عليها كلمة (مع) في لغة العرب، بالنسبة لرب العالمين جل وعلا، وهو على عرشه تعالى وتقدس، ولكون هذا مقصوداً جمع الله جل وعلا بين علوه وبين معيته؛ ليعلم عباده أن علوه فوق خلقه كلهم لا ينافي معيته وقربه، وأن أخباره تتفق ولا تتضارب، ويجب أن تفهم على المقصود الذي أراده جل وعلا، وأن تصان عن الظنون السيئة، وعن الجهل الذي قد يدعو صاحبه إلى أن يعتقد شيئاً يجب أن ينزه الله جل وعلا عنه، كأن يقول في معنى: (وهو معكم) : أنه يكون مخالطاً لخلقه، ومعلوم أن هذا لا توجبه اللغة، فإن كلمة (مع) تستعمل مع كل من كان مهيمناً على الشيء ومسيطراً عليه يصح، ولو قدر مثلاً في الخلق أن صبياً في الشارع مثلاً يبكي أو يصيح، ويطلع عليه والده من سطح البيت، فيقول له: لا تخف أنا معك، لكان هذا الكلام صحيحاً، وليس فيه مخالفة للغة العربية، والمعنى: أنه مراقب له وأنه سوف يكون حافظاً له مما قد يؤذيه على قدر استطاعته؛ لأن المخلوق استطاعته محدودة، ولكن المقصود أن كلامه صحيح، وهذا إذا صح في المخلوق فكيف برب العالمين إذا أخبر أنه مع خلقه؟! كيف يكون هذا فيه مخالفة لكونه مستوياً على عرشه، لا يكون ذلك إلا لأحد رجلين: إما رجل جهل ربه فلم يعرف ربه المعرفة الواجبة، وإما أنه انحرفت نيته ومراده وقصده فأصبح يريد باطلاً؛ لأن الأمر واضح في هذا، ولهذا قال: (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة) ، يعني: أن كلمة: (مع) لا تدل على المخالطة والممازجة، كما أنها لا تدل على المماسة. وهذا واضح، لما قال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، فلا يلزم أن يكونوا مماسين له، بل معه على الإيمان وإن كانوا في بلد وهو في بلد، والكلام صحيح، فإذا كان هذا يصح في لغة العرب بالنسبة للمخلوقين، فكيف لا يصح بالنسبة للخالق جل وعلا؟! وهو كما قلنا: لا يجوز أن تكون صفاته مماثلةً لصفات خلقه، ثم هذا الكلام كله يعني: كونه مستوياً على عرشه عالياً على خلقه، وكونه معنا، كله حق يجب أن يفهم على حقيقته، وليس فيه مجاز كما يقوله المبطلون، لا في العلو ولا في المعية؛ لأنه مفهوم من كلام الله ومن قدرة الله وقوته وعظمته أنه على عرشه ومع خلقه، إذا أراد أن يقبضني بيده قبضني، فسماواته وأرضه تكون في يده صغيرة حقيرة، فإذا كان في هذا الوصف يصح جداً أن يقال: إنه معهم.

أقسام المعية

أقسام المعية لهذا صارت المعية قسمها الأول الذي ذكرنا: يقتضي الخلق والمراقبة {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، يعني: لا تتركوا أمره ولا ترتكبوا نهيه؛ فإنه يراقبكم ويبصركم، ويعلم ما في قلوبكم، ويرى تصرفاتكم، وأنتم لا تعجزونه، إذا شاء أن يأخذكم أخذكم، وذلك على الله يسير، فالمعية العامة من معانيها الخوف والمراقبة. أما القسم الثاني من أقسام المعية فهو المعية الخاصة التي تكون لأنبيائه وأوليائه وعباده المؤمنين، فهو معهم دون الكافرين، ودون الفاجرين، ودون الفاسقين، كما قال جل وعلا لكليمه موسى وأخيه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، وذلك لما قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] ، يعني: أن فرعون من فرطه وحمقه وجبروته وقهره يمكن أن يصدر منه أو يبدر منه بوادر يكون فيها أذية أو قتل لنا؛ لأن عنده من السلطة والقوة والبطش بمن تحت يده ما هو معلوم، فقال الله جل وعلا لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فهو جل وعلا مع موسى وأخيه هارون دون فرعون وقوم فرعون في هذه المعية؛ لأنها معية خاصة بموسى وهارون فقط، ولهذا صار معنى هذه المعية غير معنى المعية الأولى، فهذه من معانيها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وهذا خلاف المعنى الأول، ولو كانت المعية تقتضي الممازجة والمداخلة لم يمكن أن تكون بهذه المعاني، هذا أمر متفق عليه بين أهل الحق الذين عرفوا اللغة العربية وفهموا خطاب الله جل وعلا، وكذلك قدروا ربهم حسبما علمهم الله جل وعلا ووصف نفسه لهم. ثم قال: (وخلاف) أي: أن الاختلاط والامتزاج خلاف ما فطر الله جل وعلا عليه الخلق، فالمقصود بذلك الفطرة التي لم تتغير لا بالتجهم ولا بالاعتزال؛ لأنه إذا تغيرت الفطرة بالبدع وأنشئ الإنسان عليها؛ فإن فطرته تفسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسان) ، يعني: أن أبويه يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، أو جهمياً أو معتزلياً، والمقصود بالأبوة: أي: المربي الذي يربيه ويعلمه ويلقنه هذه الأشياء. ولهذا إذا ربي الناس على الفساد تربوا عليه، وألفوه وأصبحوا لا يريدون سواه، وأصبح الحق مبغضاً محارباً مكروهاً غير موافق لهم، وإذا ربوا على الحق والفضيلة والنزاهة صار ذلك مألوفاً محبوباً مراداً، والفساد والرذائل مكروهة مبغضة منبوذة، والإنسان على ما يربى عليه، وسواء كانت تربيةً خاصة أو تربيةً عامة. فالتربية الخاصة: هي التي تكون من الوالدين والتي تكون من المعلم. أما التربية العامة: فهي التي يتعلمها الإنسان من المجتمع، أو من الإعلام العام من صحافة أو إذاعة أو غيرها، فهذه التربية حسب التوجيه الذي يوجه به الناس الذين يتلقون ذلك ويتربون عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذا أمر لا ينكر.

أمثلة تدل على علو الله على خلقه

أمثلة تدل على علو الله على خلقه قوله: (بل القمر آية من آيات الله من أصغر المخلوقات) هنا يضرب لنا مثلاً ولله المثل الأعلى، فالقمر صغير بالنسبة للمخلوقات في السماوات وفي الأرض، فهو بالنسبة للسماء، من أصغر المخلوقات وهو موضوع في السماء، والمقصود بالسماء العلو بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتناوله؛ لأنه بعيد جداً، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم. فإذا كان القمر مثلاً من مخلوقات الله الصغيرة وهو يشاهد في السماء، ويصح أن يقول الإنسان -سواء كان مسافراً أو مع الناس مجتمعاً-: القمر معنا، وهو منفصل عنه بعيد عنه، فكذلك رب العالمين أولى -وله المثل الأعلى- أن يكون فوق عرشه وهو مع خلقه. وأصل هذا المثل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في السنن المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الله يكلمكم يوم القيامة، كل واحد يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا واسطة ولا حاجب يحجبه، قال أبو رزين العقيلي: كيف ذلك يا رسول الله! وهو شخص ونحن كثيرون؟ فقال: أخبرك بآية من آيات الله جل وعلا؛ هذا القمر تشاهدونه في السماء، كل واحد منكم يستطيع أن يخاطبه أو يشاهده مخلياً به، فالله أكبر وأعظم) ، وهذا تقريب للأذهان فقط، وإلا فهو آية من آيات الله جل وعلا، والله جل وعلا لا يقاس بالمخلوقات ولا بشيء من المخترعات وإن كان كبيراً، فالله أكبر وأعظم. وقوله: (وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه) ، الرقيب: هو الذي يطلع على الشيء ولا يخفى عليه شيء منه، يراقبه ببصره ونظره وكذلك بسيطرته عليه، فيراقبه في جميع تصرفاته، فالله رقيب على خلقه يشاهدهم ويسمع كلامهم، ويعلم ما انطوت عليه قلوبهم من النيات، فهو يعلم السر وأخفى، فالسر الذي يكون في قلب الإنسان ولم يتكلم به يعلمه الله عز وجل، والشيء الذي لم يكن ولكنه سيكون؛ فإن الله يعلم أنه سيكون كذا وكذا في وقت كذا وكذا، كذلك في قبضته لهم فإنهم لا يعجزونه، وإذا أراد أخذهم أخذهم، وهو على كل شيء قدير. وقوله: (مهيمن) ، المهيمن: على وزن مفيعل، وليس هذا من باب التصغير، فإن أسماء الله جل وعلا لا يجوز أن تصغر، والهيمنة هي المشاهدة، فلا يخفى عليه شيء وهم في قبضته وإحاطته، ولا يخرج عن هيمنته من ذواتهم ولا من تصرفاتهم شيء، تعالى الله وتقدس، وهذا كله مما يبين معنى المعية. قوله: (مطلع عليهم) من الاطلاع وهو النظر. (إلى غير ذلك من معاني ربوبيته) يعني: أن هذه من معاني الربوبية؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الخالق الذي لا يعجزه شيء. ثم قال: (كل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم) يعني: أن قوله: (وهو مستو على عرشه وهو فوق خلقه) أنه على ظاهره حق على حقيقته، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقوله: (وهو معكم) ظاهر على حقيقته ولكن الحقيقة اللغوية والمعنوية التي دلت عليها اللغة، وليس الحقيقة التي يقولها من انحرف وفسد تصوره، ولهذا قال: (لا يحتاج إلى تحريف) ، يعني: إلى تأويل، كقول القائل مثلاً: كونه معنا يوهم أنه داخلٌ في العالم فيحتاج إلى أن نؤوله، ونقول: هذه المعية يقصد بها ملائكته الذين كلفهم بحفظ كلام الناس وأعمالهم، كل هذا لا يحتاج إليه، بل هو جل وعلا معنا بمعيته وهو على عرشه، ولا يجوز أن نقول: إنه معنا بذاته؛ لأنه إذا قيل بالذات فالذات معناها: أنه مختلط بالناس، تعالى الله وتقدس! فذاته على عرشه، ولكن مخلوقاته بالنسبة إليه صغيرة حقيرة. وكل ذلك على ظاهره، ولا يحتاج إلى أن نقول: إنه العلم فقط، بل العلم والهيمنة والرقابة والشهود، وغير ذلك من معاني هذه الصفة التي وصف بها نفسه. وقوله: (ولكن يصان عن الظنون الكاذبة) ، الظنون الكاذبة: إما أن تكون منشؤها من الجهل أو من فساد التصور، ومثل لذلك بقوله: (كأن يظن بأن معنى قوله: (وهو في السماء) أن السماء تظله) ، ومعنى تظله: يعني تكون فوقه، مثل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى السماء الدنيا، فإنه قد يظن ظان أن السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي يكون فوقه تعالى الله وتقدس، فهذا الظن باطل وكاذب، إن نقله عن أحد من الناس فهو كاذب في نقله، وإن ظنه هو فهو باطل في ظنه، وضال في عقيدته، فيجب أن تصان معاني صفات الله جل وعلا ومعاني كلامه عن الظنون الفاسدة والتصورات الباطلة. ثم بين أن هذا يقرب بقدرة الله جل وعلا؛ لأن الإنسان لا يحيط بالله جل وعلا، ولا يحيط بمعاني صفاته وإنما يتصور المخلوق مثله، أما معاني صفات الله جل وعلا فهي على خلاف ذلك، فقرب المعنى بذكر عظمة الله، فقال: وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] يمسكهما بقدرته تعالى وتقدس، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال في السماء: إنكم ترونها بلا عمد تعتمد عليها، ولكن الله ممسكها بقدرته جل وعلا، وهو جل وعلا غير محتاج لا للعرش ولا لغيره، وإنما العرش يحتاج إليه تعالى وتقدس.

الأسئلة

الأسئلة

ضعف النقل عن أحمد في تأويل مجيء الله تعالى

ضعف النقل عن أحمد في تأويل مجيء الله تعالى Q فضيلة الشيخ! هل يصح عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في قول الله تعالى: ((وَجَاءَ رَبُّكَ)) [الفجر:22] أي: أمر ربك؟ A هذا نقل عنه، ولكنه نقل غير صحيح، فخطأ ابن تيمية رحمه الله الناقل وقال: إنه أخطأ في هذا، وذلك أن فيه ملابسات في هذا الأمر حينما كان في السجن فالتبست على الناقل فظن أنه قال هذا فنقله، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيرجع إليه.

معنى قوله: (بائن عن خلقه)

معنى قوله: (بائن عن خلقه) Q ما معنى قول المصنف: (بائن عن خلقه) ؟ A البينونة واضحة يعني: أنه غير مختلط بخلقه ليس داخل السماء ولا في الأرض بل هو فوق العرش، هذا معنى بائن، يعني: أنه فوق عرشه، وهذا رد على الذين يقولون: إنه مع خلقه بذاته، ويقولون: إنه في كل مكان، وهذا واضح ليس فيه التباس.

حقيقة نزول الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا

حقيقة نزول الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا Q إن الله سبحانه وتعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل ويجيب الدعوات، فهل النزول حقيقي؟ A النزول حقيقي على ظاهره، وينزل وهو فوق عرشه جل وعلا، كما أنه ينزل يوم القيامة إلى الأرض فيفصل بين خلقه وهو على عرشه، ولا يكون شيء فوقه، هذا يجب أن يفهم على ظاهره كما سبق تكلمنا على النزول في الدرس الماضي، وقلنا: إن نزول الله ليس كالنزول الذي يتصوره الإنسان لمخلوق. المخلوق إذا كان فوق السطح فنزل من على السطح فلابد أن يكون السطح فوقه، هذا نزول المخلوق، ولكن نزول الخالق ليس مثل هذا؛ فهو نزول خاص به، ونزوله يجب أن يكون مثل صفاته، وليس مثل صفات المخلوقين، وصفاته جل وعلا أخبرنا بشيء من هذا النوع، الذي يقرب للإنسان هذا المعنى، مثلما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يوم القيامة إذا جمع الناس من أولهم إلى آخرهم، في صعيد واحد وقام كل واحد واقفاً على قدميه؛ لأن الأرض لا تتسع لهم إلا وهم وقوف، وذلك لكثرتهم، مع إزالة البحار والجبال ومد الأرض مد الأديم؛ فإذا جاء لفصل القضاء فإنه يخاطبهم كلهم في آن واحد، وفي لحظة واحدة، يقول: فعلت كذا يوم كذا، وهذا لا يمكن أن يتصور من مخلوق ولا شيء من ذلك. وكذلك في الوقت الحاضر الأرض مملوءة والحمد لله من المسلمين الذين يدعون الله، تجدهم في وقت واحد يتجهون إلى ربهم يدعونه، وكل واحد يستمع له الله جل وعلا، ولا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر؛ تعالى الله وتقدس! فالمقصود أن يقاس فعله على فعله، ولا يقاس فعله على فعل المخلوقين فيضل الإنسان في هذا، فنزوله من هذا النوع، وبهذا يجاب عن الإشكال الذي يستشكله الذي يتصور أن نزوله كنزول المخلوقين، يقول: إن ثلث الليل يختلف باختلاف الأقاليم، فإذا قلنا بالنزول إنه ثلث الليل، يلزم من ذلك أن يكون نازلاً دائماً، فهذا لو كان النزول كنزول المخلوق، يمكن أن يتصور، أما بالنسبة لنزول الله فلا يتصور هذا، فهو نزول خاص به جل وعلا.

حكم إدخال المعية الخاصة في المعية العامة

حكم إدخال المعية الخاصة في المعية العامة Q أما نستطيع أن ندخل المعية الخاصة في المعية العامة؟ A لا نستطيع؛ لأن هذه لها معنى وهذه لها معنى، فالمعاني التي ذكرها الله لا تتداخل وقد ميزها جل وعلا.

حكم تفسير المعية بالعلم

حكم تفسير المعية بالعلم Q أليست المعية هي العلم؟ A لا، ولكن من لوازمها العلم، وقد يفسر الشيء بلازمه كما هي عادة السلف، السلف يفسرون الشيء بلازمه، ولاسيما إذا كان الذي يسمع لا يفهم، وإنما يفهم اللازم فقط، فإنهم يقتصرون على هذا.

حقيقة وجود بحر فوق السماء السابعة

حقيقة وجود بحر فوق السماء السابعة Q هل يوجد فوق السماء بحر؟ A نعم فوق السماء السابعة بحر عظيم وفوقه العرش، وقد سبق أن تكلمنا على ذلك، ولكن المصنف أعاده؛ لأجل التمثيل على عظمة الله جل وعلا.

حكم دخول الأشاعرة في أهل السنة والانتساب إليهم

حكم دخول الأشاعرة في أهل السنة والانتساب إليهم Q هل يعد الأشاعرة من أهل السنة؟ وهل إطلاق تسمية أشاعرة صحيحة مع أن أبا الحسن الأشعري قد تاب عن عقيدته؟ A الأشاعرة ليسوا من أهل السنة، بل الأشاعرة من أهل البدع، والانتساب إلى الأشعري غير صحيح، فلا يجوز أن ينتسب الإنسان إلى الأشعري، وإنما يجب أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح العقيدة الواسطية [15]

شرح العقيدة الواسطية [15] انقسم الناس في مسألة علو الله تعالى إلى ثلاثة أقسام: قسم وصفوه بالمتقابلات المتنافيات، بل الممتنعات عقلاً، والتي تنفي وجود الشيء، وهؤلاء هم الجهمية، وقسم كانوا على نقيضهم وهم الذين قالوا: إن الله في كل مكان بذاته، أما القسم الثالث فهم أهل الحق وهم أهل السنة الذين يعتقدون أن الله فوق عرشه بائن من خلقه، وهو أيضاً معهم محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم.

علو الله جل وعلا على خلقه لا ينافي معيته لهم

علو الله جل وعلا على خلقه لا ينافي معيته لهم يقول المصنف رحمه الله: [وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة: مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وهو {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج:65] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] . فصل: وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] في جميع نعوته وهو عليٌّ في دنوه قريب في علوه] . العلو لله جل وعلا لا ينافي المعية؛ ولهذا جمع الله جل وعلا بين ذلك في آية واحدة كما سبق، وهو أنه تعالى يقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فجمع بين علوه واستوائه على عرشه وبين كونه معنا؛ ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: كل هذا الكلام على ظاهره وعلى حقيقته ولا يجوز أن يحرف، ومقصوده بالتحريف: التأويل الباطل الذي سلكه أهل الكلام.

أقسام الناس في مسألة العلو

أقسام الناس في مسألة العلو وجملة الناس في مسألة علو الله: قسم: وصفوه بالمتقابلات المتنافيات بل الممتنعات في العقل، وهم الجهمية ومن سلك طريقهم فقالوا: لا فوق ولا تحت، ولا خارج العالم ولا داخل العالم، وليس له مكان ولا يجري عليه زمان، فيأتون بالأمور المتقابلة المتنافية التي يستحيل في العقل أن الشيء موجوداً إذا نفيت هذه الأمور، ولهذا قال العلماء من أهل السنة: الجهمية يعبدون عدماً، وأما الذين قابلوهم فهم يعبدون صنماً، ومنهم من يقول: الجهمية لا يعبدون شيئاً والمشبهة أو الحلولية يعبدون كل شيء. ولا شك في بطلان هذا القول عقلاً وفطرةً وشرعاً. القسم الثاني من أقسام الناس: وهم الذين وصفوه بأنه في كل مكان تعالى الله وتقدس، فجعلوه فوق العرش وتحت الثرى، وجعلوه فوق العالم وداخل العالم -تعالى الله وتقدس- وهذا المذهب عكس المذهب الذي قبله، وكلاهما باطل وكفر بالله جل وعلا. المذهب الثالث: وهو قول أهل الحق أهل السنة: أنه فوق عرشه بائن من خلقه وهو أيضاً معهم محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وهذا الذي دلت عليه الأدلة وهو الذي يقرره الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب وغيره، وهو الذي تتفق عليه أدلة الشرع وأدلة العقل والفطرة وإجماع أتباع الرسل. وقوله: (على حقيقته) يعني: أن العلو على الحقيقة، فهو جل وعلا عالٍ على خلقه، والمعية على الحقيقة ولكن الحقيقة كما سبق أن المعية معناها: المصاحبة، والمصاحبة تكون بحسب ما أضيفت إليه كما سبق التمثيل لذلك. يقول الإنسان: معي مالي، وإن كان ماله في بلد وهو في بلد، ويقول: معي زوجتي وإن كانت زوجته في بلد وهو في بلد، يقول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] يعني: على الإيمان والجهاد، وهكذا في كل ما يأتي، فكلمة (مع) تدل على معنىً ظاهر يدل عليه السياق. فإذا قال الله جل وعلا: (وهو معكم) فمعيته جل وعلا على ظاهرها: فإما أن تقتضي الإحاطة والاطلاع والعلم، وأنهم في قبضته لا يخرجون عن ذلك، وأنهم على مرأى ومسمع منه، أو تقتضي أنهم في حفظه ونصره وتأييده، فإن كانت مع المحسنين ومع المؤمنين ومع المتقين ومع النبيين فهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وإن كانت عامة فهي تقتضي الاطلاع وأنهم في قبضته وأنهم لا يفوتونه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيعلم ذلك ويبصره ويسمعه وهو محيط بهم.

وجوب استحضار عظمة الله جل وعلا

وجوب استحضار عظمة الله جل وعلا وينبغي للإنسان أن يستحضر مع هذا ما ذكره الشيخ بعد ذلك من الأمور العظيمة التي لا يحيط بها عقل الإنسان، الدالة على عظمة الله جل وعلا كقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وقوله: (يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا) ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج:65] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] فهذه تدل على عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه تعالى ليس بحاجة لا إلى عرش ولا إلى غيره وإنما العرش والسماء والكرسي وكل شيء محتاج إليه، وهذا استدلال بعظمته على كمال قدرته تعالى وتقدس. وقوله: (ولكن يصان عن الظنون الكاذبة) يعني: أن هذا الكلام ظاهر، ولكن لو قدر أن إنساناً لا يفهمه على حقيقته وعلى مراد المتكلم منه فإنه يجب أن يفهم ويعلم المراد، (والظنون الكاذبة) مثل أن يظن ظان أنه إذا قال جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه محتاج إلى العرش تعالى وتقدس، أو أن استواءه على العرش كاستواء المخلوق على ما يركب عليه ويستوي عليه فهذا لا يجوز أن يعتقد. وكذلك إذا قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فيظن أن السماء تكون ظرفاً له أو أنها تقله تعالى وتقدس. وكذلك إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر) فالظنون السيئة: أن يظن بأنه إذا نزل إلى السماء الدنيا أن شيئاً من المخلوقات يكون فوقه؛ تعالى الله وتقدس فهو أكبر من المخلوقات كلها وأعظم منها ولا يمكن أن يكون شيء فوقه؛ لأن العلو من لوازم الذات، أي: أن علوه على كل شيء لا ينفك عنه أبداً فهو عال فوق جميع خلقه وإن نزل إلى سماء الدنيا، بل وإن نزل إلى الأرض كما يأتي يوم القيامة جل وعلا للفصل بين خلقه يأتي وهو فوق كل شيء، ولو شاء لقبض المخلوقات كلها في سماواته وأرضه ومن فيها بيده جل وعلا فصارت بالنسبة إليه كخردلة صغيرة حقيرة ليست بشيء. فإذا كان هذا شيء من بعض عظمته جل وعلا فكيف يظن أنه يكون داخل مخلوقات؟ تعالى الله وتقدس. قوله: (أن يظن جاهل أو ضال) أن يظن جاهل في ذلك أو ضال ضل في دينه وفي عقله.

قرب الله جل وعلا لا ينافي علوه

قرب الله جل وعلا لا ينافي علوه ثم بعد هذا يقول: (وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب) ، وهذا من الأمور التي لا تنافي العلو أيضاً، فكونه قريباً مجيباً لا ينافي أنه فوق عرشه عال على جميع مخلوقاته، وقربه من صفاته، وهو قرب حقيقي على ظاهره يليق بعظمته تعالى وتقدس، وقد جمع بين القرب والإجابة في قوله جل وعلا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة قال: (يا رسول الله! أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه؟ فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ) فالقرب جاء ذكره في كتاب الله ولكنه جاء بصيغتين: بصيغة الجمع، وبصيغة الإفراد، أما صيغة الجمع: فكقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وكقوله جل وعلا: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] في حالة المحتضر. وأما صيغة الإفراد: فمثل هذه الآية ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وكثير من النصوص جاءت بصيغة الإفراد.

أقسام قرب الله جل وعلا

أقسام قرب الله جل وعلا ومن العلماء من قسم القرب إلى قسمين: كـ ابن القيم رحمه الله فجعله قرباً عاماً وقرباً خاصاً: القرب العام هو معنى اسمه الباطن؛ لأنه جاء في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) فجعل البطون: القرب، وقال: هذا عام، فيكون ذلك قريب المعنى من المعية العامة؛ لأنه قربه من خلقه عام، ويكون معنى أنه الباطن: مثل ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس دونك شيء) يعني: أنه قريب من خلقه إذا شاء أن يعمل فيهم ما يشاء فهم بقبضته ولا يحول بينه وبينهم حائل، وهذا المعنى العام. والثاني: ما جاء في القرآن وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه قريب من الداعي وقريب من السائل، فهو قريب من الداعي بالإجابة كما قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) وليس هذا على إطلاقه فإن كل مسألة وكل دعوة تجاب إذا شاء الله فهي داخلة في مشيئته، ولكن هذا من العبادة التي يحث الله جل وعلا عليها، وإذا وجدت الشروط التي يجب أن تكون في الداعي وانتفت الموانع فإن الله جل وعلا يجيبه، والمقصود: وصف الله بذلك. ولكن كونه يقسم هذا التقسيم فقد يتوهم بعض الناس أنه يقسم القرب نفسه إلى قسمين، والصواب أن هذه صفة وهذه صفة: فصفة الباطن غير صفة القريب؛ لأن القرب جاء مقيداً بكونه قريباً من الداعي، أما كونه قريباً من قبض الروح، أو التصرف فيه بما يشاء فهو من معنى البطون، فقوله: (الباطن) هو معنى المعية العامة (هو معكم) . ومعلوم أن معاني كتاب الله لا تتنافر ولا تتفاوت، وكذلك المعاني التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه يجب على العبد أن يتفقه فيها وأن يعرفها على مراد المتكلم؛ لئلا يقع في الزلل ويقع في الضلال ويكون ذلك زيادة قرب له من الله جل وعلا، وهذا من أفضل ما يتعلمه الإنسان ويبحث عنه جهده طالباً الحق مخلصاً لله جل وعلا في ذلك فإنه إذا كان بهذه الصفة فإن الله جل وعلا يوفقه. ثم قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) هذا لا يخرج عما ذكر في الآية؛ لأن هذا في الدعاء والداعي، ولا يكون هذا من النوع العام بل هذا من الخاص؛ لأنه لما كان الصحابة رضوان الله عليهم يرفعون أصواتهم بالذكر أو بالتكبير أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بأنفسهم فقال: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فكان مثل قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي) .

لا يجوز تشبيه الله بخلقه وقياس أفعاله وصفاته على أفعالهم وصفاتهم

لا يجوز تشبيه الله بخلقه وقياس أفعاله وصفاته على أفعالهم وصفاتهم قوله: (وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته) ؛ لأن هذا من خصائص الله وصفاته، ولا يجوز أن يكون ذلك نظير وصف مخلوق، فإن المخلوق إذا كان عالياً لا يكون باطناً، ولا يكون قريباً، وإنما هذا لصغره ولضعفه ولكونه محتاجاً وفقيراً، ولا يجوز أن يفهم الإنسان مما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يفهمه من الأجسام والمخلوقات الصغيرة الفانية الفقيرة، فإن الله ليس كمثله شيء، فهو عال في استوائه ودان في قربه ومعيته، وهذا خاص به جل وعلا. وقد سبق أن معيته وقربه لا تنافي علوه وبينونته عن خلقه وكونه فوق الخلق كلهم، بل هذا حق وهذا حق على ظاهره، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يشكل عليهم ذلك لما خوطبوا به، بل فهموه على ظاهر اللفظ، ولو أشكل لسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألوه عن الأحكام التي أشكلت حتى بينت لهم، وعدم السؤال منهم يدل على أنه ظاهر وجلي عندهم، ولا سيما أن هذا من أمور الإيمان التي يجب على الإنسان فهمها وتحقيقها. ولهذا نقول: إن هذه الأمور داخلة في الإيمان الواجب، فالذي لا يؤمن بذلك يكون إيمانه إما منتفياً، أو ناقصاً النقص الذي يعاقب عليه؛ لأنه نقص في شيء واجب، ومسائل الإيمان بعضها مرتبط ببعض، فمن لم يصف الله جل وعلا بالعلو فقد كفره السلف كما روي ذلك عن طوائف منهم، وكذلك الذي يصفه بأنه داخل العالم كفروه؛ لأنه لم يؤمن بالله الإيمان الذي يجب على العبد. قوله: (فإنه سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في جميع نعوته) وكذلك (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في أوصافه وأفعاله و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في ذاته، وهذا أمر متفق عليه بين أهل السنة وأهل البدع، فلا يخالف أحد في أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في ذاته، فإذا كان كذلك فهذا أصل يجب أن تتبعه بقية خصائصه: من أن أوصافه ليس كمثله فيها شيء، وكذلك أفعاله وكذلك حقوقه التي تلزم عباده فإنه لا يجوز أن يمثل في خلقه بشيء من ذلك.

عظمة الله جل وعلا

عظمة الله جل وعلا ولهذا يخبرنا جل وعلا أنه سريع الحساب، وأنه يحاسب خلقه في وقت واحد من أولهم إلى آخرهم، قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينهم حجاب يحجبه ولا ترجمان يترجم له) ، يكلمه بلا واسطة في الموقف، والكلام يكون للمؤمنين من أولهم إلى آخرهم، وكم عددهم؟! وكل واحد يرى أنه يكلمه وحده! مع أنه يكلم الخلق كلهم في آن واحد! فهذا لا يتصور أن يقع مثله أو قريب منه من مخلوق. وكذلك في الدنيا الآن إذا قام الدعاة المحتاجون، أو العباد المصلون في آن واحد يدعون ربهم، كل واحد يسمعه الله جل وعلا ويعلم حاله ولا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر من أولهم إلى آخرهم، وهذا شيءٌ من قدرة الله جل وعلا، فأفعاله تعالى لا يجوز أن تقاس بأفعال المخلوقين، حتى يقال: إن العلو والقرب، أو العلو والمعية متنافية؛ لأن الإنسان يجب أن يعلم أن هذا من خصائصه كما مثل.

الأسئلة

الأسئلة

العلم من لوازم المعية، وأما معناها فالمصاحبة

العلم من لوازم المعية، وأما معناها فالمصاحبة Q أشكل علي أن العلم من مستلزمات المعية وليست المعية هي العلم. A المعية معناها المصاحبة، ومن لازم المصاحبة العلم، وعلمه جل وعلا لا يكون بهذا الوصف فقط وإنما فسر العلماء المعية بذلك رداً على الذين يقولون: إنه مع الخلق بذاته! تعالى الله وتقدس، فقالوا: معهم بعلمه، حتى يكون ذلك أقرب إلى رد هذا الباطل وأقرب إلى أذهان عامة المسلمين.

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) Q ما معنى قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ؟ A الصواب أن هذه الآية في القبلة، يعني: الاتجاه والجهة التي يصلى إليها، فإذا كان الإنسان في مكان وكان يعرف جهة القبلة، فذاك وإن كان لا يعرف جهة القبلة فأي وجهة صلى إليها فهي صحيحة إذا اجتهد ونظر.

معنى قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)

معنى قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) Q ما هو تفسير قول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وهل صحيح أن المقصود بالقرب هنا: الملائكة؟ A ورد القرب في كتاب الله جل وعلا على نمطين: نمط عبر عنه بالإفراد، ونمط عبر عنه بالجمع، ومعلوم أن العظيم الذي له أعوان يمتثلون أمره ويفعلون ما يقوله ويدبره ولا يخرجون عن فعله؛ إذا فعل شيئاً يقول: نحن فعلنا ونحن عملنا، وهذا موجود عند الناس، فتجد الرئيس يقول: نحن أمرنا بكذا، وإن كان الفاعل غيره من وزراء وغيرهم، فإذا قال جل وعلا: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وأريد بذلك الملائكة الذين يقبضون روحه، فإن الكلام صحيحٌ.

المعية والقرب صفتان

المعية والقرب صفتان Q هل المعية هي القرب؟ A ذكرنا أن بعض العلماء يقسم القرب إلى قسمين: قرب عام، ويقصد به معنى قوله جل وعلا: {وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] فهذا قريب من المعية في المعنى، وليس القرب هو المعية؛ لأن هذه صفة وهذه صفة.

شرح العقيدة الواسطية [16]

شرح العقيدة الواسطية [16] مسألة صفة الكلام لله جل وعلا من المسائل الكبار التي اختلف فيها الناس، ومذهب أهل السنة: أنهم يثبتون صفة الكلام لله عز وجل على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى، كما يثبتون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دلت على ذلك الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة.

مسألة إثبات صفة الكلام لله جل وعلا

مسألة إثبات صفة الكلام لله جل وعلا يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله: حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف. ] . قوله: (ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود) . هذه مسألة الكلام التي هي صفة لله، وهي مسألة كبيرة عظيمة، تفرق فيها الناس فرقاً كثيرة، ولها فروع كثيرة، وقد قيل: إن كتب الكلام أطلق عليها ذلك من أجل أن مسألة الكلام هي أعظم المسائل التي ذكرت فيها فسميت بذلك، وكذلك أهل الكلام سموا أهل الكلام؛ لكثرة ما خاضوا فيه في هذه المسألة. ومعلوم أن الذي لا يكون له دليل من كتاب الله أو من قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يضل؛ لأن العقل لا يستطيع أن يستقل بمعرفة الهدى، إنها أمور غيبية وأمور مخالفة للمحسوسات المشاهدة فكيف يهتدي العقل؟! هذا لا يمكن! وإنما الطريق في ذلك ترسم ما قاله الله جل وعلا أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في هذه المسألة خاصة، وفي جميع المسائل التي جاءت في كتاب الله جل وعلا وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم التي تتعلق بالله جل وعلا وأوصافه وأفعاله، أو تتعلق بأمور الغيب من أمور الآخرة وما يكون بعد الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وما يكون في الجنة وما يكون في النار، هذا شيء لا يدرك بالنظر ولا بالعقل، بل لابد أن يكون متوقفاً على الوحي الذي يوحيه الله جل وعلا لأنبيائه الذين يرشدون الناس إلى طريق الهدى، وقد قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [الإسراء:82] الظالم الذي ترك الاهتداء به تزيده آيات الله وبيناته بعداً وعناداً وتكبراً وإباءً، فيزداد بذلك ضلالاً على ضلاله، وقد قال جل وعلا في صفة هؤلاء {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] ، يعني: أن الدلائل وإن كبرت وعظمت إذا لم يجعل الله للإنسان عوناً مساعداً منه فإنه لا يستطيع الاهتداء بها، فالقرآن الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم ليس هو الوحيد في أنه يجب أن يوصف بأنه كلام الله بل التوارة والإنجيل والزبور، وجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا، يجب الإيمان بأنها كلامه جل وعلا، وأن فيها الهدى لمن اهتدى بها، وأن من سلك طريقاً غير الطريق التي أرشدت إليه فإنه يكون ضالاً.

يتكلم الله بكلام حقيقي بحرف وصوت يليق بجلاله

يتكلم الله بكلام حقيقي بحرف وصوت يليق بجلاله قوله: (وأن الله تكلم به حقيقة) وأنه بلفظ وصوت وحروف، ولهذا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قارئ القرآن: (إن في كل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) وكونه يوصف بأنه حروف فهذا قد ورد في كثير من المواضع، وأما كونه أصوات فقد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقال جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وقال جل وعلا: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] وفي آيات كثيرة يقول جل وعلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ} [الزمر:1] ، ويقول جل وعلا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193-194] ، ويقول: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] . وسبق أن التنزيل جاء على ثلاثة أقسام: قسم: مقيد بأنه من الله، وهذا للقرآن خاصة ولم يأت في غيره. وقسم: مقيد بأنه من السماء، وهذا يكون للمطر ويكون للملائكة ويكون لغير ذلك مما يشاء الله جل وعلا. وقسم: مطلق، كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6] ، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فهذا أيضاً كالقسمين الذين قبله في لغة العرب، فالنزول لا يعقل إلا أن يكون من العلو إلى السفل، ولكن نزول الأزواج كما قال العلماء: يجوز أن يكون من ظهور الفحول أو من بطون الإناث، أو يُقصد الأمران معاً، ونزول الحديد يجوز أن يكون من الجبال المرتفعات، أو من حيث خلقه الله جل وعلا فيها، أما أن يكون من السفل ويسمى نزولاً فهذا لا يعرف، وأما القسمان الأولان: المقيد بأنه من الله فهو يدل على علوه ويدل على أنه صدر منه تعالى وتقدس، وأما كونه من السماء فيكون حسب السياق والتقييد الذي جاء به.

القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

القرآن كلام الله منزل غير مخلوق وقوله: (كلام الله منزل غير مخلوق) منزل يعني: أن الله أنزله بعد أن تكلم به حقيقة فسمعه جبريل وتلقاه عنه، فجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فألقاه عليه، فسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، والصحابة سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صارت الأمة تسمعه بعضها من بعض، فإذا قرأ القارئ القرآن فإن السامع يسمع كلام الله، ولكن الأدوات التي يؤدى بها: كحركة اللسان والشفتين والصوت -صوت القارئ- كل هذه مخلوقة، ولكن المصوت به المقروء الذي حرك به اللسان وحركت به الشفتان هو قول الله، ولا يجوز أن يقال: إنه مخلوق. وكذلك في الكتابة: فالورق والحبر شيء مخلوق، ولكن المكتوب المودع في المصحف هو كلام الله، ولهذا يجب احترامه، ولا يجوز للجنب أو الحائض أن تقرأه؛ لأنه كلام الله، فكلام الله سواءً حفظ أو كتب في المصاحف لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الله، ومعلوم أن الكلام له وضع غير وضع الأجسام؛ لأن الكلام صفة وهو لا يقوم إلا بالموصوف، فإذا تكلم به ثم حفظ عنه أو سجل أو كتب فإنه يبقى كلامه، وهذا شيء معقول حتى في كلام المخلوقين، فلو أن إنساناً مثلاً قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ألخ لقيل: هذا قول امرئ القيس، ولو أن إنساناً ذكر هذا الكلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) لقيل: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سُمع قارئ يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] لقيل: هذا كلام رب العالمين هذا كلام الله، فالقول والكلام يضاف لمن قاله مبتدئاً وليس للمؤدي أو الراوي أو الناقل فليس لهؤلاء إلا الرواية والنقل. وقد اختلف المتكلمون في هذا خلافاً كبيراً جداً، ولكن هذا هو الحق الذي يجب اعتقاده، ومعلوم أن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق وكذلك المعتزلة، ولكن ينبغي أن يعلم أن المعتزلة يصفون الله جل وعلا بأنه متكلم ويقولون: إن الله يتكلم ومقصودهم: أنه يخلق الكلام في مكان، ويكون متكلماً بمعنى: أنه يخلق الكلام، وهذا من أبطل الباطل أن يوصف بشيء ليس من صفاته، ولو كان الأمر هكذا لاقتضى أن يوصف بأنه الآكل الشارب تعالى الله وتقدس؛ لأنه يخلق الأكل والشرب في الآكلين والشاربين، وإنما الصفة تكون لمن صدرت منه ولمن لزمته. والكلام صفة فعل وقد يكون صفة ذات، وصفات الأفعال تتعلق بالمشيئة بحيث أنه إذا شاء فعلها وإذا لم يشأ فعلها لم يفعلها، فهي متعلقة بمشيئته، وهذا من الكمال، فالكلام والنزول والاستواء والخلق والرزق وغير ذلك من أفعاله يسميها المتكلمون حوادث ثم ينفونها عن الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

سبب ضلال المتكلمين

سبب ضلال المتكلمين ومعلوم أن سبب ضلالهم أنهم قاسوا على أنفسهم، فهم أولاً نظروا إلى أنفسهم، ثم استدلوا بأنفسهم على وجود الله، فقالوا: إن الموجودات لا تخرج عن كونها أعراض وجواهر. فالجوهر: هو الشيء الذي يقوم بنفسه أو الشيء الذي يشغل مكاناً أو يرى ويلمس ويحس ويشاهد هذا قسم. القسم الثاني: العرَض، والعرض هو اللون أو الصفة أو الكلام وما أشبه ذلك، والعرض لا يقوم إلا بغيره، فلا يمكن أن تجد كلاماً بدون متكلم، ولا علماً بلا عالم، ولا جهلاً بلا جاهل يقوم به، ولا لوناً من غير من يقوم به اللون وهكذا، فالأمور -عندهم- لا تخلوا عن هذه الأشياء، فهذا في كل المشاهدات وفي كل المخلوقات، ثم لما ذهبوا إلى الله جل وعلا والنظر فيه فقالوا: لا يجوز أن يكون مماثلاً للمخلوقات فلا يجوز أن يكون جوهراً ولا عرضاً فصاروا ينفون الصفات على هذا الأساس على أساس التشبيه أولاً ثم التعطيل ثانياً، ومعلوم أن هذا رأي وأفكار لا تجدي من الحق شيئاً، وإنما يجب إن يرجع إلى الوحي الذي أنزله الله جل وعلا واصفاً به نفسه، وكذلك أنزله على رسله يخبر ويعرف عباد الله بالله جل وعلا. ثم قوله: (منه بدأ وإليه يعود) معناه: أنه ظهر من الله يعني: قاله قولاً حقيقياً سمعه جبريل عليه السلام وجاء به وألقاه على محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه منه، ثم الصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأمة تلقته بعضها عن بعض.

معنى قوله في القرآن: (وإليه يعود)

معنى قوله في القرآن: (وإليه يعود) وأما قوله: (وإليه يعود) فيحتمل أمرين: الأول: أنه يعود إليه في آخر الزمان، كما جاءت الآثار في ذلك بأنه يرفع من الأرض فلا يبقى في الأرض منه حرف واحد، وهذا من علامات قيام الساعة الكبار؛ وذلك إذا ترك العمل به وعطل، واعتاظ الناس عنه بالقوانين الوضعية والآراء الفاسدة، فإنه يسرى عليه في ليلة واحدة فيسحب من المصاحف، فتبقى بيضاء ليس فيها شيء، وليس فيها حرف واحد، ويسحب من صدور الرجال الذين يحفظونه، فيصبح أهل الأرض لا يعرفون حرفاً واحداً من القرآن، وهذا إيذان بهلاك الناس؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) وفي رواية: (حتى لا يقال في الأرض الله الله) يعني: أنهم لا يعبدون الله ولا يذكرونه. المعنى الثاني: أنه إليه يعود صفة، فخرج منه قولاً وإليه يعود صفةً يعني: يوصف به فهو من صفاته، وكلا المعنيين صحيح، وسواءً قلنا هذا أو هذا فكليهما صحيح. قوله: (وأن الله تكلم به حقيقة) يعني: على ظاهر ما يعرف من لغة العرب، ومعلوم الكلام لا يعقل إلا إذا كان كلاماً يتكلم به وينطق ويسمع، وقد تكاثرت النصوص على هذا حتى جاء النداء فيخبر الله جل وعلا أنه نادى الأبوين آدم وزوجه لما عصيا واقترفا المعصية: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وبإجماع أهل اللغة بل أهل اللغات: أن النداء لا بد أن يكون بحروف وصوت يسمع؛ لأن النداء لمن بعد -كما سبق- بخلاف المناجاة فإنها لمن قرب، وجاء في القرآن ذكر النداء وأن الله ينادي، في أحدى عشر موضعاً، في سورة القصص أربعة مواضع منها.

الرد على من قال: إن القرآن كلام الرسول

الرد على من قال: إن القرآن كلام الرسول قوله: (وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره) يقصد بهذا: الرد على الذين قالوا: إنه قول الرسول وتعللوا أو تشبثوا بقول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40-42] وبقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ولم تأت إضافته إلى الرسول في القرآن إلا في هاتين الآيتين، فتعلق بذلك أهل البدع، وقالوا: هذا دليلنا على أنه قول الرسول بمعنى أن الرسول هو الذي تكلم به وعبر به عما في نفس الله تعالى وتقدس، وأما الكلام الذي يوصف الله جل وعلا به فهو المعنى القائم بنفسه، وهذا قول الأشاعرة والكلابية، والكلابية إمامهم عبد الله بن سعيد بن كلاب وهو قبل الأشعري بل هو شيخه وإن لم يتلق عنه، لكنه أخذ عنه المذهب فيما بعد فقال: إن القرآن حكاية عن كلام الله، فجاء الأشعري وقال: بل عبارة عن كلام الله، وذلك أن المحكي يحاكي ما حكي عنه يعني: يماثله، بخلاف العبارة فإنها لا تماثله، وهو خلاف في الألفاظ، وكله باطل وخلاف الحق، واستدلوا بهذه الآية، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم، وذلك أنه قال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فجعله قول رسول، والرسول معلوم أنه مرسل يأتي برسالة فليس قوله ابتداء، وإنما هو قول مرسله الذي جاء برسالته، كما أن في آية الحاقة جعله من قول الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آية التكوير جعله قول الرسول الملكي الذي هو جبريل، ومعلوم أن وصفه بأنه قول واحد منهما ابتداءً ينافي أن يكون قول الآخر، فدل هذا على أنه أضيف إليهما؛ لأنهما مبلغان له عن الله جل وعلا وذلك لا يخالف كونه كلام الله جل وعلا كما قال جل وعلا: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] وأخبر أنه كلامه: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) ، (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) ومعلوم أنه يسمع كلام الله من المبلغ لا من الله. هذا معنى قوله: (وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره) .

لا يجوز أن يقال: القرآن عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله

لا يجوز أن يقال: القرآن عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله ثم قال: (لا يجوز إطلاق القول بأنه حكايةً عن كلام الله) كما هو قول: الكلابية (ولا عبارة) كما هو قول: الأشعرية، ومعلوم أن العالم الإسلامي اليوم وقبل اليوم أكثره أشاعرة أو ماتريدية، وكل مذهب من المذهبين على نسق واحد لا اختلاف بينهما في هذه المسألة، وليس المقصود بالعالم الإسلامي عوام الناس؛ لأن عوام الناس على الفطرة، إلا إن تغيرت فطرهم، ولكن المقصود العلماء الذين يتلقون عقائدهم من كلام المتكلمين وكتب الضالين في هذا، فأصبحوا يفسدون فطرهم بالتعلم من هذه الكتب، وأن الله لا يتكلم، تعالى الله وتقدس.

أقسام الكلام عند الأشاعرة

أقسام الكلام عند الأشاعرة والكلام عند الأشاعرة ينقسم إلى قسمين: كلام لفظي، وهذا الكلام اللفظي هو الذي يكون مشتملاً على الحروف والأصوات فهذا لا يجوز أن يوصف الله جل وعلا به، بل هذا يكون مخلوقاً، وقد صرح بذلك الجويني وغيره من أئمتهم، أما كثير منهم فإنه يداري في ذلك ولا يصرح إلا لمن يثق به وهذا دليل على بطلانه حيث لا يفوهون به، ولا يذكرونه عند عوام المؤمنين خوفاً من إنكارهم عليهم. القسم الثاني: كلام نفسي يعني: يكون مستكناً في النفس، وهذا الذي يصفون الله جل وعلا به، ويقولون: هو معنىً واحد لا يتجزأ يقوم بذات الله جل وعلا، وهذا المعنى الواحد سواءً كان توراة، أو إنجيلاً، أو قرآناً، أو زبوراً، أو غير ذلك، فإذا جاء المعبر الذي يعبر عن هذا المعنى الواحد فإن عبر عنه باللغة العربية سمي قرآناً! وإن عبر عنه بالعبرية سمي توراة! وإن عبر بالسريانية سمي إنجيلاً! وهكذا، فهو معنى واحد، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هو عين قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، وكذلك آية الكرسي، وما أشبه ذلك، وهذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل، وتصور ذلك يكفي عن تكلف رده؛ لظهور بطلانه، فكل أحد يدرك بطلانه إذا سلم من الانحراف ومن التقليد الأعمى. ثم إنه لا فرق بين كتاب الله وكلام الله، فإن بعض أهل البدع يفرق بين هذا، فكلام الله يجعلونه صفة وهو ما قام بالنفس، أما كتاب الله يجعلونه مخلوقاً تعالى الله وتقدس، فإذا قيل: كتاب الله وكلام الله فالمعنى واحد عند أهل الحق وهو الذي دلت عليه النصوص.

دليل الأشاعرة على تقسيمهم للكلام

دليل الأشاعرة على تقسيمهم للكلام ثم إن هؤلاء ليس لهم دليل يستدلون به في هذا التقسيم، وإنما من العجائب التي يعجب لها العاقل كونهم يستدلون ببيت لا يدرى من قائله ينسب إلى الأخطل النصراني: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان عليه دليلاً وهل يكون هذا دليلاً؟! مع أن النصارى قد ضلوا في مسألة الكلام، والمقصود أن هؤلاء المبطلين خالفوا كتاب الله وخالفوا العقل والفطر. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الأشاعرة ليسوا من أهل السنة

الأشاعرة ليسوا من أهل السنة Q هل الأشاعرة من أهل السنة؟ وهل إطلاق التسمية (الأشاعرة) صحيح مع أن أبا الحسن الأشعري قد عاد إلى عقيدة أهل السنة الجماعة؟ A الأشاعرة ليسوا من أهل السنة، ولا يجوز الانتساب إلى الأشعري، فالانتساب إليه بدعة من البدع، ومن انتسب إليه واعتز بذلك فهو قد اعتز ببدع، ولكنهم من أقرب أهل البدع إلى السنة في كثير من المسائل، وليس كل المسائل بل في كثير منها، إلا أنهم في مقابل الشيعة يدخلون في أهل السنة، إذا قيل الشيعة والسنة؛ بل يدخل في ذلك حتى المعتزلة، ولكن هذا بالنظر إلى اصطلاحهم هم. ثم إن أبا الحسن الأشعري ما رجع إلى أهل السنة الرجوع الكامل، بل بقي عنده من مسائل الكلام الشيء الكثير الذي خالف فيه أهل السنة، ولهذا من نظر في كتبه تبين له ذلك، مثل: رسالته إلى أهل الثغر، ويقال: إن هذه من آخر ما كتب، وفيها مخالفات كثيرة لمذهب أهل السنة وغير ذلك.

معنى قولهم: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد

معنى قولهم: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد Q ما معنى قولهم: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد؟ A معنى هذا: أنه صفة ذات وصفة فعل -وكثير من الصفات كذلك- والمراد: أن نوع الكلام أزلي يعني: أن الله لم يزل متكلماً، وآحاده: التي يكلم بها رسله وعباده، وكذلك يكلم خلقه يوم القيامة، ويكلم أهل الجنة، ويكلم الملائكة فكل كلام كلم به نبياً أو ملكاً أو تكلم به فأنزله فهو آحاد من آحاد الكلام، يعني: بعض الكلام، ومعنى ذلك أنه يتجدد، وليس معنى ذلك أنه تكلم -كما قال الكلابية- في الأزل ثم أصبح لا يتكلم! تعالى الله وتقدس؛ ولذلك قال أهل السنة: كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد، وبعضهم تحاشى أن يقول: حادث، لئلا يفهم الحدوث وهو الخلق، مع أن هذا جاء ذكره في القرآن: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] ، فيقول جل وعلا: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة) .

حكم من أنكر الصفات

حكم من أنكر الصفات Q هل منكر الصفات، أو صفة من صفات الله سبحانه وتعالى يكون كافراً مطلقاً؟ A لا يلزم ذلك، فالمنكر قد يكون مجتهداً، وقد يكون تلقى هذا عن مشايخه بنية طيبة وحسن قصد، ويرى أن هذا هو الصواب، كطريقة أكثر الأشاعرة وغيرهم، فمثل هذا لا يجوز تضليله فضلاً عن تكفيره، بل نقول: إنه مجتهد مخطئ والله يثيبه على اجتهاده ويغفر خطأه، وقد وقع في مثل هذا كثير من العلماء: مثل النووي رحمه الله والبيهقي والخطابي رحم الله الجميع، وغيرهم من العلماء الكبار وأئمة المسلمين، فيجب أن يترحم عليهم ويترضى عنهم، ويعلم أنهم قالوا هذا القول مجتهدين؛ لأن البيئة التي نشئوا فيها والعلماء الذين أخذوا عنهم هم الذين وجهوهم هذا التوجه، وذكروا لهم أن هذه هي معاني الكلام، واستبعدوا أن يكون هذا خطأ، فاجتهدوا وأخطئوا، فهم مجتهدون مخطئون.

معنى (جعل) في القرآن الكريم

معنى (جعل) في القرآن الكريم Q يستدل الذين يقولون بخلق القرآن بأن جعل تأتي بمعنى خلق فكيف يرد على هذه الشبهة؟ A جعل إذا جاءت بمعنى خلق فهي تتعدى إلى مفعول واحد، كقوله جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] أما إذا كانت بمعنى قال، أو اعتقد، أو علم فإنها تكون متعدية إلى مفعولين، فورودها في القرآن ليس على نمط واحد، فقد قال الله جل وعلا: {وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91] فهل يجوز أن نقول: وقد خلقتم الله؟! وقد جاء في آيات كثيرة أن الجعل يكون من الإنسان ويكون من الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] فهذا تعدى إلى مفعولين، يعني: أنه أنزله قرآناً عربياً أو قاله قولاً عربياً.

هل الجلوس من صفات الله؟

هل الجلوس من صفات الله؟ Q هل الاستواء بمعنى الجلوس أي: هل يوصف الله سبحانه وتعالى عز وجل وتنزه بالجالس؟ A لا يجوز أن يوصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، هذه القاعدة يجب أن تكون عند الإنسان دائماً فكل وصف أو فعل لم يصح به نص لا يجوز إثباته وهذا ما صح به شيء.

كلام الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج

كلام الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج Q هل سمع الرسول صلى الله عليه وسلم كلام الله عندما عرج به إلى السماء؟ A اختلف العلماء في ذلك، والقول الصواب: أنه سمع كلام الله، فقد فرض عليه خمسين صلاة، وكان يكلمه في ذلك، وصار يتردد من السماء السابعة إلى المكان الذي كلمه الله فيه: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14] بين موسى وبين هذا المكان، يرجع إلى هذا المكان فيكلمه الله ويسأله التخفيف عدة مرات، والشيء الذي فرض عليه هو الصلاة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الواسطية [17]

شرح العقيدة الواسطية [17] من الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، فالكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مؤدياً مبلغاً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه.

الجواب عن شبه المنكرين للكلام

الجواب عن شبه المنكرين للكلام يقول الشارح رحمه الله: [ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه؛ ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف. ] .

مذهب الأشاعرة والماتريدية في الكلام

مذهب الأشاعرة والماتريدية في الكلام من المعلوم أن الإيمان بالله جل وعلا يدخل فيه الإيمان بجميع صفاته، ومن صفاته تعالى أنه يتكلم، وكلامه جل وعلا يتعلق بمشيئته، أعني: أنه إذا شاء تكلم، وإذا لم يشأ لم يتكلم، وهذا هو الكمال. وقد اختلف الناس كثيراً في مسألة الكلام كما سبق الإشارة إلى ذلك في الدرس السابق، وقد بقي في مسألة الكلام بعض الشبه التي ذكرها أهل البدع، ومنعتهم من القول بأن الله جل وعلا يتكلم حقيقة، وقبل أن نذكر بعضها نذكر أصلاً تفرقوا عنه كلهم، وهو الذي انحرفوا بسببه، وتركوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو أنه ارتسم في أذهانهم أولاً: أن الصفات التي يتعرف الله جل وعلا بها إلى خلقه من جنس ما يتعارفون، سواء صفات الأفعال أو صفات الذات، فصاروا ينفون هذا الذي علق في أذهانهم إلى أن صاروا إلى التعطيل، غير أن بعضهم لما كانت النصوص في كثير من الصفات جلية واضحة، لم يستطع أن يردها رداً كلياً، فصار إلى التأويل الذي هو في الحقيقة تحريف وليس تأويلاً. فانقسموا على هذا الأساس إلى أقسام، ولكن من هؤلاء الطوائف من انقرض إلى غير رجعة -بإذن الله- وانتهى، وصار الكلام معهم لا فائدة فيه، بل صاحب البدعة إذا كان له بدعة يجب أن لا تذكر؛ حتى لا تعلق في أذهان الناس، بل ينبغي أن تنسى وتمات. ومنهم من هو موجود يكتب في بدعته، ويزعم أنه على الحق، وهؤلاء كثيرون وليسوا قلة، ومن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، فإنهم منتشرون في جميع بلاد المسلمين، والكتب في مذهبهم كثيرة جداً، وهؤلاء يثبتون لله جل وعلا سبع صفات، وهي: الحياة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والكلام، والإرادة، ويسمونها الصفات المعنوية، ويقولون: إن نصوص السمع والعقل تضافرت عليها. وليس إثبات هذه الصفات دون الأخرى له معنى، ولكن هكذا أداهم اجتهادهم إلى إثبات هذه السبع، والحقيقة أنهم لا يثبتون هذه الصفات. فمن تلك الصفات السبع: الكلام، وهو عندهم واحد قائم بالرب جل وعلا. وعلى الإنسان أن يفكر في هذا التعريف، فإن كل كلمة منه وضعت عن تبصر وإرادة، ولهذا قسموا الكلام إلى قسمين: كلام يكون في النفس وهو: المعنى القائم بالنفس أو بالذات، وكلام ينطق به ويكون بالحرف والصوت، وهذا الثاني ممتنع أن يكون الله جل وعلا متصفاً به، فلا يجوز عندهم أن يكون كلام الرب جل وعلا متصفاً بأنه يسمع، ولا أن يكون بحروف. وإنما يمكن أن يمثل كلام الله جل وعلا بما إذا كان هناك إنسان لا يقدر على الكلام، وعنده من يفهم ما في نفسه، بواسطة أحوال تجري أو لكثرة ما ينظر إليه، فيعبر عما في نفسه، فيقول: إنه يقول كذا وكذا، وهنا نسأل عن أيهما أكمل: الذي تكلم عما في نفسه، أم الذي نقل كلامه الذي في نفسه؟ من المعلوم أن الله جل وعلا عاب على الكفار أنهم يعبدون ما لا يكلمهم، ولا يرد عليهم جواباً إذا كلموه.

شبهة مؤولة الكلام في آية الحاقة

شبهة مؤولة الكلام في آية الحاقة وهنا نقول: ما الذي جر هؤلاء إلى هذا النقص الذي وصفوا به رب العالمين تعالى الله وتقدس؟ وA أن السبب في ذلك أنهم تعلقوا بآيات من كتاب الله، وقد بينا أن تعلقهم بها لا وجه له، وهي قوله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] ، في سورتين من القرآن: سورة الحاقة وسورة التكوير، يقول جل وعلا في سورة الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:40-47] ، فهذا كله في الرسول صلى الله عليه وسلم، وواضح جداً أن المقصود بهذا: الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم، وواضح أيضاً أن قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] معناه: أنه مبلغ له، فهو قوله تبليغاً، حيث بلغه عن مرسله، وإلا لو كان قاله عن نفسه لما صح أن يقال: إنه قول رسول، ولقيل: إنه قول بشر. ومعلوم أن الله توعد الذي قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، بأن يصليه سقر، فما الفرق بين من قال هذا الذي ذكره الله جل وعلا في سورة المدثر، وبين قول هؤلاء القوم الذين يقولون: إنه قول الرسول؟! لا فرق. وأيضاً: فإنه قال: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80] ، فكيف يقال: إنه قول رسول، والله جل وعلا يقول: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80] ؟! ثم يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] ، والتقول هو أن ينسب القول إلى غير قائله، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] ، ومعنى هذا الكلام: لأخذنا منه أخذاً قوياً شديداً؛ لأن اللغة العربية فيها أن الأخذ باليمين أقوى من الأخذ بالشمال، وهذا حسب المتعارف بين البشر، وإلا فالله جل وعلا أخذه أخذ لا يشبه أخذ المخلوق، ولكنه يخاطب الناس باللغة التي يفهمونها ويعرفونها؛ فدل هذا على أن الأخذ يكون بقوة وشدة، قال: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:46] ، وهذا معناه الهلاك.

شبهة مؤولة الكلام في آية التكوير

شبهة مؤولة الكلام في آية التكوير أما في السورة الأخرى فإنه قال جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] أي: مطاع هناك عند ذي العرش مؤتمن، وهذه صفة جبريل، وهو الرسول الملك الذي سمعه من الله، وجاء به، وألقاه على محمد صلى الله عليه وسلم. وواضح جداً أن المقصود بالإضافة إليه إضافة التبليغ، وليست إضافة الإنشاء والابتداء، ولو كان كذلك لما صح أن يقال: إنه رسول كما سبق، فبهذا يتبين أن التعلق بهاتين الآيتين لهؤلاء أضعف من المتعلق بخيوط العنكبوت، بل فيهما رد على باطلهم هذا.

شبهة مؤولة الكلام أنه لا يكون إلا بلسان وشفتين

شبهة مؤولة الكلام أنه لا يكون إلا بلسان وشفتين أما الشبه التي يصح أن نقول: إنهم غبروا بها في وجه الحق، أي: مجرد غبار فقط، وإلا فإنها لا تؤثر على أهل الحق في شيء ولا تنطلي عليهم، ولكن بعض الناس قد يخفى عليه خلط الباطل ولبسه بشيء من الحق، فيحتاج إلى كشف ذلك وإيضاحه، فتلك الشبه مبناها على الأصل الذي ذكرنا، وهو أن التشبيه ارتسم في أذهانهم أولاً، فصاروا على أساس هذا التشبيه ينفون الصفات التي يتصف الله جل وعلا بها. فقالوا مثلاً: نحن نعرف أنه لا يحصل الكلام إلا بلسان وشفتين ولهاة وحنجرة وأحبال صوتية والله منزه عن ذلك. ونحن نقول: هذا في حق البشر، فكيف يكون علة لمنع كلام رب العالمين؟! وهذا دليل على أنهم شبهوا أولاً، فأرادوا أن ينفوا صفة الرب جل وعلا على أساس هذا التشبيه، وهم لم ينطقوا أنهم شبهوا بل يقولون: نحن أبعد الناس عن التشبيه، ولكن الواقع أن الذي حملهم على التعطيل والتأويل الباطل هو التشبيه المستكن في نفوسهم، وإلا فكيف ينفى كلام الله جل وعلا على أساس أن الكلام المتعارف عليه هو ما كان في اللسان والشفتين إلى آخره، وقالوا: إذا أثبتنا الكلام فإنه يلزم منه أن نثبت هذه الأشياء لله تعالى. وهذا من أبطل الباطل، لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء في ذاته، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، فهذه الآيات كلها تبطل هذا الزعم، هذا من حيث الجملة.

وجود مخلوقات تتكلم بدون أدوات يبطل كلام المؤولين

وجود مخلوقات تتكلم بدون أدوات يبطل كلام المؤولين أما من ناحية التفصيل فنقول لهؤلاء: لقد علم أن من المخلوق الضعيف ما ينطق ويتكلم بلا لسان ولا شفتين ولا لهاة ولا أدوات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي، يقول: السلام عليك يا رسول الله!) فهل للحجر لسان أو لهاة؟! وصح أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على جذع نخلة يابس في هذا المسجد -مسجده صلوات الله وسلامه عليه- ثم صنع له منبر من الخشب فترك الجذع، فأول ما قام على المنبر يخطب صار الجذع يحن مثل حنين الناقة التي فقدت ولدها، حتى نزل من على المنبر والتزمه، يهدئه مثلما يُهدأ الصبي الذي يبكي عند ذهاب أمه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة) . وصح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام في يده صلى الله عليه وسلم بلسان فصيح، وهو طعام يؤكل، فهل كان له لسان؟! ويقول جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] وهذا يشمل كل شيء، والصواب في هذا من أقوال المفسرين: أنه تسبيح بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يقوله بعضهم، فكل شيء يسبح لله جل وعلا تسبيحاً حقيقياً، لكن نحن لا نفقه لغة كثير من المخلوقات التي تسبح، ولا نسمعها أحياناً؛ كالطيور وغيرها. وقد أخبرنا جل وعلا في آيات عدة أنه ينطق الجوارح، وأنها تتكلم يوم القيامة، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة حشر الناس على ما ماتوا عليه: من جهل، ومن علم ومن كفر، ومن إيمان، ومن يقين، ومن شك، فكل من مات بعث على الحالة التي مات عليها، حتى الصفة الجسدية، فإذا كان يحلق لحيته بعث حليقاً، وإذا كان يعفيها بعث كذلك، وفي الحديث: (من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) . فإذا كان يوم القيامة فإن بعض أهل الضلال والجهل ينكرون ما في الصحف التي تقص أعمالهم، فبعضهم يقول: ظلمتني الملائكة فكتبوا علي ما لم أقل، وما لم أفعل، ولا أرضى إلا شاهداً من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لجوارحه: تكلمي، فكل جارحة تتكلم بكلام فصيح، فاليد تقول: تناولت كذا وكذا، والرجل تقول: مشيت إلى كذا، وهكذا يقول جل وعلا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20] ، فالسمع والبصر والجلد والرجل واليد وغيرها؛ كلها تشهد بالشيء الذي كان يعمله الإنسان، ثم يعودون باللوم على جلودهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:21-23] .

تحدي الله للعرب لا يكون على ما في نفسه ولم يتكلم به

تحدي الله للعرب لا يكون على ما في نفسه ولم يتكلم به ثم يقال لهؤلاء الضلال الذين أثبتوا أن كلام الله هو الكلام النفسي: من المعلوم أن الله تحدى العرب وغير العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بسورة، وقد وقفوا عاجزين عن أن يأتوا بشيء، فهل يمكن أن يتحداهم الله بشيء في نفسه؟! هذا محال. أما على قولهم فهذا لا حقيقة له؛ لأن هذا الكلام الذي يقرأ ويسمع قول البشر -أي: الرسول- الذي عبر عما في نفس الله تعالى الله وتقدس، فيكون معنى هذا أن هذا التحدي لا حقيقة له ولا معنى؛ لأن البشر جاءوا بمثله، فيكون هذا تكذيباً لله جل وعلا، وهذا من الكفر الصريح الواضح. والأشياء التي تبطل هذا القول كثيرة جداً، ولكن يكفي هذا المقدار؛ لأن الذي يريد الحق وقد عرض عليه الحق الذي لا شبهة فيه، كفاه ذلك، أما الذي يريد الله جل وعلا فتنته فكثرة الأدلة لا تفيده شيئاً. ومن هذا نعلم علماً يقينياً أن القرآن هو كلام الله حقيقة، كما قال شيخ الإسلام هنا: (حروفه ومعانيه) ، وليس كلام الله المعاني التي يقولها بعض أهل البدع، ولا الحروف التي قالها بعض أهل البدع، ومعلوم أنه إذا قيل كلام، فإنه يدخل فيه الحروف والمعاني، ولا يكون الكلام اسماً للحروف دون المعاني، ولا للمعاني دون الحروف. وكذلك من المعلوم عند جميع العقلاء أن الكلام يضاف لمن قاله مبتدئاً، وليس للذي ينقله ويبلغه، فالناقل للكلام ليس هو المتكلم، وإنما هو ناقل لكلام غيره إلى من أمر بالإيصال إليه، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ؛ لأنه يسمع كلام الله من المبلغ الذي يبلغ، سواء كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من أفراد أمته. وقد قيل: إنه يلزم من قولنا لوازم باطلة مثل ما سبق، وهناك شبه كثيرة في هذا فلا حاجة إلى ذكرها؛ لأنها مجرد شبه وضلال، والمسلم يجب عليه أن يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على ظاهره؛ لأنه كان مأموراً بالبلاغ، فما كان فيه شبهة أو شك أو لبس فلا يمكن أن يتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا بيان؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ، ولهذا كانت هذه الآية دليلاً واضحاً على أن كل شيء لم يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو باطل، لا يجوز إثباته، سواء كان من العبادات أو من العقائد.

شرح العقيدة الواسطية [18]

شرح العقيدة الواسطية [18] لقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه بصفات كريمة عليا تليق بجلاله، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بهذه الصفات يعتبر من تمام الإيمان بالله تعالى، وكتبه ورسله، إذ بين ذلك تلازم لا يخفى، ومن صفات الله التي يجب الإيمان بها: صفة الكلام، وأنه تعالى يرى يوم القيامة وفي الجنة.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يقول المصنف رحمه الله: [وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله، الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء. ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه. فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها المسلمون] . قوله: (وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم) . أي: لأن هذا أمر جاء في الوحي الذي جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به لازم لمن آمن بالله وباليوم الآخر، وقد تواترت الأحاديث في ذلك، والآيات ناطقة بهذا، يقول الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، ويقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] . ويقول جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، في هذه الآية دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن ربهم وأنهم يرونه، وهو مفهوم جلي واضح. وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: بهية جميلة حسنة من النضرة والتنعم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: تنظر إلى ربها بأعينها. فأضاف النظر إلى الوجه الذي فيه البصر بعدما ذكر أنها منعمة، فدل دلالة صريحة واضحة على أن المقصود النظر بالبصر، وليس يقصد غير هذا، فكل قول يكون على خلاف ذلك فهو تحريف للآية. وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا) ، وهذا تفسير نبوي لا يجوز العدول عنه، فهو واضح وجلي، ولا عذر لمن خالفه، ولهذا السبب قال الإمامان أحمد وابن خزيمة وغيرهما من العلماء: إن من أنكر رؤية المؤمنين لربهم فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتد؛ لأنه مكذب لصريح القرآن. وقوله: (عياناً بأبصارهم) هذا التصريح لرد ما قال أهل البدع: إن النظر هو زيادة علم. أو: إنه نظر إلى النعم أو إلى شيء آخر مما يجعله الله لهم، سواء أكان نعيماً أم غير نعيم. وهذا من التحريف الظاهر البطلان، ومعلوم أن الذي أنكر الرؤية هم الخوارج والمعتزلة والرافضة وأشباههم من أهل البدع. أما الأشاعرة فهم أثبتوا رؤية غير الرؤية التي أثبتها المؤمنون، والواقع أن إثباتهم يرجع إلى النفي وإلى الإنكار، وذلك لأنهم أنكروا علو الله وفوقيته، فقالوا: يرى لا في جهة, فضحك عليهم العقلاء في ذلك؛ لأن هذه رؤية غير معقولة وغير واقعة، فإذا كانت الرؤية بالبصر فلا بد أن يكون المرئي مقابلاً، ومعلوم بصريح العقل فإنه إذا كان المرئي رب العالمين، أنه يرى من فوق؛ لأنه لا يكون عن يمين ولا عن شمال ولا من تحت ولا من خلف ولا من أمام، بل من فوق، وقد جاءت النصوص صريحة بهذا، فكل من خالف ذلك فهو مبطل وهو من أهل البدع، لهذا قال المصنف: (عياناً بأبصارهم) لئلا يقال: إنها رؤية قلبية.

نفي رؤية الله تعالى في الدنيا

نفي رؤية الله تعالى في الدنيا وقد اتفق العلماء على أن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وإنما اختلفوا في مسألة واحدة، وهي: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة أسري به؟ والصواب أنه لم يره، والأحاديث صريحة في هذا، أما ما جاء من الأحاديث بأنه رآه فهي ضعيفة واهية أو موضوعة، وقد جاء صريحاً قوله: (رأيت نوراً) ، وقوله: (نور أنى أراه) ، وذلك حين سئل عن ذلك، فعلى هذا يكون الأمر واضحاً. أما كليم الرحمن موسى عليه السلام فقد سأل ربه الرؤية في الدنيا، فقال له جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فنفى ذلك، ثم جعل له مثالاً لهذا، فقال: {ولَكِن انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] ، وإذا اندك الجبل فكيف يثبت الآدمي الضعيف لرؤية الله. فالرؤية في هذه الدنيا ممكنة في العقل لكنها غير واقعة؛ لأن موسى عليه السلام لا يسأل شيئاً مستحيلاً، لكنه منع لضعف البشر، أما إذا كان يوم القيامة فإنها تتم خلقته وتتم قواه، فيستطيع رؤية الله جل وعلا، ورؤية الله جل وعلا أعلى النعيم، فهي أفضل ما يعطى المؤمن، ولهذا سماها الله زيادة، أي: على ما في الجنة. والأحاديث في هذا صريحة واضحة. فأتى بقوله: (بأبصارهم) لئلا يقال: إنها رؤية قلبية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، وهذا عام، وفي لفظ: (وتعلموا) ، وهو بمعنى: اعلموا. فالذي يدعي أنه يرى ربه في الدنيا ضال مبطل، ويوجد من الصوفية أهل الطرق وأهل المجاهدات الباطلة من يزعم أنه يرى ربه، والواقع أنهم يرون شياطين تتمثل لهم، فيقول الشيطان لأحدهم: أنا ربك. وتكون بين السماء والأرض على كراسي، وأحياناً يرون خيالاً يخيله لهم الشيطان، فالشيطان هو ربهم الذي يرونه؛ لأن هذا تكذيب لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم منه أن يكون هؤلاء أفضل من موسى عليه السلام، وهذا من أبطل الباطل. وقوله: (كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته) هذا نص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها جاءت بهذه الألفاظ، وهي ألفاظ واضحة جلية لو تكلف الإنسان البلاغة والفصاحة ليأتي بلفظ أوضح من هذا في إثبات الرؤية ما استطاع، فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح شيء، فإنه قال لهم ذلك لما سألوه مرة، ومرة بدأهم هو صلى الله عليه وسلم بغير سؤال فقال: (إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس ضحى ليس دونها سحاب ولا قتر) ، وقال: (إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) و (تضامون) جاء بالتخفيف والتشديد، فالأول من الضيم، والثاني من المضامة، والمعنى أن الرؤية واضحة لا يحتاج فيها إلى أن يقرب بعضكم من بعض حتى يساعده على رؤيته كما يكون ذلك في الأشياء الخفية، مثلما يصنع الناس عند رؤية الهلال أول الشهر، فمن كان قوي البصر يراه، ومن كان بصره أقل يأتي إليه حتى يساعده ويعين له المكان الذي هو فيه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون) الكاف كاف التشبيه، والتشبيه وقع للرؤية الواضحة الجلية وليس للمرئي تعالى الله وتقدس، والمعنى أن رؤيتكم لربكم تكون كرؤية الشيء الواضح الجلي، فهي مثل الشمس ومثل القمر في أتم ما يكون.

رؤية المنافقين لله تعالى في العرصات

رؤية المنافقين لله تعالى في العرصات قال رحمه الله تعالى: (يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى) . عرصة الدار: هي المتسع الذي يكون في الدار. وعرصة البلد: الفناء الذي يكون فيه. والمقصود بعرصات القيامة بعض المواقف، والقيامة لها مواقف يكون فيها مخاطبة ومحاسبة ووزن، فالله جل وعلا يراه المؤمنون في هذه العرصات. أما الكافرون فهم محجوبون عنه لا يرونه، ولكن ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن الله جل وعلا إذا جاء للفصل بين عباده وهم وقوف يخاطبهم خطاباً عاماً، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيجيبون بـ (بلى) عند ذلك يؤتى بالمعبودات التي يعبدها الناس، فيقال: انظروا إلى معبوداتكم فتولوها واتبعوها) ، فمن كان يعبد أصناماً جاءت الأصنام، وكذلك من كان يعبد شجراً أو حجراً أو أي شيء من المعبودات، حتى الذين يعبدون الأنبياء يؤتى بشياطين على الصورة التي كانوا يتخيلون، فيقال: هذه معبوداتكم فاتبعوها. فيذهب كل من كان يعبد غير الله، فيبقى المؤمنون من هذه الأمة وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا ويظهر لهم فيرونه، فيقول: ماذا تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، وقد تركنا الناس أحوج ما كنا إليهم -أي: في الدنيا- فيقول لهم جل وعلا: أنا ربكم -وقد تنكر لهم- فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فيقول: هل بينكم وبينه آية -أو قال: علامة-؟ فيقولون: نعم. الساق. فيكشف عن ساقه جل وعلا فيخر له كل مؤمن ساجداً ويبقى المنافق ظهره طبقة واحدة إذا أراد أن يسجد سقط على قفاه، فهذا معنى قول الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] . وأما في الجنة فرؤية المؤمنين لربهم تختلف على اختلاف منازلهم، فمنهم من يرى ربه في اليوم مرتين، وليس في الجنة ليل أو نهار، ولكنهم يعرفون الأيام بعلامات يجعلها الله جل وعلا لهم، ولهذا جاء في حديث جرير: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه حجاب، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يقول العلماء: الإشارة هنا إلى صلاة العصر وصلاة الفجر، وأن المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة يكون جزاؤها الرؤية، وأنها تكون في أول النهار وفي آخر النهار، فبعضهم يراه جل وعلا في اليوم مرتين، وبعضهم لا يراه إلا يوم الجمعة فقط كما جاء في حديث أبي هريرة، وبعضهم يكون أقل من هذا أو أكثر على حسب درجاتهم. وقوله: (كما يشاء) يعني أن الكيفية غير معلومة، وإنما يجب أن يعلم أنهم يرون وجهه.

الرد على شبهات منكري الرؤية

الرد على شبهات منكري الرؤية

خطأ استدلال منكري الرؤية بآية (لن تراني) وآية نفي الإدراك

خطأ استدلال منكري الرؤية بآية (لن تراني) وآية نفي الإدراك وما ذكره أهل البدع من قول الله جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وأن هذا دليل على أن الله لا يرى، وكذلك قوله: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، وزعموا أن النفي في هذا مؤبد فيشمل يوم القيامة فذلك كذب على اللغة، وقد نص ابن مالك في الألفية على ذلك، فقال: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا بل الآيتان تدلان على عكس ما استدلوا به، فالإدراك في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] هو الإحاطة، ونفيه لا ينفي الرؤية، يوضحه ما جاء في قصة موسى مع فرعون، حيث سرى موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر، فاتجه إلى جهة البحر الأحمر حسب أمر ربه جل وعلا، فلما أصبح فرعون جمع جنوده فتبعهم، فلما تراءى الجمعان وصار آخر جمع بني إسرائيل يرى جمع فرعون والعكس قال أصحاب موسى لموسى عليه السلام: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، فنفى الإدراك مع ثبوت الرؤية والمعاينة، وهذا يدل على أن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ليس معناه نفي الرؤية؛ لأن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء. وأما قوله: (لن تراني) فهو دليل على الرؤية؛ لأن هذا كان في الدنيا، وقد علقت الرؤية على ثبوت الجبل، وثبوت الجبل ممكن، وإذ قد علقت على شيء ممكن فهي ممكنة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر غير ذلك. إذاً فمن عقائد أهل السنة التي يجب على المرء أن يعتقدها الإيمان برؤية الله جل وعلا في عرصات القيامة، وسبق أن العرصات هي الأماكن والمواقف التي يقفون فيها، والعرصة في اللغة: المكان الذي لا بناء فيه. فهي المكان الواسع حول البيت أو حول البلد الذي لا بناء فيه. وعرصات يوم القيامة مواقفه، ومعنى ذلك أن الرؤية تحصل للمؤمنين في عدة مواقف يوم القيامة، وكذلك يرونه في الجنة. والرؤية التي تقع للمؤمنين يرونه في كلها من فوقهم كما صرحت الأحاديث بذلك، وهي أحاديث بلغت حد التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الإيمان بها، وهي تدل على الأمور الآتية: أولاً: على كلام الله جل وعلا لأنه يخاطبهم. ثانياً: على أنه يرى تعالى وتقدس. ثالثاً: على أنه عال على جميع خلقه. وهذه الأمور الثلاثة يكذب بها الخوارج والمعتزلة والرافضة ونحوهم، ويكفرون من يعتقدها. والواقع أن الذي ينكرها كافر بالله جل وعلا؛ لأنه مكذب لكتاب الله جل وعلا ولأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وخليق بمن ينكرها أن يحرم ذلك يوم القيامة.

بيان أن ما استدل به منكرو الرؤية يدل على خلاف قولهم

بيان أن ما استدل به منكرو الرؤية يدل على خلاف قولهم واستدلال المبطلين من الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، فزعموا أن الإدراك هو الرؤية، فهو استدلال باطل كما تقدم؛ لأن الإدراك غير الرؤية؛ إذ تجتمع الرؤية ونفي الإدراك، ولهذا أخبر الله جل وعلا في قصة موسى مع قومه أنهم لما رأوا فرعونه وجنده قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] ، فنفى موسى ذلك مع وجود الرؤية: {قَال كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وذلك لأن الله جل وعلا قال له: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه:77] فنفى عنه الدرك، والدرك هو أن يهلك بالعدو أو بغيره. فالمقصود أن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، والله سبحانه لا يدرك، فتجتمع الرؤية ونفي الإدراك في حقه، وذلك لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله يأخذ سماواته وأرضه بيده اليمنى فتكون كالخردلة في يد أحدكم وله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وخلقه حقيرون بالنسبة إليه، فلا يحيطون به ولا يدركونه، ولكن أولياءه من المؤمنين يرونه رؤية مواجهة جل وعلا. وأما استدلالهم بقوله جل وعلا في قصة موسى أيضاً: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فزعموا أن (لن) للنفي المؤبد فهذا، تحريف وكذب على اللغة العربية؛ فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، ومع ذلك فالآية تدل على عكس ما استدلوا به من وجوه: الوجه الأول: أنه لا يمكن لكليم الله موسى عليه السلام أن يسأل شيئاً مستحيلاً في العقل، فقد نزه الله أنبياءه عن أن يقعوا في مثل هذا الجهل. الوجه الثاني: أن الرؤية علقت على شيء ممكن وهو استقرار الجبل فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، وإمكانية استقرار الجبل معقولة، ولكنه لم يقم لنور الله جل وعلا فتدكدك، فدل على أن الرؤية ممكنة. الوجه الثالث: أن الله جل وعلا لم يقل له: إني لا أرى. ولكن قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، وعلق ذلك بشيء ممكن حصوله فدل على أن المانع هو أن التركيب الخلقي في الدنيا ضعيف، وأنه لا يستطيع الرؤية على هذا التركيب الذي ركب به على أنه يموت، فإذا كان يوم القيامة يركب الإنسان تركيباً تاماً فيستطيع رؤية الله جل وعلا، وهناك أوجه أخرى ترد كلام هؤلاء المبطلين. وقوله: (ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى) ، يعني أن كيفية الرؤية غير معروفة، وإنما نؤمن بالرؤية كما أخبرنا بذلك ولا نبحث عن الكيفية، وهكذا كل صفات الله جل وعلا لا يبحث عن كيفيتها، أي: عن الحالة التي يكون عليها الرب جل وعلا في اتصافه، فهذه تستدعي المشاهدة والمشاهدة ممتنعة في الدنيا، وكذلك تستدعي أن يكون له مثيلٌ فيقاس عليه، وهو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه ولا في أفعاله، فتعين أن يكون كما يشاء الله جل وعلا، وأن تنقل الكيفية إلى علم الله تعالى.

الإيمان بما بعد الموت

الإيمان بما بعد الموت ثم قال: (ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر) . الفتنة هي السؤال، وفتنة القبر سؤاله. والمسائل التي جاء أن الميت يُسأل بها هي ثلاث مسائل، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ أو: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ واللذان يسألانه هما منكر ونكير، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أن اسميهما كذلك؛ لما جاء في الأحاديث من ذلك، وجاء أنهم يأتيان بمنظر منكر مهول، وبأصوات مزعجة كالرعد القاصف أو كالصواعق، ومعهما مطرقة من حديد إذا ضُرب بها التهبت ناراً، فإذا رأى الإنسان هذا المنظر وسمع هذا الصوت فزع، فإن لم يثبته الله جل وعلا عجز عن أن يجيب، ولكن: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] في هذه الفتنة. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلمنا السورة من القرآن أن نقول بعد الفراغ من الصلاة وقبل السلام: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . وجاء أنه قال: (أوحي ألي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال) وقد اختلف العلماء في سؤال القبر هل هو خاص بهذه الأمة أو أنه عام. والصواب أنه عام للأمم كلها، فكل ميت يسأل. والميت الذي يسأل هو الميت المكلف دون الأطفال الذين لم يكلفوا. فالميت إن كان موقناً مؤمناً فإنه لا يتلعثم في الجواب، إلا من كان عنده بدع أو أمور يصر عليها من المعاصي التي لا تعلم، فهذا على خطر عظيم. أما إن كان من أهل الشك والريب في اليوم الآخر فذلك هو المرتاب، وهو الذي يقول في A هاه هاه. لا أدري فيكون جوابه مطابقاً لحاله في الدنيا. فهذه هي فتنة المسألة، وهي أول ما يقع للإنسان في قبره بعد دفنه، كما في الصحيحين أنه: (إذا دفن وولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيجلسانه، فيسألانه يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإن كان مؤمناً قال: ربي الله) الحديث، والمقصود بقولهما: (من ربك) ، أي: الذي رباك وأوجب عليك عبادته. أي: من الذي كنت تعبده؟ لأن الرب يأتي بمعنى المعبود.

الأسئلة

الأسئلة

إطلاق الإيمان على غير الإنسان مما يسبح بحمد ربه

إطلاق الإيمان على غير الإنسان مما يسبح بحمد ربه Q يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، هل يجوز أن نطلق على هذه المخلوقات أنها مؤمنة بالله مع أنها غير مكلفة؟ A المخلوقات كلها مطيعة لله، ولكن لم يوضع فيها العقل والتكليف، بل جعل الله جل وعلا التكليف والعقل للجن والإنس، ولهذا خلقت لهم الجنة والنار، أما هذه المخلوقات فهي مطيعة لله جل وعلا خاضعة وتسبح بحمده حقيقة، ولهذا لما ذكر الله جل وعلا السجود أخبر أنه يسجد له من في السماوات والأرض، ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] ، فالاستثناء من الناس فقط، أما باقي المخلوقات فهي كلها منيبة طائعة قانتة. وهذا يدل على أن الله خلق فيها الإحساس، ولهذا أخبر أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والذي جعله يحملها وصفه بأنه ظلوم جهول: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] .

رؤية الكفار لربهم يوم القيامة

رؤية الكفار لربهم يوم القيامة Q هل الكفار يرون الله يوم القيامة بدليل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] ؟ A الكفار لا يرون الله جل وعلا، يقول الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15-16] ، فالكفار محجوبون عن ربهم جل وعلا. أما الإتيان المذكور في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة:210] فهذا فيه التخويف بأنه سيأتي لحسابهم والأمر بهم إلى جهنم، أي أن الأمر ينتهي إلى هذا الإتيان، وأن ذلك ليس بعيداً بل هو قريب، فما بين الإنسان وبين ذلك إلا أن يموت، ثم يدخل بمنازل الآخرة.

الحديث القدسي من الله لفظا ومعنى

الحديث القدسي من الله لفظاً ومعنى Q عرف الحديث القدسي بأن معناه من الله واللفظ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرتم أن كلام الله يشمل الحروف والمعاني، فهل الحديث القدسي مخلوق؟ A الصواب في الحديث القدسي أن حروفه ومعناه من الله، ولكنه لم يُتعبد بتلاوته ولم يتحد به، فهو يفارق القرآن بأمور كثيرة همذان منها.

السؤال التفصيلي عن المعتقد في القبر

السؤال التفصيلي عن المعتقد في القبر Q هل يسأل الميت في قبره أسئلة تفصيلية عن عقيدته؟ A كل الأسئلة مجملة في هذه الثلاثة الأسئلة للكافر وغيره، ولكن الجواب هنا لا يكون إلا عن علم، ولا يفيد الإنسان أن يحفظ جواب المسألة ويرددها كما لو كان يختبر في الدنيا؛ لأنه لن يجيب إلا بما هو مستقر في قلبه مقتنع به.

معنى قوله تعالى: (لأخذنا منه باليمين)

معنى قوله تعالى: (لأخذنا منه باليمين) Q ذكرتم في معنى قول الله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] أي: بقوة وشدة، أليس في ذلك تأويل؟ A ليس في هذا تأويل؛ لأن الذي يعين المقصود هو السياق والقرائن، ومثل ذلك قوله جل وعلا {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] ، فنقول: أتاهم عذابه أو جنده. وقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26] أي: أتى عذابه. فالذي يحدد المعنى هو القرائن والسياق، ولا يجوز أن يؤخذ الكلام كله على وتيرة واحدة، فكلما جاء لفظه في أي سياق نقول: المقصود به الشيء الحقيقي. فهذا لا يجوز.

رؤية الله في المنام

رؤية الله في المنام Q هل من الممكن أن يرى الله عز وجل في الرؤيا، أي في المنام؟ A هي رؤيا خيالية ليست حقيقة، فهي أمثال يضربها الملك بالنسبة للمخلوقين وبالنسبة للخالق جل وعلا، فإذا رأيت مخلوقاً وأنت في النوم فليس هو ذلك المخلوق وإنما هو مثال ضرب لك، ولكن لما كنت تعرف ذلك المخلوق ترددت في ذهنك رؤيته، فرأيته كأنه هو لمعرفتك إياه، وأما إذا وقعت الرؤيا في المنام لله جل وعلا فهذا يتبع إيمان الإنسان، فإذا كان إيمانه حسناً رأى صورة حسنة، ولهذا جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) أي: في المنام. وذلك لأن إيمانه كان أحسن الإيمان فرأى أحسن الصور، أما غيره فلا يصل إيمانه إلى مثل إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يرى شيئاً يناسبه، وهذا المرئي ليس هو الله حقيقة، وإنما هو شيء خيل له ومثال ضرب له؛ لأن الرؤيا لها ملك موكل بها يضرب الأمثلة للأشياء إذا كانت الرؤيا حقاً، أما إذا كانت باطلاً فهي من الشيطان. والرؤيا على أقسام ثلاثة: القسم الأول: قسم يكون من حديث النفس وما يزاوله الإنسان في حياته ومعيشته، وما يكثر التردد عليه ويتعلق قلبه به، فإذا نام رأى أنه يزاول هذه الأشياء، وهذا دليل على أن قلبه متعلق بهذه الأشياء، ويجب عليه أن يتوب ويجعل قلبه متعلقاً بالله جل وعلا، ولا يكون همه اللعب أو الدنيا أو غير ذلك، وهذا الذي كان يخافه السلف، يخافون إذا حضر الموت أن يموت الإنسان بهذه المثابة، فيموت وهو يهذي بالأمور التي يزاولها في الدنيا. القسم الثاني: تلاعب الشيطان وتخويفه. فإنه يتلاعب بكثير من الناس ويخوفهم ويأتي لهم بأمور تزعجهم، وقد يمنيهم بأشياء، فمثل هذا لا يجوز للإنسان أن يخبر به، وإذا رأى رؤيا من هذا النوع فعليه أن يصنع ما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم، أن ينفث عن يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان، ثم يغير وضعه الذي كان عليه في النوم، فإذا كان على جنبه الأيمن انقلب على جنبه الأيسر، ثم لا يحدث بذلك أحداً فإنها لا تضره. والقسم الثالث: هي الرؤيا الصادقة التي يضربها الملك للمؤمن بأمثال تتحقق، وهي مبشرات.

رؤية النبي لربه بقلبه في الدنيا

رؤية النبي لربه بقلبه في الدنيا Q ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بأم عينه كما أشرتم، فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه؟ A نعم. رآه رؤية القلب؛ فإن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كإيمان آحاد أمته، فإيمانه بالنسبة إلى غيره كاليقين الذي يزاول، فالرؤيا التي جاءت فسرت بهذا، كما صح عن ابن عباس أنه قال: رآه بفؤاده. فإذا رآه بفؤاده فهذه ليست رؤيا حقيقية.

حكم الحلف بلفظ: ورب القرآن

حكم الحلف بلفظ: ورب القرآن Q هل يجوز الحلف بهذا اللفظ: (ورب القرآن) ؟ A هذا لا يجوز؛ لأن القرآن ليس مربوباً، بل هو كلام الله، ولكن يجوز أن يقول: والقرآن. أو: والمصحف. لأن الذي يحلف به هو كلام الله، ومع ذلك فقد سبق أن قلت: إنه جاء عن ابن عباس وعن ابن مسعود رضي الله عنه عنهما أن الذي يحلف بالقرآن ثم يخالف أنه يلزمه بكل حرفٍ كفارة، وذلك لأنه أمر عظيم. وأما أن يقول: (ورب القرآن) فهذا لا يجوز؛ لأن المربوب مخلوق، والقرآن ليس مربوباً، بل هو صفة من صفات الله جل وعلا، ولا يجوز الحلف إلا بالله أو بصفة من صفاته.

المراد بلقاء الله الحاصل للمنافقين

المراد بلقاء الله الحاصل للمنافقين Q قول الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44] يدل على ثبوت الرؤية للمؤمنين، فإن كان يدل على الرؤية فكيف يجاب عن قول الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:77] ، ومن المعلوم أن المنافقين لا يرون الله؟ A اللقاء هنا يقصد به الجزاء الذي يجزون به يوم القيامة، ويصح أن يقال لكل أحد: إنه سيلقى ربه. أي: لقاء المحاسبة والجزاء، فيفسر بالحساب والجزاء الذي يحصل له.

شرح العقيدة الواسطية [19]

شرح العقيدة الواسطية [19] الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به، فيجب أن نؤمن بما بعد الموت من الأحداث التي ذكرها الله تعالى وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك فتنة القبر، وما يكون فيه من النعيم أو العذاب، ثم ما يكون بعد ذلك من النفخ في الصور، وبعث الأجساد، ووقوف الناس في الموقف، وغير ذلك مما جاءت به النصوص.

الإيمان بفتنة القبر من الإيمان باليوم الآخر

الإيمان بفتنة القبر من الإيمان باليوم الآخر قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه، فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاهز لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، وتنشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] ، ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقرون بها] .

سبب كثرة التحذير والتفصيل في أمور الآخرة في هذه الأمة

سبب كثرة التحذير والتفصيل في أمور الآخرة في هذه الأمة قال: (ثم من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت) . وهذا عام شامل وسيذكر لنا أمثلة مما يجب أن يؤمن به، وإلا فالتفاصيل كثيرة جداً، وقد جاء ذلك في كتاب الله جل وعلا وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما لو كتب فيه مجلدات لما وسعت ذلك، فلم يأت نبي من أنبياء الله بمثل ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم في تفاصيل يوم القيامة، وذلك لأنه آخر الأنبياء وعلى أمته تقوم الساعة، ولهذا جاء بذلك مفصلاً مبيناً موضحاً، وجاء بأشياء لا تقبل التأويل ولا تقبل الصرف عن ظاهرها، ولهذا كان من أنكر ذلك خارجاً عن الدين الإسلامي.

عموم فتنة القبر لجميع البشر

عموم فتنة القبر لجميع البشر [فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر] . المقصود بفتنة القبر سؤاله، ويكون لكل ميت سواء قبر أو لم يقبر، وكذلك العذاب؛ لأن القبر اسم لما بعد الموت، سواء دفن الميت في الأرض، أو ألقي في البحر، أو أكلته السباع، أو احترق بنار، أو ترك على وجه الأرض أو غير ذلك، فلا بد من السؤال، وبعد السؤال لا بد من العذاب أو النعيم. وهذا شيء عام، إلا أن الأحاديث جاءت باستثناء بعض عباد الله، مثل الذي يموت مرابطاً في سبيل الله، ومثل الشهيد الذي يموت شهيداً في المعركة، ونحوهما مما جاءت الأخبار به؛ فإنه قد صحت الأخبار بأنه يأمن من فتنة القبر. وأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، ومعنى الفتنة الاختبار، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ والمقصود بالرجل كل ميت من ذكر أو أنثى، وقد اختلف في الصغار هل يفتنون أم لا؟ فمن العلماء من أثبت ذلك، واستدل بعمومات جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنه غير مكلف فلا يفتن. وجاءت بعض الآثار تنص على أنه يسأل في قبره. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، فالتثبيت في الحياة الدنيا أن يكون ثابتاً على عقيدة الحق ولو ابتلي وامتحن أو قتل أو حرق، فيثبته الله على ذلك إذا أراد به الخير. وأما في الآخرة فالمقصود به ما بعد الموت، وذلك إذا وضع في قبره، وقد تواترت الأحاديث بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإنسان إذا وضع في قبره وانصرف عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان بعدما تعاد إليه روحه، فيسألانه يقولان: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ أما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما يدريك -أي: ما دليلك على ذلك-؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به. وأما المنافق والكافر فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) ، وفي رواية: (فيقول: لا أدري رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته. فيقولان له: لا دريت ولا تليت. فيضربانه بمطرقة من حديد لو ضربا بها جبلاً لتدكدك، فيلتهب عليه قبره ناراً، فيصيح صيحة يسمعه كل من يليه ما عدا الجن والإنس) . فقوله: (كل من يليه) أي: من الشجر والحجر والبهائم القريبة منه. وليس كل شيء يسمع صوته، ولكن يسمعه من كان قريباً من صوته من حجارة وشجر وبهائم، وقد جرب الناس ذلك قديماً، فكانوا إذا استمسك بطن الفرس أو الناقة أتوا بها إلى المقابر فترتاع وتهرب، فينطلق بطنها من شدة الخوف الذي سمعته وهي بهيمة، وهذا من باب التجربة، وقد أطلع الله جل وعلا من يشاء من خلقه على أشياء كثيرة من هذا. والسؤال يكون عاماً في الظاهر كما في هذا الحديث؛ فإنه للمؤمن والمنافق والكافر، ووقع الخلاف في الأطفال، ولم يأت نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يسألون ولا أنهم يسألون، وإنما أخذ ذلك من عمومات النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا اختلف العلماء، فمنهم من أثبت ذلك كـ القرطبي في التذكرة وغيره، واستدلوا بأشياء ذكروها من الآثار ومن الأحاديث الصحيحة بمفهومها، ومنهم من نفى ذلك وقال: إنهم غير مكلفين، وإنهم ولدوا على الفطرة. واستدلوا بأشياء أيضاً، والله أعلم.

القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار

القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وبعد ذلك يكون القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وقد ثبت أنه بعد السؤال إذا ثبت الإنسان وأجاب الجواب الصحيح يفسح له في قبره مد البصر، وأنه يفتح له باب إلى الجنة ويقال له: انظر إلى منزلك الذي أعده الله لك. فيأتيه من روحها ونعيمها وهو في قبره، عند ذلك يقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومنزلي. وإذا كان منافقاً أو فاجراً فإنه يضيق عليه قبره ويلتهب عليه ناراً، ويفتح له باب إلى النار ويقال له: انظر إلى مكانك ومنزلك الذي أعد الله لك. عند ذلك يقول: رب! لا تقم الساعة. لأنه يعرف أن ما بعد هذا الوقت أشد منه، وأن النار هي العذاب الشديد، نسأل الله العافية. ثم التثبيت في هذا السؤال يكون حسب ما كان عليه الإنسان في الدنيا، فإذا كان ثابتاً في الدنيا على العقيدة ليس عنده شك ولا ارتياب فإنه يثبت في القبر؛ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبقى في قبره على ما كان عليه في الدنيا، وكذلك يبعث على ذلك. أما إذا كان عنده شك وتردد أو ريب فهذا الذي يتلعثم ولا يستطيع أن يجيب؛ لأن القبر من منازل الآخرة، فهو محل الجزع، فلا يستطيع الإنسان أن يحدث شيئاً يقوله يمكن أن ينفعه، وإنما يكون على حالته التي خرج بها من الدنيا، فإن كان ثابتاً موقناً مؤمناً فإنه يثبت بإذن الله وفضله عند السؤال، وإن كان بخلاف ذلك فإنه لا يثبت.

اسم الملكين الفتانين

اسم الملكين الفتانين ثم إن الذي يتولى السؤال ملكان اسم أحدهما منكر والآخر اسمه نكير، كما روى ذلك الترمذي وابن حبان في صحيحه، وكذلك الإمام أحمد في المسند، ونص الإمام أحمد في مسائله على أن اسم الملكين الذين يتوليا السؤال (منكر ونكير) أما ما ذكر بعضهم أن الذين يتوليان سؤال المؤمنين هما مبشر وبشير فهذا لا أصل له وليس له مستند، فلم يأت به حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء الحديث في ذلك عاماً في كل أحد.

اختلاف عذاب القبر باختلاف العمل

اختلاف عذاب القبر باختلاف العمل ثم إنه بعد السؤال يدخل المرء في عذاب دائم لا ينقطع حتى يتصل بعذاب الوقوف ثم يتصل بعذاب جهنم، وإما أن يكون العذاب مؤقتاً ثم ينقطع، وذلك لمن كان جرمه ليس كبيراً ولا كثيراً، أو كان له أعمال تنفعه من دعوة يدعى له بها، أو صدقة تصدق بها، أو حج أو ما أشبه ذلك، فيتنفع بذلك وينقطع عنه العذاب، وقد جاءت أدلة كثيرة تدل على ذلك. فإذاً يكون العذاب في القبر على نوعين: النوع الأول: نوع يستمر ويكون ما بعده أشد منه. والنوع الثاني: يكون مؤقتاً. وهذا التوقيت يجوز أن يكون طويلاً ويجوز أن يكون منقطعاً بسبب أن جزاء الذي يستحقه غير طويل.

من أدلة عذاب القبر

من أدلة عذاب القبر في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير. ثم قال: بلى. إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله - وفي رواية: لا يتنزه من بوله- وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ، وفي الصحيح أيضاً عن عائشة: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: إنه حق) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه هذا الدعاء: (أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدحال) ، فكان يعلمهم ذلك كما يعلمهم سورة من القرآن، والأحاديث في هذا كثيرة. ويقول الله جل وعلا: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فقوله: (غدواً وعشياً) أي: في أول النهار وآخره. ويقول جل وعلا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] يقول العلماء: العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والأكبر هو عذاب جهنم. نسأل الله العافية، والآيات في هذا كثيرة، وأما الأحاديث فهي صريحة واضحة جلية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن وتوضحه.

أسئلة القبر لا يعذر أحد بالجهل بها

أسئلة القبر لا يعذر أحد بالجهل بها والسؤال يكون عن هذه الثلاث فقط: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ وهي التي يسميها العلماء الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها، وهي معرفة الرب، ومعرفة الدين، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم. والعلماء متفقون على أنه لا يعذر الإنسان بجهلها؛ لأنه يأتي السؤال عنها لكل أحد، إلا ما وقع فيه اختلاف وهم الأطفال، أما من كان بالغاً من ذكر وأنثى فإنه لا يعذر. ومعنى (من ربك؟) أي: من الذي خلقك وأوجدك وأوجب عليك عبادته ولهذا يقولان بعد ذلك: (وما ذينك؟) أي: الذي تعبد به ربك. فدل على أن معنى الرب هنا الرب المعبود، والرب يأتي بمعنى (الإله) . ومعنى (ومن نبيك؟) أي: من الذي جاءك بالدين الذي تتدين به وتتعبد به؟ فلا بد أن يكون الإنسان عارفاً ذلك وعاملاً به، أما مجرد معرفة بدون عمل فلا تجزي.

عذاب القبر وفتنته

عذاب القبر وفتنته قال: (وأما المرتاب فيقول: هاه هاه. لا أدري) . في رواية في البخاري أنه يقول: (لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت) . معنى (لا دريت) : ما علمت العلم الذي يجب أن تعلمه وتنجو به. (ولا تليت) ، أي: ما اتبعت كتاب الله وتلوته وآمنت به حتى يكون ذلك طريقاً إلى نجاتك وإلى إجابتك، وفي هذا أن تقليد الناس لا يجوز؛ لأنه يقول: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فلم ينفعه ذلك شيئاً، ولذلك يجب أن يعلم بنفسه وأن يتيقن ذلك، وإذا لم يجب الجواب الذي يقتنع به ويكون في قرارة قلبه فإنه يعذب؛ لأنه ترك ما يجب عليه.

يسمع عذاب القبر كل شيء إلا الإنسان

يسمع عذاب القبر كل شيء إلا الإنسان قال: (فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان) . يعني أن المكلفين لا يسمعونها ولو كانوا بجواره، وقد يسمع المكلف شيئاً من ذلك تذكرة وعظة، والوقائع في هذا كثيرة جداً، وقد ألف فيها العلماء مؤلفات، وذكروا أشياء بلغت حد التواتر في ذلك، فمن ذلك أنه لما دفن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأدلوه في حفرته وصاروا يصفون عليه اللبن سقطت قلنسوة الذي يتولى صف اللبن في اللحد، فأدخل رأسه ليأخذها فصاح، قيل: ما لك؟ فقال: رأيت القبر لا مدى له، قد فسح ونور نوراً لا أرى أقصاه، وشممت منه رائحة المسك. وأشياء كثيرة من هذا القبيل جربها الناس ورأوها، ولكن لا يكون إيماننا مبنياً على كوننا نرى الشيء أو يرى لنا أو يسمع، بل إذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كفى، ثم إن هذه أمور غيبية لا نعرف حقيقتها ولا نعرف كيفتيها، أي: لا نعرف كيفية العذاب وكيفية النعيم؛ لأن المقبور إذا وضع في لحده وأتيته بعد وقت وحفرت فإنه يكون على وضعه، فهذا الوضع لا يدل على أنه لم يعذب ولم ينعم، بل يعذب وينعم وهو على هذا الوضع، ويأتيه من الشدائد أو من الراحة والنعيم الشيء الكثير وهو على وضعه. بل يقول العلماء: إن القبر قد يوضع فيه أكثر من واحد، فقد يوضع فيه جماعة فيكون واحداً منهم منعماً والآخر معذباً، فالذي ينعم لا يصل إلى المعذب من نعيمه شيء وإن كان بجواره، وكذلك المعذب لا يصل إلى المنعم من عذابه شيء، وقدرة الله جل وعلا لا تحد، والمقصود أن هذا من أمور الآخرة الغيبية التي يجب الإيمان بها ولو لم نعرف ذلك.

إنكار الملاحدة لعذاب القبر

إنكار الملاحدة لعذاب القبر أما الزنادقة والملاحدة فهم ينكرون عذاب القبر، ويقولون: إننا لو وضعنا الميت ووضعنا في عينيه زئبقاً وحفرنا بعد وقت لوجدنا أن الزئبق على حاله لم يتغير، مما يدل على أنه ليس عنده نعيم ولا عذاب، ولو ظهر العذاب وكشف لزالت الحكمة التي يتفاوت بها المؤمن من المنافق من الملحد الزنديق؛ لأن الشيء إذا علم اضطر إلى الإيمان به كل أحد، ولهذا إذا خرجت الشمس من مغربها آمن كل الناس، ولكن لا ينفعهم ذلك؛ لأنه شيء مشاهد، وكذلك إذا خرج الدجال فإنه لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، كما في صحيح مسلم: (ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس، وخروج الدجال، والدابة) ، وذلك أن الكون يتغير وتظهر الآيات الباهرة التي تضطر الناس إلى الإيمان، ككون اليوم الواحد كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كأسبوع، ثم تعود الأيام إلى وضعها الذي وضعها الله عليه، وأما الدابة فهي تميز الناس وتبين أن هذا كافر وهذا مؤمن، وأما طلوع الشمس من مغربها فهي أيضاً آية باهرة تبهر الناس وتقهرهم على الإيمان، ولكن لا ينفعهم ذلك والمقصود أن الذي ينفع هو الإيمان بالغيب الذي يخبر عنه، أما إذا صار الأمر مشاهداً فيتساوى الناس فيه. وقوله: (ولو سمعها لصعق) ؛ الصعق يطلق على الموت ويطلق على الغشي، والمعنى أنه لو سمع العذاب لغشي عليه أو مات؛ لأنه لا يتحمل ذلك؛ لأنه أمر شديد لا يشبه الأمور التي تقع في الدنيا.

يوم القيامة وإرهاصاته

يوم القيامة وإرهاصاته (ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى) : قوله: (إلى أن تقوم القيامة الكبرى) يدلنا على أن هناك قيامتين: قيامة صغرى وقيامة كبرى، وهو كذلك، أما القيامة الصغرى فهي الموت، وكل إنسان بخاصته إذا مات فقد قامت قيامته الصغرى، أما الكبرى فهي العامة التي هي النفخ في الصور. والصواب أن النفخ في الصور نفختان فقط وليست ثلاثاً، فأما قوله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] فهذه النفخة المقصود بها نفخة الصعق التي ذكرت في قوله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، وهذه الآية واضحة في أن النفخ في الصور يكون مرتين فقط. والصعق معناه الفزع، فيفزعون أولاً ثم يصعقون بعد ذلك، ولهذا جاء في الحديث أن أول من يسمع النفخ في الصور راعيان يلوطان حوضيهما، وجاء أنه ينفخ في الصور والرجلان قد نشرا ثوباً ليتبايعاه فيبقى بين يديهما، وأن الرجل يعمل عملاً ثم يبقى عمله بين يديه إذا سمع ذلك، فمعنى النفخ في الصور أنه أولاً يموت من كان حياً، وهذه هي النفخة الأولى، وقد استثنى الله جل وعلا من استثنى، والله أعلم بهم. وقد اختلف العلماء فيهم، ففي قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] من العلماء من قال: المستثنى هن الحور العين اللاتي في الجنة؛ لأن ما في الجنة لا يموت. ومنهم من قال: هم الأنبياء والشهداء. ولكن الأنبياء والشهداء قد ماتوا فكيف يستثنون؟ لأن النفخة الأولى في الصور لا يحس بها الأموات، إنما هي لمن كان حياً، وهذه لها مقدمات هائلة مثل تشقق الأرض وزوال الجبال حتى تصير كالعهن المنفوش، فزلزلة الأرض كما في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] مقدمة لخروج الأثقال، والأثقال هي من كان في بطنها من الأموات، فإنهم يخرجون، ولكن في النفخة الثانية. ومما يدل على ذلك ويؤكده أنه ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون) ، فلو كانت ثلاثاً لقال: بين النفخة الأولى والثانية، أو: بين النفخة الثانية والثالثة. ولكن قال: (بين النفختين أربعون) قيل لـ أبي هريرة: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قيل: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. يعني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أربعون فقط، ولم يذكر التمييز هل هو سنة أو يوم أو شهر، والظاهر أنه أربعون سنة بين النفخة الأولى والثانية، والله أعلم. وقد اختار بعض العلماء مثل ابن كثير رحمه الله وغيره من العلماء أنها ثلاث؛ لأن الله ذكر الثلاث بأوصاف مختلفة، قال في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، وهناك حديث صريح وهو حديث أبي هريرة الطويل أنه ينفخ في الصور ثلاث مرات، فتكون النفخة الأولى نفخة للفزع، والنفخة الثانية للصعق، والثالثة نفخة البعث، ولكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، بل هو روايات مزعومة بعضها من أقوال الذين لا يجوز أن يثبت بأسانيدهم ورواياتهم حكم، مثل الكلبي وغيره، فهذا الحديث لا يعتمد عليه.

إعادة الأرواح إلى الأبدان

إعادة الأرواح إلى الأبدان (فتعاد الأرواح) يعني: بعد النفخة الثانية، ولكن قبل ذلك تكون أمور هائلة قد ذكر الله جل وعلا كثيراً منها تحذيراً كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-3] ، وما أشبه ذلك مما يهوله الله جل وعلا ويعظمه. كذلك قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] فترى الإنسان كأنه سكران، ولكنه مثلما قال الله جل وعلا: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، وذلك من شدة الأهوال، فالإنسان تنتظره أمور هائلة جداً، فيجب أن يتذكر ذلك ويؤمن به، ثم يتذكره ويكون على باله أنه سوف يقع له. وقد أجمع المسلمون واليهود والنصارى وجميع الأمم التي جاءتها الكتب على قيام الساعة، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، فقد جاء في الحديث أنه بعد النفخة الأولى ترسل السماء بمطر كمني الرجال لا يُكِنُّ منه مدر ولا وبر، أي: لا يمنع منه بيوت ولا غيرها، مع أن الناس قد ماتوا وزال كل شيء، فيبقى أربعين يوماً يصب على الأرض، ثم بعد ذلك ينبت الناس من قبورهم. وقد جاء في الحديث أن ابن آدم كله يبلى إلا عجب الذنب، وعجب الذنب جزء صغير جداً في أسفل الظهر كالبذرة، ينبت الإنسان من هذه البذرة، فيبنت من قبره كأنه نبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الطراسيس) ، والطرسوس نبت معروف مستقيم يقع في بعض الأرض، ثم إذا تكاملوا لو أن الإنسان مر على إنسان يعرفه لعرف أنه فلان، وذلك إذا اجتمعت الأجزاء التي تفرقت في الأرض وكانت تراباً فصارت عظاماً ولحماً ولكن بلا روح. ثم ينفخ في الصور، والصور -مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم- قرن عظيم ينفخ فيه إسرافيل، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه وحنى جبهته ينتظر الأمر) أي: ينتظر متى يأمره الله جل وعلا بالنفخ. فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية ذهبت كل روح إلى جسدها ودخلت فيه، وهذا هو البعث، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكره في كتابه كثيراً، قال جل وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] ، وقد اتفق العلماء على أن منكر البعث الجثماني كافر، وأما الملاحدة الزنادقة فإنهم يؤولون ذلك، ولكن تأويله صعب جداً لأنه واضح صريح.

صفة خروج الناس من قبورهم ووقوفهم عند ربهم

صفة خروج الناس من قبورهم ووقوفهم عند ربهم (فيقومون بعد ذلك من قبورهم حفاة عراة غرلاً) . يعني على هيئة خلقتهم التامة حتى الجزء الذي قطع من ذكر الإنسان يعود فيه، وهو معنى قوله: (غرلاً) ، أي: غير مختونين. ليذوق كل جزء من الإنسان العذاب الذي يستقبله والمحاسبة أو يذوق النعيم، ويكونون حفاة بلا نعال ولا خفاف، وعراة رجالهم ونساؤهم، ولما سمعت ذلك عائشة قالت: (واسوأتاه! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من ذاك يا عائشة) أي: كل واحد شاخص ببصره لا يدري من بجواره من شدة الهول. ثم إذا قاموا من القبور يحشرون، والحشر أنهم يساقون إلى مكان معين يجمعون فيه، ثم بعد ذلك يقفون لرب العالمين، والوقوف أن يكونوا قياماً على أرجلهم، وتدنو منهم الشمس وتكون واقفة على رؤوسهم، وهذا يوم طويل ويوم عسير، يقول الله جل وعلا: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:1-10] ، ((يُبَصَّرُونَهُمْ)) أي أنه يبصر كل حبيب حبيبه وقريبه، ولكن لا يسأل أحدهما الآخر، بل يود المجرم أن يفتدي من هذا العذاب بكل ما يملك ولو ببنيه وزوجته وأمه وأبيه، بل كل ما في الأرض لو كان يملكه واستطاع أن يفتدي به من عذاب ذلك اليوم لفعل، ولكن لا يمكن. وهذا اليوم هو الذي مدح الله جل وعلا الخائفين منه، وهم الذين يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ثم يقولون: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:9-10] قال تعالى: {فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11-12] الآيات، وقد ذكر جل وعلا آيات كثيرة جداً يخوف عباده من ذلك، وهذا اليوم ليس فيه ظل ولا شراب ولا أكل، ومع ذلك تكون الشمس فوق الرءوس، ويشتد الكرب على الناس فيعرقون عرقاً هائلاً، حتى جاء أن عرقهم يأخذ في الأرض سبعين ذراع. ولكنهم يختلفون فيه، فمنهم يكون عرقه لجاماً له، أي: يصل إلى فمه. ومنهم من يكون إلى ثدييه، ومنهم من يكون إلى رقبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ولكن من عباد الله من لا ينالهم عرق ذلك اليوم وشره، بل يكونون في ظل العرش، وليس هناك ظل إلا ظل العرش، وأحوال الناس في هذا اليوم تكون على خلاف ما نعرف، وإلا فكيف يصل العرق إلى هذا الحد؟ ما ذلك إلا للشدة والكرب والهول، فهي على خلاف ما يعهد في الدنيا، وكل ذلك يجب أن يؤمن به.

الأسئلة

الأسئلة

وجه دعوة نوح لابنه بالنجاة من الغرق

وجه دعوة نوح لابنه بالنجاة من الغرق Q ورد أن الله نزه رسله عن أن يسألوه مستحيلاً، فهل دعوة نبي الله نوح عليه السلام أن ينجي ولده فيها سؤال شيء مستحيل؟ A دعوة نبي الله نوح عليه السلام على حسب وعد الله له؛ فإنه وعده أن ينجيه وأهله، فظن أن ابنه من أهله، فلما سأله ذلك أخبره الله جل وعلا أنه عمل غير صالح وأنه من غير أهله؛ لأن أهله المؤمنون، أما الكافر وإن كان ولداً له فليس من أهله.

تعلق عذاب القبر ونعيمه بالروح والبدن

تعلق عذاب القبر ونعيمه بالروح والبدن Q هل عذاب القبر على الروح والبدن أم على الروح فقط؟ A على الروح والبدن معاً وإن كان قد فارقته الروح بالموت، ولكن ليست المفارقة مفارقة كلية، وقد ذكر ابن القيم أن تعلق الروح بالبدن خمسة أنواع: النوع الأول: تعلقها به وهو في بطن أمه، فهذا نوع ليس كاملاً. النوع الثاني: بعدما يخرج من بطن أمه يكون أكمل، فهذا التعلق الثاني. الثالث: تعلقها به حالة النوم، فإنها تفارقه نوع مفارقة ولكن لها به تعلق، حيث إنه إذا أوقظ استيقظ. النوع الرابع: تعلقها به في القبر بعد الموت، فإنها لا تفارقه مفارقه كاملة بل تكون معه في القبر، وقد تعاد إليه كما جاء في الحديث أنها تعاد إليه روحه وأنه يحيى، ولكن حياة لا نعرف حقيقتها؛ لأنها حياة برزخية. النوع الخامس: تعلقها به بعد البعث، وهو التعلق الكامل الذي لا يقبل المفارقة، فيبقى حياً أبداً إما منعماً وإما معذباً، فالعذاب أو النعيم في القبر كلاهما يكون على البدن والروح، والبدن وإن تفتت وصار تراباً لكنه ينعم أو يعذب، وهذا من الأمور الغيبية والتي يجب الإيمان بها كما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذي يقول: العذاب أو النعيم على الروح فقط فقوله غير صحيح.

عموم فتنة القبر لجميع الأمم

عموم فتنة القبر لجميع الأمم Q هل الفتنة في القبر عامة لكل الأمم أم هي خاصة بأمة النبي صلى الله عليه وسلم؟ A الصواب أنها عامة، فقد قال تعالى عن فرعون وآله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وهي في الذين من قبلنا، وكذلك أخبر جل وعلا عن قوم لوط أنهم أرسل عليهم حجارة من سجيل ثم خسف بأبدانهم فهم يعذبون بعد ذلك إلى يوم القيامة. فعذاب القبر عام للأمم السابقة، ولكل من يموت من هذه الأمة أو غيرها، أما الذي يقول: إنه لهذه الأمة خاصة -مثل ابن عبد البر رحمه الله- فإن هذا قول غير صحيح.

فتنة القبر لمن تقوم عليه القيامة

فتنة القبر لمن تقوم عليه القيامة Q الناس الذين قامت عليهم القيامة كيف يكون لهم سؤال في القبر؟ A إذا ماتوا سئلوا، وقد ذكرنا أن القبر اسم لما بعد الموت، فإذا مات هؤلاء سئلوا ولو لم يكونوا مقبورين، وقد صح أن بين النفختين أربعين، فهم يسألون بعد موتهم، ثم يعذبون أو ينعمون، ولكن في صحيح مسلم أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأنها لا تقوم حتى لا يقال في الأرض: الله الله. أي: لا يعرفون الله.

سماع بعض الناس لأصوات من في القبور

سماع بعض الناس لأصوات من في القبور Q ذكرتم أن الإنسان قد يسمع صيحة الميت في القبر، وقد يرى بعض ما يحدث في القبر، أليس هذا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق) ؟ A هذا شيء خارج عن العموم، والخارج عن العموم ليس له حكم، ويكون ذلك آية، وقد تظهر أشياء من ذلك موعظة وذكرى لمن يشاء، فلا يكون ذلك منافياً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (يسمعها كل من يليه إلا الجن والإنس) .

لا يعذب في الآخرة من لم يعذب في القبر

لا يعذب في الآخرة من لم يعذب في القبر Q الذي يسأل في القبر ويثبت وتكون عليه ذنوب في الحياة الدنيا هل يدخل إلى النار التي أعاذه الله منها ليطهر أم يغفر الله خطاياه؟ A إذا لم يعذب في القبر لم يعذب في الآخرة؛ لأن عذاب القبر من الجزاء، وهو أول منازل الآخرة.

انتفاع الوالد بعمل ولده لا ينقص من أجره

انتفاع الوالد بعمل ولده لا ينقص من أجره Q هل كل ما يعمله الولد يكتب لوالديه دون أن ينقص ذلك من عمله شيئاً؟ A ليس كذلك، ولكن والده يؤجر على تعليمه إذا كان يربيه ويعلمه، مع أن الولد هو الذي يؤجر وإن لم يبلغ.

فضل الوفاة ليلة الجمعة أو يومها

فضل الوفاة ليلة الجمعة أو يومها Q ورد في الحديث أن الرجل إذا توفي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أمن من فتنة القبر، فهل هذا عام أم أنه خاص بالمتقين دون العصاة؟ A ينظر في صحة الحديث قبل مناقشة المعنى.

وقت رؤية الله في الجنة لأهل الجنة

وقت رؤية الله في الجنة لأهل الجنة Q هل من الصحيح أن هناك أحداً في الجنة يرى ربه متى شاء؟ A الذي جاء أن من هم أعلى أهل الجنة ينظرون إلى ربهم بكرة وعشيّاً، وعموم أهل الجنة ينظرون إليه يوم الجمعة، كما في حديث أبي هريرة؛ فإن يوم الجمعة يسمى يوم المزيد، وهو وقت يعرفه أهل الجنة، وليس عندهم شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، ولكنهم يعرفونه بعلامات يجعلها الله جل وعلا لهم، فإذا كان يوم الجمعة يخرجون إلى مكان معين في الجنة، فيأتيهم الله جل وعلا فيقول: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] يسلم عليهم، فيعودون إلى منازلهم وأهليهم وقد ازدادوا حسناً وطيباً، فهذا عام، أما كونه يراه متى ما شاء فلا أعرف فيه شيئاً، والله أعلم.

طول يوم القيامة على المؤمنين

طول يوم القيامة على المؤمنين Q ما صحة ما ورد من أن وقوف المؤمنين يوم القيامة كما بين صلاة الظهر والعصر؟ A الوقوف يختلف باختلاف الأعمال، ولكنه عموماً يوم طويل، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27] و (ثقيلاً) أي: طويل وشديد وعظيم، وليس كمثل ما بين صلاة العصر إلى صلاة الظهر، ولكنه قد يكون كذلك على من يشاء الرب جل وعلا. وقد جاء في بعض الآثار أن الناس يحاسبون، وأن هناك من عباد الله من يأكل ويشرب، فالذين أمضوا أيامهم في هذه الحياة صياماً وقياماً فإن الله جل وعلا لا يضيع أجرهم، ولكن هذا نادر. ولما ذكر الله جل وعلا القيامة الكبرى في أول سورة الواقعة قال: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1-3] أي: تخفض قوماً وترفع آخرين. وذكر أن أقسام الناس ثلاثة: سابقون، وأصحاب يمين، وأصحاب شمال، فلما ذكر السابقين قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13-14] .

شرح العقيدة الواسطية [20]

شرح العقيدة الواسطية [20] البعث يوم القيامة حق، والعرض والجزاء والحساب والميزان والصراط والجنة والنار كلها حق، ويجب الإيمان بها، كما أخبر عنها الله عز وجل وكما أخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم.

وجوب الإيمان بيوم القيامة وأحداثه

وجوب الإيمان بيوم القيامة وأحداثه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتُنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، وتنشر الدواوين، وهي: صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] ، ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه كما وُصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها] .

صفة الصور وعدد النفخات

صفة الصور وعدد النفخات قوله: (وتقوم القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق) . القيامة المقصود بها النفخ في الصور، والنفخ في الصور الصواب أنه يكون مرتين وليس ثلاثاً، النفخة الأولى نفخة الموت والصعق، كما قال جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] . والنفخة الثانية نفخة البعث، وهي المراد هنا. والصور جاء وصفه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرن عظيم، ودائرته مثل عرض السماء، وينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، فتذهب كل روحٍ إلى جسدها الذي كانت فيه بعدما يجمع الله جل وعلا الأجساد من أجزاء التراب المتفرقة التي كانت في الدنيا، ثم تنبت كما تنبت الحبة في حميل السيل، ولكنها بدون أرواح، فإذا تكامل نبتها نفخ في الصور فذهبت كل روح إلى جسدها، فيقومون ينظرون، ثم يُساقون إلى الوقوف بين يدي الله جل وعلا. وفي هذا المساق يختلفون اختلافاً عظيماً، والحديث جاء أنهم يحشرون حفاةً عراةً غرلاً كما ذكر المؤلف هنا، فقوله: (حفاة) يعني: غير منتعلين. والعراة يعني: غير مكسوين، يعني: أبدانهم عارية لا نعال ولا ثياب، وأما كونهم غرلاً فمعنى ذلك أن خلقهم يعود كاملاً، والشيء الذي أخذ من جزء الإنسان يعود كما كان، و (غرلاً) أي: غير مختونين.

القيامة متفق عليها بين الأمم

القيامة متفق عليها بين الأمم وقوله: (أجمع عليها المسلمون) أي أن القيامة أجمعت عليها كل الأمم، المسلمون واليهود والنصارى، وكل من آمن بالله جل وعلا، وإنما أنكرها شراذم من الناس، مثل الدهرية من العرب وغيرهم، وكذلك الفلاسفة من اليونان والهند وغيرهم، وكذلك الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله ولا بإعادة ولا بجنة، ولا بجزاء ولا بنار، وهؤلاء شذوا عن الفطرة، وعن أمر الله جلا وعلا وشرعه، ولا عبرة بالشاذ، فالقيامة مجمع عليها من جميع الخلائق، وإنما ذكر المسلمين هنا لأن الكلام موجهٌ إليهم، وهم الذين ينتفعون بالأخبار التي ذكرها الله جل وعلا؛ لأنهم يعملون بذلك، وأما غيرهم فهم معرضون عن هذا، ولا ينتفعون بالخبر الذي ذكره الله جل وعلا، ولا بما يشرح به ويبين.

يجب الإيمان بالأخبار المتعلقة بيوم القيامة ولا تقاس على أمور الدنيا

يجب الإيمان بالأخبار المتعلقة بيوم القيامة ولا تقاس على أمور الدنيا قوله: (في كتابه وعلى لسان رسوله) يعني أن القيامة ذكرت في القرآن في آياتٍ كثيرة جداً، وذلك أن القيامة تقوم على هذه الأمة، والقرآن نزل لهذه الأمة. وقوله: (على لسان رسوله) يقصد بذلك الأحاديث التي وضَّح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم القيامة، وهي كثيرةً جداً وموجودة وميسورة لمن أرادها، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، وبعد القيام يختلفون في المسير إلى المحشر الذي يكون في مكانٍ معين، فيجمعون فيه من أولهم إلى آخرهم، ويكونون وقوفاً قياماً، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، أي: قياماً على أرجلهم، فمنهم من يقوم ألف سنة، ومنهم من يقوم أكثر من ذلك على حسب أعمالهم، وأمور الآخرة ليست على الشيء الذي نعهده، ولهذا جاء أنهم يعرقون عرقاً عظيماً حتى يلجم بعضهم عرقه، ويكون في جواره آخر فلا يصل إليه من عرقه شيء، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى أذنيه، ومن هم من يصل إلى فمه، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون تحت ظل العرش فلا يعرق. فهذه أمور عجيبة جداً، كيف أن العرق يصل إلى هذا الحد مع أنهم لا ماء ولا أكل؟! ويكونون عراة، والشمس تكون قريبة منهم على قدر ميل، والميل ظهر أنه المسافة المعهودة المعروفة، وحر الشمس يتضاعف في هذا اليوم تضاعفاً شديداً، والناس خلقوا ليبقوا، فلا يمكن إذا زاد عليهم صهر الشمس وحرها أن يموتوا؛ لأنه لا موت بعد النفخ في الصور النفخة الثانية، ولا يكون هناك موت إلا للبهائم التي يجمعها الله جل وعلا ثم يقتص لبعضها من بعض؛ لأن بعضها يعتدي على بعض، وبعضها يكون له قرون، والآخر لا يكون له قرون، فيقتص لبعضها من بعض لكمال العدل، ثم يقال لها: كوني تراباً. عند ذلك يتمنى الكفار أن يكونوا تراباً، ولكن هذا لا سبيل إليه. وكذلك بعد هذا القيام الطويل والعذاب الشديد لأكثر الناس يتمنى كثيرٌ منهم أن يُقضى بينهم ولو إلى النار لشدة الوقوف وهوله وصعوبته. ولهذا فإن كثيراً من الآيات في القرآن فيها تحذير من هذا الموقف، كما قال الله جل وعلا: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] وقال سبحانة: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-3] ، وقال: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1-2] ، وهذه كلها يقصد بها القيام لرب العالمين؛ لأن هوله شديد، ويقول جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ} [غافر:18] ، ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] . والآيات في هذا كثيرة جداً، يذكر الله جل وعلا فيها شدة هذا اليوم، وقد أخبر أنه يوم عسير على الكافرين، وأخبر أن المتقين يخافونه فقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9-10] ، فالمؤمنون يخافون الوقوف في هذا اليوم، وهو خليق بأن يُخاف منه لشدة الهول فيه. ولم يذكر المؤلف رحمه الله الترتيب الذي يكون يوم القيامة؛ لأنه لم تأتِ نصوص تبين هذه الأمور مرتبة، فلم يأتِ أن هذا يكون بعد هذا، أو أن هذا يكون هذا، وإنما جاء الإخبار عنها هكذا، وإلا فالمناسب -فيما يظهر-، أن تذكر الشفاعة بعد الوقوف؛ لأن أول ما يقع بعد شدة الوقوف والهول الشديد الشفاعة -فيما يظهر- ويجوز أن يكون شيء آخر غير الشفاعة؛ لأنه لم تأتِ نصوصٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ولا عن الله جل وعلا ترتب أمور الآخرة، ولهذا اختلف العلماء فيها، وذكرا المؤلف هذه الأمور حسبما جاءت الأخبار بها من غير ترتيب، والترتيب الله أعلم به، ولكن لابد من وقوع ذلك، ولابد من الإيمان به.

وجوب الإيمان بالميزان وذكر الاختلاف فيه

وجوب الإيمان بالميزان وذكر الاختلاف فيه ذكر الموازين أولاً فقال: (فتنصب الموازين) . والموازين جاءت مجموعة وجاءت مفردة، فهل هي جمع، أو أن ذكرها بالجمع يراد به التعظيما؛ لأن الميزان له كفتان ولسان -أو الجمع لغير ذلك؟ وA قد يطلق المفرد ويراد به الجمع، كما قال جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ، ونوح عليه السلام هو أول رسولٍ أرسل إلى أهل الأرض؛ لأن قبله لم يكن شرك، ومع هذا قال: ((الْمُرْسَلِينَ)) ، وهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً، ويجوز أن يكون كذلك هنا، فهو ميزان واحد. وجاء في الصحيح من حديث أبي عامر الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) ، فجعله ميزاناً واحداً، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى الرجل الضخم الجسيم فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة) ، وهذا أيضاً مفرد، وهذا في الرجل الفاجر. ومن العلماء من يقول: إِن الموازين حسب الأعمال، ويكون لكل عملٍ ميزان. ولكن هذا يحتاج أيضاً إلى دليل، فكونها جمعت في القرآن وفي الأحاديث لا يقتضي أنها متعددة، والوزن يكون للأعمال، وقد يكون مع الأعمال للأبدان، أي: يوزن الإنسان نفسه، كما جاء في الحديث أن ابن مسعود كان يجني الكباث وكان دقيق الساقين، فكأن بعض الصحابة تعجب من ذلك، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولكنهما في الميزان أثقل من جبل أحد) . وغير ذلك من النصوص التي جاء فيها أن الإنسان نفسه يوزن، ولا مخالفة في هذا للنصوص الأخرى، فيجوز أن يكون هذا وهذا، توزن الأعمال ويوزن أصحابها، وقد جاء صريحاً أن الأعمال توزن كما في حديث أبي عامر الذي ذكرنا وغيره. وجاء في الترمذي قصة البطاقة، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصاح برجلٍ من أمتي على رءوس الأشهاد يوم القيامة، فيُخرج له تسع وتسعون سجلاً، كل سجلٍ مد البصر فيه سيئاته، فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا. فيقال له: ألك عذر؟ فيقول: لا. لا عذر لي. فيقال له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا. ليس لي شيء. فيقال له: بلى. إن لك عندنا حسنة وإنك لا تظلم اليوم شيئاً. ويخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا ربِّ! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات؟! فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة) ، فهذا صريح بأن الذي يوضع في كفة الميزان صحائف الحسنات، وفي حديث أبي عامر أن نفس الأعمال توضع. يقول العلماء: يجعلها الله جل وعلا أجساماً. أي: بدل أن كانت أعراضاً تكون أجساماً، فالأعراض مثل الكلام، والعمل الذي يعمله الإنسان ليس مشاهداً، ولكن يقلب أشياء مشاهدة، وليس ذلك على الله بعزيز، وهو على كل شيءٍ قدير، فتوضع في الميزان وتشاهد، والميزان له كفتان ولسان، ويميل بمثاقيل الشعر، حتى الذرة يميل بها، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] . وأخبر جل وعلا أن الوزن حق، وأنه: {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، فالوزن في الأعمال بين الحسنات والسيئات، فمن ثقل ميزان حسناته -الكفة التي فيها الحسنات- ولو مقدار شعرة فهو من المفلحين، ومن ثقلت كفة السيئات على كفة الحسنات فهو من الخاسرين الهالكين، وهذا يكون مشاهداً أمام الخلق كلهم، وكل واحد توزن أعماله ينادى عليه بأنه ثقلت موازينه أو خفت موازينه ويفتضح. والوقوف والوزن والمحاسبة كلها يتولاها رب العالمين جل وعلا، وهو الذي يحاسب خلقه، ومحاسبته لهم في آنٍ واحد، يحاسب جميعهم في لحظات، وكل واحدٍ يقرره بذنوبه ويعرضها عليه، وهذا أنواع: نوع تقرير، والعرض نفسه، ونوع في الصحف التي سجلت عليه. وهنا يقول: (فتوزن بها أعمال العباد) أي: أن الوزن يكون للأعمال التي يراها، وهذا هو أكثر ما جاء في الآثار والأحاديث، كما في الحديث: (أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن) ، وهذا من الأعمال التي يقوم بها الإنسان. وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8] يعني أن الدليل واضح على أنه أفلح، والفلاح هو السعادة: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] ، والموازين هنا جمعت بالنسبة إلى كل واحد، وهذا بالنظر إلى الأعمال، ويظهر أن الأعمال يختلف وزنها، فلكل أعمال ميزان، وكل عملٍ يوضع في الميزان على حدة، وذلك لتمام العدل وكماله؛ حتى يظهر أمام الخلق كلهم عدل الله جل وعلا.

سبب ذكر الميزان في كتب العقائد

سبب ذكر الميزان في كتب العقائد والميزان ذُكر في القرآن كثيراً، والوزن ينص عليه العلماء في العقائد التي يجب أن تعلم وتحفظ وتعتقد، والسبب في هذا أن بعض أهل البدع أنكروا الميزان، مثل المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة يقولون: الميزان عبارة عن العدل، وليس هناك ميزان حقيقي، والله جل وعلا حكمٌ عدل، فهو عبارة عن حكمه الذي يحكم به بين الناس. وذلك أنهم ليس عندهم طريق مستقيم يسلكونه، وإنما ينظرون إلى آرائهم وعقولهم فيقيسون على الشيء الذي يروق لهم، وإلا فالموازين في كتاب الله ذكرها واضح وجلي، وكذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا السبب نص العلماء على ذكر الموازين.

تطاير الصحف والدواوين في عرصات القيامة

تطاير الصحف والدواوين في عرصات القيامة ثم ذكر نوعاً آخر مما يحصل في الموقف، وهو نشر الدواوين، يقول: (وتنشر الدواوين) . والدواوين: جمع ديوان وهو الكتاب الذي يسجل به عمل الإنسان، ولا يترك منه صغيرٌ ولا كبير، فكله يسجل في كتاب محفوظ، ويتولاه كرام كاتبون يكونون مع الإنسان لا يفارقونه في وقتٍ من الأوقات حتى يموت، فإذا مات طوي هذا الكتاب وحفظ، فإذا وقف يوم القيامة أخرج له هذا الكتاب، كما قال جل وعلا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] . والصواب من أقوال العلماء في تفسير هذه الآية أن هذه هي صحائف الحسنات، والصحف التي تؤخذ بالأيمان أو بالشمائل هل هي -كما يقول بعض العلماء- صحيفة كأنها جواز يجوز بها النار ويدخل بها الجنة، أو أنها صحائف الأعمال؟ الظاهر أنها صحائف الأعمال، فهذا الذي يدل عليه ظاهر النصوص وظاهر القرآن، فصحيفة عمله إما أن يأخذها بيمينه أو يأخذها بشماله، وهذا عندما تنشر الدواوين التي هي صحائف الأعمال. ولهذا قال: (وهي صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه -ديوانه الذي نُشر له- بيمينه) ، فإذا أخذها بيمينه فهو دليلٌ على أنه من أهل اليمين السعداء، والمسألة ليست باختيار الإنسان، وليس من أراد أن يأخذ الصحيفة بيمينه أخذها وإن أراد أن يأخذ بشماله أخذها، بل لا يستطيع أن يمد أحد يديه إلا من أراد الله جل وعلا أن يمدها، سواء أكانت اليمين أم الشمال، فإذا أذن الله له بمد إحداهما تبقى الأخرى ليست باستطاعته، ثم الكتاب نفسه يذهب بنفسه إلى اليد، إما أن يذهب إلى اليمين أو يذهب إلى الشمال، ومنهم من يأخذه بشماله أخذاً سهلاً، ومنهم من تلوى يده خلف ظهره ويأخذه بشماله من خلف ظهره ثم تلوى عنقه ويجعل وجهه إلى ظهره ويقال: اقرأ كتابك. وهذا أشد من الأول، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:7-12] ، وقال في الآية الأخرى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19-20] إلى أن قال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25-26] إلى آخر الآيات. والناس يختلفون في جرمهم وأعمالهم، ومعلوم أن أعمال الناس ليست على طريق واحد، بل هي مختلفة، فاختلف جزاؤهم على هذا النمط. وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] ، فـ (كل) نصبت بفعل مقدر تقديره: ألزمنا كل إنسان. وقوله: ((أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) (الطائر) هنا المقصود به ما طار له من العمل الذي عمله وكان في صحيفته، فإنه يلزم هذا الشيء. وفي ذكر أنه في عنقه دليل على أنه لا ينفك عنه؛ لأن الذي يكون في العنق يكون ملازماً لا ينفك ولا يحيد عنه. وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] يعني: كتاب أعماله التي كانت تسجلها الملائكة، ويقال له: اقرأ كتابك، فيقرأ أنه في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا عمل كذا وكذا أو قال كذا وكذا. وهذا الكتاب -كما ذكر الله جل وعلا في الآية الأخرى-: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] أي: لا يترك شيئاً. وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16-18] . قوله: ((ما يلفظ)) (ما) عامة شاملة، وليس هذا في اللفظ فقط. بل العمل كذلك، وفي آية أخرى يقول جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] أي: كاتبين لا يتركون شيئاً. وقد جاء في الأثر أن رجلاً كان راكباً حماراً، فعثر الحمار فقال: تعس الحمار فقال الذي يكتب الحسنات: ليست حسنة فأكتبها. فأوحى الله جل وعلا إلى صاحب السيئات أن: ما لم يكتبه صاحب الحسنات فاكتبه, ومعنى ذلك أن كملة (تعس الحمار) كتبها الملك في صحائف السيئات، وهذا يدل على أن هذا أمرٌ دقيقٌ جداً؛ لأنه لا يترك شيئاً، حتى قول الإنسان: أعطني الكتاب. أعطني القلم. خذ هذا. وما أشبه ذلك يُكتب، ولكن هذا هل يبقى؟ قال بعض العلماء: إن هذا لا يبقى، وإن هذا هو الذي يقول الله جل وعلا فيه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي أن الذي ليس فيه عليه عقاب ولا ثواب يُمحى، ويُثبت الذي فيه العقاب والثواب، ولكن قول الله جل وعلا في وصف الكتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] يظهر منه أنه لا يترك شيئاً، بل كل شيء يكون موجوداً، وكل شيء هو مسجل ومكتوب، ثم بعد ذلك يكون الجزاء على السيئات والحسنات. وقراءة الكتاب ومحاسبة النفس واعترافها ليست على حالة واحدة.

مواقف الناس يوم القيامة في العرصات

مواقف الناس يوم القيامة في العرصات كما أن موقف الناس يوم القيامة يختلف فهناك مواقف مختلفة، وفيها موقف لا أحد يستطيع أن يتكلم أو ينطق فيه، ولا يُسمع إلا مشي الأقدام، كما قال جل وعلا: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] ، يقولون في تفسيرها: أي صوت الأقدام إذا صاروا يمشون، أما الكلام فليس هناك من يتكلم، وهناك موقف يتكلمون فيه، كما يقول جل وعلا: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات:38-39] ، أخبر أنهم ينطقون أيضاً في هذا اليوم، ولكن هذا ليس دائماً، بل في بعض الأماكن والمواقف، فيقبل بعضهم على بعض يتساءل، ويقول بعضهم: كم لبثتم؟ فيقولون: لبثنا يوماً أو بعض يوم. وفي مواقف أخرى لا أحد يتكلم ولا ينطق ولا يتساءل، كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:4-10] . أي: لا أحد يسأل قريبه أو صديقه. وهذا ليس عاماً في كل المواقف؛ فإن بعض الأماكن يختلف اختلافاً عظيماً، ولهذا جاء أن بعض الناس ينكر كتابة الملائكة ويقول: لا أقبل هذا. ويقول: يا رب! أنت الحكم العدل الذي لا تظلم شيئاً، وأنا لا أقبل على نفسي إلا شاهداً من نفسي فيقول الله جل وعلا: سنبعث شاهداً عليك. فيفكر في نفسه عن الشاهد، فيختم على فمه فلا يستطيع أن يتكلم، فيقول الله جل وعلا لأعضائه: انطقي تكلمي فتتكلم الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل بكل ما حصل، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبين الكلام، فيعود على أعضائه باللوم فيقول: لماذا؟ فعنكن كنت أنافح. فيقلن: أنطقنا الله. قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فأصبحتم من الخاسرين} [فصلت:20-23] ، فهذا الكلام يذكره الله جل وعلا عن الجلود والأسماع والأبصار، كذلك الأيدي والأرجل تتكلم وتشهد بما وقع. إذاً فيوم القيامة يوم عظيم جداً، وفيه من الأحوال والأهوال والأشياء ما تشيب له الولدان.

محاسبة الله عز وجل للخلق يوم القيامة وكلامه لعباده المؤمنين.

محاسبة الله عز وجل للخلق يوم القيامة وكلامه لعباده المؤمنين. المحاسبة تختلف باختلاف الأعمال واختلاف العباد، فالمؤمن حسابه أن تعرض عليه أعماله عرضاً، ويقال له: عملت كذا وكذا فقط، أما الكافر فحسابه: تعداد السيئات وعرضها عليه، ولكنه عرض وجزاء. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب) ، والمناقشة معناها: الاستقصاء في الحساب، بأن يحاسب على أعماله كلها، فالذي يُستقصى في حسابه ويُناقش فيها يُعذب ولابد؛ لأنه ليس من الخلق أحد يستطيع القيام بحقوق الله كاملة، ولكن لكرم الله وجوده جل وعلا فإنه يعفو، فعند أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب) ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أليس الله جل وعلا يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8] ؟ قال: ذلك العرض من نوقش الحساب عُذب) أي أن المؤمن تعرض عليه أعماله عرضاً فقط، حتى يعرف فضل الله عليه وإحسانه إليه وكرمه وجوده عليه. وقوله: (يخلو بعبده المؤمن) أي أنه يدنيه ويقربه إليه فيضع عليه ستره، أي: يستره أن ينظر إليه الناس فيقرره بذنوبه فيقر بها ويعترف، ويظن أنه هلك، وأنه لا نجاة له، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا له: (أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) ، ثم يعطى كتابه بيمينه. فهذا اللفظ هو من لفظ حديث ابن عمر، كما جاء في الصحيحين أنه قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعته يقول: (يدني الله جل وعلا عبده المؤمن، فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فإذا اعترف بها وظن أنه قد هلك قال له جل وعلا: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم يعطى كتابه بيمينه) ، ومعنى كونه يضع عليه كنفه أي: يستره عن نظر الخلائق. والكنف هنا هو الستر، وهذا من رحمة الله جل وعلا؛ لئلا يرى الناس ما يحدث له من تغير الوجه؛ فإنه إذا عرضت عليه أعماله يتغير وجهه ويسود ويشتد كربه، فمن رحمة الله أنه يستره، وهذا للمؤمن. أما الفاجر والمنافق والكافر فيصاح به على رءوس الأشهاد فيقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، ويقال أيضاً: إن فلان ابن فلان خسر خسارةً لا ربح بعدها أبداً. أو: شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً. ثم إنه جاء في الحديث: (أن العرض يكون ثلاث عرضات: عرضتان جدال ومعاذير، والعرضة الثالثة تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله، ولكن الترمذي قال: إنه حديث فيه نظر. ومعروف تساهل الترمذي رحمه الله، إلا أن الإمام أحمد رواه بسندٍ حسن، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وكذلك في كتاب شعب الإيمان وقال: إنه حديث حسن. وبعض العلماء صححه. فقوله هنا: (جدال ومعاذير) يدل على أن هناك كلاماً بين الرب جل وعلا وبين عباده، وأنهم يتكلمون ويعتذرون، ولكن أكثرهم لا يؤذن لهم فيعتذرون، كما قال جل وعلا: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:38-40] ، وقال: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35-36] ، فقوله: ((هذا يوم لا ينطقون)) ليس هذا للخلق كلهم، وإنما لبعضهم، ((ولا يؤذن لهم فيعتذرون)) هؤلاء هم الذين جاءت النصوص في أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، هؤلاء هم الذين لا يؤذن لهم فيعتذرون، وكذلك لا يخلى بينهم وبين النطق بالكلام، وإنما الإذن والاعتذار والمعاذير تكون للمؤمنين الذين وقعوا في الكبائر ووقعوا في الذنوب، فمنهم من يُعذر ومنهم من لا يُعذر حتى يُدخل النار فيطهر على حسب أعماله. وقوله: (ويحاسب الله الخلائق) جاء في وصف الحساب أن الله جل وعلا سريع الحساب، وجاء أنه جل وعلا يحاسب كل فرد على حدة، ففي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) . فهل الخطاب هنا في قوله: (كل واحد منكم سيكلمه ربه) للمؤمنين خاصة، أم للأمة؟ من المعلوم أن النصوص لا تتضارب ولا يعارض بعضها بعضاً، فهنا الكلام للمؤمنين؛ لأنهم هم الذين يُكلَّمون، وأكثر الخلق لا يكلَّمون ولا يؤذن لهم في الاعتذار؛ لأن الكفار ليس عندهم إيمان، وليس لهم حسنات فيحاسبون عليها، وليس لهم حسنات فتوضع في الميزان، ولهذا جاء نفي ذلك عنهم، كما قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ، يقول جل وعلا في الذين كفروا: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] ، وفي الآية الأخرى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] ، وقوله: ((وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)) أي أنه يُجزى يوم القيامة، فهو يظن أن له أعمالاً وأنها تنفعه، فإذا بعث يوم القيامة تبين أنها ليست بشيء، ثم يلقى جزاءه، وليس هناك محاسبة، إلا أنها تعرض عليه وتعدد له سيئاته حتى يعترف ويقر بأن الحكم عليه عدلٌ من الله جل وعلا، فيحمد الله على ذلك، ويعلم أنه لا يصلح له إلا هذا الحكم، ولا يناسب له إلا هذا الجزاء. ولهذا لما ذكر الله جل وعلا القضاء بين الخلائق ذكر بعد الفراغ أنه يحمد جل وعلا بعد انتهاء الحساب، كما قال جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:68-69] إلى أن قال جل وعلا: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] . يقول العلماء في قوله تعالى ((وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ)) : يدل حذف الفاعل على أن هذا عامٌ مطلق، وأن جميع من قضي بينهم يقولون: ((الحمد لله)) على قضائه. لأنه قضى بالعدل الذي لا يستحق المقضي له إلا ذلك، ولا يليق به إلا ذلك.

شروط قبول الأعمال

شروط قبول الأعمال قال: (وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها) . هذه هي المحاسبة، أي أنه يقال للكافر: هذه أعمالك التي عملتها، فهل تقر؟ ولابد من الإقرار بها. وفي صحيح مسلم: (أن الكافر يجزى بحسناته في الدنيا، فيوافي يوم القيامة ولا حسنة له) ، وكونه يجزى في الدنيا؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل من الكافر عملاً يثاب عليه؛ لأن قبول العمل له ثلاثة شروط، لابد أن يتوافر فيه ثلاثة شروط: الشرط الأول: الإيمان. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:112] . أي: حالة كونه عمل وهو مؤمن؛ إذ لابد من الإيمان. الشرط الثاني: أن يكون على السنة. أي: أن العمل جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بالاختراعات والآراء والاستحسانات؛ لأن البدع كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود عليه لا يقبل. الشرط الثالث: الإخلاص بأن يكون العمل خالصاً لوجه الله جل وعلا، كما قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، فعلى هذا أي عملٍ يعمله الكافر فإنه لا يُعتد به ولا ينفعه، ولكن من كرم الله وجوده وتمام عدله أنه يجزيه به في الدنيا إذا كان العمل عمله لله، فإذا عمل الكافر عملاً لله، مثل صلة الرحم، وإطعام الفقراء، والإحسان إلى المحتاجين وما أشبه ذلك فإنه يجزى به في الدنيا. وأكثر الكفار يقولون: نعمله إحساناً للإنسان. ولا يقصدون به وجه الله، وإنما يقولون: نعمله للإحسان إلى الناس. لأن الإنسان له قيمته وله كرامته، وينبغي أن يحسن إليه، وإذا عملوا ذلك يجزون أيضاً كما في هذا الحديث الصحيح، يجزون به في الدنيا، وجزاؤهم في الدنيا هو صحة أبدانهم ووفرة أموالهم وأولادهم وما يُعطون من المنافع التي يستهلكونها في الدنيا. (أما المؤمن فإنه يعطى بحسناته في الدنيا ويجزى عليها أيضاً في الآخرة) ، وهذا أيضاً جزء من تمام الحديث الذي في الصحيح، والذي لا يحصل له شيء من جزاء أعماله في الدنيا يكون جزاؤه أكمل في الآخرة، ولهذا ذكر عبد الرحمن بن عوف -وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم- حالتهم السابقة فقال: إنا آمنا وهاجرنا، فمنا من استكمل حسناته ومنا من عجلت له بعض حسناته، وأخشى أن أكون ممن عجلت له حسناته. يعني: ليس الذي يعجل له شيء من الحسنات كالذي مات ولم يأخذ شيئاً من الجزاء. والله جل وعلا كرمه واسع، وقد أمرنا وشرع لنا أن نقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] ، فعلى المؤمن أن يسأل ربه في الدنيا والآخرة، وفضل الله واسع وكرمه يعم.

الأسئلة

الأسئلة

الميزان له لسان

الميزان له لسان Q هل هناك دليلٌ صحيح على أن للميزان لسان؟ A الميزان لا يكون إلا بلسان، وبدون لسان لا يكون ميزان، فلابد أن يكون له لسان يعرف رجحانه من عدمه، وهذا أمرٌ يدل عليه كلمة (ميزان) ، وقد أثبت العلماء ذلك من هذا.

وزن العامل يوم القيامة

وزن العامل يوم القيامة Q إذا قلنا: إن الذي يوزن هو الأعمال. فكيف نقول في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما لأثقل في الميزان من جبل أحد) ؟ A قد أجبنا عن هذا في نفس الشرح.

يجب الإيمان بأمور الآخرة دون السؤال عن الكيف

يجب الإيمان بأمور الآخرة دون السؤال عن الكيف Q كيف يوزن العمل وهو وصف قائمٌ بالعامل، وليس بجسم حتى يوزن؟ A الله جل وعلا لا يعجزه شيء، فهو على كل شيءٍ قدير، فـ (كيف) غير واردة أصلاً، وأمور الآخرة لا يقال فيها: (كيف) ، كما لا يقال في صفات الله وفي أفعاله: كيف.

موقف الخوارج والمعتزلة من الميزان

موقف الخوارج والمعتزلة من الميزان Q بماذا فسر الخوارج الميزان؟ A الخوارج أنكروه، وكذلك أكثر المعتزلة أنكروه، وقالوا: الميزان عبارة عن العدل.

مفارقة الكرام الكاتبين للإنسان في أماكن قضاء الحاجة

مفارقة الكرام الكاتبين للإنسان في أماكن قضاء الحاجة Q ذكر أن الكرام الكاتبين لا يفارقون الإنسان، فكيف إذا دخل الخلاء، هل يكونون معه في مكان النجاسة؟ A إذا دخل الخلاء يكون الملك قريباً منه ويستمع، فإن تكلم سجله عليه، ولهذا نهي عن هذا الكلام في هذا الموضع، وكذلك إذا اتصل الإنسان بأهله فإنه يفارقه، ولكن ليست مفارقة بعيدة؛ لأنهم لا يشاهدون العورات ولا يجلسون عند الأمور المستبشعة، فإذا تكلم فإنه يأتي ويسجل، ولهذا جاء في الحديث: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم) ، يعني: استح منهم ولا تتكلم في مثل هذه المواقف. وهم كرام عند ربهم جل وعلا، فينبغي أن يكرموا، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] ، ومن كرمهم أنهم لا يأتون إلى هذه الأماكن ولا يكونون فيها.

تفسير الطائر في قوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)

تفسير الطائر في قوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) Q ورد في تفسير الطائر في الآية أنه نصيب الإنسان في الدنيا وما كتب له فيها من رزق وعمل، فهل هذا صحيح؟ A هذا داخل في عمله، فالقول واحد وإن اختلفت العبارة، فالطائر هو ما طار من عمله، ويشمل كل عملٍ يعمله.

الكفار يتفاوتون في العذاب

الكفار يتفاوتون في العذاب Q هل صحيح أن أعمال الكافر في الدنيا ترفعه من دركات النار إلى أعلاها؟ A لا. ولكن الكفار ليسوا على طبقة واحدة، فالكفار بعضهم مجرمون وجرمهم كبير، وبعضهم أقل جرماً، فيوضعون حسب أعمالهم، فمنهم من يكون في الدرك الأسفل، ومنهم من يكون فوق، وهكذا، فالله جل وعلا حكمٌ عدل، لا يظلم أحداً شيئاً.

معنى قوله تعالى: (كل من عليها فان)

معنى قوله تعالى: (كل من عليها فانٍ) Q قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، ما المراد بهذه الآية؟ A المراد بـ ((كل من عليها)) من على الأرض أو الحياة، فكل من كان حياً فإنه سيموت، ولهذا ذكر أن هذا يشمل حتى الملائكة، وأنه لا يبقى إلا الأول والآخر الذي ليس قبله شيء وليس بعده شيء سبحانه وتعالى، وهذا في الوقت الذي يكون بين النفختين: نفخة الصعق ونفخة البعث، ففي هذا الوقت لا يبقى أحد حياً، حتى الملائكة وحتى جبريل عليه السلام، وإنما الباقي هو الله جل وعلا، ولهذا جاء أنه سبحانه يقبض السماوات والأرض بيده، ثم يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ؟ أين ملوك الدنيا؟ أين الجبارون المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه ويقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، فلا يوجد أحد يجيبه من الخلق، بل كلهم موات، وهذا يكون بين النفختين: النفخة الأولى والنفخة الثانية التي يكون فيها البعث، ثم بعد ذلك يبعث الخلائق وتبقى الجن والإنس والملائكة أحياء، فهؤلاء في العذاب وهؤلاء في النعيم دائماً ما دامت السماوات والأرض.

شرح العقيدة الواسطية [21]

شرح العقيدة الواسطية [21] من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والجزاء والحساب، والإيمان بالحوض والشفاعة، والإيمان بالميزان والصراط، على ما جاء في الكتاب والسنة، وعلى ما فهمه سلف الأمة.

وجوب الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أحداث

وجوب الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أحداث قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العقيدة الواسطية: [وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يضمأ بعدها أبداً، والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة، وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخلها من الأمم أمته. وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة كي يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها. ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله أقواماً فيدخلهم الجنة] . هذه الأشياء التي ذكرها داخلة في الإيمان باليوم الآخر؛ لأن المقصود باليوم الآخر كل ما يحصل بعد الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولكن لما كانت بعض التفاصيل التي تكون في الآخرة أنكرها أهل البدع مثل الحوض والشفاعة وما أشبه ذلك، فنص العلماء عليها رداً لهذه البدعة ولهذه الضلالة، وذلك أن ما ذكره الله جل وعلا أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم بالاسم والتعيين فإنه يتعين الإيمان به، وإلا فسيكون الإنسان ناقص الإيمان إن لم يكن الإيمان زائلاً؛ لأن ربنا جل وعلا أخبرنا أن الإيمان لا يقبل التجزئة، فإما أن يؤخذ كله أو يرد كله، والذي رد البعض فهو كالذي رد الكل.

حوض النبي صلى الله عليه وسلم

حوض النبي صلى الله عليه وسلم الحوض في اللغة: مجتمع الماء الذي يجتمع فيه. وحوضه صلى الله عليه وسلم تواترت فيه الأحاديث، وقد ذكر السيوطي في كتابه (البدور الزاهرة) أن أحاديث الحوض رواها خمسة وخمسون صحابياً، ثم سرد رواياتهم في الكتاب المذكور، ومنهم الخلفاء الراشدون، وبعض الصحابة له عدة روايات مثل أنس ومثل أبي هريرة وغيرهما. ومع أن الأحاديث في الحوض متواترة فقد أنكره الخوارج وإخوانهم من المعتزلة وأهل البدع بلا دليل ولا معنىً عقلي يقتضي ذلك، وإنما هو تعنت وضلال، وخليق بمن أنكره أن يحرم وروده والشرب منه. والصحيح أن كل نبي له حوض في الموقف. وأما تعيينه وأين يكون، وهل قبل الصراط أو بعد الصراط فمحل خلاف بين العلماء، وإن كان بعضهم يرجح أنه يكون قبل الصراط، كما قاله القرطبي، وقال: إن هذا يقتضيه المعنى. ولكن المعنى والعقل لا دخل له في هذه الأمور، وقد جاء في حديث لقيط بن صبرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد الصراط وإن كان هذا الحديث يضعفه بعضهم، ولكن جاءت له شواهد، وقد صححه طوائف من العلماء، وفيه أنه قال: (ثم تعبرون الصراط، وتأتون على حوض نبيكم صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة كانت) ، وذلك أن الصراط منصوب فوق جهنم، ولابد أن ينال العابر من حرها ومن سمومها ولهبها ما يناله، فيقع له الظمأ الشديد، فيكون الحوض بعد ذلك، وأما الجمع فكما يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأحاديث فيه متفقة؛ فإنه يمكن أن يكون قبل الصراط وبعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه مسيرة شهر) أي: عرضه مسيرة شهر وطوله مسيرة شهر. فيكون جزء منه قبل الصراط وبقيته بعد الصراط، ويكون الورود عليه أولاً وآخراً. وعلى كل حال مثل هذا لا يضر، وإنما الذي ينبغي هو الإيمان به وإثباته كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنبياء كلهم لهم أحواض يردها المؤمن بهم، فكل من آمن بنبي فإنه يرد حوضه. وأما ما جاء عن صالح عليه السلام أنه ليس له حوض، وأن حوضه هو ضرع ناقته التي أخرجها الله جل وعلا لقومه فهذا غير صحيح، ولم يثبت ولم يصح. ثم إنه جاء في وصف الحوض بأن ماءه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأنه يصب فيه ميزابان من الجنة واحد من ذهب والآخر من وَرِق -من فضة- يقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] . وثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغفا إغفاءة ثم استيقظ وهو يضحك، فإما سألوه أو قال لهم: إن ربي أعطاني نهراً في الجنة، أعطاني الكوثر، وهو نهر عليه خير كثير) ، وذكر أن كيزانه مثل نجوم السماء، وأن الوارد عليه أكثر من الوارد على أحواض الأمم الأخرى؛ لأن هذه الأمة هي أكثر الأمم اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحوضه هو الحوض الأعظم والأكبر، وهذا فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعين القول به، أما ما جاء في تفسير بعض السلف أنه خير كثير فهو داخل فيه. وفي الصحيح عن أنس أنه قال: (يا رسول الله! أسألك أن تشفع لي. فقال: أنا فاعل إن شاء الله. فقال: أين أجدك؟ قال: على الصراط. فقلت: وإن لم أجدك هناك؟ قال: عند الميزان. قلت: وإن لم أجدك؟ قال: عند الحوض، لا أعدو هذه الثلاث) . وجاء أنه صلى الله عليه وسلم يقف عليه ومعه عصا يذود عنه من خالف سنته وتركها. وجاء في صحيح مسلم: أنه يكون قائماً عليه فيرد عليه قوم من أمته قال صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم ويعرفونني، ثم يخرج رجل ويحول بيني وبينهم، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار. فأقول: وما لهم؟ فيقول: لم يزالوا مرتدين على أدبارهم) . وجاء أيضاً في الصحيح أنه يختلج أقوام ممن يرد على الحوض ويذهب بهم إلى النار. وهذه النصوص تدل على أن الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الذي يعبر الصراط يدخل الجنة، فمن عبر الصراط لا يُرجع به إلى النار، ولكن جاءت أحاديث أخرى فيها أنه بعد الصراط. أما ما قاله بعض العلماء: إنه حوضان واحد قبل الصراط، والآخر بعده فهذا -كما يقول ابن القيم -: شأن الضعفاء من العلماء الذين يعيهم الجمع بين الأحاديث فيجعلون الجمع متعدداً. أما ما علل به الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بأن المناسب أن يكون بعد الصراط لأن الحوض بجوار الجنة ومدده من الجنة، ولو كان قبل الصراط لحالت النار بين الماء الذي يأتي من الجنة وبينه فهذه كلها تعليلات؛ وأمور الآخرة أمور فوق العقل والنظر والاجتهاد، وتعيين أنه قبل الصراط أو بعد الميزان أو قبل الميزان وما أشبه ذلك يحتاج إلى نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب إثباته في الموقف، ولهذا ذكره المؤلف بعد ذكر المحاسبة، والمحاسبة يكون بعدها الميزان وتطاير الصحف كما سبق. ويكون الحوض في العرصات، والعرصات هي المواقف، ولهذا قال: (وفي العرصات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم) والعرصات هي المواقف التي يقفون بها للحساب والمسائلة، وهي تختلف، وقد جاء في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: على الصراط) ، وفي رواية لـ أم سلمة رضي الله عنها أنه قال: (في الظلمة قبل الصراط) أي: هناك مكان مظلم توزع فيه أنوار الناس على حسب إيمانهم، فليس لأحد نور إلا ما يعطى، وإلا فهم في ظلمة عظيمة، وتختلف أنوارهم، فمنهم من يكون نوره مثل الجبل أمامه، ولكن هذا النور لا يبصره إلا صاحبه فقط، وهو الذي يسير به ويبصره، أما الذي بجواره فلا يبصر شيئاً من هذا النور، ومنهم من يكون نوره أقل من ذلك، ومنهم من يكون نوره مثل النخلة، ومنهم من يعطى نوره على إبهام أصبع رجله أو يده ينطفي مرة ويضيء أخرى، فإذا انطفى وقف. وإذا أضاء قدم رجله، وفي هذا يحال بين المؤمنين وبين المنافقين، كما أخبر الله جل وعلا أنهم ينادون ويقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، ولكن لا يستطيعون؛ إذ لا أحد يقتبس من نور أحد؛ لأن هذا جزاء العمل وكل إنسان عمله له، كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] . وقوله: (الحوض المورود) الورود يكون بعد الظمأ وشدة الحاجة إلى الماء، والذين يردونه هم المؤمنون المتبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المبتدعة والضالون فإنهم يذادون عن الحوض. وقوله: (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) يعني أنه جمع بين الصفات الحسنى في المعنى والمرأى، وفي الصفات المعنوية والصفات المحسوسة المشاهدة. وقوله: (وآنيته عدد نجوم السماء) الآنية: هي الكيزان التي يشرب بها. وتكون عند الحوض، وكل من مد يده إليه وضُع فيها كأس، فيأخذه ويشرب، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، وهذا هو أول نعيم المؤمن يناله من الجنة. وقوله: (طوله شهر وعرضه شهر) يعني أنه متساوي الأطراف، وهذا شيء عظيم وكبير جداً، وعلى هذا الكبر يأتي يوم وعليه زحام، يتزاحم الناس عليه ليشربوا منه، مع أنه لا يرد عليه إلا المؤمنون المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كثيرون. وقوله: (من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) يعني أنه لا يناله عذاب بعد ذلك، فإذا شرب هذه الشربة فقد خلص من كل المخاوف التي تكون في ذلك الموقف، وصار هذا عنوان سعادته وأول نعيمه الذي ينعم به في الجنة.

الصراط الذي يكون في الآخرة

الصراط الذي يكون في الآخرة قوله: (والصراط منصوب على متن جهنم) يعني أنه فوق جهنم، وذلك أن النار تحول بين الناس وبين الجنة، وليس هناك طريق إلى الجنة إلا من فوق النار، والصراط هو الجسر أو القنطرة التي توضع فوق النهر مثلاً، أو بين جبلين، أو ما أشبه ذلك. وأما الصراط الذي في الآخرة فهو الجسر الذي يكون فوق النار، والنار قعرها بعيد جداً، ولهبها حار جداً، ولهذا جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: إنه أحر من الجمر -لأنه فوق النار- وأحد من السيف. وجاء أنه أيضاً يروغ -أي: يتحرك- وليس ثابتاً، وجاء أنه أروغ من الثعلب، وليس المعنى أن الناس يمشون عليه كما يمشون على الجسور والقناطر التي توضع، وإنما يمشون على قدر أعمالهم.

الصراط صراطان

الصراط صراطان والصراط الذي ذكر في الكتاب والسنة صراطان: أحدهما معنوي، وهو في الدنيا، وهو دين الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن استقام على هذا الصراط المعنوي فإنه يستقيم على ذلك الصراط، ويكون له مثل الوادي، ويكون عليه مطمئناً، بل يعبر عليه عبوراً سريعاً جداً، أما إذا حاد عن الصراط المعنوي الذي هو دين الله وصار يتركه لأعلام أخرى ولبنيات الطريق فتختلجه الشهوات أو الشبهات أو الأهواء يميناً وشمالاً ومرة يدخل فيه وأخرى يخرج فإن هذا هو الذي لا يستقيم له الصراط، ويكون بالنسبة إليه حاراً جداً، ويكون متحركاً سريع الحركة ودقيقاً بحيث لا تثبت قدمه عليه.

أقسام الناس في المرور على الصراط

أقسام الناس في المرور على الصراط والناس أقسام: منهم من يؤمر به إلى جهنم من أول الأمر، وهؤلاء هم الكفار الذين لا يقيم لهم الله جل وعلا وزناً، فليس لهم حسنات، وإنما هم كفرة. ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء أيضاً ليسوا كثيرين بالنسبة للناس، وإنما هم قلة، ولهذا عدهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه الأمة منها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ، وسبعون ألفاً بالنسبة للأمة من أولها إلى آخرها قليل جداً، وهذه الأمة هي أكثر الأمم دخولاً الجنة، وأكثرها إيماناً، وهي أيضاً أكرم الأمم على الله؛ فإن هذه الأمة أول من تنشق عنها قبورها، وأول من يسبق إلى الموقف إلى المكان المرتفع فيه، وأول من يسبق إلى ظل العرش، وأول من يعبر الصراط، وأول من يدخل الجنة. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) ولكن هذه الخيرية للمؤمنين، أما الكفرة والمجرمون فهم أشد الناس عذاباً؛ لأن الذي يكفر بأفضل الرسل وبأفضل الأديان يستحق أشد العقاب. ثم العبور على الصراط عبور بالأعمال، ولهذا قال: (فمنهم من يمر كلمح البصر) يعني: عبوره فوق الصراط في السرعة مثل ما يغض الإنسان بصره. (ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح -أي: في السرعة-) ، ومنهم من يمر كالطير ثم كأجاود الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو ويزحف، ومنهم من يسقط مرة وتتعلق يده الأخرى، وتسقط رجله وتتعلق الرجل الأخرى وهكذا. ومنهم من يخطف من على الصراط؛ لأن الصراط كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليه كلاليب وحسك. ثم قال: أتدرون ما الحسك؟ شويكة تكون في نجد هل رأيتموها؟ قالوا: نعم. قال: إنها مثلها غير أنه لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا) ، ومعنى ذلك: أن عليه كلاليب معطفة موكلة بأناس معينين تمسكهم وتلقيهم في النار، فمنهم من يخدش، ومنهم من يكردس في النار، ومنهم من يبقى وقتاً طويلاً يسير على الصراط، فإذا نجا التفت وقال: تبارك الذين نجانا منك - يخاطب النار! - لقد أعطانا الله شيئاً لم يعطه أحداً من العالمين يقول هذا مع أن المؤمنين قد سبقوه بكثير جداً، ولكن الذي ينجو من النار يكون قد أعطي شيئاً عظيماً جداً، وكل أحد سوف يعبر عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] و (واردها) يعني: يرد جهنم. وهذا قسم من الله جل وعلا، أقسم على أن كل الخلق سيردون جهنم، ولكن الورود لا يقتضي الدخول؛ لأنه قد يكون للمعاينة والمشاهدة، ولكونه وصل إلى الشيء وكاد يسقط فيه، ولهذا قال جل وعلا بعد ذلك: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ، فالذي يعبر الصراط هم المتقون فقط الذين يتقون ربهم، وهذا أيضاً من الأمور التي يجب الإيمان بها كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أنكر ذلك فإنه يكون ضالاً. والناس يمرون عليه على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس، أي: كركض الخيل، ومنهم من يمر كركض الإبل، ومنهم من يمر كركض الرجل، ومنهم من يكون ماشياً، ومنهم من يكون زاحفاً وحابياً على حسب الأعمال؛ لأن المرور بالأعمال. ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، أي أن الإنسان إذا كان قد ارتكب من الخطايا والذنوب التي يستحق بها دخول النار ولم يعف الله عنه خطف من على الصراط وألقي فيها. وقوله: (فمن مر على الصراط دخل الجنة) يعني أن الذي يعبر عليه قد نجى من النار، وأعطاه الله جل وعلا فضلاً عظيماً، ومنَّ عليه منّةً كبرى. فإذا عبروا، أي: انتهى المؤمنون من عبورهم حبسوا في صراط آخر اسمه (قنطرة) والقنطرة: هي الشيء المرتفع. وقد يكون بناءً، وقد يكون على شيء يعبر وهو تحت القنطرة، وقد يكون مرتفعاً فقط، وبعض العلماء يقول: إن هذه القنطرة هي بقية الصراط، وهي امتداده من جهة الجنة؛ لأن الجنة في السماء، والنار يؤتى بها في ذلك اليوم في الموقف، والموقف يكون في أرض ليست هذه، وإنما أرض بيضاء نقية لم يعمل عليها خطيئة، ولم يعص الله جل وعلا عليها، وأما هذه فإنها تبدل وتزال، والله جل وعلا يغير الكون كله ويبدله، فيوقفون على هذه القنطرة ويحبسون، ثم يقتص لبعضهم من بعض في المظالم التي عليهم، وهذا القصاص يكون من المظالم التي علم الله جل وعلا أنها لا تأتي على حسناتهم، وإنما يفضل لهم حسنات يدخلون بها الجنة، فيؤخذ لكل مظلوم من ظالمه في ذلك الموقف، وهذا القصاص في هذا المكان خاص بالمؤمنين الذين يدخلون الجنة، أما الظلمة والكفرة فإن الاقتصاص منهم يكون قبل الصراط، فإذا نُقوا من جميع المظالم وهُذبوا وطُهورا أُذن لهم في دخول الجنة، وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينزع ما في قلوبهم من غل، أي: كل ما كان لبعضهم على بعض من أحقاد أو أمور تغري فإنه يُنزع من قلوبهم بعد المقاصة والمحاصة، ثم بعد ذلك يؤذن لهم في دخول الجنة.

الشفاعة وأنواعها

الشفاعة وأنواعها ثم ذكر المصنف الشفاعة، والشفاعة: مأخوذة من الشفع الذي هو ضد الوتر. وذلك لأن الشافع يضم طلبه إلى المشفوع له، فسميت شفاعة لأجل أن الشافع يضم طلبه إلى المشفوع له، فيصبح الطلب طلبان: طلب الشافع وطلب المشفوع له، أما تعريفها بأنها طلب الخير للغير فهذا عام، والشفاعة أقسام، وذكر منها ثلاث شفاعات: الشفاعة الأولى: الشفاعة الكبرى التي قال الله جل وعلا فيها: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] ، فـ (مَحْمُوداً) يعني: يحمده عليه الأولون والآخرون. ومعنى ذلك أن هذه شفاعة عامة شاملة للخلق كلهم من الجن والإنس، ولهذا سميت (كبرى) ، وهذه الشفاعة هي الشفاعة في الموقف قبل الحساب، وقبل إتيان الرب جل وعلا إليهم، وهي الشفاعة في طلب المحاسبة والإراحة من عناء الموقف، وقد جاء تفصيلها في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصلها تفصيلاً يجب أن يؤمن به، وهذه هي التي يتدافعها أولوا العزم من الرسل، بل أول ما يبدأ في طلبها تطلب من أبي البشر آدم عليه السلام، وآدم يقول العلماء: إنه ليس من أولي العزم؛ لقول الله جلا وعلا: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] ، وإنما أولوا العزم هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، وهؤلاء ذكروا جميعاً في آيتين من القرآن في سورة الشورى وسورة الأحزاب، قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتأسى بهم في الصبر. فيشتد الكرب في ذلك اليوم لطول الوقوف، وقد ذكر الله جل وعلا أن هذا اليوم يكون كخمسين ألف سنة، وقد جاء تفصيل ذلك في الأحاديث، كحديث الوعيد في الذي لا يؤدي الزكاة، وأنه إذا كانت زكاته ذهباً أو فضة يكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وإذا كانت زكاة غنم أو إبل أو غير ذلك فإنه يعذب بها، وكذلك جاء قول الله جل وعلا: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج:4-10] ، وفي بعض الآيات أنه ألف سنة، كقوله تعالى: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ، وهذا يختلف باختلاف أعمال الناس، فمنهم يكون عليه أقل من ذلك، ومنهم من يطول عليه طولاً شديد فيكثر الكرب والشدة عليه. فإذا طال الأمر على أهل الموقف يلهمهم الله جل وعلا فيقولون: لماذا لا نطلب إلى ربنا جل وعلا الشفاعة؟ فيقول بعضهم لبعض: من أولى بذلك من أبيكم آدم؟ فإن الله خلقه بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته. فيأتون إليه ويقولون له ذلك، فيقول: لست كما تظنون، أنا عصيت ربي، نهاني عن شيء فعصيته، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني لا أسأل ربي إلا نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإن الله سماه عبداً شكوراً، وهو أول رسول أرسله الله جل وعلا إلى أهل الأرض. فيأتون إليه فيعتذر ويقول: كان لي دعوة دعوت بها على قومي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى موسى، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى عيسى، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه خاتم الرسل؛ فهو عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا كله يدل على شدة الموقف، وأن الأمر شديد جداً؛ فالأنبياء أولوا العزم يخافون، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (فإذا أتوا إلي أذهب إلى مكان تحت العرش، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فيفتح علي من المحامد والثناء ما يرضى به عني، ثم يقول جل وعلا: أي محمد! أرفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فيطلب من ربه جل وعلا أن يأتي لمحاسبة عباده وإراحتهم من الموقف فيعطيه الله جل وعلا ذلك فيأتي. وهذه هي أول شفاعة، وهي الشفاعة العظمى التي تشمل الخلق كلهم. الشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم استحقوا دخول النار من أهل التوحيد في ألا يدخلوها، وهذه ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم، بل يشاركه فيها الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحون وغيرهم من الشفعاء. الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، فيشفع فيهم حتى يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويشفع فيهم وهذه أيضاً ليست خاصة به، بل يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة وغيرهم من الشفعاء. الشفاعة الرابعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أهل الجنة الجنة، وفي افتتاح باب الجنة، وهي خاصة به صلوات الله وسلامه عليه، وقد صحت أحاديث كثيرة في أنه صلى الله عليه وسلم أول من يفتتح باب الجنة، وأول من يدخلها، إذ لا يدخلها أحد من الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يدخلها أحد من الأمم قبل أمته صلى الله عليه وسلم. الشفاعة الخامسة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، يشفع فيه فيخرج من طبقات النار ويوضع في ضحضاح من نار يصل كعبيه يغلي منها دماغه، يعني: أنه يخفف عنه عذاب النار فقط، وإلا فهو لن يخرج منها، وهذه أيضاً خاصة، ولا تنافي الآيات كقوله جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة؛ لأن هذا دليل خاص، فيخص العموم؛ ولا يكون ذلك مخالفاً. الشفاعة السادسة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع بعض درجات أهل الجنة وهذه أيضاً ليست خاصة به، بل يشاركه فيها غيره من الشفعاء. فهذه ستة أقسام قد صحت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما القسم الأول والقسم الخامس والسادس يعني: شفاعته في الموقف، وشفاعته في افتتاح الجنة، وكذلك شفاعته في رفع درجات بعض أهل الجنة هذه الثلاثة الأقسام لا خلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدعة. وأما الذي أنكره أهل البدع: المعتزلة والخوارج ونحوهم فالشفاعة في الذين ارتكبوا الكبائر وماتوا عليها بلا توبة، وكذلك الشفاعة فيمن دخل النار فإن هذه ينكرونها؛ مع أن الأحاديث فيها متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا في إنكارهم بآيات من كتاب الله جل وعلا كقوله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] ، وكقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] وكقوله جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] في آيات كثيرة. وهذه عادة أهل البدع أنهم يأخذون عمومات من كتاب الله بدون النظر والرجوع إلى الأمور المحكمة والآيات التي تنص على غير ذلك؛ فيضعونها على حسب مرادهم، ويضربون بعضها ببعض، فيتأولونها ابتغاء الفتة وابتغاء أهوائهم وما توافقه آرائهم، وهكذا شأن أهل البدع. فيجب على المؤمن أن يؤمن إيماناً جازماً لا يختلجه شك بأن كلام الله جلا وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتعارضا، وأن بعضه يوافق بعض، ويصدق بعضه بعضاً، وإذا بدا للإنسان شيءٌ من التعارض فإن هذا توهم منه وقصور، فالتعارض موهوم وليس حقيقة؛ لأن كلام الله لا يتعارض، ولا يجوز أن نأخذ البعض ونترك البعض. هذا الرد الإجمالي. أما الرد التفصيلي على هؤلاء فبالنصوص التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتلالهم بأنها أخبار آحاد لا يقبل، بل أكثر أمور الإسلام أخبار آحاد، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك كما هو معلوم، فهذه تكية يتكئ عليها أهل البدع ويعتلون بها وهي باطلة، وقد ألف فيها العلماء مؤلفات كثيرة، وبينوا بطلانها، واحتجوا عليها بحجج كثيرة جداً.

أقسام الناس في الشفاعة

أقسام الناس في الشفاعة الناس في الشفاعة ثلاثة أقسام: القسم الأول: عمموها وجعلوها تقع بلا شروط. وهؤلاء هم المشركون الذين زعموا أن أصنامهم تشفع لهم، وتبع هؤلاء المشركون في كل طبقة من طبقات الناس الذين يتعلقون بالمخلوقين، كالذين يدعون الأولياء أو الأنبياء أو غيرهم، ويزعمون أنهم إذا دعوهم شفعوا لهم ولو لم يأذن الله ولم يرض، وهذا القسم قد أبطله القرآن صراحة، وهو ضلال. القسم الثاني من الناس: الذين آمنوا ببعض وردوا بعضاً، كما ذكرنا عن الخوارج والمعتزلة ونحوهم، فهؤلاء آمنوا ببعض الشفاعات وردوا بعضها الآخر، فالشفاعة الكبرى التي لا يدخل فيها أحد النار أو الجنة وإنما هي لأجل الجزاء والمحاسبة هذه أقروا بها، والشفاعة التي تكون لافتتاح الجنة لأهل الجنة لأنها ليس فيها لهم نجاة من نار ولا منع عقاب استحقوه وإنما دخولهم الجنة بأعمالهم أقروا بها، أما الذي يدخل الجنة فلا مانع بأن يشفع له فيرتفع في الدرجات، هذه الأمور أقروا بها، أما الشفاعة فيمن يستحق النار ألا يدخلها أو فيمن دخلها أن يخرج منها فهذه أنكروها، وبذلك ضلوا. القسم الثالث: الذين اتبعوا النصوص، وهم أهل الحق، أهل السنة الذين اتبعوا النصوص وقالوا بمقتضاها، وهذا هو الذي أُريد ذكره وتقريره هنا في هذه العقيدة المختصرة.

شروط الشفاعة وفائدتها

شروط الشفاعة وفائدتها ثم إن الشفاعة التي يثبتها أهل السنة لها شروط، والشروط كما جاءت في النصوص: القسم الأول: الإذن للشافع أن يشفع. إذ لابد أن يأذن الله جل وعلا للشافع قبل أن يشفع، ولا يمكن أن أحداً من الخلق مهما كان مقامه أن يتقدم ويطلب الشفاعة بدون إذن الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، وهذا استفهام إنكار. الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع له. إذ لابد أن يرضى الله جل وعلا عن المشفوع له؛ لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] في آيات بينت هذا، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه) أي أنه لابد أن يكون موحداً. فإذا كانت الشفاعة لابد أن تكون بإذن الله ولمن رضي فقد يقول قائل: فما فائدة الشفاعة؟ فنقول: فائدتها هي إكرام وإظهار كرامة الشافع ورحمة المشفوع، هذه حقيقتها.

الشفاعة لله تعالى

الشفاعة لله تعالى والواقع أن الشفاعة لله، كما قال الله جل وعلا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:43-44] ، فهي له جل وعلا، ويقول جل وعلا: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23] ، والله جل وعلا لا يأذن إلا لأهل الإخلاص، أما المشركون فإن الله جل وعلا أخبر أن من مات مشركاً فإن الجنة عليه حرام، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] . وعلى هذا فما استدل به أهل البدع على نفي الشفاعة من الآيات ليست في المؤمنين الموحدين، وإنما هذه الآيات في الكافرين؛ لأنهم هم الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وهم الذين لا تقبل فيهم الشفاعة ولا يقبل منهم الفداء. فالواجب التمييز بين أهل الإيمان الذين ماتوا على الإيمان وإن كان عندهم ذنوب وبين الكافرين، وحقيقة الأمر أن الشفاعة لأهل التوحيد المذنبين الذين ماتوا على كبائر وذنوب استحقوا بها دخول النار أو دخلوا بالفعل، ثم من وراء هذا كله رحمة أرحم الراحمين؛ فإنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وقد جاءت النصوص في أن الله جل وعلا إذا أدخل أهل الجنة الجنة بقي فيها فضل ومساكن ليس فيها أحد، فينشئ الله لها خلقاً جديداً ويسكنهم الجنة، وجاءت النصوص أيضاً في أن الله يخرج أناساً من النار قد احترقوا فليقيهم في نهر من أنهار الجنة، ثم ينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يسكنهم الله جل وعلا الجنة.

شرح العقيدة الواسطية [22]

شرح العقيدة الواسطية [22] الشفاعة يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهي رحمة من الله تعالى لعباده، ينجو بها من يشاء الله تعالى له النجاة من النار، وترتفع بها درجات المؤمنين في الجنة، وحقيقتها إرادة الله تعالى إكرام الشافع، ورحمة المشفع له.

الشفاعة لله

الشفاعة لله يقول المصنف رحمه الله: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة. وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده. ] تقدمت أقسام الشفاعة وأن منها ما هو عام وما هو خاص، وهذه الأقسام من الأسباب التي ينجو بها من شاء الله جل علا أن ينجو من النار وكل الأمر راجع إلى الله جل وعلا، كما قال جل وعلا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:43-44] ، فالملك كله له. وسبق أن حقيقة الشفاعة إرادة الله جل وعلا إكرام الشافع وإظهار ذلك للخلق ورحمة المشفوع له، فالأمر كله لله جل وعلا.

الشفاعة لأهل التوحيد فقط

الشفاعة لأهل التوحيد فقط قوله: (ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة) يعني: هؤلاء قوم من أهل التوحيد دخلوا النار، أما أهل الشرك وأهل الكفر فلا يخرجون من النار أبداً، كما أخبر الله جل وعلا عنهم بقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ، وهذا معلق على شيء مستحيل، وإذا كان مستحيلاً فخروجهم من النار مستحيل، وسم الخياط هو فتحة الإبرة، ولا يمكن أن يدخل الجمل منها؛ فإنه مستحيل، وكذلك قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167] ، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، و (كلما) للشيء المتجدد الذي لا نهاية له، وإنما الخارج من النار بمشيئة الله ورحمته هم أهل التوحيد الذين أخلوا بشرع الله وأمره وارتكبوا الكبائر فاستحقوا دخول النار، ارتكبوا ذنوباً كثيرة أوبقتهم، ثم إن الله جل وعلا يرحمهم ويخرجهم برحمته، وهؤلاء خارجون عن شفاعة الشفعاء؛ لأنهم ليس عندهم شيء يستحقون به أن يشفع لهم، وقد جاء تعيين الذين يشفع لهم: (من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) . إلى أن قال: (أدنى أدنى مثقال حبة) ، وبعد ذلك يخرج الله جل وعلا من غير هؤلاء من يدخلهم الجنة وقد احترقوا وكانوا حمماً، فيلقيهم الله جل وعلا في نهر من أنهار الجنة فتنبت أجسادهم كما تنبت البقول والأعشاب، فيعرفون بعد ذلك بأنهم عتقاء الرحمن من النار، وقوله في الحديث: (من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خير، أو قال: من إيمان) يقول العلماء: هذا شيء زائد على أصل الإيمان الذي لا بد منه لدخول الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ عن ربه جل وعلا في المجامع أنه: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) وهذا شيء تكاثرت فيه النصوص، وهؤلاء الذين يخرجهم الله جل وعلا من النار بفضله ورحمته عندهم أصل الإيمان.

فضل الله الواسع وكرمه

فضل الله الواسع وكرمه قوله: (ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها) يعني: فضل مساكن، (فينشئ الله لها أقواماً) إنشاءً لم يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول الجنة، ينشئهم فيسكنهم فضل الجنة؛ لأن الله جل وعلا أقسم بعزته أنه سيملأ الجنة ويملأ النار، وأن ذلك وعداً عليه، ولسعة الجنة وكثرة مساكنها يبقى فيها فضل عمن يدخلها ولو بعد الشفاعة، وهذا بمشيئته جل وعلا، وأما ما في الصحيح صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: (إن الله ينشئ أقواماً فيسكنهم النار، ولا تزال النار تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فينشئ الله أقواماً فيسكنهم النار) فهذا -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -: غلط من الراوي انقلب عليه، والبخاري رحمه الله بين أن هذا غلط بذكر الصواب بعده في حديث أنس، وأن هذا في الجنة وليس في النار، أما النار فإن الله أقسم بعزته أنه سيملؤها من بني آدم ومن ذرية الشيطان {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [هود:119] ، فهم الذين يملؤون النار، وقد ورد أنها لا تزال تقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، تطلب الزيادة: (فيضع الله جل وعلا فيها رجله - تعالى وتقدس - فينزوي بعضها على بعض -يعني: تتضايق على أهلها- وتقول: (قط قط) يعني: حسبي قد امتلأت، ويكفيني ما ألقي فيّ والله لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يسكن النار إلا من جاءته الرسل كما دل على ذلك كتاب الله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك:8-9] ، ولهذا فكل من ألقي فيها تسأله الخزنة: هل أتاكم من نذير؟ فيقولون: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] ، ثم قال عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] ، فالذي عنده سمع ينفع وعقل يستفيد منه لا يكون من أصحاب جهنم؛ لأن الأدلة والنذر جاءته، وإنما يكون من أهل النار الذين لم يستفيدوا من أسماعهم وأبصارهم والأدلة التي أقامها الله جل وعلا لهم.

تفاصيل اليوم الآخر ثابتة في الكتاب والسنة

تفاصيل اليوم الآخر ثابتة في الكتاب والسنة ثم قال: (وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار تفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم المأثور عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده) . سبق أن هذا كله من الإيمان باليوم الآخر، وأن هذا مذكور في القرآن بكثرة، ونصوص المعاد وتفاصيله كثيرة جداً، وقد أخبر الله جل وعلا عن اليوم الآخر بأنه قريب، وأخبر عن شدته وعن عظمته كثيراً، قال جل وعلا: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] ، {الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2-3] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] ، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم:39] في كثير من آيات كتاب الله يحذر فيها عن هذا اليوم؛ لما فيه من الفظائع والعظائم، وتفاصيله موجودة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تفسر ذلك وتوضحه، والأنبياء الذين قص الله قصصهم علينا في القرآن نصوا على هذا فإبراهيم عليه السلام يقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] إلى آخر ما طلب من ربه، ونوح عليه السلام أنذر قومه وقال: {أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18] إلى آخره وهكذا بقية الأنبياء يذكرون هذا اليوم ويحذرون منه ويخبرون أقوامهم بأنهم سيكونون بين يدي الله ويجازيهم بما عملوا. أما رسولنا صلى الله عليه وسلم لكون أمته هي آخر الأمم فقد جاء بتفصيل ذلك تفصيلاً دقيقاً، كأنه يشاهد ذلك اليوم، وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يطلبها، وأن يتعرف عليها ثم يعمل على ذلك، وهي كثيرة وموجودة.

شرح العقيدة الواسطية [23]

شرح العقيدة الواسطية [23] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يصح الإيمان إلا به، قد ضلت في هذا الباب طوائف كثيرة؛ لأنهم حكموا عقولهم، وخاضوا فيه بآرائهم، فأتوا بالأقوال المتناقضة الباطلة، وهدى الله أهل السنة والجماعة، فلم يتعمقوا في هذا الباب؛ لأنه سر الله، ولم يحكموا عقولهم وآراءهم؛ بل نظروا إلى أدلة الشرع كلها وآمنوا بجميعها، فكان قولهم وسطاً بين طرفين، وهدى بين ضلالتين.

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية

أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية يقول المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره. والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق. فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب! قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً: فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه: (بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) ونحو ذلك. فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكره اليوم قليل] . انتقل المصنف إلى أصل آخر من أصول الإيمان التي لابد منها، والذي لا يؤمن به لا يكون مؤمناً بل لا يكون مسلماً يعني: يكون كافراً وهو: الإيمان بالقدر. فقال: (وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره) . وقد سبق شرح قوله: (الفرقة الناجية) وأن الناجية: وصف للفرقة وأن النجاة تكون في الدنيا أولاً ثم تكون في الآخرة، أما النجاة في الدنيا فهي أنهم لا يفتتنون في دينهم، ولا ينكصون على أعقابهم ولا ينالهم أذى، بل ربما قتلوا وربما أصيبوا بأضرار كثيرة ولكن الله يثبتهم على دينهم فيكونون على ذلك منصورين، كما حصل لأولياء الله جل وعلا السابقين من الرسل وغيرهم، فإنهم ثبتوا على الدين وإن قتل من قتل منهم ومع ذلك فهم منصورون وناجون؛ لأن الذي يثبت على عقيدته وعلى أمر الله جل وعلا منفذاً له في طاعة الله يكون منصوراً. وقوله: (أهل السنة والجماعة) وصف للفرقة الناجية بأنهم أهل السنة، يعني: اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سنه، وتمسكوا بذلك، وهم أهل جماعة ليسوا أهل فرقة؛ لأن من صفة هذه الفرقة أن تجتمع على الحق امتثالاً لأمر الله كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فالتفرق ليس من صفة هذه الفرقة بل هو من صفة أهل البدع.

الشر لا يضاف إلى الله جل وعلا

الشر لا يضاف إلى الله جل وعلا وقوله: (بالقدر خيره وشره) يعني: الشيء الذي يضر والشيء الذي يسر، فكل ما وقع للإنسان من خير أو شر فهو مقدر من الله، وإضافة الشر إلى القدر ليس معنى ذلك أن الشر يضاف إلى الله جل وعلا ولكنه يضاف إلى المفعولات وإلى المخلوقات، وليست المفعولات أفعاله بل المفعول غير الفعل، ففعل الله يوصف به، ولكن المفعول هو المخلوق المحدث، كما قال الله جل وعلا: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يعني: من شر الذي خلقه، فالشر في المخلوق؛ لأن الشر يكون من مخالفة أمر الله وعدم امتثاله هذا هو مصدره، أما الشيء الذي يفعله الله: خلقاً وإيجاداً وأمراً فليس فيه شر وإنما فيه خير، وله فيه حكمة وعدل، ولهذا لا يكون شراً، والشر يكون إضافياً؛ ولهذا لم تأت إضافة الشر إلى الله جل وعلا في شيء من النصوص، بل جاء نفي ذلك كما قال أعلم الخلق به صلوات الله وسلامه عليه: (والشر ليس إليك) يعني: لا نسبة ولا فعلاً فلا ينسب إليه، وليس هو من أفعاله، فأفعاله كلها خير، وإنما الشر يكون بسبب فعل المخلوق، ويكون ذلك داخلاً في تقديره تعالى وتقدس؛ لأن كل شيء ملك له وتحت تصرفه.

أقسام الشر في القرآن

أقسام الشر في القرآن والشر في كتاب الله جل وعلا جاء على ثلاثة أقسام: القسم الأول: دخول الشر في عموم خلق الله جل وعلا: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فلم يأت أن الله خلق الشر أبداً وإنما دخل في العموم: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . القسم الثاني: أن الشر إذا جاء في كتاب الله حذف فاعله كما قال مؤمن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] ولما جاء الرشد والخير أضافه إلى الله والشر حذف فاعله؛ لأنه من المخلوق. القسم الثالث: أن يضاف إلى المخلوق كقوله جل وعلا: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) وهذا هو الأدب الذي يجب أن يسلك؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) ينزه ربه أن يكون الشر مضافاً إليه لا وصفاً ولا فعلاً.

درجات الإيمان بالقدر ومراتبه

درجات الإيمان بالقدر ومراتبه قال: (والإيمان بالقدر على درجتين، وكل درجة تتضمن شيئين) هذا بالتفصيل.

المرتبة الأولى من مراتب الدرجة الأولى من درجات القدر: العلم

المرتبة الأولى من مراتب الدرجة الأولى من درجات القدر: العلم ثم قال: (الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم) . القديم هنا المراد به: الأزلي الذي لم يسبق بعدم، يعني: ليس له مبدأ، فعلم الله صفة من صفاته، والله هو الأول بلا بداية وكذلك صفاته؛ لأن الله بعلمه وبسمعه وببصره وبسائر صفاته: أول بلا بداية، ليس له مبدأ وهذا معنى الأزل، وعلم الله علم بالأشياء على الدقة وعلى الإحصاء لكل شيء، فلا يقع شيء ولا وقع شيء إلا وقد علمه الله جل وعلا بعلمه القديم الأزلي قبل وجوده، هذا شيء يجب اعتقاده ومن لم يعتقد هذا ولم يؤمن به فإنه ليس بمؤمن، ولهذا اتفق العلماء على أن من أنكر علم الله الأزلي أنه كافر، كما قال الشافعي وغيره لمن أنكر القدر: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، وهذا معناه: أنه يسأل: هل علم الله جل وعلا هذه الأشياء في علمه الأزلي قبل وجودها؟ فإن أقر أنه علمها خصم، يعني: يلزمه الإقرار بالقدر، وإن أنكر ذلك كان كافراً. هذه الدرجة الأولى وهي: الإيمان بعلم الله الذي ليس له مبدأ، وعلم الله لا يخرج منه شيء فهو عليم بكل شيء، وهذا على العموم، فهو سبحانه يعلم ما سيقع، وأنه سيقع على الصفة التي وقع عليها، وفي الزمن والوقت المحدد الذي وقع فيه لا يتعداه ولا يزيد ولا ينقص عن علم الله جل وعلا، فعلم الله لا يتغير، وسيأتي الكلام على ما يستشكله بعض الناس في بعض النصوص في ذلك، فالعموم في هذا على إطلاقه يعني: أن الله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] ولا يخرج من علمه شيء، أي: الأشياء الممكنة الواقعة، والأشياء الممكنة غير الواقعة، أما الشيء المستحيل الممتنع فهذا يعلم الله جل وعلا أنه لا يقع؛ لأنه ممتنع، فعلمه لا يخرج عنه شيء، وهذا مثل: كون الشيء موجوداً معدوماً في آن واحد، فهذا لا يسمى شيئاً؛ لأنه مستحيل غير ممكن، وأما الشيء الذي يطلق عليه أنه ليس في الوجود وإن علم أنه يوجد، فهذا يكون ليس شيئاً في ذلك الوجود في ذلك الوقت وجوداً وعيناً، ولكنه شيء في علم الله، علم الله أنه سيكون شيئاً كما قال الله جل وعلا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] ، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] يعني: ليس شيئاً مشاهداً ولا موجوداً، ولكنه شيء مكتوب في علم الله، أي: علمه الله، أما الشيء المستحيل الممتنع فإنه لا يدخل في هذا ولا يكون شيئاً ومع ذلك يعلم الله جل وعلا أنه ليس بشيء، ولهذا لما ادعى الكفار أن لهم آلهة تشفع لهم عند الله قال جل وعلا: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] يعني: أن هذا لا يقع ولا يمكن أن يقع فالله يعلم أنه لا يقع، فإذا كان لا يقع فهو ليس بشيء وإنما هو زعم ودعوى فقط. والشيء الذي يمكن وهو لم يقع يعلم الله جل وعلا أنه لو وقع سيكون على كذا وكذا، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] أخبرنا ربنا جل وعلا أن أهل النار لا يردون إلى الدنيا فهذا لا يقع، ومع ذلك أخبر أنه لو قدر أن هذا يحصل ويوجد فإنهم سيعودون إلى أفعالهم وكفرهم وفجورهم، فعلم الله عام وشامل لا يخرج عنه شيء، ويجب أن يكون على عمومه وشموله.

تغير الأقدار

تغيرّ الأقدار أما ما جاء أن الأقدار قد تتغير: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] ، وفي الحديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) وأن الدعاء يعتلج مع البلاء حتى يرده وما أشبه ذلك، فهذا في الواقع ليس فيه إشكال، وكذلك قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] هنا يوجد محو ويوجد إثبات، وأخبر أن عنده أصل الكتاب، وأصل الكتاب ليس فيه محو ولا إثبات، والجواب عن هذا: أولاً: قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قال المفسرون: الضمير هنا يعود إلى غير المعمر (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ) أي: من عمر معمر آخر، يعني: ما يعمر من معمر فيكون عمره طويلاً، وكذلك لا ينقص من عمر معمر آخر فيكون عمره قصيراً: (إِلاَّ فِي كِتَابٍ) يعني: كل شيء مكتوب وليس نفس المعمر هو الذي ينقص من عمره، وقالوا: هذا مثاله أن تقول: عندي دينار ونصفه، فالنصف ليس هو نصف الدينار الأول، وإنما هو نصف دينار آخر، وهذا مثله. وأما ما جاء في الحديث من أن الدعاء يرد القدر، وأن الصلة تزيد في العمر، فهذا ليس فيه معارضة؛ لأن الدعاء نفسه من القدر الذي قدره الله وكتبه، وقد علم أن هذا الشخص يدعو فيكون هذا الدعاء سبباً في صرف البلاء الذي لو لم يدع لأصابه، وكذلك الصلة فإن الصلة مقدرة ومكتوبة في الأزل: أن هذا الشخص يصل رحمه ويكون ذلك سبباً في زيادة العمر وقد كتب ذلك، وأن الآخر لا يصل ويكون ذلك سبباً في نقصان عمره، وليس كما يقول بعضهم: إن الإنسان يكتب له أجلان: أجل طويل فيما إذا وصل، وأجل قصير فيما إذا قطع، فيكون هذا فعل المتردد الذي لا يدري هل يقع هذا، أو يقع هذا؟ تعالى الله عن ذلك، وإنما الصواب أن هذا من باب ذكر الأسباب وخلقها، والأسباب مقدرة كلها، ثم قال عمر رضي الله عنه لما جيء إليه بسارق، وسأله: لم سرقت؟ فقال: هذا بقدر الله، فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله! فكل شيء مقدر، ولكن اللوم على الفاعل الذي يرتكب الجرم وهو الذي يستحق العقاب. فالله تعالى: عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأزلي، ولا يقع شيء من أعمال العباد -وإن دقت- إلا وقد علمه الله وكتبه. قوله: (وعلم جميع أحوالهم) أي: علم الأعمال التي سيعملونها، وهذا يشمل كل شيء: الشيء الذي يثابون عليه ويعاقبون عليه، والشيء الذي لا يثابون عليه ولا يعاقبون عليه، حتى اختلاج عروق الإنسان وحركتها بدون إرادته! فلا تقع حركة في هذا الكون إلا وقد علمها الله جل وعلا، وكذلك يعلم حركات الأشجار وسقوط أوراقها كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه في الآية رقم (59) من سورة الأنعام، وكل ذلك علمه قبل وجوده بعلمه الأزلي القديم؛ لأن علمه كامل وتام لا يسبقه جهل تعالى الله، ولا يلحقه نسيان. فالطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كلها معلومة له.

المرتبة الثانية من مراتب الدرجة الأولى من درجات القدر: الكتابة

المرتبة الثانية من مراتب الدرجة الأولى من درجات القدر: الكتابة الشيء الثاني: الكتابة أنه كتب علمه بالخلق الذي سيقع، والكتابة: هي إثبات العلم وليس لأجل أنه ينسى تعالى الله وتقدس: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64] تعالى وتقدس ولكن لحكمته فهذه الدرجة أيضاً يجب الإيمان بها، ففي سنن أبي دواد وغيرها عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة) يعني: أنه خلق القلم فأمره بالكتابة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) والنصوص في هذا كثيرة. والكتابة تنقسم إلى: كتابة عامة، وكتابة خاصة، وهذا سيأتي ذكره عند ذكر المؤلف له. وقوله: (ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق) اللوح المحفوظ: محفوظ عن الاطلاع عليه والمشاهدة من قبل الخلق، وحفظ عن التغيير والتبديل والزيادة والنقص، أما صفته وأين هو؟ فهو بلا شك في السماء، ولكن لا نعرف صفته، وإنما علينا أن نؤمن بأن كل شيء كتب فيه، واللوح هو محل الكتابة، وهذه الكتابة جرت بأمر الله وقدرته، والقلم أمر بالكتابة فكتب، والقلم ليس عليماً بكل شيء، وإنما الله جل وعلا أمره بالكتابة فكتب بقدرة الله الأشياء التي علمها الله، والخلق لا يعلمون ذلك حتى الملائكة. وهذه كتابة عامة شاملة ويجب الإيمان بها، ولا يطلع على اللوح أحد من خلقه إلا من يطلعه على شيء من جزئياته ممن يشاء من الملائكة وغيرهم. وقوله: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفنا، وليس معنى ذلك الإخبار بأن القلم هو أول المخلوقات، فهذا ليس مقصوداً بدليل حديث عبد الله بن عمرو فإنه قال: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) فالكتابة حصلت والعرش كان على الماء، فالماء والعرش موجودان وقت الكتابة, ومعلوم أن العرش والماء مخلوقان من المخلوقات، وهذا في صحيح مسلم، فالصواب في هذا كما قال أهل التحقيق: إن قوله: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) جملة واحدة، والمقصود بها: أن الكتابة حصلت بعد خلق القلم مباشرة بدون فاصل، بل لما خلقه أمره بالكتابة، هذا معنى قوله: (أول ما خلق الله القلم) . وقوله: (ما هو كائن إلى يوم القيامة) المقصود به: الأمور التي تحصل من الدقيق والجليل فكلها مكتوبة. إذاً: فالدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله العام الشامل.

لا حجة للمبطلين في استدلالهم بمحاجة آدم وموسى

لا حجة للمبطلين في استدلالهم بمحاجة آدم وموسى والثانية: الإيمان بكتابته لعلمه، وبهذا يتبين أنه ليس بين العلم والكتابة معارضة لعمل الإنسان؛ لأن الله جل وعلا علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا ويعمل كذا وكذا باختياره وقدرته فكتب علمه، فالكتابة ليست مرغمة للإنسان، كما يتوهمه من يعارض الرب جل وعلا، أو من يبرر كفره ومعصيته وعناده، فلا حجة لمحتج في ذلك، أما ما جاء في الصحيحين، في قصة محاجة موسى وآدم عليهما السلام، قال صلى الله عليه وسلم: (قال موسى: يا ربي! أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة ونفسه، فأراه الله آدم، فقال له موسى: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك بلا واسطة، كم وجدت في التوراة بين خلقي وبين قول الله جل وعلا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ؟ قال: قبل أن تخلق أربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) يذكر ذلك ثلاثاً، يعني: غلبه بالحجة. احتج بهذا بعض المبطلين وقالوا: إن القدر حجة للإنسان على عمله، وهذا باطل؛ وذلك أن موسى لا يمكن أن يكون لام آدم على الذنب الذي تاب منه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولومه معصية، وموسى عليه السلام لا يمكن أن يفعل هذا، وإنما لامه على المصيبة، والمصيبة هي التي وقعت فيه وفي الناس، وهي الخروج من الجنة، والمصيبة ليست فعل آدم، وإنما كتبت عليه؛ فلهذا قال: إن هذا شيء مكتوب عليه، أما الفاعل فلا يجوز أن يحتج بالقدر على فعله، بل يجب عليه أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من فعلي، أما أن يبرر لنفسه ويحتج بالقدر فهذا فعل الشيطان، وبهذا يتبين لنا أن معنى الحديث غير ما ذهب إليه هؤلاء، وهذا يجب أن يفهم لئلا يلتبس الأمر على المسلم. وبعض العلماء يقول: القدر يحتج به على المصائب لا على المعائب، يعني: إذا وقع بالإنسان مصيبة لا يمكن استدراكها ولا يمكن رفعها، فمثل هذا يقول: الحمد لله هذا قدره الله علي، أما العيب والذنب فالواجب التوبة والإقلاع منه والاستغفار منه، ولا يحتج الإنسان عليه بالقدر. قوله: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) يعني: هذا معنى الإيمان بالقدر، يؤمن بأن ما أصابه لا يمكن أن يخطئه، وما أخطأه لا يمكن أن يصيبه، وكلمة: لو فعلت كذا لكان كذا وكذا، هذه جاء اللوم عليها في الأقدار، وهي من عمل الشيطان ولا يجوز قولها؛ لأنها خطأ محض، فالذي يقع لا يمكن أن يتغير، الواقع لا يمكن أن يتغير، قد علمه الله جل وعلا ووقع وإن كان هناك أسباب؛ لأن الله جل وعلا كتب الأسباب والمسببات، وكل شيء له سبب، ولكن لا يقع إلا ما كتبه الله وعلم أنه يقع. قوله: (وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) قوله: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن الأمور فرغ منها وانتهت، ولا يقع إلا ما كتبه الله وأراده، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] لأن كل شيء بقدرته جل وعلا، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] فقوله: (أن نبرأها) إما أن يعود الضمير على الأرض، أو يعود على النفس التي أصيبت، وكلاهما صحيح، والمعنى: قبل وجودها، والبرء: هو الخلق والتمييز.

مواضع الإجمال والتفصيل في القدر

مواضع الإجمال والتفصيل في القدر قوله: (وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً) فالكتابة في اللوح المحفوظ هي الجملة، والتفصيل كما في حديث عبد الله بن مسعود: أنه إذا وضعت النطفة في الرحم، ومضى عليها أربعون يوماً، ثم أربعون يوماً، يأتي إليها ملك ويكتب أربعة أشياء: الرزق، والأجل، والأعمال التي سيعملها من خير وشر، وشقاوته وسعادته التي تترتب على أعماله، هذه كتابة خاصة وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ، ولكن نقلت من اللوح المحفوظ إلى الصحيفة التي يكتبها الملك لهذا المخلوق، وهذا في كل واحد. وكذلك من الكتابات التفصيلية: الكتابة التي تكون بيد الملائكة عندما يبلغ الإنسان خمسة عشر سنة -وهو سن التكليف- فإنها تكتب عليه أعماله، وهذه الأعمال التي تسجل عليه موجودة في اللوح المحفوظ قبل وجوده، فهذا تفصيل لما سبق. وكذلك من التفصيل ما يكون تفصيلاً من وجه وعاماً من وجه آخر: فما يكتبه الله جل وعلا في ليلة القدر كما قال الله جل وعلا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] جاءت الآثار بأن الله يكتب ما يقع في هذه السنة في تلك الليلة، وهي ليلة القدر، فهذا من جهة العموم، ومن جهة التفصيل كونه كتب بعد ما كتب سابقاً فهو تفصيل، والمقصود أن الكتابة تكون عامةً وتكون في محل مفصلة، ولهذا قال: فقد كتب الله في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأن يكتب أربعة أشياء، وهذا الحديث من الأحاديث الأصول في باب القدر.

إنكار غلاة القدرية للعلم والكتابة

إنكار غلاة القدرية للعلم والكتابة قوله: (فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكره اليوم قليل) يقصد بهذا: أن العلم والكتابة هما أول ما أنكره غلاة القدرية في باب القدر، وهذا كفر بلا خلاف، ومن فعل ذلك فهو كافر، وإنكار القدر بدأ في آخر عهد الصحابة، وأول من عرف بالقول به معبد الجهني فقتل على ذلك كافراً؛ لأنه أنكر علم الله وأنكر كتابته وتبرأ منه الصحابة كما في صحيح مسلم أن عبد الله بن عمر قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله لم يقبل الله جل وعلا منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره) ، ثم استدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) والأدلة في هذا كثيرة، وهكذا قال ابن عباس وغيره من الصحابة الذين أدركوا هذه البدعة الكفرية، والواقع أن معبد الجهني ليس هو أول من قال بالقدرة، بل هذا من الأمور التي تبنتها الماسونية من اليهود والمجوس؛ لأنهم لما رأوا انتصار المسلمين واجتماعهم على العقيدة ورأوا أن مواجهتهم بالقوة غير ممكنة، عملوا على إفساد العقائد، فصار هذا من نتائجها، وكذلك القول بنفي الصفات وغيرها، كلها من آثار تلك المؤامرة، ولا تزال هذه المؤامرات تعمل عملها, ولكن لها لبوس في كل وقت، ولها فنون، ولها رجال ولها دول وهذا شيء معروف يعرفه العقلاء.

الإيمان بنفاذ مشيئة الله وشمول قدرته

الإيمان بنفاذ مشيئة الله وشمول قدرته أما الدرجة الثانية: فتتضمن شيئين: الشيء الأول: مشيئة الله النافذة، المشيئة يجب أن تكون عامة شاملة، وقوله (نافذة) يعني: أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا من الأمور التي يؤمن بها المسلمون، ولا يخالفون فيها، فمن خالف فيها فهو خارج عن صفة المسلمين، فمشيئة الله وحده هي التي تمضي وتنفذ، وكل المسلمين يقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا أمر اتفقوا عليه، وفطروا عليه، وعلموه صغيرهم وكبيرهم، فهذه درجة الإيمان بمشيئة الله النافذة. ومن الضلال أن يقول قائل من هؤلاء الضلال: إن الله شاء من الكافر الإيمان، وشاء الكافر الكفر؛ فوجدت مشيئة الكافر وتخلفت مشيئة الله، فهذا ضلال وهو قول القدرية الذين لا يزالون موجودين، وهو ضلال بين وواضح، وهؤلاء هم الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروى كما في السنن: (مجوس هذه الأمة) وذلك أن المجوس يؤمنون بخالقين: خالق الشر وخالق الخير، أو إله النور وإله الظلمة، وإله النور عندهم خير يخلق الخير ويريده، وإله الظلمة شرير يخلق الشر ويريده، وهذا في الواقع شيء يخالف الفطرة؛ لأنه ليس هناك إلا خالق واحد. ولكن وجه الشبه أن هؤلاء جعلوا الناس هم الذين يخلقون أفعالهم: فالكافر يخلق الكفر، والمؤمن يخلق الإيمان، وقالوا: إنه ليس لله مِنَّة على المؤمن، وليس له فضل تفضل به عليه، فالمؤمن يؤمن باختياره وقدرته ومشيئته، والكافر يكفر باختياره وقدرته ومشيئته، مع أن الله جل وعلا يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ويقول جل وعلا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7-8] . وهؤلاء إذا قوبلوا بمثل هذه الآية يقولون: معنى تزيين الإيمان في قلب المؤمنين وتكريه الكفر، أن يقول لهم: إن الكفر جزاؤه النار، وإن الإيمان جزاؤه الجنة، وهذا كفعل الذين يحرفون كلام الله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الإنسان: إن الله على ما يشاء قدير

حكم قول الإنسان: إن الله على ما يشاء قدير Q هل يصح قول الإنسان: إن الله على ما يشاء قدير؟ A يصح ولكن يجب أن يتنبه أنه لا يريد قول أهل البدع: إن مشيئته لا تتعلق إلا بما يقدر عليه، وهذا مقصود شيئ، فإذا كان يعرف هذا وقصده فهذا لا يجوز. فالقدرية يجعلون المشيئة متعلقة بالقدرة، وهو لا يقدر عندهم على خلق أفعال العباد فلهذا يقولون: على ما يشاء قدير، يعني: يقدر على ما يشاء، فالقدرة تتعلق بالمشيئة فقط، وهذا ضلال، والغالب أن الذين يقولون هذه العبارة لا يعرفون هذا المعنى ولا يقصدونه، فإذا كانوا لا يقصدونه ولا يعرفونه فلا بأس بذلك.

كتابة القلم مقادير كل شيء

كتابة القلم مقادير كل شيء Q هل القلم الذي أمر بكتابة المقادير هو لكتابة المقادير أم لجميع الأشياء؟ A لجميع الأشياء، والمقصود بالمقادير: كتابة الأشياء كلها قبل وجودها، وقبل خلق السماوات والأرض ومن فيهن، وقبل خلق الكون، فكتب كل ما يقع من الخلق، فكل شيء مكتوب حتى سقوط الأوراق كما سبق، وحتى تساقط قطرات المطر، فلا يخرج عن الكتابة شيء.

حال الأحاديث الواردة في ذم القدرية

حال الأحاديث الواردة في ذم القدرية Q هل ما جاء في أن القدرية مجوس هذه الأمة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A أما الأحاديث التي فيها: أنهم مجوس هذه الأمة، إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تشهدوهم إلخ، فأكثر هذه الأحاديث حكم عليها العلماء بالضعف، ولكنها كثيرة، وبعض أسانيدها لا بأس به، وإذا نظر إليها بمجموعها فهي من الأحاديث التي يحكم عليها بالقبول، وقول بعض العلماء: إن القدرية ما وجدوا إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع وصفهم؟ فهذا ليس صحيحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن الأشياء التي لم تقع أنها ستقع، وهذا منها.

وجوب الجمع بين نصوص الوعد والوعيد

وجوب الجمع بين نصوص الوعد والوعيد Q قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث، أو مدمن خمرٍ) وفي بعض الروايات: (لا يجد ريح الجنة) فهل هؤلاء غير موحدين؟ A لا يلزم أن هؤلاء غير موحدين، ومثل هذه النصوص: (لا يدخل الجنة مدمن الخمر، ولا يدخلها ديوث) هذه من نصوص الوعيد التي يقول فيها العلماء: إنها لا تدل على خروج الفاعل من الإيمان، ولا خلوده في النار، وإنما يجب أن تبقى على ما هي عليه؛ لتكون زاجرة عن هذا الفعل مع اعتقاد أن الإنسان لا يكفر بهذه الأفعال، هذه عقيدة أهل السنة، فلا يرون أنها تعارض ما ذكر. ثم يجب أن نعرف أن مثل هذه النصوص استدل بها الخوارج الذين حكموا على مرتكب الكبيرة بالنار وبالخروج من الإيمان، وهم في ذلك ضالون مخطئون قطعاً؛ لأن نصوص الله جل وعلا لا تتعارض فيجب الجمع بينها، وهذا هو الجمع، فإن الله جل وعلا لما ذكر القتل -والقتل أعظم من شرب الخمر- أخبر أن القاتل أخٌ للمقتول، والمقصود بالأخوة هنا: أخوة الإيمان: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] فسماه أخاً له، فالأخوة ثابتة؛ ولذلك فهو من المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم رجم المرأة الزانية وصلى عليها، وهؤلاء يقولون: إنه يكفر، وإنه يخرج من الدين الإسلامي، فهم متناقضون في الواقع؛ لأنهم حكموا على نصوص الكتاب بآرائهم وأهوائهم، والواجب إرجاع بعضها إلى بعض وهذا هو الحق.

الكلام على محو المكتوب وإثباته من عند الله

الكلام على محو المكتوب وإثباته من عند الله Q قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] هل هذا يعني: تغيير الشيء المكتوب، وهل يتعارض هذا مع قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) ؟ A هذا فيه أقوال للعلماء: منها: أن المحو والإثبات في نسخ الشرائع، فينسخ الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، ومنها: أن المحو في صحائف الملائكة الذين يسجلون على الإنسان، فيمحى في آخر النهار الشيء الذي ليس عليه فيه إثم، ولا تبعة، ويثبت ما له فيه ثواب أو عقاب، فإما أن يكون المحو في صحائف الملائكة، وإما أن يكون في النسخ، ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فهذا يدلنا على أن ما في أم الكتاب ليس فيه محو ولا تغيير، وأم الكتاب المقصود به: اللوح المحفوظ.

الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية

الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية Q هل الطائفة المنصورة هي نفسها الفرقة الناجية، أم أنهما طائفتان مختلفتان؟ A هي نفسها.

أقسام الإرادة الإلهية

أقسام الإرادة الإلهية Q ما هي أقسام الإرادة الإلهية مع التمثيل؟ A الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية تتفق مع المشيئة وتكون هي والمشيئة شيء واحد. وإرادة دينية شرعية تتفق مع المحبة والأمر، فالمحبة والأمر يوافقان الإرادة الدينية الشرعية الأمرية.

تقييد القدرية لمشيئة الله تعالى

تقييد القدرية لمشيئة الله تعالى Q ما معنى: تحريف القدرية مشيئة الله إلى أمر الله؟ A ما حرفوها إلى أمر الله، وإنما قالوا: مشيئة الله مقيدة بالشيء الذي يقدر عليه، ومن الأشياء التي لا يقدر عليها: أفعال الإنسان، فزعموا أن الله جل وعلا لا يقدر على شيء من أفعال العباد! وهذا تحكم، ومعروف أن أهل الهوى يحكمون آراءهم ويجعلونها مقدمة على نصوص الوحي. ولهذا فهؤلاء القدرية استدلوا على خلق القرآن بقول الله جل وعلا: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فقالوا: أليس القرآن شيئاً؟ قلنا: نعم هو شيء، قالوا: فهو داخل في المخلوق، ثم أخرجوا الصلاة، والصوم، والحج، والكفر، والإيمان التي يفعلها الإنسان، أخرجوها من قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فقالوا: هذه ليست داخلة، وهذا تحكم، مع أن جميع المسلمين يقولون في قول الله جل وعلا: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : إن كلام الله ليس داخلاً في هذا الإطلاق؛ لأن هذا للمخلوقات، وكلام الله صفة من صفاته كعلمه فليس داخلاً في ذلك، وهذا أمر واضح ولكن تحكم الأهواء واتباعها بالمتناقضات.

لا يطلق القول: بأن الإنسان مسير أو مخير

لا يطلق القول: بأن الإنسان مسير أو مخير Q هل يقال: إن الإنسان مسير ومخير في نفس الوقت؟ هذا من الأقوال المجملة التي لا يجوز أن تطلق، فالإنسان ليس مسيراً وليس مخيراً بهذا الإطلاق؛ لأنك إذا قلت: مسير فمعنى ذلك: أنه مجبور وليس له اختيار، وليس له قدرة، وإذا قلت: مخير، فقد وقعت في قول القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يفعل ما يشاء، وإن قدرة الله ومشيئته لا دخل لها في ذلك.

شرح العقيدة الواسطية [24]

شرح العقيدة الواسطية [24] إنكار القدر يأتي على درجتين: فإما أن يكون من باب إنكار العلم والكتابة، وهذا ما وقع من غلاة القدرية، وهو كفر بلا خلاف، وإما أن يكون من باب إنكار أن تكون صفة الخلق والمشيئة عامة وشاملة مع إثبات الصفة، وهذا ضلال مبين لكنه لا يصل إلى الكفر، وأهل السنة يؤمنون بأن القدر هو علم الله وكتابته وعموم مشيئته، وأن الله خالق كل شيء، ولا يقع إلا ما يشاء سبحانه.

السبب في تقسيم القدر إلى درجات ومراتب

السبب في تقسيم القدر إلى درجات ومراتب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم. والعبد هو: المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم. وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق وقدرتهم وإرادتهم؛ كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] . وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة) ، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها] . الدرجة الأولى من القدر جعلها تتضمن شيئين، والدرجة الثانية جعلها تتضمن شيئين، والسبب في هذا التقسيم: أن عدم الإقرار بالدرجة الأولى كفر بالله جل وعلا، فيكون الذي لم يقر بها ولم يؤمن بها ليس بمسلم. وأما الدرجة الثانية فإنكارها ليس كفراً، ولكنه ضلال بين، والسبب في هذا: أن الدرجة الأولى تتضمن علم الله وكتابته، وعلم الله صفة من صفاته الأزلية، لم يزل جل وعلا عليماً ولا يزال كذلك، ولا يمكن أن يقع شيء لم يعلمه الله جل وعلا. والكتابة كذلك أخبرنا ربنا جل وعلا في كتابه في آيات متعددة، وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله كتب كل شيء، فإنكار هذه الدرجة إنكار لما ثبت ضرورة في دين الإسلام فكان منكرها كافراً.

إنكار القدرية لعموم صفة الخلق والمشيئة

إنكار القدرية لعموم صفة الخلق والمشيئة أما الدرجة الثانية: فهي إنكار القدرية عموم الخلق وعموم المشيئة فقط، ولم ينكروا الصفة التي هي مشيئة الله، ولم ينكروا الصفة التي هي خلق الله، وإنما أنكروا أن تكون عامة شاملة في كل شيء، فكانت هذه أقل من الأولى بكثير، ولذلك لم يحكم بكفرهم، وإن كانوا قد ضلوا ضلالاً بيناً، ولكن فرق بين هذه والتي قبلها، وهذا هو سبب تقسيم المؤلف رحمه الله هذا التقسيم، فالدرجة الأولى تحتها شيئان، والدرجة الثانية تحتها شيئان، فمن أجل ذلك فرق هذا التفريق، وإلا فالقدر: هو علم الله وكتابته وعموم مشيئته فلا يقع إلا ما يشاء، وأنه هو الخالق لكل شيء، هذا هو القدر وهذا أمر لابد من الإيمان به، وقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان المسلم إلا به، ولهذا حكم الصحابة رضوان الله عليهم: أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال: (والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره) .

الشر وجوده نسبي ولا يجوز إضافته إلى الله

الشر وجوده نسبي ولا يجوز إضافته إلى الله وسبق أن وصف القدر بأن فيه خيراً وشراً، وهذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فكله خير وعدل وحكمة؛ لأن الله جل وعلا يوصف بالأسماء الحسنى وفعله فعل حسن جميل عدل، وكذلك حكمه وقوله، فلا يجوز أن يضاف إليه شر، وإنما الشر يكون إما بالأثر وإما في المخلوق، وإما أن يكون شراً نسبياً، فمثلاً: الله حكم بأن السارق تقطع يده، وهذا الحكم بالنسبة لله جل وعلا خير وعدل، وهو كذلك بالنسبة للمجتمع خير وعدل وحماية وصيانة لأموالهم، ولكنه بالنسبة للسارق المعين قد يكون شراً حيث قطعت يده، ومن ناحية الألم وفقده العضو، أما من ناحية أنه كفارة لهذا الفعل الذي فعله، فيكون خيراً، فالخيرية أكثر والشر يكون جزئياً، وهكذا يقال في كل قضية من القضايا، فشر القدر أو حلوه ومره نسبي، ومعلوم أن الأعمال التي يعملها الإنسان في الدنيا من فعل الشهوات والمشتهيات أن عاقبتها تكون شراً عليه، وإن كان يجد لها لذة ساعة فعلها. فالمقصود: أن يذكر العموم: وهو أن الله جل وعلا خلق كل شيء. عرفنا الدرجة الأولى التي هي علم الله، وأن الله عليم بكل شيء وأنه لا يخلو من علمه شيء من الأشياء أزلاً وأبداً وهذا أمر واضح وجلي، وهذا الأمر عام مطلق يشمل الموجود والمعدوم والذي لا يوجد يعلمه لو وجد كيف يكون، كما سبق التمثيل في ذلك، وأما الكتابة فإنه كتب علمه الذي علمه في المخلوقين قبل وجودهم كما في بعض النصوص كحديث عبد الله بن عمرو الذي في صحيح مسلم: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة) وكذلك حديث عبادة: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، وسبق الجمع بين هذين الحديثين وأنه ليس بينهما اختلاف، فقوله: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) قوله: (وكان عرشه على الماء) جملة حالية يعني: في حالة الكتابة كان عرشه موجوداً على الماء.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم) وأما قوله في حديث عبادة: (أول ما خلق الله القلم) جاءت فيه روايتان: إحداهما: (أولُ) بضم اللام (أولُ ما خلق الله القلمُ) فيكون أول مبتدأ والقلم خبره وهذه جملة، (فقال له: اكتب) وهذه جملة أخرى. الرواية الثانية: (أولَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب) بالنصب، ويكون (أولَ) معمولاً لخلق والمعنى: الإخبار بأن خلق القلم وقعت بعده الكتابة مباشرة بدون فرقن فلما خلقه قال له: اكتب فلم يحصل فاصلاً بين خلقه وبين الكتابة، وهذا هو القول الصحيح، فيكون موافقاً لحديث عبد الله بن عمرو، ولم يرد به: الإخبار عن أولية المخلوقات وإنما أريد الإخبار بأن الكتابة وقعت بعد خلق القلم مباشرة بدون فرق فيكون موافقاً لحديث عبد الله بن عمرو، ويكون خلق العرش والماء قبل خلق القلم؛ لأنه في حالة الكتابة كان العرش والماء موجودين. وهذه الكتابة كتابة عامة شاملة لم يخرج عنها شيء دقيق ولا جلي بل كل شيء كتب قبل وجوده، وهذا من تمام علم الله جل وعلا، أما الإشكال الذي يترتب على هذا فسيأتي حله إن شاء الله.

الكلام على درجة المشيئة وأقسامها

الكلام على درجة المشيئة وأقسامها ثم ننتقل إلى الدرجة الثانية: وهي المشيئة العامة، وهي أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، يعني: أن مشيئته عامة شاملة فلا يقع شيء بغير مشيئته سواء كان من الخير أو من الشر، أو كان من الطاعات أو من المعاصي من الإيمان أو من الكفر، فكل شيء يقع بمشيئة الله جل وعلا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويجب أن يعلم: أن كل شيء ملك لله جل وعلا وأنه لا يخرج من ملكه شيء، وأنه خلق الخلق بإرادته ومشيئته وهم عبيد له، ولكن الله جل وعلا جعل لبعضهم عقولاً وإدراكاً وكلفهم، وبعضهم جعلهم مسخرين للعقلاء أو خلقهم لعبادته، وسبق بيان الفرق بين المشيئة وبين الإرادة وأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة دينية أمرية شرعية، تتضمن أمر الله وشرعه كقوله جل وعلا لما فرض الصيام ثم خفف عن عباده المرضى والمسافرين: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فإرادة اليسر وعدم إرادة العسر أمر شرعي. وإرادة كونية قدرية: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فهذه إرادة كونية، وهذه الإرادة الكونية تتفق مع المشيئة، والمشيئة لا تنقسم، بل هي واحدة، وهي مشيئة عامة لا يخرج عنها شيء، والإرادة الكونية تتفق معها وهي مرادفة لها، فمشيئته جل وعلا عامة كقدرته، فلا يمكن أن يوجد شيء لا يشاؤه الله، ولا يعدم شيء يشاؤه الله. فمشيئته جل وعلا تتعلق بالموجودات وبالمعدومات يعني: بالشيء الموجود والشيء الذي لا يوجد إذ لو أراد وجود المعدوم لوجد، ولكنه لم يرد ذلك فصار معدوماً، وهذه ردها القدرية ولم يؤمنوا بعمومها فقالوا: إن الكافر هو الذي يشاء الكفر، والمؤمن هو الذي يشاء الإيمان، والله لا يشاء الكفر؛ لأن الله حكم عدل، ولو شاء الكفر للكافر للزم من ذلك أنه يعذبه على شيء هو من فعل الله، هذه الشبهة التي عرضت لهم فلم يقبلوا عموم المشيئة، ويأتي الجواب عن هذا إن شاء الله.

الكلام على مرتبة الخلق

الكلام على مرتبة الخلق أما الخلق فالله جل وعلا خالق كل شيء، ويجب أن لا يكون هناك شيء مخلوق لغيره، وإن كانت كثير من الأشياء من أفعال الناس، ولكن الله هو الذي أوجد لهم القدرة على هذا الخلق كما قال جل وعلا: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ومعلوم أن الناس هم الذين يصنعون بيوتهم ويبنونها ومع ذلك قال جل وعلا: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) وكذلك الجلود التي يستظل بها ويستدفأ بها فتمنع الحر والبرد، والخيام وغيرها، وكذلك ما يتخذ من اللباس من أصواف الأنعام ومن أوبار الإبل ومن أشعار المعز وغيرها كلها لابد أن تدخلها صناعة الإنسان وفعله، ومع ذلك جعلها خلقاً له جل وعلا؛ لأنه هو الذي خلقها؛ ولذلك قال جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] يعني: الذي تعملونه قد خلقه، وليس في هذا متعلق لأهل القدر، وهذه الدرجة -وهي درجة الخلق- رد عمومها القدرية الذين ينكرون أن يكون الرب جل وعلا خالقاً لأفعال الناس للشبهة التي ذكرنها وهي: أنه لو كان خالقاً لأفعالهم للزم أن يكون معذباً لهم على فعله هو، وسيأتي حل هذه الشبهة والجواب عنها إن شاء الله. ولهذا قال: (وأما الدرجة الثانية فهي: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة) النافذة يعني: الماضية التي لا ترد، والشاملة العامة التي لا يخرج عنها شيء، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، يعني: كل موجود وجد بمشيئته، وكل معدوم فقد بمشيئته جل وعلا، هذا عموم لا يخرج عنه شيء. قوله: (وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله جل وعلا) كل شيء يتحرك سواءً كان ذلك بفعل العاقل الاختياري أو ليس بفعله الاختياري كنبض عروقه وكحركة الأشجار وسقوط الورق وغير ذلك، كل شيء يتحرك فهو بمشيئته، وكل شيء يسكن فهو بمشيئته؛ لأنه جل وعلا هو المالك لكل شيء، وهو عليم بكل شيء، وقدير على كل شيء تعالى وتقدس. قوله: (لا يكون في ملكه إلا ما يريد) فكل شيء ملك له وليس لأحد من الخلق شيء، ولكنه يعطي ما يشاء ويُملِّكُ من يشاء ملكاً مستعاراً يزول منه ويذهب. قوله: (وأنه سبحانه على كل شيء قدير) يعني: أنه خلق الخلق بقدرته، وأنه لا يخرج عن خلقه شيء، فهو على كل شيء قدير، و (شيء) هنا عام لا يجوز أن يخرج منه شيء، فدخل فيه أفعال الخلق التي تصدر منهم سواء كانت صالحة أو فاسدة، يعني: سواء كانت طاعات أو معاصي فهي داخلة في هذا العموم والله خالقها. قوله: (من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه) والرب هو: الموجد الذي يوجد الشيء ثم يربيه بما يلزم من إيجاد النعم ودفع النقم ودفع كل ما يضاد الحياة أو يذهب بها، فهو المالك المتصرف المنعم، ومع ذلك -يعني: مع هذا العموم وهو كونه جل وعلا لا يقع الشيء إلا بمشيئته وكونه جل وعلا الخالق لكل شيء- أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية، وأمره بالطاعة ونهيه عن المعصية لا يخالف كونه جل وعلا لا يقع إلا ما يريد، وكونه الخالق لكل شيء، وكونه كتب كل شيء، بل يتفق معه؛ لأن الله جل وعلا علم هذا المخلوق قبل وجوده وعلم أنه سيفعل كذا وكذا باختياره فكتب علمه، وليس معنى ذلك أن الكتابة مجبرة ومرغمة للإنسان على أن يفعل كذا، وإنما أمره بالشيء الذي يستطيع أن يفعله باختياره، فإذا أقدم على شيء فإنه يقدم عليه باختياره وقدرته.

الاعتماد على الأسباب شرك وإنكارها قدح في العقل

الاعتماد على الأسباب شرك وإنكارها قدح في العقل ثم إن الله جعل لكل شيء سبباً، فالأسباب وما يترتب على الأسباب مخلوق لله جل وعلا ومقدر، ولهذا يقول العلماء: النظر إلى الأسباب والاعتماد عليها شرك؛ لأن الواجب أن يعتمد الإنسان على ربه جل وعلا، ويفعل السبب على أنه سبب وليس هو الذي يؤثر ويوجد بسببه، وكذلك الإعراض عن السبب قدح في العقل، فالذي يترك السبب لا يكون عاقلاً، فلا يمكن أن يوجد عالم بلا تعلم، ولا تاجر بلا عمل ولا تجارة، ولا يوجد ولد بلا نكاح، فالذي يترك الأسباب ويعطلها يكون غير عاقل، والإعراض عن الأسباب أيضاً وتركها نهائياً وعدم النظر إلى أنها تؤثر بقدرة الله ومشيئته قدح في الشرع؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً وأمر بفعل السبب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، ثم احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل) فقوله: (احرص على ما ينفعك) أمر بفعل الأسباب، والمؤمن الضعيف هو الذي لا يفعل السبب الفعل التام ويكون عنده ضعف وهذا الضعف لا يحبه الله جل وعلا، فالله يحب أن يكون قوياً، ولا يكون قوياً إلا بفعل الأسباب، ولهذا يقول جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] والإعداد: هو فعلهم، وإن كان فعلهم مخلوقاً لله جل وعلا، ولكنه باختيارهم. قال: (ومع ذلك) يعني: مع كونه هو الخالق لكل شيء، وأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته: (فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته) ومخالفة رسله، وأمره ونهيه لا يخالف قدره ولا يخالف مشيئته كما زعم الكفرة الذين كفروا بالله جل وعلا. قوله: (وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين) ، المتقي: هو الذي يفعل المأمور ويترك المنهي عنه، هذا هو المتقي، والمحسن: هو الذي يبالغ في ذلك ويعمل غاية جهده في إحسان عمله ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، والله يحب ذلك، وهذا من فعلهم حقيقة.

لا تعارض بين الخلق والمشيئة والرضا

لا تعارض بين الخلق والمشيئة والرضا قوله: (والمقسطين) المقسط: هو العادل، يعني: أنه يحب الذين يعدلون في أحكامهم وأقوالهم وما ولوا مما وكل إليهم، فهو يحب أن يقع منهم؛ لأنه أمرهم به. قوله: (ولا يحب الكافرين) مع أن الإحسان والعدل لا يقع إلا بمشيئته وإرادته، ولا يقع إلا بخلقه فأحب وقوعه من العباد؛ لأنه أمر به، ويكره الكفر ويبغضه والمعاصي والمخالفات وهي لا تقع إلا بمشيئته، ولا تقع إلا بخلقه، ومع ذلك يكرهها ويبغضها وليس في هذا تعارض فهو لا يحب الكافرين (ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء) والفحشاء: هي كل فعل يكون فاحشاً قبيحاً ويكرهه ويبغضه ذوو النفوس السليمة والعقول المستقيمة، سواء كان من الأقوال أو الأفعال. قوله: (ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد) ، يعني: أن أمره جل وعلا يتفق مع محبته، فإذا أمر بشيء أحب وجوده، ولكن مشيئته وخلقه لا يلزم أن يكون راضياً بما شاء وجوده وما شاء خلقه، فقد يكون راضياً عنه وقد يكون كارهاً له ساخطاً عليه، وهذا مثل وجود إبليس وجنوده فإنه وجد بمشيئته وبخلقه وهو جل وعلا يكره وجوده، وكذلك مثل وجود الكفر من عباده ووجود المعاصي من العاصي، فإنه لا يوجد الكفر والمعاصي إلا بمشيئته وبخلقه وهو يكره وجوده ويبغضه.

قدرة العباد الحقيقية على فعل أفعالهم لا تعارض دخولها تحت مشيئة الله

قدرة العباد الحقيقية على فعل أفعالهم لا تعارض دخولها تحت مشيئة الله ثم قال بعد ذلك: (والعباد فاعلون حقيقة) ، يعني: أنهم يفعلون أفعالهم، فإذا آمن الإنسان فهو المؤمن حقيقة، وإذا كفر فهو الكافر حقيقة، وإذا صلى فهو المصلي حقيقة، كما أنه إذا أكل فهو الآكل حقيقة، وإذا شرب فهو الشارب حقيقة، وإذا نام أو جلس فهو أو النائم الجالس حقيقة، وإذا جاء فهو الجائي وإذا ذهب فهو الذاهب حقيقة، فالأفعال تضاف إليه حقيقة، وهذا رد على الجبرية الذين ينكرون أن يكون فعل الإنسان حقيقة. قوله: (وللعباد قدرة على أعمالهم) وهذه القدرة ظاهرة؛ لأنه لو لم يكن له قدرة ما وقع منه الفعل، (ولهم إرادة) وبالإرادة مع وجود القدرة تحصل أعمالهم، وهذا جواب عن قول الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأفعال واقعة في فعلهم حقيقة، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) فجعل الاستقامة موكولة إلى مشيئتهم، ثم نفى أن تقع مشيئتهم خارجة عن مشيئته، وهذا ليس فيه تناقض؛ لأن مشيئتهم مضافة إليهم مخلوقة لهم، والله خلقهم وخلق مشيئتهم، فهي لا يمكن أن توجد بلا خلقه وبلا مشيئته، ولكنها إذا وجدت فهم يفعلون بها حقيقة، وفعلهم الذي يقع منهم يقع بمشيئتهم وبإرادتهم حقيقة، والآية ظاهرة في هذا.

تكذيب القدرية بخلق الله لأفعال العباد

تكذيب القدرية بخلق الله لأفعال العباد قال: (وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة)) جاءت تسميتهم في أحاديث كثيرة بأنهم مجوس هذه الأمة، وهذه الأحاديث رواها أهل السنن وغيرهم، وهي بمجموعها صحيحة، ولا يشكل بذلك قول بعضهم: إن هذا لا يصح؛ لأن وجود القدرية وقع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هؤلاء يرد عليهم بالقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بما يوحيه الله جل وعلا إليه، ونظير هذا إخباره بالمستقبلات التي ستقع وهذه منها فإنها وقعت بعده، والتسمية بأنهم مجوس؛ لأن المجوس يقولون: إن الموجودات بين اثنين: خالق للخير وخالق للشر، فإله الخير إله نوراني، وإله الشر إله ظلماني -مأخوذ من الظلمة- ولهذا السبب صاروا يعبدون النار؛ لأنها هي مصدر النور -على حد زعمهم- فصاروا يعبدونها، ويقولون: إن النور هو الذي يخلق الخير، والشر تخلقه الظلمة، ويجعلون خالق الخير غالباً لخالق الشر، هذه ديانة المجوس، وهؤلاء قالوا: إن الأفعال التي تصدر من العقلاء هم الذين يخلقونها، وأما ما عدا ذلك فالله يخلقه، وهذا هو وجه الشبه بينهم، وكونهم من هذه الأمة يعني: أنهم ممن استجاب للرسول صلى الله عليه سلم في العموم، ولكنهم ضلوا.

أقسام الناس في أفعال العباد وحججهم في ذلك

أقسام الناس في أفعال العباد وحججهم في ذلك قوله: (ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها) . بهذا يتبين لنا أن الناس في القدر ثلاثة أقسام: قسمان متقابلان تمام المقابلة، فطائفة تقول بإثبات القدر عموماً، وأن الإنسان لا قدرة له، بل إن كل شيء يقع فهو فعل الله، كما قال البخاري في الرد عليهم، قالوا: الأفعال كلها لله، يعني: ليس للإنسان فعل، وقسم آخر قابلوهم فقالوا: العباد العقلاء هم الذين يخلقون أفعالهم وليس لله فيها دخل ولا يشاؤها، بل هم الذين يشاءونها، وهؤلاء مقابلون لأولئك تماماً، وبالضرورة عند العاقل على أقل تقدير لابد أن يحكم بأن أحد القولين باطل، والحق أن كلا القولين باطل. أما الطائفة الأولى فاحتجوا بمثل قول الله جل وعلا: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] واحتجوا بعموم قدرة الله ومشيئته، وأنه هو القادر على كل شيء، وأنه هو الخالق لكل شيء، وهذا الاحتجاج صحيح، ولكن لا يلزم منه سلب العباد قدرتهم وأفعالهم، فأما قوله جل وعلا في: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17] يعني: أن الأسباب التي حصل بها قتلهم وإن كانت في أيديكم، فالله جل وعلا هو الذي هيأها وهو الذي يسر لكم الطريق إليها، وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] فالمقصود به: رميه صلى الله عليه وسلم الكفار بالحصباء، فإنه أخذ كفاً من التراب ثم رماه نحو الكفار يوم بدر، فذهب هذا الكف من التراب ودخل في أعينهم ومناخرهم، فالمنفي غير المثبت، فقوله: (وَمَا رَمَيْتَ) يعني: ليس بقدرتك واستطاعتك أن توصل هذه الرمية إلى أعينهم ومناخرهم، وقوله: (إِذْ رَمَيْتَ) إثبات لرميه، وهو أخذه الحصباء ورميه بها، وبهذا يتبين أن المنفي غير المثبت، وأن المثبت للرسول صلى الله عليه وسلم شيء والمنفي عنه شيء آخر، وأن هذا ليس دليلاً لهم على نفي وقوع الأفعال من العباد اختياراً، واحتجوا كذلك على هذا المذهب بالحديث الذي في الصحيح، وهو: حديث احتجاج موسى على آدم واحتجاج آدم عليه بالقدر، وفيه: (أن آدم عليه السلام قال لموسى لما قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له: كم وجدت بين خروجي من الجنة وبين خلقي في التوراة التي كتبها الله لك بيده؟ قال: وجدت أربعين سنة بين قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] وبين خروجك، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة فحاج آدم موسى) يعني: غلبه بالحجة، فقالوا: إذاً: القدر يكون حجة، وهذا في الواقع ضلال وتأويل للحديث على غير وجهه، ومعلوم أن موسى عليه السلام لا يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، فهو لم يلمه على الذنب وإنما لامه على المصيبة، والمصيبة ترتبت على الذنب، يعني قال: لماذا أخرجتنا؟ والخروج مصيبة، فهو ما قال: لماذا أذنبت؟ لأنه تاب من الذنب، فلا يلومه على الذنب، وإنما لامه على الخروج والخروج مصيبة، فاحتج آدم عليه بالقدر؛ لأن المصيبة مكتوبة وقد وقعت ولا يمكن تداركها، والشيء الذي لا يمكن تداركه يمكن أن يحتج الإنسان عليه بالقدر كما في الحديث الذي ذكرنا: (إذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل) يعني: هكذا وقع القدر؛ لأنه ليس بالإمكان استدراكه.

الرد على المحتجين بالقدر على معاصيهم

الرد على المحتجين بالقدر على معاصيهم إذاً: فليس لهم فيه حجة، وهذا كثيراً ما يتعلق به أهل المعاصي، وقد يقول الإنسان: هذه الأمور مقدرة ومكتوبة عليَّ، فكيف أصلي وأنا ما كتب لي أن أصلي؟ وكيف أهتدي وأنا ما كتب لي أن أهتدي؟ والواقع أن هذه مغالطة يراد بها إلقاء اللوم على القدر وإعفاء النفس من تبعة الذنب، وقد ضرب لذلك مثل في رجل موغل في الاعتماد على ذلك فيقول: كل شيء هو فعل الله، وأنا لا اختيار لي، وله أموال وقد وكّل وكلاء في تصريف أمواله، وكان معه رجل ناصح ينصحه بترك مخالفته، ويقول: اتق الله فإن الله أمرك بالطاعة ونهاك عن المعصية، فقد أمرك بالشيء الذي تستطيعه، ونهاك عن الشيء الذي تستطيع تركه، فيقول: أنا لم يكتب لي أن أطيع ولكن كتب علي أن أعصي، فكان هذا الناصح يترقب الفرص لينصح صاحبه، فجاء في أحد الأيام وكيل هذا التاجر الذي وكل بدوابه، فقال له: هلكت الماشية كلها، فقال: كيف هلكت؟ قال: رعيتها في أرض مجدبة ليس فيها شيء، فقال: كيف ترعاها في أرض مجدبة وعندك الأرض المخصبة؟! فقال: هذا قدر الله، فازداد غضباً وحنقاً عليه، ثم بينما هو كذلك إذ جاءه وكيله الثاني فقال: المال هلك! فقال: لماذا؟ قال: إني سلكت طريقاً فيه قطاع الطريق فأخذوه، قال: كيف تسلك الطريق الذي فيه قطاع الطريق وهناك طريق آمنة، فقال: هكذا القدر فازداد عليه غضباً، وبينما هو كذلك إذ جاءه الذي وكله بأولاده، فقال: أمرت الأولاد أن ينزلوا في البئر ليتعلموا السباحة فغرقوا، فقال: كيف تأمرهم وأنت تعرف أنهم لا يحسنون السباحة ولم تنزل معهم؟! فقال: هكذا القدر، فازداد غضباً أكثر مما سبق، فقال له الناصح: يا هذا ألا تتقي الله؟! أتعتذر مع ربك جل وعلا بمثل ما يعتذر هؤلاء الوكلاء وأنت لا تقبل ذلك من وكلائك؟ فإن كان ما تقوله حقاً فهم أولى بالعذر، وإن لم يكن حقاً فيجب عليك أن تتنبه وتعامل ربك بما يجب أن يعامل، فانتبه الرجل، وقال: جزاك الله خيراً الآن انتبهت وأيقنت معنى قوله جل وعلا: {عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] فهذه المصائب وإن كانت مصائب فهي خير لي؛ لأني تنبهت واهتديت، فهذا مثال الذي ينكر أن تكون الأفعال وقعت باختياره، فإذا نهي عن المعصية، قال: هذا قدر الله! مع أن ترك المعصية يستطيع أن يفعله، وإن كان ذلك بالقدر فيجب أن يعالج القدر بالقدر، فالأقدار تدفع بالأقدار، كما وقع من أمير المؤمنين لما رجع عن دخول الشام لما أصابها الطاعون، حيث استشار الصحابة فأشير عليه بالرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفرار من القدر؟ فقال: لو غيرك قالها، ثم قال: نعم فرار من القدر بالقدر، ثم قال له: أرأيت لو كان لك إبل وعندك واد جانب منه مخصب والجانب الآخر مجدب أيهما ترعى؟ فقال: أرعى المخصب، قال: أليس رعيك بقدر الله، قال: نعم، فقال: رجوعنا بقدر الله، فالمقصود: أن الإنسان يجب أن يفعل فعله الذي يرى فيه خيراً ومصلحة ويكون ذلك واقعاً بقدر الله، وعليه أن يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه.

الرد على القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد

الرد على القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد أما الطائفة الثانية التي قالت: لو كانت الأفعال واقعة بمشيئة الله وبخلقه لكان معذباً للناس بغير فعلهم، ويكون ذلك ظلماً؟! والجواب عن هذا أن يقال: أولاً: ألستم تقرون بأن الله خالقكم؟ فهنا لابد أن يقولوا: نعم إن الله خلقنا، فإذا أقروا بأن الله خالقهم، نقول: هل فيكم جزء من الأجزاء لم يكن خلقاً لله، يعني: هل أنتم الذين خلقتم الرأس أو اليد، أو الرجل، أو القلب، أو شيئاً من الأعضاء؟! أو أن الخلق كله من الله؟! فلابد أن يقروا بهذا، فيقال: لا فرق بين هذه وبين الصفات، يعني: القدرة والإرادة التي في الإنسان هل الإنسان خلقها؟ لا يمكن أن يقال: إن الإنسان هو الذي خلق القدرة والإرادة؛ لأنه لو كان هو الذي يخلق قدرته فلن يرضى أن يكون فلان أنشط منه وأقوى منه وأقدر منه، ولكن القدرة التي فيه والاستطاعة مخلوقة لله، وكذلك الإرادة، وبالقدرة والإرادة يوجد الفعل، فإذا وجد الفعل بالقدرة والإرادة قلنا: إنه مخلوق لله جل وعلا، فالله خلق القدرة والإرادة في الناس، ثم أمرهم بالشيء الذي يستطيعون فعله بهذه القدرة وبالإرادة فكانت أفعالهم واقعة بقدرتهم وإرادتهم وباختيارهم، وهذا أمر واضح جلي، وبهذا يتبين أنهم ضلوا في ذلك؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم.

حكم التوغل في باب القدر

حكم التوغل في باب القدر ثم بعد هذه نقول: إن العلماء قد نهوا عن التوغل والتعمق في مسألة القدر فقالوا: إن القدر سر الله في خلقه فلا ينبغي للإنسان أن يقع فيه، فهل معنى هذا: أننا لا نبحث في هذه المسائل حتى نعلمها ونوقن بها؟ ف A ليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود أسرار الأشياء من الأوامر وغيرها، كأن يبحث الإنسان عن أمور لا يدرك الحكمة منها ولا غايتها ولا المصلحة من خلقها، كأن يقول مثلاً: لماذا خلقت الحيات والعقارب والذباب، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا خير فيها وإنما فيها مضرة؟ ففي مثل هذه عليك أن تقول: إن الله عليم بكل شيء، وإن الله لا يخلق إلا لحكمة قد يدركها الإنسان وقد لا يدركها وهو الغالب، فعليك بالتسليم، والله جل وعلا جعل العقل في الإنسان حتى يذعن ويعبد ربه حقيقة، وإذا لم يقر لله جل وعلا بالإذعان وينقاد فالعبادة لم تكمل، ومن ذلك كذلك الأمور التي قد يؤمر بها الإنسان فلا يجوز له أن يبحث عن الأسرار فيها، مثل أن يقول: لماذا إذا أردنا أن نصلي نغسل وجوهنا وأيدينا وأرجلنا ونمسح برءوسنا، ما المقصود بهذا وما السر وما الحكمة؟! نقول: هذا أمر الله وعليك أن تنقاد له وتذعن ولا تبحث عن السبب والحكمة، وكذلك إذا قال القائل: لماذا أمرنا بقصد مكة والطواف بالبيت؟! وكذلك لماذا أمرنا برمي الجمار؟ وما الفائدة من أن يتزاحم الناس على هذه الجمار ويقتل بعضهم بعضاً ويتأذون ويتكوم الحصى في هذا المكان؟ نقول: يجب عليك أن تذعن لذلك وتنقاد، ولا تبحث عن السبب والحكمة. ولهذا يقول العلماء: إن أمور العبادة تبعدية، فما معنى تعبدي؟ معناه: أنه يجب أن تخضع له وتعبد ربك بالانقياد في ذلك ولا تبحث عن الأسرار في هذا، وهكذا الأمور التي تخفى على الخلق، ولكن الذي أمر الله جل وعلا به ونهى عنه أمر واضح فيجب أن يجتنب النهي وأن يطاع الأمر، ثم ليس بين مشيئته جل وعلا وخلقه وأمره مناقضة.

الأسئلة

الأسئلة

معنى ربط الأسباب بمسبباتها

معنى ربط الأسباب بمسبباتها Q ما معنى ربط الأسباب بمسبباتها؟ A إن من سنن الله الكونية أن جعل لكل شيء سبباً، فلا يوجد الشيء إلا بسببه، فالولد لا يوجد بلا والد ووالدة، لابد أن يكون هناك سبب يترتب عليه المسبب، وإن كان الله على كل شيء قدير، ولكن لابد من ربط الأمور بأسبابها، فإذا أراد الإنسان أن يكون عالماً فلابد من السبب وهو الطلب والاجتهاد، فهذا هو ربط الأسباب بمسبباتها.

التوعد بالنار لا يلزم منه التكفير

التوعد بالنار لا يلزم منه التكفير Q ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) فهل هذا الحديث يدل على أن جميع الفرق في النار أم أنها تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى؟ A هذا الحديث يدل على أن الثلاث والسبعين فرقة كلها من المسلمين، هذا منطوق الحديث؛ لأنه قال: (أمتي) والمقصود بالأمة أمة الإجابة؛ لأنه لا يقول على اليهود والنصارى: إنهم افترقوا على كذا وكذا، بل جعلهم مثالاً فقال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) فدل هذا على أن المقصود بالأمة أمته التي استجابت له، أما قوله: (كلها في النار) فهذا من نصوص الوعيد الذي لا يجوز أن يحمل على ظاهره، بل يتوقف فيه الإنسان ويقول: الله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، كقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] ، فإذا رأيت إنساناً يأكل مال اليتيم فلا يجوز أن تقول: إنه في النار وإنه كافر، ولكن أمره إلى الله؛ لأنه مسلم.

لا فرق بين المجيء والإتيان

لا فرق بين المجيء والإتيان Q ما الفرق بين المجيء والإتيان والصبر والحلم، وأيهما صفة ذاتية؟ A نثبت المجيء والإتيان لله جل وعلا كما جاء في النصوص وإلا فالمعنى واحد، ولكن نقول: إنه جاء هذا وجاء هذا، ونحن نقف مع النص.

الإرادة الكونية هي المشيئة

الإرادة الكونية هي المشيئة Q هل المشيئة هي الإرادة الكونية؟ A الإرادة الكونية هي المشيئة لا فرق، والمشيئة لا تنقسم بل هي شيء واحد، أما الإرادة فتنقسم إلى كونية وقدرية أو إلى كونية وأمرية شرعية، فالكونية هي المشيئة.

معنى قول: (القدر قدرة الله)

معنى قول: (القدر قدرة الله) Q ما معنى قول الإمام أحمد يرحمه الله: القدر قدرة الله؟ A معنى قول الإمام أحمد: (القدر قدرة الله) أن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع إلا ما يشاء، ويدخل في قدرته جل وعلا علمه بكل شيء، وكتابته لكل شيء، فيكون قد شمل بكلامه هذا مراتب القدر، ولهذا استحسن هذه الكلمة من الإمام أحمد العلامة ابن عقيل رحمه الله، فكان يقول: هذا يدل على عمق الإمام أحمد في علمه.

كيفية توجيه القول: إن الحسنة والسيئة من الله

كيفية توجيه القول: إن الحسنة والسيئة من الله Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] وبين قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ؟ A نقرأ الآية من أولها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] ، ثم قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78-79] المقصود بالحسنة في هذا: مثل نزول المطر، وكثرة الخير من النعم، ووجود الولد، أما المصيبة: فمثل الجدب وموت الولد وذهاب المال هذا هو المقصود بها، وكان الكفار يتشاءمون بالأنبياء فإذا أصيبوا بخير قالوا: هذه النعم من الله، وإذا جاءهم شر قالوا: هذه بشؤم محمد يتطيرون به، فقال الله جل وعلا: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يعني: التقدير والجزاء والخلق والإيجاد كله من عند الله، مع أنها تابعة لأسبابها، ولهذا قال بعد ذلك: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ) يعني: النعم من العافية والرزق وغيره هي من الله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني: بسبب نفسك؛ لأنك لا تصاب إلا بسبب ذنوبك، فليس فيه تعارض.

معنى قوله: (وهديناه النجدين)

معنى قوله: (وهديناه النجدين) Q قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، هل هذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الكفر أو الإسلام؟ A هناك أدلة كثيرة أوضح من هذا وأبين تدل على إثبات هداية التوفيق من الله تعالى، أن الله أمر بالإيمان ونهى عن الكفر. وقد جعل في وسع المرء أن يختار الهداية، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، أما قوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) فمعناه: أن الهدى مقدر، سواء فيما يدخل في الحياة والوجود أو فيما تئول إليه حياته ووجوده من خير وغيره، ومعلوم أن كل شيء بيد الله جل وعلا.

شرح العقيدة الواسطية [25]

شرح العقيدة الواسطية [25] منكرو القدر يتفاوتون في درجات إنكارهم له، فمنهم من ينفي عن الله العلم والكتابة، وهؤلاء كفار، ومنهم من ينكر عموم الخلق والمشيئة، ومثل هؤلاء لا يكفرون إن علم حسن مقصدهم، وإنما يكفر الزنادقة من أئمة هذا المذهب، وقابل هؤلاء تماماً من أنكروا اختيار الإنسان وقدرته مطلقاً، وأخبث من يندرج تحت هذه الطائفة من قالوا: إن كل من تحرك فهو في طاعة سواء عصى أو أطاع، فجعلوا الأمر الشرعي معارضاً للأمر القدري، وهذا كفر لم يبلغه إبليس.

تدرج منكري القدر في إنكارهم له وتفاوت الحكم عليهم

تدرج منكري القدر في إنكارهم له وتفاوت الحكم عليهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها] . عرفنا أن القدر على درجتين، وكل درجة -كما قال الشيخ رحمه الله- تتضمن شيئين، والدرجة الأولى: علم الله جل وعلا، وأنه عليم بكل شيء. والثانية: كتابته لعلمه المتعلق بالمخلوقات، وسبق أن قلنا: إن منكر هذه الدرجة كافر، وأنه كان هناك من ينكر أن يكون الله جل وعلا عليماً بكل شيء، وأنه كتب كل شيء؛ لأنهم يقولون: إن الله يعلم الأشياء إذا وجدت، ولا يعلمها سابقاً، ويقول الشيخ: منكر ذلك اليوم قليل. يعني: أنه يوجد أناس من هذا النوع، وهؤلاء لا شك في كفرهم، وهم ينكرون العلم والكتابة، وقد جاءت النصوص في كتاب الله جل وعلا بإثبات أن الله كتب كل شيء، وكذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. الدرجة الثانية: وهي تتضمن شيئين: وهي مشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا في كلا الدرجتين خلاف قول أهل البدع من المعتزلة ونحوهم، فالمعتزلة لا يؤمنون بعموم المشيئة، ولا يؤمنون بعموم الخلق، ولكن هل يحكم بأن هؤلاء كفار لأجل ذلك؟ لا شك أن النصوص ظاهرة وجلية في أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته، وكذلك كونه الخالق وحده وما سواه مخلوق، وإنما وقعوا في شبه من باب القياس والمرض الذي في قلوبهم، فقالوا: إن الله لا يشاء الشرور، ولا يشاء الكفر، ولا يشاء المعاصي، وزعموا أن هذا من باب التنزيه، فالسبب الذي منع من تكفيرهم أنهم قصدوا -بزعمهم- أن ينزهوا الله جل وعلا، وإن كانوا لم يفهموا ذلك، إلا أن يكون داعية إلى بدعته، وقد سبق أن قلنا: إن من أئمة هؤلاء ومؤسسي بدعتهم زنادقة، أرادوا هدم الإسلام، فمثل هؤلاء لا شك في كفرهم، أما الذين أرادوا مقاصد حسنة وإن أخطئوا فهؤلاء لا يكفرون، وهؤلاء هم الذين رد عليهم العلماء في وجوه الشبهة حيث قالوا: (إن الله لا يشاء الكفر، وإنما الكفر بمشيئة الإنسان، فالله يشاء من الإنسان أن يؤمن، ولكن يلزم على هذا أن مشيئة الكافر هي التي وقعت، ومشيئة الله لم تقع، وهذا نقص لا يجوز أن يكون) . ومثل ذلك يقال في المعاصي، وكذلك قولهم في الخلق، وأن الإنسان يخلق أفعاله، وأنها لم تدخل في عموم خلق الله، وهذا أيضاً ضلال؛ لأن الله أخبرنا أنه خالق كل شيء، وأنه خلق الإنسان وخلق صفاته وأعماله، وسبق أن عرفنا الدليل على ثبوت ذلك بالعقل والنص. بقي أنهم يقولون: إننا إذا قلنا: إن الله قدّر على الإنسان عمله وعذبه عليه، فإن هذا يكون داخلاً في باب الظلم، والظلم من حيث هو اختلف الناس في تفسيره.

إنكار الأشاعرة لصفات الله الفعلية وتعريفهم للظلم

إنكار الأشاعرة لصفات الله الفعلية وتعريفهم للظلم والمشهور في مذهب الأشاعرة وغيرهم: أن الظلم هو التصرف في ملك الغير بغير حق، أو التصرف في ملك الغير بغير إذنه -وبعض الناس من أهل السنة يغتر بذلك، وهذا في الواقع خطأ كبير، فليس الظلم: التصرف في ملك الغير بغير إذنه، أو بغير حق- وعلى هذا قالوا: إن الظلم لا يمكن أن يقع من الله؛ لأن كل شيء ملك لله جل وعلا يتصرف فيه، فهو يتصرف في ملكه، وإذا ملّك مخلوقاً شيئاً فهذا تمليك مستعار، وإلا فالحقيقة أن الملك لله، فإنه المالك لكل شيء. كيف ينفي الرب جل وعلا عن نفسه شيئاً لا يقع، كما قال جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ، يقول المفسرون في هذه الآية: الظلم هو أن تكتب عليه سيئة لم يعملها، والهضم: أن يؤخذ من حسناته التي عملها، وكذلك يقول جل وعلا في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، فهل يحرم شيئاً لا يمكن وقوعه، هذا لا يمكن!

تحريف المعتزلة لكلام الله من أجل إثبات مذهبهم في الأسماء والصفات

تحريف المعتزلة لكلام الله من أجل إثبات مذهبهم في الأسماء والصفات قال المعتزلة ومن تبعهم: إن الله إذا أمر عبداً بشيء من الأشياء ثم لم يعنه على فعله بالأشياء التي يقدر عليها يكون ظالماً له، وعلى هذا: فلا يجوز أن يقال: إن الله أضل فلاناً وهدى فلاناً، وقد جاء في بعض النصوص: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] . فما معنى هذا الإضلال والهدى عند هؤلاء الضلال؟ فلا يجوز أن نأخذ عنهم، أو أن نستمع إلى كلامهم، ولكن يجب أن نرد شبهاتهم. وقالوا: إذا قال الله جل وعلا: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] يعني: إنه يسميه ضالاً، أو يسميه مهتدياً!! وهذا كلام سخيف جداً وتأويل بارد غير مقبول! فهم يقولون: إنما هي مجرد تسمية، وقالوا في قوله جل وعلا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] ، التزيين والتحبيب: هو أن يبين لهم الرغبة فيه وما يترتب عليه، هذا هو التزيين والتحسين عندهم، وهو خلاف الواقع، وهذا ليس تأويلاً، بل هو تحريف لكلام الله جل وعلا؛ لأن اللفظ لا يحتمل ذلك، وإنما التزيين والتحسين هو أن يُخلق في القلب تحبيبه وتزيينه له، فيصير محباً له، ويصير مزيناً في عينه، وراغباً فيه، فالعمل يتبع ذلك، ولهذا قال: {فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] فبين أن هذا من فضله. فإذا قالوا: إذا كان منعه ذلك فعذبه عليه يكون ظلماً. فنجيبهم بقولنا: إن كان منعه حقه كان ذلك ظلماً، ولكنه منعه فضله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وقد أعطاه القدرة والعقل والاستطاعة على العمل، ولكن هو في نفسه امتنع من العمل، فاستحق بذلك العذاب، فهو يعذب بعمله، والله لم يمنعه من العمل، وإنما هو امتنع باختياره، وكل أحد يعرف ذلك من نفسه، فهو إن عمل فهو يعمل باختياره وبقدرته، وإن أحجم عن العمل وامتنع فهو يحجم باختياره وبقدرته. أما توفيق الله وتزيينه الإيمان لعبده، أو عدم ختمه على قلبه فهذا فضل الله، والله أعلم حيث يضع فضله، فإنه لا يضعه إلا في موضعه؛ لأنه حكيم، وليس كل أحد يصلح أن يكون محلاً للفضل. ولهذا لما دخل أبو إسحاق الإسفرايني على عبد الجبار المعتزلي، وكان في مجلس الصاحب ابن عباد، وفيه جمع من الأدباء والعلماء، قال عبد الجبار في نفسه: إنه سوف يخزي أهل السنة في شخص أبي إسحاق، فلما وقف عليهم وسلم قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقول عبد الجبار هذا يعني به أن أهل السنة يقولون: إن الله قدر على الكافر وعلى العاصي الكفر والمعاصي ثم عاقبه على ذلك، فهذه فحشاء، وقد فهم مراده أبو إسحاق فرد على الفور: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، وكان هذا الجواب مسكتاً له. وهذا القول يعني: أنت وأصحابك تقولون: إنه يقع في الكون ما لا يشاؤه الله من الكفر والمعاصي، ونحن ننزه الله عن ذلك، حيث إنكم صرتم كالمجوس عندما جعلتم مع الله خالقين، تعالى الله وتقدس. فأيهما أخزى؟ عند ذلك قال عبد الجبار: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال له أبو إسحاق: أيعصى ربنا قسراً -أي: وهو لا يريد- فيحدث في ملكه ما لا يشاء؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن حكم عليّ بالردى، ومنعني الهدى؛ أحسن إلي أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق: إن كان منعك حقك فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له، فهو يؤتي فضله من يشاء! عند ذلك قال الحاضرون: والله ليس عن هذا جواب، فكأنما ألقم المعتزلي بحجر فسكت، فصار الخزي له وليس لـ أبي إسحاق. فالمقصود: أن حجة هؤلاء داحضة؛ لأنهم مبتدعون، وليس معهم إلا مجرد القياس أو الشبهات والهوى، وهذا يبطله الحق إذا جاء، والله جل وعلا يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] ، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] ، فإذا جاء الحق ذهب الباطل وزهق وانتهى، فهذه الشبهة داحضة، وليست في الواقع شبهة تستحق الوقوف عندها، ومع ذلك فهم قد ضلوا فيها.

إنكار أهل الجبر لوجود الاختيار من الإنسان في أفعاله

إنكار أهل الجبر لوجود الاختيار من الإنسان في أفعاله وقابلهم فريق آخر قالوا: إن العبد لا تصرف له، ولا يستطيع أن يعمل عملاً؛ بل الأعمال كلها لله، والأفعال كلها لله، فإذا أضيف إلى العبد شيء من الأعمال فهو على سبيل المجاز. مثل قولك: أمطرت السماء هبت الريح طلعت الشمس مات فلان، وما أشبه ذلك، فهل فلان يموت باختياره؟ وهل الشمس هي التي تطلع باختيارها، أو أنها مدبرة مسوقة؟ كذلك يقال في نزول المطر، وهبوب الرياح، وتحرك الأشجار وغيرها. فزعموا أن أفعال الناس بهذه المثابة، وهذه أيضاً مكابرة. فلم يفرقوا بين العقلاء الذين لهم اختيار وبين المسخر المدبر الذي لا اختيار له ولا عقل، وإنما سخره الله جل وعلا بتسخيره وقدرته، لم يفرقوا بين هذا وهذا، وهذا ضلال كبير، وهؤلاء قابلوا أولئك تماماً، وقالوا: إن الإنسان لا اختيار له ولا قدرة، ويعنون: أن أفعاله كحركة الشجرة التي تكون في مهب الريح، واستدلوا على أقوالهم بشبهات، وكلا الطائفتين ضالة، ولكن من هؤلاء فريق هم أخبث الطوائف وأضلها؛ حيث وجد من هؤلاء طائفة تقول: إن الإنسان لا يخرج عن الطاعة إن تحرك، فهو في طاعة سواء عصى أو أطاع! لأنه إن عصى الأمر الشرعي فقد أطاع الأمر القدري، فجعلوا الأمر الشرعي معارضاً للأمر القدري؛ ولهذا يقول أحدهم: أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات يعني: أن كل ما يصدر منه فهو طاعة، وهذا كفر ما وصل إليه كفر إبليس -نسأل الله العافية- لأنه لم يفرق بين الإيمان وبين الضلال بين الكفر وبين الهدى، إذ جعله كله مطلوب، وكله طاعة! والإنسان إذا لم يتقيد بهدى الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ضلاله لا يمكن أن ينتهي عند حد، والشيطان قال لربه جل وعلا: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16] ، {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء:119] ، والله جل وعلا أمره أن يسجد لآدم، فهل سجوده لآدم ممتنع لا يستطيعه أم أنه تركه باختياره؟ تركه مختاراً مريداً؛ ولهذا غيره من الملائكة سجدوا، وهو امتنع، وقال: أنا خير منه؛ وكأنه يقول: ليس هذا بعدل، إنما العدل أن تنعكس القضية، فيكون آدم هو الذي يؤمر أن يسجد لي؛ لأني خير منه، فإني مخلوق من النار، وهو خلق من الطين، والطين وضيع يوطأ بالأقدام ويمتهن، أما النار فهي تعلو وترتفع، ولها قوة الإحراق، فلهذا يقولون: إن أول من قاس إبليس. والمقصود: أن إبليس هو الذي غوى مختاراً بإرادته، والإنسان لم يكلف إلا ما يستطيعه، والحق وسط بين هاتين الطائفتين الباطلتين اللتين ضلتا، وهو أن الله جل وعلا عليمٌ بكل شيء، وكتب كل شيء، وأن مشيئته نافذة فلا يقع في الكون إلا ما يشاء ويريد، وأنه الخالق وحده، وقد خلق الإنسان، وخلق له أعمالاً، وجعله يفعلها باختياره وإرادته، فجعل له اختياراً، وجعل له قدرة، فإذا وجدت الإرادة والقدرة مع الاختيار، فلا يتخلف المراد، والله هو الذي خلق له هذه الأشياء، وهذا هو الحق الذي يفصل بين الضلال، ودائماً الحق يكون وسطاً بين ضلالتين.

الأسئلة

الأسئلة

سب الدهر والتسخط على القدر

سب الدهر والتسخط على القدر Q إن مما يرى من مبتدعة هذا الزمان: التسخط على القدر، ولوم المقدر عليه، فصنعوا شيئاً يسمونه: الخبر عن طريق الأبراج الفلكية، فهل هذا جائز؟ A أولاً: لوم القدر لا يجوز بحال من الأحوال، كما في الحديث القدسي الذي في الصحيحين يقول الله جل وعلا: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره) ، ومسبة الدهر هي لوم القدر. يقولون -مثلاً- أصابتنا الأيام، والسنين نحوس وكذا، وقد يلعنون الأيام والساعات كما يحدث لبعض الناس اليوم.

الرد على شبهة الاحتجاج بالقدر على المعاصي

الرد على شبهة الاحتجاج بالقدر على المعاصي Q عندي شبهة وهي: كيف يقدر الله على العبد المعصية، ثم يعذبه عليها، وإن كان له اختيار ومشيئة فهي تابعة لمشيئة الله، فمشيئته ليست خالصة، وهذا الأمر يراه العقل ظلماً وغير معقول؟ A الشبهة من عدم العلم في الواقع، والسائل ما تصور المسألة كما ينبغي، والواجب أن الإنسان يبحث ويقرأ ويسأل حتى يعرف وإلا الأمر واضح في هذا، فعلم الله جل وعلا نوعان: علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا، وأنه سيعمل كذا وكذا فكتب علمه فيه، وعلم الله لم يرغمه على عمل المعصية؛ لأن عمل المعصية وقع باختياره، وهو الذي اختار العمل، ولا أحد أجبره على أن يعمل المعصية أو أن يترك الطاعة، وإنما هو أحب ذلك وقصده باختياره وإرادته، فيعاقب على هذا، وكون الله جل وعلا قدر عليه فهو -كما قلنا- علمه وكتابته لعلمه وكونه خلقه مختاراً لهذا الفعل، ومريداً له باختياره وفعله، فإذا عذبه فهو يعذبه بفعله وبإجرامه. مثال ذلك: لوكان لرجل ولد فأمره بإصلاح ماله، وهو يستطيع ذلك بكل سهولة، فذهب وأحرقه، ورماه في البحر، فهل يقتنع الوالد بأن هذا الشيء مقدّر مكتوب ويسكت عنه أو أنه يحنق عليه، ويؤدبه، ويلومه، ويضربه لأنه فعله باختياره؟ إذاً: الفعل فعل الإنسان، فلا يجوز أن يكون الإنسان مع الطاعة مرجئاً، ومع المعصية قدرياً، ويقول: هذه مكتوبة عليّ بقدر؛ بل ينظر إلى عمله هو. أما كونك تقول: (لماذا ما وفقت؟) ، فلا يجوز أن تقول هذا؛ لأن التوفيق فضل الله، وعليك أن تسأله إياه، وترغب إليه به، أما إذا منعته فهو من جراء أفعالك، وإنما أوتيت من نفسك فيكون اللوم عليك، وليس اللوم على الله جل وعلا ولا على الأقدار.

شرح العقيدة الواسطية [26]

شرح العقيدة الواسطية [26] لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالوسطية وحث عليها، وهي المنهج الحق الذي يجب اتباعه، ولذلك فأهل السنة وسط بين الفرق والمذاهب، فهم وسط في الإيمان بين المرجئة والخوارج، فلا يكفرون العاصي ولا يجعلونه كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته.

الإيمان بين أهل السنة والمرجئة

الإيمان بين أهل السنة والمرجئة يقول المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر؛ كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9-10] .

تعريف الإيمان عند أهل السنة

تعريف الإيمان عند أهل السنة أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) . ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم] . ينتقل المصنف رحمه الله إلى مسألة الإيمان، فيقول: (ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل) . قوله: (أن الدين والإيمان) : المعروف أن العطف يقتضي المغايرة، فالإيمان يكون غير الدين، فالدين المقصود به الشيء الذي يدان به، أي: أمر الله ونهيه، وأمر الله ونهيه يجوز أن يفعل ويجوز أن يترك، أما الإيمان فهو الذي يتعلق بالمخلوق، والذي يوجد من المؤمن، هذا هو الفرق. والدين أمرٌ ونهي وعقيدة (نية) وكذلك الإيمان، وقد قالوا: إن الإيمان في اللغة التصديق، ونازع في هذا بعض العلماء، وقالوا: إنه تصديق خاص. وأما في الشرع: فهو قول وعمل وعقيدة، وهذا تعريفه عند أهل السنة، والقول يشمل قول القلب، وقول اللسان؛ ولهذا اقتصر بعض أهل السنة على أنه قول وعمل فقط. وبعضهم جعله مركباً من ثلاثة أشياء، ولا خلاف في هذا؛ لأن الذي اقتصر على شيئين، فقال: قول وعمل، يقصد بالقول قول القلب وقول اللسان، والعمل: عمل الجوارح، وعمل القلب هو الخشية والخوف والرجاء، والإنابة وما أشبه ذلك. ومعلوم أن الإيمان يتكون من أعمال القلب، ومن أعمال الجوارح. وقول اللسان ظاهر، وهو النطق بالشهادتين، والذكر والتلاوة، وجميع الأعمال التي تؤدى باللسان، وكذلك عمل الجوارح ظاهر كالصلاة والحج والجهاد وإماطة الأذى عن الطريق وما أشبه ذلك من الأعمال التي يأمر الله جل وعلا بها، فهي كلها داخلة في الإيمان. إذاً: الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: من قول القلب وعمل الجوارح، وقول اللسان، وقول اللسان داخل في عمل الجوارح؛ لأنه جارحة.

تعريف الإيمان عند المرجئة والجهمية

تعريف الإيمان عند المرجئة والجهمية وأما أهل البدع: -المرجئة والجهمية - فقالوا: إن الإيمان هو المعرفة، أو هو العلم، وقصروه على هذا؛ ولهذا كفرهم العلماء بهذا القول؛ لأن العلم لا يقتضي الإيمان، فإبليس عنده علم، ويعلم أن الله ربه، وأن الأوامر جاءت من الله، ومع ذلك فهو كافر، بل هو رأس الكافرين وإمامهم، وكذلك سائر الكفرة إلا قليلاً؛ لأن الله جل وعلا أيد رسله بالمعجزات، والبينات الباهرة، وإنما يكون كفرهم عن الجحود بعد العلم، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنهم فيقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] ، فإنه صادق وهم يعرفون صدقه، ومع ذلك فهم كفرة، ومن أكبر المعاندين والكافرين. أما فرعون فقد جاء في كتاب الله جل وعلا ما يدل على أنه مستيقن بأن موسى صادق، وأنه جاء بالحق، يقول الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101] . ماذا قال موسى؟ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102] (لقد علمت) أي: تيقنت هذا، وفي آية أخرى: أخبر الله جل وعلا أنها: استيقنتها أنفسهم. أي: علموها يقيناً. إذاً: القول بأن الإيمان هو العلم قول ظاهر البطلان.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق، وهم طوائف من المرجئة؛ قالوا: إن الكفر هو التكذيب وهو شيء واحد، والإيمان هو التصديق وهو شيء واحد، فأهله فيه سواء لا يتفاوتون، فجعلوا كفر فرعون مثل كفر سائر الكفرة وأدناهم، وجعلوا آحاد الناس من المؤمنين مثل أعلاهم إيماناً، وهذا من أبطل الباطل، فهم ضُلّال في ذلك. وفي الواقع فهذه من المسائل التي تشعبت فروعها، وكثر الخلاف فيها، فإن الحق فيها مع أهل السنة؛ لأنهم يتقيدون بنصوص الكتاب والسنة، والمبتدعة أهل قياس وشبهات وأهل هوى وضلال. ولهذا نص أهل السنة على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولهذا قال المصنف رحمه الله: (وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) . والطاعة عمل، والمعصية عمل، فهو يزيد بالعمل وينقص بالعمل، فإذا كان العمل طاعة زاد به، وإذا كان معصية نقص به؛ والأدلة على هذا واضحة وجلية. وقد جاء في آيات كثيرة النص على زيادة الإيمان، كقوله جل وعلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وكقوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] إلى آخرها. وكذلك ذكر جل وعلا أنها إذا أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة:124] ، يقول جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] ، فالزيادة فيها نصوص كثيرة، والصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا، ولهذا جاء أن حبيب بن عمير قال لصاحب له: (تعال نؤمن ساعة، وقال: إنا إذا ذكرنا الله زاد إيماننا، وإذا غفلنا نقص إيماننا) . والذين قالوا هذا القول وعرفوه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هم يتقيدون بالحق، وهو ما أتى به النص ووافقه العقل، والوضع، وطابقه الحال، والإنسان يجد من نفسه أحياناً أن حالته أحسن من أحيان أخرى، فيزداد إيمانه، والله جل وعلا قسم أهل الإيمان إلى ثلاثة أقسام، فجعل بعضهم سابقين، وبعضهم مقتصدين، وبعضهم ظالمين، فقال جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، وهؤلاء هم أهل الجنة. فجعل قسماً منهم ظالماً لنفسه، وفُسر الظالم بأنه الذي يرتكب بعض المناهي ويترك بعض الواجبات. والمقتصد: بأنه الذي يأتي بما وجب عليه، ويترك ما حرم عليه، ويفعل المباح ويتناول المكروه. وفسر السابقون بالخيرات: بأنهم الذين يتقربون إلى الله جل وعلا بالنوافل بعد أداء الفرائض، ويتقربون إليه باجتناب المكروهات بعد اجتناب المحرمات، وهؤلاء هم الذين يكونون في أعلى الدرجات في الجنة، وعلى هذا الأساس تفاوتت درجاتهم في الجنة، ولو كانوا فيه سواء -حسب زعمهم- لكانت درجاتهم سواء وكانت الدرجة واحدة.

قول المرجئة: (لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة)

قول المرجئة: (لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة) أما قول المرجئة: (إنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة) ، فهو قول فاسد لا قيمة له؛ ولا يعتبر به، لأنه لا يستند إلى دليل شرعي، ولا عقلي، ولا وضعي، وإنما هو قول مبنيٌ على خيالات وشبهات وهوى، فلا يلتفت إليه. إذاً: فالكفر يتفاوت، وبعض الكفر أعظم من بعض؛ ولهذا صارت جهنم دركات والمنافقون في الدرك الأسفل منها، فهي دركات وطبقات وكل طبقة فوق الأخرى، كما أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ومعلوم أن السارق والزاني والمنتهب إذا لم يستحل ذلك فهو مؤمن؛ أي: معه مطلق الإيمان، فهو لم يخرج من الإيمان إلى الكفر. والأصل في هذا أن الإنسان إذا آمن بالله جل وعلا يبقى معه الإيمان حتى يأتي بشيء يخرجه منه، مثل الشرك أو التكذيب، أو جحود الحلال، أو تحليل الحرام أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك خرج من الإيمان. إذاً: (الإيمان يزيد وينقص) وزيادته تكون بالعمل وبالتصديق وليس بالعمل فقط، أي: أن الزيادة تكون في الجوارح وفي القلب، والنقص كذلك، أما كونها في الجوارح فأمر ظاهر، فإذا ترك الإنسان العمل يكون إيمانه ناقصاً، وأما النقصان فهو أيضاً ظاهر؛ لأن إيمان بعض الناس ويقينه وتصديقه ليس كبعض، فبعض الناس عنده مجرد إيمان وتصديق، ولو شكك لشك، فإذا عوفي وسلم من الشكوك والريب ومات على ذلك، كانت نعمة عليه، وهو من أهل الجنة إن شاء الله. أما إذا وجدت فتن وأمور تشككه وتخرجه عن اليقين ربما خرج عن الإيمان، وصار كافراً، وكذلك بعض الناس، وبعض المؤمنين، لو أمر بالجهاد لم يجاهد، ولا يستطيع أن يجاهد، فيخاف من الموت أو يحب الدنيا، ومع ذلك فهو مؤمن، ولكن إيمانه ضعيف، بينما منهم من يسارع إلى ذلك، ويحب هذا ويرغب فيه كثيراً. فهل يعقل أن يكون هذا مثل هذا؟ إذاً: التصديق نفسه يزيد وينقص، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه.

موقف أهل السنة من الفاسق وموقف غيرهم

موقف أهل السنة من الفاسق وموقف غيرهم

أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة

أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة ثم يقول المصنف: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي) : (أهل القبلة) المقصود بهم: المسلمون الذين يستقبلون الكعبة. أي: يلتزمون بظواهر الدين الإسلامي، ويؤدون الصلاة، وإن كان في الباطن عندهم نقوص كثيرة، فمثلاً: إذا أتى الإنسان بالمعصية وإن كانت كبيرة، فلا يجوز أن نخرجه من دائرة الإيمان، ولكن لا يجوز أن نقول له: مؤمن مطلقاً بدون قيد فنقول: هذا مؤمن -يعني: نطلق عليه الإيمان بلا قيد- بل لا بد أن يقيد إيمانه الذي يوصف به بأنه ناقص، أو بأنه مؤمن عاصٍ، ولابد أن يقال: هذا مؤمن، ولكن إيمانه ناقص؛ لأنه مرتكب للكبائر. يدل على هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، فالذي نفي عنه ليس أصل الإيمان، وإنما نفي عنه كماله، فالكمال هو الذي يمنع صاحبه من ارتكاب الزنا والسرقة وشرب الخمر وهذا هو الذي نفي عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما رجم الزاني صلى عليه، وكذلك شارب الخمر نهى أن يسب وقال: (إنه يحب الله ورسوله) ، وبدليل قوله جل وعلا في القاتل الذي يقتل المسلم: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] . (من أخيه) : الضمير هنا يعود على القاتل، فجعل القاتل أخاً للمقتول، ومعلوم أن الأخوة هنا هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب. وقال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ، فوصفهم بالإيمان مع وجود القتال، فدل على أن الإيمان لا يسلب من المقتتلين، ولا يخرجون باقتتالهم عن الإيمان، وكذلك سائر المعاصي، والأدلة على هذا كثيرة، ولكن مقصود المصنف رحمه الله: أن يبطل قول الخوارج الضُلّال مع قول المعتزلة، فإن الخلاف في هذا معهم. أما المرجئة فعندهم أن المعاصي لا تضر، فالزاني والسارق وشارب الخمر عندهم كامل الإيمان، ليس عنده نقص، وهذا ضلال بين، ويقابلهم: الخوارج، فعندهم مثل هؤلاء كفار، خرجوا من الدين الإسلامي ودخلوا في الكفر، وهم خالدون في النار، لا يخرجون، ولا تنفعهم شفاعة ولا ينفعهم عمل، وهذا ضلال بين، فلهذا قال: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة) .

الإيمان عند المعتزلة والخوارج وموقفهم من العصاة

الإيمان عند المعتزلة والخوارج وموقفهم من العصاة أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، وإنما يكفر الإنسان بالكفر الذي يكون شركاً أو جحوداً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو تركاً للعمل كلية كترك الصلاة وما أشبه ذلك، وعدم الالتزام بالدين. وتعريف الإيمان عند الخوارج هو تعريف أهل السنة، ولكنهم يزيدون (الإتيان بجميع الواجبات، واجتناب جميع المحرمات) وعندهم لابد أن يأتي بجميع ما وجب، ولا يخل منه بشيء، ويترك جميع ما حرم عليه، فإن أخل بذلك فليس بمؤمن. والمعتزلة يتفقون معهم في هذا، ولكنهم اختلفوا معهم في التسمية، وفي في الدنيا ولكن في الآخرة اتفقوا معهم، فعندهم الحكم في الدنيا، أنه لا يحكم عليه بالكفر، أما التسمية فإنه لا يسمى عندهم كافراً، ولكن أيضاً لا يسمى مؤمناً، ولكنه يكون بين الكفر والإيمان، وهذا شيء اختصوا به من بين الناس، والعجيب أنهم جعلوه ركناً من أركان الدين الإسلامي عندهم، وهو ما يسمى (المنزلة بين المنزلتين) ، وهذا من البدع والضلال. أما في الآخرة فيتفقون مع إخوانهم الخوارج بأنهم لا يخرجون من النار؛ ولهذا قال: (كما يفعله الخوارج) بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، وعرفنا وجه ثبوت الأخوة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9-10] . والاستدلال بهذه الآية من وجهين: الوجه الأول: قوله: (اقتتلوا) أثبت لهم الإيمان مع وجود القتال. والوجه الثاني: قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وأمر بالإصلاح بين هؤلاء المقتتلين، وهذا أمر شرعي يجب أن يمتثل، فهو دليل على أنهم لم يخرجوا عن الدين الإسلامي، وهو من الأدلة التي تبطل مذهب الخوارج، ومذهب المعتزلة.

أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام

أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام ثم قال: (ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام) : الملي: الذي التزم الملة الإسلامية في الجملة -وليس بالجملة- يعني أنه يترك منها شيئاً، والفسق هو الخروج عن الطاعة. والفاسق: هو الخارج عن الطاعة، والفسق يكون عملياً ويكون اعتقادياً كما هو معروف، فاعتقاد خلاف ما جاء به الشرع فسق، وعمل المعاصي فسق، وأهل البدع فسقة من هذا القبيل، أي: من جهة كونهم اعتقدوا خلاف الحق، وعملوا شيئاً لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم: فقوله: (لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية) . أي: لا يسلبونه الإيمان بالكلية، والإسلام: هو الالتزام الظاهري، أما الإيمان فيكون في القلب، ويتبعه عمل الجوارح، فما كان في القلب يظهر على عمل الجوارح، ومعلوم أن الدين الإسلامي قد قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أقسام، وجعله ثلاث مراتب كما في حديث جبريل، وهي: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أخص من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام، فكل محسن مؤمن ومسلم، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم ولا عكس، فقد يوجد الإسلام بلا إيمان. والمقصود: الإيمان الذي يكون بالعمل -عمل القلب واللسان- أما مجرد التصديق فلا بد منه، ولا يمكن أن يوجد إسلام بلا إيمان، الذي هو مجرد التصديق.

التفريق بين الإسلام والإيمان عند أهل السنة

التفريق بين الإسلام والإيمان عند أهل السنة وإذا انفرد أحد الاسمين -الإسلام والإيمان- دخل فيه الآخر، أما إذا اجتمعا فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وقد جاء أن أركان الإيمان ستة: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره) ومن أخل بركن منها، فإن إيمانه مختل، ولكنه لا يخرج بذلك من دائرة الإيمان إلا أن يكون أخل بالإيمان بالله، فإنه لا يكون مؤمناً، وكل الأركان تتبع ذلك. أما إذا اختل شيء من هذه الأركان، بأن صار إيمانه بالملائكة مدخولاً، ولا يؤمن بها على الوصف الذي وصف الله جل وعلا، أو كان الإيمان بالرسل عنده ناقصاً، والإيمان باليوم الآخر مجملاً فقط، وكذلك الإيمان بالقدر، فإنه لا يكون مؤمناً كاملاً وإنما يكون عاصياً بقدر ما ترك، مع أن التفصيل في هذا واضح وجلي، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بينا ذلك. أما الإسلام فهو الذي ينتقل به الكافر من دينه إليه، وهو الشهادة: بـ (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، فهو مجرد قول، فإذا قال الإنسان: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) حكم بأنه مسلم، ولكن لا بد أن يكون عنده إيمان بالله، وأن الله أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا إله إلا الله، وأنه هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد وحده ولا يعبد معه إله غيره. يعني: أنه تضمن إيماناً ولا بد، أما أن يوجد إسلام بلا إيمان فهذا لا وجود له. أما الجواب على نفي الإيمان عن بعض الناس، كما ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يقسم مالاً، وسعد بن أبي وقاص حاضر، فأعطى رجلاً وترك آخر، فقال له سعد: يا رسول الله: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلم؟ ثم أعطى غيره، يقول: فغلبني ما أعرف منه، فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلم؟) ، ثلاث مرات يقول: أراه مؤمناً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: أو مسلم؟ وهذا في ضمنه الإنكار على سعد أن يقول: إنه مؤمن، وإنما أمره أن يقول: مسلم. إذاً: الإيمان أخص من الإسلام. بعد ذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عندما يعطي إنساناً ويترك غيره الذي هو أحب إليه منه إنما يكله إلى ما عنده من الدين، وإنما يعطي ضعاف الدين والإيمان. وهذا معناه: أنه أنكر عليه إطلاق الإيمان عليه جزماً، وأمره أن يقول بالشيء الذي يكون متيقناً وهو الإسلام. وكذلك قول الله جل وعلا: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] يعني: أن الإيمان ما دخل في قلوبكم بعد، ولكن معكم شيء من الإيمان؛ لأنهم ليسوا منافقين، وإنما معهم شيء من الإيمان يصح به إسلامهم، وهو تصديق بالله جل وعلا وبرسوله، وأنه هو المعبود وحده. قوله: (ولا يخلدونه في النار) يعني: الفاسق الملي لا يخلدونه في النار لمجرد المعاصي، أو بمجرد الفسوق، وإنما يقولون: يجوز أن يدخل النار ولكنه يخرج منها ومآله إلى الجنة ما دام أنه مات مسلماً، فمعه أصل الإيمان، فلابد أن يكون مآله إلى الجنة وإن عذب في النار، ويوكلون ذلك إلى الله، إن شاء عفا عنه بلا عذاب، وإن شاء عذبه.

الأسئلة

الأسئلة

ترك العمل بحجة أن الإيمان بالقلب

ترك العمل بحجة أن الإيمان بالقلب Q انتشر على ألسنة كثير من الناس عندما تنصحه على أمر ما قوله: (الإيمان في القلب) ، فهل هؤلاء يكونون من المرجئة؟ A إذا أُمر بأمر من الأمور الواجبة أو نهي عن أمر محرم، فقال: (الإيمان بالقلب) ، فهذا هو قول المرجئة، أي: أن العمل ليس له عبرة فيعتبر، وهذا معنى قول المرجئة: إن الإيمان كامل في القلب، والعمل لا تأثير له فيه، وإنما يجب على الإنسان إذا أمر بأمر أن يسمع ويطيع، وإذا نهي عن شيء أن يمتثل ويشكر الذي أمره، أو الذي نهاه. وهذا قول خطأ، والإنسان في قوله هذا يكون عاصياً؛ وكأنه يقول: أنا ما خرجت عن الإيمان، فالإيمان معي؛ لأنه في القلب. نعم الإيمان في القلب، ولكن إذا كان في القلب فإنه يبعث على العمل، ويمنع من الوقوع في المخالفة، ولابد أن الإنسان المؤمن يكون خائفاً من ربه جل وعلا أن لا يقبل أعماله الصالحة، فكيف إذا وقع في منكر؟! هذا أعظم والواجب أن يكون الإنسان أكثر خوفاً، وإذا نهي عن ذلك أن يمتثل ويبتعد عن النهي.

الإيمان قول وعمل

الإيمان قول وعمل Q من المعلوم أن الإيمان قول وعمل. أي: قول القلب وعمل القلب، وقول اللسان وعمل اللسان والجوارح، فهل إذا انتفت إحدى هذه الأركان كان الإنسان كافراً؟ A نعم؛ لأن الإيمان مركب من هذه الأجزاء الثلاثة، فلا بد من اجتماعها عند أهل السنة، فإذا فقد واحد منها يكون الإيمان غير صحيح، وعلى هذا كفّر كثير من العلماء المرجئة الذين أخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا إن حقيقة الإيمان العلم أو التصديق، كما هو عند الجهمية، ولهذا قالوا: إنهم أجهل الناس بالله؛ حيث وصفوه بما تعالى وتقدس عنه. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله -وهذه في ضمنها التصديق- وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، وهذه كلها أعمال، فإذا قالوا: إن الإيمان مجرد التصديق فمعناه أنهم يرون أن الإنسان إذا ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج أنه غير معرض لعقاب ولا أنه خارج عن الدين الإسلامي، بل يرون أنه مؤمن كامل الإيمان.

الخلاف مع مرجئة الفقهاء

الخلاف مع مرجئة الفقهاء Q هل صح عن أبي حنيفة رحمه الله قوله في تعريف الإيمان: (إنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان فقط) ، وما المراد بقولهم: مرجئة الفقهاء؟ A هذا روي عن أبي حنيفة واشتهر أن هذا قوله، ولكن ليس مجرد هذا فقط، فإنه قال: إن مسمى الإيمان قول اللسان واعتقاد القلب، أما الأعمال الأخرى فهي من مقتضيات الإيمان، أو قال: (من واجبات الإيمان) أي: أنه لا بد منها، فلابد من العمل، ولا بد من الصلاة ولا بد من الزكاة، ففارق بذلك قول المرجئة؛ ولهذا قالوا: هؤلاء من أهل السنة، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان بين الخلاف بينه وبين القائلين بهذا، وبين أن الخلاف في مسمى الإيمان خلاف لفظي، وليس خلافاً معنوياً؛ لأنه يتفق معهم بأن تارك الأعمال مرتكب للمعصية، وأنه مستحق للعذاب والعقاب.

شرح العقيدة الواسطية [27]

شرح العقيدة الواسطية [27] الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد خالف المرجئةُ أهلَ السنة في ذلك وانقسموا إلى ثلاث طوائف: طائفة قالت: إن الإيمان هو العلم والمعرفة، ويلزم من قولهم إيمان إبليس وفرعون وغيرهما من الكفار، وطائفة قالت: إن الإيمان هو القول باللسان فقط، ويلزم منه إيمان المنافقين، أما الطائفة الثالثة فقالت: إن الإيمان قول وتصديق فقط، وهذه الطائفة هي أقرب طوائفهم إلى أهل السنة على ما في قولها من الغلط.

حقيقة الإيمان والخلاف فيه بين طوائف المسلمين

حقيقة الإيمان والخلاف فيه بين طوائف المسلمين يقول المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوار، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر؛ كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم] . سبق أن الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: القول، والعقيدة، والعمل، وتعريفه كما يعرفه أهل السنة في كتبهم هو: قول وعمل واعتقاد، وبعضهم يزيد في هذا التعريف ويقول: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

طوائف المرجئة

طوائف المرجئة والذين خالفوا أهل السنة في هذا هم المرجئة، والخوارج، والمعتزلة، وقد اتفق المعتزلة مع الخوارج في التعريف وخالفوهم في الأحكام وفي التسمية. أما المرجئة فهم ثلاث طوائف لا يخرجون عنها، كما ذكرهم أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ، فقال: إنهم ثلاث طوائف. الطائفة الأولى: الذين يقولون: إن الإيمان هو: العلم والمعرفة، ويُدخلون في هذا شيئاً من أعمال القلوب، وهي الخضوع والإقرار والمحبة فقط، فيقولون: إن الخضوع والإقرار والمحبة تدخل في الإيمان، وما عدا ذلك من أعمال القلب مثل الخشية والإنابة والخوف إلى غير ذلك لا تدخل فيه. وهؤلاء افترقوا إلى أكثر من عشرين فرقة، ولكن يجمعهم هذا القول. الطائفة الثانية: الذين قالوا: إن الإيمان هو القول باللسان، وهؤلاء هم الكرامية خاصة، ويلزمهم أن يكون المنافق مؤمناً على هذا القول؛ لأن المنافق يقول بلسانه ولكن قلبه منطوٍ على الكفر. الطائفة الثالثة: الذين يقولون: إن الإيمان قول وتصديق، وهؤلاء أقرب هذه الفرق الثلاث إلى أهل السنة، وهؤلاء لهم حجج شرعية من الكتاب والسنة، ولكنها لا تدل على ذلك.

بيان غلط المرجئة

بيان غلط المرجئة وغلط المرجئة من حيث العموم من وجهين: الوجه الأول: ظنهم أن الإيمان والمعرفة إذا وجدت في القلب فإنها تكون هي الإيمان، وأنها تكون منفكة عن عمل القلب وتحركه، في إنابته، وإرادته، وخوفه، وخشيته، وغير ذلك، وغلطوا في هذا غلطاً عظيماً؛ لأن الإنسان يعرف التفاوت العظيم بين الناس في هذه الأمور، فضلاً عن غلطهم في إخراج عمل الجوارح عن الإيمان. الوجه الثاني: أنهم ظنوا أن كل من حكم الله جل وعلا بكفره أو حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بكفره، فإنما هو لخلو قلبه من العلم والمعرفة، فعندهم -مثلاً- إبليس ما عرف الله، وفرعون ما عرف ما جاء به موسى، وهكذا بقية الكفار، وهذا من أعظم الغلط أيضاً. والمقصود: ذكر الأصول التي يأخذون بها، والتي غلطوا فيها وخالفوا أهل السنة حتى يتبين للإنسان سلامة مذهب أهل السنة، وأنهم على يقين من ذلك وعلى أصل أصيل، وأن المخالفين لهم غالطون غلطاً بيناً واضحاً. أما الفرقة الثالثة التي قالت: إن الإيمان قول وتصديق، فإن بعضهم يجعل هؤلاء من مرجئة الفقهاء، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن مرجئة الفقهاء لا يقتصرون على هذا، فإنهم لا يقولون إن الإيمان قول وتصديق فقط، بل يجعلون الأعمال إما من مقتضى التصديق أو من واجباته ومن لوازمه، ويتفقون مع أهل السنة على أن الذي يترك العمل الذي وجب عليه، أو يفعل ما حظر عليه من المحرمات، أنه مستوجب للعقاب، فإذا كانوا متفقين مع أهل السنة في ذلك، فيصبح الخلاف لفظياً، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان.

حجج المرجئة

حجج المرجئة أما حججهم التي احتجوا بها: فمنها: أن الله جل وعلا غاير بين الإيمان والعمل، وهذا كثير في الكتاب، كقول الله جل وعلا: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) فعطف الإيمان على العمل، فقالوا: إن العطف يقتضي المغايرة. الدليل الثاني: أنهم قالوا: إن الله جل وعلا خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل مخاطبتهم بالأوامر والنواهي، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ونحو هذه الآية، فجعلوا هذا دليلاً على أن العمل غير الإيمان. الدليل الثالث: يقولون: لو أن رجلاً آمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم لحظةً قبل الظهر ثم قبل دخول وقت صلاة الظهر مات لحكم بأنه من أهل الجنة، وأنه مؤمن، وهو لم يعمل خيراً في إسلامه، فجعلوا هذا أيضاً من الأدلة على أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان. وكل هذه الأدلة منقوضة، ونقضها واضح لا يحتاج إلى الاستدلال عليه؛ لأن أدلتهم مجرد ألفاظ خالية عن المعاني التي ربط الله جل وعلا بعضها ببعض، فقد يُعطف الشيء على نظيره أو على مثيله، وقد يكون عطف عام على خاص أو بالعكس، كما هو معروف، يقول جل وعلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:1-4] إلى آخر هذه المعطوفات، وهي لا تدل على المغايرة. أما كون الخطاب جاء باسم الإيمان فهذا أيضاً واضح أنه ليس دليلاً على أن العمل غير داخل في الإيمان؛ لأن الذي يمتثل الأوامر هو من تحلى بالإيمان. وأما دليلهم الثالث فنقول: هذا لم يجب عليه إلى الآن أي عمل، وهو ما ترك شيئاً من الإيمان وجب عليه، وإنما امتثل في قلبه واستعد للعمل، ولكنه لم يصل إلى الوقت الذي يجب عليه العمل فيه، فليس ملوماً. وبهذا نعرف أن مذهب أهل السنة في الإيمان هو المذهب الصحيح الذي يجب أن يُعتقد، ومن أجل ذلك يذكره العلماء في العقائد. أما أهل المعاصي الذين فيهم الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة والخوارج فقد سبق الكلام عليهم، وبيان أن الذي يرتكب كبيرة لا يسلب منه الإيمان بالكلية، ولا يعطى الإيمان الكامل، فلا يطلق عليه الإيمان مطلقاً، وإنما يطلق عليه بقيد، فيقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن مرتكب كبيرة أو كبائر، أو يقال: إنه مؤمن فاسق، أو إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، كما يعبر بذلك كثير من أهل السنة.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص أما زيادة الإيمان ونقصه فأمره واضح أيضاً، وأدلته كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأدلة على زيادة الإيمان جاءت منصوصاً عليها في آيات متعددة، أما النقص فقد توقف فيه من توقف من أهل السنة لعدم النص عليه من الكتاب، ولكن الواقع أنه منصوص عليه في آيات متعددة، منها قوله جل وعلا: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124-125] فالذي تزيده رجساً إلى رجسه هذا فيه نقص الإيمان. وكذلك قوله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فمعلوم أن هذه الآية نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع، وقد استدل البخاري بهذه الآية على أن الإيمان ينقص. ووجه الاستدلال بها: أن الذي يقبل الزيادة يقبل النقص، وأن الدين قبل أن يتم كان ناقصاً، ولا يلزم من هذا أن الذين توفوا قبل ذلك اليوم كان إيمانهم ناقصاً، بل كان إيمانهم كاملاً؛ لأن هذا هو الذي يجب عليهم. ومن المعلوم أن المرجئة أنفسهم يقرون بزيادة الإيمان، بمعنى: أنه إذا جاء شيء من الأوامر أو النواهي والتزم بها فإن الإنسان يزداد إيمانه بذلك، ولكن الخلاف في نفس التصديق الذي يكون في القلب هل يكون فيه زيادة ونقص أو لا؟ والصواب: أنه يزيد وينقص، فالتصديق الذي يكون في القلب -إذا سُلِّم بأن الإيمان هو التصديق- فإنه يزيد وينقص؛ لأن تصديق بعض الناس ليس كتصديق بعض، فبعض الناس لو شُكِكَ ولُبس عليه لشك، وبعضهم لا يقبل الشك؛ بل يكون تصديقه يقينياً، والعمل يتبع ذلك، فبعض الناس يقوم بالعمل ويأتي به على الوجه المطلوب حسب استطاعته، وبعض الناس قد يخل به، وقد يتساهل.

الأسئلة

الأسئلة يقول المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوار، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر؛ كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم] . سبق أن الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: القول، والعقيدة، والعمل، وتعريفه كما يعرفه أهل السنة في كتبهم هو: قول وعمل واعتقاد، وبعضهم يزيد في هذا التعريف ويقول: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء

خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء Q ذكر شيخ الإسلام في كتاب (الإيمان) أن الاختلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء اختلاف حقيقي، وفي موضع آخر أنه اختلاف لفظي، فكيف يجمع بينهما؟ A هم يختلفون، كما ذكرنا أنهم طوائف، فبعضهم الخلاف معهم لفظي، وبعضهم حقيقي.

أنواع الكفر وبيان غلط حصره في كفر التكذيب

أنواع الكفر وبيان غلط حصره في كفر التكذيب Q فضيلة الشيخ! يقول صاحب كتاب (التقرير في مسألة التكفير) في كتابه: إن الكفر المخرج من الملة هو كفر التكذيب فقط، ما صحة هذا القول؟ وهل هو من أقوال المرجئة؟ A العلماء ذكروا أن الكفر خمسة أقسام: منها كفر التكذيب، ومنها كفر الإعراض، ومنها كفر الدعوة، أي: الذي يدعو غير الله، ومنها كفر النفاق، وليس محصوراً في كفر التكذيب فقط، فكون الإنسان يكذب فقد وقع في الكفر، ولكن كفر الجحود غير كثير؛ وذلك أن الله جل وعلا أيد رسله بمعجزات ودلائل باهرة يلزم منها أن يصدق رسوله، وأن يكون صادقاً، أما إذا كان التكذيب عناداً وجحوداً فهذا شيء آخر، والتكذيب بمجرد أنه ما تبين له قليل في الكفار. والمقصود: أن الكفر أنواع، وليس محصوراً في كفر التكذيب، وهناك أنواع كثيرة ذكرها الفقهاء في كتب الفقه في كتاب سموه (حكم المرتد) ، والمرتد: هو الذي ترك دين الإسلام بعدما كان مسلماً، فذكروا أشياء كثيرة، ولاسيما كتب الأحناف فإنهم توسعوا في هذا كثيراً، وبعض العلماء جمع شيئاً مما ذكره الفقهاء في كتب مستقلة، مثل ابن حجر الهيتمي، فإنه له كتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) ، وهو مطبوع، ذكر أنواعاً كثيرة جداً إذا فعلها الإنسان صار كافراً، نسأل الله العافية! ونقل كلام العلماء في ذلك، ومنها كتاب (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة) وغير ذلك من الكتب.

الشروط بين المسلمين والكفار ينظر فيها إلى المصلحة

الشروط بين المسلمين والكفار ينظر فيها إلى المصلحة Q هل يجوز الاستدلال بصلح الحديبية على أنه من جاء من عند الكفار إلينا وهو مسلم أن نرجعه إليهم في هذا العصر؟ A على كل حال هذه الشروط التي شرطها الرسول صلى الله عليه وسلم لاشك أنها سنة، إلا الشيء الذي يثبت أنه خاص به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ينظر إلى المصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن هذا لا يتم، ولهذا لما جاء أبو جندل يرسف في حديده، طالب به والده، فروجع فأبى، فنفذ الأمر، وهو شرط معتبر، ثم إن الذين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وأرجعهم كونوا لأنفسهم عصابة حرب، وصاروا يحاربون قريشاً، ولا يتركون لها شيئاً يخرج إلا أخذوه، وفي النهاية طلبت قريش من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤويهم وأن يأخذهم ويفكهم منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي الذي يوحيه الله إليه ما لا يعلم غيره، ولكن إذا قدر أن مثل هذه الشروط وقعت بين إمام المسلمين وبين الكفار فمرجعها النظر إلى المصلحة.

الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة

الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة Q هل يوجد فرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟ A الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة، ولكن قد تكون ناجية بلا نصر، يعني: تنجو وإن كانت مقتولة، ولا يستلزم أن يكون لها نصر؛ لأن الإنسان قد يثبت على حق فيقتل فيكون ناجاً، ولا يلزم أن يكون منصوراً على الكفار، فالنصر في الواقع هو الثبات على الدين. فكون الإنسان يثبت على دينه حتى يلاقي ربه فهذا هو النصر.

الذين يدخلون الجنة بغير حساب ليسوا معينين من طائفة بعينها

الذين يدخلون الجنة بغير حساب ليسوا معينين من طائفة بعينها Q ورد في الحديث أن سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فهل هؤلاء كلهم من الصحابة؟ A ليس لازماً، والله أعلم بهم، ومثل هذا لا يوجد فيه نص على أنهم كلهم من الصحابة، ولا أنهم من غير الصحابة.

شرح العقيدة الواسطية [28]

شرح العقيدة الواسطية [28] أهل السنة والجماعة يحبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غلو أو تقصير، ويعرفون فضلهم وسابقتهم على غيرهم، ويقدمون الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الخلافة، ويقولون بنفاق كل من طعن فيهم وأساء إليهم.

عقيدة أهل السنة تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

عقيدة أهل السنة تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) . ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم. ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل. ويفضلون المهاجرين على الأنصار. ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ] . ينتقل المصنف رحمه الله إلى أصل آخر، فيقول: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

تعريف الأصل واستعماله

تعريف الأصل واستعماله الأصول: جمع أصل، والأصل: هو الذي يبنى عليه غيره، وتتفرع منه فروع. ويطلق في اصطلاح العلماء على أمور: الأول: الدليل، كما يقولون: الأصل في هذه المسألة الكتاب أو السنة أو الحديث الفلاني. الثاني: يطلقون الأصل على الراجح من أحد الأمرين، كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة. الثالث: يطلقون الأصل على القاعدة المستمرة، كقولهم: جواز أكل الميتة على خلاف الأصل. الرابع: يستعمل في القياس الذي يكون له أصل وفرع. فهذه الاستعمالات الأربعة مشهورة في استعمال العلماء، سواء في الفقه أو في الأصول، ولكن المقصود هنا هو: الأصل الذي تبنى عليه العقيدة.

سبب إضافة أهل السنة إلى السنة

سبب إضافة أهل السنة إلى السنة وقوله: (أهل السنة) أهل السنة أضيفوا للسنة لأنهم يتمسكون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة صفة لهم؛ لأنهم يجتمعون على الحق ولا يكون بينهم افتراق، فالفرقة مذمومة وممقوتة، بل هي محرمة، فالافتراق بين أهل الحق محرم كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فلا يجوز التفرق، وإنما إذا حصل خلاف في وجهات النظر فيجب أن يتلافى هذا الخلاف، وأن يُرجع إلى الكتاب والسنة لكي يزول الخلاف، وإن لم يزل فمعنى ذلك أن الأمور مدخولة وأن الإيمان مزعزع.

موقف أهل السنة من الصحابة وذكر أسبابه

موقف أهل السنة من الصحابة وذكر أسبابه قوله: (سلامة قلوبهم وألسنتهم) . أما سلامة القلوب فمعناها: أن تسلم القلوب من الغل والحقد والبغضاء، فلا يبغضونهم، ولا يحقدون عليهم، وليس في قلوبهم لهم غل، بل لابد أن القلوب تكون على عكس ذلك، فيتسلم من هذه الأمور، ويكون فيها حبهم، وموالاتهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة مقاماتهم، وتقدمهم، وأنهم أفضل الخلق بعد الرسل والأنبياء، وألسنتهم كذلك تسلم من سبهم، ولعنهم، وإيذائهم، وثلبهم، وذكر ما يمكن أن يكون فيه تنقص لهم. فمن أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، هذه صفة كل من يأتي بعد الصحابة إلى يوم القيامة من أهل الإيمان، فإن كان بهذه الصفة فهو منهم، وإلا لم يدخل فيهم. وقوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} [الحشر:10] يعني: أنهم يدعون لهم ويستغفرون لهم لأمور: الأول: أنهم سبقوهم بالإيمان، وأنهم هم الذين نقلوا إليهم الإيمان والشرع، فهم الذين بلغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الدين، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم في نقل ما جاء به صلوات الله وسلامه عليه عن ربه جل وعلا. الثاني: قيامهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهادهم معه، وإنفاقهم ونصرتهم له. الثالث: تعلمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان بلا واسطة. وهذه أمور تميزوا بها لا يمكن أن يشاركهم فيها غيرهم إلا في التبليغ والدعوة، فكل من قام بالدعوة والتبليغ فله نصيب مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب من قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] . وقوله: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، الذي يكون عنده الغل يشتمل على الحسد، وعلى البغضاء والكراهية والحقد، وعلى كل ما يمكن أن يكون مؤدياً إلى الأذى وعدم المحبة والرضا. وقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، هذا مطلق، وأولى من يدخل فيه هم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ذكر بعض فضائل الصحابة رضي الله عنهم

ذكر بعض فضائل الصحابة رضي الله عنهم وقوله: (وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) هذا الحديث مخرج في الصحيحين، وجاء في سبب ذكره أن خالد بن الوليد رضي الله عنه تكلم على عبد الرحمن بن عوف، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، والكلام موجه لأحد الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح؛ لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه أسلم بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية هو الفتح على القول الصحيح؛ فسورة الفتح نزلت فيه، وقد نص الله جل وعلا على ذلك في آيات متعددة وأخبر أنه لا يستوي الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا مع الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح، ومع ذلك أخبر الله جل وعلا أنه وعد كلاً الحسنى. وهذه الآية استدل بها ابن حزم على أن الصحابة كلهم في الجنة، فقال: هذه الآية دليل على أنه لو شهدنا للصحابة كلهم بالجنة لما كنا قلنا إلا بالحق، لأنه سبحانه قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، والحسنى: دخول الجنة. والمقصود: أنه إذا كان هذا الكلام الذي صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً لأحد الصحابة، فكيف يقال في غيرهم ممن يتكلم في الصحابة أو يفاضل بينهم وبين غيرهم؟! وقوله: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً) معلوم أن مثل هذا لا يتأتى، بل غير ممكن أن أحداً ينفق مثل أحد، ولكن هذا على سبيل الفرض الذي لا يوجد، فلو قدر أن هذا الجبل العظيم يكون مثله ذهباً بالقدر، ثم أنفقه إنسان في سبيل الله مخلصاً في نفقته ما يريد في ذلك إلا وجه الله؛ فإنه لا يبلغ من الأجر به مثل مد واحد من الصحابة أنفقه قبل الفتح. والمد: مكيال معروف صغير يصل إلى قرابة الكيلو جرام. ثم هذا القول يقال لمثل خالد بن الوليد، ليس لأناس جاءوا بعد الصحابة، وبهذا يتبين الفضل العظيم الذي اختص به الصحابة رضوان الله عليهم. وقد جاءت آيات كثيرة في فضل الصحابة، كما قال جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] ، وقال جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . روى ابن بطة في (الإبانة) عن الإمام مالك أنه قال في هذه الجملة من الآية: كل من غاظه شأن الصحابة فليس من أهل الإيمان، لقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . وروى ابن بطة أيضاً وغيره عن الإمام مالك أنه قال في آية سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} [الحشر:10] الآية؛ كل من سب الصحابة أو أبغضهم فإنه ليس له نصيب في الفيء؛ لأن الآية في الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] . والآيات في فضل الصحابة كثيرة كما أن الأحاديث كثيرة، وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الله الله! لا تسبوا أصحابي، ولا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) ، وجاء فيه أيضاً أن: (من أبغض الصحابة فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) . وقد أفردت فضائل الصحابة في كتب مستقلة، وينبغي للإنسان أن يعود إليها وأن يقرأها ولاسيما في هذا الوقت الذي صدق فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها، وإذا وقع ذلك فمن كان عنده علم فليخرجه -أو قال: فليظهره- ومن لم يفعل ألجمه الله لجاماً من نار) . والذين يرمونهم طوائف أهلها كلهم ضالون، فقسم منهم غلوا فضلوا، وقسم منهم جفوا فضلوا، فالخوارج يسبونهم ويكفرون كثيراً منهم، وقصتهم وسبب خروجهم على جماعة المسلمين معروفة، وقد قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم. وكذلك الروافض أصلهم منافق أو زنديق جاء لإفساد الدين فدخل فيه تستراً وليس مؤمناً، فبدأ بإفساده حتى أغرى أوباشاً من العراق ومن مصر وغيرها فتجمعوا وقتلوا أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، حاصروه في داره ثم اقتحموا عليه بيته وقتلوه في بيته مظلوماً، وكل هذا بسبب هذا الزنديق، ثم بعد ذلك صار ينشر دعوته المسمومة الفاسدة في أنه ما مات نبي إلا وله وصي، وأن الصحابة رضوان الله عليهم تمالئوا على الكفر والكذب والظلم إلى آخره، ومن تتبع دعوته وكلامه وما نتج عنه من الفساد علم ما وقع في المسلمين بسببه، بل لا تزال آثار ذلك باقية إلى اليوم.

ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائل الصحابة ومراتبهم

ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائل الصحابة ومراتبهم أما فضائلهم فكما عرفنا كثيرة جداً في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ألف الإمام أحمد كتاباً سماه (فضائل الصحابة) وهو موجود، وكتب في ذلك سائر الأئمة في ضمن كتبهم، فلا تجد كتاباً من كتب السنة إلا وفيه كتاب في ذكر فضائل الصحابة ومراتبهم، فهي منتشرة وظاهرة وجلية، مع ما في كتاب الله من ذلك. وأما مراتبهم التي أنزلهم الله جل وعلا إياها فهي تختلف، وفيهم من هو مقدم ومفضل، وفيهم من هو متوسط في الفضل، وفيهم من هو دون المتوسط، ولكن ليس فيهم دني، فكلهم له الفضل والخير والجزاء عند الله، ولهذا قيل لأحد العلماء الأئمة من السلف: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: غبار في منخر معاوية بن أبي سفيان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز؛ لأنه لا يجوز أن يفضل أحد من التابعين وأتباع التابعين على الصحابة. أما ما يذكره بعض الناس من الحديث الذي فيه الأمر بالصبر والقبض على الدين، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمامكم أيام الصبر، القابض فيها على دينه كالقابض على الجمر، له فيها أجر خمسين، قالوا: أجر خمسين منا أو منهم؟ فقال: منكم) ، فهذا لا يلزم منه أن يكون العامل هذا أفضل منهم وإن كان له هذا الأجر؛ لأن الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح الذي ينفق منهم مثل أحد ذهباً في سبيل الله لا يبلغ نصف مد واحدٍ ممن أسلم قبل الفتح، فكيف يكون ذلك فيمن يأتي بعد الصحابة مطلقاً؟! وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونه) .

فضل متقدمي الصحابة على متأخريهم

فضل متقدمي الصحابة على متأخريهم وقوله: (ويفضلون من أنفق من قبل الفتح، وهو صلح الحديبية) ، هذا هو الذي نص عليه العلماء وبعض الصحابة مثل البراء بن عازب بأن صلح الحديبية هو الفتح، ومعلوم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، وإن كان الصحابة رضوان الله عليهم كرهوا ذلك الصلح، ولكن صار الأمر كما قال الله جل وعلا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فصار خيراً، والحديبية لا تزال معروفة إلى اليوم، وكانت بئراً قليلة الماء. وسبب الصلح -كما هو معروف- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في السنة السادسة من الهجرة ليؤدي العمرة ولا يريد قتالاً، ولما وصل إلى قرب مكة صده الكفار ومنعوه، ولما قارب دخول مكة بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء، فقال: (ما خلأت، وليس ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ، وهذا لأن الله جل وعلا علم أن الكفار لن يأذنوا له بالدخول ولن يتركوه، وأنه لو بغتهم لحصل القتال، فعدل إلى جهة الحديبية فطلب من عمر بن الخطاب أن يذهب إلى قريش ويفاوضهم، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا لأداء العمرة ولينحر الهدي الذي معه ويتركهم، فقال له عمر رضي الله عنه: إن ذهبت تقاتلت معهم وقتلوني، وليس هناك من يحميني، ولكن أدلك على رجل هو أمنع مني عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم. فلما أرسله فشا الخبر بأنه قد قتل، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة المبايعة، فقال: (لا نبرح حتى نناجزهم) فبايعوه، وكان عددهم ألفاً وأربعمائة وزيادة، فقد جاء في حديث جابر الذي في الصحيح أنه قال: كنا ألفاً وأربعمائة، وجاء في حديث البراء أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة، وجمع العلماء بين هذا وهذا بأنهم ألف وأربعمائة وكسر، فالذي قال: خمسمائة جبر الكسر والذي قال: أربعمائة ترك الكسر، وفي اللغة العربية يسوغ أن يترك الكسر في المئات. والبيعة كانت على ألا يفروا، وبعضهم قال: على أن يقاتلوا حتى يموتوا أو يكون لهم النصر، والنتيجة واحدة؛ فإذا كانوا لن يفروا فلابد إما أن يقتلوا أو أن ينتصروا، وأما أن يبايعوا على أن يموتوا على كل حال فهذا غير مقصود، وإنما المقصود القتال، فإما أن تكون لهم الشهادة أو يكون لهم النصر. ثم تبين أن خبر قتل عثمان غير صحيح، وإنما طلبوا منه أن يطوف بالبيت فأبى، وقال: كيف أطوف والرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع؟! فلم تسفر سفارته أو وساطته عن الصلح، ولكن صار عندهم تردد وأخذ واختلاف، فبعضهم يقول نتصالح، وبعضهم يقول: لا نتصالح، فصاروا يرسلون الرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرسلوا أخيراً سهيل بن عمرو، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنهم يريدون الصلح، فقال: (سهل الأمر) ، فكتب الصلح بينه وبينهم على أن توضع الحرب عشر سنين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه منهم يرده إليهم، ومن يأتيهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يردونه إليه، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم دخل. وكانت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر في عهد قريش، وصار نقض العهد بسبب هاتين القبيلتين كما هو معروف، فإن بني بكر أغاروا على خزاعة وأعانتهم قريش، فصار في ذلك نقض العهد. فلما كان وقت كتابة الصلح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يكتب الصلح، فقال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان، ولكن اكتب كما كنا نكتب، اكتب: باسمك اللهم، فقال صلى الله عليه وسلم له: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، فقال سهيل بن عمرو: لا تكتب: رسول الله، فإن كنت رسول الله وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وقد كتبها علي رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: امحها؛ الله يعلم أني رسول، فأبى علي بن أبي طالب أن يمحوها. وقال: والله! لا أمحوها -أي: كلمة رسول الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أرنيها؛ لأنه ما كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، فوضع أصبعه صلوات الله وسلامه عليه، عليها فمحاها، ثم كتب الصلح، وهم في أثناء كتابة الصلح جاء أبو جندل يرسف في حديده -وهو ابن سهيل بن عمرو - مقيد؛ لأنه مسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة) . والمقصود: أن هذا الصلح لما انتهى نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] إلى آخرها، وفيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:18-19] إلى آخر السورة، نزلت بعد صلح الحديبية مباشرة، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر فقرأها عليه، فقال: أوفتح هو؟ قال: نعم. فهذا الصلح صار فيه فتح عظيم، حيث اتصل الناس بعضهم ببعض، ودخل العرب في دين الله أفواجاً بعد ذلك. ثم في السنة الثامنة نقضت قريش العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزاهم صلى الله عليه وسلم وفتح مكة، ولاشك أن فتح مكة أيضا فتح، وهو الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم ( {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) .

المهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة

المهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة وقوله: (ويقدمون المهاجرين على الأنصار) يعني: في الفضل وفي المرتبة؛ لأن المهاجرين هم الذين قُدموا في كتاب الله جل وعلا كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] ، وجاء في نصوص كثيرة أن المهاجرين يقدمون على الأنصار، وذلك لأنهم تركوا بلادهم وأموالهم وأهليهم في سبيل إعزاز دين الله، وفراراً بدينهم اعتياضاً بالدين عن الدنيا بأكملها. والهجرة في اللغة هي: الترك، يقال: هجره إذا تركه، والمقصود بها في الشرع: ترك بلاد الشرك انتقالاً منه إلى بلاد الإسلام، أو ترك البلاد التي تفشو فيها البدع وتكثر إلى البلد الذي فيه السنة، والهجرة باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها؛ كما جاء في الحديث: (الهجرة باقية ما قوتل العدو) ، والعدو جاء أنه يقاتل، وأن هذه الأمة يبقى فيها طائفة على الحق منصورة إلى قيام الساعة. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) فمعنى ذلك: من مكة؛ لأن مكة صارت دار إسلام، وبهذا استدل بعض العلماء على أنها تبقى دار إسلام إلى قيام الساعة؛ لقوله: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) ، وهذا استنباط من الحديث.

فضل أهل بدر وعدد الصحابة

فضل أهل بدر وعدد الصحابة وقوله: (ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-:) هذا كما جاء في الحديث الذي في الصحيح أنهم كانوا على عدد أصحاب طالوت الذين عبروا معه النهر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، فهؤلاء هم الذين لم يشربوا من النهر، ولم يعبر معه إلا مؤمن. أما عدد الصحابة كلهم فقد اختلف فيه؛ فمنهم من قال: هم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. ومنهم من قال: أكثر من ذلك، والذي وصل إلينا من أسمائهم قليل جداً؛ لأن الأسماء التي وصلت إلينا من أسماء الصحابة هم الذين لهم رواية، أو لهم ذكر في رواية، وأكثرهم ليس له رواية، ومن أجمع الكتب التي جمعت أسماءهم (الإصابة) لـ ابن حجر، وقد أكثر فيها، حتى إنه جعل لهم عدة طبقات: منها الطبقة التي قيل إنهم صحابة ولم يثبت ذلك، ورقمت أسماؤهم فلم يتجاوزوا اثني عشر ألفاً، فهذا العدد قليل جداً، وقد قال أبو زرعة: إن الذين حضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا معه حجة الوداع أكثر من مائة ألف، ومعروف أن هناك أيضاً غيرهم من الصحابة. وتعريف الصحابي هو: من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. وهناك من يزيدون في التعريف ويقولون: وإن تخلل ذلك ردة، يعني: لو قدر ذلك ثم رجع فالمهم أنه يموت مؤمناً، أما البخاري فهو يقول في صحيحه: الصحابي من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. احترازاً من أن الذي لو قدر أنه ارتد فإنه لا يكون منهم، وما عُرف أن أحداً من الصحابة ارتد ما عدا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه ذكر أنه ارتد ثم رجع، والآخر الذي كان يكتب الوحي فارتد فمات فلفظته الأرض ثم دفن فلفظته الأرض. وهناك من ذكر في خبر آخر في قصة، لكن فيها كلام لا تثبت. قوله: (يؤمنون بأن الله جل وعلا قال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وهذا ليس من القرآن، ولكن هذا حديث قدسي رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وهي في الصحيحين، فإنه كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا ربه جل وعلا أن يعمي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلدهم، فلما جيء بالكتاب وقرئ دعا حاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا يا حاطب؟ قال: يا رسول الله! لا تعجل فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) . هذا في رواية البخاري، وجاء في رواية غيره: أن الله اطلع، ليس فيها (لعل) ، والعلماء يقولون: الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع وليس لكونه يظن أو يرجى أنه يقع ويجوز ألا يقع. والحديث القدسي القول الصحيح فيه: أنه قول الله لفظاً ومعنى، فهو يضاف إلى الله لفظاً ومعنى، ولكن ليس فيه تحد، وليس فيه تعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة به، إلى غير ذلك من الفروق، هذا هو القول الصحيح في تعريف الحديث القدسي، ومعنى قوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، أي: أنه إذا وقع منهم أعمال ومخالفات فإنها مغفورة بسبب شهودهم بدراً، وهذا هو الذي دل عليه قوله: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟) .

الأسئلة

الأسئلة

حكم من يسب الصحابة

حكم من يسب الصحابة Q ما هي المعاملة الشرعية لمن يسب الصحابة؟ A من يسب الصحابة لاشك أنه ضال، وأنه يجب أن يؤدب الأدب الذي يرتدع به أمثاله، ولكن التأديب يقوم به ولي الأمر.

تكفير من يسب الصحابة

تكفير من يسب الصحابة Q ورد في الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، ومن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ، فهل من سب الصحابة كافر؟ وهل تشمله لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء: فمنهم من كفره، ومنهم من لم يكفره، وعلى الإنسان أن يرجع إلى المسألة في كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول) في آخره فإنه ذكر خلاف العلماء في ذلك، وذكر القول الصحيح.

تثبت الصحبة ولو بالرؤية في حال الصغر

تثبت الصحبة ولو بالرؤية في حال الصغر Q هل يثبت فضل الصحبة بمجرد رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كانت الرؤية في حالة الصغر؟ A نعم، إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤمناً وإن كان في حالة الصغر تثبت له الصحبة، ولهذا أُثبتت صحبة طارق بن شهاب؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وكذلك محمود بن الربيع الذي قال: عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، وكان صغيراً، فمثل هذا يثبت أنه من الصحابة.

صفة النزول من الصفات الفعلية الثابتة لله عز وجل

صفة النزول من الصفات الفعلية الثابتة لله عز وجل Q عرفنا أن الهرولة ليست من صفات الله عز وجل، فهل النزول في آخر الليل من صفات الله تعالى؟ A نعم، هي صفة فعل، والأفعال قد يطلق عليها أنها صفات، لكن الأفعال تتعلق بمشيئته جل وعلا، وهو يفعلها إذا شاء، وهناك فرق بين صفات الأفعال وبين صفات الذات، والفعل يصح أن يقال: إنه صفة، وعلى هذا يجوز أن نقول: إن النزول صفة، ولكن يقيد بصفة الفعل المتعلق بمشيئته.

شرح العقيدة الواسطية [29]

شرح العقيدة الواسطية [29] أهل السنة والجماعة يحبون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترضون عنهم؛ لأن الله قد رضي عنهم، ويكفون عما شجر بينهم، ولا يذكرونهم إلا بالجميل، وينشرون فضائلهم، ولا يروون مثالبهم، وينزلونهم منازلهم، ويعرفون لأهل الفضل والسبق منهم فضله وسابقته.

الكلام على الخلفاء الراشدين وخلافتهم وبعض من شهد له الرسول بالجنة

الكلام على الخلفاء الراشدين وخلافتهم وبعض من شهد له الرسول بالجنة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة: [وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة. ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بـ عثمان، ويربعون بـ علي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة. مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما -بعد اتفاقهما على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا، وربعوا بـ علي، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا. لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي ضللوا فيها مسألة الخلافة؛ وذلك لأنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله. ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي) وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) . ويتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) . ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل] سبق أن من أصول أهل السنة سلامة ألسنتهم وقلوبهم من الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون أنهم أفضل الأمة؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقوا الإيمان والعلم عنه صلى الله عليه وسلم، وتربوا على يديه صلوات الله وسلامه عليه، فكانت لهم الميزة عن غيرهم لمناصرتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومصاحبتهم له، وتلقيهم عنه. وهذا مما خص الله جل وعلا به أهل السنة، وهذا ليس عن رأي رأوه أو مذهب تمذهبوا به من عند أنفسهم، أو على مستوى عقول أو أقيسة، وإنما ذلك اتباع لكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] يعني أن الذين جاءوا بعد الصحابة يجب أن تكون صفتهم هذه: أنهم يستغفرون للصحابة ويتولونهم، ويسألون الله جل وعلا ألا يكون في قلوبهم غل لهم وحقد عليهم؛ لأن هذه صفة غير المؤمنين، بل صفة الذين يكونون خارجين من الإيمان، كما قال الله جل وعلا: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] ، ولهذا قال الإمام مالك وغيره من السلف: كل من غاظه شأن الصحابة فهو ليس من المؤمنين. وكذلك النصوص التي جاءت في كتاب الله في الثناء عليهم بقوله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] إلى آخر الآية، وقوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] إلى آخر الآية، في آيات كثيرة. وكذلك في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يذكر فضلهم ويحذر من الكلام فيهم، بل صار في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه يكرر ذلك، ويقول: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً، فإن من أحبهم فإنما أحبهم بحبي، ومن أبغضهم فإنما أبغضهم ببغضي) ، وغير ذلك مما يذكره صلى الله عليه وسلم. كذلك مما ينوه بفضلهم قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فجعل خير الناس وخير الأمة هم صحابته صلى الله عليه وسلم. ولهذا كل من تكلم فيهم بمسبة أو لعن أو تحقير لشأنهم فإنه يكون خارجاً عن سبيل المؤمنين، والله يوليه ما تولى، ومن تولى غير سبيل المؤمنين فقد توعده الله جل وعلا بأن يصليه جهنم.

أقسام الأخبار التي جاءت في خلاف الصحابة فيما بينهم

أقسام الأخبار التي جاءت في خلاف الصحابة فيما بينهم ومن طريقة أهل السنة والجماعة: أنهم يتميزون عن غيرهم من أهل البدع والضلال وأهل الانحراف، في موقفهم مما حدث بين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن الفتن التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون الأمور التي جرت بين الصحابة ثلاثة أقسام: القسم الأول: رواه أهل الكذب مثل أبو مخنف، ومثل الكلبي وأمثالهم الذين يذكرون الأخبار ويزيدون فيها، وهذا لا يجوز تصديقه، لأن رواته كذبة عرفوا بالكذب. القسم الثاني: مزيد فيه عن الواقع أو منقوص منه، وهذا يجب أن يمحص وينظر فيه على أصول أهل السنة، فما كان فيه من زيادة فتنفى، وما كان فيه من نقص فإنه يثبت النقص حتى يأتي على وجهه. القسم الثالث: الثابت عنهم، ولهم فيه أعذار، وهم مجتهدون فيه، فهم لا يخلون إما أن يكونوا لهم فيه أجران لأنهم أصابوا، أو أن لهم أجراً واحداً على اجتهادهم وخطؤهم مغفور. هذا هو قول أهل السنة، ولا يطلقون ألسنتهم فيهم، بل يكرهون الخوض في ذلك أشد الكراهة، ويقولون: لا يجوز أن يخاض في الأمور التي جرت؛ لأنها لا تخلو من هذه الأشياء، وأكثر الناس لا يميز بين الحق والباطل، فإذا قرأها لا يكاد يسلم من الإحن ومن الحقد ومن الأمور الباطلة؛ لأن هذه أوجدها أعداء الله، ولهذا يقول الإمام أبو زرعة: إذا رأيت الإنسان يقع في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق. وذلك أن الله حق، وكتابه حق، والرسول حق، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالكتاب وجاء بالوحي فتلقاه عنه صحابته، فهم الذين بلغوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والطاعن فيهم يريد أن يطعن في الإسلام، فيطعن فيهم لأنهم هم الواسطة بين الأمة وبين نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يُحذر ويُعلم ذلك.

فضل أهل بدر وبيعة الرضوان

فضل أهل بدر وبيعة الرضوان ثم مع هذا أهل السنة يرون أن الصحابة يتفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض، فأهل بدر أفضل ممن لم يشهدها، وكذلك أهل بيعة الرضوان؛ لأن النصوص جاءت فيهم، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل) ، وصاحب الجمل الأحمر هو الجد بن قيس الذي اختفى عن البيعة، وكان منافقاً معروفاً، وعمر رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بعث حاطب بن أبي بلتعة بالكتاب إلى قريش يُعْلِمهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال له: دعني أضرب عنقه؛ فإنه منافق، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (وما يدريك؟ إنه شهد بدراً، وإن الله جل وعلا قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وقال غلام له: إن حاطباً سيدخل النار. قال: (كلا؛ إنه قد شهد بدراً وبايع تحت الشجرة) . والله جل وعلا يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] إلى أن قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، يعني: كل الصحابة وعدهم الله جل وعلا الحسنى، والحسنى هي الجنة، ولهذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله: هذه الآية تدل على أن الصحابة كلهم في الجنة، لأنه جل وعلا قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. ومع هذه النصوص وأضعافها كثير جداً إلا أن أهل السنة لا يشهدون لمعين بأنه من أهل الجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالعشرة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة. وكذلك ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة عبد الله بن سلام، وكذلك الحسن، والحسين، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك عكاشة بن محصن فإنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قام فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) ، فهذه شهادة له بأنه من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وكذلك غيرهم ممن ثبت به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما ما عدا ذلك فإن أهل السنة يرجون للمؤمنين الجنة، ويخافون على الفاسقين من المؤمنين أن يدخلوا النار، ولا يشهدون لأحد أنه من أهل الجنة، ولا بأن هذا الشخص بعينه من أهل النار، من مجرد أنه عمل معاصي أو أنه مات عليها، إلا أن يكون قد مات مشركاً أو مات كافراً، فإن من مات مشركاً أو كافراً فإنه مقطوع قطعاً لأخبار الله جل وعلا وأخبار رسوله بأنه من أهل النار. وأهل بدر كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر، وأما أهل الحديبية فكانوا ألفاً وأربعمائة أو ألفاً وخمسمائة؛ يزيدون عن الأربعمائة وينقصون عن الخمسمائة. وقوله جل وعلا: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] ، يرى أهل السنة أن الفتح هو غزوة الحديبية، وفيها نزلت سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] ، وهذا هو قول الصحابة رضوان الله عليهم، وإن كان ابن كثير يقول: إن الجمهور يرون أن الفتح هو فتح مكة، ولاشك أن فتح مكة فتح عظيم، لكن الفتح الذي ذكر في هذه الآية: {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] هو غزوة الحديبية وليس فتح مكة، وهذا أمر ظاهر وواضح من الأدلة.

فضل أبي بكر رضي الله عنه

فضل أبي بكر رضي الله عنه قوله: (ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر) رضي الله عنه) ، هذا ذكره لأن علي بن أبي طالب اُتخذ ذريعة يُرمى من خلفه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل باطل، بل بالكفر والضلال، فذكر أنه ثبت عنه من أكثر من ثمانين وجهاً بعضها في الصحيحين وبعضها في كتب العلماء من المسانيد والسنن -أنه قال: (خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر) ، وفي بعضها: (ولو شئت لقلت الثالث، فقيل له: أنت؟ فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) . هذا ثابت عنه رضي الله عنه. وهناك نصوص كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن أبا بكر هو أفضل الأمة، وهو أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ثبت من طرق متعددة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن الله اتخذني خليلاً) . وكذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سأل رسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة. فقال: من الرجال؟ قال: أبوها) ، والأحاديث في تفضيل أبي بكر وتقديمه كثيرة جداً، والله جل وعلا ذكر في كتابه أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] ، فهو صاحبه في الغار، وصاحبه في الهجرة، وصاحبه الذي لازمه منذ آمن به إلى أن فارق الدنيا، وكثيراً ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر، وفعلت كذا أنا وأبو بكر وعمر. وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه، فقال: (إن رجلاً كان يسوق بقرة، وبينما هو كذلك إذ ركبها، فالتفتت إليه وقالت: إنا لم نخلق لهذا، وإنما خلقنا للحرث. فقالوا: سبحان الله! بقرة تتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر) ، ولم يكن أبو بكر وعمر عنده يومئذٍ. ومرة كان يحدث صلى الله عليه وسلم فقال في حديثه: (بينما رجل كان مع غنمه إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فافتكها منه راعي الغنم، فأقعى الذئب على ذنبه، ثم قال: من لها يوم لا يكون لها راعٍ إلا أنا؟! فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! قال: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر، ولم يكن أبو بكر وعمر يومئذٍ في المجلس) ، في أشياء كثيرة تدل على أن أبا بكر هو أفضل الصحابة، وكذلك يليه عمر في الفضل. يقول أنس رضي الله عنه كما في البخاري: (إن أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر) ، لهذا يقول السمعاني رحمه الله: أجمع من يُعتد بإجماعه من الأئمة أن أعلم الصحابة أبو بكر ثم عمر. فهو أفضلهم وأعلمهم، وهو أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جاء في أحاديث كثيرة ثابتة. أما الخلافة فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء خاص به، أي: كونه خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت مدته شبيهة بمدة النبوة في زمن النبوة، ولم يقع فيها أي اختلاف وأي إشكال سوى الردة، ولما توفي بعدما أمضى سنتين خليفة وأوصى إلى عمر رضي الله عنه تغير الاسم، فقيل: عمر أمير المؤمنين؛ لأنه لما قيل له: خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هذا شيء طويل، ولكن قولوا: أمير المؤمنين.

فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم يليه في الفضل عمر رضي الله عنه، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) ؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، وقد جاء في المسند وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) ، وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنه كان فيمن كان قبلكم محدثون، وإن يكن في أمتي فمنهم عمر) . وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما سلك عمر طريقاً إلا سلك الشيطان طريقاً غيره) ، أي: أن الشيطان كان يفر من عمر رضي الله عنه. وهو الخليفة بعد أبي بكر وبقي في الخلافة عشر سنوات، ثم قتل وهو يصلي، طعنه مجوسي يقال له: أبو لؤلؤة من الحاقدين على الإسلام الذين يتربصون به ويريدون أن يوقفوا مدده، ولكن الأمر ليس في قتل عظماء الإسلام؛ لأن الإسلام دين الله جل وعلا هو يتولى نصره ويتولى نشره في الأرض، فلم يصنعوا شيئاً.

فضل عثمان رضي الله عنه

فضل عثمان رضي الله عنه قوله: (ويثلثون بـ عثمان رضي الله عنه) أي: في الخلافة والفضل، ففضلهم على ترتيب خلافتهم، وذلك أن خلافة عثمان رضي الله عنه كانت باتفاق الصحابة، فقد بقوا يتشاورون وقتاً حتى أجمعوا على عثمان رضي الله عنه؛ ولهذا يقول أيوب السختياني والإمام أحمد والدارقطني وغيرهم، يقولون: (من لم يثلث بـ عثمان رضي الله عنه في الخلافة والفضل فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) . أزرى، أي: احتقرهم وانتقصهم ولم ير لهم رأياً، وذلك لأن هذا وقع بإجماع المهاجرين والأنصار، فهم أجمعوا على أن يكون هو الخليفة، وله فضائل كثيرة.

فضل علي رضي الله عنه، والخلاف في المفاضلة بين علي وعثمان رضي الله عنهما

فضل علي رضي الله عنه، والخلاف في المفاضلة بين علي وعثمان رضي الله عنهما قوله: (ويربعون بـ علي رضي الله عنه) أي: في الخلافة والفضل. ثم إنه ذكر أن مسألة التفضيل بين علي وعثمان مسألة وقع فيها خلاف بين أهل السنة، فمنهم من فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عثمان، ولكن تقرر الأمر فيما بعد على أن عثمان هو أفضل.

الخلافة الراشدة وحكم الخلاف في ترتيبها

الخلافة الراشدة وحكم الخلاف في ترتيبها وأما الخلافة فليس فيها خلاف أن خلافة الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، وأنها هي خلافة النبوة؛ لما جاء في المسند والسنن وغيرها، من حديث سفينة مولى رسول الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) ، والثلاثون السنة تنتهي بانتهاء خلافة علي رضي الله عنه؛ لأن خلافة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة، ثم علي أربع سنوات، ويبقى من الثلاثين قليل كملت بخلافة الحسن بن علي ستة أشهر، ثم بعد ذلك صارت ملكاً، فهذه هي المذكورة في حديث العرباض بن سارية حينما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فالخلفاء الراشدون هم هؤلاء بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عقيدة أهل الحق الذين يتبعون الكتاب والسنة، ومن خالف ذلك فهو من أهل الزيغ والضلال. وقوله: (إن التفضيل ليس من الأصول التي يضلل بها) ، يعني: التفضيل بين الخليفتين علي رضي الله عنه وعثمان؛ لأن فيها نصوصاً، ومن قدم واحداً منهما على الآخر يستدل بنصوص من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه رأي مرجوح؛ والراجح خلافه، وفرق بين الشيء الذي يكون مرجوحاً ويكون ضعيفاً، وبين الشيء الذي يضلل به الإنسان إذا سلكه، ويكون ضالاً من أهل الضلال، فالذي يكون به التضليل هو مسألة الخلافة، فالذي يقول مثلاً: إن الصحابة اغتصبوا الخلافة من علي، وكتموا وتمالئوا على الكذب والكتمان، بل وكفروا فلم يبق منهم إلا قليل، فهناك فرق بين من يقول هذا ومن يقول بالتفضيل. ثم الذي يقول هذا ليس له أي معتمد، بل يقابله قوم آخرون مثل طائفة يقال لها الراوندية تزعم أن الخليفة هو العباس بن عبد المطلب، وأنه هو الوصي، وقولهم مثل قول الذين يقولون: إن الوصي هو علي بن أبي طالب، وكلها دعاوى، والدعوى لا تعجز أحداً. أما إذا كان هناك نصوص يعتمدون عليها فهي مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنها محرفة وموضوعة، وليس هناك شيء، وإنما هي دعوى، وقد يُؤتى بشيء يُلبس به تلبيس مع أن الأمر في ذلك واضح وجلي. والرسول صلى الله عليه وسلم بقي مريضاً وقتاً وهو يأمر أن يصلي بالناس أبو بكر رضي الله عنه، ولما اعترض من اعترض غضب صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كرهت أن يكون أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت: لا يقوم رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتذكر الناس مقام الرسول صلى الله عليه وسلم فيكرهون هذا الرجل الذي قام مقامه؛ لأنه لا أحد يصل إلى مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم في قلوب الناس. فكانت تقول له: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق كثير البكاء؛ إذا قرأ لا يُسمِع الناس من البكاء، لو أمرت غيره أن يصلي بالناس، ثم ذهبت إلى حفصة وقالت لها: قولي له هذا القول لعله يأمر غيره، فلما قالت له ذلك قال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وكان يتأكد من ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ائتوني بكتاب؛ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا) . فاختلفوا عنده، فمنهم من قال: نأتي بالكتاب، ومنهم من قال: إنه مريض ويخشى أن يكون كلامه هذا ليس كلاماً في تمام عقله وصحته، فلما اختلفوا قال: (قوموا عني، فما أنا فيه خير مما أنتم فيه، ثم بعد ذلك قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم لئلا يقول قائل أو يتمنى متمنٍ، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، فرأى أن ترك الكتابة أولى وأحسن فتركها، وإلا لو أراد أن يكتب فلا أحد يحول بينه وبين كتابته صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الكتاب لما جاء هكذا مبهماً قال أهل الباطل: إنه كان يريد أن يكتب وصية لـ علي بن أبي طالب، ولكن عمر حال بينه وبين ذلك، وهذا من الافتراء، فإنه ثبت في بعض الطرق في الصحيح، أنه قال لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك، وائتوني بكتاب أكتب له حتى لا يقول قائل ولا يتمنى متمنٍ) ، ولكن تبين له أن ترك الكتابة أولى فتركها. وكذلك ثبت أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ائتيني يوم كذا -يعني فيما بعد-، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ -كأنها تقول: أرأيت إن متّ؟ - فقال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر) . وثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا -وهي وحي- فقال: (كنت على بئر فاستقيت منها ما شاء الله أن أستقي، فجاء أبو بكر ليعقبني فنزع ذنوباً أو ذنوبين، وكان في نزعه ضعف والله يغفر له) ، والذنوب والذنوبان عبارة عن المدة، فإنه بقي بعده سنتان فقط، قال: (ثم جاء عمر وتحولت الدلو غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريه، حتى ضرب الناس -روى الناس- بعطن) ، وغير ذلك كثير من النصوص، ولهذا قال بعض أهل السنة: إن خلافة أبي بكر بالنص، ولكنها ليست بالنص الجلي وإنما هي بالنص الخفي، والصواب أنها جاءت الإشارة إليها في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خلافته صارت بمبايعة الصحابة له. وقوله: (وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) ؛ أي: للنصوص التي ذكرنا بعضها، وهذا باتفاق أهل السنة خلاف أهل البدع.

مكانة أهل البيت عند أهل السنة والجماعة

مكانة أهل البيت عند أهل السنة والجماعة قوله: (ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي)) . أهل بيته هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم آل عقيل، وآل العباس، وآل علي، وآل الحارث بن عبد المطلب، وكذلك أزواجه صلوات الله وسلامه عليه من أهل بيته، وكذلك بناته، وذريتهم إلى يوم القيامة. وأهل السنة يحبونهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحفظون فيهم وصيته، ويتولون المؤمنين منهم، أما الكافرون فليسوا له بأولياء كما نص هو صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله جل وعلا والمؤمنون) أي: الذين يتبعون سنته ويقتفون أثره، وآل فلان الذين ذكرهم هم من أقاربه صلوات الله وسلامه عليه. ومعلوم أن الله جل وعلا أوجب الإيمان على كل عبد، وإذا لم يؤمن فليس بينه وبين الله صلة، حتى ولو كان ابن نبي، فإذا كان كافراً فهو من أهل النار، والله جل وعلا يقول لنوح عليه السلام في ولده: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فولده الذي هو من صلبه ليس من أهله، وأخبر جل وعلا أن امرأة نوح وامرأة لوط في النار، وأن نوحاً ولوطاً لم يغنيا عنهما من الله شيئاً، فالصلة التي بين العباد وبين الله جل وعلا هي الإيمان، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأهل بيته الذين يُتولون هم المؤمنون الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يُحبوا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك يجب أن يُعرف قرابتهم، ويُعرف لهم قدرهم، وتحفظ فيهم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ويميزوا عن الناس بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحب والتولي، كذلك أزواجه صلى الله عليه وسلم، ويدل على هذا الحديث الذي ذكره هنا، وهذا الحديث ثابت في صحيح مسلم، وغديرخم: موضع قرب الجحفة، وخم: غيضة أشجار مجتمعة أضيف الغدير إليها، والغدير: هو الماء الذي يتجمع في منخفض في الوادي من السيل، وهذا القول كان بعد رجوعه من حجة الوداع، وكان في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، فإنه خطب الصحابة رضوان الله عليهم، وقال لهم: (إنه يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله -فحث على كتاب الله وأمر بالالتزام به- ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي، أذكركم الله أهل بيتي) ، يعني: أنه أوصى بأن يُحفظ لهم حقهم. وفي رواية ثبتت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا اليوم: (إن عبداً خيره الله جل وعلا بين ما عنده وبين أن يعطيه من الدنيا ما يريد فاختار ما عند الله) فبكى أبو بكر، فعجب الصحابة لبكائه وقالوا: ما لهذا الشيخ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن عبد خيره الله جل وعلا بين ما عنده أو أن يعطيه من الدنيا ما يريد فاختار ما عنده فصار يبكي، يقول: فتبين أن العبد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين أن أبا بكر هو أعلم الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يخبر عن قرب أجله، وهذا معنى قوله: (يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب) يعني: ملك الموت الذي يقبض الروح، ثم بقي بعد ذلك قرابة ثلاثة أشهر وتوفاه الله جل وعلا. قوله: (وقال للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم) ، والجفاء هو: إظهار الخشونة وعدم التلطف، وعدم إظهار المحبة والمودة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، أي: لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم. وعم الرجل هو صنو أبيه، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول له: (والله! لإسلامك أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ وذلك أن إسلامك أحب إلى رسول صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب) يعني: والده. فمحبتهم من الإيمان، لأنها من محبة ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الله جل وعلا اصطفى بني هاشم من قريش، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والاصطفاء هو: الاختيار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، فهو صفوة بعد صفوة بعد صفوة، ولكن أهل بيته وقرابته لهم حق القرابة، وحق المحبة، وحق التولي زيادة على تولي المسلمين لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عند أهل السنة والجماعة

مكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عند أهل السنة والجماعة وكذلك أهل السنة يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهن زوجاته في الجنة كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد أخبره الله جل وعلا بهذا، فهن أمهات المؤمنين من جهة تحريم النكاح، ومن جهة وجوب الطاعة والتولي والمحبة، لا من جهة القرابة، أو جهة الإرث، أو جواز النظر، أو جواز الخلوة؛ فإنه لا يجوز شيء من ذلك، وإنما هن أمهات المؤمنين؛ لأنهن يحرمن على جميع المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص الله جل وعلا على ذلك، ولأنهن يجب برهن ومودتهن وطاعتهن في طاعة الله جل وعلا. وهن زوجاته صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وقد توفي صلى الله عليه وسلم عن تسع زوجات، وأفضلهن خديجة رضي الله عنها وعائشة.

الخلاف في التفضيل بين خديجة وعائشة وذكر بعض فضائلهن

الخلاف في التفضيل بين خديجة وعائشة وذكر بعض فضائلهن أهل السنة يختلفون أيهما أفضل خديجة أو عائشة؟ والله أعلم بأفضلهن، ولكن قد جاء لكل واحدة منهما خصائص ليست للأخرى، وجاء لكل واحدة منهن فضائل ليست للأخرى. فمن خصائص خديجة: كونها أول زوجة تزوجها صلى الله عليه وسلم، وقد تزوجها وعمره خمس وعشرون سنة وكانت تزيد عليه في العمر بخمس عشرة سنة، وكل أولاده كانوا منها ما عدا إبراهيم، وكانت تناصره وتساعده وتواسيه، وكلما اشتد عليه أمر يأت إليها فتواسيه وتسليه، وتقول له: (والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتعمل كذا وتعمل كذا) فتذكر من محاسنه وتشجعه وتسليه، وكذلك كانت تساعده في الدعوة بمالها وبنفسها، وكان يحبها صلى الله عليه وسلم كثيراً، حتى إن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ولم أدركها، ولكن من كثرة ما يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا ذبح ذبيحة أهدى إلى صواحبها ما يكفيهن. وبعث إليها رب العالمين السلام مع جبريل، فقال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: (هذه خديجة قد جاءتك على يدها إناء، فإذا جاءتك فأقرئها من الله السلام) ، وهذا شيء من خصائصها لم يشاركها فيه غيرها. أما عائشة رضي الله عنها فهي الصديقة بنت الصديق، وهي أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: (أنه لما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة) والرسول صلى الله عليه وسلم لا يداري أحداً، ولا يخشى إلا الله، ولا يكتم شيئاً، فلهذا لما سئل عن ذلك قال: (أحب الناس إلي عائشة، قيل له: ومن الرجال؟ قال: أبوها) . ومن خصائصها: كثرة ما تلقته عن الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم، وما نشرته من الفقه والأحاديث التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من المكثرين من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن خصائصها: أن الوحي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متلحف معها في لحافها. ومن خصائصها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي في يومها وهي محتضنة له، فمات صلوات الله وسلامه عليه بين سحرها ونحرها. ومن خصائصها: أن الله جل وعلا طهرها وذكر براءتها مما رميت به بالوحي الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصبح وحياً يتلى إلى يوم القيامة، ولهذا يقول العلماء: من رماها بشيء من ذلك فإنه يجب قتله وهو كافر بالله جل وعلا؛ لأنه مكذب لكتاب الله جل وعلا. وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ، والثريد: هو الخبز إذا أدم باللحم، وهذا هو أفضل الطعام.

موقف أهل السنة من الرافضة

موقف أهل السنة من الرافضة قوله: (ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم) . يعني: أن أهل السنة مذهبهم البراءة ممن يبغض الصحابة ويسبهم، والبراءة معناها: البغض وإظهار العداوة، فأهل السنة يبغضونهم، ويظهرون العداوة لهم، ويتبرءون منهم. وقد اختلف العلماء في حكم سب الصحابة، فمنهم من يرى أن سبهم كبيرة من كبائر الذنوب، وأما لعنهم فهو كفر بالله جل وعلا، ومعلوم أن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على كل حال ضلال، ومن فعله فهو ضال. وتقابل طريقة الرافضة طريقة النواصب، والنواصب: جمع ناصب، وهو: من نصب العداء لأهل البيت، والنواصب يقصد بهم المروانية، وهذه فرقة سياسية كانت تدافع وتكافح لوجود الرئاسات والملك، وانقرضت وانتهت ولا وجود لها. ومن النواصب الخوارج؛ لأنهم يعادون أهل البيت وبعض الصحابة.

الأسئلة

الأسئلة

حال حديث: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ)

حال حديث: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) Q فضيلة الشيخ: ذكر أن أفضل الأمة وأعلمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكيف نجمع بين ذلك وبين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ؟ A الحديث ليس بصحيح.

مارية القبطية رضي الله عنها من أمهات المؤمنين

مارية القبطية رضي الله عنها من أمهات المؤمنين Q هل مارية القبطية من أمهات المؤمنين؟ A نعم؛ لأنها كانت سرية تسراها صلى الله عليه وسلم ولم يكن يقسم لها، وإنما كان يقسم لنسائه.

المقصود بإجماع العشرة

المقصود بإجماع العشرة Q إذا قيل: إجماع العشرة، فهل يقصد به العشرة المبشرون بالجنة؟ A هذا يختلف باختلاف أصحاب الكتب الذين لهم اصطلاحات؛ لأن كل صاحب كتاب له اصطلاح، فإذا ذكر أنه يقصد كذا فيذكر اصطلاحه، وهذا ليس من الأمور العامة.

حال حديث: (أنا وأبو بكر كفرسي رهان)

حال حديث: (أنا وأبو بكر كفرسي رهان) Q هل ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وأبو بكر كفرسي رهان، لو لم أدرك النبوة لأدركها أبو بكر) ؟ A لم يرد، الوارد كما في المسند وغيره: (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) .

فضل الصحبة لا يمكن لأحد إدراكه بعد الصحابة

فضل الصحبة لا يمكن لأحد إدراكه بعد الصحابة Q هل أجمعت الأمة على أن من صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم ولو مدة يسيرة، هو أفضل ممن يأتي بعدهم من التابعين والعلماء إلى قيام الساعة؟ A نعم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يدرك فضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة أدركوا هذا الفضل، الصحبة تطلق على الرجل إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ولو ساعة، فكل من لقيه مؤمناً به ومات على ذلك فهو أفضل ممن يأتي بعده، هذا في الجملة.

الحسن بن علي رضي الله عنهما من الخلفاء الراشدين

الحسن بن علي رضي الله عنهما من الخلفاء الراشدين Q هل الحسن بن علي يعتبر من الخلفاء الراشدين لأنه كمل الثلاثين؟ A نعم، وهذا ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (ابني هذا سيد، وسيصلح الله جل وعلا به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين) ، وفي رواية: (لعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين) ، وكلمة (لعل) في كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم يقول العلماء: إنها للوجوب، وإنها تقع، وليست للتعليل أو الترجي.

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة Q ذكر بأن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا هن زوجاته في الآخرة، فهل للرسول صلى الله عليه وسلم زوجات من الحور العين؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق لا يسأل عما له، فإن هذا شيء لا يدرك.

قبول صلاة من صلى أمام الإمام

قبول صلاة من صلى أمام الإمام Q من صلى أمام الإمام هل تقبل صلاته؟ A القبول عند الله ولا أحد يعرف هل صلاته قبلت أو ما قبلت، وإنما الإنسان إذا جاء بالعبادة بشروطها وبأركانها فيرجو أن الله يقبل ذلك منه، ويخاف أن الله يردها، فيجب أن يكون بين الخوف والرجاء دائماً، أما أنه يجزم بأنها قبلت صلاته فهذا لا يمكن إلا بوحي يوحيه الله جل وعلا.

حكم خلع لباس الإحرام قبل التقصير أو الحلق

حكم خلع لباس الإحرام قبل التقصير أو الحلق Q رجل اعتمر ولم يقصر إلا بعد أن خلع لباس الإحرام وارتدى ثيابه المخيطة فما حكم ذلك؟ A هو أخل بذلك، ولكن ما دام أنه قد قصر فيكفيه هذا.

شرح العقيدة الواسطية [30]

شرح العقيدة الواسطية [30] الروافض والنواصب وإن كانوا من طائفتين متناقضتين إلا أنهم يشتركون في طعنهم في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يعرفون حق الصحابة، وينزلونهم منزلتهم، ويمسكون عما شجر بينهم، ويعتقدون أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم.

إمساك أهل السنة عما شجر بين الصحابة

إمساك أهل السنة عما شجر بين الصحابة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب بالجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟ ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح. ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله] . من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى سلامة القلوب ألا يكون في قلوبهم غل أو حسد أو حقد على أحد منهم، أو أن يكون في قلوبهم عقيدة بأنهم قد بدلوا أو غيروا، أو أنهم قصروا فيما أمروا به، أو أن غيرهم خير منهم من هذه الأمة، فيجب أن يكون قلب المسلم سليماً لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما سلامة الألسن فيجب أن يكون اللسان سالماً من ثلبهم وذكر ما فيه شيء من معائبهم، فإن ذكروا فيذكرون بالثناء والاستغفار لهم والدعاء لهم، كما أمر الله جل وعلا بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، وهذه عقيدة أهل السنة في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك الإعراض عما حدث بينهم من الخلاف، وما حدث من القتال؛ لأن الذي يشتغل به لابد أن يقع في شيء مما هو خلاف الواجب من عقيدة أو قول؛ فلهذا من مذهب أهل السنة أن يعرضوا عن ذلك؛ لأنها أمور وقعت وانتهت، وأقل ما يقال فيها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] . ولكن الناس في هذا أقسام، وذكر المؤلف عقيدة أهل السنة، وأنهم يتبرءون من الذين يخالفون أهل السنة في هذا النهج، وهم ما بين مُفْرط أو مُفَرط.

تبرؤ أهل السنة من طريقة الروافض

تبرؤ أهل السنة من طريقة الروافض الروافض يتبرأ أهل السنة من طريقتهم، والرفض معناه الترك، والروافض: هم الذين يبغضون صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشتمونهم، ويرون أنهم على ضلالة، وأنهم إما أنهم ارتدوا أو أنهم تعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبديل والتغيير، وكل قولهم مبني على الكذب الذي كذبه عليهم الزنادقة، وأرادوا بذلك تغيير الدين الإسلامي، فلهذا يقول أبو زرعة وغيره من العلماء: إذا رأيت الإنسان يتكلم في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ لأن الله حق، والرسول حق، والإسلام حق، والصحابة رضوان الله عليهم هم الواسطة بين الأمة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الذين نقلوا الدين إلى الأمة، فإذا ثبت القدح فيهم فمعنى ذلك أن القدح يكون في الدين الإسلامي وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: الذين يبغضون الصحابة، جعل هذا وصفهم، فوصف الروافض أنهم يبغضون الصحابة، فكل من أبغض الصحابة فهو منهم، سواء كان بالعموم أو بالخصوص، وسبق أن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم بقية العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة على هذا الترتيب، هذا هو مذهب أهل السنة في بيان مراتب فضلهم. وسبق أن من العلماء من قال: إن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم في الجنة؛ لقول الله جل وعلا: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95] . أما الخصوص فقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وثبت في سنن أبي داود والترمذي ومسند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، واستثنى صاحب الجمل الأحمر فقال: (إلا صاحب الجمل الأحمر) ، وصاحب الجمل الأحمر هو الجد بن قيس، وكان منافقاً، وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع الصحابة كان مختفياً تحت جمله حتى لا يبايع، فلم يبايع. فالرافضة هم الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، والبغض والسب من سماتهم وأوصافهم. فكل من كان مبغضاً للصحابة أو ساباً لهم فإنه رافضي، وفرق بين الرافضي وبين الشيعي، فالشيعة القدامى لم يخرجوا عن أهل السنة، وهم الذين اختلفوا في أيهما أفضل: علي أو عثمان، فقدموا علياً على عثمان، أما أبو بكر وعمر فلم يختلف الشيعة القدامى الذين هم شيعة علي رضي الله عنه في تقديمهما؛ ولهذا لما كلم شريك بن عبد الله في هذا -وكان من الشيعة- قيل له: تقدم أبا بكر وعمر على علي وأنت من شيعته؟ قال: من لم يقدمهما عليه فليس بشيعي، وقد سمعناه مراراً وتكراراً يقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، والله ما كذب ولا كان أهلاً للكذب. أما الرفض فإنه كان بعد ذلك حينما خرج زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، وتبعه جماعات كثيرة من الشيعة، فسألوه وقالوا: ما قولك في أبي بكر وعمر؟ فقال: هما وزيرا جدي، وترضى عنهما، فعند ذلك تركوه ورفضوه، فقال: رفضتموني، فسموا الرافضة من ذلك الوقت، وأتباعه سموا الزيدية.

تبرؤ أهل السنة من طريقة النواصب

تبرؤ أهل السنة من طريقة النواصب والطائفة المقابلة للرافضة هي طائفة النواصب، والنواصب قسمان: القسم الأول: المروانية، وهم الذين نصبوا العداء لأهل البيت، وسبق أن أهل البيت يجب توليهم ومحبتهم وإكرامهم وتقديمهم؛ إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل البيت هم بنو العباس، وبنو علي، وبنو عقيل، وبنو الحارث بن عبد المطلب، وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناته؛ فهؤلاء هم أهل البيت الذين وصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء النواصب ينصبون العداء لهؤلاء، ولكن نصبهم العداء لهم لأمر سياسي؛ لأنهم يريدون الدنيا، يريدون المناصب، ويريدون الإمارة، وقد انقرضت هذه الطائفة ولا وجود لها. القسم الثاني: الخوارج، فإنهم عادوا علياً رضي الله عنه وأهل بيته، ونصبوا لهم العداء، بل وكفروهم، عكس ما فعلته الرافضة، وكلا الطائفتين يتبرأ منها أهل السنة، ويرون أنهم ضلوا، وأن الواجب تولي الصحابة عموماً، وأن يعرف حق أهل البيت، وأن يقدموا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز أن يؤذون لا بكلام ولا بفعل، فمن فعل شيئاً من ذلك فهو من النواصب.

سبب السكوت عما شجر بين الصحابة

سبب السكوت عما شجر بين الصحابة قال: (ويسكتون عما شجر بين الصحابة) يعني: من طريقة أهل السنة السكوت عما شجر بين الصحابة، لا كتابة، ولا ذكراً، ولا اشتغالاً فيه؛ لأن الاشتغال في ذلك لابد أن يحدث في النفوس الميل إلى أحد أو التعدي على أحد منهم؛ لأن الذي سجل الأمور التي سجلت ليس من أهل السنة، فروايات حروب الصحابة وما وقع فيها غالبها رواها أهل الكذب وأهل الرفض، وهم من أعدائهم، جلها إن لم تكن كلها، فلهذا قسم المؤلف ما روي عنهم من ذلك إلى أقسام: قسم كثير جداً كذب صرف لم يحدث، وإنما يرويه الكذابون مثل أبي مخنف وهشام بن محمد الكلبي وغيرهما من الكذابين الذين لا يجوز أن يشتغل بما رووه وكتبوه؛ لأنهم عرفوا بالكذب، وعندهم من الحقد والبغض لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدعوهم إلى الكذب، وهذا كثير جداً، والكذبة في هذا كثير. وقسم زيد فيه ما غيره وجعله على غير وجهه. وقسم ثالث نقص منه مما جعله متغيراً عما وقع. والصحيح من ذلك نزر يسير، وهم معذورون فيه؛ لأنهم مجتهدون، إما لهم أجران أجر الاجتهاد والإصابة أو لهم أجر واحد، والخطأ مغفور، هذا هو مذهب أهل السنة في الأمور التي وقعت بين الصحابة، فلا يخلو أحد منهم أن يكون له أجران: أجر الإصابة والاجتهاد لأنه مجتهد، أو له أجر واحد والخطأ مغفور؛ لأنه مجتهد.

ذنوب الصحابة قليلة ومغمورة في جانب فضائلهم وحسناتهم

ذنوب الصحابة قليلة ومغمورة في جانب فضائلهم وحسناتهم وإذا كان هناك ذنوب لهم، وأمور تعد في المساوي، فإنه يجب الإعراض عنها، وهي قليلة بالنسبة إليهم، ومغمورة بالحسنات الكثيرة العظيمة، ويغفر لهم الخطأ من أجل الحسنات الكبيرة الكثيرة، كما ثبت في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة حينما كتب بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار يعلمهم بذلك، ومعلوم أن هذا ليس سهلاً، هذا شيء عظيم، لاسيما والرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في إخفاء الأمر، وسأل ربه جل وعلا أن يعمي عليهم أخباره، فأعلمه الله جل وعلا بما كتب، فلما جيء به قال بعض الصحابة: إنه منافق، وقال عمر: دعني أضرب عنقه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، فهذا ذنب معين، وفيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بالأمور التي تكون محلاً للنظر والاجتهاد، فلابد أن تكون مغمورة مغفورة، فالصحابة رضوان الله عليهم هم أفضل الخلق بعد الرسل، ولهم من الحسنات ما ليس لغيرهم؛ لصحبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به، وجهادهم في سبيل الله، وإنفاقهم الإنفاق الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .

لا يثبت أهل السنة العصمة لأحد من الصحابة

لا يثبت أهل السنة العصمة لأحد من الصحابة قال: (وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم) . قوله: أن كل واحد منهم معصوم يعني: أن جميعهم معصومون أن يخطئوا أو يبدلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يغيروه، ولكن العصمة ليست لكل واحد، وإنما هي بمجموعهم، وإلا فيجوز على أحدهم أن يقع في الذنوب من الكبائر والصغائر، ولكن يوفقه الله جل وعلا للتوبة. وقد علمت حالة الصحابة رضوان الله عليهم، فأهل السنة يؤمنون بقول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، فأفضل المصطفين الذين أورثوا الكتاب هم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مقطوع به بلا تردد ولا شك، وإذا علم أن الناس كلهم محل للخطايا وللذنوب، وأنه ليس أحد من الناس معصوماً من ذنب سواء كان صغيراً أو كبيراً؛ فالصحابة كذلك، ولكن لم يقع منهم ما يعتقده الضلال من الكفر والانحراف والردة والبهت والكذب والجحود والكتمان وغير ذلك مما يدعيه أهل الافتراء الذين يفترون على الله، ولا يصدقون كتاب الله، ولا يؤمنون به؛ لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في آيات كثيرة، والله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ومن المستحيل الممتنع أن يثني الله جل وعلا على قوم يعلم أنهم سوف يرتدون ويكفرون، هذا لا يجوز أن يكون، فثناء الله جل وعلا عليهم دليل على ثبوتهم على الحق إلى أن يلقوه. أما العصمة فهي للأنبياء فقط، وأهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغون عن الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: واختلف أهل السنة هل يجوز أن يلقي الشيطان في شيء مما يبلغونه عن الله ثم ينسخ الله جل وعلا ما يلقيه الشيطان ويحكم آياته؛ ليكون في ذلك فتنة لمن في قلبه مرض ولمن قلبه قاس؟ يقول: والصواب وقوع ذلك لدلالة القرآن على هذا، ولكن في النهاية ينسخ هذا، ويحكم الله جل وعلا آياته. فالنتيجة أن العصمة ثابتة لهم فيما يبلغونه، أما في أنفسهم فيجوز أن يقع منهم بعض الذنوب الصغيرة، ولكن الله لا يقرهم عليها، بل يتوبون، وتكون حالتهم بعد الذنب أحسن منها قبله.

للصحابة من السوابق ما يوجب مغفرة ما قد يصدر منهم من ذنوب

للصحابة من السوابق ما يوجب مغفرة ما قد يصدر منهم من ذنوب قال رحمه الله: (ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم) مثل صحبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقتالهم بين يديه، ومثل تلقي العلم والإيمان عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه أمور لا يمكن لأحد أن يشاركهم فيها، ومثل إنفاقهم في سبيل الله، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم كثير، ولو أنفق من يأتي بعدهم مثل الجبال ما يبلغ القليل من أحدهم، فهذه من خواصهم التي لا يصل إليها أحد بعدهم. وقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنهم خير القرون، والقرون: جمع قرن، والقرن: هو الطائفة من الزمن إذا اجتمع فيه الناس على شيء من إمام أو دين حتى تنقرض هذه الطائفة وتنتهي، وهل هو محدد بسنين معينة أو بلا تحديد؟ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة قرناً، والذين بعدهم قرناً، ومن بعدهم قرناً، فليس ذلك محدداً، ولكن حدده بعض العلماء تقريباً بمائة سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوماً من الأيام: (أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض نفس منفوسة) ، يعني: أن نهاية الناس الموجودين في مائة سنة، والصواب أن القرن عبارة عن اجتماع قوم على إمام ودين يجتمعون عليه، ثم تنتهي هذه الجماعة. وخير القرون قرن الصحابة الذي عاشوا فيه، ثم أتباعهم يلونهم في الخيرية، ثم الذين يلونهم، وقد عرفنا أن ثم تأتي للترتيب مع التراخي، ثم بعد ذلك -أي: بعد أتباع التابعين- يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما لا يؤمرون. وأخبر أن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم وهذا عام، وقد قيل: هذا فيمن أسلم بعد الفتح فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه وأتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر عنه به، فهذه الأمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق، وقد ذكر المؤلف في منهاج السنة عشرة أمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق هذه بعضها، ومنها: الحسنات العظيمة التي تكون الذنوب مغمورة فيها، ومعلوم أن حسنات الصحابة رضوان الله عليهم أفضل من غيرهم. ومنها: التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه. ومنها: المصائب التي يصاب بها الإنسان، فإنه ما يصيب الإنسان من مصيبة إلا كانت تكفيراً لما اقترفه من الذنوب. ومنها: إتباع السيئة الحسنة، يعني: يأتي بحسنات بعد ذلك تمحو تلك السيئات، وهذا غير التوبة. ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، فإن الله يقبل دعاءهم بعضهم لبعض. ومنها: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحق الناس بها، والشفاعة لأهل الذنوب. ومنها: مغفرة أرحم الراحمين جل وعلا، فإنه جل وعلا يغفر لأهل السوابق وأهل الفضل ما لا يغفر لغيرهم. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، والخطأ مغفور لهم؟! ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم -وليس من فعلهم كلهم- قليل نزر مغمور في جنب فضائلهم ومحاسنهم الكثيرة رضوان الله عليهم: من الإيمان بالله -وهو من أفضل الأعمال- والإيمان برسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، وهم أعلم الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها عقولاً، وأكثرها عملاً، رضوان الله عليهم، فالإيمان في قلوبهم أمثال الجبال الراسيات.

النظر في سيرة الصحابة تدل على أنهم خير الناس بعد الأنبياء

النظر في سيرة الصحابة تدل على أنهم خير الناس بعد الأنبياء ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وإنصاف لا بجهل وهوى؛ علم ما من الله عليهم به من الفضائل علماً يقينياً، وعلم أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم أفضل الأمة وخيرها، صحبوه وجاهدوا معه، وسر بأعمالهم، وتوفي وهو راض عنهم، وقد أخبر الله جل وعلا أنه راض عنهم. هذا هو قول المؤلف -رحمه الله- في الصحابة، فكيف يتهم المؤلف أنه يتكلم على الصحابة بالاحتقار والانتقاد، وأنه يخرق إجماعهم، وأن يزدريهم ولاسيما كبارهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وقد جمع ابن حجر ترجمة للمؤلف في كتابه الدرر الكامنة من أسوأ ما يكون، ذكر فيها أموراً متناقضة، مثل أنه يحتقر الصحابة، وأنه يرميهم بالجهل، وأنه يخالف إجماعهم، وأنه يزدري فضلاءهم وكبراءهم، والعجيب أنه ذكر عنه في هذه الترجمة أشياء في كتبه التبري منها مناقضتها، وما ذلك إلا دليل على اتباع المذاهب التي يتقلدها بعض الناس، وسوف يجازى كل قائل بما يقول، وإذا قارنا هذا القول مع قول هؤلاء يتبين لنا أن قولهم كذب وافتراء، والله المستعان.

تصديق أهل السنة بكرامات الأولياء

تصديق أهل السنة بكرامات الأولياء ثم قال: (ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، والمأثور عن سلف هذه الأمة، والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) . من أصول أهل السنة الإيمان بكرامات الأولياء، والكرامة التي تكون للأولياء هي في الواقع من آيات الأنبياء؛ ولهذا يقرن معها المعجزات التي تكون للرسل (وهي الآيات) ، مثل ما حدث لموسى عليه السلام من العصا، واليد، وفلق البحر، وإنباع الماء من الحجر، وغير ذلك، وما حدث لعيسى عليه السلام من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكذلك ما حدث لنبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر، وإنزال القرآن، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل حتى إنه حز من سواد بطن شاة لأكثر من ثلاثمائة رجل، أشبعهم من سواد بطن الشاة، وهذا الشيء لا يمكن أن يكون إلا خارقاً، وهو آية من آيات الله جل وعلا، وكذلك أشياء كثيرة، وقد كتب فيها العلماء كتباً مستقلة، سموها: دلائل النبوة. ولكن المقصود هنا ليس هذا، المقصود ما يحدث لأفراد الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة من الكرامات، وسميت كرامة لأنه يكرم بها، لأنها تقع إما لحاجته لنفسه أو أهله، أو لحاجته إلى تثبيت الإيمان في قلبه، أو للدعوة حتى تثبت أن دعوته على حق.

من كرامات الصحابة

من كرامات الصحابة من كرامات الأولياء ما حدث لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما استعصى عليه أصحاب حصن وامتنعوا به، وقالوا: لا ننزل حتى تأكل هذا السم، وأعطوه سماً من أعظم السموم القاتلة، فأخذه ووضعه في كفه ثم قال: باسم الله، ثقة بالله، وتوكلاً عليه، واحتساه وأكله، فلم يصبه شيء، وإنما عرق عرقاً فقط، عند ذلك علموا أنه على الحق، وأن هذا حق، وأن هذا لا يمكن إلا أن يكون آية من آيات الله جل وعلا، فسلموا أنفسهم. وكذلك ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قتاله للفرس، فإنه مشى بجيشه على النهر بدون جسر بل على الماء، فإنه قال للصحابة: إنه وقع في نفسي شيء، وما أدري هل تطيعوني في ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: وقع في نفسي أن أمشي على هذا البحر؛ لأنه حال بينهم وبين عدوهم، فقال: نحن عباد الله، وفي سبيل الله، فقالوا له: سر ونحن خلفك، فخاضوا الماء بخيولهم، فصارت الخيل كأنها تمشي على الرمال، وصاروا يتحدثون وهم في وسط النهر وهو يقذف بالزبد. وقد وقع مثل هذا قبل ذلك لـ ابن الحضرمي، وغير ذلك كثير، وهي كرامات، والواقع أنها من آيات الأنبياء.

معنى الكرامة والولي

معنى الكرامة والولي سميت الكرامة كرامة لأنه يكرم بها الولي، والولي هو الذي يتقي الله ويخافه ويعمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الفصل ذكره المؤلف ليبين بطلان ما ذهب إليه بعض أهل البدع من المعتزلة وبعض الأشاعرة الذين ينكرون كرامات الأولياء ويقولون: لو قلنا بها وأقررنا بها لالتبس الأمر على الناس؛ لأننا لا نفرق بين كرامات الأولياء، وبين شعوذة المشعوذين، وبين معجزات الرسل؛ لأن الباب واحد، وبعضهم قال: إنه لا يكون ذلك إلا بالدعوة. والمؤلف ذكر هذا ليبين أن طريقة أهل السنة خلاف ذلك، وأن الخارق للعادة ليس هو العلامة الوحيدة على أن الإنسان ولي، فليس كل من وقع له خارقاً للعادة يكون ولياً، بل لابد أن ينظر إلى حاله، فإن كان متقياً لله جل وعلا، متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حكم بأنها كرامة، أما إن كان مخالفاً للسنة، صاحب بدعة، صاحب معصية، متلبساً بالكذب وأكل أموال الناس بالباطل والافتراء؛ فهي حال شيطانية من أحوال الشياطين؛ لأن الشيطان يخدم أولياءه، ويأتي إليهم بأعمال لا يستطيعها الإنس من أعمال الشياطين، فهم يفرقون بين الأولياء وبين أعداء الله بالنظر إلى التقوى وإلى الاتباع؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . ثم إنكار الكرامات إنكار للواقع؛ لأنه لا يخلو وقت منها، ومن ذلك إجابة الدعاء، وهذا يحدث لكل مؤمن متق لله جل وعلا، ولكن بعضهم تكون استجابته ظاهرة وفي الحال، كما كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، وما دعا دعوة إلا ورئيت إجابتها، فإنه لما كان أميراً على الكوفة، وكانت عادتهم شكوى الأمراء، فاشتكوه ورموه بأشياء حتى قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، وهذا من العجب! ثم سئل عنه في الكوفة، فكل من سئل عنه كان يثني عليه، إلا رجل قام فقال: أما إذا نشدتنا، فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي بالسرية، ولا يعدل في القضية، فقال: اللهم إن كان كاذباً فأطل عمره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فوقع ذلك كما دعا، فطال عمره، وعمي، وصار يقف في الطريق يتحسس النساء، فإذا أحس بامرأة تعرض لها، وجفونه قد سقطت على عيونه من الكبر، فإذا لوم في ذلك قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح. وكذلك سعيد بن جبير رضي الله عنه كان مجاب الدعوة، حتى إنه كان له ديك يوقظه للصلاة، وفي يوم لم يصح الديك حين طلع الفجر، فلما رأى الفجر قد طلع قال: ما له قطع الله عنقه، فانقطع صوته في الحال، ولما دعا على الحجاج أهلكه الله، فإنه قال: اللهم اجعلني آخر من يسلط عليه من أمة محمد، فهلك بعده بزمن يسير.

أنواع الكرامات

أنواع الكرامات جعل المؤلف الكرامات على نوعين: علوم ومكاشفات، وقدرات وتأثيرات. فالعلوم والمكاشفات هي أن يلقى في قلبه شيء من العلم إلقاءً من الله جل وعلا، أو يكشف له عن أمر خفي إما بعيد أو مستقبل، كما حدث لـ عمر رضي الله عنه فيما رواه أبو نعيم وغيره بإسناد حسن أنه أرسل جيشاً إلى نهاوند، وبينما هو يخطب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، حصلت عليهم هزيمة من العدو، فصار ينادي أميرهم واسمه سارية: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! فسمعوا صوته في ذلك المكان البعيد، فانحازوا إلى الجبل، فنصرهم الله جل وعلا على العدو. ومن المكاشفة أنه أخبر أنه سيولد له ولد يكون أميراً عادلاً، فولد له عمر بن عبد العزيز، وصار شبيهاً به في العدل. وكذلك ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لابنته عائشة: إنه سيولد لكم بنت، وكانت امرأته حاملاً قبل وفاته، فولدت بنتاً كما أخبر، وغير ذلك من أنواع المكاشفات التي يجعلها الله جل وعلا فيمن يشاء من عباده. أما القوى والتأثيرات فمثل ما ذكر الله جل وعلا عن الذي كان عنده علم من الكتاب لما قال سليمان صلى الله عليه وسلم لجلسائه: أيكم يأتيني بعرشها؟ -يعني: عرش بلقيس- وكانت في اليمن، وسليمان في فلسطين {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:38-40] ، وهذا الذي عنده علم من الكتاب ليس نبياً، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، فدعا الله جل وعلا باسمه الأعظم فجاء العرش من اليمن في تلك اللحظة الوجيزة. ومن ذلك ما يكون من تكثير الطعام، فإنه نوع من القوى، وقد وقع لكثير من الصحابة، كما وقع لـ أبي بكر لما ذهب بأضيافه إلى بيته وقدم لهم طعامهم، فبقوا ينتظرونه، فلما جاء حلف ألا يأكل معهم، ثم تراجع وأكل معهم، فلما انتهوا من الأكل إذا هو أكثر مما كان، فحمله وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه جماعات، وأما ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو كثير. ومن ذلك الشيء الذي يكون فيه إحياء الموتى، كما وقع لـ صلة بن أشيم، فإنه كان في الأهواز ومات فرسه، وهو يقاتل في سبيل الله، فسأل ربه أن يحيي له فرسه، فأحياه وقاتل عليه، ثم لما رجع إلى بلده ووصل إلى بيته قال لابنه: يا بني! خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فسقط ميتاً. وكذلك وقع لـ عبد الله بن الشخير، وكان عمر بن عقبة في الأهواز أيضاً، فاستطعم ربه، فسمع وجبة خلفه، فالتفت فإذا شيء مغطى بحرير، فأخذه فإذا هو رطب وفاكهة، وليس في تلك البلاد نخل، فأكله، ثم أعطى زوجته الغطاء الذي كان مغطى به، فبقي عندها وقتاً، وكان إذا ذهب مع أصحابه يشترط عليهم رعي ركائبهم، فيأتي الأسد ويتولى رعي الركائب وهو يصلي. ونحوه حدث لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما انكسرت السفينة به وصل إلى جزيرة في البحر، ووجد أسداً، فقال للأسد: إني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار الأسد يسير أمامه يدله على الطريق حتى أوصله إلى المكان الذي يهتدي إليه، ثم صار يهمهم كأنه يودعه وانصرف، وغير هذا كثير جداً.

قصة أصحاب الكهف دليل من القرآن على إثبات الكرامات

قصة أصحاب الكهف دليل من القرآن على إثبات الكرامات (وما أثر عن سالف الأمم كما في سورة الكهف) ، مقصوده من ذلك ما ذكر عن الفتية أصحاب الكهف الذين آمنوا بربهم وزادهم الله جل وعلا هدى، ثم إنهم أووا إلى الكهف فناموا ثلاثمائة وتسع سنين، وهذا من العجائب! ولم يتغير منهم شيء، وهم يتقلبون يميناً وشمالاً، وبعد ذلك استيقظوا، وهذا إكرام لهم. يقول: (وفي غيرها) يعني: في غير سورة الكهف، أما ما ذكر عن الخضر وموسى، وأنه أخبر أن الغلام الذي قتله خشي منه أن يرهق أبويه طغياناً وكفراً، فالصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، ولهذا قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] يعني: أنه بأمر الله جل وعلا، ولكن يقصد المؤلف بقوله: (في غيرها) مثلما ذكر الله جل وعلا عن مريم، حيث كان يوجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف! ولما سألها زكريا عن ذلك قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وكذلك حملت بعيسى ولم يمسها بشر، وهذا من الآيات، وهي ليست من الأنبياء، وإنما هي من الأولياء، فهي صديقة كما قال الله جل وعلا، وغير ذلك مما ذكره الله جل وعلا. والكرامات تبقى في هذه الأمة، وهي من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحدث لمن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه، فلهذا جعلت من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كما قلنا: إما أن تكون لحاجة الشخص نفسه أو تأييداً للدين؛ لأنه يدعو إلى دين الله جل وعلا، فيؤيده الله جل وعلا بما يشاء من ذلك.

الفرق بين الأولياء والمشعوذين

الفرق بين الأولياء والمشعوذين الأولياء لا يشهرون الكرامات عن أنفسهم ولا يطلبونها، وإنما تقع لهم عند الحاجة، بخلاف المشعوذين وأهل الدجل فإنهم يفعلون أموراً بحيل، يتحيلون على الناس، ويدلسون عليهم، ويشبهون عليهم، مثل إمساكهم الحيات، ودخولهم النار، وضربهم أنفسهم بالسلاح، ولا يمضي كل هذا إلا بحيل أو بمعاونة الشيطان؛ ولهذا لا يجوز أن يغتر بأفعالهم هذه، بل يجب أن تنظر حالتهم، ومعلوم أنه لا تشتبه حالة الرسل بحالة الكذبة الذين يدعون الرسالة ويدعون النبوة؛ لأن أفجر الناس وأكذب الناس لا يلتبس بأتقى الناس وأبر الناس، فمدعي الرسالة لا يشتبه بمدعي النبوة، لا كما يزعم المبطلون الذين يقولون: إن الفارق هو المعجزة، ليس كذلك؛ لأن الإنسان إذا قال: أنا نبي، فإما أن يكون أبر الناس وأصدقهم وأتقاهم لله، أو يكون أفجر الناس وأكذبهم وأبعدهم عن تقوى الله جل وعلا.

شرح العقيدة الواسطية [31]

شرح العقيدة الواسطية [31] أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل.

تتمة في ذكر بعض صفات أهل السنة والجماعة

تتمة في ذكر بعض صفات أهل السنة والجماعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) ، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد؛ ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين. والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة. ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء. ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة. وطريقهم هو دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة) ، فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً] .

إثبات كرامات الأولياء والرد على من أنكرها

إثبات كرامات الأولياء والرد على من أنكرها هذا الفصل فيه ذكر الكرامات، وأن أهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء، وقد انتهت العقيدة، والذي ذكره المصنف هنا هو من المكملات لعقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر بعض الأصول التي لم يخالف فيها إلا من لا ينظر إلى خلافه ولا يعتد به، وإنما أراد رحمه الله أن يبين عموم الإسلام الذي يجب أن يكون الإنسان متمسكاً به. ووجه ذكر الكرامات في العقائد، أن بعض أهل البدع أنكرها، وإلا فليست من الأصول التي تكون في عقيدة المؤمن؛ ولكنها من الفروع. وإذا أنكر أهل البدع شيئاً ثابتاً، فإن من طريقة أهل السنة إثباته في كتب العقائد؛ ليكون ذلك تمييزاً لأهل الحق، وأنهم يثبتونه ولا ينفونه كما ينفيه أهل البدع؛ ولهذا يذكرون في كتب العقائد المسح على الخفين؛ لأن بعض أهل البدع ينكرون المسح على الخفين، ويمسحون على القدمين. وقد أنكر المعتزلة وبعض الأشاعرة ومن سلك طريقهم وجود الكرامات في أولياء الله جل وعلا، وحجتهم أنها تلتبس بمعجزات الأنبياء، فزعموا أنهم لو أثبتوا كرامات الأولياء، فإنه يلزم أن تكون آيات الأنبياء غير متميزة وغير خاصة، وآيات الأنبياء هي التي تسمى المعجزات. والواقع أن هذا إنكار لما هو موجود ومشاهد بين الناس، ولما هو معلوم بالكتاب والسنة، والتعليل بأن كرامات الأولياء تلتبس بآيات الأنبياء لا وجه له، بل هو باطل، وذلك لأن الولي لا يمكن أن يكذب فيدعي النبوة، فدعوى النبوة كفر بالله جل وعلا، ومن ادعى النبوة فهو كافر، فكيف يمكن أن تجتمع ولاية وكفر؟ هذا لا يمكن، بل مستحيل، وهذه الدعوى باطلة، وليس دليل الولاية خرق العادة التي يعتادها الناس، كأن يدخل إنسان في النار فلا تضره، أو يضرب بسلاح فلا يضره، أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس دليلاً على أنه ولي، وليس دليلاً على أن هذه كرامة، فإنه يجب أن يميز بين ما هو كرامة وبين ما هو من أعمال الشيطان من الحيل التي يتحيل بها بعض الناس الذين يريدون أن يلبسوا على الناس بأنهم من أولياء الله، وهم من أولياء الشيطان، وليسوا من أولياء الله جل وعلا، وهذا معروف لمن كان عنده فقه في الدين، ومعرفة بما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فالولي هو الذي يحصل له أمر خارق للعادة ويكون متبعاً للسنة، وإذا حصل لشخص أمر خارق للعادة وهو مجانب للسنة، فإنه من عمل الشيطان أو من الحيل، فلا يلتبس هذا بهذا. فكيف تلتبس كرامات الأولياء بآيات الرسل، فلا يحصل التمييز بين الولي والنبي؟ هذا من أكبر الخطأ وأعظمه، ولا يحتاج إلى الرد عليه لظهور بطلانه.

اتباعهم السنة واجتماعهم وعدم تفرقهم

اتباعهم السنة واجتماعهم وعدم تفرقهم ذكر المصنف في هذه العقيدة أنهم تميزوا بأنهم أهل السنة وأهل الجماعة، والسنة في اللغة هي الطريقة المسلوكة الواضحة التي لا خفاء فيها، فلا يخفى على سالك المفازة أن هذا طريق، وقد يكون طريقاً معبداً مذللاً واضحاً وطئته الأقدام، وصار لا خفاء فيه. أما السنة المقصودة هنا فهي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي تطلق على معنيين: الأول: يقصد بها أقواله وأفعاله وتقريراته صلوات الله وسلامه عليه؛ وهي التي جاء بها التشريع. والثاني: يقصد بها ما هو أعم من هذا، فكل ما قاله أو فعله وسار عليه واستمر عليه هو وأصحابه عموماً فهو سنة، وهذا هو المعنى المقصود هنا، وأهل السنة يسلكونه. أما كونهم أهل الجماعة فلأنهم يجتمعون على الحق، ويبتعدون عن كل ما يسبب الفرقة بينهم، وإذا وجدت الفرقة والاختلاف فإنها سرعان ما تزول بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءا بمحاربة الاختلاف والتفرق الذي هو من سنة الجاهلية، والله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، فأمر بالاعتصام، ونهى عن التفرق، فهم يمتثلون أمر الله جل وعلا، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة بالأمر بالاجتماع على الحق، والحذر مما يمكن أن يكون سبباً للتفرق، وهذا كثير جداً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه ميزة لأهل السنة تميزوا بها عن غيرهم.

اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم

اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: (واتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بالآثار الشيء الذي يؤثر عنه قولاً وعملاً وفعلاً وتقريراً، وليس المقصود الآثار الحسية التي كان يطؤها ويسير عليها أو يقيم عليها، فإن هذا لا يجوز تتبعه لما جاء من التحذير عن ذلك، وأنه سبب هلاك من كان قبلنا، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مكان علم أنه جلس فيه يجلس فيه، أو صلى فيه يصلي فيه، حتى إنه عرف مكاناً، بال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ ثم صب بقية وضوئه على شجرة هناك، فكان عبد الله بن عمر يصنع هذا. وهذا مما أنكره عليه كبار الصحابة مثل والده وغيره من الصحابة، وقالوا: إن هذا العمل ليس مشروعاً، ولا يجوز فعله؛ ولهذا السبب قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها الصحابة بيعة الرضوان، لما رأى بعض الناس يؤمها ويصلي عندها؛ لأن الله ذكرها في القرآن في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] فخشي أن يفتتن الناس بها، وهذا هو الذي عليه أهل السنة. فاتباع الآثار يقصد به الأمور الشرعية، ولا يقصد به اتباع آثار الفعل من الجلوس والمبيت والصلاة في مكان ما، فإذا أدرك الإنسان الصلاة صلى فيها وإلا سار، ولا يقصدها ليصلي بها؛ لأنها غير مخصصة للصلاة، وليس فيها ميزة عن غيرها، وهذا هو الصواب الذي يقوله أهل السنة. وقوله: (باطناً وظاهراً) يعني: اتباع السنة باطناً وظاهراً، ويقصد بهذا أنه لابد من العمل الظاهر، ولابد أن يكون الإنسان مخلصاً في نيته، قاصداً بذلك وجه الله تعالى، فهذان شرطان لكل عبادة تصدر من الإنسان: أن يكون متبعاً، وأن يكون مخلصاً قاصداً وجه الله، ليس فيه في عمله قصد لأمر من أمور الدنيا، أو مراءاة الناس أو غير ذلك؛ لهذا قال: باطناً وظاهراً، فالباطن هو إخلاص النية، والظاهر هو العمل المشاهد الذي يتبع فيه سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] . وقوله: ((اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)) يشمل كل من تبعهم إلى يوم القيامة، وهذا يعني أن أهل السنة يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويترسمون خطاهم؛ لأنهم يقيناً على الحق؛ لأنهم رضي الله عنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تبليغه أوامر الله جل وعلا، وتلقوا ذلك عنه، وفهموا ما خوطبوا به فهماً لا يتطرق إليه أي شك، فصار معلوماً باليقين أنهم على الهدى، وأن الضلال في الانحراف عن طريقتهم. وسبق أن المهاجرين مقدمون في الفضل على الأنصار لما سبقوا به من الإيمان ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، ولما انضم إلى ذلك من ترك الوطن والمال والأهل، رغبة في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به، والرغبة فيما عند الله جل وعلا.

اتباع الخلفاء الراشدين

اتباع الخلفاء الراشدين (واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي)) ، (عليكم) كلمة تعني الحض ومعناها: الزموا وخذوا. والخلفاء الراشدون قد عرف أنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ للحديث الذي صححه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) وهذه هي مدة الخلفاء الراشدين، ثلاثون سنة وكملت بستة أشهر وهو الوقت الذي كان فيه الحسن بن علي رضي الله عنه خليفة، ثم بعد ذلك تنازل عن الخلافة لـ معاوية فصار ملكاً، فـ معاوية رضي الله عنه هو أول ملوك المسلمين. وأما عمر بن عبد العزيز فقد ألحقه بعض العلماء بأنه من الخلفاء، ولكن وقته كان متأخراً عن الخلافة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، والراشد لا يلزم أن يكون في هذا الوقت خاصة، بل قد يوجد ولو في وقت متأخر، وإنما الواجب اتباعهم. والراشد هو المهدي، وهو الذي عرف الحق فاتبعه، وضده الغاوي، وهو الذي عرف الحق فتركه وجانبه، وأما الضال فهو الذي لم يعرف الحق، فصار يتخبط في الضلال. فيكون الناس ثلاثة أصناف: راشد، وغاوٍ، وضال، فالراشد الذي عرف الحق واتبعه وعمل به، والغاوي هو الذي عرف الحق فتركه وجانبه، والضال هو الذي لم يعرف الحق فهو يتخبط في ضلاله وغوايته. وقوله: (المهديين) يعني: الذين هداهم الله جل وعلا لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والعمل بكتاب الله. وقوله: (من بعدي) هذا يعني أنهم بعده مباشرة، فتعين أنهم الخلفاء الأربعة. قوله: (فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) ، هذا زيادة حض وحث على التمسك بذلك، ولابد أن يكون هذا الحض والحث بسبب ما سيحدث من البدع والمخالفات كما هو الواقع الآن، وليس معنى ذلك أن الخلفاء يأتون بسنة غير سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما المعنى أنهم يقيمونها، ويدعون إليها، ويبينونها لمن تخفى عليه.

النهي عن البدع والمحدثات

النهي عن البدع والمحدثات قوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) هذا أيضاً نهي عن البدع، والمحدث في اللغة هو الشيء الذي جد، والمقصود به هنا ما أحدث في الدين، والمحدثات هي البدع، وهي من أعظم المحرمات، وكل نقص يدخل على المسلمين من جهة المحدثات أو جهة الغلو والزيادة في المشروع، والغلو داخل في المحدث؛ لأن الزيادة مثل النقص، فالزيادة محدثة كما أن النقص الذي هو الجفاء محدث، فالعبد لا يكون عبداً إلا إذا كان مقتفياً ومتبعاً لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فإن كل بدعة ضلالة) (فإن) للتأكيد و (كل) للعموم، والضلالة: ضد الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في المجتبى للنسائي زيادة: (وكل ضلالة في النار) ، وهي زيادة صحيحة، وبهذا يتبين لنا أنه يتعين على المسلم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسلوك طريق المؤمنين الذين اتبعوا هذا الطريق، وأنه إذا انحرف عن ذلك فإنه على خطر عظيم. وقوله: (يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله) . المقصود بهذا أن كلام الله فيه العصمة وفيه الهداية، وليس معنى ذلك أن أحداً يقول بأن كلام الله يكون فيه كذب؛ لأن رب العالمين جل وعلا علام الغيوب، وإذا قال قولاً فهو يطابق الواقع {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ، فهو صدق في أخباره، وهو عدل في أحكامه وأقضيته، وهذا هو معنى التمام في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] . وقوله: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) : (هدي) : هذه الكلمة يجوز أن تقرأ بالفتح هَدي، ويجوز أن تقرأ بالضم الهُدى، وإذا قيل الهُدى فمعنى ذلك أنه: الاهتداء بالوحي الذي جاء من عند الله جل وعلا، أما الهَدي: فهو السمت والطريقة والسلوك، وهو راجع إلى ذلك.

أهل السنة يقدمون كلام الله على كلام غيره

أهل السنة يقدمون كلام الله على كلام غيره قوله: (ويؤثرون كلام الله على غيره) . معنى (يؤثرون) : لا يقدمون كلاماً على كلام الله، ومعنى ذلك أنهم يأخذون بكلام الله ظاهراً وباطنا، وأنهم يعلمون أن كلام الله فيه العصمة من الضلال، وأن ظاهره حق ولا يدل إلا على الحق، وأن أقواله وأخباره صدق، فيعتقدون هذا تمام الاعتقاد، ولا ينحرفون عنه قيد أنملة. والمقصود بهذا الرد على الذين يقولون: إن النصوص من الكتاب والسنة ظواهر لا تفيد العلم اليقيني، وإنما تفيد الظن، ومسائل العقيدة لابد أن تؤخذ من اليقينيات، ويجعلون اليقين ما يسمونه بالعقليات، وهي أمور جدلية، بل شكوك لا تثبت أمام النقد وأمام المناظرة؛ ولهذا تجد أحدهم يتقلب، وكل يوم له دين، والأئمة يحذرون من ذلك، وإذا رأوا من يجادل في هذا يقولون له: نحن لسنا في شك من ديننا؛ لأن معنا الوحي الذي جاء به رسول الله، وأما أنتم أهل الشك فابحثوا عن أمور يقينية. ولن يجدوها إلا في كتاب الله وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومراد المؤلف هو أن يبين أن الحق واليقين والهدى في ظاهر النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من ادعى أن ألفاظ الوحي -سواء كان من كلام الله أو من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ظواهر لا تعطي اليقين وإنما تعطي الظنون، فهو ضال مخالف لطريقة أهل السنة والجماعة، فيحذر منه؛ ولهذا قال: (ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس) ، وهذا عام شامل لمسائل العقيدة، أو مسائل الفقه والفروع والعمليات، ولا فرق بين مسائل العقيدة ومسائل العمليات في الأدلة التي يثبت بها هذا أو هذا، إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله ووجب العمل به والقول بمقتضاه، سواء كان في مجال العمل أو في مجال العقيدة. ثم هو أيضاً يرد على الذين يقولون: إن الوحي الثاني الذي هو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تثبت به العقائد؛ لأنها أخبار آحاد، وإنما تثبت العقائد بالنصوص القطعية كالقرآن وكالأحاديث المتواترة، وهذا قول أهل البدع من المعتزلة ومن سلك طريقهم، وكذلك قبلهم الخوارج، فإنهم أنكروا أن تثبت الأحكام القطعية بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد عرفنا أن الخوارج ليسوا أهل علم ولا أهل جدل، وإنما هم جهال أهل سيف وانحراف؛ ولهذا صاروا يقتلون المسلمين ويتركون الكافرين.

تقديم هدي النبي صلى الله عليه وسلم على هدي غيره

تقديم هدي النبي صلى الله عليه وسلم على هدي غيره قوله: (ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد) . الهدي هنا يشمل القول ويشمل العمل، ومعنى ذلك: أن كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الواجب هو الأخذ به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، وبهذا فسر العلماء شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم بأنه رسول من عند الله، وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، وعبادة الله جل وعلا بشرعه الذي جاء به من عند الله، هذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله. قوله: (ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة) أي: لأنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عقيدة وعملاً وسلوكاً ومعاملات. وقوله: (وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع) ، أي: الاجتماع على الحق. قوله: (وضدها الفرقة) ، فأهل الفرقة هم أهل البدع، وأهل الجماعة هم الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، ولا ينافي ذلك أن يكون بينهم اختلاف في فهم النصوص العملية، ولابد أن يحدث بينهم اختلاف ونزاع في ذلك، ولكن هذا لا يدعوهم إلى انفصام الأخوة والمودة والمحبة، بل يتمسكون بالأخوة الإيمانية، والمودة والمحبة التي جاء بها الشرع، ويجعلون كل واحد معذوراً في فهمه، إلا أن يتبين أن الحق في خلاف قوله، فإن تبين ذلك رد عليه قوله، ومع ذلك لا ينزع منه الولاء ويجعل مكانه البراء والمعاداة، حتى يتبين أنه مشاق لله ولرسوله ومفارق لسبيل المؤمنين. وأهل البدعة بخلاف ذلك، فمن علاماتهم التفرق، ومن علاماتهم التكفير، فمن خالفهم كفروه ورموه بالعظائم، أما أهل السنة فالذي يخالفهم ويكون له وجه عذر ولو من بعيد يسمونه ضالاً، ولا يكفرونه حتى يترك ما يكون بتركه كفر، أو يفعل ما يكون فعله كفراً. قال: (وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين) ، يقصد أن هذا الاصطلاح الذي حدث ليس هو المقصود بالأحاديث التي جاءت في لزوم الجماعة، فإن الأحاديث التي جاءت في الأمر بلزوم الجماعة -وكذلك الآيات- يقصد بها لزوم الحق وإن كان الذي على الحق واحداً، فيكون هذا المراد بالجماعة.

الإجماع عند أهل السنة

الإجماع عند أهل السنة قوله: (ثم الإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين) ، هذا قد يكون غريباً ذكره هنا، ولكن لأن بعض أهل البدع أنكر الإجماع، وأنكر أن يكون الإجماع أصلاً يرجع إليه، فأراد المصنف أن يبين ميزة أهل السنة، وأن أصولهم التي يرجعون إليها في الأحكام وفي العقائد ثلاثة: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع. ثم بين أن الإجماع المعتبر هو الإجماع المنضبط، وهو إجماع الصحابة ومن تبعهم من التابعين، لأنهم كانوا محصورين، والكلام المحصور يعلم. أما بعد أن تفرقوا في البلاد، وكثر العلماء، واتسعت بلاد المسلمين، فالإجماع لا يكون منضبطاً، فمدعي الإجماع بعد ذلك يكون مدعياً لشيء يستحيل الإحاطة به، وهذا معنى قوله: (الإجماع الذي ينضبط هو إجماع السلف) يعني: الصحابة، ولابد أن يكون الإجماع مستنداً إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله؛ لأنه ليس معنى الإجماع أنه يأتي بشيء جديد، وأنه أصل يشرع به، بل لابد أن يكون مستنداً إلى أصل من كتاب الله وسنة رسوله، واستدل على هذا بقوله جل وعلا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] فسبيل المؤمنين يدخل فيه ما أجمعوا عليه، فهذا أصل يرجع إليه في الإجماع. وهناك نصوص خاصة في كل مسألة يجمع عليها، ولابد أن يكون فيها شيء يعتمد عليه من كتاب الله وسنة رسوله، فإن قيل: ما الفائدة -إذاً- من الإجماع إذا كان هناك أصل يعتمد عليه الإجماع من الكتاب والسنة؟ فيقال: الفائدة في هذا أنه لا يجوز النزاع بعد ذلك في الفهم الذي قد ينزع به من ينزع به، فإذا حصل إجماع السلف فيجب أن يرفع الخلاف، ولا يكون هناك فهم يخالف هذا الإجماع. وأهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من الاعتقادات ومن الأعمال، فيجب على الإنسان إذا عمل عملاً أن يرجع إلى هذه الأصول، فيرجع إلى كتاب الله فإن وجد فيه تبين أنه هدى، أو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت لتفسير القرآن وإيضاحه وبيان ما نزل الله جل وعلا إلى الناس، فإن وجد ذلك فيها تبين أنه من الدين، أو إلى ما أجمع عليه المسلمون، فإن تبين أنه ليس لهذا العمل دليل في هذه الأصول وجب رده والبراءة منه، فهو بدعة وضلالة، وهذا معنى كونهم يزنون ما عليه الناس من أقوال وأفعال وعقائد بهذه الأصول.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله: (ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء الأمر به في نصوص كثيرة، والله جل وعلا علق خيرية هذه الأمة على أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وقد عد بعض العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً من أصول الإسلام، فقال: أصول الإسلام ستة: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الثاني: إقام الصلاة، الثالث: إيتاء الزكاة، الرابع: صوم رمضان، الخامس: حج البيت، السادس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعله أصلاً من أصول الإسلام، واستدل على هذا بالآيات والأحاديث الكثيرة. وأهل العلم من أهل السنة يعلمون أن هذا واجب، وأنه يتعين على كل من يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يفعل ذلك؛ لقول الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فهذا يدل على أن الفلاح خاص بهم، وأن من عداهم يكون غير مفلح بل هو خاسر. وكذلك قوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] والخيرية هي من أجل هذا. وكذلك قوله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71] فجعل ولاية بعضهم لبعض في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والنصوص في هذا كثيرة في كتاب الله جل وعلا، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) يعني: إنكار المنكر بالقلب، فتبين بهذا أن إنكار المنكر فرض، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أصل عظيم، والعلماء قد تكلموا وكتبوا فيه كثيراً، ويجب على طالب العلم أن يطلع على الأمور التي لابد منها في هذا؛ ولهذا قال: (على ما توجبه الشريعة) لأن هناك أموراً كثيرة تتعلق بالأمر بالمعروف يجب أن يطلع عليها.

السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية

السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية قوله: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً) . يعني: هذا من طريقة أهل السنة العملية التي يسلكونها، وهي خلاف طريقة أهل البدع، فأهل السنة يصلون خلف كل إمام براً كان أو فاجراً ما لم يعلم أنه كافر، فإذا علم يقيناً أنه كافر لم تجز الصلاة خلفه، ولا يجوز أن يكون إماماً للمسلمين أو أميراً على المسلمين؛ لأن هذا علق بآيات وأحاديث جعلته من المسلمين كقوله تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] . وقوله: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد) ومن ذلك صلاة الجماعة، يعني: أنه إذا كان إمام الجمعة، أو أمير الحج، أو أمير الجهاد فيه معاص، وفيه ظلم، وفيه مخالفات للشرع، فإنهم لا يتركون العمل الذي هو طاعة، بل يجب أن يعملوا معه الطاعات، وأن يتلافوا ما فيه خلاف حسب الاستطاعة، ويغمر ذلك الشيء بالمصالح الشرعية التي في الاجتماع، حتى يجتنب المفاسد الكثيرة التي تكون في التفرق والاختلاف والخروج. وقوله: (ويحافظون على الجماعات) . يعني: يحافظون على الصلوات في الجماعة؛ لأن هذا من العمليات التي يتميز بها أهل السنة، وهذا للأحاديث الكثيرة التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إيجاب ذلك. وقوله: (ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)) ، النصيحة مأخوذة من النصح وهو الخلوص، يقال: نصحت الثوب إذا غسلته وأزلت وسخه، وأصبح ليس فيه درن، فالنصيحة مأخوذة من هذا، فالنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح بكل وجه، وإزالة أسباب الشر عنه. والمسلم للمسلم عموماً يكون بهذه الصفة، ولا يجوز أن ينطوي قلبه على غش لإخوانه أو حقد أو غل كما بينت الأحاديث ذلك، وتمثيل الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كالبنيان الذي يتماسك جميعاً، ويشد بعضه بعضاً؛ يدل على أنه لا يجوز أن يتميز واحد عن الآخر في النصح والعمل، بل يجب أن يكونوا سواء، وأن يكونوا ممتثلين لأمر الله جل وعلا، لا يخالفون ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وهذا الحديث يمثل به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبين حق المسلم على المسلم، وأنه يجب أن ينصح له وأن يعمل على أن ينمي له الخير ويوجده، وأن يدفع عنه الشر ويعدمه بما استطاع، وأن يكون ناصراً له على الحق معاوناً له في ذلك، وأن يكون ذاباً عنه كل ما فيه أذاه أو سبب عذابه؛ لأنه يرى أنه كنفسه، ويحب له ما يحب لنفسه، وقد جاءت النصوص الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا) ، فلابد من التحاب على الإيمان، وعلى العقيدة، وعلى الدين، لا على الدنيا، ولا على أعمال الدنيا، ولا على الأنساب، ولا على الأعراق والأعراف، بل يجب أن تكون على الدين. وللأسف أن هذا الأمر المهم جداً يكاد يكون معدوماً عند المسلمين أو عند كثير منهم، فتجد أن المسلم يعادي أخاه، وتجد أنه لا يعطف عليه، وتجد أنه لا يهمه لو آذاه أو ظلمه، وهذا لضعف الإيمان، ولضعف الامتثال لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (يأمرون بالصبر عند البلاء) ؛ لأن الإنسان في هذه الدنيا لابد أن يبتلى، إما أن يبتلى بقريبه أو بماله أو بأخيه المؤمن أو بنفسه، فلابد من الابتلاء؛ لأن هذه الدنيا ليست محل إقامة، وإنما هي فترة وجيزة قصيرة ثم ينتقل منها، فالإنسان في هذه الدنيا هدف تصيبه أغراض البلايا، فلابد أن يوطن نفسه على الصبر والاحتساب، وأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند إصابة البلاء، ويأمرون بالشكر عند النعم، والرضا بمر القضاء الذي يكون مراً على النفوس، والقضاء كله خير بالنسبة لله جل وعلا، وليس فيه شيء مر؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو حسن.

الدعوة إلى مكارم الأخلاق

الدعوة إلى مكارم الأخلاق قوله: (ويدعون إلى مكارم الأخلاق) . مكارم الأخلاق في العمل وفي السلوك، وفي البذل والعطاء، فيدعون إلى مكارم الأخلاق التي يكون فاعلها متكرماً ومترفعاً، ويكون متميزاً على من أكرمه بذلك الخلق أو بهذا العطاء أو بهذا العمل، فسمي كريماً؛ لأنه بذل وأعطى وتميز بذلك، فهم يدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، سواء بالقول أو العمل أو البذل والعطاء. قوله: (ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) لأن الخلق الحسن يستطيع به الإنسان أن يتحمل ما يتطرق إليه من أذى أو ظلم، وكذلك يستطيع به أن يبذل ما يملكه من نفع معنوي أو مادي. وقوله: (ويندبون إلى أن تصل من قطعك) مثل ذوي الأرحام إذا قطعوك، فأهل السنة يندبون ويحثون ويأمرون بأن تصلهم، وأن تعاملهم بنقيض ما عاملوك به؛ لأن الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالأمر بوصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك. وقوله: (وتعطي من حرمك) ، يعني: ممن لك حق عليه، إذا حرمك حقاً هو لك، فيأمرونك أن تعامله بنقيض ذلك وأن تعطيه. وقوله: (وتعفو عمن ظلمك) . لأن العفو ندب الله جل وعلا إليه في كتابه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إليه، يقول الله جل وعلا: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] ، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى:43] ، فالذي يصبر ويغفر -يعني: يعفو- هو الذي يكون له مقام رفيع عند الله جل وعلا. وقوله: (ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام) ، هذه كلها أمور واجبة وأصول عملية، فبر الوالدين قرنه الله جل وعلا بحقه، فأمر أن يحسن إليهم إحساناً عاماً مطلقاً. وقوله: (وحسن الجوار) كذلك أن تحسن إلى جارك وإن أساء إليك، فإن أهل السنة يأمرون بذلك؛ لأن هذا من طريقتهم. وبهذه الأمور التي هي: صلة القاطع، وإعطاء المانع، والعفو عن الظالم، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار تقل المفاسد والمعاصي، أو تنعدم إذا امتثل بذلك. قوله: (والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل) لأن هذه مما نص الله جل وعلا عليها، بأن يفعلوها ويلتزموا بها، وهذا تفسير لما سبق أنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (والرفق بالمملوك) الذي يملكه الإنسان من عاقل أو بهيمة، فيأمرون بالرفق بالمملوك ولو كان بهيمة يريد أن يذبحها ويأكل لحمها فإنه يؤمر بالرفق بها، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر الذي يريد أن يذبح أن يحد شفرته وأن يريح ذبيحته، ولا يريها الشفرة، ولا يسيء إليها بجرها وضربها، فإن هذا ليس من طريقة أهل السنة والجماعة، بل هو من طريقة أهل المعاصي وأهل السلوك الغير محمود. وقوله: (وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي) ؛ أما الفخر: فهو التعالي والتكبر بما يكون للإنسان من صفة أو ما يكتسبه من معنى. أما الخيلاء: فهو التعاظم في النفس وكذلك الإباء عن بذل الحق، واللجوء إلى ما تزينه النفس والشيطان. أما البغي: فهو الظلم والعدوان بأن يعتدي على من ليس له عليه يد؛ لأن هذا من الظلم الذي يؤمر بالابتعاد عنه. قوله: (الاستطالة على الخلق) باللسان أو باليد أو بغير ذلك، والاستطالة تكون غالباً بالكلام في الأعراض، من الغيبة التي جاء النهي عنها. وقوله: (الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق) ، الاستطالة هي أن يتعدى الحق، فإذا تعدى الحق الذي يجب أن يسلكه فقد استطال؛ ولهذا قال: (بحق أو بغير حق) ؛ لأن الاستطالة لا تكون إلا بغير حق، والمقصود أنه لو كان هذا الذي استطيل عليه ظالماً فلا ينبغي أن يقابل بالظلم. وقوله: (ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها) معاليها أي: محاسنها ومكارمها، أما سفاسفها فهي الأخلاق التي تكون سافلة، وهي أخلاق أهل السفول وأهل السقوط، فأهل السنة ينهون عنها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بَعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1